العدة
شرح العمدة كتاب الأيمان ومن حلف أن لا يفعل شيئًا
ففعله أو ليفعلنه في وقت فلم يفعله فيه فعليه كفارة يمين
(1) إلا أن يقول: إن شاء الله متصلاً بيمينه
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[العُدَّة شرح العُمْدة]
[كتاب الأيمان]
(ومن حلف أن لا يفعل شيئًا ففعله أو ليفعلنه في وقت فلم يفعله فيه فعليه
كفارة يمين) والأصل في ذلك قول الله سبحانه: {لا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ
بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ
الأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ
مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ}
[المائدة: 89] ، وقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «إني
والله إن شاء الله لا أحلف على يمين فأرى غيرها خيرًا منها إلا أتيت الذي
هو خير وتحللتها» متفق عليه، وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -:
" «إذا حلف أحدكم على يمين فرأى غيرها خيرًا منها فليأت الذي هو خير وليكفر
عن يمينه» متفق عليه، وقال لعبد الرحمن: " «إذا حلفت على يمين فرأيت غيرها
خيرًا منها فأت الذي هو خير وكفر عن يمينك» (رواه البخاري) فإذا حلف أن لا
يفعل شيئًا ففعله فقد حنث ولزمته الكفارة، وكذلك إن حلف ليفعلنه في وقت فلم
يفعله فيه كقوله: لأصومن غدًا فلم يصم حنث ولزمته الكفارة، لا خلاف في هذا
بين فقهاء الأمصار، قال ابن عبد البر: اليمين التي فيها الكفارة بإجماع
المسلمين هي اليمين على المستقبل من الأفعال.
مسألة 1: (إلا أن يستثني فيقول: لا فعلت إن شاء الله، أو لأفعلن إن شاء
الله متصلًا بيمينه) فلا يحنث إن فعله أو لم يفعله لقول النبي - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «من حلف على يمين فقال إن شاء الله فقد
استثنى» رواه أبو داود من حديث ابن عمر.
(1/507)
(2) أو يفعله مكرهاً أو ناسياً فلا كفارة
عليه
(3) ولا كفارة في الحلف على ماض سواء تعمد الكذب أو ظنه كما حلف فلم يكن
ولا في اليمين الجارية على لسانه من غير قصد إليها كقوله في عرض حديثه: لا
والله، وبلى والله، لقول الله تعالى: {لا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ
بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ} [البقرة: 225]
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[العُدَّة شرح العُمْدة]
مسألة 2: (وإن حلف أن لا يفعل شيئًا ففعله مكرهًا أو ناسيًا لم يحنث) لقوله
- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «إن الله تجاوز لأمتي عن الخطأ
والنسيان وما استكرهوا عليه» (رواه ابن ماجه) ولأن فعل المكره لا ينسب إليه
فلم تجب عليه كفارة كما لو لم يفعله.
مسألة 3: (ولا كفارة في الحلف على ماض سواء تعمد الكذب أو ظنه كما حلف فلم
يكن) وذلك أن اليمين على الماضي ينقسم ثلاثة أقسام: ما هو فيه صادق فلا
كفارة فيه إجماعًا، وما هو متعمد الكذب فيه فهي تسمى يمين الغموس؛ لأنها
تغمس صاحبها في الإثم ولا كفارة فيها في ظاهر المذهب، وقال الشافعي -
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: فيها الكفارة، وعن الإمام أحمد مثله لأنه وجدت
منه اليمين والمخالفة مع القصد فلزمته الكفارة كالمستقبلة، ولنا أنها يمين
غير منعقدة فلا توجب كفارة كاللغو أو يمين على ماض فأشبه اللغو. وبيان أنها
غير منعقدة أنها لا توجب برًا ولا يمكن فيها، ولأنها قارنها ما ينافيها وهو
الحنث فلم تنعقد كالنكاح إذا قارنه الرضاع، ولأن الكفارة لا ترفع إثمها فلا
تشرع فيها بدليل أنها كبيرة فإنه يروى عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - أنه قال: " «الكبائر: الإشراك بالله، وعقوق الوالدين، وقتل
النفس، واليمين الغموس» رواه البخاري. وروي فيه: «خمس من الكبائر لا كفارة
لهن: الإشراك بالله، والفرار من الزحف، وبهت المؤمن، وقتل المسلم بغير حق،
والحلف على يمين فاجرة يقتطع فيها مال امرئ مسلم» ولا يصح القياس على
المستقبلة لأنها يمين معقودة فتجب الكفارة في حلها، وهذه لا عقد لها فلا حل
لها. قال ابن المنذر: قول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -:
«فليكفر عن يمينه، وليأت الذي هو خير» يدل على أن الكفارة إنما تجب بالحلف
(1/508)
(4) ولا تجب الكفارة إلا في اليمين بالله
تعالى أو اسم من أسمائه أو صفة من صفات ذاته كعلمه وكلامه وعزته وقدرته
وعظمته وعهده وميثاقه وأمانته
(5) إلا في
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[العُدَّة شرح العُمْدة]
على فعل يفعله فيما يستقبله. القسم الثالث: ما يظنه فيتبين بخلاف ما ظنه
فلا كفارة فيها لأنها من لغو اليمين، واللغو نوعان: أحدهما: هذه، لا كفارة
فيها لأنها يمين غير منعقدة لأن الحنث مقارن لها فأشبهت يمين الغموس، ولأنه
غير قاصد المخالفة فأشبه ما لو حنث ناسيًا. وعن الإمام أحمد أنه ليس من لغو
اليمين وفيه الكفارة، والمذهب الأول لما سبق. النوع الثاني من اللغو: (أن
يحلف بلسانه من غير أن يعقد عليها قلبه بل تمر على لسانه من غير قصد إليها)
وقال عطاء: «قالت عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: إن رسول الله - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال - يعني في اللغو في اليمين -: " هو كلام
الرجل في بيته: لا والله، وبلى والله» أخرجه أبو داود، وروي عن عائشة
موقوفًا قالت: أيمان اللغو ما كان في المراء والهزل والمزاحة والحديث الذي
لا يعقد عليه القلب، ولأن اللغو في كلام العرب الكلام غير المعقود. وهذا
كذلك. وإذا ثبت هذا فاللغو لا كفارة فيه، لقول الله سبحانه: {لا
يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ
يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ
عَشَرَةِ مَسَاكِينَ} [المائدة: 89] فجعل الكفارة لليمين التي يؤاخذ بها،
ونفى المؤاخذة باللغو فيلزم انتفاء الكفارة.
مسألة 4: (ولا تجب الكفارة إلا في اليمين بالله تعالى أو اسم من أسمائه أو
صفة من صفات ذاته كعلمه وكلامه وعزته وقدرته وعظمته وعهده وميثاقه وأمانته)
أجمع أهل العلم على أن من حلف بالله عز وجل فقال: والله أو تالله أو بالله
فحنث أن عليه الكفارة. قال ابن المنذر: وكان مالك والشافعي وأبو عبيد وأبو
ثور وأصحاب الرأي يقولون: من حلف باسم من أسماء الله عز وجل فحنث فعليه
الكفارة ولا نعلم في ذلك اختلافًا، وكذلك إن أقسم بصفة من صفات ذات الله
تعالى في قولهم جميعًا، وقال أبو حنيفة في قوله: وعلم الله لا يكون يمينًا؛
لأنه يحتمل المعلوم، قلنا: يبطل بقوله وقدرة الله فإنه يحتمل المقدور وقد
سلموه.
مسألة 5: (إلا في النذر الذي يقصد به اليمين فإن كفارته كفارة يمين) وذلك
أنه
(1/509)
النذر الذي يقصد به اليمين فإن كفارته
كفارة يمين
(7) ولو حلف بهذا كله والقرآن جميعه فحنث أو كرر اليمين على شيء واحد قبل
التكفير
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[العُدَّة شرح العُمْدة]
متى أخرج النذر مخرج اليمين - بأن يمنع نفسه أو غيره به شيئًا، أو يحنث به
على شيء مثل أن يقول: إن كلمت زيدًا فعليّ الحج أو صدقة مالي أو صوم شهر -
فهذا يمين حكمه أنه مخير بين الوفاء بما حلف عليه فلا يلزمه شيء، وبين أن
يحنث فيتخير بين فعل المنذور وكفارة يمين، ويسمى هذا نذر اللجاج والغضب،
ولا يتعلق عليه الوفاء به، وإنما يلزم نذر التبرر على ما سبق في باب النذر.
1 -
مسألة 6: وقيل لا شيء عليه بالحلف بالحج ولا بصدقة ماله، لأن الكفارة إنما
تلزم بالحلف بالله سبحانه لحرمة الاسم، وهذا ما حلف باسم الله ولا يجب ما
سماه لأنه لم يخرجه مخرج القربة وإنما التزمه على طريق العقوبة فلا يلزمه،
وقال أبو حنيفة: يلزمه كنذر التبرر. ولنا ما روي عن عمران بن حصين قال:
سمعت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: «لا نذر في
غضب، وكفارته كفارة يمين» أخرجه الجوزجاني وسعيد بن منصور. وعن عائشة -
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
قال: «من حلف بالمشي أو الهدي أو جعل ماله في سبيل الله عز وجل أو في
المساكين أو في رتاج الكعبة فكفارته كفارة يمين» (رواه أبو داود) ولأنه قول
عمر وابن عباس وابن عمر وعائشة وحفصة وزينب بنت أم سلمة - رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُمْ أَجْمَعِينَ - ولا مخالف لهم في عصرهم نعلمه فكان إجماعًا، ولأنه
يمين فيدخل في قوله: {وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ
الأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ} [المائدة: 89]
ودليل أنه يمين أنه يسمى بذلك ويسمى قائله حالفًا، وفارق نذر التبرر فإنه
لم يخرجه مخرج اليمين وإنما قصد به التقرب، وهاهنا خرج مخرج اليمين فأشبهها
من وجه وأشبه النذر من وجه فخيرناه بين الوفاء به والكفارة، وعن أحمد يتعين
عليه الكفارة ولا يجزيه الوفاء بنذره لأنها يمين، والأول أولى لأنه جمع
الصيغتين فيجب العمل بهما والخروج من عهدته بما يخرج به عن عهدة كل واحد
منهما.
مسألة 7: (لو حلف بهذا كله) يعني بأسماء الله وصفاته (والقرآن جميعه فحنث
أو كرر اليمين على شيء واحد قبل التكفير أو حلف على أشياء بيمين واحدة فحنث
لم يلزمه أكثر من كفارة) أما إذا حلف بالله وصفاته كلها أو كرر اليمين على
شيء واحد مثل قوله
(1/510)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[العُدَّة شرح العُمْدة]
- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «والله لأغزون قريشًا، والله
لأغزون قريشًا» (رواه أبو داود) ثم حنث فليس عليه إلا كفارة واحدة، وقال
أصحاب الرأي: عليه كفارات إذا كرر اليمين إلا أن يقصد التأكيد، لأن أسباب
الكفارات تكررت فتتكرر الكفارات كالقتل وإتلاف صيد الحرم، ولأن اليمين
الثانية مثل الأولى فتقتضي ما تقتضيه، ولنا أنها أسباب كفارات من جنس
فتداخلت كالحدود من جنس واحد، وقد ثبت الأصل بقوله - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «الحدود كفارات لأهلها» (رواه البيهقي) ، ولأن
الثانية لا تفيد إلا ما أفادته الأولى فلم يجب أكثر من كفارة كما لو قصد
التأكيد، وقياسهم ينتقض بما إذا قصد التأكيد.
1 -
مسألة 8: (وأما إذا حلف بالقرآن جميعه فحنث فعليه كفارة واحدة نص عليه،
وعنه يلزمه لكل آية كفارة، روي ذلك عن ابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ
-، وقال الإمام أحمد: لا أعلم شيئًا يدفعه، وعن مجاهد قال: قال رسول الله -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من حلف بسورة من القرآن فعليه بكل
آية كفارة يمين، فمن شاء بر ومن شاء فجر» ، رواه الأثرم. ووجه الأولى قوله:
{وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ
إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ} [المائدة: 89] . وهذه يمين فتدخل في عموم
الآية، ولأنها يمين فلم توجب أكثر من كفارة كسائر الأيمان، ولأن إيجاب
كفارات بعدد الآيات يفضي إلى منع الحالف من البر والتقوى والإصلاح بين
الناس، وقد نهى الله سبحانه عن ذلك بقوله: {وَلا تَجْعَلُوا اللَّهَ
عُرْضَةً لأَيْمَانِكُمْ أَنْ تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا وَتُصْلِحُوا بَيْنَ
النَّاسِ} [البقرة: 224] ولأن الحالف بصفات الله كلها وتكرار اليمين بالله
سبحانه لا يوجب أكثر من كفارة، فالحلف بصفة واحدة من صفاته أولى أن تجزيه
كفارة، ويحمل كلام أحمد على الندب لا على الإيجاب، فإن المنصوص عنه لكل آية
كفارة فإن لم يمكنه فكفارة واحدة،
(1/511)
(9) أو حلف على أشياء بيمين واحدة لم يلزمه
أكثر من كفارة
(10) وإن حلف أيمانا على شيء فعليه لكل يمين كفارتها
(11) ومن تأول في يمينه فله تأويله، إلا أن يكون ظالما فلا ينفعه تأويله
لقول رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «يمينك على ما
يصدقك به صاحبك»
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[العُدَّة شرح العُمْدة]
ورده إلى واحدة عند العجز دليل على أن ما زاد عليها غير واجب، والله أعلم.
وحديث مجاهد مرسل، وقول ابن مسعود يحمل على الاختيار والاحتياط لكلام الله
سبحانه والمبالغة في تعظيمه لا غير.
مسألة 9: (وإن حلف على أشياء بيمين واحدة لم يلزمه أكثر من كفارة) لأنها
يمين واحدة كقوله: والله لا أكلت ولا شربت ولا لبست، وإن حنث في جنس انحلت
في الجميع ولزمته الكفارة ولا نعلم في هذا خلافًا.
مسألة 10: (وإن حلف أيمانًا على أشياء فقال: والله لا أكلت ولا شربت ولا
لبست فحنث في الجميع فعليه لكل يمين كفارتها) نص عليه في رواية المروذي
وقال أبو بكر: تجزيه كفارة واحدة، نقلها ابن منصور عن الإمام أحمد، قال
القاضي: وهي الصحيحة، قال أبو بكر: ما نقله المروذي عن أحمد قول أول لأبي
عبد الله، ومذهبه أن كفارة واحدة تجزيه لأنها كفارات من جنس واحد فتداخلت
كالحدود من جنس واحد إذا اختلفت محالها بأن يسرق من جماعة أو يزني بنساء،
ولنا أنها أيمان لا يحنث في إحداهن بالحنث في الأخرى فلم تكفر إحداها
بكفارة الأخرى كما لو كفر عن إحداها قبل الحنث في الأخرى كالأيمان المختلفة
الكفارة، وهذا فارق الأيمان على شيء واحد فإنه متى حنث في إحداها كان حنثًا
في الأخرى، فلما كان الحنث واحدًا كانت الكفارة واحدة، وهاهنا الحنث متعدد
فكانت الكفارة متعددة.
مسألة 11: (ومن تأول في يمينه فله تأويله إلا أن يكون ظالمًا فلا ينفعه
تأويله) لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «يمينك على ما
يصدقك به صاحبك» (رواه أبو داود) ومعنى التأويل أن يقصد بكلامه محتملًا
يخالف ظاهره، نحو أن يحلف أن هذا أخي ويعني به أنه أخوه في الإسلام أو
المشابهة، وما رأيت فلانًا يعين ما ضربت برئته، ولا ذكرته يعني ما قطعت
(1/512)
باب جامع الأيمان
ويرجع فيها إلى النية فيما يحتمله اللفظ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[العُدَّة شرح العُمْدة]
ذكره، أو يقول جواري أحرار يعني سفنه، ونسائي طوالق يعني أقاربه دون
زوجاته، فهذا وأشباهه إذا عناه بيمينه فهو تأويل؛ لأنه خلاف الظاهر، فلا
يخلو الحالف من ثلاثة أحوال:
أحدها: أن يكون مظلوما مثل أن يستحلفه سلطان على شيء لو صدق عنده لظلمه أو
ضره، أو يخاف على مسلم من ظالم فيحلف عنه، فهذا له تأويله؛ لقوله - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إن في المعاريض لمندوحة عن الكذب» ، يعني
سعة.
الثاني: أن يكون الحالف ظالما كالذي يستحلفه الحاكم، فهذا ينصرف يمينه إلى
ظاهر اللفظ، ولا ينفعه تأويله، لما روى أبو هريرة أن رسول الله - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «يمينك على ما يصدقك به صاحبك» رواه أبو
داود، ولو ساغ ذلك للظالم لكان وسيلة إلى جحد الحقوق؛ لأن مقصود اليمين
تخويف الحالف ليرتدع عن الجحود خوفا من عاقبة اليمين الكاذبة، فإذا ساغ له
التأويل انتفى ذلك وصار وسيلة إلى إبطال الحقوق.
الثالث: لم يكن ظالما ولا مظلوما، فظاهر كلام الإمام أحمد له تأويله، لأنه
عني بكلامه ما يحتمله على وجه لم يتضمن إبطال حق أحد، فجاز كما لو كان
مظلوما، وقد «كان النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يمزح ولا
يقول إلا حقا» .
[باب جامع الأيمان]
(ويرجع فيها إلى النية فيما يحتمله اللفظ) سواء كان ما نواه موافقا لظاهر
اللفظ أو مخالفا له، فالموافق للظاهر هو أن ينوي باللفظ موضوعه الأصلي، مثل
أن ينوي باللفظ العام العموم، والمخالف يتنوع أنواعا:
أحدها أن ينوي بالعام الخاص مثل أن يحلف لا يأكل لحما ولا فاكهة، ويريد
لحما بعينه أو فاكهة بعينها، ومثل أن يحلف لا كلمت رجلا ويريد رجلا بعينه،
أو لا يتغدى يريد غداء بعينه اختصت يمينه به، ومنه أن يحلف على ترك شيء
مطلقا ويريد وقتا بعينه.
(1/513)
(12) فإذا حلف لا يكلم رجلا يريد واحدا
بعينه، أو لا يتغدى يريد غداء بعينه اختصت يمينه به) (وإن حلف لا يشرب له
الماء من العطش يريد قطع منته حنث بكل ما فيه
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[العُدَّة شرح العُمْدة]
والثاني: أن ينوي بالخاص العام، مثل أن يحلف لا أشرب له الماء من العطش
يريد قطع المنة، فتتناول يمينه كل ما فيه منة، فإنه شائع في الكلام التنبيه
بالأدنى على ما فوقه، وبالأعلى على ما دونه، فإذا نبه بشرب الماء في حال
العطش على اجتناب كل نفع يصل إليه منه، ويمتن به عليه كان صحيحا، فإن لم
يكن له نية رجع إلى سبب اليمين وما هيجها؛ لأنه دال على النية، وقال
الشافعي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: لا عبرة بالنية والسبب فيما يخالف
اللفظ؛ لأن الحنث مخالفة ما عقد عليه اليمين، واليمين لفظه، ولو أحنثناه
على ما نواه لأحنثناه على ما نوى لا على ما حلف؛ ولأن اليمين لا تنعقد
بالنية، وكذلك لا يحنث بمخالفته ما نواه، ولنا أنه شائع في كلام العرب
التعبير بالخاص عن العام، بدليل قوله: {مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ}
[فاطر: 13] {وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلا} [النساء: 49] {فَإِذًا لا يُؤْتُونَ
النَّاسَ نَقِيرًا} [النساء: 53] والقطمير: لفافة النواة، والفتيل: ما في
شقها، والنقير: النقرة في ظهرها، ولم يرد ذلك بعينه بل نفي كل شيء، وقال
الحطيئة:
ولا يظلمون الناس حبة خردل
يريد لا يظلمون الناس شيئا، وإذا كان سائغا فقد نوى بكلامه ما يحتمله فيحنث
كما لو لفظ به، ولأننا أجمعنا على صحة التأويل في اليمين لغير الظالم، وهو
إرادة ما الظاهر خلافه وهذا مثله، وقد قال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ -: «إنما لكل امرئ ما نوى» ، فيدخل فيه ما اختلفنا فيه، ولأن
الشارع قد ينص على الحكم في صورة خاصة لمعنى، فيثبت الحكم في كل ما وجد فيه
المعنى ولا يقف على لفظه، كتنصيصه على تحريم الربا في الأعيان الستة، فثبت
التحريم فيما وجد فيه معناها كذلك في كلام الآدمي.
مسألة 12: (فإذا حلف لا يكلم رجلا يريد واحدا بعينه، أو لا يتغدى يريد غداء
بعينه اختصت يمينه به) كما ذكرنا، (وإن حلف لا يشرب له الماء من العطش يريد
قطع منته حنث بكل ما فيه منة) ؛ لأن مبنى الأيمان على النية لا على اللفظ،
ونيته قطع المنة فيحنث بكل ما فيه منة.
(1/514)
منة
(13) وإن حلف لا يلبس ثوبا من غزلها يريد قطع منتها فباعه وانتفع بثمنه حنث
(14) وإن حلف ليقضينه حقه غدا يريد أن لا يتجاوزه فقضاه اليوم لم يحنث
(15) وإن حلف لا يبيع ثوبه إلا بمائة فباعه بأكثر منها لم يحنث إذا أراد أن
لا ينقصه عن مائة
(16) وإن حلف ليتزوجن على امرأته يريد غيظها لم يبر إلا بتزوج يغيظها به
(17) وإن حلف ليضربنها يريد تأليمها لم يبر إلا بضرب يؤلمها
(18) وإن حلف ليضربنها عشرة أسواط
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[العُدَّة شرح العُمْدة]
مسألة 13: (وإن حلف لا يلبس ثوبا من غزلها يريد قطع منتها فباعه وانتفع
بثمنه حنث) لذلك.
مسألة 14: (وإن حلف ليقضينه حقه غدا يريد أن لا يتجاوزه فقضاه اليوم لم
يحنث) اعتبارا بنيته؛ لأن مقتضى هذه اليمين تعجيل القضاء قبل خروج الغد،
فإذا قضاه قبله فقد قضاه قبل خروج الغد وزاده خيرا، ولأننا قد بينا أن مبنى
الأيمان على النية وهذا نوى بيمينه أن لا يجاوز الغد فتعلقت يمينه بهذا
المعنى كما لو صرح به، فإن لم يكن له نية رجع إلى سبب اليمين وما هيجها،
فإن كانت تقتضي التعجيل فهو كما لو نواه، وإن لم يكن له نية ولا سبب فظاهر
كلام الخرقي أنه لا يبر إلا بقضائه في الغد خاصة، وهكذا في سائر الأيمان،
فلو حلف ليصومن شعبان فصام رجبا لم يبر، ولو حلف ليأكلن هذا الطعام في غد
فأكله اليوم لم يبر، وإن أكل بعضه اليوم وبعضه غدا لم يبر؛ لأن اليمين في
الإثبات لا يبر فيها إلا بجميع المحلوف عليه، فترك أكل بعضه إلى الغد كترك
جميعه، إلا أن ينوي بيمينه أن لا يجاوز ذلك الوقت.
مسألة 15: (وإن حلف لا يبيع ثوبه إلا بمائة فباعه بأكثر منها لم يحنث إذا
كان أراد أن لا ينقصه عن مائة) لذلك.
مسألة 16: (وإن حلف ليتزوجن على امرأته يريد غيظها لم يبر إلا بتزوج يغيظها
به) لما سبق.
مسألة 17: (وإن حلف ليضربنها يريد تأليمها لم يبر إلا بضرب يؤلمها) ؛ لأنه
قصد ذلك، وبنى الأيمان على القصد والنية.
مسألة 18: (وإن حلف ليضربنها عشرة أسواط فجمعها فضربها بها ضربة واحدة لم
يبر) ؛ لأنه لا يفهم من ضرب عشرة أسواط إلا عشر ضربات متفرقات فيجب أن تحمل
(1/515)
فجمعها فضربها ضربة واحدة لم يبر
(19) فإن عدمت النية رجع إلى سبب اليمين وما هيجها فيقوم مقام نيته لدلالته
عليها، فإن عدم ذلك حملت يمينه على ظاهر لفظه، فإن كان له عرف شرعي كالصلاة
والزكاة حملت يمنه عليه
(20) وتناولت صحيحه، ولو حلف لا يبيع فباع بيعا فاسدا لم يحنث إلا أن يضيفه
إلى ما لا يصح بيعه كالحر والخمر فتتناول يمينه صورة البيع
(21) وإن لم يكن له عرف شرعي، وكان له عرف في العادة كالدابة والظعينة حملت
يمينه عليه) (فلو حلف لا يركب دابة فيمينه على الخيل والبغال والحمير
(22) وإن حلف لا يشم الريحان فيمينه على الفارسي
(23) والشواء هو اللحم المشوي
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[العُدَّة شرح العُمْدة]
اليمين عليه؛ ولأن السوط آلة أقيم مقام المصدر وانتصب انتصابه، فمعنى
كلامه: لأضربن عشر ضربات بسوط، وكذلك لما قال الله سبحانه وتعالى:
{فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً} [النور: 4] لم يجزه ضربة واحدة
بثمانين سوطا، وأما قوله سبحانه: {وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا فَاضْرِبْ بِهِ
وَلا تَحْنَثْ} [ص: 44] فإن الله سبحانه خص بها أيوب - عَلَيْهِ السَّلَامُ
- ورخص له، ولهذا امتن عليه، وكذلك المريض الذي يخاف عليه التلف أرخص له.
مسألة 19: (فإن عدمت النية رجع إلى سبب اليمين وما هيجها فيقوم مقام نيته
لدلالته عليها، فإن عدم ذلك) يعني: عدم السبب والنية جميعا، (حملت على ظاهر
اللفظ، فإن كان له عرف شرعي وموضوع لغوي حملت يمين الحالف على الشرعي دون
اللغوي، كالصلاة والصوم والزكاة والحج) ، وهذا لا نعلم فيه خلافا.
مسألة 20: (وتتناول اليمين الصحيح) دون الفاسد (فلو حلف لا يبيع فباع بيعا
فاسدا لم يحنث) ؛ لأن اليمين تتعلق بالبيع الشرعي، والفاسد ليس بشرعي (إلا
أن يضيفه إلى ما لا يصح بيعه كالحر والخمر فتتناول يمينه صورة البيع) .
مسألة 21: (وإن لم يكن له عرف شرعي، وكان له عرف في العادة كالدابة
والظعينة حملت يمينه عليه) ؛ لأن الظاهر أنه أراد ذلك، (فلو حلف لا يركب
دابة فيمينه على الخيل والبغال والحمير) ؛ لأن الدابة اسم لذلك عرفا.
مسألة 22: (وإن حلف لا يشم الريحان فيمينه على الفارسي) ؛ لأنه اسمه في
العرف.
مسألة 23: (وإن حلف لا يأكل شواء فأكل لحما مشويا حنث) ، وإن أكل بيضا
مشويا لم يحنث لذلك.
(1/516)
(24) وإن حلف لا يطأ امرأته حنث بجماعها،
وإن حلف لا يطأ دارا حنث بدخولها كيف ما كان
(25) وإن حلف لا يأكل لحما ولا رأسا ولا بيضا، فيمينه على كل لحم ورأس كل
حيوان وبيضه
(26) والأدم كل ما جرت العادة بأكل الخبز به من مائع وجامد كاللحم والبيض
والملح والجبن والزيتون
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[العُدَّة شرح العُمْدة]
مسألة 24: (وإن حلف لا يطأ امرأته حنث بجماعها) ؛ لأن الوطء العرفي في
الزوجة هو الجماع، (وإن حلف لا يطأ دار أخيه حنث بدخولها) ماشيا وراكبا و
(كيف ما كان) لما ذكرناه.
مسألة 25: (وإن حلف لا يأكل لحما ولا رأسا ولا بيضا، فيمينه على كل لحم
ورأس كل حيوان وبيضه) ؛ لأن لفظه عام في ذلك إلا أن يكون له نية فيقتصر على
ما نواه، وقال ابن أبي موسى في الإرشاد: لا يحنث بأكل لحم السمك إلا أن
ينويه بيمينه؛ لأنه لا ينصرف إليه إطلاق اسم اللحم، فإنه لو أمر وكيله أن
يشتري له لحما فاشترى سمكا لم يلزمه، ويصح أن ينفي عنه الاسم فيقول: ما
أكلت لحما وإنما أكلت سمكا، فلم يتعلق به الحنث عند الإطلاق، كما لو حلف لا
يقعد تحت سقف لا يحنث بقعوده تحت السماء، وقد سماها الله تعالى {سَقْفًا
مَحْفُوظًا} [الأنبياء: 32] ؛ لأنه مجاز كذا هاهنا، ولنا قول الله سبحانه
وتعالى: {وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْمًا
طَرِيًّا} [النحل: 14] ، وقال تعالى: {وَمِنْ كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْمًا
طَرِيًّا} [فاطر: 12] ؛ ولأنه من جسم حيوان فكان لحما كسائر اللحم، وما
ذكروه يبطل بلحم العصافير وصغار الطير، فإنه لحم مع ما ذكروه، ودعوى المجاز
تحتاج إلى دليل، والأصل في الإطلاق الحقيقة، وأما السماء فإن الحالف لا
يقعد تحت سقف لا يمكنه التحرز من القعود تحته فلم يكن مراده بيمينه بخلاف
ما نحن فيه.
مسألة 26: (والأدم كل ما جرت العادة بأكل الخبز به من مائع وجامد كاللحم
والبيض والملح والجبن والزيتون) ، وقال أبو حنيفة: ما لا يصطبغ به ليس
بأدم؛ لأن كل واحد منهما يرفع إلى الفم مفردا، ولنا قول النبي - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «سيد الإدام اللحم» (رواه
(1/517)
(27) وإن حلف لا يسكن دارا تناول ما يسمى
سكنا، فإن كان ساكنا بها فأقام بعدما أمكنه الخروج منها حنث
(28) وإن قام لنقل قماشه
أو كان (30) ليلا فأقام حتى يصبح أو خاف على نفسه فأقام حتى أمن لم يحنث
باب كفارة اليمين وكفارتها: {إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ
مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ
فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ} [المائدة: 89] .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[العُدَّة شرح العُمْدة]
أحمد) ؛ ولأنه يؤتدم به عادة أشبه ما يصطبغ به، ولا عبرة برفعه مفردا؛
لأنهما يجتمعان في المضغ والبلع الذي هو حقيقة الأكل، فإن أكل ملحا فقد
توقف الإمام أحمد عنه، وقال القاضي: إن أكله مع الخبز حنث.
مسألة 27: (وإن حلف لا يسكن دارا تناول ما يسمى سكنا، فإن كان ساكنا بها
فأقام بعدما أمكنه الخروج منها حنث) ؛ لأن استدامة السكنى كابتدائها في
وقوع اسم السكنى عليها، ألا تراه يقول: سكنت هذه الدار شهرا كما يقول لبست
هذا الثوب شهرا.
مسألة 28: (وإن أقام لنقل رحله وقماشه لم يحنث) ؛ لأن الانتقال لا يكون إلا
بالأهل والمال فيحتاج إلى أن ينقل ذلك معه حتى يكون منتقلا، وعن زفر أنه
يحنث وإن انتقل في الحال؛ لأنه لا بد أن يكون ساكنا عقيب يمينه ولو لحظة
فيحنث بها، وليس بصحيح، فإن ما لا يمكن الاحتراز منه لا تقع اليمين عليه،
ولا يراد باليمين، ولأنه ترك والتارك لا يسمى ساكنا. مسألة 29: (وإن أقام
لنقل قماشه وأهله لم يحنث) ، وقال الشافعي: يحنث، ولنا أن الانتقال إنما
يكون بالأهل والمال، فلا يمكنه التحرز من هذه الإقامة فلا تقع اليمين
عليها.
مسألة 30: (وإن كان ليلا فأقام حتى يصبح أو خاف على نفسه أو ماله فأقام في
طلب النقلة ينتظر زاول المانع منها لم يحنث) ، وإن مكث أياما وليالي؛ لأن
إقامته لدفع الضرر وانتظار الإمكان لا للسكنى.
[باب كفارة اليمين]
وكفارتها {إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ
أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ
فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ} [المائدة: 89]
(1/518)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[العُدَّة شرح العُمْدة]
أجمع المسلمون على أن الحانث في يمينه بالخيار، إن شاء أطعم، وإن شاء كسا،
وإن شاء أعتق، أي ذلك فعل أجزأه؛ لأن الله سبحانه عطف هذه الخصال بعضها على
بعض بحرف " أو " وهى للتخيير، قال الله سبحانه: {لا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ
بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ
الأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ
مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ}
[المائدة: 89] ، والواجب في الإطعام إطعام عشرة مساكين؛ لنص الله سبحانه
على عددهم، ويعتبر فيهم أربعة شروط:
الأول: أن يكونوا مساكين، وهم الصنف الذي يدفع إليهم في الزكاة، والفقير
داخل فيهم؛ لأنه مسكين وزيادة.
وأن يكونوا أحرارا، واختار الشريف أبو جعفر دفعها إلى المكاتب؛ لأنه ممن
يجوز دفع الزكاة إليه، ولنا أن الله سبحانه عده صنفا في الزكاة غير صنف
المساكين فيدل على أنه ليس بمسكين، والكفارة إنما هي للمساكين بدليل الآية؛
ولأن المسكين يدفع إليه لتتم كفايته، والمكاتب إنما يأخذ لفكاك رقبته، ما
كفايته فإنها حاصلة بكسبه، فإن عجز رجع إلى سيده فاستغنى بإنفاقه، ويخالف
الزكاة فإنها تدفع إلى الغني والكفارة بخلافها.
ويشترط أن يكونوا مسلمين، فلا يجوز صرفها إلى كافر، وقال أصحاب الرأي: يجوز
دفعها إلى أهل الذمة؛ لدخولهم في اسم المساكين، وخرج أبو الخطاب وجها لذلك،
ولنا أنهم كفار فلم يجز إعطاؤهم كمستأمني أهل الحرب، والآية مخصوصة بهذا
فنقيس عليه.
الشرط الرابع: أن يكونوا قد أكلوا الطعام، فإن كان طفلا لم يأكل لم يجز
الدفع إليه في ظاهر كلام الخرقي، وهي إحدى الروايتين عن أحمد، وعنه لا
يشترط ذلك، قال أبو الخطاب: هذا قول أكثر الفقهاء؛ لأنه حر مسلم محتاج
فأشبه من يطعم، ولنا قوله عز وجل: {إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ}
[المائدة: 89] ، وهذا يقتضي أكلهم، فإذا لم تعتبر حقيقة الأكل وجب اعتبار
مظنته، ولا تتحقق مظنة الأكل ممن لم يطعم، ولأنه لو كان المقصود دفع حاجته
جاز دفع القيمة ولم يتعين الإطعام، وهذا يقيد ما ذكروه، فإذا اجتمعت هذه
الأوصاف جاز الدفع إليه، غير أن المحجور يقبض له وليه.
[فصل في مقدار الإطعام في كفارة اليمين]
1
فصل: ويطعم لكل مسكين مد من حنطة أو دقيق، أو رطلان من خبز، أو مدان تمرا
أو شعيرا، والمخرج في الكفارة ما يجزئ في الفطرة، وهو البر والشعير والتمر
والزبيب قياسا
(1/519)
(32) وهو مخير بين تقديم الكفارة على الحنث
أو تأخيرها عنه؛ لقول رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -:
«من حلف على يمين فرأى غيرها خيرا منها فليكفر عن يمينه وليأت الذي هو خير
" وروي: " فليأت الذي هو خير وليكفر عن يمينه»
(33) ويجزئه في الكسوة ما تجوز الصلاة فيه: للرجل ثوب، وللمرأة درع وخمار
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[العُدَّة شرح العُمْدة]
لها عليها، وفي الخبز روايتان: إحداهما: يجزئه؛ لقوله سبحانه: {فَإِطْعَامُ
سِتِّينَ مِسْكِينًا} [المجادلة: 4] ، ومن أخرج الخبز فقد أطعم.
والأخرى: لا يجزئه؛ لأنه خرج عن حال الكمال فأشبه الهريسة، فإن قلنا:
يجزئه، اعتبر أن يكون من مد بر فصاعدا، وقال الخرقي: لكل مسكين رطلا خبز؛
لأن الغالب أنها لا تكون إلا من مد أو أكثر، ولا يجزئ من البر أقل من مد
ولا من غيره أقل من مدين؛ لما روى الإمام أحمد بإسناده عن أبي يزيد المدني
قال: «جاءت امرأة من بني بياضة بنصف وسق شعير فقال رسول الله - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - للمظاهر: " أطعم هذا، فإن مدي شعير مكان مد
بر» وهذا نص.
مسألة 31: {فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ} [المائدة: 89]
للآية.
مسألة 32: (وهو مخير بين تقديم الكفارة على الحنث وتأخيرها عنه؛ لقوله -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من حلف على يمين فرأى غيرها خيرا
منها فليكفر عن يمينه وليأت الذي هو خير» وروي: «فليأت الذي هو خير وليكفر
عن يمينه) » متفق عليه.
مسألة 33: (ويجزيه في الكسوة ما تجوز الصلاة فيه: للرجل ثوب وللمرأة درع
وخمار) ، وقال الشافعي: يجزيه أول ما يقع عليه الاسم من سراويل أو إزار أو
رداء أو مقنعة أو عمامة، وفي القلنسوة وجهان؛ لأن ذلك يقع عليه اسم الكسوة
فأشبه ما يجزي في الصلاة، ولنا أن الكسوة أحد أنواع الكفارة فلم يجزئ فيه
ما يقع عليه الاسم كالإطعام والإعتاق؛ ولأن اللابس ما لا يستر عورته يسمى
عريانا لا مكتسيا، وكذلك لابس السراويل أو مئزر وحده يسمى عريانا فوجب أن
لا يجزيه، ولأنه مصروف إلى المساكين فيقدر كالإطعام، إذا ثبت هذا فإذا كسا
امرأة أعطاها درعا وخمارا؛ لأنه أقل ما يجزئها الصلاة فيه، وإن كسا الرجل
أجزأه قميص أو ثوب يستر عورته به ويجعل على عاتقه منه شيئا، أو
(1/520)
(34) ويجزئه أن يطعم خمسة مساكين ويكسو
خمسة
(35) ولو أعتق نصف رقبة أو أطعم خمسة أو كساهم
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[العُدَّة شرح العُمْدة]
ثوبين يأتزر بأحدهما ويجعل الآخر على عاتقه، ولا يجزيه مئزر وحده ولا
سراويل وحده؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «لا يصلي
أحدكم في ثوب واحد ليس على عاتقه منه شيء» (رواه البخاري) .
مسألة 34: (ويجزئه أن يطعم خمسة مساكين ويكسو خمسة) ، وعند الشافعي لا
يجزئه؛ لقوله سبحانه: {فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ
أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ} [المائدة: 89] ،
فوجه الحجة: أنه جعل الكفارة أحد هذه الخصال الثلاث، ولم يأت بواحدة منها.
الثاني: أن اقتصاره على هذه الثلاث يدل على انحصار لتكفير فيها، وما
ذكرتموه قسم رابع؛ ولأنه نوع من التكفير فلم يجز تبعيضه كالعتق، ولنا أنه
أخرج من جنس المنصوص عليه بعده العدد الواجب فأجزأ كما لو أخرجه من جنس؛
ولأن كل واحد من النوعين يقوم مقام صاحبه في جميع العدد فقام مقامه في بعضه
كالتيمم، لما جاز أن يقوم مقام الماء في جميع البدن في الجنابة جاز في بعضه
في طهارة الحدث، وفيما إذا كان بعض بدنه جريحا وبعضه صحيحا؛ ولأن معنى
الطعام والكسوة متقارب، إذ القصد منها سد الخلة ودفع الحاجة، وتنوعهما من
حيث كونهما في الإطعام إشباع الجوعة، وفي الكسوة ستر العورة، ولا يمنع
الإجزاء في الكفارة الملفقة منهما، كما لو كان أحد الفقيرين محتاجا إلى ستر
العورة والآخر إلى الاستدفاء، وأما الآية فإنها تدل بمعناها على ما ذكرناه؛
ولأنها دلت على أنه مخير في كل فقير من عشرة بين أن يطعمه أو يكسوه، وهذا
يقتضي ما ذكرناه، ويصير كما يتخير في فداء الصيد الحرمي بين أن يفديه
بالنظير أو يقوم النظير بدراهم فيشتري بها طعاما فيتصدق به، أو يصوم عن كل
مد يوما، فلو صام عن بعض الأمداد وأطعم بعضا جاز كذا هاهنا.
مسألة 35: (ولو أعتق نصف رقبة أو أطعم خمسة مساكين أو كساهم لم يجزئه) ؛
لأن مقصودهما مختلف متباين، إذ كان القصد من العتق تكميل الأحكام أو تخليصه
من الرق، والقصد من الإطعام والكسوة سد الخلة وإبقاء النفس بدفع المسغبة في
الإطعام، ودفع ضرر الحر والبرد في الكسوة، فلتقارب معناهما، جرتا مجرى
الجنس الواحد فكملت الكفارة من أحدهما بالآخر، ولذلك سوى بين عددهما،
ولتباعد مقصد العتق
(1/521)
(36) أو أعتق نصف عبدين لم يجزه
(37) ولا يُكفِّر العبد إلا بالصيام
(38) ويكفر بالصوم من لم يجد ما يكفر به فاضلاً عن مؤنته ومؤنة عياله وقضاء
دينه
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[العُدَّة شرح العُمْدة]
منهما ومباينته لهما لم يجر معهما مجرى الجنس الواحد؛ ولذلك خالف عدده
عددهما فلم يكمل به أحدهما، ولو يكمل هو بواحد منهما.
مسألة 36: (وإن أعتق نصف عبدين لم يجزه) أيضا، وهو اختيار أبي بكر؛ لأن
المقصود من العتق تكميل الأحكام، ولا يحصل ذلك من إعتاق نصفين، والمذهب أنه
يجزي، قال الشريف: هذا قول أكثرهم، ولأصحاب الشافعي قولان كذلك، ومنهم من
قال: إن كان نصف الرقبتين حرا أجزأ؛ لأنه يحصل تكميل الأحكام، وإن كان
رقيقا لم يجز؛ لأنه لم يحصل.
مسألة 37: (ولا يكفر العبد إلا بالصيام) لا خلاف بين أهل العلم في أن العبد
يجزيه الصيام في الكفارة؛ لأن ذلك فرض الحر المعسر، وهو أحسن حالا من العبد
فإنه يملك في الجملة، فلو أذن له سيده في التكفير بالمال لم يلزمه؛ لأنه
ليس بمالك لما أذن له فيه، وظاهر كلام الخرقي أنه لا يجزيه التكفير بغير
الصيام، وقال أصحابنا فيما إذا أذن له سيده في التكفير بالمال روايتان:
إحداهما: يجوز تكفيره به؛ لأنه بإذن سيده يصير قادرا على التكفير بالمال
فجاز له ذلك كالحر، والرواية الأخرى: لا يجزيه؛ لأنه لا يملك المال فيكون
تكفيره بغير ماله فلم يصح، كما لو أعتق الحر عبد غيره عن كفارته.
وعلى الروايتين لا يلزمه التكفير بالمال وإن أذن له سيده؛ لأن فرضه الصيام
فلم يلزمه غيره، كما لو أذن موسر لحر معسر في التكفير من ماله.
مسألة 38: (ويكفر بالصوم من لم يجد ما يكفر به فاضلا عن مؤنته ومؤنة عياله
وقضاء دينه) قال الشافعي: من كان له الأخذ من الزكاة لحاجته فله الصيام؛
لأنه فقير، ولنا ظاهر قوله سبحانه: {فَمَنْ لَمْ يَجِدْ} [المائدة: 89] ،
ومن لم يجد ما يكفر به فاضلا عن مؤنته ومؤنة عياله فليس بواجد؛ ولأنه حق لا
يزيد بزيادة المال فاعتبر فيه الفاضل عن قوته وقوت عياله يومه وليلته كصدقة
الفطر، فإن ملك ما يكفر به وعليه دين مثله وهو مطالب به فلا كفارة عليه؛
لأنه حق آدمي، والكفارة حق الله سبحانه، فإذا كان مطالبا به وجب تقديمه
كتقديمه على
(1/522)
(39) ولا يلزمه أن يبيع في ذلك شيئا من
مسكن وخادم وأثاث وكتب وآنية وبضاعة يختل ربحها المحتاج إليه
(40) ومن أيسر بعد شروعه في الصوم لم يلزمه الانتقال عنه
(41) ومن لم يجد إلا مسكينا واحدا ردد عليه عشرة أيام
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[العُدَّة شرح العُمْدة]
زكاة الفطر، وإن لم يكن مطالبا به، فكلام أحمد يقتضي روايتين: إحداهما: لا
يجب لذلك، والأخرى: يجب؛ لأنه لا يعتبر فيها قدر من المال فلم تسقط بالدين
كزكاة الفطر.
مسألة 39: (ولا يلزمه أن يبيع في ذلك شيئا من مسكن وخادم وأثاث وكتب وآنية
وبضاعة يختل ربحها المحتاج إليه) ؛ لأن الكفارة إنما تجب فيما يفضل عن
حاجته الأصلية، وهذا من حوائجه الأصلية فلا يلزمه بيع شيء من ذلك؛ لأنه يضر
به كثيرا، وقد قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا ضرر ولا
ضرار» .
مسألة 40: (ومن أيسر بعد شروعه في الصوم لم يلزمه الانتقال عنه) ؛ لأنه بدل
لا يبطل بالقدرة عن المبدل فلم يلزمه الرجوع إليه، كما لو قدر على الهدي في
صوم السبعة الأيام فإنه لا يخرج بغير خلاف، والدليل على أن البدل لا يبطل
هاهنا أن البدل الصوم، والصوم صحيح مع قدرته اتفاقا.
مسألة 41: (ومن لم يجد إلا مسكينا واحدا ردد عليه عشرة أيام) ، وعنه لا
يجزيه إلا كمال العدد؛ لقوله سبحانه: {إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ}
[المائدة: 89] ، ومن أطعم واحدا فما أطعم عشرة، ودليل الأولى، وأنه يجزي أن
ترديد الإطعام على الواحد في عشرة أيام في معنى إطعام عشرة؛ لأنه قد دفع
الحاجة في عشرة أيام، فأشبه ما لو أطعم كل يوم واحدا، والشيء بمعناه يقوم
مقام وجوده بصورته عند تعذرها؛ ولهذا شرعت الأبدال لقيامها مقام المبدلات،
في المعنى ولا يجتزئ بها مع المقدرة على المبدلات كذا هاهنا.
(1/523)
|