الكافي في فقه الإمام أحمد

 [كتاب الصلاة]
الصلوات المكتوبات خمس، لما «روى طلحة بن عبيد الله، أن أعرابياً قال: يا رسول الله، ماذا فرض الله علي من الصلاة؟ قال: خمس صلوات في اليوم والليلة قال: هل علي غيرها؟ قال: لا إلا أن تطوع

(1/171)


شيئاً» متفق عليه، ولا تجب إلا على مسلم عاقل بالغ، فأما الكافر، فلا تجب عليه، أصلياً

(1/172)


كان أو مرتداً.
وخرج أبو إسحاق بن شاقلا رواية أخرى: أنها تجب على المرتد، ويؤمر بقضائها؛ لأنه اعتقد وجوبها، وأمكنه التسبب إلى أدائها، فأشبه المسلم.
والمذهب الأول؛ لقول الله تعالى: {قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ} [الأنفال: 38] ،

(1/173)


ولأنه قد أسلم كثير في عصر النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وبعده، فلم يؤمروا بقضاء، ولأن في إيجاب القضاء تنفيراً له عن الإسلام، فعفي عنه.
ولا تجب على مجنون؛ لقول رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «رفع القلم عن ثلاثة، عن الصبي حتى يبلغ، وعن المجنون حتى يفيق، وعن النائم حتى يستيقظ» حديث حسن، ولأن

(1/174)


مدته تتطاول، فيشق إيجاب القضاء عليه، فعفي عنه.
ولا تجب على الصبي حتى يبلغ، للحديث، ولأن الطفل لا يعقل، والمدة التي يكمل فيها عقله وبنيته تخفى وتختلف، فنصب الشرع عليه علامة ظاهرة، وهي البلوغ لكنه يؤمر بها لسبع، ويضرب عليها لعشر، ليتمرن ويعتادها فلا يتركها عند بلوغه، وتصح صلاته، ويستحب له فعلها، لما ذكرنا.
وعنه: أنها تجب عليه إذا بلغ عشراً، لكونه يعاقب على تركها، والواجب ما عوقب على تركه.
والأول المذهب، فإن بلغ في أثنائها أو بعدها في الوقت، لزمته إعادتها؛ لأنه صلاها نفلاً، فلم تجزه عما أدرك وقته من الفرض، كما لو نواها نفلاً.
وإن بلغ الصبي، أو أفاق المجنون، أو أسلم الكافر، أو طهرت الحائض قبل

(1/175)


غروب الشمس، لزمته الظهر والعصر، وإن كان ذلك قبل طلوع الفجر، لزمته المغرب والعشاء؛ لأن ذلك يروى عن عبد الرحمن بن عوف، وابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، ولأن وقتهما وقت لكل واحدة منهما حال العذر، فأشبه ما [لو] أدرك جزءاً من وقت الأولى.
وإن بلغ في وقت الفجر لم يلزمه غيرها؛ لأن وقتها مختص بها.
وتجب الصلاة على المغمى عليه لمرض، أو شرب دواء، وعلى السكران؛ لأن عماراً أغمي عليه فقضى ما فاته، ولأن مدته لا تتطاول، ولا تثبت

(1/176)


الولاية عليه، فوجبت عليه كالنائم.

فصل
ومن وجبت عليه الصلاة لم يجز له تأخيرها عن وقتها إذا كان ذاكراً لها، قادراً على فعلها إلا المتشاغل بتحقيق شرطها، ومن أراد الجمع لعذر، فإن جحد وجوبها كفر؛ لأنه كذب الله تعالى في خبره.
وإن تركها متهاوناً بها معتقداً وجوبها وجب قتله؛ لقول الله تعالى: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ} [التوبة: 5] إلى قوله: {فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ} [التوبة: 5] فدل على أنهم إذا لم يقيموا الصلاة يقتلون، ولأن الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - أجمعوا على قتال مانعي الزكاة والصلاة آكد منها.
ولا يقتل حتى يستتاب ثلاثة أيام، ويضيق عليه، ويدعى إلى فعل كل صلاة في وقتها، ويقال له: إن صليت وإلا قتلناك؛ لأنه قتل لترك واجب فيتقدمه الاستتابة، كقتل المرتد، فإن تاب، وإلا قتل بالسيف، وهل يقتل حداً أو لكفره؟ .

(1/177)


فيه روايتان: إحداهما: لكفره، وهو كالمتمرد في أحكامه، لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «بين الرجل وبين الشرك والكفر ترك الصلاة» رواه مسلم، ولأنها من دعائم الإسلام لا تدخلها نيابة بنفس، ولا مال، فيكفر تاركها كالشهادتين.
والثانية: يقتل حداً كالزاني المحصن، لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «خمس صلوات كتبهن الله على العبد في اليوم والليلة من لم يحافظ عليهن لم يكن له عند الله عهد إن

(1/178)


شاء عذبه وإن شاء غفر له» من المسند، ولو كفر لم يدخله في المشيئة.
ولقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من قال لا إله إلا الله دخل الجنة» ، «ويخرج من النار من قال لا إله إلا الله» متفق عليهما، ولأنها فعل واجب في الإسلام، فلم يكفر تاركها المعتقد لوجوبها كالحج.

(1/179)


[باب أوقات الصلوات]
الأولى هي الظهر، لما روى أبو برزة الأسلمي قال: «كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، يصلي الهجير التي تدعونها الأولى حين تدحض

(1/183)


الشمس، يعني: تزول» في حديث طويل، متفق عليه، وأول وقتها إذا زالت الشمس، وآخره إذا كان ظل كل شيء مثله بعد القدر الذي زالت الشمس عليه، لما روى [ابن عباس] أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «أمني جبريل عند البيت مرتين، فصلى بي الظهر في المرة الأولى حين زالت الشمس، والفيء مثل الشراك، ثم صلى بي في المرة الأخيرة حين صار ظل كل شيء مثله، وقال: الوقت ما بين هذين» في حديث طويل، قال الترمذي: هو حديث حسن.
ويعرف زوال الشمس بطول الظل بعد

(1/184)


تناهي قصره، والأفضل تعجيلها، لحديث أبي برزة إلا في شدة الحر فإنه يستحب، الإبراد بها، لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أبردوا [بالظهر]

(1/185)


في شدة الحر، فإن شدة الحر من فيح جهنم» متفق عليه.

(1/186)


فصل
ثم العصر، وهي الوسطى لما روى علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يوم الأحزاب: «شغلونا عن الصلاة الوسطى صلاة العصر ملأ الله بيوتهم وقبورهم ناراً» متفق عليه، وأول وقتها إذا صار ظل كل شيء مثله، وآخره إذا صار ظل كل شيء مثليه، لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في حديث جبريل: «وصلى بي العصر حين صار ظل كل شيء مثله، ثم صلى بي المرة الآخرة حين صار ظل كل شيء مثليه»

(1/187)


وعنه: أن آخره ما لم تصفر الشمس، لما روى عبد الله بن عمر أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «وقت العصر ما لم تصفر الشمس» رواه مسلم، ثم يذهب وقت الاختيار ويبقى وقت الجواز إلى غروب الشمس.
ومن أدرك منها جزءاً قبل الغروب، فقد أدركها، لما روى أبو هريرة عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «من أدرك سجدة من صلاة العصر قبل أن تغرب الشمس فليتم صلاته» متفق عليه، وتعجيلها أفضل بكل حال، لقول أبي برزة في حديثه: «كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -

(1/188)


يصلي العصر، ثم يرجع أحدنا إلى رحله في أقصى المدينة والشمس حية» ، متفق عليه.

فصل
ثم المغرب وهي الوتر وأول وقتها، إذا غابت الشمس، وآخره إذا غاب الشفق الأحمر، لما روى بريدة «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أمر بلالاً فأقام المغرب حين غابت الشمس، ثم صلى المغرب في اليوم الثاني حين غاب الشفق، ثم قال: وقت وصلاتكم بين ما رأيتم» رواه مسلم، وفي حديث عبد الله بن عمرو أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «وقت المغرب ما لم يغب الشفق» ويكره تأخيرها عن وقتها؛ لأن جبريل - عَلَيْهِ السَّلَامُ - صلاها بالنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في

(1/189)


اليومين في أول وقتها، وقال جابر: «كان النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يصلي المغرب إذا وجبت الشمس» ، متفق عليه.

فصل
ثم العشاء وأول وقتها إذا غاب الشفق الأحمر، وآخره ثلث الليل، لما روى بريدة: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلى العشاء في اليوم الأول حين غاب الشفق، وصلاها في اليوم الثاني حين ذهب ثلث الليل» ، وحديث ابن عباس في صلاة جبريل مثله، وعن ابن عمر عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «الشفق الحمرة، فإذا غاب الشفق، وجبت الصلاة» رواه الدارقطني.

(1/190)


وعنه: آخره نصف الليل، لما روى عبد الله بن عمرو: أن النبي (- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) قال: «وقت العشاء إلى نصف الليل» رواه مسلم وأبو داود، والأفضل تأخيرها لقول أبي برزة: «كان النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يستحب أن يؤخر العشاء» متفق عليه.
ويستحب أن يراعى حال المأمومين، لقول جابر: «كان النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يصلي العشاء أحياناً يقدمها وأحياناً يؤخرها إذا رآهم اجتمعوا عجل، وإذا رآهم أبطؤوا، أخر»

(1/191)


متفق عليه، ثم يذهب وقت الاختيار، ويبقى وقت الجواز إلى طلوع الفجر الثاني، على ما ذكرنا في وقت العصر.

فصل
ثم الفجر، وأول وقتها إذا طلع الفجر الثاني بغير خلاف، وهو البياض الذي يبدو من قبل المشرق معترضاً لا ظلمة بعده، وآخره إذا طلعت الشمس، لما روى بريدة عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أنه أمر بلالاً فأقام الفجر حين طلع الفجر، فلما كان اليوم الثاني صلى الفجر، فأسفر بها، ثم قال: وقت صلاتكم ما بين ما رأيتم» ، وفي حديث ابن عباس في حديث جبريل مثله.
والأفضل تعجيلها، لما روت عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قالت: «كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يصلي الفجر، فيشهد

(1/192)


معه نساء من المؤمنات، ثم ينصرفن متلفعات بمروطهن ما يعرفن من الغلس» .

(1/193)


متفق عليه.
وعنه: يراعي حال المأمومين، فإن أسفروا فالإسفار أفضل، لما ذكرنا في العشاء.

فصل:
وتجب الصلاة بأول الوقت، لأن الأمر بها يتعلق بأول وقتها، والأمر يقتضي الوجوب، ولأنه سبب الوجوب، فتثبت عقبيه، كسائر الأسباب، ويستقر الوجوب بذلك.
فلو جن بعد دخول جزء من وقت الصلاة، أو حاضت المرأة، لزمها القضاء، لأنه إدراك جزء تجب بها الصلاة، فاستقرت به، كآخر الوقت.
وهل تجب العصر بإدراك جزء من وقت الظهر؟ فيه وجهان:
أحدهما: تجب، لأنه أدرك جزءاً من وقت إحدى صلاتي الجمع، فلزمته الأخرى، كإدراك جزء من وقت العصر.

(1/194)


والثاني: لا تجب، لأنه لم يدرك شيئاً من وقتها، ولا وقت تبعها، فأشبه من لم يدرك شيئاً بخلاف العصر، فإنها تفعل تبعاً للظهر، فمدرك وقتها مدرك لجزء من وقت تبع الظهر، وهكذا القول في المغرب والعشاء.
ومن أدرك ركعة من الصلاة قبل خروج الوقت، فهو مدرك لها لما روى أبو هريرة أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من أدرك ركعة من الصلاة فقد أدرك الصلاة» وفي لفظ: «إذا أدرك أحدكم سجدة من العصر قبل أن تغرب الشمس، فليتم صلاته، وإذا أدرك سجدة من صلاة الصبح، فليتم صلاته» متفق عليه.
وفي مدرك أقل من ركعة وجهان:
أحدهما: يكون مدركاً لها لأنه إدراك جزء من الصلاة، فاستوى فيه الركعة وما دونها، كإدراك الجماعة.
والثاني: لا يكون مدركاً لها، لتخصيصه الإدراك بركعة، وقياساً على إدراك الجمعة.

فصل:
ويجوز تأخير الصلاة إلى آخر وقتها، لأن «جبريل - عَلَيْهِ السَّلَامُ - صلى بالنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في

(1/195)


اليوم الثاني في آخر الوقت» .
فإن أخرها عن وقتها، لزمه قضاؤها على الفور، لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من نام عن صلاة أو نسيها فليصلها إذا ذكرها» متفق عليه. فإن فاتته صلوات، لزمه قضاؤهن مرتبات، لأنها صلوات مؤقتات، فوجب الترتيب فيها، كالمجموعتين.
فإن خشي فوات الحاضرة، قدمها لئلا تصير فائتة، ولأن فعل الحاضرة آكد، بدليل أنه يقتل بتركها، بخلاف الفائتة.
وعنه: لا يسقط الترتيب، لما ذكرنا من القياس.
وإن نسي الفائتة حتى صلى الحاضرة سقط الترتيب، وقضى الفائتة وحدها، لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «عفي لأمتي عن الخطأ والنسيان» رواه النسائي. وإن ذكرها في الحاضرة، والوقت ضيق، فكذلك.
وإن كان متسعاً وهو مأموم، أتمها وقضى الفائتة، وأعاد الحاضرة، لما روى

(1/196)


ابن عمر أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من نسي صلاة فلم يذكرها إلا وهو مع الإمام، فليصل مع الإمام، فإذا فرغ من صلاته، فليعد التي نسي ثم ليعد الصلاة التي صلاها مع الإمام» رواه أبو حفص العكبري وأبو يعلى الموصلي. وروي موقوفاً على ابن عمر.
وفي المنفرد روايتان:
إحداهما: أنه كذلك.
والأخرى: يقطعها.
وعنه في الإمام: أنه ينصرف، ويستأنف المأمومون، قال أبو بكر: لم ينقلها غير حرب.

(1/197)


وإن كثرت الفوائت، قضاها متتابعة ما لم تشغله عن معيشته، أو تضعفه في بدنه حتى يخشى فوات الحاضرة، فليصلها، ثم يعود إلى القضاء.
وعنه: إذا كثرت الفوائت فلم يمكنه فعلها قبل فوات الحاضرة، فله فعل الحاضرة في أول وقتها، لعدم الفائدة في التأخير، مع لزوم الإخلال في الترتيب.

فصل:
ومن نسي صلاة من يوم لا يعلم عينها، لزمه خمس صلوات، ينوي في كل واحدة أنها المكتوبة، ليحصل له تأدية فرضه بيقين.
وإن نسي ظهراً وعصراً من يومين لا يدري أيتهما الأولى، لزمه ثلاث صلوات ظهراً، ثم عصراً، ثم ظهراً، [أو] عصراً، ثم ظهراً ثم عصراً، ليحصل له ترتيبها بيقين.

فصل:
ومن شك في دخول الوقت، لم يصل حتى يتيقن، أو يغلب على ظنه ذلك، بدليل.

(1/198)


فإن أخبره ثقة عن علم، عمل به، وإن أخبره عن اجتهاد لم يقلده، واجتهد حتى يغلب على ظنه دخوله، فإن صلى فبان أنه وافق الوقت أو بعده، أجزأه، لأنه صلى بعد الوجوب.
وإن وافق قبله، لم يجزه، لأنه صلى قبل الوجوب.

[باب الأذان]
الأذان مشروع للصلوات الخمس دون غيرها، وهو من فروض الكفاية؛ لأنه من شعائر الإسلام الظاهرة، فلم يجز تعطيله، كالجهاد، فإن اتفق أهل بلد على تركه، قوتلوا عليه، وإن أذن واحد في المصر أسقط الفرض عن أهله، ولا يجزئ الأذان قبل الوقت، لأنه لا يحصل المقصود منه، إلا الفجر، فإنه يجزئ الأذان لها بعد نصف الليل؛ لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إن بلالاً يؤذن بليل؛ فكلوا واشربوا حتى يؤذن ابن أم مكتوم»

(1/199)


متفق عليه. ولأنه وقت النوم فيحتاج إلى التأذين قبل الوقت، لينتبه النائم ويتأهب للصلاة، بخلاف سائر الصلوات.
ولا يؤذن قبل الوقت، إلا من يتخذه عادة لئلا يغر الناس. ويكون معه من يؤذن في الوقت، كفعل بلال وابن أم مكتوم.
ولا يجوز تقديم الإقامة على الوقت، لأنها تراد لافتتاح الصلاة ولا تفتتح قبل الوقت.

فصل:
ويذهب أبو عبد الله - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - إلى أذان بلال الذي أريه عبد الله بن زيد، كما روي عنه أنه قال: «لما أمر رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بالناقوس ليضرب به للناس لجمع الصلاة، طاف بي وأنا نائم رجل يحمل ناقوساً، فقلت: يا عبد الله أتبيع الناقوس؟ قال: وما تصنع به؟ قلت: ندعو به إلى الصلاة، فال: أفلا أدلك على ما هو خير من ذلك؟ فقلت: بلى، فقال: تقول: الله أكبر الله أكبر الله أكبر الله أكبر، أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن محمداً رسول الله، أشهد أن محمداً رسول الله، حي على الصلاة، حي على الصلاة، حي على الفلاح، حي على الفلاح، الله

(1/200)


أكبر الله أكبر، لا إله إلا الله، قال: ثم استأخر عني غير بعيد، ثم قال: تقول إذا أقمت الصلاة: الله أكبر الله أكبر، أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن محمداً رسول الله، حي على الصلاة، حي على الفلاح، قد قامت الصلاة قد قامت الصلاة، الله أكبر الله أكبر، لا إله إلا الله. فلما أصبحت أتيت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فأخبرته بما رأيت، فقال: إنها رؤيا حق إن شاء الله، فقم مع بلال فألق ما رأيت فليؤذن به، فإنه أندى طوتاً منك» رواه أبو داود. فهذه صفة الأذان والإقامة المستحب، لأن بلالاً كان يؤذن به حضراً وسفراً مع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلى أن مات.
وإن رجع في الأذان، أو ثنى الإقامة، فلا بأس لأنه من الاختلاف المباح.

(1/201)


ويستحب أن يقول في أذان الصبح بعد حي على الفلاح: الصلاة خير من النوم، مرتين، لما روى أبو محذورة أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال له: «إن كان في أذان الصبح، قلت: الصلاة خير من النوم، مرتين» رواه النسائي. ويكره التثويب في غيره، لما روى بلال قال: «أمرني رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن أثوب في الفجر، ونهاني أن أثوب في العشاء» . رواه ابن ماجه.
ودخل ابن عمر مسجداً يصلي فيه، فسمع رجلاً يثوب في أذان الظهر، فخرج وقال: أخرجتني البدعة.

(1/202)


فصل:
ويسن الأذان للفائتة، لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فاتته الصبح فقال: «يا بلال قم فأذن ثم صلى ركعتين، ثم أقام، ثم صلى الغداة» . متفق عليه.
وإن كثرت الفوائت، أذَّن وأقام للأولى، ثم أقام للتي بعدها، لما روى ابن

(1/205)


مسعود أن «المشركين شغلوا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن أربع صلوات حتى ذهب من الليل ما شاء الله، ثم أمر بلالاً، فأذن ثم أقام فصلى الظهر، ثم أقام فصلى العصر، ثم أقام فصلى المغرب، ثم أقام فصلى العشاء» ، رواه الأثرم.
وإن جمع بين الصلاتين، فكذلك، لما روى جابر أن «النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلى الظهر والعصر بعرفة بأذان وإقامتين» . رواه مسلم.
وإن ترك الأذان للفائتة، أو المجموعتين في وقت الآخرة منهما، فلا بأس، لما روي أن «النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلى المغرب والعشاء بإقامة لكل صلاة من غير أذان» ، متفق عليه.

فصل:
ولا يصح الأذان إلا من مسلم عاقل، ولا يصح من كافر ولا طفل ولا مجنون، لأنهم من غير أهل العبادات. ولا يشرع الأذان للنساء، ولا الإقامة، ولا يصح منهن، لأنه يشرع فيه رفع الصوت، ولسن من أهل ذلك، ولا لخنثى مشكل، لأنه لا يعلم كونه رجلاً.
وفي أذان الفاسق والصبي العاقل وجهان:
أحدهما: يصح، لأنه مشروع لصلاتهما، وهما من أهل العبادات.

(1/206)


والثاني: لا يصح لأنه إعلام بالوقت، ولا يقبل فيه خبرهما. وفي الأذان الملحَّن وجهان:
أحدهما: يصح، لأنه أتى به مرتباً فصح كغيره.
والثاني: لا يصح، لما روى ابن عباس، قال: «كان لرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مؤذن يطرب، فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: إن الأذان سهل سمح فإن كان أذانك سهلاً سمحاً وإلا فلا تؤذن» رواه الدارقطني.
وفي أذان الجنب وجهان:
أحدهما: يصح؛ لأنه أحد الحدثين، فلم يمنع صحته، كالحدث الأصغر.
والثاني: لا يصح؛ لأنه ذكر مشروع للصلاة يتقدمها، أشبه الخطبة.

فصل:
ويستحب للمؤذن أن يكون أميناً لأنه مؤتمن على الأوقات. صيتاً، لأن «النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال لعبد الله بن زيد: ألقه على بلال فإنه أندى صوتاً منك» رواه أبو داود. ولأنه أبلغ في الإعلام المقصود بالأذان. وأن يكون عالماً بالأوقات، ليتمكن من الأذان في أوائلها. وأن يكون بصيراً، لأن الأعمى لا يعلم، إلا أن يكون

(1/207)


معه بصير يؤذن قبله، كبلال مع ابن أم مكتوم، فإن تشاح اثنان في الأذان، قدم أكملهما في هذه الخصال، لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قدم بلالا على عبد الله بن زيد، لكونه أندى صوتاً، وقسنا عليه باقي الخصال. فإن استويا في ذلك، أقرع بينهما لقول رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لو يعلم الناس ما في النداء والصف الأول، ثم لم يجدوا إلا أن يستهموا عليه

(1/208)


لاستهموا» متفق عليه. وتشاح الناس في الأذان يوم القادسية، فأقرع بينهم سعد.
وعنه: يقدم من يرضاه الجيران، لأن الأذان لإعلامهم، فكان لرضاهم أثر في التقديم.
ولا بأس أن يؤذن اثنان أحدهما بعد الآخر، لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «كان يؤذن له بلال وابن أم مكتوم، إذا نزل هذا طلع هذا» . ولا يسن أكثر من هذا إلا أن تدعو إليه حاجة فيجوز، لأن عثمان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - اتخذ أربعة مؤذنين.

فصل:
يستحب أن يؤذن قائماً، «لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لبلال: قم فأذن» ولأنه أبلغ في الإسماع، فإن أذن قاعداً أو راكباً في السفر جاز، لأن الصلاة آكد منه، وهي تجوز كذلك. وأن يؤذن على موضع عال، لأنه أبلغ في الإعلام. وروي أن «بلالاً كان يؤذن على سطح امرأة، ويرفع صوته» ، لما روى أبو هريرة عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه «قال للمؤذن: يغفر له مدى صوته، ويشهد له كل رطب ويابس» رواه أبو داود. ولا يجهد نفسه فوق طاقته؛ لئلا ينقطع صوته، ويؤذي نفسه. وإن أذن لفائتة أو لنفسه في مصر، لم يجهر لأنه لا يدعو أحداً وربما غر الناس. وإن كان في الصحراء جهر في الوقت، فإن أبا

(1/209)


سعيد قال: «إذا كنت في غنمك أو باديتك، فأذنت بالصلاة فارفع صوتك بالنداء، فإنه لا يسمع مدى صوت المؤذن جن ولا أنس ولا شيء، إلا شهد له يوم القيامة سمعته من رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -» ،

(1/210)


رواه البخاري، ويستحب أن يؤذن متوضئاً، لأن أبا هريرة قال: «لا يؤذن إلا متوضئ» ، وروي مرفوعاً، أخرجه الترمذي. ويستحب أن يؤذن مستقبل القبلة، ويلتفت يميناً إذا قال: حي على الصلاة، ويساراً إذا قال: حي على الفلاح، ولا يزيل قدميه، ويجعل إصبعيه في أذنيه، لما روى أبو جحيفة قال: «أتيت النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وهو في قبة حمراء من أدم، وأذن بلال، فجعلت أتتبع فاه ههنا وههنا، يقول يميناً وشمالاً: حي على الصلاة، حي على الفلاح» . متفق عليه. وفي لفظ: «ولم يستدر وأصبعاه في أذنيه» ، رواه الترمذي.
ويستحب أن يترسل في الأذان ويحدر الإقامة، لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «يا بلال إذا أذنت فترسل، وإذا أقمت فاحدر» رواه أبو داود. ولأن الأذان إعلام الغائبين والترسل فيه أبلغ في الإسماع، والإقامة إعلام الحاضرين، فلم يحتج إلى الترسل

(1/211)


فيه، ويكره التمطيط والتلحين لما تقدم.

فصل:
ولا يصح الأذان إلا مرتباً متوالياً، لأنه لا يعلم أنه أذان بدونهما، فإن سكت فيه سكوتاً طويلاً أعاد. ولا يصح أن يبني على أذان غيره، لأنه عبادة بدنية، فلم يبن فعله على فعل غيره، كالصلاة، فإن أغمي عليه، ثم أفاق قريباً بنى، وإن طال الفصل ابتدأ لتحصيل الموالاة. وإن ارتد في أثنائه بطل أذانه لقول الله تعالى: {لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ} [الزمر: 65] . ويكره الكلام فيه، فإن تكلم بكلام طويل ابتدأ، لإخلاله بالموالاة، وإن كان يسيراً بنى، لأن ذلك لا يبطل الخطبة، وهي آكد منه، إلا أن يكون كلاماً محرماً، ففيه وجهان:
أحدهما: لا يبطل، لأنه لا يخل بالمقصود.
والثاني: يبطل، لأنه فعل محرماً فيه.

(1/212)


فصل:
ويستحب أن يؤذن في أول الوقت ليعلم الناس بوقت الصلاة فيتهيؤوا لها، وقد روي أن «بلالا كان يؤذن في أول الوقت، وربما أخر الإقامة شيئاً» . رواه ابن ماجه.
ويؤخر الإقامة. لما روى جابر أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال لبلال: «اجعل بين أذانك وإقامتك قدر ما يفرغ الآكل من أكله، والشارب من شربه، والمعتصر إذا دخل لقضاء حاجته» رواه أبو داود. ولأن الإقامة لافتتاح الصلاة فينبغي أن تتأخر قدراً يتهيؤون فيه للصلاة. فإن كان للمغرب جلس جلسة خفيفة، لما روى أبو هريرة عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «جلوس المؤذن بين الأذان والإقامة في المغرب سنة» رواه تمام في الفوائد.
ويستحب أن يقيم في موضع أذانه إلا أن يشق عليه، لكونه قد أذن في مكان بعيد، «لقول بلال للنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: لا تسبقني بآمين» . لأنه لو أقام في موضع صلاته لم يخف سبقه بذلك.
ويستحب لمن أذن أن يقيم لما «روى زياد بن الحارث الصدائي أنه أذن فجاء بلال ليقيم، فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: إن أخا صداء أذن ومن أذن فهو يقيم» من المسند. وإن أقام غيره جاز لما روى أبو داود في حديث الأذان أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «ألقه على بلال فألقاه عليه فأذن بلال، فقال عبد الله: أنا رأيته، وأنا كنت أريده قال: فأقم أنت» .

فصل:
ولا يجوز أخذ الأجرة عليه، لما روي عن عثمان بن أبي العاص أنه قال: «إن آخر ما عهد إلي النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أن اتخذ مؤذناً لا يأخذ على الأذان أجراً» . قال الترمذي:

(1/213)


هذا حديث حسن. ولأنه قربة لفاعله، أشبه الإمامة، وإن لم يوجد من يتطوع به رزق الإمام من بيت المال من يقوم به، لأن الحاجة داعية إليه، فجاز أخذ الرزق عليه، كالجهاد. وإن وجد متطوعاً به لم يرزق
لأن المال للمصلحة فلا يعطى في غير مصلحة.

فصل:
ويستحب لمن سمع المؤذن أن يقول مثل ما يقول، لما روى أبو سعيد أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إذا سمعتم النداء فقولوا مثل ما يقول» متفق عليه.

(1/214)


ويقول عند الحيعلة: لا حول ولا قوة إلا بالله، لما روى عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذا قال المؤذن: الله أكبر الله أكبر، فقال أحدكم: الله أكبر الله أكبر، ثم قال: أشهد أن لا إله إلا الله، فقال: أشهد أن لا إله إلا الله، ثم قال: أشهد أن محمداً رسول الله، فقال: أشهد أن محمداً رسول الله، ثم قال: حي على الصلاة، فقال: لا حول ولا قوة إلا بالله، ثم قال: حي على الفلاح، قال: لا حول ولا قوة إلا بالله، ثم قال: الله أكبر، الله أكبر، قال: الله

(1/215)


أكبر، الله أكبر، ثم قال: لا إله إلا الله، قال: لا إله إلا الله، خالصاً من قلبه، دخل الجنة» رواه مسلم. قال الأثرم: هذا من الأحاديث الجياد.
فإن سمع الأذان في الصلاة لم يقل مثل قوله، لأن في الصلاة شغلاً، فإذا فرغ قال ذلك.
وإن كان في قراءة قطعها، وقال ذلك، لأن القراءة لا تفوت وهذا يفوت. وعن جابر أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من قال حين يسمع النداء:

(1/216)


اللهم رب هذه الدعوة التامة والصلاة القائمة، آت محمداً الوسيلة والفضيلة، وابعثه المقام المحمود

(1/217)


الذي وعدته، حلت له الشفاعة يوم القيامة» أخرجه البخاري. وروى [سعد] أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من قال حين يسمع النداء: وأنا أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، رضيت بالله رباً وبالإسلام ديناً وبمحمد رسولاً، غفر له ذنبه» رواه

(1/218)


مسلم. ويستحب الدعاء بين الأذان والإقامة، لما روي عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «الدعاء بين الأذان والإقامة لا يرد» حديث حسن.

[باب شرائط الصلاة]
وهي ستة:

(1/219)


الطهارة من الحدث، لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا يقبل الله صلاة بغير طهور» رواه مسلم.
والثاني: الطهارة من النجس، «لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لأسماء في دم الحيض: حتيه، ثم اقرصيه، ثم اغسليه، وصلي فيه» فدل على أنها ممنوعة من الصلاة فيه قبل غسله،

(1/220)


فمتى كانت عليه في بدنه أو ثيابه نجاسة مقدور على إزالتها غير معفو عنها، لم تصح صلاته.
وإن جبر عظمه بعظم نجس، فجبر، لم يلزمه قلعه إذا خاف الضرر وأجزأته صلاته، لأن ذلك يبيح ترك التطهر من الحدث، وهو آكد.
ويحتمل أن يلزمه قلعه إذا لم يخف التلف، لأنه لا يخاف التلف، أشبه إذا لم يخف الضرر.
وإن أكل نجاسة، لم يلزمه فيها، لأنها حصلت في معدته، فصارت كالمستحيل في المعدة.
وإن عجز عن إزالة النجاسة عن بدنه، أو خلع الثوب النجس، لكونه مربوطاً، أو نحو ذلك، صلى ولا إعادة عليه، لأنه شرط عجز عنه فسقط، كالسترة.
وإن لم يجد إلا ثوباً نجساً صلى فيه، لأن ستر العورة آكد لوجوبه في الصلاة وغيرها، وتعلق حق الآدمي به في ستر عورته، وصيانة نفسه.
والمنصوص أن يعيد، لأنه ترك شرطاً مقدوراً عليه.
ويتخرج أن لا يعيد، كما لو عجز عن خلعه، أو صلى في موضع نجس، لا يمكنه الخروج منه. وإن خفي عليه موضع النجاسة لم يزل حكمها حتى يغسل ما يتيقن به أن التطهر قد لحقها، لأنه تيقن النجاسة، فلا يزول إلا بيقين غسلها.

فإن صلى على منديل طرفه نجس على الطاهر منه صحت صلاته، فإن كان المنديل عليه، أو متعلقاً به، بحيث ينجر معه إذا مشى، لم تصح صلاته، لأنه حامل لها وإن كان في يده حبل مشدود في شيء نجس ينجر معه إذا مشى، لم تصح صلاته، لأنه كالحامل لها، وإن كان لا ينجر معه كالفيل والسفينة النجسة، لم تبطل صلاته، لأنه غير حامل لها، فأشبه ما لو كان مشدوداً في دار فيها حش.

(1/221)


وإن حمل في الصلاة حيواناً طاهراً لم تبطل صلاته، لأن «النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلى حاملاً أمامة بنت زينب ابنته» . متفق عليه. ولأن ما في الحيوان من النجاسة في معدته، فأشبه ما في جوف المصلي.
ولو حمل قارورة فيها نجاسة، لم تصح صلاته، لأنه حامل لنجاسة في غير معدتها، أشبه ما لو حملها في كمه.

فصل:
ويشترط طهارة موضع صلاته، لأنه يحتاج إليه في الصلاة، أشبه الثوب فإن كان بدنه أو ثوبه يقع على موضع نجس، لم تصح صلاته. وإن لاصقها على حائط، أو ثوب إنسان، فذكر ابن عقيل أن صلاته صحيحة، لأنه ليس بموضع لصلاته، ولا محمولاً فيها.

وإن سقطت عليه نجاسة يابسة فزالت، أو أزالها بسرعة، لم تبطل صلاته، لأنه زمن يسير، فعفي عنه، كاليسير في القدر وإن كانت النجاسة محاذية لبدنه في سجوده، لا تصيب بدنه، ولا ثوبه، صحت صلاته.

وإن بسط على الأرض النجسة ثوباً أو طينها، صحت صلاته عليها مع الكراهة، لأنه ليس بحامل للنجاسة، ولا مباشر لها.
وقيل: لا تصح لأن اعتماده على الأرض النجسة.

وإن خفيت النجاسة في موضع معين، حكمه حكم الثوب. وإن خفيت في صحراء صلى حيث شاء، لأنه لا يمكنه حفظها من النجاسة، ولا غسل جميعها.
فإن حبس في مكان نجس صلى ولا إعادة عليه، لأنه صلى على حسب حاله، أشبه المربوط إلى غير القبلة فإن كانت رطبة يخاف تعديها إليه أومأ بالسجود، وإن لم يخف سجد بالأرض.

فصل:
إذا رأى عليه نجاسة بعد الصلاة، وجوز حدوثها بعدها، لم تلزمه الإعادة لأن الأصل عدمها في الصلاة.

(1/222)


وإن علم أنها كانت عليه في الصلاة، ففيه روايتان:
إحداهما: يعيد، لأنها طهارة واجبة، فلم تسقط بالجهل، كالوضوء وقياساً على سائر الشرائط.
والثانية: لا يلزمه، لما روى أبو سعيد أن «النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خلع نعليه في الصلاة، فخلع الناس نعالهم، فقال: ما لكم خلعتم؟ فقالوا: رأيناك خلعت نعليك، فخلعنا نعالنا، فقال: أتاني جبريل - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، فأخبرني أن فيهما قذراً» رواه أبو داود. ولو بطلت لاستأنفها، فعلى هذا إن علم بها في الصلاة، فأمكنه إزالتها بغير عمل طويل، فعل كما فعل النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وإن علم بها قبل الصلاة ثم نسيها، فقال القاضي: يعيد، لأنه فرط في تركها. وقال أبو الخطاب: فيها روايتان، كالتي قبلها، لأن ما عذر فيه بالجهل عذر فيه بالنسيان، كواجبات الصلاة.

فصل:
ولا تصح الصلاة في خمسة مواضع:
المقبرة، حديثة كانت أو قديمة، والحمام داخله وخارجه، لما روى أبو سعيد أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «الأرض كلها مسجد إلا المقبرة والحمام» رواه أبو داود. وروى أبو مرثد أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا تجلسوا على القبور، ولا تصلوا إليها» رواه مسلم.

(1/223)


وأعطان الإبل، وهي التي تقيم فيها وتأوي إليها، لما روى جابر بن سمرة أن رجلاً قال: «يا رسول الله أنصلي في مرابض الغنم؟ قال: نعم، قال: أنصلي في مبارك الإبل؟ قال: لا.» رواه مسلم. ولأن هذه المواضع مظنة للنجاسة فأقيمت مقامها.
والحش، لأن النهي عن هذه المواضع تنبيه على النهي عنه، ولأن احتمال النجاسة فيه أكثر وأغلب.
والموضع المغصوب، لأن قيامه وقعوده ولبثه فيه محرم، منهي عنه، فلم يقع عبادة، كالصلاة في زمن الحيض.
وعنه: أن الصلاة في هذه المواضع تصح مع التحريم، لأن النهي لمعنى في غير الصلاة، أشبه المصلي وفي يده خاتم من ذهب، وعنه: إن علم النهي لم تصح صلاته، لارتكابه للنهي، وإن لم يعلم صحت. وضم بعض أصحابنا إلى هذه المواضع أربعة أخر، المجزرة، وهي موضع الذبح، والمزبلة، وقارعة الطريق، وظهر البيت الحرام، فجعل فيها الروايات الثلاث، لما روي عن عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «سبعة مواطن لا تجوز فيها الصلاة، المجزرة والمزبلة، والمقبرة ومعاطن الإبل، والحمام وقارعة الطريق، وفوق بيت الله العتيق» رواه ابن ماجه. وفيه ضعف، ولأن قارعة الطريق والمجزرة والمزبلة مظان للنجاسة، أشبهت

(1/224)


الحش والحمام، وفي الكعبة يكون مستدبراً لبعض القبلة. وإن صلى النافلة في الكعبة، أو على ظهرها وبين يديه شيء منها، صحت صلاته، لأن «النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلى في البيت ركعتين» . متفق عليه.
والصلاة إلى هذه المواضع صحيحة، لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «جعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً، فحيثما أدركتك الصلاة فصل» متفق عليه. إلا المقبرة فإن ابن حامد قال: لا تصح الصلاة إليها، لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا تصلوا إليها» وإن صلى في مسجد بني في المقبرة، فحكمه حكمها. وإن حدثت المقبرة حوله صحت الصلاة فيه، لأنه ليس بمقبرة.
وفي أسطحة هذه المواضع وجهان:
أحدهما: أن حكمها حكمها، لأنها تابعة لها.

(1/225)


والثاني: تصح، لأنه ليس بمظنة للنجاسة، ولا يتناوله النهي.

[باب ستر العورة]
وهو الشرط الثالث للصلاة، لما روت عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا يقبل الله صلاة حائض إلا بخمار» رواه أبو داود. وعورة الرجل ما بين سرته وركبتيه لما روى أبو أيوب الأنصاري قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أسفل السرة وفوق الركبتين من العورة» رواه أبو بكر بإسناده. وعن جرهد أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «غط فخذك فإن الفخذ من العورة» رواه أحمد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - في المسند، وليست السرة والركبة من العورة، لما ذكرنا.
وعنه: أنها الفرجان، لما روى أنس أن «النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يوم خيبر حسر الإزار عن فخذه حتى إني لأنظر إلى بياض فخذ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -» . رواه البخاري. وعورة الحر والعبد سواء، لعموم الأحاديث.

فصل:
والمرأة كلها عورة إلا الوجه، وفي الكفين روايتان: لقول الله تعالى:

(1/226)


{وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلا مَا ظَهَرَ مِنْهَا} [النور: 31]
قال ابن عباس: وجهها وكفيها، ولأنه يحرم ستر الوجه في الإحرام، وستر الكفين بالقفازين، ولو كانا عورة، لم يحرم سترهما.
والثانية: أن الكفين عورة لأن المشقة لا تلحق في سترهما فأشبها سائر بدنها، وما عدا هذا عورة؛ لقول رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا يقبل الله صلاة حائض إلا بخمار» وعن أم سلمة قالت: «يا رسول الله تصلي المرأة في درع وخمار وليس عليها إزار؟ فقال: نعم إذا كان سابغاً يغطي ظهور قدميها» رواه أبو داود.

فصل:
وما يظهر غالباً من الأمة، كالرأس واليدين إلى المرفقين والرجلين إلى الركبتين، ليس بعورة، لأن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - نهى الأمة عن التقنع والتشبه بالحرائر، قال القاضي في الجامع: وما عدا ذلك عورة، لأنه لا يظهر غالباً، أشبه ما تحت السرة.
وقال ابن حامد: عورتها كعورة الرجل، لما روى عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إذا زوج أحدكم أمته عبده أو أجيره فلا ينظر إلى شيء من عورته، فإن ما تحت السرة إلى الركبة عورة يريد عورة الأمة» ، رواه الدارقطني. ولأنه من لم يكن رأسه عورة لم يكن صدره عورة، كالرجل والمدبرة والمعلق عتقها بصفة كالقن، لأنهما مثلها في البيع وغيره. وأم الولد والمعتق بعضها كذلك، لأن الرق باق فيهما إلا أنه يستحب لهما التستر، لما فيهما من شبه الأحرار.
وعنه: أنها كالحرة لذلك.

وعورة الخنثى المشكل كعورة الرجل، لأن الأصل عدم وجوب الستر، فلا نوجبه بالشك، وإن قلنا: العورة الفرجان، لزمه ستر قبله وذكره، لأن أحدهما واجب الستر، ولا يتيقن ستره إلا بسترهما.

فصل:
وإن انكشف من العورة شيء يسير عفي عنه، لأن اليسير يشق التحرز منه. وإن كثر بطلت الصلاة به، لأن التحرز منه ممكن، وإن أطارت الريح ثوبه عن عورته، فأعاده بسرعة، لم تبطل صلاته، لأنه يسير فأشبه اليسير في العورة.

(1/227)


فصل:
ويجب ستر العورة بما يستر لون البشرة من الثياب أو الجلود أو غيرها، فإن وصف لون البشرة، لم يعتد به. لأنه ليس بساتر. ويجب أن يجعل على عاتقه شيئاً من اللباس في الصلاة المفروضة، لما روى أبو هريرة أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا يصلي الرجل في ثوب واحد ليس على عاتقه منه شيء» متفق عليه. فإن ترك عليه شيئاً من اللباس أجزأه وإن لم يسترها؛ استدلالاً بمفهوم الحديث. وقال القاضي: ستر المنكبين واجب في الفرض، وقيل: يجزئه وضع خيط، وظاهر الحديث يدل على ما ذكرناه.

فصل:
ويستحب للرجل أن يصلي في قميص ورداء أو إزار وسراويل، لما روى ابن عمر قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، أو قال: قال عمر: «إذا كان لأحدكم ثوبان فليصل فيهما» . رواه أبو داود. فإن اقتصر على ثوب واحد أجزأه؛ لأن «النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلى في ثوب واحد» . متفق عليه. والقميص أولى من الرداء، لأنه أعم في الستر، فإن كان واسع الجيب ترى منه عورته، لم يجزئه، لما روى سلمة بن الأكوع قال: قلت: «يا رسول الله إنا نصيد أفنصلي في القميص الواحد؟ قال: نعم وازرره ولو بشوكة» حديث حسن. فإن كان ذا لحية تسد جيبه فلا ترى عورته جاز. وإن صلى في رداء، وكان واسعاً، التحف به. وإن كان

(1/228)


ضيقاً خالف بين طرفيه على منكبيه، كالقصار، لما روى عمر بن أبي سلمة قال: «رأيت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يصلي في ثوب واحد، قد ألقى طرفيه على عاتقيه» . متفق عليه. وإن لم يجد ما يستر عورته أو منكبيه، ستر عورته، لما روى جابر أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إذا كان الثوب واسعاً، فالتحف به، وإن كان ضيقاً فاتزر به» رواه البخاري.

ويستحب للمرأة أن تصلي في درع وخمار وجلباب تلتحف به، لما روي عن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه قال: تصلي المرأة في ثلاثة أثواب: درع وخمار وإزار. وإن صلت في درع وخمار يستر جميع بدنها أجزأ، لما روينا من حديث أم سلمة وقد روي عن أم سلمة وميمونة أنهما كانا يصليان في درع وخمار، ليس عليهما أزار. رواه مالك.

فصل:
فإن عدم السترة، وأمكنه الاستتار بحشيش بربطه عليه، أو ورق، لزمه، لأنه ساتر للبشرة، أشبه الثياب. وإن وجد طيناً لم يلزمه أن يطين عورته، لأنه يلوثه ولا يغيب الخلقة. وإن وجد بارية تؤذي جسمه، ويدخل القصب فيه، لم يلزمه لبسها، لما فيه من الضرر. وإن وجد ماء لم يلزمه النزول فيه، وإن كان كدر، لأنه ليس يستره، ويمنعه التمكن من الصلاة.

فصل:
فإن لم يجد إلا ما يستر بعض العورة ستر الفرجين، لأنهما أغلظ، وإن لم يكف إلا أحدها ستر الدبر في أحد الوجهين لأنه أفحش، وفي الآخر القبل، لأنه به يستقبل القبلة، والدبر يستتر بالأليتين، وأيهما ستر أجزأه.

فصل:
فإن عدم بكل حال صلى عرياناً جالساً يومئ بالسجود، لأنه يحصل به ستر أغلظ العورة , وهو آكد لما ذكرناه، وعنه يصلي قائماً ويركع ويسجد لأن المحافظة على ثلاثة أركان أولى من المحافظة على بعض شرط. يصلي العراة جماعة صفاً واحداً لئلا يرى

(1/229)


بعضهم عورات بعض، ويقوم إمامهم في وسطهم ليكون أستر له، فإن لم يسعهم صف واحد صلوا صفين وغضوا أبصارهم، فإن كان فيهم نساء صلى كل نوع لأنفسهم، فإن ضاق المكان صلى الرجال واستدبرهم النساء ثم صلى النساء واستدبرهن الرجال.

فصل:
وإن وجد السترة بعد الصلاة لم يعد لأنه شرط للصلاة عجز عنه، أشبه القبلة، وإن وجدها في أثناء الصلاة قريبة، ستر وبنى، لأنه عمل قليل، وإن كانت بعيدة بطلت صلاته لأنه يفتقر إلى عمل كثير. وإن عتقت الأمة في الصلاة وهي مكشوفة الرأس فكذلك، فإن لم تعلم حتى صلت أعادت، كما لو بدت عورتها ولم تعلم بها.

فصل:
إذا كان معهم ثوب لأحدهم لزمته الصلاة فيه، فإن آثر غيره وصلى عرياناً لم تصح لأنه قادر على السترة، فإذا صلى استحب أن يعيره لرفقته، فإن لم يفعل لم يغصب لأن صلاتهم تصح بدونه. وإن أعاره لواحد لزمه قبوله وصار بمنزلته لأن المنة لا تلحق به، ولو وهبه له لم يلزمه قبوله، لأن فيه منة، فإن أعاره لجميعهم صلى فيه واحد بعد واحد إلا أن يخاف ضيق الوقت، فيصلي فيه واحد والباقون عراة. ويستحب أن يعيره لمن يصلح لإمامتهم حتى يؤمهم، ويقوم بين أيديهم فإن أعاره لغيره، جاز.
قال القاضي: ويصلي وحده، لأنه قادر على شرط الصلاة، فلم يجز أن يأتم بالعاجز عنه، كالمعافى يأتم بمن به سلس البول.

فصل:
ويحرم لبس الثوب المغصوب، لأنه لا يحل مال امرئ مسلم إلا عن طيب نفس منه، فإن لم يجد غيره، صلى وتركه، ويحرم على الرجال استعمال ثياب الحرير، في لبسها وافتراشها، وكذلك المنسوج بالذهب، والمموه به، لما روى أبو موسى أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «حرم لباس الحرير والذهب على ذكور أمتي، وأحل لإناثهم» . قال الترمذي: هذا حديث صحيح. وإن صلى في ذلك، ففيه روايتان. مضى توجيههما في المواضع المنهي عنها.

(1/230)


وإن صلى في عمامة محرمة، أو خاتم ذهب، صحت صلاته، لأن النهي لا يعود إلى شرط الصلاة.
ولا بأس في صلاة المرأة في الحرير والذهب، لحله لها. ولا بأس بلبس الرجل الخز، لأن الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - لبسوه. ومن لم يجد إلا ثوب حرير، صلى فيه، ولا يعيد، لأنه مباح له في تلك الحال، ويباح علم الحرير في الثوب إذا كان أربع أصابع فما دون لما روى عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، قال: «نهى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن الحرير إلا موضع إصبعين، أو ثلاث أو أربع» . حديث صحيح.
وقال أبو بكر: يباح وإن كان مذهباً، وكذلك الرقاع، ولبنة الجيب، وسجف الفراء، وما نسج من الحرير وغيره، جاز لبسه إذا قل الحرير عن النصف، لما روي عن ابن عباس أنه قال: «إنما نهى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن الثوب المصمت، أما العلم وسدى الثوب، فليس به بأس» . رواه أبو داود. وإن زاد على النصف حرم لأن الحكم للأغلب، وإن استويا ففيه وجهان:
أحدهما: إباحته للخبر.
والثاني: تحريمه، لعموم خبر التحريم.
ويباح لبس الحرير للقمل والحكة، لأن أنساً روى أن «عبد الرحمن بن عوف، والزبير بن العوام شكوا القمل إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فرخص لهما في قميص الحرير» . متفق عليه.
وعنه: لا يباح، لعموم التحريم، واحتمال اختصاصهم بذلك. وهل يباح لبسه في الحرب، فيه روايتان:
إحداهما: لا يجوز لعموم الخبر.
والثانية: يجوز، لأن المنع منه للخيلاء، وهي غير مذمومة في الحرب، وكان لعروة يلمق من ديباج، بطانته من سندس، يلبسه في الحرب.

(1/231)


وليس لولي الصبي أن يلبسه الحرير، لأنه ذكر فيدخل في عموم الخبر.
وعنه: يباح، لأن الصبي غير مكلف، فأشبه ما لو ألبسه الدابة.

فصل:
ويكره للرجل لبس المزعفر والمعصفر. لما روي أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «نهى أن يتزعفر الرجل» . متفق عليه. وعن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: «نهاني النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن لباس المعصفر» . رواه مسلم. ولا بأس بذلك للنساء. فأما ما عليه صور الحيوان فقال أبو الخطاب: يحرم لبسه، لأن أبا طلحة قال: سمعت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: «لا تدخل الملائكة بيتاً فيه كلب، ولا صورة» . وقال ابن عقيل: يكره وليس بمحرم، لأن في سياق الحديث: «إلا رقم في ثوب» متفق عليه.

فصل:
ويكره اشتمال الصماء، لما روى أبو سعيد عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه «نهى عن اشتمال

(1/232)


الصماء» . رواه البخاري. ومعنى الصماء: أن يجعل الرداء تحت كتفه الأيمن، ويرد طرفيه على الأيسر، فيبقى منكبه الأيمن مكشوفاً.
وعنه: إنما نهي عنه إذا لم يكن عليه إزار فيبدو فرجه، أما إذا كان عليه إزار فتلك لبسة المحرم، لا بأس بها.
ويكره إسبال القميص والإزار والسراويل اختيالاً، لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من جر ثوبه خيلاء لم ينظر الله إليه» متفق عليه.
ويكره تغطية الفم في الصلاة، لما روى أبو هريرة أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «نهى عن السدل في الصلاة، وأن يغطي الرجل فاه» . رواه أبو داود.
ويكره شد الوسط بما يشبه شد الزنار، لما فيه من التشبه بالنصارى، فأما شده بغير ذلك، فلا بأس به. ويكره لف الكم، لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «أمرت أن أسجد على سبعة أعظم ولا أكف شعراً ولا ثوباً» متفق عليه.

[باب استقبال القبلة]
وهو الشرط الرابع للصلاة، لقول الله تعالى: {فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ} [البقرة: 144] . والناس في القبلة على ضربين:
منهم من يلزمه إصابة العين، وهو المعاين للكعبة.
أو من بمكة أو قريباً منها من وراء حائل، فمتى علم أنه مستقبل الكعبة عمل بعلمه، وإن لم يعلم كالأعمى، والغريب بمكة، أجزأه الخبر عن يقين، أو مشاهدة أنه مصل إلى عين الكعبة.

(1/233)


الثاني: من فرضه إصابة جهة الكعبة، وهو البعيد عنها فلا يلزمه إصابة العين، لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ما بين المشرق والمغرب قبلة» . قال الترمذي: هذا حديث صحيح. ولأن الإجماع انعقد على صحة صلاة الاثنين المتباعدين، يستقبلان قبلة واحدة، ولا يمكن أن يصيب العين إلا أحدهما، وهذا ينقسم ثلاثة أقسام:
أحدها: الحاضر في قرية أو من يجد من يخبره عن يقين، ففرضه التوجه إلى محاريبهم أو الرجوع إلى خبرهم، لأن هذا بمنزلة النص، فلا يجوز الرجوع إلى الاجتهاد معه، كالحاكم إذا وجد النص.
الثاني: من عدم ذلك، وهو عارف بأدلة القبلة، ففرضه الاجتهاد، لأن له طريقاً إلى معرفتها بالاجتهاد، فلزمه ذلك، كالعالم في الحادثة.
الثالث: من عجز عن ذلك، لعدم بصره أو بصيرته، أو لرمد أو حبس، ففرضه تقليد المجتهد، لأنه عجز عن معرفة الصواب باجتهاده، فلزمه التقليد، كالعامي في الأحكام، وإن أمكنه تعرف الأدلة، والاستدلال بها قبل خروج الوقت، لزمه ذلك، لأنه قدر على التوجه باجتهاد نفسه، فلم يجز له تقليد غيره كالعالم، فإن اختلف مجتهدان قلد العامي أوثقهما عنده، فإن قلد الآخر احتمل أن يجوز، لأنه دليل مع عدم غيره، فكذلك مع وجوده، واحتمل أن لا يجوز، لأنه عمل بما يغلب على ظنه خطؤه، فأشبه المجتهد إذا خالف جهة ظنه، فإن استويا عنده، قلد من شاء منهما كالعامي في الأحكام.

فصل:
ومن ترك فرضه في الاستقبال وصلى، لم تصح صلاته، وإن أصاب؛ لأنه تارك لفرضه، فأشبه ما لو أخطأ، وإن أتى بفرضه فبان أنه أخطأ، وكان في الحضر، أعاد، لأن ذلك لا يكون إلا لتفريط، وإن كان مسافراً لم يعده، لأنه أتى بما أمر من غير تفريط، فلم تلزمه إعادة، كما لو أصاب. وإن بان له الخطأ في الصلاة، استقبل جهة القبلة، وبنى على صلاته، لأن «أهل قباء بلغهم تحويل القبلة، وهم في الصلاة، فاستداروا إليها، وأتموا صلاتهم» . متفق عليه. وإن اختلف اجتهاد رجلين، لم يجز لأحدهما

(1/234)


الائتمام بصاحبه، لأنه يعتقد خطأه، وإن اتفق اجتهادهما فصليا جميعاً، فبان الخطأ لأحدهما، استدار وحده، ونوى كل واحد منهما مفارقة صاحبه، فإن كان معهما مقلد تبع الذي قلده منهما، فدار بدورانه، وأقام بإقامته، وإن قلدهما جميعاً لم يدر إلا بدورانهما لأنه دخل في الصلاة بظاهر، فلا يزول إلا بمثله. وإن تغير اجتهاده في الصلاة رجع إليه كما لو بان له الخطأ، نص عليه لأنه مجتهد أداه اجتهاده إلى جهة، فلم يجز له تركها. وقال ابن أبي موسى: لا يرجع ويبني على الأول كيلا ينقض اجتهاده باجتهاده، والأول أولى. وإن شك في الصلاة مضى على ما هو عليه لأنه دخل فيها بظاهر فلا يزول عنه بالشك. وإن تبين له الخطأ، ولم يعلم جهة القبلة، فسدت صلاته، لأنه لا يمكن إتمامها إلى جهة يعلم الخطأ فيها، ولا التوجه إلى جهة أخرى بغير دليل، وإن صلى بالاجتهاد، ثم أراد صلاة أخرى لزمه الاجتهاد لها، كالحاكم إذا اجتهد في حادثة، ثم حدثت مرة أخرى.

فصل:
فإن خفيت الأدلة على المجتهد بغيم أو غيره، صلى على حسب حاله، ولا إعادة عليه، لما روى عبد الله بن عامر بن ربيعة، عن أبيه قال: «كنا مع النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في سفر في ليلة مظلمة، فلم ندر أين القبلة، فصلى كل رجل حياله، فلما أصبحنا ذكرنا ذلك للنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فنزل قَوْله تَعَالَى: {فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ} [البقرة: 115] » رواه ابن ماجة والترمذي. ولأنه أتى بما أمر به فأشبه المجتهد مع ظهور الأدلة. وإن لم يجد المقلد من يقلده صلى، وفي الإعادة روايتان:
إحداهما: لا يعيد، لما ذكرنا.
والثاني: يعيد، لأنه صلى بغير دليل.
وقال ابن حامد: إن أخطأ أعاد وإلا ففيها وجهان.
ويجوز للأعمى الاستدلال باللمس، فإذا لمس المحراب جاز له استقباله لأنه يحصل بذلك العلم، فأشبه البصير، فإن شرع في الصلاة بخبر غيره، فأبصر في أثنائها وهو ممن فرضه الخبر، بنى على صلاته، لأن فرضه لم يتغير، وإن كان فرضه الاجتهاد فشاهد ما يدل على القبلة من شمس أو محراب أو نحوه، أتم صلاته، وإن لم يشاهد

(1/235)


شيئاً وكان قلد مجتهداً فسدت صلاته لأن فرضه الاجتهاد، فلا تجوز صلاته باجتهاد غيره.

فصل:
ولا يقبل خبر كافر ولا فاسق ولا صبي ولا مجنون، لما تقدم، ويقبل خبر من سواهم من الرجال والنساء والعبيد والأحرار، لأنه خبر من أخبار الديانة فأشبه الرواية، وإن رأى محاريب لا يعلم أهي للمسلمين أم لغيرهم؟ لم يلتفت إليها لأنه لا دلالة له فيها.

فصل:
والمجتهد في القبلة العالم بأدلتها وإن كان عامياً، ومن لا يعرفها، فهو مقلد وإن كان فقيهاً، فإن من علم دليل شيء كان مجتهداً فيه، وأوثق أدلتها النجوم، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ} [النحل: 16] ، وآكدها القطب، وهو نجم خفي حوله أنجم دائرة كفراشة الرحى إحدى طرفيها الفرقدان. وفي طرفها الآخر الجدي، وبين ذلك أنجم صغار ثلاثة من فوق وثلاثة من أسفل، تدور هذه الفراشة حول القطب دوران الرحى حول قطبها في كل يوم وليلة دورة، وحول الفراشة بنات نعش مما يلي الفرقدين، وهي سبعة أنجم متفرقة مضيئة، والقطب في وسط الفراشة لا يبرح مكانه، إذا جعله إنسان وراء ظهره في الشام، كان مستقبلاً للكعبة، وإن استدبر الفرقدين أو الجدي كان مستقبلاً للجهة، وكذلك بنات نعش، إلا أن انحرافه يكون أكثر، والشمس والقمر ومنازلهما، وهي ثمانية وعشرون منزلاً تطلع كلها من المشرق، وتغرب من المغرب، يكون في طلوعها على ميسرة المصلي، وفي غروبها عن يمينه.

ويستدل من الرياح بأربع تهب من زوايا السماء، الدبور تهب مما بين المغرب والقبلة، مستقبلة شطر وجه المصلي الأيمن، والصبا مقابلتها تهب من ظهره إلى كتفه اليسرى مارة إلى مهب الدبور، والجنوب تهب مما بين المشرق والقبلة مارة إلى الزاوية المقابلة لها، والشمال تهب من مقابلتها مارة إلى مهب الجنوب.

فصل:
ويسقط الاستقبال في ثلاثة مواضع:

(1/236)


أحدها: عند العجز لكونه مربوطاً إلى غير القبلة، يصلي على حسب حاله، لأنه فرض عجز عنه أشبه القيام.
والثاني: في شدة الخوف مثل حال التحام الحرب، والهرب المباح من عدو أو سيل أو سبع لا يمكنه التخلص منه إلا بالهرب، فيجوز له ترك القبلة، ويصلي حيث أمكنه راجلاً وراكباً، لقول الله تعالى: {فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالا أَوْ رُكْبَانًا} [البقرة: 239] . قال ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مستقبلي القبلة وغير مستقبليها» رواه البخاري.
ولأنه عاجز عن الاستقبال، فأشبه المربوط، فإن كان طالباً للعدو يخاف فوته، ففيه روايتان:
إحداهما: يجوز له صلاة الخائف كالمطلوب، لأن عبد الله بن أنيس قال: «بعثني النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلى سفيان بن خالد الهذلي لأقتله، فانطلقت أمشي فحضرت العصر، وأنا أصلي أومئ إيماء نحوه» . رواه أبو داود، وظاهره أنه أخبر بذلك النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فلم ينكره. وقال الأوزاعي: قال شرحبيل بن حسنة: لا تصلوا الصبح إلا على ظهر، فنزل الأشتر فصلى على الأرض، فمر به شرحبيل، فقال: مخالف خالف الله به، فخرج الأشتر في الفتنة. ولأنها إحدى حالتي الخوف، فأشبهت حالة المطلوب.
والثانية: لا يجوز، لأنه آمن.
الثالث: النافلة في السفر، فإن كان راكباً، فله الصلاة على دابته، لما روى ابن عمر أن «رسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يسبح على ظهر راحلته حيث كان وجهه، يومئ برأسه، وكان يوتر على بعيره» . متفق عليه. وكان يصلي على حماره، ولا فرق بين السفر الطويل والقصير، لأن ذلك تخفيف في التطوع كيلا يؤدي إلى قطعه وتقليله، فيستوي فيه الطويل والقصير، فإن أمكنه الاستقبال والركوع والسجود، كالذي في العمارية، لزمه ذلك، لأنه كراكب السفينة، ويحتمل أن لا يلزمه، لأن الرخصة العامة يستوي فيها ذو الحاجة وغيره. وإن شق عليه، صلى حيث كان وجهه يومئ بالركوع والسجود، ويجعل سجوده أخفض من ركوعه، وإن شق عليه استقبال القبلة في تكبيرة الإحرام كراكب

(1/237)


الجمل المقطور لا يمكنه إدارته، لم يلزمه. وإن كان سهلاً ففيه وجهان:
أحدهما: يلزمه ذلك، اختاره الخرقي، لأنه أمكنه الاستقبال في ابتداء الصلاة، فلزمه كالماشي.
والثاني: لا يلزمه، اختاره أبو بكر، لأنه جزء من الصلاة، فأشبه سائرها، فإن عدلت به البهيمة عن جهة مقصده إلى جهة القبلة، جاز لأنها الأصل، وإن عدلت إلى غيرها، وهو عالم بذلك مختار له، بطلت صلاته، لأنه ترك قبلته لغير عذر. وإن ظنها طريقه أو غلبته الدابة، لم تبطل.
فأما الماشي ففيه روايتان:
إحداهما: له الصلاة حيث توجه لأنها إحدى حالتي سير المسافر، فأشبه الراكب، لكنه يلزمه الركوع والسجود على الأرض، مستقبلاً لإمكان ذلك.
والثانية: لا يجوز، وهو ظاهر قول الخرقي، لأن الرخصة وردت في الراكب، والماشي يخالفه، لأنه يأتي في الصلاة يمشي وذلك عمل كثير، فإن دخل المسافر في طريقه بلداً جاز أن يصلي فيه، وإن كان في البلد الذي يقصده، أتم صلاته ولم يبتدئ فيه صلاة.

[باب اشتراط دخول الوقت لصحة الصلاة]
باب في الشرط الخامس: وهو الوقت وقد ذكرنا أوقات المكتوبات، ولا تصح الصلاة قبل وقتها بغير خلاف، فإن أحرم بها فبان أنه لم يدخل وقتها، انقلبت نفلاً، لأنه لما بطلت نية الفريضة، بقيت نية الصلاة. ووقت سنة كل صلاة مكتوبة متقدمة عليها من دخول وقتها إلى فعلها، ووقت التي بعدها من فعلها إلى آخر وقتها، فأما النوافل المطلقة، فجميع الزمان وقت لها إلا خمسة أوقات، بعد الفجر حتى تطلع الشمس، وبعد طلوعها حتى ترتفع قيد رمح، وعند قيامها حتى تنزل، وبعد العصر حتى تتضيف الشمس للغروب، وإذا تضيفت حتى تغرب، فلا يجوز التطوع في هذه الأوقات بصلاة لا سبب لها، لقول رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا صلاة بعد العصر حتى تغرب الشمس، ولا صلاة بعد الصبح حتى تطلع الشمس» متفق عليه. وروى عقبة بن عامر قال: «ثلاث ساعات، كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ينهانا أن نصلي

(1/238)


فيهن، أو أن نقبر فيهن موتانا: حين تطلع الشمس بازغة حتى ترتفع، وحين يقوم قائم الظهيرة حتى تزول، وحين تضيف الشمس للغروب» . رواه مسلم. والنهي عما بعد العصر يتعلق بالفعل، فلو لم يصل فله التنفل، وإن صلى غيره، لأن لفظ العصر بإطلاقه ينصرف إلى الصلاة. وعن أحمد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فيما بعد الصبح مثل ذلك، لأنها إحدى الصلاتين، فكان النهي متعلقاً بفعلها، كالعصر. والمشهور في المذهب أنه متعلق بالوقت، لما روى ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «ليبلغ الشاهد الغائب أن لا تصلوا بعد الفجر إلا سجدتين» . رواه أبو داود. وسواء في هذا مكة، ويوم الجمعة وغيرهما، لعموم النهي في الجميع.

فصل:
ويجوز قضاء المكتوبات في كل وقت، لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من نام عن صلاة أو نسيها فليصلها إذا ذكرها» متفق عليه. وقوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «من أدرك سجدة من صلاة الصبح قبل أن تطلع الشمس فليتم صلاته» ويجوز في وقتين منهما، وهما بعد الفجر، وبعد العصر، الصلاة على الجنازة، لأنهما وقتان طويلان، فالانتظار فيهما يضر بالميت، وركعتا الطواف بعده، لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «يا بني عبد مناف لا تمنعوا أحداً طاف بهذا البيت، وصلى في أي ساعة شاء من ليل أو نهار» رواه الشافعي والأثرم. وإعادة الجماعة لما روى يزيد بن الأسود أنه قال: «صليت مع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلاة الفجر، فلما قضى صلاته إذا هو برجلين لم يصليا معه، فقال: ما منعكما أن تصليا معنا؟ قالا: يا رسول الله قد صلينا في رحالنا، قال: لا تفعلا، إذا صليتما في رحلكما ثم أتيتما مسجد جماعة، فصليا معهم فإنها لكم نافلة» رواه الأثرم.
فأما فعل هذه الصلوات الثلاث في الأوقات الثلاثة الباقية، ففيها روايتان:
إحداهما: يجوز لعموم الأدلة المجوزة، ولأنها صلاة جازت في بعض أوقات

(1/239)


النهي، فجازت في جميعها، كالقضاء.
والثانية: لا يجوز، لقول عقبة في حديثه: «كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ينهانا أن نصلي فيهن، وأن نقبر فيهن موتانا» .
وذكر الصلاة مع الدفن ظاهر في الصلاة على الميت، ولأن النهي في هذه الأوقات آكد لتخصيصهن بالنهي في أحاديث، ولأنها أوقات خفيفة، لا يخاف على الميت فيها، ولا يشق تأخير الركوع للطواف فيها بخلاف غيرها.

فصل:
ومتى أعاد المغرب شفعها برابعة نص عليه، لأنها نافلة، ولا يشرع التنفل بوتر في غير الوتر، ومتى أقيمت الصلاة في وقت نهي، وهو خارج من المسجد، لم يستحب له الدخول، فإن دخل صلى معهم، لما روي عن ابن عمر أنه خرج من دار عبد الله بن خالد حتى إذا نظر إلى باب المسجد إذا الناس في الصلاة فلم يزل واقفاً حتى صلى الناس، وقال: إني قد صليت في البيت.

فصل:
فأما سائر الصلوات ذوات الأسباب، كتحية المسجد، وصلاة الكسوف، وسجود التلاوة، وقضاء السنن، ففيها روايتان:
إحداهما: المنع لعموم النهي، ولأنها نافلة، فأشبهت ما لا سبب له.
والثانية: يجوز فعلها، لما روت أم سلمة، قالت: «دخل علي رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ذات يوم بعد العصر، فصلى ركعتين، فقلت: يا رسول الله صليت صلاة لم أكن أراك تصليها، فقال: إني كنت أصلي ركعتين بعد الظهر، وإنما قدم وفد بني تميم، فشغلوني عنهما، فهما هاتان الركعتان» رواه مسلم. وعن قيس بن عمر قال: «رأى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رجلاً يصلي بعد الصبح ركعتين، فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أصلاة الصبح مرتين؟ فقال له الرجل: إني لم أكن صليت ركعتين قبلها، فصليتهما الآن، فسكت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -» .

(1/240)


رواه أبو داود. ولأنها صلاة ذات سبب، فأشبهت ركعتي الطواف، والمنصوص عن أحمد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - في الوتر أنه يفعله قبل الفجر، لقول رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: إن «الله زادكم صلاة فصلوها ما بين العشاء إلى صلاة الصبح» رواه الأثرم. وقال في ركعتي الفجر: إن صلاهما بعد الفجر أجزأه. قال أحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ -: وأما أنا فأختار تأخيرهما إلى الضحى، لما روى الترمذي عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من لم يصل ركعتي الفجر فليصلهما بعدما تطلع الشمس» .

[باب النية في الصلاة]
باب النية
وهي الشرط السادس، فلا تصح الصلاة إلا بها بغير خلاف، لقول رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إنما الأعمال بالنيات» ولأنها عبادة محضة، فلم تصح بغير نية، كالصوم. ومحل النية: القلب، فإذا نوى بقلبه أجزأه، وإن لم يلفظ بلسانه. وإن نوى صلاة فسبق لسانه إلى غيرها، لم تفسد صلاته.
والأفضل النية مع تكبيرة الإحرام، لأنها أول الصلاة لتكون النية مقارنة للعبادة، ويستحب استصحاب ذكرها في سائر الصلوات، لأنها أبلغ في الإخلاص، وإن تقدمت النية التكبير بزمن يسير، جاز ما لم يفسخها، لأن أولها من أجزائها، فكفى استصحاب النية فيها كسائر أجزائها. وإن كانت فرضاً لزمه أن ينوي الصلاة بعينها، ظهراً أو عصراً لتتميز عن غيرها. قال ابن حامد: ويلزمه أن ينوي فرضاً، لتتميز عن ظهر الصبي، والمعادة. وقال غيره: لا يلزمه لأن ظهر هذا لا يكون إلا فرضاً، وينوي الأداء في الحاضرة والقضاء في الفائتة، وفي وجوب ذلك وجهان:
أولاهما: أنه لا يجب لأنه لا يختلف المذهب في من صلى في الغيم بالاجتهاد، فبان بعد الوقت أن صلاته صحيحة، وقد نواها أداء، فإن كانت سنة معينة كالوتر ونحوه، لزم تعيينها أيضاً، وإن كانت نافلة مطلقة أجزأته نية الصلاة. ومتى شك في أثناء الصلاة هل نواها أم لا؟ لزمه استئنافها، لأن الأصل عدمها، فإن ذكر أنه نوى قبل أن يحدث شيئاً من أفعال الصلاة أجزأه. وإن فعل شيئا قبل ذكره بطلت صلاته، لأنه فعله شاكاً في صلاته. وإن نوى الخروج من الصلاة بطلت؛ لأن النية شرط في جميع الصلاة وقد قطعها. وإن تردد في قطعها فعلى وجهين:

(1/241)


أحدهما: تبطل لما ذكرنا.
والثاني: لا تبطل، لأنه دخل فيها بنية متيقنة، فلا يخرج منها بالشك.
وإذا نوى في صلاة الظهر ثم قلبها عصراً فسدتا جميعاً، لأنه قطع نية الظهر ولم تصح العصر، لأنه ما نواها عند الإحرام. وإن قلبها نفلاً لعذر، مثل أن يحرم بها منفرداً، فتحضر جماعة فيجعلها نفلاً ليصلي فرضه في الجماعة، صح لأن نية النفل تتضمنها نية الفرض. وإن فعل ذلك لغير غرض كره، وصح قلبها لما ذكرنا، ويحتمل أن لا يصح لما ذكرنا في الظهر والعصر.

[باب صفة الصلاة]
وأركانها خمسة عشر:
القيام وهو واجب في الفرض، لقول الله تعالى: {وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} [البقرة: 238] . وقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لعمران بن حصين: «صل قائماً، فإن لم تستطع فقاعداً، فإن لم تستطع فعلى جنب» رواه البخاري.
فإن كبر للإحرام قاعداً، أو في حال نهوضه إلى القيام، لم يعتد به، لأنه أتى به في غير محله.
ويستحب القيام للمكتوبة عند قول المؤذن: قد قامت الصلاة، لأنه دعاء إلى القيام، فاستحب المبادرة إليه.
ويستحب للإمام تسوية الصفوف، لما روى أنس بن مالك قال: «إن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان إذا قام إلى الصلاة أخذ بيمينه - يعني عوداً في المحراب - ثم فقال التفت وقال: اعتدلوا سووا صفوفكم، ثم أخذ بيساره، وقال: اعتدلوا سووا صفوفكم» رواه أبو داود.

فصل:
ثم يكبر للإحرام، وهو الركن الثاني، لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال للمسيء في صلاته: «إذا

(1/242)


قمت إلى الصلاة فكبر» وقال: «مفتاح الصلاة الطهور، وتحريمها التكبير، وتحليلها التسليم» رواه أبو داود. وقال: «لا يقبل الله صلاة امرئ حتى يضع الوضوء مواضعه، ثم يستقبل القبلة، ويقول: الله أكبر» ولا يجزئه غيره من الذكر، ولا قول: الله أكبر، ولا التكبير بغير العربية، لما ذكرنا، فإن لم يحسن العربية، لزمه التعلم. فإن خشي خروج الوقت، ففيه وجهان:
أحدهما: يكبر بلغته، لأنه عجز عن اللفظ، فلزمه الإتيان بمعناه، كلفظة النكاح.
والثاني: لا يكبر بغير العربية، لأنه ذكر تنعقد به الصلاة، فلم يجز التعبير عنه بغير العربية، كالقراءة، فعلى هذا يكون حكمه حكم الأخرس، فإن عجز عن بعض اللفظ، أو عن بعض الحروف، أتى بما يمكنه، وإن كان أخرس، فعليه تحريك لسانه، لأن ذلك كان يلزمه مع النطق، فإذا عجز عن أحدهما بقي الآخر. ذكره القاضي. ويقوى عندي أن لا يلزمه تحريك لسانه، لأن ذلك إنما وجب على الناطق ضرورة القراءة، وإذا سقطت سقط ما هو من ضرورتها، كالجاهل الذي لا يحسن شيئاً من الذكر، ولأن تحريك لسانه بغير القراءة عبث مجرد، فلا يرد الشرع به، ويبين التكبير، ولا يمططه، فإن مططه تمطيطاً يغير المعنى، مثل أن يمد الهمزة في اسم الله تعالى، فيجعله استفهاماً، أو يمد أكبار، فيزيد ألفاً فيصير جمع كبير. وهو الطبل، لم تجزه، ويجهر بالتكبير إن كان إماماً بقدر ما يسمع من خلفه، وإن لم يكن إماماً بقدر ما يسمع نفسه كالقراءة.

فصل:
ويستحب أن يرفع يده، ممدودة الأصابع، مضموماً بعضها إلى بعض حتى يحاذي بهما منكبيه، أو فروع أذنيه لما روى ابن عمر أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «كان إذا افتتح الصلاة رفع يديه حذو منكبيه، وإذا ركع، وإذا رفع رأسه من الركوع رفعهما كذلك، ولا يفعل ذلك في السجود» . متفق عليه. ويكون ابتداء الرفع مع ابتداء التكبير، وانتهاؤه مع انتهائه، لأن الرفع للتكبير، فيكون معه فإن سبق رفعه التكبير، أثبتهما حتى يكبر، ولا يحطهما في حال التكبير. وإن لم يرفع حتى فرغ التكبير، لم يرفع لأنه سنة فات

(1/243)


محلها. وإن ذكر في الثانية، رفع لأن محله باق، وإن عجز عن الرفع إلى حذو المنكبين، رفع قدر ما يمكنه، وإن عجز عن رفع إحدى اليدين رفع الأخرى، لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم» .

فصل:
فإذا فرغ استحب وضع يمينه على شماله، لما روى هلب، قال، «كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يؤمنا فيأخذ شماله بيمينه» . قال الترمذي: هذا حديث حسن. ويجعلهما تحت السرة، لما روي عن علي أنه قال: «السنة وضع الكف على الكف في الصلاة تحت السرة» . رواه أبو داود. وعنه: فوق السرة. وعنه: أنه مخير. ويستحب جعل نظره إلى موضع سجوده، لأنه أخشع للمصلي، وأكف لنظره.

فصل:
ويستحب أن يستفتح. قال أحمد: أما أنا فأذهب إلى ما روي عن عمر - يعني ما رواه الأسود - أنه صلى خلف عمر، فسمعه كبر، فقال: «سبحانك اللهم وبحمدك، وتبارك اسمك، وتعالى جدك، ولا إله غيرك» . رواه مسلم. ولو أن رجلاً استفتح ببعض ما روي عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من الاستفتاح كان حسناً، أو قال: جائزاً. وإنما اختاره أحمد، لأن عائشة وأبا سعيد، قالا: كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا استفتح الصلاة، قال ذلك. وعمل به عمر بمحضر من الصحابة، فكان أولى من غيره، وصوب الاستفتاح بغيره مثل ما روى أبو هريرة قال: «قلت: يا رسول الله أرأيت إسكاتك بين التكبير والقراءة ماذا تقول؟ قال: أقول: اللهم باعد بيني وبين خطاياي كما باعدت بين المشرق والمغرب، اللهم نقني من خطاياي، كما ينقى الثوب الأبيض من الدنس، اللهم اغسلني من خطاياي

(1/244)


بالثلج والماء والبرد» متفق عليه. قال أحمد: ولا يجهر الإمام بالاستفتاح، لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم يجهر به.

فصل:
ثم يستعيذ بالله، فيقول: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ} [النحل: 98] . قال ابن المنذر: وجاء عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه «كان يقول قبل القراءة: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم» .

فصل:
ثم يقرأ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، ولا يجهر بها، لما روى أنس بن مالك قال: «صليت خلف النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأبي بكر وعمر وعثمان، فلم أسمع أحداً منهم يجهر ببسم الله الرحمن الرحيم» . رواه البخاري ومسلم. وفيها روايتان:
إحداهما: أنها آية من الفاتحة، اختارها أبو عبد الله بن بطة، وأبو حفص، لما روت أم سلمة أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «قرأ في الصلاة. بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، وعدها آية، والحمد لله رب العالمين آيتين» ، ولأن الصحابة أثبتوها في المصاحف فيما جمعوا من القرآن، فدل على أنها منها.
والثانية: ليست منها، لما روى أبو هريرة قال: «سمعت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: قال الله تعالى: قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين، فإذا قال العبد: الحمد لله رب العالمين، قال الله تعالى: حمدني عبدي، فإذا قال: الرحمن الرحيم، قال الله: أثنى علي عبدي، فإذا قال: مالك يوم الدين، قال مجدني عبدي، فإذا قال: إياك نعبد وإياك

(1/245)


نستعين، قال: هذا بيني وبين عبدي، ولعبدي ما سأل. فإذا قال: اهدنا الصراط المستقيم، صراط الذين ... إلى آخرها، قال: هذا لعبدي ولعبدي ما سأل» رواه مسلم. ولو كانت بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ منها لبدأ بها، ولم يتحقق التنصيف، ولأن مواضع الآي كالآي في أنها لا تثبت إلا بالتواتر، ولا تواتر فيما نحن فيه، ومن نسي الاستفتاح حتى شرع في الاستعاذة أو نسي الاستعاذة حتى شرع في البسملة، أو البسملة حتى شرع في الفاتحة على الرواية التي تقول: ليست من الفاتحة، لم يرجع إليها لأنها سنة فات محلها.

فصل:
ثم يقرأ الفاتحة، وهو الركن الثالث في حق الإمام المنفرد، لما روى عبادة عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، أنه قال: «لا صلاة لمن لا يقرأ بفاتحة الكتاب» متفق عليه.
ولا تجب على المأموم لقول الله تعالى: {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا} [الأعراف: 204] . وروى أبو هريرة أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «ما لي أنازع القرآن قال: فانتهى الناس أن يقرأوا فيما جهر فيه النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -» . رواه مالك في الموطأ. ولأنها لو وجبت عليه لم تسقط عن المسبوق، كسائر الأركان لكن إن سمع قراءة الإمام أنصت له، ويقرأ في سكاته وإسراره، لأن مفهوم قوله: فانتهى الناس أن يقرؤوا فيما جهر فيه، أنهم يقرأون في غيره.
وتجب قراءة الفاتحة في كل ركعة، لما روى أبو قتادة أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «كان يقرأ في الأخيرتين بأم الكتاب» . متفق عليه. وروي أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - علم المسيء في صلاته، فقال: «اقرأ بفاتحة الكتاب وما تيسر، ثم قال: اصنع في كل ركعة مثل ذلك» ولأنه ركن لا تفتتح به الصلاة فتكرر في كل ركعة، كالركوع. وعنه: لا تجب إلا في الأوليين، لأنها لو وجبت في غيرهما لسن الجهر بها في بعض الصلوات كالأوليين.
ويجب أن يقرأ الفاتحة مرتبة متوالية، فإن قطع قراءتها بذكر كثير، أو سكوت

(1/246)


طويل عامداً، أعادها وإن فعل ذلك ناسياً، أو كان الذكر أو السكوت يسيراً، أتمها لأن الموالاة لا تفوت بذاك. وإن نوى قطعها، لم تنقطع، لأن القراءة باللسان فلم تنقطع بالنية بخلاف نية الصلاة.
ويأتي فيها بإحدى عشرة تشديدة، فإن أخل بحرف منها أو شدة، لم تصح، لأنه لم يقرأها كلها، والشدة أقيمت مقام حرف، وإن خفف الشدة صح، لأنه كالنطق به مع العجلة.

فصل:
فإذا فرغ منها، قال: آمين، يجهر بها فيما يجهر فيه بالقراءة، لما روى وائل بن حجر أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «كان إذا قال: ولا الضالين قال: آمين، ورفع بها صوته» . رواه أبو داود. ويؤمن المأمومون مع تأمينه، لقول رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذا قال الإمام {وَلا الضَّالِّينَ} [الفاتحة: 7] ، فقولوا: آمين» ، وفي لفظ: «إذا أمن الإمام فأمنوا فإنه من وافق تأمينه تأمين الملائكة غفر له» متفق عليه. ويجهرون بها لما روى عطاء أن ابن الزبير كان يؤمن ويؤمنون حتى إن للمسجد للجة. رواه الشافعي في مسنده. فإن نسيه الإمام جهر به المأموم، ليذكره فإن لم يذكره حتى شرع في القراءة لم يأت به، لأنه سنة فات محلها.
وفي آمين لغتان: قصر الألف ومدها مع التخفيف، فإن شدد الميم لم يجزئه لأنه يغير معناها.

فصل:
فإن لم يحسن الفاتحة، لزمه تعلمها، فإن ضاق الوقت عن ذلك، قرأ سبع آيات من غيرها. وهل يجب أن يكون في عدد حروفها؟ على وجهين:

(1/247)


أحدهما: [يجب] لأن الثواب مقدر بالحروف، فاعتبرت كالآي.
والآخر: لا يعتبر، لأنه من فاته صوم يوم طويل لم يعتبر كون القضاء في يوم طويل مثله، فإن لم يحسن سبعاً كرر ما يحسن بقدرها، فإن لم يحسن إلا آية من الفاتحة وشيئاً من غيرها، ففيه وجهان:
أحدهما: يكرر آية الفاتحة، لأنها أقرب إليها.
والثاني: يقرأ تمام السبع من غيرها، لأنه لو لم يحسن شيئاً من الفاتحة، قرأ من غيرها فما عجز عنه منها وجب أن يأتي ببدله من غيرها، فإن لم يحسن الفاتحة بالعربية، لم يجز أن يترجم عنها بلسان آخر، لأن الله تعالى جعل القرآن عربياً، ويلزمه أن يقول: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، ولا حول ولا قوة إلا بالله، لما روى عبد الله بن أبي أوفى قال: «جاء رجل إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فقال: إني لا أستطيع أن آخذ شيئاً من القرآن، فعلمني ما يجزئني، فقال: قل: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، ولا حول ولا قوة إلا بالله» رواه أبو داود. ولأنه ركن من الصلاة، فقام غيره مقامه عند العجز عنه، كالقيام، فإن لم يحسن إلا بعض ذلك، كرره بقدره، فإن لم يحسن شيئاً وقف بقدر القراءة.

فصل:
ويستحب للإمام أن يسكت بعد الفاتحة سكتة، يقرأ فيها من خلفه، لما روى سمرة: أنه حفظ عن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سكتتين، سكتة إذا كبر، وسكتة إذا فرغ من قراءة: {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ} [الفاتحة: 7] رواه أبو داود. وقال أبو سلمة بن عبد الرحمن: للإمام سكتتان، فاغتنموا فيهما القراءة بفاتحة الكتاب، إذا افتتح الصلاة، وإذا قال: {وَلا الضَّالِّينَ} [الفاتحة: 7] .

فصل:
ويسن أن يقرأ بعد الفاتحة سورة تكون في الصبح من طوال المفصل، وفي

(1/248)


المغرب من قصاره، وفي سائرهن من أوساطه، لما روى جابر بن سمرة أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «كان يقرأ في الفجر بـ "ق» رواه مسلم.
وعنه: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «كان يقرأ في الظهر والعصر بـ {وَالسَّمَاءِ وَالطَّارِقِ} [الطارق: 1] و {وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ} [البروج: 1] ونحوهما من السور» . رواه أبو داود.
وعنه قال: «كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا دحضت الشمس، صلى الظهر، ويقرأ بنحو: {وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى} [الليل: 1] والعصر كذلك، والصلوات كلها إلا الصبح، فإنه كان يطيلها» . رواه أبو داود. وما قرأ به بعد أم كتاب في ذلك كله أجزأه.
ويستحب له أن يطيل الركعة الأولى من كل صلاة، لما روى أبو قتادة أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «كان يقرأ في الركعتين الأوليين من الظهر، بفاتحة الكتاب وسورتين، يطول في الأولى، ويقصر في الثانية، ويسمع الآية أحياناً، وكان يقرأ في الركعتين الأخريين بفاتحة الكتاب، وكان يقرأ في العصر في الركعتين الأوليين بفاتحة الكتاب، وسورتين، يطول في الأولى، ويقصر في الثانية، وكان يطول في الركعة الأولى من الصبح، ويقصر في الثانية» . متفق عليه. وفي رواية: «فظننا أنه يريد بذلك أن يدرك الناس الركعة الأولى، ولا يزيد على أم الكتاب في الأخيرتين من الرباعية، ولا الثالثة من المغرب» ، لهذا الحديث.

فصل:
ويسن للإمام الجهر بالقراءة في الصبح، والأوليين من المغرب والعشاء، والإسرار فيما وراء ذلك، لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يفعل ذلك. ولا يسن الجهر لغير الإمام، لأنه لا يقصد إسماع غيره، وإن جهر المنفرد فلا بأس، لأنه لا ينازع غيره، وكذلك القائم لقضاء ما فاته من الجماعة. وإن فاتته الصلاة ليلاً فقضاها نهاراً، لم يجهر، لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إن صلاة النهار عجماء» فإن فاتته صلاة نهار فقصاها ليلاً لم يجهر، لأنها صلاة نهار، وإن فاتته ليلاً، فقضاها ليلاً في جماعة جهر.
وإذا فرغ من القراءة استحب له أن يسكت سكتة قبل الركوع، لأن في حديث سمرة في بعض رواياته: «وإذا فرغ من القراءة سكت» .

(1/249)


فصل:
ثم يركع وهو الركن الرابع، لقول الله تعالى: {ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا} [الحج: 77] ويكبر للركوع، لما روى أبو هريرة أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «كان إذا قام إلى الصلاة كبر حين يقوم، ثم يكبر حين يركع، ثم يكبر حين يسجد، ثم يكبر حين يرفع رأسه، يفعل ذلك في صلاته كلها» ، رواه البخاري. وفي هذه التكبيرات روايتان:
إحداهما: أنها واجبة، لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يفعلها، وقد قال: «صلوا كما رأيتموني أصلي» متفق عليه. ولأن الهوي إلى الركوع فعل، فلم يخل من ذكر واجب، كالقيام.
والثانية: لا يجب، لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم يعلمها المسيء في صلاته، ولا يجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة. ويستحب أن يرفع يديه مع التكبير لحديث ابن عمر، وقدر الإجزاء: الانحناء حتى يمكنه مس ركبتيه بيديه، لأنه لا يسمى راكعاً بدونه.
ويجب أن يطمئن راكعاً وهو الركن الخامس، لقول رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - للمسيء في صلاته: «ثم اركع حتى تطمئن راكعاً» متفق عليه. ويستحب أن يضع يديه على ركبتيه، قابضاً لهما، ويسوي ظهره، ولا يرفع رأسه، ولا يخفضه، ويجافي يديه على جنبيه، لما روى أبو حميد أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «كان إذا ركع أمكن يديه من ركبتيه، ثم هصر ظهره» ، وفي لفظ: «ركع ثم اعتدل، فلم يصوب رأسه ولم يقنع» . وفي رواية: «ووضع يديه على ركبتيه كأنه قابض عليهما، ووتر يديه، فنحاهما عن جنبيه» . حديث صحيح.

فصل:
ثم يقول: سبحان ربي العظيم، وفيه روايتان:
إحداهما: يجب، لما روى عقبة بن عامر أنه «لما نزل: {فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ} [الواقعة: 74] قال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: اجعلوها في ركوعكم فلما نزل: {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى} [الأعلى: 1] قال: اجعلوها في سجودكم رواه» أبو داود. ولأنه فعل في الصلاة، فلم يخل من ذكر واجب، كالقيام.
والثانية: ليس بواجب، لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم يعلمه المسيء في صلاته، وأدنى الكمال ثلاث، لما روى ابن مسعود أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إذا ركع أحدكم فليقل: سبحان ربي

(1/250)


العظيم ثلاثاً، وذلك أدناه، وإذا سجد فليقل: سبحان ربي الأعلى ثلاثاً، وذلك أدناه» رواه الأثرم والترمذي. وإن اقتصر على واحدة أجزأه، لأنه ذكر مكرر، فأجزأت الواحدة، كسائر الأذكار.

فصل:
ثم يرفع رأسه قائلاً: سمع الله لمن حمده، حتى يعتدل قائماً، وهذا الرفع والاعتدال الركن السادس والسابع، لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - للمسيء في صلاته: «ثم ارفع حتى تعتدل قائماً» وفي حديث أبي حميد «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: سمع الله لمن حمده ورفع يديه، واعتدل حتى رجع كل عظم في موضعه معتدلاً» . وفي وجوب التسميع روايتان، لما ذكرنا في التكبير، ولا يشرع للمأموم، لقول رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذا قال: الإمام سمع الله لمن حمده، فقولوا: ربنا ولك الحمد» ويقول في اعتداله: ربنا ولك الحمد. وفي وجوبه روايتان. لما ذكرنا. قال الأثرم: وسمعت أبا عبد الله يثبت أمر الواو. وقال: قد روى فيه الزهري ثلاثة أحاديث عن أنس، وعن سعيد عن أبي هريرة، وعن سالم عن أبيه. وإن قال: ربنا لك الحمد، جاز، نص عليه، لأنه قد صحت به السنة.
ويستوي في ذلك كل مصل، لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قاله، وأمر به المأمومين. ويستحب أن يقول: ملء السماء وملء الأرض، وملء ما شئت من شيء بعد، لما روى أبو سعيد، وابن أبي أوفى أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «كان إذا رفع رأسه قال: سمع الله لمن حمده، ربنا لك الحمد ملء السماء وملء الأرض وملء ما شئت من شيء بعد» متفق عليه. ولا يستحب للمأموم الزيادة على «ربنا ولك الحمد» نص عليه لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «فقولوا: ربنا ولك الحمد» ولم يأمره بغيره. وعنه: ما يدل على استحباب قول: «ملء السماء» وهو اختيار أبي الخطاب لأنه ذكر مشروع للإمام، فشرع للمأموم كالتكبير. وموضع ربنا ولك الحمد، من حق الإمام المنفرد بعد اعتداله، وللمأموم حال رفعه، لأن قوله: «إذا قال الإمام: سمع الله لمن حمده، فقولوا: ربنا ولك الحمد» يقتضي تعقيب قول الإمام قول المأموم، وهي حال رفعه.

(1/251)


فصل:
في السجود: ثم يخر ساجداً ويطمئن في سجوده، وهما الركن الثامن والتاسع، لقول الله تعالى: {اسْجُدُوا} [البقرة: 34] ، وقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - للأعرابي: «ثم اسجد حتى تطمئن ساجداً» وينحط إلى السجود مكبراً لحديث أبي هريرة، ولا يرفع يديه، لحديث ابن عمر. ويكون أول ما يقع منه على الأرض ركبتاه، ثم يداه، ثم جبهته وأنفه، لما روى وائل بن حجر قال: «كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا سجد وضع ركبتيه قبل يديه، وإذا نهض رفع يديه قبل ركبتيه» رواه أبو داود. والسجود على هذه الأعضاء واجب، لما روى ابن عباس أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «أمرت أن أسجد على سبع أعظم، الجبهة، وأشار بيده إلى أنفه، واليدين والركبتين، وأطراف القدمين» متفق عليه.
وفي الأنف روايتان:
إحداهما: لا يجب السجود عليه، لأنه ليس من السبعة المذكورة.
والثانية: تجب، لإشارة النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلى أنفه عند بيان أعضاء السجود. ولا يجب مباشرة المصلي بشيء من هذه الأعضاء إلا الجبهة، فإن فيها روايتين:
إحداهما: يجب، لما روي عن خباب قال: «شكونا إلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حر الرمضاء في جباهنا وأكفنا، فلم يشكنا» . رواه مسلم.
والثانية: لا يجب، وهو ظاهر المذهب، لما روى أنس قال: «كنا نصلي مع النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فيضع أحدنا طرف الثوب من شدة الحر في مكان السجود» . رواه البخاري ومسلم. ولأنها من أعضاء السجود، فجاز السجود على حائلها كالقدمين. ويستحب أن يجافي عضديه عن جنبيه، وبطنه عن فخذيه، وفخذيه عن ساقيه، لما روى أبو حميد «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جافى عضديه عن إبطيه» . «ووصف البراء سجود النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فوضع يديه واعتمد على ركبتيه ورفع عجيزته وقال: هكذا كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يسجد» . رواه أبو

(1/252)


داود. ويستحب أن يضم أصابع يديه بعضها إلى بعض، ويضعها على الأرض حذو منكبيه، ويرفع مرفقيه، ويكون على أطراف أصابع قدميه، ويثنيها نحو القبلة، لما روى أبو حميد «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وضع كفيه حذو منكبيه» . وفي لفظ: «سجد غير مفترش، ولا قابضهما، واستقبل بأطراف رجليه القبلة» . وفي رواية: «فسجد فانتصب على كفيه وركبتيه، وصدور قدميه، وهو ساجد» . وقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذا سجد أحدكم فليعتدل ولا يفترش افتراش الكلب» ، صحيح متفق على معناه. ويقول: سبحان ربي الأعلى، وحكمه حكم تسبيح الركوع في عدده ووجوبه لما مضى. فإذا أراد السجود فهوى على وجهه، فوقعت جبهته على الأرض، أجزأه لأنه قد نواه. وإن انقلب على جنبه، ثم انقلب فمست جبهته الأرض ناوياً السجود، أجزأه، وإن لم ينو لم يجزئه، ويأتي بالسجود بعده.

فصل: ثم يرفع رأسه مكبراً، ويعتدل جالساً، وهما الركن العاشر والحادي عشر، لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - للأعرابي: «ثم ارفع حتى تطمئن جالساً» ويجلس مفترشاً، يفرش رجله اليسرى، ويجلس عليها، وينصب اليمنى، لقول أبي حميد في وصف صلاة النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ثم ثنى رجله اليسرى، وقعد عليها، ثم اعتدل حتى رجع كل عظم في موضعه» . وقالت عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: «كان النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يفرش رجله اليسرى، وينصب اليمنى، وينهى عن عقبة الشيطان» . رواه مسلم. ويسن أن يثني أصابع اليمنى نحو القبلة، لما روى النسائي عن ابن عمر أنه قال: «من سنة الصلاة أن ينصب القدم اليمنى، واستقباله

(1/253)


بأصابعها القبلة» . ويكره الإقعاء وهو أن يفترش قدميه، ويجلس على عقبيه، بهذا فسره أحمد، لحديث أبي حميد وعائشة. وعن أحمد أنه قال: لا أفعله، ولا أعيب في فعله، العبادلة كانوا يفعلونه، وقال ابن عباس: «هو سنة نبيك - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -» . رواه مسلم. ويقول: رب اغفر لي، لما روى حذيفة «أنه صلى مع النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فكان يقول بين السجدتين: رب اغفر لي رب اغفر لي» رواه النسائي. والقول في وجوبه وعدده، كالقول في تسبيح الركوع. وإن قال ما روى ابن عباس: «كان النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول بين السجدتين: اللهم اغفر لي وارحمني، واهدني، وعافني وارزقني فلا بأس» . رواه أبو داود.

فصل:
ثم يسجد السجدة الثانية كالأولى سواء، وفيها ركنان، ثم يرفع رأسه مكبراً لحديث أبي هريرة. وهل يجلس للاستراحة فيه؟ فيه روايتان:
إحداهما: يجلس، اختارها الخلال، لما روى مالك بن الحويرث أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «كان يجلس إذا رفع رأسه من السجود قبل أن ينهض» . متفق عليه. وصفة جلوسه مثل جلسة الفصل، لما روى أبو حميد في صفة صلاة رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ثم ثنى رجله وقعد واعتدل حتى رجع كل عظم في موضعه، ثم نهض» . حديث صحيح. وقال الخلال: روى عن أحمد من لا أحصيه كثرة أنه يجلس على إليته. وقال الآمدي: يجلس على قدميه، ولا يلصق إليته بالأرض.
والرواية الثانية: لا يجلس بل ينهض على صدور قدميه معتمداً على ركبتيه، لما روى أبو هريرة «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان ينهض على صدور قدميه» . وفي حديث وائل بن حجر: «وإذا نهض رفع يديه قبل ركبتيه» . وفي لفظ: «فإذا نهض، نهض على ركبتيه، واعتمد

(1/254)


على فخذيه» . رواه أبو داود. ولا يعتمد بيده على الأرض، لما ذكرنا، إلا أن يشق ذلك عليه، لضعف أو كبر. ولا يكبر لقيامه من جلس الاستراحة لأنه قد كبر لرفعه من السجود.

فصل:
ثم يصلي الركعة الثانية كالأولى، لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - للأعرابي: «ثم اصنع ذلك في صلاتك كلها» إلا في النية والاستفتاح، لأنه يراد لافتتاح الصلاة، وفي الاستعاذة روايتان:
إحداهما: يستعيذ، لقول الله تعالى: {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ} [النحل: 98] فيقتضي أن يستعيذ عند كل قراءة.
والثانية: لا يستعيذ لما روى أبو هريرة قال: «كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا نهض من الركعة الثانية، استفتح القراءة بالحمد لله رب العالمين، ولم يسكت» . رواه مسلم.
ولأن الصلاة جملة واحدة، فإذا أتى بالاستعاذة من أولها، كفى كالاستفتاح، فإن نسيها في أول الصلاة، أتى بها في الثانية، والاستفتاح خلاف ذلك، نص عليه.

فصل:
ثم يجلس مفترشاً، لقول أبي حميد في صفة صلاة رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، «فإذا جلس في الركعتين، جلس على اليسرى ونصب الأخرى» ، وفي لفظ: «فافترش رجله اليسرى، وأقبل بصدر اليمنى على قبلته» . صحيح. ويستحب أن يضع يده اليسرى على فخذه اليسرى مبسوطة مضمومة الأصابع مستقبلاً بأطرافها القبلة، أو يلقمها ركبته، ويضع يده اليمنى على فخذه اليمنى، يعقد الوسطى مع الإبهام عقد ثلاث وخمسين، ويشير بالسبابة عند ذكر الله تعالى، ويقبض الخنصر والبنصر، لما روى ابن عمر «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وضع يده اليمنى على ركبته اليمنى، وعقد ثلاثاً وخمسين، وأشار بالسبابة» . رواه مسلم.

(1/255)


وعنه: يبسط الخنصر والبنصر، لما روى ابن الزبير قال: «كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا قعد يدعو وضع يده اليمنى على فخذه اليمنى، ويده اليسرى على فخذه اليسرى، وأشار بإصبعه السبابة يدعو، ووضع إبهامه على إصبعه الوسطى يدعو» ، وفي لفظ: «وألقم كفه اليسرى ركبته» ، رواه مسلم. وفي لفظ: «وكان يشير بإصبعه إذا دعا، ولا يحركها» ، رواه أبو داود.

فصل:
ثم يتشهد لما روى ابن مسعود قال: «علمني رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - التشهد، كفي بين كفيه، كما يعلمني السورة من القرآن: التحيات لله، والصلوات، والطيبات، السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً عبده ورسوله» . متفق عليه. قال الترمذي هذا أصح حديث روي عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في التشهد، فاختاره أحمد لذلك، فإن تشهد بغيره مما صح عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كتشهد ابن عباس وغيره جاز، نص عليه. ومقتضى هذا أنه متى أخل بلفظة ساقطة في بعض التشهدات، فلا بأس، فإذا فرغ منه، وكانت الصلاة أكثر من ركعتين، لم يزد عليه، لما روى ابن مسعود أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «كان يجلس في الركعتين الأوليين كأنه على الرضف.» رواه أبو داود. لشدة تخفيفه، ثم نهض مبكراً كنهوضه من السجود، ويصلي الثالثة والرابعة كالأوليين إلا في الجهرية، ولا يزيد على فاتحة الكتاب لما قدمناه.

فصل:
فإذا فرغ جلس فتشهد، وهما الركن الثاني والثالث عشر، لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أمر به

(1/256)


وعلمه ابن مسعود، ثم قال: «فإذا فعلت ذلك فقد تمت صلاتك» رواه أبو داود.
وعن ابن مسعود قال: «كنا نقول قبل أن يفرض علينا التشهد: السلام على الله قبل عباده، فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: لا تقولوا: السلام على الله، ولكن قولوا: التحيات لله» فدل هذا على أنه فرض، ويجلس متوركًا يفرش رجله اليسرى، وينصب اليمنى، ويخرجهما عن يمينه؛ لقول أبي حميد في وصفه: «فإذا جلس في الركعتين جلس على اليسرى، ونصب اليمنى، فإذا كانت السجدة التي فيها التسليم أخر رجله اليسرى، وجلس متوركًا على شقه الأيسر، وقعد على مقعدته» . رواه البخاري.
وقال الخرقي: يجعل باطن رجله اليسرى تحت فخذه اليمنى، ويجعل إليته على الأرض؛ لأن في بعض لفظ حديث أبي حميد: «جلس على إليتيه، وجعل باطن قدمه اليسرى عند مأبض اليمنى، ونصب قدمه اليمنى» .
وقال ابن الزبير: «كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا قعد في الصلاة جعل قدمه اليسرى تحت فخذه وساقه» ، رواهما أبو داود: وأيهما فعل جاز، ولا يتورك إلا في صلاة فيها تشهدان في الأخير منهما؛ لأنه جعل للفرق، ولا حاجة إليه مع عدم الاشتباه.

فصل:
ثم يصلي على النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وفيها روايتان:
إحداهما: ليست واجبة؛ لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في التشهد: «فإذا فعلت فقد تمت صلاتك» .
والثانية: أنها واجبة، قال أبو زرعة الدمشقي، عن أحمد قال: كنت أتهيب ذلك، ثم تبينت، فإذا الصلاة واجبة، ووجهها ما روى كعب بن عجرة قال: إن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خرج علينا فقلنا: يا رسول الله، قد علمنا كيف نسلم عليك، فكيف نصلي عليك؟ قال: «قولوا: اللهم صل على محمد، وعلى آل محمد، كما صليت على آل إبراهيم، إنك حميد مجيد، وبارك على محمد، وعلى آل محمد، كما باركت على آل إبراهيم، إنك حميد

(1/257)


مجيد» متفق عليه، قال بعض أصحابنا: وتجب الصلاة على هذه الصفة، لأمر النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بها، والأولى أن يكون هذا الأفضل، وكيفما أتى بالصلاة أجزأه؛ لأنها رويت بألفاظ مختلفة، فوجب أن يجزئ منها ما اجتمعت عليه الأحاديث.

فصل:
ويستحب أن يتعوذ من أربع؛ لما روى أبو هريرة قال: كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يدعو: «اللهم إني أعوذ بك من عذاب القبر، ومن عذاب النار، ومن فتنة المحيا والممات، ومن فتنة المسيح الدجال» متفق عليه، ولمسلم: «إذا تشهد أحدكم فليستعذ بالله من أربع» وذكره، وما دعا به مما ورد في القرآن والأخبار فلا بأس إلا أن يكون إمامًا، فلا يستحب له التطويل، كيلا يشق على المأمومين إلا أن يؤثروا ذلك، وقد روي عن أبي بكر الصديق - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه قال لرسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: علمني دعاء أدعو به في صلاتي، قال: «قل: اللهم إني ظلمت نفسي ظلمًا كثيرًا، ولا يغفر الذنوب إلا أنت، فاغفر لي مغفرة من عندك، وارحمني إنك أنت الغفور الرحيم» متفق عليه.

فصل:
ولا يجوز أن يدعو فيها بالملاذ وشهوات الدنيا، وما يشبه كلام الآدميين، مثل: اللهم ارزقني زوجة حسناء، وطعامًا طيبًا؛ لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إن صلاتنا هذه لا يصلح فيها شيء من كلام الناس، إنما هي التسبيح والتكبير وقراءة القرآن» رواه مسلم، ولأن هذا يتخاطب بمثله الآدميون أشبه تشميت العاطس، ورد السلام.

فصل:
ثم يسلم، والسلام هو الركن الرابع عشر؛ لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مفتاح الصلاة

(1/258)


الطهور، وتحريمها التكبير، وتحليلها التسليم» رواه أبو داود، والترمذي، ولأنه أحد طرفي الصلاة، فكان فيه نطق واجب كالأول، ويسلم تسليمتين، فيقول: السلام عليكم ورحمة الله، ويلتفت عن يمينه وعن يساره كذلك، لما «روى ابن مسعود أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يسلم عن يمينه، السلام عليكم ورحمة الله، وعن يساره السلام عليكم ورحمة الله، وفي لفظ: رأيت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يسلم حتى يرى بياض خده عن يمينه وعن يساره» ، رواه مسلم.
ويكون التفاته في الثانية أوفى، قال ابن عقيل يبتدئ بقوله: السلام عليكم إلى القبلة، ثم يلتفت قائلًا: ورحمة الله عن يمينه ويساره؛ «لقول عائشة كان النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يسلم تلقاء وجهه» ، معناه ابتداء السلام، ويستحب أن يجهر بالأولى أكثر من الثانية، نص عليه، واختاره الخلال، وحمل أحمد «حديث عائشة، أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يسلم تسليمة واحدة» ، على أنه كان يجهر بواحدة، ويستحب أن لا يمد السلام؛ لأن أبا هريرة قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «حذف السلام سنة» رواه الترمذي، وقال: حديث صحيح. قال ابن المبارك: معناه لا يمده مدًا. قال أحمد: معناه لا يطول به صوته.
فصل:
والواجب تسليمة واحدة، والثانية سنة؛ لأن عائشة وسهل بن سعد وسلمة بن الأكوع رووا أن «النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلى فسلم مرة واحدة» ، ولأنه إجماع حكاه ابن المنذر، وعنه أن الثانية واجبة؛ لأن جابرًا قال: قال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إنما يكفي أحدكم أن يضع يده على فخذه، ثم يسلم على أخيه من على يمينه وشماله» رواه مسلم، ولأنها عبادة لها تحللان، فكان الثاني واجبًا كالحج.

فصل:
فإن اقتصر على قول: السلام عليكم، فقال القاضي: ظاهر كلام أحمد أنه يجزئه،

(1/259)


نص عليه في صلاة الجنازة؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «تحليلها التسليم» وهو حاصل بدون الرحمة، وعن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه كان يسلم عن يمينه وعن يساره السلام عليكم، السلام عليكم. وقال ابن عقيل: الصحيح أنه لا يجزئ؛ لأن من وصف سلام النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من الصحابة، قال فيه: " ورحمة الله " ولأنه سلام ورد فيه ذكر الرحمة، فلم يجزئه بدونها، كالسلام على النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في التشهد، ويأتي بالسلام مرتبًا فإن نكسه، فقال: عليكم السلام، أو نكس التشهد لم تصح.
وذكر القاضي وجهًا من صحته؛ لأن المقصود يحصل، وهو بعيد؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال مرتبًا، وعلمهم إياه مرتبًا، ولأنه ذكر يؤتى به في أحد طرفي الصلاة، فاعتبر ترتيبه كالتكبير.

فصل:
وينوي بسلامه الخروج من الصلاة، فإن لم ينو لم تبطل صلاته، نص عليه؛ لأن نية الصلاة قد شملت جميعها، والسلام من جملتها، ولأنها عبادة فلم تجب النية للخروج منها كسائر العبادات، وقال ابن حامد: تبطل صلاته؛ لأنه أحد طرفي الصلاة، فوجبت فيه النية كالآخر، وإن نوى بالسلام على الحفظة وعلى المصلين معه فلا بأس، نص عليه؛ لحديث جابر الذي قدمناه، وفي لفظ: «أمرنا النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن نرد على الإمام، وأن يسلم بعضنا على بعض» رواه أبو داود.

فصل:
ويستحب ذكر الله تعالى بعد انصرافه من الصلاة ودعائه واستغفاره، قال المغيرة: كان النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «يقول في دبر كل صلاة مكتوبة: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد، يحيي ويميت، وهو على كل شيء قدير، اللهم لا مانع لما أعطيت، ولا معطي لما منعت، ولا ينفع ذا الجد منك الجد» متفق عليه.
وقال ثوبان: «كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا انصرف من صلاته استغفر الله ثلاثًا، وقال: اللهم أنت السلام، ومنك السلام، تباركت يا ذا الجلال والإكرام» رواه مسلم. «وقال ابن عباس:

(1/260)


إن رفع الصوت بالذكر حين ينصرف الناس من المكتوبة كان على عهد رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وقال ابن عباس: كنت أعلم إذا انصرفوا بذلك إذا سمعته» متفق عليه.

فصل:
ويكره للإمام إطالة الجلوس في مكانه مستقبل القبلة؛ لأن عائشة قالت: «كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا سلم لم يقعد إلا مقدار ما يقول: اللهم أنت السلام، ومنك السلام، تباركت يا ذا الجلال والإكرام» رواه ابن ماجه. فإن أحب قام، وإن شاء انحرف عن قبلته، لما روى سمرة قال: «كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا صلى أقبل علينا بوجهه» ، رواه مسلم.
وينصرف حيث شاء، عن يمين أو شمال؛ لقول ابن مسعود: «لا يجعل أحدكم للشيطان حظًا من صلاته، يرى أن لا ينصرف إلا عن يمينه، لقد رأيت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أكثر ما ينصرف عن يساره» . متفق عليه.
فإن كان مع الإمام رجال ونساء، فالمستحب أن تثب النساء، ويثبت هو والرجال، بقدر ما ينصرف النساء؛ لقول أم سلمة: «إن النساء في عهد رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، كن إذا سلمن من المكتوبة قمن، وثبت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ومن صلى من الرجال ما شاء الله، فإذا قام رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قام الرجال، قال الزهري: فنرى أن ذلك لكي ينفذ من ينصرف من النساء» ، رواه البخاري. ولأن الإخلال بذلك يفضي إلى اختلاط الرجال بالنساء، ولا يثب المأمومون قبل انصراف الإمام، لئلا يذكر سهوًا فيسجد، وقد قال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إني إمامكم فلا تبادروني بالركوع ولا بالسجود ولا بالقيام ولا بالانصراف» رواه

(1/261)


مسلم.
فإن انحرف عن قبلته أو خالف السنة في إطالة الجلوس مستقبل القبلة، فلا بأس أن يقوم المأموم ويدعه.

فصل:
ويكره للإمام التطوع في موضع صلاة مكتوبة، نص عليه، وقال: كذا قال علي بن أبي طالب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وللمأموم أن يتطوع في موضع صلاته، فعله ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، وروى المغيرة بن شعبة: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا يتطوع الإمام في مقامه الذي يصلي به الناس» رواه أبو داود. فإن دعت إليه ضرورة، لضيق المسجد انحرف قليلًا عن مصلاه، ثم صلى.

فصل:
وترتيب الصلاة على ما ذكرنا، وهو الركن الخامس عشر، فصارت أركان الصلاة خمسة عشر، لا يسامح بها في عمد ولا سهو.
وواجباتها المختلف فيها: تسعة؛ التكبير سوى تكبيرة الإحرام، التسبيح في الركوع والسجود مرة مرة، وقول: سمع الله لمن حمده، وقول: ربنا ولك الحمد، وقول: رب اغفر لي، بين السجدتين مرة، والتشهد الأول، والجلوس له، والصلاة على النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، والتسليمة الثانية: وقد ذكرنا في وجوب جميعها روايتين.
وما عدا ذلك فسنن، تتنوع ثلاثة أنواع:

(1/262)


سنن الأقوال، وهي اثنتا عشرة: الاستفتاح، والاستعاذة، وقراءة بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، وقول آمين، وقراءة السورة بعد الفاتحة، والجهر والإخفات في موضعهما، وما زاد على التسبيحة الواحدة في الركوع والسجود، وعلى المرة في سؤال المغفرة، وقول ملء السماء بعد التحميد، والدعاء، والتعوذ في التشهد الأخير، وقنوت الوتر.
النوع الثاني: سنن الأفعال، وهي اثنتان وعشرون: رفع اليدين عند الإحرام، الركوع والرفع منه، ووضع اليمنى على اليسرى، وجعلهما فوق السرة، والنظر إلى موضع سجوده، ووضع اليدين على الركبتين في الركوع، ومد الظهر والتسوية بين رأسه وظهره، والتجافي فيه، والبداءة بوضع الركبتين قبل اليدين في السجود، ورفع اليدين قبل الركبتين في النهوض، والتجافي فيه، وفتح أصابع رجليه فيه، وفي الجلوس، ووضع يديه حذو منكبيه مضمومة، مستقبلًا بها القبلة، والتورك في التشهد الأخير، والافتراش في الأول، وفي سائر الجلوس، ووضع اليد اليمنى على الفخذ اليمنى مقبوضة محلقة، والإشارة بالسبابة، ووضع اليسرى على الفخذ اليسرى مبسوطة، والالتفات عن يمينه وشماله في التسليم، والسجود على أنفه، وجلسة الاستراحة على إحدى الروايتين فيهما.
والنوع الثالث: ما يتعلق بالقلب: وهو الخشوع، ونية الخروج في سلامه.

فصل:
ولا يسن القنوت في صلاة فرض؛ لأن أبا مالك الأشجعي، قال: قلت لأبي: «يا أبت، إنك قد صليت خلف رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وأبي بكر، وعمر، وعثمان، وعلي، هاهنا في الكوفة نحوًا من خمس سنين، أكانوا يقنتون؟ قال: أي بني، محدث» ، قال الترمذي: هذا حديث حسن. وعن أنس: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قنت شهرًا يدعو على حي من أحياء العرب، ثم تركه» . رواه مسلم، فإن نزل بالمسلمين نازلة فللإمام القنوت في صلاة الصبح بعد الركوع، اقتداء برسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، لما روى أبو هريرة «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان لا يقنت في صلاة الفجر إلا إذا دعا لقوم أو دعا على قوم» ، رواه سعيد في سننه، وليس ذلك لآحاد المسلمين، ويقول في قنوته نحوًا من قول رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وقول عمر رضي

(1/263)


الله عنه وكان عمر يقول في القنوت: " اللهم اغفر للمؤمنين والمؤمنات، والمسلمين والمسلمات، وألف بين قلوبهم، وأصلح ذات بينهم، وانصرهم على عدوك وعدوهم، اللهم العن كفرة أهل الكتاب، الذين يكذبون رسلك، ويقاتلون أولياءك، اللهم خالف بين كلمتهم، وزلزل أقدامهم وأنزل بهم بأسك الذي لا يرد عن القوم المجرمين، بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، اللهم إنا نستعينك " رواه أبو داود.

[باب صلاة التطوع]
وهي من أفضل تطوع البدن؛ لقول رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «واعلموا أن من خير أعمالكم الصلاة» رواه ابن ماجه، ولأن فرضها آكد الفروض، فتطوعها آكد التطوع.
وهي تنقسم أربعة أقسام:
القسم الأول: السنن الرواتب، وهي ثلاثة أنواع:
النوع الأول: الرواتب مع الفرائض، وآكدها عشر ركعات، وذكرها ابن عمر، قال: «حفظت من النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عشر ركعات: ركعتين قبل الظهر، وركعتين بعدها، وركعتين بعد المغرب في بيته، وركعتين بعد العشاء في بيته، وركعتين قبل الصبح، كانت ساعة لا يدخل على النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فيها أحد حدثتني حفصة، أنه كان إذا أذن المؤذن، وطلع الفجر، صلى ركعتين» ، متفق عليه.
وآكدها ركعتا الفجر؛ قالت عائشة: «إن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم يكن على شيء من النوافل أشد معاهدة منه على ركعتي الفجر» ، وقال: «ركعتا الفجر أحب إلي من الدنيا وما فيها» رواهما مسلم، وقال: «صلوهما ولو طردتكم الخيل» رواه أبو داود، ويستحب له تخفيفها، لقول عائشة: «كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، يصلي ركعتي الفجر فيخفف، حتى إني لأقول هل قرأ فيهما بفاتحة الكتاب؟» متفق عليه.
ويقرأ فيهما وفي ركعتي المغرب: {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} [الكافرون: 1] ، و {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص: 1] ، قال أبو هريرة: إن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قرأ في ركعتي الفجر: {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} [الكافرون: 1] و {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص: 1] رواه مسلم. وعن ابن مسعود أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «كان يقرأ في الركعتين بعد المغرب {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} [الكافرون: 1] و {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص: 1] » رواه ابن ماجه.
ويستحب ركوعهن في البيت؛ لحديث ابن عمر، ولما روى رافع بن خديج قال: «أتانا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في بني عبد الأشهل فصلى المغرب في مسجدنا، ثم قال: اركعوا هاتين الركعتين في بيوتكم» رواه ابن ماجه. قال أحمد: ليس

(1/264)


هاهنا شيء آكد من الركعتين بعد المغرب، يعني فعلها في البيت.
ويستحب المحافظة على أربع قبل الظهر، وأربع بعدها، لما روت أم حبيبة قالت: سمعت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: «من حافظ على أربع قبل الظهر وأربع بعدها حرمه الله على النار» وقال الترمذي: هذا حديث صحيح.
وعلى أربع قبل العصر، لما روى ابن عمر قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «رحم الله امرأ صلى قبل العصر أربعًا» رواه أبو داود.
وعلى ست بعد المغرب، لما روي عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من صلى بعد المغرب ستًا لم يتكلم بينهن بسوء، عدلن له عبادة ثنتي عشرة سنة» رواه الترمذي.
وعلى أربع بعد العشاء؛ لقول عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: «ما صلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - العشاء قط إلا صلى أربع ركعات، أو ست ركعات» ، رواه أبو داود.

فصل:
في الوتر:
النوع الثاني: الوتر. وهو سنة مؤكدة، لمداومة النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في حضره وسفره، وروى أبو أيوب: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «الوتر حق، فمن أحب أن يوتر بخمس فليفعل، ومن أحب أن يوتر بثلاث فليفعل، ومن أحب أن يوتر بواحدة فليفعل» رواه أبو داود. وحكي عن أبي بكر أنه واجب لذلك، والصحيح أنه ليس بواجب؛ لأنه يصلى على الراحلة من غير ضرورة، ولا يجوز ذلك في واجب.
والكلام فيه في ثلاثة أشياء: وقته، وعدده، وقنوته.
أما وقته: فمن صلاة العشاء إلى صلاة الصبح، لما روى أبو بصرة أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إن الله زادكم صلاة، فصلوها ما بين صلاة العشاء إلى صلاة الصبح، الوتر» رواه الإمام أحمد. وقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «فإذا خشيت الصبح فأوتر بواحدة» متفق عليه.
والأفضل فعله سحرًا؛ لقول عائشة: «من كل الليل قد أوتر رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فانتهى وتره إلى السحر» . متفق عليه، فمن كان له تهجد جعل الوتر بعده، ومن خشي أن لا يقوم أوتر قبل أن ينام؛ لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من خاف أن لا يقوم من آخر الليل فليوتر من أوله، ومن طمع أن يقوم من آخره، فليوتر من آخر الليل، فإن صلاة آخر الليل مشهودة، وذلك أفضل» رواه مسلم.

(1/265)


فمن أوتر قبل النوم، ثم قام للتهجد لم ينقض وتره، وصلى شفعًا حتى يصبح؛ لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا وتران في ليلة» وهذا حديث حسن. ومن أحب تأخير الوتر، فصلى مع الإمام التراويح والوتر، قام إذا سلم الإمام، فضم إلى الوتر ركعة أخرى؛ لتكون شفعًا، ومن فاته الوتر حتى يصبح صلاه قبل الفجر، لما ذكرنا متقدمًا.
وأما عدده، فأقله ركعة لحديث أبي أيوب، وأكثره إحدى عشرة يسلم من كل ركعتين، ويوتر بواحدة لما روت عائشة قالت: «كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يصلي ما بين صلاة العشاء إلى الفجر إحدى عشرة ركعة يسلم من كل ركعتين، ويوتر بواحدة» . متفق عليه. وأدنى الكمال: ثلاث بتسليمتين، لما روى ابن عمر أن «رجلًا سأل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن الوتر، فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: افصل بين الواحدة والثنتين بالتسليم» رواه الأثرم.
فإن أوتر خلف الإمام تابعه فيما يفعله، لئلا يخالفه، قال أحمد: يعجبني أن يسلم في الركعتين، وإن أوتر بثلاث لم يضيق عليه عندي.
ويستحب أن يقرأ في الأولى بـ {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى} [الأعلى: 1] ، وفي الثانية: {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} [الكافرون: 1] ، وفي الثالثة: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص: 1] لما روى أبي بن كعب قال: «كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يوتر بـ {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى} [الأعلى: 1] ، و {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} [الكافرون: 1] ، و {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص: 1] » رواه أبو داود.
وإن أوتر بخمس سردهن، فلم يجلس إلا في آخرهن؛ لأن عائشة قالت: «كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يصلي في الليل ثلاث عشرة ركعة، يوتر في ذلك بخمس، لا يجلس إلا في آخرهن» . متفق عليه. وإن أوتر بتسع لم يجلس إلا بعد الثامنة، ولم يسلم، ثم جلس بعد التاسعة، فتشهد وسلم، وكذلك يفعل في السبع، لما «روى سعد بن هشام قال: قلت لعائشة: أنبئيني عن وتر رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. فقالت: كنا نعد كل سواكه وطهوره، فيبعثه الله ما شاء أن يبعثه، فيتسوك ويصلي تسع ركعات، ولا يجلس فيها إلا في الثامنة، فيذكر الله ويحمد ويدعوه، ثم ينهض ولا يسلم، ثم يقوم فيصلي التاسعة، ثم يقعد فيحمد الله ويذكره ويدعوه، ثم يسلم تسليمًا يسمعنا، ثم يصلي ركعتين بعدما يسلم وهو قاعد، فتلك إحدى عشرة ركعة يا بني، فلما أسن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأخذه اللحم أوتر بسبع، وصنع في الركعتين صنيعه في الأول» رواه مسلم، وأبو داود. وفي حديثه: «أوتر بسبع ركعات لم يجلس فيهن إلا في السادسة والسابعة، ولم يسلم إلا في السابعة» .
وأما القنوت فيه؛ فمسنون في جميع السنة، وعنه: لا يقنت إلا في النصف الأخير من رمضان؛ لأن أبيًا كان يفعل ذلك حين يصلي التراويح، وعن أحمد ما يدل على رجوعه قال في رواية المروذي: قد كنت أذهب إلى أنه في النصف الأخير من رمضان،

(1/266)


ثم إني قنت، هو دعاء وخير، ولأن ما شرع في الوتر في رمضان شرع من غيره كعدده، ويقنت بعد الركوع، لما روى أبو هريرة، وأنس أن «النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قنت بعد الركوع» ، رواه مسلم.
ويقول في قنوته: ما «روى الحسن بن علي قال: علمني رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كلمات أقولهن في الوتر: اللهم اهدني فيمن هديت، وعافني فيمن عافيت، وتولني فيمن توليت، وبارك لي فيما أعطيت، وقني شر ما قضيت، إنك تقضي ولا يقضى عليك، إنه لا يذل من واليت، ولا يعز من عاديت، تباركت ربنا وتعاليت» رواه الترمذي، وقال: لا نعرف عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في القنوت شيئًا أحسن من هذا، وعن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: «كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول في آخر الوتر: اللهم إني أعوذ برضاك من سخطك، وبمعافاتك من عقوبتك، وبك منك، لا أحصي ثناء عليك، أنت كما أثنيت على نفسك» رواه الطيالسي.
وعن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه قنت فقال: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، اللهم إنا نستعينك، ونستهديك، ونستغفرك، ونؤمن بك، ونتوكل عليك، ونثني عليك الخير كله، ونشكرك ولا نكفرك، بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، اللهم إياك نعبد، ولك نصلي ونسجد، وإليك نسعى ونحفد، نرجو رحمتك، ونخشى عذابك، إن عذابك الجد بالكفار ملحق، اللهم عذب كفرة أهل الكتاب الذين يصدون عن سبيلك، وهاتان سورتان من مصحف أبي. وقال ابن قتيبة: نحفد: نبادر، وأصل الحفد: مداركة الخطو، والإسراع. والجد بكسر الجيم أي: الحق لا اللعب، وملحق بكسر الحاء لاحق، وإن فتحها جاز.
وإذا قنت الإمام أمن من خلفه، فإن لم يسمع قنوت الإمام، دعا هو، نص عليه.
ويرفع يديه في القنوت إلى صدره؛ لأن ابن مسعود فعله، وإذا فرغ أمر يديه على وجهه، وعنه: لا يفعل، والأولى أولى؛ لأن السائب بن يزيد قال: «إن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان إذا دعا رفع يديه، ومسح وجهه بيديه» . رواه أبو داود.

فصل:
النوع الثالث: صلاة الضحى، وهي مستحبة، لما روى أبو هريرة قال: «أوصاني خليلي بثلاث: صيام ثلاث أيام من كل شهر، وركعتي الضحى، وأن أوتر قبل أن أنام» ، متفق عليه.
وأقلها ركعتان لحديث أبي هريرة، وأكثرها ثمان ركعات، لما «روت أم هانئ: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - دخل بيتها يوم فتح مكة، وصلى ثمان ركعات، فلم أر قط صلاة أخف منها، غير أنه يتم الركوع والسجود» ، متفق عليه.

(1/267)


ووقتها إذا علت الشمس، واشتد حرها؛ لقوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «صلاة الأوابين حين ترمض الفصال» رواه مسلم. قال أبو الخطاب: يستحب المداومة عليها؛ لحديث أبي هريرة، ولقوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «من حافظ على شفعة الضحى غفرت ذنوبه، وإن كانت مثل زبد البحر» أخرجه الترمذي، ولأن أحب العمل إلى الله أدومه، وقال غيره: لا يستحب ذلك؛ لقول عائشة: «ما رأيت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يصلي الضحى قط.» متفق عليه، ولأن فيه تشبيهًا بالفرائض.

فصل:
والقسم الثاني: ما سن له الجماعة، منها التراويح، وهو قيام رمضان، وهي سنة مؤكدة؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من صام رمضان، وقامه إيمانًا واحتسابًا، غفر له ما تقدم من ذنبه» متفق عليه، وقام النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بأصحابه ثلاث ليال، ثم تركها خشية أن تفرض، فكان الناس يصلون لأنفسهم، حتى خرج عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عليهم وهم أوزاع يصلون، فجمعهم على أبي بن كعب. قال السائب بن يزيد: لما جمع عمر الناس على أبي بن كعب كان يصلي بهم عشرين ركعة؛ فالسنة أن يصلي بهم عشرين ركعة في الجماعة لذلك، ويوتر الإمام بهم بثلاث ركعات، لما روى مالك عن يزيد بن رومان قال: كان الناس يقومون في عهد عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - بثلاث وعشرين ركعة، قال أحمد: يعجبني أن يصلي مع الإمام ويوتر معه؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إن الرجل إذا صلى مع الإمام حتى ينصرف، حسب له قيام ليلة» قال: ويقرأ بالقوم في شهر رمضان ما يخف على الناس، ولا يشق عليهم، قال القاضي: لا تستحب الزيادة على ختمة، لئلا يشق عليهم، ولا النقصان منها، ليسمعهم جميع القرآن، إلا أن يتفق جماعة يؤثرون الإطالة، فلا بأس بها، وسميت هذه تراويح؛ لأنهم كانوا يجلسون بين كل أربعة يستريحون.
وكره أحمد التطوع بينها، وقال: فيه عن ثلاثة من أصحاب النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كراهية، عبادة، وأبو الدرداء وعقبة بن عامر.
ولا يكره التعقيب، وهو أن يصلوا بعد التراويح نافلة في جماعة؛ لأن أنسًا قال: ما يرجعون إلا لخير يرجونه، أو لشر يحذرونه، وعنه: أنه يكره، إلا أنه قول قديم. قال أبو بكر: إن أخروا الصلاة إلى نصف الليل أو آخره لم يكره رواية واحدة، قال أحمد: فإذا أنت فرغت من قراءة: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ} [الناس: 1] ، فارفع يديك في الدعاء قبل الركوع، وادع وأطل القيام، رأيت أهل مكة وسفيان بن عيينة يفعلونه، واختلف أصحابنا في قيام ليلة الشك، فقامها القاضي؛ لأن القيام تبع للصيام، ومنعها أبو حفص العكبري؛ لأن الأصل بقاء شعبان، ترك ذلك في الصيام احتياطًا، ففيما عداه يبقى على الأصل.

(1/268)


فصل:
القسم الثالث: التطوع المطلق، وهو مشروع في الليل والنهار، وتطوع الليل أفضل؛ لقول رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أفضل الصلاة بعد المفروضة صلاة الليل» وهو حديث حسن. والنصف الأخير أفضل، «قال عمرو بن عبسة: قلت: يا رسول الله، أي الليل أسمع؟ قال: جوف الليل الأخير» رواه أبو داود. وقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أحب الصلاة إلى الله، صلاة داود، كان ينام نصف الليل، ويقوم ثلثه، وينام سدسه» متفق عليه.
ويستحب للمتهجد أن يفتتح صلاته بركعتين خفيفتين؛ لقول رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذا قام أحدكم من الليل فليفتتح صلاته بركعتين خفيفتين» رواه مسلم.
ويستحب أن يكون له ركعات معلومة، يقرأ فيها حزبه من القرآن؛ لأن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «أحب العمل إلى الله الذي يدوم عليه صاحبه وإن قل» متفق عليه.
وقالت عائشة: «كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يصلي ما بين أن يفرغ من صلاة العشاء الآخرة إلى الفجر إحدى عشرة ركعة» . رواه مسلم.
وهو مخير إن شاء خافت، وإن شاء جهر، قالت عائشة: «كل ذلك كان يفعل النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ربما أسر وربما جهر» حديث صحيح، إلا أنه إن كان يسمع ما ينفعه، أو يكون أنشط له وأطيب لقلبه، فالجهر أفضل، وإن كان يؤذي أحدًا، أو يخلط عليه القراءة، فالسر أولى، فإن أبا سعيد قال: «اعتكف رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في المسجد، فسمعهم يجهرون بالقراءة، فكشف الستر، وقال: ألا إن كلكم مناج ربه، فلا يؤذين بعضكم بعضًا، ولا يرفع بعضكم على بعض في القراءة» رواه أبو داود.

فصل:
ويستحب أن يختم القرآن في كل سبع؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال لعبد الله بن عمرو: «اقرأ القرآن في كل سبع» متفق عليه.
ويحزبه أحزابًا، لما روى أوس بن حذيفة قال: «قلنا لرسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: لقد أبطأت علينا الليلة، قال: إنه طرأ علي حزبي، فكرهت أن أجيء حتى أتمه. قال أوس: فسألت أصحاب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كيف يحزبون القرآن؟ قال: قالوا: ثلاث وخمس وسبع وتسع، وإحدى عشرة، وثلاث عشرة، وحزب المفصل وحده» . رواه أبو داود.

(1/269)


فصل:
وصلاة الليل مثنى مثنى، لا يزيد على ركعتين؛ لما «روى ابن عمر أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: صلاة الليل مثنى مثنى قيل لابن عمر: ما مثنى مثنى؟ قال: تسلم من كل ركعتين» . متفق عليه.
وإن تطوع في النهار بأربع فلا بأس؛ لأن تخصيص الليل بالتثنية دليل على إباحة الزيادة عليها في النهار.
والأفضل التثنية؛ لأنه أبعد من السهو.

فصل:
والتطوع في البيت أفضل؛ لقول رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «عليكم بالصلاة في بيوتكم، فإن خير صلاة المرء في بيته إلا المكتوبة» . رواه مسلم، ولأنه من عمل السر، ويجوز منفردًا وفي جماعة؛ لأن أكثر تطوع النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان منفردًا، وقد أم ابن عباس في التطوع مرة، وحذيفة مرة، وأنسًا واليتيم مرة، فدل على جواز الجميع.

فصل:
ويجوز التطوع جالسًا؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «صلاة الرجل قاعدًا نصف الصلاة» رواه مسلم، ولأن الحاجة تدعو إلى ذلك؛ لأنه يستحب تطويله وتكثيره، فسومح في ترك القيام تكثيرًا له، ويستحب أن يكون في حال القيام متربعًا، ليخالف حالة الجلوس، ويثني رجليه حال السجود؛ لأن حال الركوع كحال القيام، وقال الخرقي: يثنيها في الركوع أيضًا لأن ذلك يروى عن أنس، وإن صلى على غير هذه الهيئة جاز، وإذا بلغ الركوع فإن شاء قام، ثم ركع لما روت عائشة قالت: «لم أر رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يصلي صلاة الليل قاعدًا حتى أسن، فكان يقرأ قاعدًا حتى إذا أراد أن يركع، قام فقرأ نحوًا من ثلاثين آية، أو أربعين آية، ثم ركع» . متفق عليه.
وإن شاء ركع من قعود، لما روت عائشة: «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يصلي ليلًا طويلًا قائمًا، وليلًا طويلًا قاعدًا، وكان إذا قرأ وهو قائم، ركع وسجد وهو قائم، وإذا قرأ وهو قاعد ركع وسجد وهو قاعد» . رواه مسلم.

فصل:
القسم الرابع: صلوات لها أسباب، منها تحية المسجد، لما روى أبو قتادة قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذا دخل أحدكم المسجد فليركع ركعتين قبل أن يجلس» متفق عليه.

(1/270)


ومنها صلاة الاستخارة، قال جابر: «كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يعلمنا الاستخارة في الأمور كلها كما يعلمنا السورة من القرآن، يقول: إذا هم أحدكم في الأمر؛ فليركع ركعتين من غير الفريضة، ثم ليقل: اللهم إني أستخيرك بعلمك وأستقدرك بقدرتك، وأسألك من فضلك العظيم، فإنك تقدر ولا أقدر، وتعلم ولا أعلم، وأنت علام الغيوب، اللهم إن كنت تعلم أن هذا الأمر خير لي في ديني ومعاشي ومعادي وعاقبة أمري - أو قال: في عاجل أمري وآجله - فاقدره لي، ويسره لي، ثم بارك لي فيه، وإن كنت تعلم أن هذا الأمر شر لي، في ديني ومعاشي وعاقبة أمري - أو قال: في عاجل أمري وآجله - فاصرفه عني، واصرفني عنه، واقدر لي الخير حيث كان، ثم رضني به» أخرجه البخاري.

فصل:
وسجود التلاوة سنة للقارئ والمستمع؛ لأن ابن عمر قال: «كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقرأ علينا السورة من غير الصلاة، فيسجد ونسجد معه، حتى لا يجد أحدنا مكانًا لوضع جبهته» متفق عليه. ولا يسن للسامع عن غير قصد؛ لأن عثمان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - مر بقاص، فقرأ سجدة ليسجد عثمان معه، فلم يسجد، وقال: إنما السجدة على من استمع.
ويشترط كون التالي يصلح إمامًا للمستمع، لما روي «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أتى إلى نفر من أصحابه، فقرأ رجل منهم سجدة، ثم نظر إلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: إنك كنت إمامنا، ولو سجدت لسجدنا» رواه الشافعي.
ويسجد القارئ لسجود الأمي والقادر على القيام بالعاجز عنه؛ لأن ذلك ليس بواجب فيه، ولا يقوم الركوع مقام السجود؛ لأنه سجود مشروع فأشبه سجود الصلاة، وإن كانت السجدة آخر السورة سجد ثم قام فقرأ شيئًا ثم ركع، وإن أحب قام، ثم ركع من غير قراءة، وإن شاء ركع في آخر السورة؛ لأن السجود يؤتى به عقيب الركوع.

فصل:
[في أن سجود التلاوة غير واجب] :
وسجود التلاوة غير واجب؛ لأن زيد بن ثابت قال: «قرأت على النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - النجم،

(1/271)


فلم يسجد منا أحد» متفق عليه. وقال عمر: يا أيها الناس، إنما نمر بالسجود، فمن سجد فقد أصاب، ومن لم يسجد فلا إثم عليه، ولم يكتبها الله علينا.
وله أن يومئ بالسجود على الراحلة، كصلاة السفر، ويشترط له ما يشترط للنافلة، ويكبر للسجود تكبيرة واحدة في الصلاة وفي غيرها؛ لأن ابن عمر قال: «كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقرأ علينا القرآن، فإذا مر بالسجدة، كبر وسجد، وسجدنا معه» ، ويرفع يديه في غير الصلاة؛ لأنها تكبيرة افتتاح، وإن كان في صلاة، ففيها روايتان، ويكبر للرفع منه؛ لأنه رفع من سجود أشبه سجود الصلاة، ويسلم إذا رفع تسليمة واحدة؛ لأنها صلاة ذات إحرام، فأشبهت صلاة الجنازة.
وعنه: لا سلام له؛ لأنه لم ينقل عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ولا يفتقر إلى تشهد، ولا يسجد فيه لسهو؛ لأنه لا ركوع فيه أشبه صلاة الجنازة، ولا يفتقر إلى قيام؛ لأنه لا قراءة فيه، ويقول فيه ما يقول في سجود الصلاة، فإن قال ما روت عائشة: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «كان يقول في سجود القرآن: سجد وجهي للذي خلقه وصوره، وشق سمعه وبصره، بحوله وقوته» فحسن، وهذا حديث صحيح. فإن قال غيره مما ورد في الأخبار فحسن.

فصل:
وسجدات القرآن، أربع عشرة سجدة: في (الحج) منها اثنتان، وثلاث في المفصل، وعنه: أنها خمس عشرة سجدة، منها سجدة (ص) ؛ لما «روى عمرو بن العاص أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أقرأه خمس عشرة سجدة؛ منها ثلاث في المفصل، وسجدتان في الحج» رواه أبو داود. والصحيح أن سجدة - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ليست من عزائم السجود؛ لما روى ابن عباس أنه قال: ليست (ص) من عزائم السجود رواه أبو داود.
ومواضع السجدات ثابتة بالإجماع، إلا سجدات المفصل، والثانية من الحج، وقد ثبت ذلك بحديث عمرو. «وروى عقبة بن عامر أنه قال: يا رسول الله، أفي الحج سجدتان؟ قال: نعم، ومن لم يسجدهما لا يقرأهما» رواه أبو داود. وأول السجدات آخر الأعراف، وفي الرعد عند قوله: {بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ} [الرعد: 15] ، وفي النحل عند: {وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [النحل: 50] ، وفي سبحان عند {يَزِيدُهُمْ إِلا} [الإسراء: 41] ، وفي مريم عند: {خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا} [مريم: 58] ، وفي الحج: الأولى عند: {يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ} [الحج: 18]

(1/272)


والثانية عند: {لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [الحج: 77] وفي الفرقان عند: {وَزَادَهُمْ نُفُورًا} [الفرقان: 60] ، وفي النمل عند: {الْعَرْشِ الْعَظِيمِ} [النمل: 26] ، وفي {الم - تَنْزِيلُ} [السجدة: 1 - 2] عند: {وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ} [السجدة: 15] وفي حم السجدة عند: {وَهُمْ لا يَسْأَمُونَ} [فصلت: 38] وفي آخر النجم، وفي: {إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ} [الانشقاق: 1] عند: {لا يَسْجُدُونَ} [الانشقاق: 21] ، وآخر اقرأ، ويكره اختصار السجود، وهو أن يجمع آيات السجدات فيقرأها في ركعة، وقيل: أن يحذف آيات السجدات في قراءته، وكلاهما مكروه؛ لأنه محدث، وفيه إخلال بالترتيب.

فصل:
وسجود الشكر مستحب عند تجدد النعم، لما روى أبو بكرة قال: «كان النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا جاءه شيء يسر به خر ساجدًا» ، وصفته وشروطه كصفة سجود التلاوة وشروطها، ولا يسجد للشكر في الصلاة؛ لأن سببه ليس منها، فإن فعل بطلت، كما لو سجد في الصلاة لسهو صلاة أخرى.

[باب سجود السهو]
وإنما يشرع لجبر خلل الصلاة، وهو ثلاثة أقسام: زيادة، ونقص، وشك.
والزيادة ضربان: زيادة أقوال، تتنوع ثلاثة أنواع:
أحدها: أن يأتي بذكر مشروع في غير محله، كالقراءة في الركوع والسجود والجلوس، والتشهد في القيام، والصلاة على النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في التشهد الأول، ونحوه فهذا لا يبطل الصلاة بحال؛ لأنه ذكر مشروع في الصلاة، ولا يجب له سجود؛ لأن عمده غير مبطل، وهل يسن السجود لسهوه؟ فيه روايتان:
إحداهما: يسن؛ لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذا نسي أحدكم فليسجد سجدتين» .
والثانية: لا يسن؛ لأن عمده غير مبطل، فأشبه العمل اليسير.

(1/273)


الثاني: أن يسلم في الصلاة قبل إتمامها، فإن كان عمدًا بطلت صلاته؛ لأنه تكلم فيها، وإن كان سهوًا، وطال الفصل، بطلت أيضًا، لتعذر بناء الباقي عليها، وإن ذكر قريبًا أتم صلاته، وسجد بعد السلام.
فإن كان قد قام، فعليه أن يجلس لينهض عن جلوس؛ لأن القيام واجب للصلاة، ولم يأت به قاصدًا لها، والأصل فيه، ما روى أبو هريرة قال: «صلى بنا النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إحدى صلاتي العشي، فصلى ركعتين ثم سلم، فقام إلى خشبة معروضة في المسجد، فوضع يده عليها كأنه غضبان، شبك بين أصابعه، ووضع يده اليمنى على ظهر كفه اليسرى، وخرج السرعان من أبواب المسجد، فقالوا: قصرت الصلاة، وفي القوم أبو بكر وعمر، فهاباه أن يكلماه، وفي

(1/274)


القوم رجل في يديه طول، يقال له: ذو اليدين، فقال له: يا رسول الله، أنسيت أم قصرت الصلاة؟ قال: لم أنس ولم تقصر، فقال: أكما يقول ذو اليدين؟ قالوا: نعم. قال: فتقدم فصلى ما ترك من صلاته، ثم سلم، ثم كبر فسجد مثل سجوده أو أطول، ثم رفع رأسه فكبر، ثم كبر وسجد مثل سجوده أو أطول، ثم رفع رأسه فكبر» متفق عليه.
وإن انتقض وضوؤه أو دخل في صلاة أخرى، أو تكلم من غير شأن الصلاة، كقوله: اسقني ماء فسدت صلاته، وإن تكلم مثل كلام النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وذي اليدين، ففيه ثلاث روايات:
إحداهن: لا تفسد؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأبا بكر وعمر وذا اليدين تكلموا ثم أتموا صلاتهم.
والثانية: لا تفسد صلاة الإمام؛ لأن له أسوة بالنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وتفسد صلاة المأموم؛ لأنه

(1/275)


لا يمكنه التأسي بأبي بكر وعمر؛ لأنهما تكلما مجيبين للنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وإجابته واجبة، ولا بذي اليدين؛ لأنه تكلم سائلًا عن قصر الصلاة في زمن يمكن ذلك فيه، فعذر، بخلاف غيره، واختارها الخرقي.
والثالثة: تفسد صلاتهم؛ لعموم قول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إن صلاتنا هذه لا يصلح فيها شيء من كلام الناس» اختارها أبو بكر، والأول أولى.
النوع الثالث: أن يتكلم من صلب الصلاة، فإن كان عمدًا أبطل الصلاة إجماعًا لما رويناه، ولما روى زيد بن أرقم، قال: «كنا نتكلم في الصلاة؛ يكلم الرجل صاحبه، حتى نزلت: {وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} [البقرة: 238] فأمرنا بالسكوت، ونهينا عن الكلام» متفق عليه. وإن تكلم ناسيًا، أو جاهلًا بتحريمه ففيه روايتان:
إحداهما: يبطلها، لما روينا، ولأنه من غير جنس الصلاة، فأشبه العمل الكثير.
والثانية: لا يفسدها، لما «روى معاوية بن الحكم السلمي، قال: بينما أنا أصلي مع النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، إذ عطس رجل من القوم، فقلت: يرحمك الله، فرماني القوم بأبصارهم، فقلت: واثكل أمياه! ما شأنكم تنظرون إلي؟! فجعلوا يضربون بأيديهم على أفخاذهم لكي أسكت، فلما صلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فبأبي هو وأمي، ما رأيت معلمًا قبله ولا بعده أحسن تعليمًا منه، فوالله ما كهرني، ولا ضربني، ولا شتمني، ثم قال: إن هذه الصلاة لا يصلح فيها شيء من كلام الناس، إنما هي التسبيح والتكبير وقراءة القرآن» رواه مسلم. فلم يأمره النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بالإعادة لجهله، والناسي في معناه.

(1/276)


وإن غلب بكاء، فنشج بما انتظم حروفًا لم تفسد صلاته، نص عليه؛ لأن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - كان يسمع نشيجه من وراء الصفوف، وإن غلط في القراءة وأتى بكلمة من غيره لم تفسد صلاته؛ لأنه لا يمكنه التحرز منه.
وإن نام فتكلم احتمل وجهين:
أحدهما: لا تفسد صلاته؛ لأنه عن غلبة، أشبه ما تقدم.
والثاني: أنه ككلام الناسي، وإن شمت عطاسًا، أفسد صلاته لحديث معاوية، وكذلك إن رد سلامًا، أو سلم على إنسان؛ لأنه من كلام الآدميين، فأشبه تشميت العاطس، وإن قهقه بطلت صلاته؛ لأن جابرًا روى أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «القهقهة تنقض الصلاة، ولا تنقض الوضوء» رواه الدارقطني.
والكلام المبطل ما انتظم حرفين فصاعدًا؛ لأنه أقل ما ينتظم منه الكلام، وقد «روي عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه نفخ في الصلاة، وتنحنح فيها» ، وهو محمول على أنه لم يأت بحرفين، أو لم يأت بحرفين مختلفين.

فصل:
الثاني: زيادة الأفعال، وهي ثلاثة أنواع:
أحدهما: زيادة من جنس الصلاة، كركعة أو ركوع أو سجود، فمتى كان عمدًا أبطلها، وإن كان سهوًا سجد له؛ لما «روى ابن مسعود، قال: صلى بنا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خمسًا، فلما انفتل من الصلاة توشوش القوم بينهم، فقال: ما شأنكم؟ قالوا: يا رسول الله، هل زيد في الصلاة شيء؟ قال: لا قالوا: إنك صليت خمسًا، فانفتل وسجد سجدتين، ثم سلم، ثم قال: إنما أنا بشر مثلكم، أنسى كما تنسون، فإذا نسي أحدكم فليسجد سجدتين، وفي لفظ: فإذا زاد الرجل أو نقص فليسجد سجدتين» رواه مسلم.
ومتى قام الرجل إلى ركعة زائدة، فلم يذكر حتى سلم، سجد للحال، وإن ذكر قبل السلام سجد ثم سلم، وإن ذكر في الركعة، جلس على أي حال كان، فإن كان قيامه قبل التشهد تشهد ثم سجد ثم سلم، وإن كان بعده سجد ثم سلم، وإن كان تشهد ولم يصل على النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلى عليه، ثم سجد وسلم.

(1/277)


فصل:
وإذا سها الإمام فزاد أو نقص فعلى المأمومين تنبيهه؛ لما «روى ابن مسعود أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلى فزاد أو نقص، ثم قال: إنما أنا بشر، أنسى كما تنسون، فإذا نسيت فذكروني» ، «وعن سهل بن سعد قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: إذا نابكم أمر فليسبح الرجال، وليصفح النساء» ، وفي لفظ: «التسبيح للرجال، والتصفيق للنساء» متفق عليه.
وإذ سبح به اثنان، لزمه الرجوع إليهما؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رجع إلى قول أبي بكر وعمر، وأمر بتذكيره ليرجع، فإن لم يرجع بطلت صلاته؛ لأنه ترك الواجب عمدًا، وليس لهم اتباعه لبطلان صلاته، فإن اتبعوه بطلت صلاتهم، إلا أن يكونوا جاهلين، فلا تبطل؛ لأن أصحاب النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تابعوه في الخامسة، وإن فارقوه وسلموا صحت صلاتهم، وذكر القاضي رواية أخرى: أنهم يتابعونه استحبابًا، ورواية ثالثة: أنهم ينتظرونه، اختارها ابن حامد، وإن كان الإمام على يقين من صواب نفسه لم يرجع؛ لأن قولهما: إنما يفيد الظن، واليقين أولى.
وإن سبح به واحد لم يرجع نص عليه؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم يرجع بقول ذي اليدين وحده، وإن سبح به من يعلم فسقه لم يرجع؛ لأن خبره غير مقبول، وإن افترق المأمومون طائفتين سقط قولهم؛ لتعارضه عنده، وإن نسي التشهد الأول، فسبحوا به، بعد انتصابه قائمًا، لم يرجع، ويتابعونه في القيام، لما «روى زياد بن علاقة قال: صلى بنا المغيرة بن شعبة، فلما صلى ركعتين، قام ولم يجلس، فسبح به من خلفه، فأشار إليهم قوموا، فلما فرغ من صلاته سلم، وسجد سجدتين وسلم، وقال: هكذا صنع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -» رواه الإمام أحمد.
وإن رجع بعد شروعه في القراءة لم يتابعوه؛ لأنه خطأ، فإن سبحوا به قبل قيامه لزمه الرجوع، فإن لم يرجع تشهدوا لأنفسهم وتابعوه؛ لأنه ترك واجبًا تعين عليهم، فلم يجز لهم اتباعه في تركه، وإن ذكر التشهد قبل انتصابه فرجع إليه بعد قيام المأمومين وشروعهم في القراءة لزمهم الرجوع؛ لأنه رجع إلى واجب، فلزمهم متابعته، ولا عبرة بما فعلوه قبله.
النوع الثاني: زيادة من غير جنس الصلاة، كالمشي والحك، والتروح، فإن كثر متواليًا أبطل الصلاة إجماعًا، وإن قل لم يبطلها، لما «روى أبو قتادة أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلى وهو حامل أمامة بنت أبي العاص بن الربيع إذا قام حملها، وإذا سجد وضعها» متفق عليه.
وروي عنه أنه فتح الباب لعائشة وهو في الصلاة، ولا فرق بين العمد والسهو فيه؛ لأنه من غير جنس الصلاة، ولا يشرع له سجود لذلك، واليسير: ما شابه فعل

(1/278)


النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فيما رويناه، ومثل تقدمه وتأخره في صلاة الكسوف، والكثير: ما زاد على ذلك مما عد كثيرًا في العرف؛ فيبطل الصلاة، إلا أن يفعله متفرقًا.
النوع الثالث: الأكل والشرب، متى أتى بهما في الفريضة عمدًا بطلت؛ لأنهما ينافيان الصلاة، والنافلة كالفريضة.
وعنه: لا يبطلها اليسير، والأولى أولى؛ لأن ما أبطل الفريضة أبطل النافلة، كالعمل الكثير، وإن فعلها سهوًا وكثر ذلك بطلت الصلاة؛ لأنه عمل كثير، وإن قل فكذلك؛ لأنه من غير جنس الصلاة، فسوى بين عمده وسهوه كالمشي.
وعنه: لا يبطل؛ لأنه سوى بين قليله وكثيره في العمد، فعفي عنه في السهو كالسلام، فعلى هذا يسجد له؛ لأنه تبطل الصلاة بعمده، وعفي عن سهوه، فيسجد له كجنس الصلاة.
ومن ترك في فيه ما يذوب كالسكر، وابتلع ما يذوب منه، فهو أكل، وإن بقي في فمه أو بين أسنانه يسير من بقايا الطعام يجري به الريق فابتلعه، لم تبطل صلاته؛ لأنه لا يمكنه التحرز منه، وإن ترك في فيه لقمة، لم يبلعها لم تبطل صلاته؛ لأنه عمل يسير، ويكره؛ لأنه يشغل عن خشوعها وقراءتها، فإن لاكها فهو كالعمل، وإن كثر أبطل، وإلا فلا.

فصل:
القسم الثاني: النقص، وهو ثلاثة أنواع:
أحدها: ترك ركن، كركوع أو سجود، فإن كان عمدًا أبطل الصلاة، وإن كان سهوًا فله أربعة أحوال:
أحدها: لم يذكره حتى سلم، وطال الفصل، فتفسد صلاته، لتعذر البناء مع طول الفصل.
الثاني: ذكره قريبًا من التسليم، فإنه يأتي بركعة كاملة؛ لأن الركعة التي ترك الركن منها، بطلت بتركه، والشروع في غيرها، فصارت كالمتروكة.
الثالث: ذكر المتروك قبل شروعه في قراءة الركعة الأخرى، فإنه يعود فيأتي بما تركه، ثم يبني على صلاته، فإن سجد سجدة، ثم قام قبل جلسة الفصل فذكر، جلس للفصل، ثم سجد ثم قام، وإن ترك السجود وحده، سجد ولم يجلس؛ لأنه لم يتركه، ولو جلس للاستراحة لم يجزئه عن جلسة الفصل؛ لأنه نوى بجلوسه النفل، فلم يجزئه

(1/279)


عن الفرض، كمن سجد للتلاوة لم يجزئه عن سجود الصلاة، ويسجد للسهو، فإن لم يعد إلى فعل ما تركه، فسدت صلاته؛ لأنه ترك الواجب عمدًا، إلا أن يكون جاهلًا.
الحال الرابع: ذكر بعد شروعه في قراءة الفاتحة في ركعة أخرى، فتبطل الركعة التي ترك ركنها وحدها، ويجعل الأخرى مكانها، ويتم صلاته، ويسجد قبل السلام.
وإن ترك ركنين مع ركعتين، أتى بركعتين مكانها.
وإن ترك أربع سجدات من أربع ركعات، وذكر وهو في التشهد سجد سجدة، تصح له الركعة الرابعة، ويأتي بثلاث ركعات، ويسجد للسهو، وعنه: أن صلاته تبطل؛ لأنه يفضي إلى عمل كثير غير معتد به.
وإن ذكر وهو في التشهد أنه ترك سجدة من الرابعة، سجد في الحال، ثم تشهد وسجد للسهو، فإن لم يعلم من أي الركعات تركها، جعلها من ركعة قبلها، ليلزمه ركعة، وإن ذكر في الركعة أنه ترك ركنًا لم يعلم أركوع هو أم سجود؟ جعله ركوعًا، ليأتي به، ثم بما بعده كيلا يخرج من الصلاة على شك.
النوع الثاني: ترك واجبا غير ركن عمدًا، كالتكبير غير تكبيرة الإحرام، وتسبيح الركوع والسجود؛ بطلت صلاته إن قلنا بوجوبه، وإن تركه سهوًا سجد للسهو قبل السلام؛ لما «روى عبد الله بن مالك ابن بحينة قال: صلى بنا النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الظهر، فقام في الركعتين، فلم يجلس، فقام الناس معه، فلما قضى الصلاة وانتظر الناس تسليمه، كبر فسجد سجدتين قبل أن يسلم ثم سلم» متفق عليه. فثبت هذا بالخبر، وقسنا عليه سائر الواجبات، وإن ذكر التشهد قبل انتصابه قائمًا، رجع فأتى به، وإن ذكر بعد شروعه في القراءة، لم يرجع لذلك؛ لأنه تلبس بركن مقصود، فلم يرجع إلى واجب، وإن ذكره بعد قيامه، وقبل شروعه في القراءة لم يرجع أيضًا لذلك، لما «روى المغيرة بن شعبة، عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: إذا قام أحدكم في الركعتين فلم يستتم قائمًا جلس، فإن استتم قائمًا لم يجلس وسجد سجدتي السهو» رواه أبو داود.
وقال أصحابنا: وإن رجع في هذه الحال لم تفسد صلاته، ولا يرجع إلى غيره من الواجبات؛ لأنه لو رجع إلى الركوع لأجل تسبيحة لزاد ركوعًا في صلاته، وأتى بالتسبيح في ركوع غير مشروع.

(1/280)


النوع الثالث: ترك سنة، فلا تبطل الصلاة بتركها عمدًا ولا سهوًا، ولا سجود عليه؛ لأنه شرع للجبر، فإن لم يكن الأصل واجبًا فجبره أولى، ثم إن كان المتروك من سنن الأفعال لم يشرع له السجود؛ لأنه يمكن التحرز منه، وإن كان من سنن الأقوال ففيه روايتان:
أحدهما: لا يسن له السجود كسنن الأفعال.
والثانية: يسن؛ لقوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «إذا نسي أحدكم فليسجد سجدتين» .

فصل:
القسم الثالث: الشك، وفيه ثلاث مسائل:
إحداهن: شك في عدد الركعات، ففيه ثلاثة روايات:
إحداهن: يبني على غالب ظنه، ويتم صلاته، ويسجد بعد السلام؛ لما روى ابن مسعود قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذا شك أحدكم في صلاته فليتحر الصواب، فليتم عليه، ثم ليسجد سجدتين متفق عليه، وللبخاري: " بعد التسليم» .
الثانية: يبني على اليقين، لما روى أبو سعيد قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذا شك أحدكم في صلاته فلم يدر كم صلى أثلاثًا أو أربعًا؟ فليطرح الشك، وليبن على ما استيقن، ثم يسجد سجدتين قبل أن يسلم، فإن كان صلى خمسًا شفعن له صلاته، وإن كان صلى أربعًا كانتا ترغيمًا للشيطان» رواه مسلم.
والرواية الثالثة: يبني الإمام على غالب ظنه، والمنفرد على اليقين؛ لأن للإمام من يذكره إن غلط، فلا يخرج منها على شك، والمنفرد يبني على اليقين؛ لأنه لا يأمن الخطأ، وليس له من يذكره، فلزمه البناء على اليقين، كيلا يخرج من الصلاة شاكًا فيها، وهذا ظاهر المذهب.
المسألة الثانية: شك في ركن من الصلاة، فحكمه حكم تاركه؛ لأن الأصل عدمه.

(1/281)


المسألة الثالثة: شك فيما يوجب سجود السهو، من زيادة أو ترك واجب، ففيه وجهان:
أحدهما: لا سجود عليه؛ لأن الأصل عدم وجوبه، فلا يجب بالشك.
والثاني: إن شك في زيادة لم يسجد؛ لأن الأصل عدمها، وإن شك في ترك واجب لزمه السجود؛ لأن الأصل عدمه، وإنما يؤثر الشك إذا وجد في الصلاة، فإن شك بعد سلامها لم يلتفت إليه؛ لأن الظاهر الإتيان بها على الوجه المشروع؛ لأن ذلك يكثر فيشق الرجوع إليه فسقط، وهكذا الشك في سائر العبادات بعد فراغه منها.

فصل:
وسجود السهو لما يبطل عمده الصلاة واجب؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فعله وأمر به، ولأنه شرع لجبر واجب، فكان واجبًا كجبرانات الحج، وجميعه قبل السلام؛ لأنه من تمامها وشأنها، فكان قبل سلامها كسجود صلبها، إلا في ثلاثة مواضع:
أحدها: إذا سلم من نقصان في صلاته سجد بعد السلام؛ لحديث ذي اليدين.
الثاني: إذا بنى على غالب ظنه سجد بعد السلام لحديث ابن مسعود.
الثالث: إذا نسي السجود قبل السلام سجده بعده؛ لأنه فاته الواجب فقضاه، وعن أحمد: أن جميعه قبل السلام، إلا أن ينساه قبل أن يسلم.
وعنه: ما كان من زيادة فهو بعد السلام؛ لحديث ذي اليدين، وما كان من نقصان أو شك كان قبله؛ لحديث ابن بحينة وأبي سعيد، فمن سجد قبل السلام جعله بعد فراغه من التشهد؛ لحديث ابن بحينة: فيكبر للسجود والرفع منه، ويسجد سجدتين كسجدتي صلب الصلاة، ويسلم عقيبها، وإن سجد بعد السلام كبر للسجود والرفع منه؛ لحديث ذي اليدين، ويتشهد ويسلم، لما «روى عمران بن حصين: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلى بهم فسها، فسجد سجدتين، ثم تشهد وسلم» وهذا حديث حسن، ولأنه سجود يسلم له، فكان معه تشهد كسجود صلب الصلاة، فإن نسي السجود فذكره قبل طول الفصل سجد وإن تكلم.
وقال الخرقي: يسجد ما لم يخرج من المسجد، وإن تكلم؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سجد بعد السلام والكلام رواه مسلم.
وإن نسيه حتى طال الفصل، أو خرج من المسجد، على قول الخرقي، سقط؛ وعنه: يعيد الصلاة.

(1/282)


وقال أبو الخطاب: إن ترك المشروع قبل السلام عامدًا بطلت صلاته؛ لأنه ترك واجبًا فيها عمدًا، وإن ترك المشروع بعد السلام عمدًا أو سهوًا لم تبطل صلاته؛ لأنه ترك واجبًا ليس منها، فلم تبطل بتركه كجبرانات الحج.

فصل:
فإن سها سهوين محل سجودهما واحد، كفاه أحدهما؛ لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذا نسي أحدكم فليسجد سجدتين» ، ولأن السجود إنما أخر ليجمع السهو كله، ولولا ذلك فعله عقيب السهو؛ لأنه سببه، وإن كان أحدهما قبل السلام والآخر بعده ففيه وجهان:
أحدهما: يجزئه سجود واحد لذلك، ويسجد قبل السلام؛ لأنه أسبق وآكد، ولم يسبقه ما يقوم مقامه فلزمه الإتيان بخلاف الثاني.
والثاني: يأتي بهما في محلهما؛ لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لكل سهو سجدتان» رواه أبو داود.

فصل:
وليس على المأموم سجود لسهوه، فإن سها إمامه فعليه السجود معه، لما روى ابن عمر: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «ليس على من خلف الإمام سهو، فإن سها إمامه فعليه وعلى من خلفه» رواه الدارقطني، ولأن المأموم تابع لإمامه، فلزمه متابعته في السجود وفي تركه.
ويسجد المسبوق مع إمامه في سهوه الذي لم يدركه، فإن كان السجود بعد السلام لم يقم المسبوق حتى يسجد معه.
وعنه: لا سجود عليه هاهنا، والأول المذهب، فإن قام ولم يعلم، فسجد الإمام رجع فسجد معه إن لم يكن استتم قائمًا، وإن استتم قائمًا مضى، ثم سجد في آخر صلاته قبل سلامه؛ لأنه قام عن واجب، فأشبه تارك التشهد الأول، وإن سجد مع الإمام ففيه روايتان:
إحداهما: يعيد السجود؛ لأن محله آخر الصلاة، وإن سجد مع إمامه تبعًا، فلم يسقط المشروع في محله كالتشهد.

(1/283)


والثانية: لا يسجد؛ لأنه قد سجد وانجبرت صلاته، وإن لم يسجد مع إمامه سجد وجهًا واحدًا.
وإن ترك الإمام السجود، فهل يسجد المأموم؟ فيه روايتان:
إحداهما: يسجد لأن صلاته نقصت بسهو إمامه، ولم يجبرها فلزمه جبرها.
والثانية: لا يسجد؛ لأنه إنما يسجد تبعًا، فإن لم يوجد المتبوع لم يجب التبع.

فصل:
والنافلة كالفريضة في السجود؛ لعموم الأخبار، ولأنها في معناها، ولا يسجد لسهو في سجود السهو؛ لأنه يفضي إلى التسلسل، ولا في صلاة جنازة؛ لأنه لا سجود في صلبها، ففي جبرها أولى، ولا يسجد لفعل عمد؛ لأن السجود سجود للسهو، ولأن العمد إن كان لمحرم أفسد الصلاة، وإن كان في غيره فلا عذر عليه، والسجود إنما شرع في محل العذر.

فصل:
ومن أحدث عمدًا بطلت صلاته؛ لأنه أخل بشرطها عمدًا، وإن سبقه الحدث أو طرأ عليه ما يفسد طهارته، كظهور قدمي الماسح، وانقضاء مدة المسح، ومن به سلس لبول؛ بطلت صلاته.
وعنه فيمن سبقه الحدث: يتوضأ ويبني، وهذه الصور في معناها، والمذهب الأول؛ لأن الصلاة لا تصح من محدث في عمد ولا سهو، وله أن يستخلف من يتم بهم الصلاة.
وعنه: ليس له ذلك؛ لأن صلاته باطلة، والمذهب الأول؛ لأن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - حين طعن أخذ بيد عبد الرحمن بن عوف فقدمه، فأتم بهم الصلاة، فلم ينكره أحد فكان إجماعًا، وإن لم يستخلف، فاستخلف الجماعة لأنفسهم، أو صلوا وحدانًا جاز.
قال أصحابنا: وله استخلاف من لم يكن معه في الصلاة؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - دخل في صلاة أبي بكر، ولم يكن معه، فأخذ من حيث انتهى إليه أبو بكر، فإن كان مسبوقًا ببعض الصلاة، فتمت صلاة المأمومين قبله، وجلسوا يتشهدون، وقام هو فأتم صلاته، ثم أدركهم فسلم بهم، ولا يسلمون قبله؛ لأن الإمام ينتظر المأمومين في صلاة الخوف، فالمأمومون أولى بانتظاره.

(1/284)


[باب ما يكره في الصلاة]
يكره الالتفات لغير حاجة؛ لأن «عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قالت: سألت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن التفات الرجل وهو في الصلاة، فقال: هو اختلاس يختلسه الشيطان من صلاة الرجل» حديث صحيح، ولا تبطل الصلاة به، ما لم يستدر بجملته، أو يستدبر القبلة.
ولا يكره للحاجة؛ لأن «سهل ابن الحنظلية قال: جعل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يصلي وهو يلتفت إلى الشعب، قال: وكان بعث أنس بن أبي مرثد طليعة» رواه أبو داود.
«وقال ابن عباس: كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يلتفت يمينًا وشمالًا، ولا يلوي عنقه خلف ظهره» رواه النسائي. ويكره رفع البصر لما روى البخاري أن أنسًا قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ما بال أقوام يرفعون أبصارهم إلى السماء في صلاتهم - فاشتد قوله في ذلك حتى قال: - لينتهن عن ذلك، أو لتخطفن أبصارهم» ويكره أن يصلي ويده على خاصرته؛ لما «روى أبو هريرة: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى أن يصلي الرجل متخصرًا» متفق عليه. ويكره أن يكف شعره، أو ثيابه، أو يشمر كميه؛ لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أمرت أن أسجد على سبعة أعظم، ولا أكف شعرًا ولا ثوبًا» متفق عليه. ويكره أن يصلي معقوصًا أو مكتوفًا؛ لما «روي: أن ابن عباس رأى عبد الله بن الحارث يصلي ورأسه معقوص فحله، وقال: إني سمعت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: إنما مثل هذا، مثل الذي يصلي وهو مكتوف» رواه الأثرم.
ويكره أن يشبك أصابعه؛ لما روي: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رأى رجلًا قد شبك أصابعه، في الصلاة ففرج بين أصابعه» رواه ابن ماجه. ويكره فرقعة الأصابع؛ لما روي عن علي بن أبي طالب: أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا تقعقع أصابعك، وأنت في الصلاة» رواه ابن

(1/285)


ماجه.
ويكره التروح؛ لأنه من العبث، ويكره أن يعتمد على يده في الجلوس؛ لما روى ابن عمر قال: «نهى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن يجلس الرجل وهو يعتمد على يديه» رواه أبو داود. ويكره مسح الحصى؛ لما روى أبو ذر قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذا قام أحدكم في الصلاة فإن الرحمة تواجهه، فلا يمسح الحصى» من المسند. ويكره أن يكثر الرجل مسح جبهته؛ لقول ابن مسعود: إن من الجفاء أن يكثر الرجل مسح جبهته قبل أن يفرغ من الصلاة. ويكره النظر إلى ما يلهيه؛ لما «روت عائشة قالت: صلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في خميصة لها أعلام، فقال: شغلتني أعلام هذه، اذهبوا بها إلى أبي جهم بن حذيفة، وائتوني بأنبجانيته» متفق عليه.
ويكره أن يصلي وبين يديه ما يلهيه؛ «لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لعائشة: أميطي عنا قرامك هذا، فإنه ما تزال تصاويره تعرض لي في صلاتي» رواه البخاري. ويكره كثرة التميل؛ لقول عطاء: إني لأحب أن يقل فيه التحريك. وأن يعتدل قائمًا على قدميه إلا أن يكون إنسانًا كبيرًا لا يستطيع ذلك، فأما التطوع فإنه يطول على الإنسان، فلا بد من التوكي على هذا مرة، وعلى هذا مرة، وكان ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لا يفرج بين قدميه ولا يمس إحداهما الأخرى، ولكن بين ذلك، ويكره تغميض العين، نص عليه أحمد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وقال: هو من فعل اليهود، ويكره العبث كله، وما يذهب بخشوع الصلاة، ولا تبطل الصلاة بشيء من هذا إلا ما كان عملًا كثيرًا.

فصل:
ولا بأس بِعَدّ الآي والتسبيح؛ لأنه روي عن طاوس، والحسن، وابن سيرين، ولا بأس بقتل الحية والعقرب؛ «لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أمر بقتل الأسودين في الصلاة، الحية والعقرب» ، وإن قتل القملة فلا بأس، فإن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - كان يقتل القمل في الصلاة رواه سعيد.
قال القاضي: والتغافل عنها أولى، ولا بأس بالعمل اليسير للحاجة لما قدمنا.

فصل:
فإن تثاءب في الصلاة استحب له أن يكظم، فإن لم يقدر وضع يده على فيه؛ لقول رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذا تثاءب أحدكم فليكظم ما استطاع» ، وفي رواية: «فليضع يده على فيه، فإن الشيطان يدخل» وهذا حديث حسن صحيح. وإن بدره البصاق بصق عن

(1/286)


يساره، أو تحت قدمه، فإن كان في المسجد بصق في ثوبه، وحك بعضه ببعض؛ لما «روى أبو هريرة أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رأى نخامة في قبلة المسجد، فأقبل على الناس، فقال: ما بال أحدكم يقوم مستقبل القبلة، فيتنخع أمامه، أيحب أن يُستقبل فيتنخع في وجهه، وإذا تنخع أحدكم فليتنخع عن يساره أو تحت قدمه، فإن لم يجد فليقل هكذا ووصف القاسم: فتفل في ثوبه ومسح بعضه على بعض» ، وإن سُلم على المصلي، رد بالإشارة؛ لما «روى جابر قال: أدركت النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وهو يصلي، فسلمت عليه فأشار إلي، فلما فرغ دعاني، وقال: إنك سلمت علي آنفًا وأنا أصلي» متفق عليه.

[باب صلاة الجماعة]
باب الجماعة الجماعة واجبة على الرجال، لكل صلاة مكتوبة؛ لما روى أبو هريرة: أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «والذي نفسي بيده، لقد هممت أن آمر بحطب فيحتطب، ثم آمر بالصلاة، ثم آمر رجلًا فيؤم الناس، ثم أخالف إلى رجال لا يشهدون الصلاة فأحرق عليهم بيوتهم بالنار» متفق عليه. وليست شرطًا للصحة؛ لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «تفضل صلاة الجماعة على صلاة الفذ بخمس وعشرين درجة» متفق عليه. وتنعقد باثنين؛ لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الاثنان فما فوقهما جماعة» رواه ابن ماجه. فإن أم الرجل عبده أو زوجته كانا جماعة لذلك، وإن أَمَّ صبيًا في النفل جاز؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أم ابن عباس في التهجد، وإن أَمَّهُ في فرض، فقال أحمد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: لا يكون مسقطًا له؛ لأنه ليس من أهله، وعنه: يصح كما لو أم رجلًا متنفلًا.

فصل:
ويجوز فعلها في البيت والصحراء؛ لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أينما أدركتك الصلاة فَصَلِّ، فإنه مسجد» متفق عليه. وعنه أن حضور المسجد واجب؛ لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا صلاة لجار المسجد إلا في المسجد» وفعلها فيما كثر الجمع أفضل؛ لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «صلاة الرجل مع الرجل أزكى من صلاته وحده، وصلاته مع الرجلين أزكى من صلاته مع الرجل، وما كان أكثر فهو أحب إلى الله تعالى» من المسند. وإن كان في جواره مسجد، تختل الجماعة فيه بغيبته عنه، ففعلها فيه أفضل، وإن لم تختل بذلك، وثم مسجد آخر فالعتيق أفضل؛ لأن الطاعة فيه أسبق، وإن كانا سواء، فهل الأفضل قصد الأبعد أو الأقرب على روايتين، وإن كان البلد ثغرًا فالأفضل اجتماع الناس في مسجد واحد؛ لأنه أعلى للكلمة، وأوقع للهيبة، وبيت المرأة خير لها، فإن أرادت المسجد لم تمنع منه، ولا تتطيب له؛ لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا تمنعوا إماء الله مساجد الله، وبيوتهن خير

(1/287)


لهن» رواه أحمد. وفي رواية: «ليخرجن تفلات» يعني غير متطيبات، ولا بأس أن تصلي المرأة بالنساء؛ «لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أذن لأم ورقة أن تؤم أهل دارها» رواه أبو داود.

فصل:
ويعذر في ترك الجماعة والجمعة بثمانية أشياء:
المرض: لما روى ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من سمع النداء فلم يجب فلا صلاة له إلا من عذر، قالوا: يا رسول الله، وما العذر؟ قال: خوف أو مرض» رواه أبو داود.
والخوف: لهذا الحديث، وسواء خاف على نفسه من سلطان، أو لص، أو سبع، أو غريم يلزمه، ولا شيء معه يعطيه، أو على ماله من تلف أو ضياع أو سرقة، أو يكون له دين على غريم يخاف سفره، أو وديعة عنده إن تشاغل بالجماعة مضى وتركه، أو يخاف شرود دابته، أو احتراق خبزه أو طبخه، أو ناطور بستان يخاف سرقة شيء منه، أو مسافر يخاف فوت رفقته، أو يكون له مريض يخاف ضياعه، أو صغير أو حرمة يخاف عليها.
والثالث، والرابع: المطر والوحل: لما «روي عن ابن عباس أنه قال لمؤذنه في يوم مطير: إذا قلت: أشهد أن محمدًا رسول الله، فلا تقل حي على الصلاة، وقل: صلوا في بيوتكم، فعل ذلك من هو خير مني، إن الجمعة عزمة، وإني كرهت أن أخرجكم فتمشوا في الطين والدحض» متفق عليه.
والخامس: الريح الشديدة في الليلة المظلمة الباردة، وهذا يختص بالجماعة؛ لما روى ابن عمر: «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يأمر مناديًا فيؤذن، ثم يقول على إثر ذلك: ألا صلوا في الرحال في الليلة الباردة أو المطيرة في السفر» متفق عليه.
السادس: أن يحضر الطعام ونفسه تتوق إليه.
السابع: أن يدافع الأخبثين أو أحدهما؛ لما روت عائشة قالت: سمعت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: «لا يصلي أحدكم بحضرة الطعام، ولا وهو يدافع الأخبثين» رواه البخاري ومسلم.
الثامن: أن يكون له قريب يخاف موته ولا يحضره، لما روى ابن عمر رضي الله

(1/288)


عنهما: استصرخ علي سعيد بن زيد، وقد تجهز للجمعة، فذهب إليه وتركها.
فأما الأعمى فلا يعذر إذا أمكنه الحضور؛ لما روى أبو هريرة قال: «أتى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رجل أعمى فقال: يا رسول الله، ليس لي قائد يقودني إلى المسجد، فسأله أن يرخص له، فرخص له، فلما ولى دعاه، فقال: أتسمع النداء بالصلاة، قال: نعم، قال: فأجب» رواه مسلم.

فصل:
ومن شرط صحة الجماعة أن ينوي الإمام والمأموم حالهما، فإن نوى أحدهما دون صاحبه لم تصح؛ لأن الجماعة إنما انعقدت بالنية، فيعتبر وجودها منهما، وإن نوى كل واحد منهما أنه إمام صاحبه لم يصح؛ لأنه لا مأموم له، وإن نوى كل واحد منهما أنه مأموم لم يصح؛ لأنه لا إمام له، وإن نوى أن يأتم بأحد الإمامين لا بعينه لم يصح؛ لأنه لا يمكنه اتباعه، وإن نوى الائتمام بهما لم يصح لذلك، وإن نوى الائتمام بالمأموم أو المنفرد لم يصح؛ لأنه ليس بإمام.

فصل:
فإن أحرم على صفة، ثم انتقل عنها، ففيه ست مسائل:
إحداهن: أحرم منفردًا، ثم جاء إنسان فأحرم معه، فنوى إمامته، فيجوز في النفل؛ لأن «النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قام يصلي في التهجد، فجاء ابن عباس فأحرم معه، فصلى به النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -» متفق عليه.
وإن كان في فرض وكان يرجو مجيء من يصلي معه، جاز أيضًا، نص عليه؛ لأن «النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أحرم بالصلاة وحده، فجاء جابر وجبار فصلى بهما» رواه أبو داود. وإن لم يكن كذلك؛ فعن أحمد لا يجزئه؛ لأنه لم ينو الإمامة في ابتداء الصلاة، وعنه ما يدل على الإجزاء؛ لأنه يصح في النفل والفرض في معناه.
الثانية: أحرم منفردًا فحضرت جماعة، فأحب أن يصلي معهم، فقال أحمد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أحب إلي أن يقطع الصلاة، ويدخل مع الإمام، فإن لم يفعل ودخل معهم ففيه روايتان:
إحداهما: لا يجزئه؛ لأنه لم ينو الائتمام في ابتداء الصلاة.
والثانية: يجزئه لأنه لما جاز أن يجعل نفسه إمامًا، جاز أن يجعلها مأمومًا.
الثالثة: أحرم مأمومًا، ثم نوى الانفراد لعذر جاز، نحو أن يطول الإمام، أو تفسد

(1/289)


صلاته لعذر من سبق حدث أو نحوه؛ لما «روى جابر قال: صلى معاذ بقومه، فقرأ بسورة البقرة فتأخر رجل، وصلى وحده، فقيل له: نافقت يا فلان، فأتى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فذكر له ذلك، فقال: أفتان أنت يا معاذ؟ مرتين» متفق عليه.
فإن نوى الانفراد لغير عذر فسدت صلاته؛ لأنه ترك متابعة إمامه لغير عذر، فأشبه ما لو تركها بغير نية المفارقة، وفيه وجه أنه يصح، بناء على المنفرد إذا نوى الإمامة.
الرابعة: أحرم مأمومًا ثم صار إمامًا لعذر، مثل أن سبق إمامه الحدث فيستخلفه فإنه يصح.
وعنه: لا يصح، وإن أدرك نفسان بعض الصلاة مع الإمام، فلما سلم ائتم أحدهما بصاحبه في بقيتها؟ ففيه وجهان، فإن كان لغير عذر لم تصح.
الخامسة: أحرم إمامًا ثم صار منفردًا لعذر، مثل أن يسبق الإمام الحدث أو تفسد صلاته لعذر، فينوي الإمام المنفرد فيصح، وإن كان لغير عذر لم يصح.
السادسة: أحرم إمامًا ثم صار مأمومًا لعذر، مثل أن يؤم غير إمام الحي، فيزول عذر الإمام، فيتقدم في أثناء الصلاة، ويبني على صلاة الأول، ويصير الأول مأمومًا ففيه وجهان:
أحدهما: يصح؛ لما روى سهل بن سعد قال: «ذهب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلى بني عمرو بن عوف ليصلح بينهم، فحانت الصلاة فصلى أبو بكر، فجاء رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - والناس في الصلاة، فتخلص حتى وقف في الصف، فاستأخر أبو بكر حتى استوى في الصف وتقدم النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فصلى ثم انصرف» متفق عليه.
والثانية: لا يصح؛ لأنه لا حاجة إلى ذلك، وفعل النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يحتمل أن يكون خاصًا له؛ لأن أحدًا لا يساويه.

فصل:
وإذا أقيمت الصلاة لم يشتغل عنها بغيرها؛ لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذا أقيمت الصلاة فلا صلاة إلا المكتوبة» رواه مسلم. وإن أقيمت وهو في نافلة خففها وأتمها، إلا أن يخاف فوات الجماعة فيقطعها؛ لأن الفريضة أهم، وعنه يتمها لقول الله تعالى: {وَلا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ} [محمد: 33] .

(1/290)


وإن أقيمت قبل مجيئه لم يسع إليها؛ لما روى أبو هريرة قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذا أقيمت الصلاة فلا تأتوها وأنتم تسعون، ائتوها وعليكم السكينة، فما أدركتم فصلوا، وما فاتكم فأتموا وروي: فاقضوا» متفق عليه. ولا بأس أن يسرع شيئًا إذا خاف فوات الركعة؛ لأنه جاء عن أصحاب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنهم كانوا يعجلون شيئًا إذا خافوا الفوات، فإن أدركه راكعًا كبر للإحرام وهو قائم، ثم كبر أخرى للركوع، فإن كبر واحدة أجزأه، نص عليه، واحتج أنه فعل زيد بن ثابت، وابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، وإن أدرك قدر ما يجزئ في الركوع مع الإمام أدرك الركعة، فإن لم يدرك ذلك لم يكن مدركًا لها، لما روى أبو هريرة: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إذا أدركتم الإمام في السجود فاسجدوا، ولا تعدوها شيئًا، ومن أدرك الركوع فقد أدرك الركعة» رواه أبو داود. وإن أدركه في سجود أو جلوس كبر الإحرام، وانحط من غير تكبير؛ لأنه لم يدرك محل التكبير في السجود.

فصل:
وإذا أحس بداخل في القيام أو الركوع استحب له انتظاره، ما لم يشق على المأمومين؛ لما «روى ابن أبي أوفى: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يقوم في الركعة الأولى من صلاة الظهر، حتى لا يسمع وقع قدم» ، ولأنه انتظار ليدرك المأموم على وجه لا يشق، فلم يكره، كالانتظار في صلاة الخوف، إلا أن يكون الجمع كثيرًا فأنه لا يستحب؛ لأنه يتعذر أن يكون فيهم من يشق عليه، ولأنه يفوت حق جماعة كثيرة لأجل واحد، ومن كبر قبل سلام الإمام، فقد أدرك فضيلة الجماعة ويبني عليها.

فصل:
وما يدركه المأموم مع الإمام آخر صلاته لا يستفتح فيه، وما يقضيه أولها يستفتح إذا قام إليه ويستعيد؛ لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «وما فاتكم فاقضوا» والمقضي هو الفائت.
وعنه: إن ما يدركه أولها ما يقضيه آخرها؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «وما فاتكم فأتموا» والأول المشهور؛ لأنه يقرأ فيما يقضيه بالسورة بعد الفاتحة، فكان أول صلاته كما لو بدأ به، فإن لم يدرك إلا ركعة من المغرب، أو الرباعية ففي موضع تشهده روايتان:
إحداهما: يأتي بركعتين متواليتين ثم يتشهد؛ لأن المقضي أول صلاته، وهذا صفة أول الصلاة، ولأنهما ركعتان يقرأ فيهما بالسورة، فكانتا متواليتين كغير المسبوق.

(1/291)


والثانية: يأتي بركعة ثم يجلس؛ لأنه يروى عن ابن مسعود، وسعيد بن المسيب، ومسروق: فإذا جلس مع الإمام في تشهده الأخير كرر التشهد الأول، فإذا قضى ما عليه تشهد، وصلى على النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثم سلم.

فصل:
وإن فاتته الجماعة استحب أن يصلي في جماعة أخرى، فإن لم يجد إلا من قد صلى استحب لبعضهم أن يصلي معه، لما «روى أبو سعيد: أن رجلًا جاء وقد صلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: من يتصدق على هذا فيصلي معه؟» وهذا حديث حسن؛ ولقول رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «صلاة الجماعة تفضل على صلاة الفذ بسبع وعشرين درجة» ويجوز ذلك في جميع المساجد، إلا أن أحمد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - كرهه في المسجد الحرام ومسجد الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.

فصل:
ويتبع المأموم الإمام، فيجعل أفعاله بعد أفعاله؛ لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إنما جعل الإمام ليؤتم به، فإذا كبر فكبروا، وإذا ركع فاركعوا، وإذا قال: سمع الله لمن حمده فقولوا: ربنا ولك الحمد، وإذا سجد فاسجدوا» متفق عليه. والفاء للتعقيب، وقال في حديث أبي موسى: «فإن الإمام يركع قبلكم ويرفع قبلكم» رواه مسلم. «وقال البراء بن عازب: كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا قال: سمع الله لمن حمده لم يحن أحد منا ظهره، حتى يقع ساجدًا، ثم نقع سجودًا بعده» متفق عليه.
فإن كبر للإحرام مع إمامه أو قبله لم يصح؛ لأنه ائتم بمن لم تنعقد صلاته، وإن فعل سائر الأفعال معه كره لمخالفة السنة، ولم تفسد صلاته؛ لأنه اجتمع معه في الركن، وإن ركع أو رفع قبله عمدًا أتم؛ لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا تسبقوني بالركوع، ولا بالسجود، ولا بالقيام» والنهي يقتضي التحريم.
وروى أبو هريرة عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «أما يخشى الذي يرفع رأسه قبل الإمام أن يحول الله رأسه رأس حمار» متفق عليه. وظاهر كلام أحمد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أن صلاته تبطل لهذا الحديث. قال: لو كان له صلاة لرجي له الثواب، ولم يخش عليه العقاب.
وقال القاضي: تصح صلاته؛ لأنه اجتمع معه في الركن، أشبه ما لو وافقه، وإن فعله جاهلًا أو ناسيًا فلا بأس. وعليه أن يعود ليأتي بذلك معه، فإن لم يفعل صحت

(1/292)


صلاته؛ لأنه سبق يسير لا يمكن التحرز منه، فإن ركع ورفع قبل أن يركع إمامه، وسجد قبل رفعه عمدًا عالمًا بتحريمه بطلت صلاته؛ لأنه لم يأتم بإمامه في معظم الركعة، وإن كان جاهلًا أو ناسيًا لم تبطل صلاته للعذر، ولم يعتد بتلك الركعة لما ذكرنا، فإن ركع قبله فلما ركع رفع، ففي بطلان الصلاة لعمد ذلك والاعتداد بالركعة مع جهله ونسيانه وجهان. فإن ركع الإمام، ورفع قبل ركوع المأموم عمدًا، بطلت صلاته، لتركه المتابعة، وإن كان لنوم أو غفلة ونحو ذلك لم تبطل؛ لأنه سبق يسير، ويركع ثم يدركه، فإن سبقه بأكثر من ذلك لعذر ففيه وجهان:
أحدهما: يفعله ويلحق، كالمزحوم في الجمعة.
والثاني: تبطل الركعة؛ لأنها مفارقة كثيرة.

[باب صفة الأئمة]
الكلام فيها في ثلاثة أمور:
أحدها: صحة الإمامة: والناس فيها على خمسة أقسام:
أحدها: من تصح إمامته بكل حال، وهو الرجل المسلم العدل القائم بأركان الصلاة وشرائطها، فتصح إمامته وإن كان عبدًا؛ لأن أبا ذر، وابن مسعود، وحذيفة، وناسًا من أصحاب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قدموا أبا سعيد مملوكًا لأبي أسيد فصلى بهم، ولأنه من أهل الأذان لهم، فأشبه الحر، وتصح إمامة الأعمى؛ لأن «النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يستخلف ابن أم مكتوم يؤم الناس وهو أعمى» رواه أبو داود.
ولأن الأعمى فقد حاسة فأشبه فقد الشم، وتصح إمامة الأصم لذلك، فإن كان أصم أعمى فقال بعض أصحابنا: لا تصح إمامته؛ لأنه قد يسهو فلا يمكن تنبيهه، والأولى صحتها؛ لأنه لا يخل بشيء من واجبات الصلاة، والسهو عارض لا يبطل الصلاة احتمال وجوده كالجهل بحكم السجود، وتصح إمامة ولد الزنا، والجندي، والخصي، والأعرابي، إذا سلموا في دينهم؛ لدخولهم في عموم قول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «يؤم القوم أقرؤهم» وتصح إمامة المتيمم بالمتوضئ؛ «لأن عمرو بن العاص صلى بأصحابه متيممًا، وأخبر النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فضحك، ولم ينكر عليه» ؛ لأن طهارته صحيحة أشبه الماسح.

فصل:
القسم الثاني: من لا تصح إمامته؛ وهم نوعان:
أحدهما: من لا تصح صلاته لنفسه كالكافر والمجنون، ومن أخل بشرط أو واجب

(1/293)


لغير عذر، فلا تصح إمامته بحال؛ لأنه لا صلاة له في نفسه أشبه اللاعب إلا في المحدث والنجس إذ لم يعلم هو والمأموم حتى فرغوا من الصلاة أعاد وحده؛ لما روي عن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه صلى بالناس الصبح، ثم خرج إلى الجرف، فأهراق الماء فوجد في ثوبه احتلامًا، فأعاد ولم يعد الناس. وروى الأثرم نحو هذا عن عثمان وعلي وابن عمر، ولم يعرف لهم مخالف فكان إجماعًا، ولأن هذا مما يخفى، فكان المأموم معذورًا في الاقتداء به، والنجاسة كالحدث؛ لأنها مما تخفى ولا يعفى عن سائر الشروط؛ لأنها ليست في مظنة الخفاء، فإن علم الإمام والمأموم ذلك في أثناء الصلاة لزمهم الاستئناف، وحكي عنه في المأموم أنه يبني على ما مضى لو سبق الإمام الحدث والمذهب الأول؛ لأن ما مضى بني على غير طهارة بخلاف من سبقه الحدث، وإن علم بعض المأمومين دون بعض، فالمنصوص أنهم يعيدون جميعًا لعدم المشقة فيه، ويحتمل أن تختص الإعادة بمن علم؛ لأنه اختص بالعلم المبطل، فاختص البطلان كما لو أحدث.
النوع الثاني: الفاسق إما بالأفعال أو ببدعة لا تكفره؛ ففي إمامته روايتان:
إحداهما: تصح «لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لأبي ذر: كيف أنت إذا كانت عليك أمراء، يميتون الصلاة عن وقتها. قال: قلت: فما تأمرني؟ قال: صل الصلاة لوقتها، فإن أدركتها معهم فصل، فإنها لك نافلة» من المسند. وكان ابن عمر يصلي وراء الحجاج، والحسن والحسين يصليان وراء مروان.
والثانية: لا يصح؛ لأن جابرًا قال: سمعت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: «لا تؤمن امرأة رجلًا، ولا فاجر مؤمنًا إلا أن يقهره بسلطان، أو يخاف سوطه أو سيفه» رواه ابن ماجه.
ولأنه لا يؤمن على شرائط الصلاة، ويحتمل أن تصح الجمعة والعيد دون غيرهما؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أمر بهما خلف كل بر وفاجر؛ لأنها لا تختص بإمام واحد، فالمنع منها خلف الفاسق يفضي إلى تفويتها، فسومح فيها دون سائر الصلوات.

فصل:
القسم الثالث: من تصح إمامته بمثله، ولا تصح بغيره، وهم ثلاثة أنواع:
إحداها: المرأة يجوز أن تؤم النساء لما تقدم، ولا يجوز أن تؤم رجلًا، ولا خنثى مشكلًا، في فرض ولا صلاة نفل؛ لقوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «لا تؤمن امرأة رجلًا» ولأنها لا تؤذن للرجال، فلم يجز لها أن تؤمهم كالمجنون.
والثاني: الأمي وهو: من لا يحسن الفاتحة، أو يخل بترتيلها أو حرف منها، أو يبدله بغيره كالألثغ الذي يجعل الراء غينًا، ومن يلحن لحنًا يحيل المعنى مثل أن يضم

(1/294)


تاء {أَنْعَمْتَ} [الفاتحة: 7] أو يكسر كاف {إِيَّاكَ} [الفاتحة: 5] ، أو يخل بشدة، فإن الشدة قامت مقام حرف، بدليل أن شدة راء الرحيم قامت مقام اللام، لكن إذا خففها أجزأته، فهؤلاء إن لم يقدروا على إصلاح قراءتهم أميون تصح صلاتهم بمثلهم، ولا تصح بقارئ؛ لأنه عجز عن ركن الصلاة فأشبه العاجز عن السجود، فإن أم أميين وقارئًا صحت صلاة الأميين وفسدت صلاة القارئ.
وفي معنى هذا النوع من يخل بشرط أو ركن كالأخرس والعاجز عن الركوع والسجود، والقيام والقعود، والمستحاضة ومن به سلس البول وأشباههم تصح صلاتهم في أنفسهم، وبمن حاله كحالهم، ولا تصح بغيرهم؛ لأنهم أخلوا بفرض الصلاة، فأشبه المضجع يؤم القائم، إلا في موضع واحد وهو العاجز عن القيام يؤم القادر عليه بشرطين:
أحدهما: أن يكون إمام الحي.
والثاني: أن يرجى زوال مرضه، ويصلون خلفه جلوسًا؛ لأن النبي «- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلى بهم جالسًا، فصلى وراءه قوم قيامًا، فأشار إليهم أن اجلسوا، ثم قال: إنما جعل الإمام ليؤتم به، فلا تختلفوا عليه، وإذا صلى جالسًا فصلوا جلوسًا أجمعون» متفق عليه. فإن صلوا قيامًا ففيه وجهان:
أحدهما: لا يصح للنهي عنه.
والثاني: يصح لأن القيام هو الأصل، وقد أتوا به، فإن ابتدأ بهم قائمًا، ثم اعتل فجلس أتموا قيامًا؛ «لأن عائشة قالت: لما ثقل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: مروا أبا بكر فليصل بالناس، فلما دخل أبو بكر في الصلاة خرج النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فجاء رسول الله حتى جلس عن يسار أبي بكر، فكان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يصلي بالناس جالسًا، وأبو بكر قائمًا يقتدي برسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ويقتدي الناس بصلاة أبي بكر» متفق عليه.
فأتموا قيامًا لابتدائهم إياها قيامًا، فأما غير إمام الحي، فلا يصح أن يؤم قادرًا على القيام، وهو جالس لعدم الحاجة إلى تقديمه مع عجزه، وإن لم يرج برؤه لم تجز إمامته؛ لأنه لا يجوز استبقاؤه إمامًا دائمًا مع عجزه، واحتمل هذا في القيام دون سائر الأركان لخفته؛ بدليل سقوطه في النفل دونها، فإن كان أقطع اليدين فقال أبو بكر: لا تصح إمامته لإخلاله بالسجود على عضوين من أعضاء السجود، فأشبه العاجز عن السجود على جبهته، وفي معناه: اقطع اليد الواحدة.
وقال القاضي: تصح إمامته؛ لأنه لا يخل بركن الصلاة بخلاف تارك السجود على الجبهة.
النوع الثالث: الصبي تصح إمامته بمثله؛ لأنه بمنزلته، ولا تصح إمامته ببالغ في فرض، نص عليه؛ لأن ذلك روي عن ابن مسعود، وابن عباس، ولأنه ليس من أهل

(1/295)


الكمال، فلا يؤم الرجال كالمرأة، وهل يؤمهم في النفل على روايتين.
إحداهما: لا تصح لذلك.
والثانية: تصح لأن صلاته نافلة، فيؤم من هو في مثل حاله، ويخرج أن تصح إمامته لهم في الفرض بناء على إمامة المتنفل للمفترض، «ولأن عمر بن سلمة الجرمي كان يؤم قومه وهو غلام في عصر رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -» أخرجه البخاري.

فصل:
القسم الرابع: من تصح إمامته ممن دونه ولا تصح بمثله ولا أعلى منه، وهو الخنثى المشكل، تصح إمامته بالنساء؛ لأن أدنى أحواله أن يكون امرأة، ولا تصح برجل؛ لأنه يحتمل أن يكون امرأة، ولا خنثى مشكل؛ لأنه يحتمل كون المأموم رجلًا.

فصل:
القسم الخامس: المتنفل يصح أن يؤم متنفلًا، وهل يصح أن يؤم مفترضًا؟ فيه روايتان:
إحداهما: لا يصح؛ لأن صلاة المأموم لا يتأدى بنية الإمام، فأشبه الجمعة خلف من يصلي الظهر.
والثانية: يصح، وهي أولى؛ «لأن جابرًا روى أن معاذًا كان يصلي مع النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ثم يرجع إلى قومه فيصلي بهم تلك الصلاة» متفق عليه. «وصلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في الخوف بطائفة ركعتين، ثم سلم، ثم صلى بالأخرى ركعتين ثم سلم» رواه أبو داود. وهو في الثانية متنفل، ويؤم مفترضين، ولأنهما صلاتان اتفقتا في الأفعال، فأشبه المتنفل يأتم بمفترض، وإن صلى الظهر خلف من يصلي العصر، أو صلى العشاء خلف من يصلي التراويح ففيه روايتان، وجههما ما تقدم، فإن كانت إحدى الصلاتين تخالف الأخرى، كصلاة الكسوف والجمعة، خلف من يصلي غيرهما، أو غيرهما خلف من يصليهما لم يصح.
رواية واحدة؛ لأنه يفضي إلى المخالفة في الأفعال، فيدخل في قوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «إنما جعل الإمام ليؤتم به، فلا تختلفوا عنه» وإن صلى من يؤدي صلاة خلف من يقضيها، أو من يقضيها خلف من يؤديها صحت، رواية واحدة، ذكره الخلال؛ لأن الصلاة واحدة، وإنما اختلف الوقت، وخرج بعض أصحابنا فيها روايتين كالتي قبلها.

(1/296)


فصل:
الأمر الثاني في أولى الناس بالإمامة، وأتم ما روي فيه حديث أبي مسعود البدري: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله تعالى، فإن كانوا في القراءة سواء فأعلمهم بالسنة، فإن كانوا في السنة سواء فأقدمهم هجرة، فإن كانوا في الهجرة سواء فأقدمهم سنًا، أو قال: سلمًا، ولا يؤمن الرجل في بيته، ولا في سلطانه، ولا يجلس على تكرمته إلا بإذنه» رواه مسلم.
فأولى الناس بالإمامة السلطان، للحديث وهو الخليفة أو الوالي من قبله أو نائبهما، فإن لم يكن سلطان، فصاحب البيت أحق للخبر. وقال أبو سعيد مولى أبو أسيد: تزوجت وأنا مملوك، فدعوت ناسًا من أصحاب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فيهم أبو ذر، وابن مسعود، وحذيفة، فحضرت الصلاة، فتقدم أبو ذر فقالوا له: وراءك، فالتفت إلى أصحابه فقال: أكذلك؟ قالوا: نعم فقدموني، رواه صالح، بإسناده في مسائله.
فإن أذن صاحب البيت لرجل فهو بمنزلته، وإن اجتمع السلطان وصاحب البيت فالسلطان أولى؛ لأن ولايته على البيت وصاحبه، وإن اجتمع السلطان وخليفته فالسلطان أولى؛ لأن ولايته أعم، وإن اجتمع العبد وسيده في بيت العبد فالسيد أولى؛ لأنه مالك للعبد وبيته، وإن اجتمع المؤجر والمستأجر في الدار، فالمستأجر أولى لأنه أحق بالمنفعة، وإمام المسجد الراتب فيه بمنزلة صاحب البيت، لا يجوز لأحد أن يؤم فيه، بغير إذنه لذلك، ويجوز في غيبته؛ لأن أبا بكر صلى حين غاب النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، «وفعل ذلك عبد الرحمن بن عوف مرة، فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أحسنتم» رواه مسلم. فإن لم يكن ذو مزية من هؤلاء، فأولاهم أقرؤهم لكتاب الله للخبر، ولقول رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذا كانوا ثلاثة فليؤمهم أحدهم، وأحقهم بالإمامة أقرؤهم» رواه مسلم.
ويرجع في القراءة بجودتها وكثرة القرآن، فإن كان أحدهم أجود والآخر أكثر قرآنًا، فالأجود أولى؛ لأنه أعظم أجرًا؛ لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من قرأ القرآن فأعربه، فله بكل حرف منه عشر حسنات، ومن قرأه ولحن فيه، فله بكل حرف حسنة» حديث حسن صحيح.
وقال أبو بكر وعمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: إعراب القرآن أحب إلينا من حفظ بعض حروفه، فإن اجتمع قارئ لا يعرف أحكام الصلاة وفقيه أمي، فالقارئ أولى للخبر، ولأنه لا تصح صلاته خلف الأمي، وإن كان الفقيه يقرأ ما يجزئ في الصلاة فكذلك الخبر.
وقال ابن عقيل: الفقيه أولى؛ لأنه تميز بما لا يستغنى عنه في الصلاة، فإن استويا في القراءة فأولاهما أفقههما للخبر، ولأن الفقيه يحتاج إليه في الصلاة، فأشبه القراءة،

(1/297)


وإن استويا في ذلك فأولاهما أقدمهما هجرة، وهو المهاجر من دار الكفر إلى دار الإسلام، فإن استويا في ذلك فأكبرهما سنًا للخبر، ولأن «النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال لمالك بن الحويرث: إذا حضرت الصلاة فليؤذن إحداكما، وليؤمكما أكبركما» حديث صحيح. ولأنه أقرب إلى الخشوع وإجابة الدعاء، ويرجح بتقدم الإسلام؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أقدمهم سلمًا» لأنه إذا رجح بتقدم السن فبالإسلام أولى، فإن استويا في ذلك قدم أشرفهما نسبًا، وأفضلهما في أنفسهما، وأعلاهما قدرًا؛ لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «قدموا قريشًا ولا تقدموها» هذا ظاهر كلام أحمد. وقال الخرقي: إذا استويا في الفقه فقدم أكبرهما سنًا، فإن استويا فأقدمهما هجرة، وقال ابن حامد يقدم الشرف بعد الفقه ثم الهجرة، ثم السن، فإن استووا قدم أتقاهم وأورعهم؛ لقول الله تعالى: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات: 13] ولأنه أقربهم إلى الإجابة.
فإن استووا قدم أعمرهم للمسجد، وأتمهم مراعاة له، ويقدم الحر على العبد؛ لأنه من أهل المناصب، والحاضر يقدم على المسافر؛ لأنه إذا أم حصل جميع الصلاة في جماعة، بخلاف المسافر.
والحضري على البدوي؛ لأنه أجدر بمعرفة حدود الله تعالى، وأحرى بإصابة الحق.
والبصير على الأعمى؛ لأنه أقدر على توقي النجاسات، واستقبال القبلة بعلم نفسه.
وقال القاضي: هما سواء؛ لأن الضرير لا يرى ما يلهيه ويشغله، فذلك يقابل البصر فيستويان، والأولى لإمام الحي إذا عجز عن القيام أن يستنيب، لئلا يلزمهم ترك ركن، فإن استووا أقرع بينهم؛ لأن سعدًا أقرع بين أهل القادسية في الأذان، ولا يرجح بحسن الوجه؛ لأنه لا مدخل له في الإمامة.

فصل:
الثالث: أنه يكره إمامة اللحان؛ لأنه نقص يذهب ببعض من الثواب، وإمامة من لا يفصح ببعض الحروف، كالضاد والقاف، وإمامة التمتام، وهو من يكرر التاء والفأفاء، فالذي يكرر الفاء؛ لأنهما يزيدان في الحروف، وتصح الصلاة خلفهما؛ لأنهما يأتيان بالحروف على الكمال، فإن كان يجعل الضاد ظاء في الفاتحة، فقياس المذهب أنه كالأمي؛ لأنه يبدل حرفًا بغيره، ويحيل المعنى، فإنه يقال: ظل يفعل كذا، إذا فعله نهارًا.

(1/298)


ويكره أن يؤم قومًا أكثرهم له كارهون؛ لما روى أبو أمامة قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ثلاثة لا تجاوز صلاتهم آذانهم: العبد الآبق حتى يرجع، وامرأة باتت وزوجها عليها ساخط، وإمام قوم وهم له كارهون» وهذا الحديث حسن.
فإن كانوا يكرهونه لسنته أو دينه فلا يكره، قال منصور: قيل لنا: إنما عنى بهذا أئمة الظلم، فأما من أقام بالسنة، فإنما الإثم على من كرهه.
ويكره أن يؤم نساء أجانب لا رجل معهن، ويكره أن يتقدم المفضول من هو أولى منه؛ لأنه جاء في الحديث: «إذا أم الرجل القوم وفيهم من هو خير منه لم يزالوا في سفال» احتج به أحمد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -.

[باب موقف الإمام والمأموم في الصلاة]
باب موقف الصلاة إذا كان المأموم واحدًا، وقف عن يمين الإمام، فإن كبر عن يساره أداره الإمام عن يمينه، فإن جاء آخر كبر وتأخر فصفا خلفه، ولا يتقدم الإمام إلا إن كان الموضع ضيقًا، فإن كبر الثاني عن يساره أخرهما الإمام بيديه؛ لما «روى جابر قال: سرت مع النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في غزوة، فقام يصلي فتوضأت، ثم جئت حتى قمت عن يسار رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فأخذ بيدي، فأدارني حتى أقامني عن يمينه، فجاء جبار بن صخر حتى قام عن يساره، فأخذنا بيديه جميعًا حتى أقامنا خلفه» من المسند. وإن صليا عن يمينه، أو أحدهما عن يمينه، والآخر عن يساره جاز؛ لما روي: «أن ابن مسعود صلى بين علقمة والأسود، وقال: هكذا رأيت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فعل» رواه أبو داود. ولأن الوسط موقف لإمام العراة وإمامة النساء.
فإن كان معهم امرأة قامت خلفهم؛ لما «روى أنس قال: قام رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وصففت أنا واليتيم وراءه والمرأة خلفنا، فصلى بنا ركعتين» متفق عليه. فإن اجتمع رجال وصبيان وخناثى ونساء، تقدم الرجال ثم الصبيان ثم الخناثى ثم النساء؛ لما «روى أبو مالك الأشعري أنه قال: ألا أحدثكم بصلاة النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؟ قال: أقام الصلاة، فصف الرجال، ثم صف خلفهم الغلمان، ثم صلى بهم، ثم قال: هكذا قال عبد الأعلى، لا أحسبه إلا قال: صلاة أمتي» رواه أبو داود.
فإن لم يكن مع الرجال إلا امرأة، وقفت خلفه، فإن كان معه صبي وقف عن يمينه، لما «روى ابن عباس قال: بت عند خالتي ميمونة، فقام النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يصلي من الليل، فقمت فوقفت عن يساره، فأخذ بذؤابتي فأدارني عن يمينه» متفق عليه.
فإن كان معه رجل وصبي في فرض وقف بينهما، كما في حديث ابن مسعود،

(1/299)


وجعل الرجل عن يمينه، أو جعلهما عن يمينه، وإن كان في نافلة وقفا خلفه على ما في حديث أنس.

فصل:
فإن وقف المأموم قدام الإمام لم تصح صلاتهم؛ لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إنما جعل الإمام ليؤتم به» .
وإن وقف الواحد خلف الصف، أو خلف الإمام أو عن يساره لم تصح صلاته؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أدار ابن عباس وجابرا لما وقفا عن يساره، «وروى وابصة بن معبد: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رأى رجلًا يصلي خلف الصف وحده، فأمره أن يعيد» رواه أبو داود. «وعن علي بن شيبان قال: صلى بهم النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فانصرف ورجل فرد خلف الصف، فوقف النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حتى انصرف الرجل، فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: استقبل صلاتك، فلا صلاة لفرد خلف الصف» رواه الأثرم. قال أحمد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فيه وفي حديث وابصة: هذا حديث حسن.
ولأنه خالف الموقف فلم تصح صلاته، كما لو وقف قدام الإمام، فإن صلى ركعة واحدة لم تصح صلاته، وإن جاء آخر فوقف معه أو دخل في الصف قبل رفع الإمام من الركوع صحت صلاته؛ لأنه أدرك في الصف ما يدرك به الركعة، وإن كان ذلك بعد رفع الإمام ففيه ثلاث روايات:
إحداهن: يصح؛ لأنه لم يصل ركعة واحدة، أشبه ما لو أدرك الركوع.
والثانية: لا يصح؛ لأنه لم يدرك في الصف ما يدرك به الركعة، أشبه من صلى ركعة.
والثالثة: إن كان جاهلًا لم يعد، وإن كان عالمًا أعاد؛ لما روى البخاري «أن أبا بكرة انتهى إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وهو راكع فركع قبل أن يصله، فذكر ذلك للنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: زادك الله حرصًا ولا تعد» فلم يأمره بالإعادة لجهله، ونهاه عن العود، والنهي يقضي الفساد، فإن ذلك لغير عذر، ولا خشي الفوات، فحكمه حكم من خاف الفوات؛ لأن الموقف لا يختلف لخيفة الفوات وعدمه، ويحتمل أن لا يصح؛ لأن الرخصة وردت في حق المعذور، فلا يلحق به غيره.

فصل:
ومن وقف معه كافر أو امرأة أو خنثى مشكل أو من صلاته فاسدة، فحكمه حكم

(1/300)


الفذ؛ لأنهم من غير أهل الوقوف معه، وإن وقف معه فاسق أو أمي أو متنفل كانوا معه صفًا: لأنهم من أهل الوقوف معه، وإن وقف الصبي معه في النفل كانا صفًا لحديث أنس، وإن كان في فرض احتمل أن يكون معه صفًا؛ لأنه كالمتنفل، واحتمل أن لا يصح؛ لأنه ليس من أهل الإمامة له فيه أشبه المرأة.
وإن وقف معه محدث أو نجس يعلمان بذلك فهو كالفذ، وإن لم يعلما بذلك صحت صلاته؛ لأنه لو كان إمامًا له صحت صلاته.
وإن وقفت المرأة في صف الرجال كره، ولم تبطل صلاتها ولا صلاة من يليها، وقال أبو بكر: تبطل صلاة من يليها؛ لأنه خالف الموقف، والأول أولى؛ لأنها هي التي خالفت بوقوفها مع الرجال، فلم تبطل صلاتها، فصلاته أولى.
فإن وقف اثنان خلف الصف، فخرج أحدهما لعذر دخل الآخر في الصف، أو وقف عن يمين الإمام أو نبه من يخرج فيقف معه، فإن لم يمكنه نوى مفارقته، وأتم منفردًا؛ لأنه عذر أشبه ما لو سبق إمامه الحدث.
فإن دخل المسبوق فوجد فرجة قام فيها، فإن لم يمكنه قام عن يمين الإمام، فإن لم يمكنه نبه رجلًا يتأخر معه، فإن لم يفعل لم يكرهه ويصلي وحده، أو ينتظر جماعة أخرى.

فصل:
السنة للمرأة إذا أمت نساء، أن تقوم وسطهن؛ لأن ذلك يروى عن عائشة وأم سلمة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، وإن كانت معهما امرأة وقفت عن يمينها، وإن وقفت خلفها جاز؛ لأن المرأة يجوز وقوفها وحدها؛ بدليل حديث أنس.

فصل:
والسنة أن يقف الإمام حذاء وسط الصف؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «وسطوا الإمام وسدوا الخلل» رواه أبو داود. وأن يتموا الصف الأول؛ لما روى أنس: أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «أتموا الصف الأول، فما كان من نقص، فليكن في الصف الآخر» رواه أبو داود.
وخير صفوف الرجال أولها، وخير صفوف النساء آخرها؛ لقول رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «خير صفوف الرجال أولها، وشرها آخرها، وخير صفوف النساء آخرها، وشرها أولها» رواه مسلم. قال أحمد: ويلي الإمام الشيوخ وأهل القرآن، ويؤخر الصبيان والغلمان؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «ليلني منكم أولو الأحلام والنهى» رواه مسلم.

(1/301)


فصل:
والسنة أن لا يكون الإمام أعلى من المأمومين، لما «روي أن عمار بن ياسر كان بالمدائن، فأقيمت الصلاة، فتقدم عمار فقام على دكان والناس أسفل منه، فتقدم حذيفة فأخذ بيده، واتبعه عمار حتى أنزله حذيفة، فلما فرغ من صلاته، قال له حذيفة: ألم تسمع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وهو يقول: إذا أم الرجل القوم فلا يقومن في مكان أرفع من مقامهم وقال عمار: فلذلك اتبعتك حين أخذت على يدي» رواه أبو داود. فإن فعل فقال ابن حامد: تبطل صلاته لارتكابه النهي، وقال القاضي: لا تبطل؛ لأن عمارًا بنى على صلاته، وعن أحمد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: لا بأس بهذا؛ لما «روى سهل قال: رأيت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قام على المنبر، فكبر وكبر الناس وراءه وهو على المنبر، ثم ركع ثم رفع، فنزل القهقرى حتى سجد في أصل المنبر، ثم عاد حتى فرغ من آخر صلاته، ثم قال: أيها الناس، إنما فعلت هذا لتأتموا بي، ولتعلموا صلاتي» متفق عليه. ولا بأس بالعلو اليسير؛ لأنه لا يحتاج فيه إلى رفع البصر المنهي عنه فيه، بخلاف الكثير، ولا بأس أن يكون المأموم أعلى من الإمام لذلك، ويصح أن يأتم به من في أعلى المسجد وغيره، إذا اتصلت الصفوف.

فصل:
يجوز أن يأتم بالإمام من في المسجد، وإن تباعد؛ لأن المسجد كله موضع للجماعة، فإن كان بينهما حائل يمنع المشاهدة، وسماع التكبير لم يصح الائتمام به، لتعذر اتباعه، وإن منع المشاهدة دون السماع؛ ففيه وجهان:
أصحها صحة الصلاة؛ لأن أحمد قال في المنبر: إذا قطع الصف لم يضر، ولأنهم في موضع الجماعة، ويمكنهم الاقتداء به لسماع التكبير، فأشبه المشاهد.
والثاني: لا يصح؛ لأن عائشة قالت لنساء كن يصلين في حجرتها: لا تصلين بصلاة الإمام، فإنكن دونه في حجاب، والحجاب موجود هاهنا، فإن كان المأموم في غير المسجد، وبينهما حائل يمنع رؤية الإمام، أو من وراءه لم تصح الصلاة؛ لحديث عائشة، وقال ابن حامد: يمنع في الفرض، وفي النافلة روايتان.
وعن أحمد في رجل يصلي خارج المسجد يوم الجمعة، وأبوابه مغلقة أرجو أن لا يكون به بأس، ويشترط اتصال الصفوف، وهو أن لا يكون بينهما بعد كثير لم تجر العادة بمثله، واشترط أصحابنا أن لا يكون بينهما نهر تجري فيه السفن، ولا طريق، والصحيح أن هذا لا يمنع؛ لأنه لا يمنع المتابعة، إلا أن يكون عريضًا يمنع الاتصال.

(1/302)


فصل:
ويستحب أن يصلي إلى سترة ويدنو منها؛ لما روى أبو سعيد قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذا صلى أحدكم فليصل إلى سترة، وليدن منها» رواه الأثرم. «قال سهل: كان بين النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وبين القبلة ممر الشاة» رواه البخاري ومسلم.
وقدر السترة مثل آخرة الرحل، وقد قدر الذراع أو عظم الذراع؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إذا وضع أحدكم بين يديه مثل مؤخرة الرحل فليصل، ولا يبال ما مر وراء ذلك» رواه مسلم.
ويجوز أن يستتر بعصًا أو حيوان؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان تركز له الحربة، فيصلي إليها، ويعرض البعير فيصلي إليه، وقال نافع: كان ابن عمر إذا لم يجد سبيلًا إلى سارية، قال: ولني ظهرك، فإن لم يجد سترة خط خطًا؛ لما روى أبو هريرة قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذا صلى أحدكم فليجعل تلقاء وجهه شيئًا، فإن لم يجد فلينصب عصًا، فإن لم يكن معه عصًا فليخط خطًا، ثم لا يضره ما مر أمامه» رواه أبو داود. قال أحمد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: الخط عرضًا مثل الهلال، وقد قالوا طولًا، وقالوا عرضًا.
قال الشيخ: وأنا أختار هذا، فإن لم يمكنه نصب العصا ولا الخط، عرضها بين يديه؛ لأنها تقوم مقام الخط، ولا يصمد للسترة، لكن ينحرف عنها يسيرًا؛ «لقول المقداد: ما رأيت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يصلي إلى عود ولا عمود ولا شجرة إلا جعله على حاجبه الأيمن، ولا يصمد له صمدًا» رواه أبو داود.
وسترة الإمام سترة لمن خلفه؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يصلي بأصحابه إلى سترة، ولم يأمرهم أن يستتروا بشيء.

(1/303)


فصل:
وإذا مر من وراء سترته بشيء، فلا بأس، للحديث، فإن أراد المرور دونها رده، فإن لح دفعه، إلا أن يغلبه أن يحوجه إلى عمل كثير، لما روى أبو سعيد قال: سمعت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: «إذا كان أحدكم يصلي إلى شيء يستره من الناس، فأراد أحد أن يجتاز بين يديه فليدفعه، فإن أبى فليقاتله، فإنما هو الشيطان» متفق عليه. فإن مر بين يديه لم يرده من حيث جاء؛ لأنه مرور ثان، وإن صلى إلى غير سترة فمر من بين يديه شيء فحكمه حكم ما مر بينه وبين السترة للحديث، ويتقيد ذلك بالقريب منه، الذي لو مشى إليه فدفعه لم تفسد صلاته؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أمر بدفع المار، فتقيد به، بدلالة الإجماع بما لا يفسد الصلاة، فكذلك هذا.

[فصل في حكم المرور بين يدي المصلي]
فصل:
ويحرم المرور بين يدي المصلي؛ لما روى أبو جهيم الأنصاري قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لو يعلم المار بين يدي المصلي ماذا عليه لكان أن يقف أربعين خير له من أن يمر بين يديه» متفق عليه. ولا يقطعها شيء إلا الكلب الأسود البهيم، الذي لا لون فيه سوى السواد، لما «روى أبو ذر قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: إذا قام أحدكم يصلي، فإنه يستره مثل آخر الرحل، فإن لم يكن بين يديه، مثل آخرة الرحل، فإنه يقطع صلاته الحمار والمرأة والكلب الأسود قلت: يا أبا ذر، ما بال الكلب الأسود، من الكلب الأحمر، من الكلب الأصفر؟ قال: يا ابن أخي، سألت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كما سألتني فقال: الكلب الأسود شيطان» رواه مسلم.

(1/304)


وعن أحمد: أن مرور المرأة والحمار يقطع الصلاة للحديث، والمشهور الأول؛ «لأن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قالت: عدلتمونا بالكلب والحمار، لقد كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يصلي صلاته في الليل كلها، وأنا معترضة بينه وبين القبلة» متفق عليه. «وقال: الفضل بن عباس: أتانا النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ونحن في بادية فصلى في صحراء ليس بين يديه سترة، وحمارة لنا وكلبة يعبثان بين يديه، فما بالى ذلك» رواه أبو داود. فإن كان الكلب واقفًا بين يديه ففيه وجهان:
أحدهما: حكمه حكم المار؛ لأنه حصل بين يديه أشبه المار.
والثاني: لا تفسد صلاته؛ لأن حكم الواقف يخالف حكم المار؛ بدليل أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يصلي إلى البعير، ويصلي وعائشة في قبلته، ولا يرى ذلك كالمرور، ومن غصب سترة فاستتر بها، فهل يمنع ما مر وراءها، فيه وجهان بناء على الصلاة في الثوب المغصوب.

فصل:
ولا حاجة في مكة إلى سترة، ولا يضره ما مر بين يديه؛ «لأن المطلب قال: رأيت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يصلي حيال الحجر والناس يمرون بين يديه» رواه الخلال. وكان ابن الزبير - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يصلي والطواف بينه وبين القبلة تمر المرأة بين يديه فينتظرها حتى تمر، ثم يضع جبهته في موضع قدمها.

(1/305)


[باب قصر الصلاة]
ولا يجوز قصر الصبح والمغرب بالإجماع؛ لأن قصر الصبح يجحف بها لقلتها، وقصر المغرب يخرجها عن كونها وترًا، ويجوز قصر الرباعية فيصليها ركعتين بشروط ستة:
أحدها: أن تكون في سفر طويل قدره أربعة برد، وهي ستة عشر فرسخًا، ثمانية وأربعون ميلًا بالهاشمي، وذلك نحو من يومين قاصدين؛ لما روي عن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه قال: يا أهل مكة، لا تقصروا في أدنى من أربعة برد، ما بين عسفان إلى مكة، وكان ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - وابن عمر لا يقصران في أقل من أربعة برد، ولأنها مسافة تجمع مشقة السفر من الحل والشدة، فجاز القصر فيها كمسيرة ثلاثة أيام.
وسواء كان في بر أو بحر؛ لأن الاعتبار بالفراسخ، وإن شك في قدر السفر لم يبح القصر؛ لأن الأصل الإتمام، فلا يزول بالشك والاعتبار بالنية دون حقيقة السفر، فلو نوى سفرًا طويلًا، فقصر ثم بدأ له فأقام أو رجع، كانت صلاته صحيحة، ولو خرج طالبًا لآبق أو منتجعًا غيثًا، متى وجده رجع أو أقام لم يقصر، ولو سافر شهرًا.
ولو خرج مكرهًا كالأسير يقصد به بلدًا بعينه فله القصر؛ لأنه تابع لمن يقصد مسافة القصر، فإذا وصل حصنهم أتم حينئذ، نص عليه، وإن كان للبلد طريقان طويلة وقصيرة، فسلك البعيدة ليقصر فله ذلك؛ لأنه سفر يقصر في مثله، فجاز له القصر، كما لو لم يكن له طريق سواه.

فصل:
والثاني: أن يكون السفر مباحًا، فإن سافر لمعصية كالآبق، وقطع الطريق والتجارة في خمر لم يقصر، ولم يترخص بشيء من رخص السفر؛ لأنه لا يجوز تعليق الرخص بالمعاصي، لما فيه من الإعانة عليها والدعاية إليها، ولا يرد الشرع بذلك.

فصل:
والثالث: شروعه بالسفر بخروجه من بيوت قريته؛ لأن الله تعالى قال: {وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ} [النساء: 101] ، ولا يكون ضاربًا

(1/306)


في الأرض حتى يخرج، فله القصر بين حيطان البساتين؛ لأنها ليست من حيطان البلد، ولا تبنى للسكنى.
وإن خرب بعض البلد فصار فضاء فهو كالصحراء، وإن كانت حيطانه قائمة، فقال القاضي: لا يقصر حتى يفارقها؛ لأنه يمكن السكنى فيها، وقال الآمدي: له القصر بينهما؛ لأنها غير معتمدة للسكنى، فهي كالبساتين.

فصل:
الرابع: أن ينوي القصر مع نية الإحرام، وقال أبو بكر: لا يحتاج إلى النية؛ لأن من خير في العبادة قبل الدخول فيها خير بعد الدخول فيها كالصيام، ولنا أن الأصل الإتمام، فإطلاق النية ينصرف إليه، كما لو نوى الصلاة مطلقًا انصرف إلى الانفراد الذي هو الأصل، فإن شك نية القصر لزمه الإتمام؛ لأنه الأصل، فلو نوى الإتمام في ابتداء الصلاة، أو في أثنائها، أو ما يلزمه الإتمام كالإقامة، أو قلب نيته إلى سفر قريب أو معصية؛ لزمه إتمام الصلاة، ولزم من خلفه متابعته؛ لأن نية الأربع أو ما قد يوجبها قد وجد، فلزمته الأربع كما لو نوى في الابتداء، ومن قصر معتقدًا تحريم القصر فصلاته فاسدة؛ لأنه فعل ما يعتقد تحريمه.

فصل:
الخامس: ألا تكون الصلاة وجبت في الحضر، فلو ترك صلاة حضر فقضاها في السفر لم يجز له قصرها؛ لأنه تعين فعلها أربعًا، فلم يجز النقصان فيها، كما لو نوى أربع ركعات، ولأن القضاء معتبر بالأداء، والأداء أربع، ومن سافر بعد دخول وقت صلاة، لم يقصرها لذلك، وحكي عنه أن له قصرها؛ لأنها صلاة مؤداة في السفر، فأشبه ما لو دخل وقتها فيه.
ولو أحرم بها في سفينة في الحضر، فخرجت به في أثناء الصلاة، أو أحرم بها في

(1/307)


السفر، فدخلت البلد في أثناء الصلاة، لم يقصر؛ لأنها عبادة تختلف بالسفر والحضر، ووجد أحد طرفيها في الحضر، فغلب حكمه كالمسح.
وإن نسي صلاة سفر، فذكرها في الحضر، أتمها لذلك، وإن ذكرها في السفر أو في سفر آخر قصرها؛ لأن وجوبها وفعلها وجدا في السفر، فكان له قصرها كما لو أداها، ويتخرج أن يلزمه إتمامها إذا ذكرها في سفر آخر؛ لأن الوجوب كان ثابتًا في ذمته في الحضر.

فصل:
السادس: أن لا يأتم بمقيم، فإن ائتم بمقيم لزمه الإتمام، سواء ائتم به في الصلاة كلها أو جزء منها؛ لأن «ابن عباس سئل: ما بال المسافر يصلي ركعتين حال الانفراد وأربعًا إذا ائتم بمقيم؟ فقال: تلك السنة» رواه الإمام أحمد. وهذا ينصرف إلى سنة النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ولأنها صلاة مردودة من أربع، فلا يصليها خلف من يصلي الأربع كالجمعة، ولو أدرك المسافر من الجمعة أقل من ركعة لزمه إتمامها أربعًا، لائتمامه بالمقيم، ومن ائتم بالمقيم ففسدت صلاته، لم يجز له قصرها بعد ذلك؛ لأنها تعينت عليه تامة لائتمامه بمقيم.
ومن أحرم مع من يظنه مقيمًا أو يشك فيه، لزمه الإتمام، وإن قصر إمامه اعتبارًا بالنية، وإن غلب على ظنه أنه مسافر لدليل، فله أن ينوي القصر، ويتبع إمامه، فيقصر بقصره، ويتم بإتمامه، وإن أحدث إمامه قبل علمه بحاله، فله القصر؛ لأن الظاهر أنه مسافر.
وإن أم المسافر مقيمًا لزم المقيم الإتمام، ويستحب للإمام أن يقول لهم: أتموا فإنا قوم سفر، لما «روى عمران بن حصين قال: شهدت الفتح مع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فكان لا يصلي إلا ركعتين، ثم يقول لأهل البلد: صلوا أربعًا فإنا سفر» رواه أبو داود.

(1/308)


وإن أتم الإمام بهم صحت الصلاة.
وعنه: تفسد صلاة المقيمين؛ لأنهم ائتموا بمتنفل في الركعتين الأخيرتين، والأول المذهب؛ لأن الإتمام يلزمه بنيته.
وإن نسي المسافر فقام إلى ثالثة فله أن يجلس، ولا يلزمه الإتمام؛ لأن الموجب للإتمام نيته، أو ائتمامه بمقيم ولم يوجد، فإن جلس سجد للسهو، وله أن يتم.
فإن لم يعلم المأمومون هل سها أو نوى الإتمام؟ لزمته متابعته؛ لأن حكم وجوب المتابعة ثابت، فلا يزول بالشك، فإذا اتبعوه فصلاتهم صحيحة لما ذكرناه، وإن علموا أن قيامه لسهو فلهم مفارقته، فإن تابعوه، فقال القاضي: تفسد صلاتهم؛ لأنهم زادوا في الصلاة عمدًا، والصحيح أنها لا تفسد؛ لأنها زيادة لا تفسد بها صلاة الإمام عمدًا، فلا تفسد بها صلاة المأموم، كزيادات الأقوال، وإذا صلى بهم الأربع سهوًا سجد للسهو، وليس بواجب عليه؛ لأنها زيادة لا يبطل عمدها، فلا يجب لها السجود كقراءة السورة في الثالثة.

فصل:
وللمسافر أن يقصر، وله أن يتم؛ لقول الله تعالى: {فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ} [النساء: 101] فمفهومه أن القصر رخصة يجوز تركها، «وعن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أنها قالت: خرجت مع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في عمرة رمضان، فأفطر وصمت، وقصر وأتممت، فقلت: يا رسول الله، بأبي أنت وأمي، أفطرت وصمت، وقصرت وأتممت، فقال: أحسنت» رواه أبو داود الطيالسي.
ولأنه تخفيف أبيح للسفر، فجاز تركه كالمسح ثلاثًا، والقصر أفضل؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأصحابه داوموا عليه، وعابوا من تركه. «قال عبد الرحمن بن يزيد: صلى عثمان أربعًا، فقال عبد الله: صليت مع النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ركعتين، ومع أبي بكر ركعتين، ومع عمر ركعتين، ثم تفرقت بكم الطرق، ولوددت أن حظي من أربع، ركعتان متقبلتان» متفق عليه. وأتى ابن عباس رجل فقال: إني

(1/309)


كنت مع صاحب لي في السفر، فكنت أتم وصاحبي يقصر، فقال: بل أنت الذي كنت تقصر وصاحبك يتم.

فصل:
وإذا نوى المسافر الإقامة في بلد أكثر من إحدى وعشرين صلاة أتم، وإن نوى دونها قصر، وعنه: إن نوى الإقامة أربعة أيام أتم؛ لأن الثلاث حد القلة بدليل أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «يقيم المهاجر بمكة بعد قضاء نسكه ثلاثًا» رواه أبو داود. فإذا أقام أربعًا فقد زاد على حد القلة، فيتم، والأول المذهب؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أقام بمكة فصلى بها إحدى وعشرين صلاة يقصر فيها، وذلك أنه قدم لصبح رابعة، فأقام إلى يوم التروية، فصلى الصبح ثم خرج، فمن أقام مثل إقامته قصر، ومن زاد أتم، ذكره الإمام أحمد، «قال أنس: أقمنا بمكة عشرًا نقصر الصلاة» ، ومعناه ما ذكرناه؛ لأنه حسب خروجه إلى منى وعرفة وما بعده من العشرة، وفي هذا الحديث دليل على أن من قصد بلدًا ينوي الرجوع عنه قريبًا فله القصر فيه؛ لكون النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قصر بمكة وهي مقصده، وفيه دليل على أن من قصد رستاقًا، يتنقل فيه لا ينوي إقامة في موضع واحد فله القصر؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قصر بمكة ومنى وعرفة عشرًا، ومن كان بمكة مقيمًا فخرج إلى عرفة عازمًا على أنه إذا رجع إلى مكة لا يقيم بها، فله القصر من حين خروجه، ولو خرج المسافر، فذكر حاجة في بلده قصر في رجوعه إليها، فإذا وصل البلد، فإن كان له به أهل أو مال أتم، وإلا قصر فيه أيضًا.
ومتى مر المسافر ببلده له به أهل أو ماشية أتم؛ لأن ذلك يروى عن عثمان وابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -.

فصل:
ومن لم يجمع على إقامة إحدى وعشرين صلاة قصر، وإن أقام دهرًا، مثل من يقيم لحاجة يرجو إنجازها، أو جهاد أو حبس سلطان أو عدو أو مرض، سواء غلب

(1/310)


على ظنه كثرة ذلك أو قلته؛ «لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أقام في بعض أسفاره تسع عشرة يقصر الصلاة» رواه البخاري. «وأقام بتبوك عشرين يومًا يقصر» رواه الإمام أحمد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -. وأقام ابن عمر بأذربيجان ستة أشهر يصلي ركعتين، وقد حال الثلج بينه وبين الدخول، وإن قال: إن لقيت فلانًا أقمت، وإلا لم أقم، لم يبطل حكم سفره؛ لأنه لم يعزم على الإقامة.

فصل:
والملاح الذي أهله معه في السفينة، وحاجة بيته ولا بيت له غيرها، وليس له نية المقام ببلد لا يقصر، نص عليه؛ لأنه غير ظاعن عن بلده ومنزله، فأشبه المقيم ببلد، قال القاضي: والمكاري، والفيج مثل في ذلك، والأولى إباحة القصر لهما، لدخولهما في النصوص المبيحة، وامتناع قياسها على الملاح؛ لأنه لا يمكنهما استصحاب الأهل، ومصالح المنزل في السفر، وزيادة المشقة عليه في سفره بحمل أهله معه بخلاف الملاح.

[باب الجمع بين الصلاتين]
وأسباب الجمع ثلاثة:
أحدها: السفر المبيح للقصر؛ لما «روى أنس أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان إذا عجل به السير يؤخر الظهر إلى وقت العصر، فيجمع بينها ويؤخر المغرب حتى يجمع بينها وبين العشاء حين يغيب الشفق» متفق عليه. وهذا لفظ مسلم، وخص الخرقي الجمع بهذه الحالة، إذا ارتحل قبل دخول الوقت الأولى أخرها حتى يجمعها مع الثانية، في وقت الثانية، وروى نحوه عن أحمد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -.
والمذهب جواز الجمع لمن جاز له القصر في نزوله وسيره، وله الخيرة بين تقديم الثانية، فيصليها مع الأولى، وبين تأخير الأولى إلى الثانية، لما «روى معاذ: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان إذا ارتحل قبل زيغ الشمس أخر

(1/311)


الظهر حتى يجمعها إلى العصر فيصليهما جميعًا، وإذا ارتحل بعد زيغ الشمس صلى الظهر والعصر جميعًا ثم سار، وإذا ارتحل قبل المغرب أخر المغرب حتى يصليها مع العشاء، وإذا ارتحل بعد المغرب عجل العشاء، فصلاها مع المغرب» . قال الترمذي: هذا حديث حسن.
وروى ابن عباس نحوه، وروى أنس نحوه، أخرجه البخاري. ولأنها رخصة من رخص السفر، فلم يعتبر فيها وجود السير كسائر رخصه، فإن جمع بينهما في وقت الأولى اعتبر ثلاثة شروط: أن ينوي الجمع عند الإحرام بالأولى؛ لأنها نية تفتقر إليها، فاعتبرت عند الإحرام كنية القصر، وفيه وجه آخر أنه يجزئه، أن ينوي قبل الفراغ من الأولى؛ لأنه موضع الجمع بين الصلاتين، فإذا لم تتأخر النية عنه جاز، وقال أبو بكر: لا يحتاج الجمع إلى نية؛ كقوله في القصر، وقد مضى الكلام معه.
الشرط الثاني: أن لا يفرق بينهما إلا تفريقًا يسيرًا؛ لأن معنى الجمع المتابعة والمقرنة، ولا يحصل ذلك مع الفرق الطويل، والمرجع في طول الفرق وقصره إلى العرف، فإن احتاج إلى وضوء خفيف لم تبطل، وإن صلى بينهما سنة الصلاة فعلى روايتين.

(1/312)


الشرط الثالث: وجود العذر حال افتتاح الأولى، والفراغ منها، وافتتاح الثانية؛ لأن افتتاح الأولى موضع النية، وبافتتاح الثانية يحصل الجمع، فاعتبر العذر فيها، فإن انقطع العذر في غير هذه المواضع لم يؤثر، وإن جمع في وقت الثانية اعتبر أن ينوي التأخير للجمع في وقت الأولى، إلى أن يبقى منه قدر فعلها، واستمرار العذر إلى وقت الثانية، ولا يعتبر وجوده في وقت الثانية؛ لأنها صارت في غير وقتها، وقد جوز له التأخير ولا يعتبر المواصلة بينهما في أصح الوجهين؛ لأن الثانية مفعولة في وقتها، فهي أداء على كل حال، والأولى معها كصلاة فائتة.

فصل:
والسبب الثاني: المطر يبيح الجمع بين المغرب والعشاء؛ «لأن أبا سلمة قال: من السنة إذا كان يوم مطير أن يجمع بين المغرب والعشاء» ، وكان ابن عمر يجمع إذا جمع الأمراء بين المغرب والعشاء، ولا يجمع بين الظهر والعصر للمطر، قال أحمد: ما سمعت بذلك، وهذا اختيار أبي بكر، وذكر بعض أصحابنا وجهًا في جوازه قياسًا على الليل، ولا يصح لأن المشقة في المطر إنما تعظم في الليل لظلمته، فلا يقاس عليه غيره.
والمطر المبيح للجمع هو الذي يبل الثياب، وتلحق المشقة بالخروج فيه والثلج مثله في هذا، فأما الطل والمطر الذي لا يبل الثياب، فلا يبيح الجمع؛ لعدم المشقة فيه، وهل يجوز الجمع لمن يصلي منفردًا، أو لمقيم في المسجد، أو من طريقه إليه في ظلال؟ على وجهين:
أحدهما: لا يجوز لعدم المشقة.
والثاني: يجوز؛ لأن العذر العام لا يعتبر فيه حقيقة المشقة كالسفر.
والوحل بمجرده مبيح للجمع؛ لأنه يساوي المطر في مشقته وإسقاطه للجمعة والجماعة، فهو كالمطر، وفيه وجه آخر أنه لا يبيح، لاختلافهما في المشقة، وفي الريح الشديدة في الليلة المظلمة وجهان.
فصل:
والسبب الثالث: المرض يبيح الجمع بين الظهر والعصر والمغرب والعشاء إذا لحقه بتركه مشقة وضعف؛ لأن «ابن عباس قال: جمع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بين الظهر والعصر والمغرب والعشاء بالمدينة من غير خوف ولا مطر» متفق عليه. وقد أجمعنا على

(1/313)


أن الجمع لا يجوز لغير عذر، ولم يبق إلا المرض، ولأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أمر سهلة بنت سهيل، وحمنة بنت جحش بالجمع بين الصلاتين لأجل الاستحاضة، وهو نوع مرض، ثم هو مخير بين التقديم والتأخير، أي ذلك كان أسهل عليه فعله؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يقدم إذا ارتحل بعد دخول الوقت، ويؤخر إذا ارتحل قبله طلبًا للأسهل، فكذلك المريض، وإن كان الجمع عنده واحدًا فالأفضل التأخير، فأما الجمع في المطر، فلا تحصل فائدة الجمع فيه إلا بتقديم العشاء إلى المغرب، فيكون ذلك الأولى، والله أعلم.

[باب صلاة المريض]
إذا عجز عن الصلاة قائمًا صلى قاعدًا؛ «لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لعمران بن حصين: صل قائمًا، فإن لم تستطع فقاعدًا، فإن لم تستطع فعلى جنب» رواه البخاري. وصلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قاعدًا بأصحابه وهو شاك.
وصفة جلوسه على ما ذكرنا في صلاة التطوع.
فإن عجز عن الركوع والسجود أومأ بهما، ويجعل سجوده أخفض من ركوعه، يقرب وجهه من الأرض في السجود قدر طاقته.
فإن سجد على وسادة بين يديه جاز؛ لأن أم سلمة سجدت على وسادة لرمد بها، ولا يجعلها أرفع من مكان يمكنه حط وجهه إليه.
وإن أمكنته الصلاة قائمًا وحده ولم تمكنه من الإمام إلا بالقعود في بعضها فهو مخير فيها؛ لأنه يفعل في كل واحدة منهما واجبًا ويترك واجبًا، وإن أمكنه القيام وعجز عن الركوع والسجود صلى قائمًا، فأومأ بالركوع، ثم جلس فأومأ بالسجود؛ لأن سقوط فرض لا يسقط فرضًا غيره.
وإن تقوس ظهره فصار كالراكع رفع حال القيام قدر طاقته، ثم انحنى في الركوع قليلًا آخر، وإن كان بعينه رمد فقال ثقات من العلماء بالطب: إن صليت مستلقيًا أمكن مداواتك جاز ذلك؛ لأن أم سلمة تركت السجود لرمد بها، ولأنه يخاف من الضرر، أشبه المرض.

(1/314)


فصل:
وإن عجز عن القعود صلى على جنبه الأيمن مستقبل القبلة بوجهه؛ لحديث عمران، وإن صلى على جنبه الأيسر جاز للخبر، ولأنه يستقبل القبلة به، وإن صلى مستلقيًا على ظهره بحيث إذا قعد كان وجهه إليها جاز؛ لأنه نوع استقبال، ويحتمل أن لا يجوز لمخالفته الأمر، وتركه الاستقبال بوجهه وجملته.
فإن عجز عن الصلاة على جنبه صلى على ظهره، ويومئ بالركوع والسجود برأسه، فإن عجز فبطرفيه، ولا تسقط الصلاة عنه ما دام عقله ثابتًا.

فصل:
وإن قدر على القيام والقعود في أثناء الصلاة انتقل إليه، وأتم صلاته. وإن ابتدأها قائمًا أو قاعدًا فعجز عن ذلك في أثنائها أتم صلاته على ما أمكنه؛ لأنه يجوز أن يؤدي جميعها قائمًا حال القدرة، وقاعدًا حال العجز، فجاز أن يفعل بعضها قائمًا مع القدرة، وبعضها قاعدًا مع العجز.

فصل:
ومن كان في ماء أو طين لا يمكنه السجود إلا بالتلوث والبلل فله الصلاة بالإيماء، والصلاة على دابته؛ لأن أنس بن مالك صلى المكتوبة في يوم مطير على دابته، «وروى يعلى بن أمية، عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه انتهى إلى مضيق ومعه أصحابه، والسماء من فوقهم، والبلة من أسفل منهم، فصلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأصحابه على ظهور دوابهم يومئون ويجعلون السجود أخفض من الركوع» رواه الأثرم، والترمذي. فإن كان البلل يسيرًا لا أذى فيه لزمه السجود؛ لأن «النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - انصرف من صلاته وعلى جبهته وأنفه أثر الماء والطين» متفق عليه.

وهل تجوز الصلاة على الدابة لأجل مرض؟ فيه روايتان:
إحداهما: تجوز، اختارها أبو بكر؛ لأن مشقة النزول في المرض أكثر من المشقة بالمطر.

(1/315)


والثانية: لا تجوز؛ لأن ابن عمر كان ينزل مرضاه، ولأن الصلاة على الأرض أسكن له وأمكن، بخلاف صاحب الطين.
فإن خاف المريض بالنزول ضررًا غير محتمل كالانقطاع عن الرفقة ونحوه فله الصلاة عليها، رواية واحدة؛ لأنه خائف على نفسه، فأشبه الخائف من عدو.

[باب صلاة الخوف]
تجوز صلاة الخوف في كل قتال مباح، كقتال الكفارة والبغاة والمحاربين، ولا تجوز في محرم لأنها رخصة، فلا تستباح بالمحرم كالقصر.
والخوف على ضربين: شديد وغيره، فغير الشديد، يجوز أن يصلي بهم على الصفة التي صلاها رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قال أحمد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: الأحاديث التي جاءت في صلاة الخوف كلها أحاديث جياد صحاح، وهي تختلف، فأقول: إن ذلك كله جائز لمن فعله، إلا أن حديث سهل بن أبي خيثمة أنكى في العذر فأنا أختاره، وقال ستة أو سبعة: يروى فيها كلها جائز، فتذكر الوجوه التي بلغنا.
فالوجه الأول: منها ما «روى صالح بن خوات، عن من صلى مع النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يوم ذات الرقاع صلاة الخوف، أن طائفة صلت معه، وطائفة وجاه فصلى بالتي معه ركعة، ثم ثبت قائمًا فأتموا لأنفسهم، ثم انصرفوا وصفوا وجاه العدو، وجاءت الطائفة الأخرى، فصلى بهم الركعة التي بقيت من صلاته، ثم ثبت جالسًا، وأتموا لأنفسهم ثم سلم بهم» متفق عليه. فهذا حديث سهل الذي اختاره أحمد.
ويشترط أن يكون في المسلمين كثرة يمكن تفريقهم طائفتين؛ كل طائفة ثلاثة فأكثر.
ويقرأ الإمام في حال الانتظار، ويطيل حتى يدركوه؛ لأن الصلاة ليست محلًا للسكوت، وتكون الطائفة الأولى في حكم الائتمام قبل مفارقته إن سها لحقهم حكم سهوه، وسجدوا له، وإن سهوا لم يلحقهم حكم سهوهم؛ لأنهم مأمومون، فإذا فارقوه صاروا منفردين لا يلحقهم سهوه، وإن سهوا سجدوا؛ لأنهم منفردون، فأما الطائفة الثانية، فلحقها سهو إمامها في جميع الصلاة، ما أدركوه معه وما لم يدركوه كالمسبوق، ولا يلحقهم حكم سهوهم في شيء من صلاتهم؛ لأنهم إن فارقوه فهم مؤتمون به حكمًا؛ لأنهم يسلمون بسلامه، فإذا قضوا ما عليهم فسجد إمامهم سجدوا معه، فإن

(1/316)


سجد قبل إتمامه سجدوا معه؛ لأنه إمامهم فلزمهم متابعته، ولا يعيدون السجود بعد فراغهم من التشهد؛ لأنهم لم ينفردوا عن الإمام، فلا يلزمهم من السجود أكثر مما يلزمه، بخلاف المسبوق.

فصل:
الوجه الثاني: أن يقسمهم طائفتين، يصلي بكل طائفة صلاة كاملة، كما «روى أبو بكرة قال: صلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في خوف الظهر، فصف بعضهم خلفه، وبعضهم بإزاء العدو، فصلى ركعتين ثم سلم، فانطلق الذين صلوا معه، فوقفوا موقف أصحابهم، ثم جاء أولئك فصلوا خلفه، فصلى بهم ركعتين ثم سلم، فكان لرسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أربعًا، ولأصحابه ركعتين ركعتين» رواه أبو داود.

فصل:
الوجه الثالث: أن يصلي بهم كالتي قبلها، إلا أنه لا يسلم إلا في آخر الأربع، كما «روى جابر قال: أقبلنا مع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حتى إذ كنا بذات الرقاع، فنودي بالصلاة، فصلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بطائفة ركعتين، ثم تأخروا وصلى بالطائفة الأخرى ركعتين، فكانت لرسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أربع ركعات، وللقوم ركعتان» رواه البخاري.

فصل:
الوجه الرابع: ما «روى عبد الله بن عمر قال: صلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلاة الخوف في بعض أيامه، فقامت طائفة معه، وطائفة بإزاء العدو، فصلى بالذين معه ركعة، ثم ذهبوا، وجاء الآخرون فصلى بهم ركعة، ثم قضت الطائفتان ركعة ركعة» متفق عليه. فهذا الوجه جوز أحمد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - الصلاة به، واختار حديث سهل؛ لأنه أشبه بظاهر الكتاب وأحوط للصلاة، وأنكى في العدو، وأما الكتاب فقول الله تعالى: {وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ} [النساء: 102] الآية، وقوله: {وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ} [النساء: 102]

(1/317)


ظاهره أن جميع صلاتها معه، وأن الطائفة الأولى قد صلت جميع صلاتها، ولا يتحقق هذا في هذا الوجه، وأما الاحتياط للحرب، فإن كل طائفة تنصرف بعد الفراغ من صلاتها، وتتمكن من الضرب والكلام والتحريض وغيره، وفي هذا الوجه تنصرف كل طائفة، وهي في حكم الصلاة لا تتمكن من ذلك، ولا يخلو من أن تمشي أو تركب، وذلك عمل كثير يفسدها.

فصل:
الوجه الخامس: إذا كان العدو في جهة القبلة، بحيث لا يخفى بعضهم على المسلمين ولم يخافوا كمينًا، صلى بهم كما «روى جابر قال: شهدت مع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلاة الخوف، فصففنا خلفه صفين، والعدو بيننا وبين القبلة، فكبر رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وكبرنا جميعًا، ثم ركع وركعنا، ثم رفع رأسه من الركوع ورفعنا جميعًا، ثم انحدر بالسجود والصف الذي يليه، وقام الصف المؤخر في نحر العدو، فلما قضى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - السجود، وقام الصف الذي يليه، انحدر الصف المؤخر بالسجود وقاموا، ثم تقدم الصف المؤخر وتأخر الصف المقدم، ثم ركع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وركعنا جميعًا، ثم رفع رأسه من الركوع ورفعنا جميعًا، ثم انحدر بالسجود والصف الذي يليه كان مؤخرًا في الركعة الأولى، وقام الصف المؤخر في نحور العدو، فلما قضى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - السجود، وقام الصف الذي يليه، انحدر الصف المؤخر بالسجود فسجد، ثم سلم النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وسلمنا جميعًا» أخرجه مسلم.
فهذه الأوجه الخمسة جائزة لمن فعلها، ولا نعرف وجهًا سادسًا غير ما «روى ابن عباس، قال: صلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بذي قرد صلاة الخوف، والمشركون بينه وبين القبلة، فصف صفًا خلفه وصفًا موازي العدو، فصلى بهم ركعة، ثم ذهب هؤلاء إلى مصاف هؤلاء، ورجع هؤلاء إلى مصاف هؤلاء، فصلى بهم ركعة، ثم سلم عليهم، فكانت لرسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ركعتان، ولهم ركعة ركعة» رواه الأثرم. فكلام أحمد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يقتضي كون هذا من الوجوه الجائزة، إلا أن أصحابه قالوا: لا تأثير للخوف في عدد الركعات، فيدل على أن هذا ليس بمذهب له.

(1/318)


فصل:
فإن صلى المغرب على حديث سهل، صلى بالطائفة الأولى ركعتين، وتتم لأنفسها ركعة، تقرأ فيها بالحمد لله، وبالثانية ركعة، وتتم لأنفسها ركعتين تقرأ فيها بالحمد لله وسورة، وتفارقه الأولى حين يقوم إلى الثالثة في أحد الوجهين؛ لأن الانتظار في القيام أولى لكثرة ثواب القيام، واستحباب تقصير التشهد، وفي الآخر تفارقه حين يفرغ من تشهده الأول، فتقوم ويثبت هو جالسًا لتدرك الثانية جميع الركعة الثالثة، ويطيل التشهد حتى تجيء الطائفة الثانية فينهض، ثم تكبر الطائفة وتدخل معه، فإذا جلس للتشهد الآخر نهضت لقضاء ما فاتها، ولم تتشهد معه؛ لأنه ليس بموضع تشهدها، ويحتمل أن تتشهد معه إذا قلنا: إنها تقضي ركعتين متواليتين؛ لئلا يفضي إلى وقوع جميع الصلاة بتشهد واحد.

فصل:
ويجوز صلاة الخوف للمقيمين؛ لعموم قَوْله تَعَالَى: {وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ} [النساء: 102] الآية. ولأنها حالة خوف، فأشبهت حالة السفر، ويصلي بكل طائفة ركعتين، وتتم الطائفة الأولى بالحمد لله في كل ركعة، والطائفة الأخرى بالحمد لله وسورة، وفي موضع مفارقة الطائفة الأولى له وجهان، على ما ذكرنا في المغرب، وإن صلى بطائفة ثلاث ركعات وبالأخرى ركعة، أو صلى المغرب بالأولى ركعة وبالثانية ركعتين، جاز لأنه لم يزد على انتظارين ورد الشرع بهما.
وإن فرقهم أربع فرق، وصلى بكل طائفة ركعة أو ثلاث فرق في المغرب صحت صلاة الأولى والثانية؛ لأنهما فارقتاه لعذر، وبطلت صلاة الإمام لزيادته انتظارًا لم يرد الشرع بمثله، وصلاة الثالثة والرابعة لاقتدائهما بمن صلاته باطلة، وقال ابن حامد: إن لم يعلما ببطلان صلاته صحت صلاتهما للعذر، فأشبه من صلى وراء محدث يجهل هو والإمام حدثه.

فصل:
إذا صلى صلاة الخوف من غير خوف لم تصح؛ لأنها لا تنفك من مفارق إمامه، أو تارك متابعته، أو قاصر مع إتمام إمامته، أو قائم للقضاء قبل سلامه، وكل ذلك مبطل إلا مع العذر، إلا أن يصلي بكل طائفة صلاة تامة على حديث أبي بكرة.

(1/319)


فصل:
قال أصحابنا: لا يجب حمل السلاح في صلاة الخوف؛ لأنه لو وجب لكان شرطًا كالسترة، ويستحب أن يحمل ما يدفع به عن نفسه كالسيف والسكين، ويكره ما يثقله كالجوشن، وما يمنع إكمال السجود كالمغفر، وما يؤذي به غيره كالرمح متوسطًا، فإن كان في حاشية لم يكره، ولا يجوز حمل نجس ولا ما يخل بركن الصلاة، إلا أن يخاف وقوع السهام والحجارة ونحوها به، فيجوز للضرورة، ويحتمل وجوب حمل السلاح للأمر به بقوله تعالى: {وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ} [النساء: 102] ، وقَوْله تَعَالَى: {وَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ كَانَ بِكُمْ أَذًى مِنْ مَطَرٍ أَوْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَنْ تَضَعُوا أَسْلِحَتَكُمْ} [النساء: 102] فيدل على الجناح عند عدم ذلك.

فصل:
الضرب الثاني: الخوف الشديد، مثل التحام الحرب والقتال، ومصيرهم إلى المطاردة، فلهم أن يصلوا كيفما أمكنهم رجالًا وركبانًا، يومون بالركوع والسجود على قدر الطاقة، ويتقدمون ويتأخرون ويضربون ويطعنون، ولا يؤخرون الصلاة عن وقتها، وصلاتهم صحيحة، وإن هرب هربًا مباحًا من عدو أو سيل أو سبع أو نار لا يمكنه التخلص إلا بالهرب، أو كان أسيرًا يخاف الكفار إن صلى أو مختفيًا في موضع يخاف أن يظهر عليه صلى كيفما أمكنه، قائمًا أو قاعدًا أو مستلقيًا إلى القبلة وغيرها بالإيماء في السفر والحضر، فإن أمن في صلاته أتمها صلاة أمن، وإن ابتدأها آمنًا فعرض له الخوف أتمها صلاة خائف؛ لأنه يبني على صلاة صحيحة، فجاز كبناء صلاة المرض على صلاة الصحة.
وإن رأى سوادًا فظنه عدوًا، فصلى صلاة الخوف، ثم بان أنه غير عدو، أو بينه وبينه ما يمنع العبور أعاد؛ لأنه لم يوجد المبيح فأشبه من ظن أنه متطهر، فصلى ثم علم بحدثه، قال أصحابنا: ويجوز أن يصلوا في شدة الخوف جماعة رجالًا وركبانًا، ويعفى عن تقدمهم الإمام لأجل الحاجة، كما عفي عن العمل الكثير وترك الاستقبال.

[باب صلاة الجمعة]
وهي واجبة بالإجماع، وروى ابن ماجه عن جابر قال: خطبنا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: «واعلموا أن الله قد افترض عليكم الجمعة في مقامي هذا، في يومي هذا، في شهري هذا،

(1/320)


في عامي هذا إلى يوم القيامة، فمن تركها في حياتي أو بعدي، وله إمام عادل أو جائر استخفافًا بها أو جحودًا لها، فلا جمع الله له شمله، ولا بارك له في أمره» .
ولا تجب إلا على من اجتمعت فيه شرائط ثمانية: الإسلام، والبلوغ، والعقل؛ لأنها من شرائط التكاليف بالفروع، والذكورية، والحرية، والاستيطان، لما روى طارق بن شهاب قال: إن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «الجمعة حق واجب على كل مسلم في جماعة إلا أربعة: عبد مملوك، أو امرأة، أو مسافر، أو مريض» رواه أبو داود. ولأن المرأة ليست من أهل الجماعات، وكان النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بعرفات يوم جمعة فلم يصل جمعة.
وفي العبد رواية أخرى أنها تجب عليه؛ لأنها فرض عين من الصلوات فوجبت عليه كالظهر، والأولى أولى للخبر؛ ولأن العبد مملوك المنفعة محبوس على سيده، أشبه المحبوس بدين.
السابع: انتفاء الأعذار المسقطة للجماعة.
الثامن: أن يكون مقيمًا بمكان الجمعة أو قريبًا منه، وتجب الجمعة على أهل المصر قريبهم وبعيدهم؛ لأن البلد كالشيء الواحد، وتجب على من بينه وبين الجامع فرسخ من غيرهم، ولا تجب على غيرهم؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «الجمعة على من سمع النداء» رواه أبو داود. ولم يمكن اعتبار السماع بنفسه فاعتبر بمظنته، والموضع الذي يسمع منه النداء في الغالب، إذا كان المؤذن صيتًا بموضع عالٍ، والرياح ساكنة، والأصوات هادئة، والعوارض منتفية، فرسخ فاعتبرناه به.

فصل:
وهذه الشروط تنقسم أربعة أقسام:
أحدها: شرط للصحة والانعقاد، وهو: الإسلام والعقل، فلا تصح من كافر ولا مجنون، ولا تنعقد بهما؛ لأنهما ليسا من أهل العبادات.
الثاني: شرط للوجوب والانعقاد وهي: الحرية، والذكورية، والبلوغ، والاستيطان، فلا تنعقد الجمعة بمن عدمت فيه، ولا يصح إمامتهم فيها؛ لأنهم من غير أهل الوجوب، فلم تنعقد بهم كالنساء، وتصح منهم وتجزئهم عند الظهر، وحضورها لغير النساء أفضل؛ لأن سقوطها عنهم رخصة، فإذا تكلفوا فعلها أجزأتهم، كالمريض يتكلف الصلاة قائمًا.

(1/321)


الثالث: شرط الوجوب السعي فقط، وهو: انتفاء الأعذار، فلو تكلف المريض الحضور وجبت عليه، وانعقدت به؛ لأن سقوطها كان لدفع المشقة، فإذا حضرت زالت المشقة، فوجبت عليه، وانعقدت به كالصحيح.
الرابع: شرط الانعقاد حسب وهو: الإقامة بمكان الجمعة، فلو كان أهل القرية يسمعون النداء من المصر لزمهم حضورها، ولم تنعقد بهم، ولو خرج أهل المصر أو بعضهم إلى القرية لم تنعقد بهم الجمعة؛ لأنهم غير مستوطنين بها، والظاهر أنها تصح إمامتهم فيها؛ لأنهم من أهل الوجوب.

فصل:
والأفضل لمن لم تجب عليه الجمعة أن لا يصلي الظهر قبل صلاة الإمام؛ لأنه ربما زال عذره فلزمته الجمعة، فإن صلى، فقال أبو بكر: لا تصح صلاته لذلك، والصحيح أنها تصح؛ لأنه صلى فرضه، فلا يبطل بالاحتمال، كالمتيمم، فإن زال عذره فقياس المذهب أنه لا تلزمه الجمعة؛ لأنه أدى فرض الوقت، فأشبه المعضوب إذا حج عن نفسه ثم برئ، وإن لم يزل العذر فحضروها كانت لهم نفلًا؛ «لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لأبي ذر: فصلها معهم تكن لك نافلة» ولأن الأولى أسقطت الفرض، فأما من تجب عليه الجمعة إذا صلى الظهر قبل صلاة الإمام لم تصح؛ لأنه ما خوطب بالظهر، فإن فاتته الجمعة أعادها ظهرًا؛ لأنه خوطب بها حينئذ.
وإن اتفق أهل بلد على ترك الجمعة، وصلوا ظهرًا لم تصح لذلك، فإذا خرج وقت الجمعة لزمهم الجمعة لزمهم إعادة الظهر، ولا يكره لمن فاتته الجمعة أو لم يكن من أهل فرضها أن يصلي الظهر في جماعة؛ لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «صلاة الجماعة تفضل صلاة الفذ بسبع وعشرين درجة» ...

(1/322)


متفق عليه. فإن خاف التهمة استحب إخفاؤها ليدفعها عن نفسه.

(1/323)


فصل:
ويشترط لصحة الجمعة أربعة شروط:
أحدها: الوقت، فلا تصح قبل وقتها ولا بعده بالإجماع، وآخر وقتها آخر وقت الظهر بغير خلاف، فأما أوله فذكر القاضي أنها تجوز في وقت العيد؛ لأن أحمد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال في رواية عبد الله: يجوز أن يصلي الجمعة قبل الزوال، يذهب إلى أنها كصلاة العيد، لحديث وكيع، عن جعفر بن برقان، عن ثابت بن حجاج، عن عبد الله بن سيلان، قال: شهدت الجمعة مع أبي بكر، فكانت صلاته وخطبته قبل انتصاف النهار، وشهدتها مع عمر بن الخطاب، فكانت صلاته وخطبته إلى أن أقول: قد انتصف النهار، ثم صليتها مع عثمان بن عفان - رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ -، فكانت خطبته وصلاته إلى أن أقول: قد زال النهار، فما رأيت أحداً عاب ذلك ولا أنكره. وهذا نقل للإجماع. وعن جابر قال: «كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يصلي الجمعة فنذهب إلى جمالنا فنزيحها حين تزول الشمس.» رواه مسلم؛ ولأنها صلاة عيد فأشبهت صلاة العيدين.
وقال الخرقي: تجوز في الساعة السادسة، وفي نسخة الخامسة، فمفهومه أنه لا يجوز قبل ذلك؛ لأن ما رويناه تختص به. والأفضل فعلها عند زوال الشمس صيفاً وشتاءً، لا يقدمها إلى موضوع الخلاف، ولا يؤخرها. فيشق على الناس؛ لما روى سلمة بن الأكوع قال: «كنا نجمع مع النبي (- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) إذا زالت الشمس، ثم نرجع نتتبع الفيء» ، متفق عليه. فإن خرج الوقت وهم فيها، فقال أحمد: من أدرك التشهد أتمها جمعة، فظاهره أنه يعتبر الوقت في جميعها إلا السلام؛ لأن الوقت شرط، فيعتبر في جميعها كالوضوء، وقال الخرقي: إن دخل وقت العصر وقد صلوا ركعة أجزأتهم جمعة؛ لأنه شرط يختص بالجمعة، فلم يعتبر في الركعة الثانية كالجماعة في حق المسبوق، وإن أدرك أقل من ذلك فهل يتمها ظهراً أو يستأنف؟ على وجهين بناء على المسبوق، بأكثر من ركعة، وقال القاضي: متى تلبس بها في وقتها أتمها جمعة، قياساً على سائر الصلوات، فإن شرع فيها ثم شك في خروج الوقت أتمها جمعة؛ لأن الأصل بقاؤه، وإن ضاق الوقت عما يجري في الجمعة لم يكن لهم فعلها.

(1/324)


فصل:
الشرط الثاني: أن يكون في قرية مبنية بما جرت العادة ببناء القرى به، من حجر أو طين أو لبن أو قصب، مجتمعة البناء بما جرت به العادة في القرية الواحدة، يسكنها أربعون من أهل الجمعة سكنى إقامة، لا يظعنون عنها صيفاً ولا شتاءً، فأما أهل الخيام وبيوت الشعر فلا جمعة لهم؛ لأن ذلك لا ينصب للاستيطان، ولذلك كانت قبائل العرب حول المدينة، ولم يأمرهم النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بجمعة، وإن كانت قرية يسكن فيها بعض السنة دون بعضهم، أو متفرقة تفريقاً لم تجر به العادة، لم تصح فيها الجمعة، فإن اجتمعت هذه الشروط في القرية، وجبت الجمعة على أهلها، وصحت بها؛ لأن كعباً قال: أسعد بن زرارة أول من جمع بنا في هزم النبيت، من حرة بني بياضة، في نقيع يقال له: نقيع الخضمات. رواه أبو داود.
قال الخطابي: حرة بني بياضة على ميل من المدينة، ولأن هذا بناء استوطنه أربعون من أهل الجمعة، فوجبت عليهم كأهل مصر، وتجوز إقامة أهل الجمعة فيما قارب البنيان من الصحراء، لحديث أسعد بن زرارة. فإن خربت القرية، فلازموها عازمين على إصلاحها ومرمتها فحكمها باق، وإن عزموا على النقلة عنها زال الاستيطان.

فصل:
الشرط الثالث: اجتماع أربعين ممن تنعقد بهم الجمعة.
وعنه: تنعقد بثلاثة؛ لأنهم جمع تنعقد بهم الجماعة، وعنه بخمسين، والمذهب الأول؛ لأن جابراً قال: مضت السنة أن في كل أربعين فما فوقها جمعة. فينصرف إلى سنة النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فإن انفضوا فلم يبق معه إلا أقل من أربعين لم يتمها جمعة؛ لأنه شرط، فاعتبر في جميع الصلاة كالطهارة، وهل يستأنف ظهراً أو يبني على صلاته؟ على وجهين، بناءً على المسبوق، وقياس المذهب، أنهم إن انفضوا بعد صلاة ركعة أتمها جمعة؛ لأنها شرط تختص الجمعة فلم يعتبر الركوع في أكثر من ركعة كالجماعة فيها.

فصل:
ولا يختلف المذهب أن المسبوق إذا أدرك مع الإمام الركوع في الثانية أنه يتمها جمعة، فإن أدرك أقل من ذلك لم يتمها جمعة، لما روى أبو هريرة عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «من أدرك ركعة من الصلاة مع الإمام فقد أدرك الصلاة» متفق عليه. وفي لفظ: «فليضف إليها أخرى» فأما من أدرك أقل من ذلك فقال الخرقي: يبني على ظهر إذا كان

(1/325)


قد دخل بنية الظهر. فظاهر هذا أنه إن نوى جمعة لزمه الاستئناف؛ لأنهما صلاتان لا تتأدى إحداهما بنية أخرى، فلم يجز بناؤها عليها، كالظهر والعصر. وقال أبو إسحاق بن شاقلا: ينوي جمعة؛ لئلا يخالف بنيته نية إمامه، ثم يبني عليها ظهراً لأنهما فرض وقت واحد، ردت إحداهما من أربع إلى ركعتين فجاز أن يبني عليها الأربع، كالتامة مع المقصورة.

فصل:
من أحرم مع الإمام ثم زوحم عن السجود فأمكنه السجود على ظهر إنسان أو قدمه لزمه. لما روي عن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه قال: إذا اشتد الزحام فليسجد على ظهر أخيه أو قدمه. رواه الطيالسي. ولأنه يأتي بما يمكنه حال العجز فوجب وصح، كالمريض يومئ، فإن لم يمكنه ذلك انتظر زوال الزحام، ثم يسجد ويتبع الإمام؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أمر أصحابه بذلك في صلاة عسفان للعذر، والعذر ههنا قائم، وكذلك إن تعذر عليه السجود لعذر من مرض أو نوم أو سهو. فإن خاف فوات الركوع مع إمامه لزمه متابعته وترك السجود لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «فإن ركع فاركعوا» ولأنه مأموم خاف فوات الركعة فلزمه متابعة إمامه، كالمسبوق فيركع مع إمامه، وتبطل الأولى. وتصير الثانية أولاه. فإن سجد وترك متابعة إمامه بطلت صلاته، إن علم تحريم ذلك؛ لأنه ترك الواجب عمداً، وإن لم يكن يعلم تحريمه، لم تبطل صلاته، ولم يعتد بسجوده؛ لأنه أتى به في موضع الركوع جهلاً فهو كالساهي.
وقال أبو الخطاب: يعتد بسجوده ويتم ركعته الأولى، فإن أدرك الركوع أيضاً صحت له الركعتان وإن فاته الركوع، فاتته الثانية وحدها فيقضيها بعد سلام إمامه، وتصح جمعته، قال: ويسجد للسهو، وقال القاضي: هو كمن لم يسجد، فإن أدرك الركوع صحت الثانية وحدها، وإن فاته الركوع وأدرك معه السجدتين سجدهما للركعة الأولى، وصحت له ركعة، ويقضي ركعة، وتمت جمعته لإدراكه ركعة، وإن فاتته السجدتان أو إحداهما قضى ذلك بعد سلام إمامه، فتصح له ركعة، وكذا لو ترك سجدتي الأولى، خوفاً من فوات ركوع الثانية فركع معه، وزوحم عن سجدتي الثانية فأمكنه السجود في التشهد سجد، وإن لم يمكنه سجد بعد سلام الإمام وصحت له ركعة ومثلها: لو كان مسبوقاً بالأولى وزوحم عن سجود الثانية، وهل يكون مدركاً للجمعة في كل موضع لم يتم له ركعة إلا بعد سلام إمامه؟ على روايتين:
إحداهما: يكون مدركاً لها؛ لأنه قد يحرم بالصلاة مع الإمام، أشبه ما لو ركع وسجد معه.

(1/326)


والثانية: لا جمعة له؛ لأنه لم يدرك مع إمامه ركعة، فأشبه المسبوق بركوع الثانية، وعلى هذه الرواية هل يستأنف أو يتمها ظهراً على وجهين.
وإن أحرم مع الإمام فزوحم، وأخرج من الصف فصلى فذاً، لم تصح صلاته، وإن صلى ركعة وأخرج من الثانية، فأتمها وحده ففيه روايتان:
إحداهما: يتمها جمعة؛ لأنه أدرك مع إمامه ركعة، فأشبه المسبوق.
والثانية: يعيد لأنه فذ في ركعة كاملة. فإن أدرك مع الإمام ركعة، وقام ليقضي، فذكر أنه لم يسجد إلا سجدة واحدة، أو شك في إحدى السجدتين، لزمه أن يرجع إن لم يكن شرع في قراءة الثانية، فيأتي بما ترك، ثم يقضي ركعة أخرى، ويتمها جمعة. نص عليه، وإن ذكر بعد شروعه في قراءة الثانية بطلت الأولى، وصارت الثانية أولاه، ويتمها جمعة على المنصوص، وفيه وجه آخر أنه لا تحصل له الجمعة؛ لأنه لم يدرك مع الإمام ركعة كاملة، وهكذا لو قضى الثانية ثم علم أنه نسي سجدة لا يدري من أيهما تركها، أو شك في ذلك، فإنه يجعلها من الأولى، وتصير الثانية أولاه، فأما إن شك في إدراك الركوع مع الإمام، لم يعتد له بالركعة التي مع الإمام، وتصير ظهراً قولاً واحداً.

فصل:
الشرط الرابع: أن يتقدمها خطبتان؛ «لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يخطب خطبتين يقعد بينهما» . متفق عليه. وقد قال: «صلوا كما رأيتموني أصلي» . وقالت عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: إنما أقرت الجمعة ركعتين من أجل الخطبة. ومن شرط صحتها حضور العدد المشروط للصلاة؛ لأنه ذكر الاشتراط للصلاة واشترط له العدد، كتكبيرة الإحرام، فإن انفضوا وعادوا لم يطل الفصل صلى الجمعة؛ لأنه تفريق يسير، فلم يمنع، كالتفريق بين المجموعتين، ويشترط لهما الوقت لذلك، ويشترط الموالاة في الخطبتين، فإن فرق بين الخطبتين أو بين أجزاء الخطبة الواحدة أو بينهما وبين الصلاة، فأطال بطلت، فإن كان يسيراً بنى؛ لأنهما مع الصلاة كالمجموعتين، ويحتمل أن الموالاة ليست شرطاً؛ لأنه ذكر يتقدم الصلاة فلا يشترط الموالاة بينهما، كالأذان والإقامة ولا يشترط لهما الطهارة، نص عليه لذلك، ولأنها لو اشترطت لاشترط الاستقبال كالصلاة. وعنه: أنها شرط؛ لأنه ذكر شرط في الجمعة فأشبه تكبيرة الإحرام. ويشترط أن يتولاهما من يتولى الصلاة لذلك، لكن يجوز الاستخلاف في بعض الصلاة للعذر؛ لأنه إذا جاز الاستخلاف في بعض الصلاة للعذر ففي الصلاة بكمالها أولى، وعنه: ما يدل على جواز الاستخلاف لغير عذر، قال في الإمام يخطب يوم الجمعة، ويصلي الأمير بالناس: لا بأس إذا حضر

(1/327)


الأمير الخطبة؛ لأنه لا يشترط اتصالها بها، فلم يشترط أن يتولاهما واحد، كصلاتين، وهل يشترط أن يكون الخليفة ممن حضر الخطبة؟ فيه روايتان:
إحداهما: لا يشترط؛ لأنه لا يشترط في صحة جمعته حضور الخطبة إذا كان مأموماً، فكذلك إذا كان إماماً.
والثانية: يشترط لأنه إمام، فاشترط حضوره للخطبة، كما لو لم يستخلف.

فصل
وفروض الخطبة أربعة أشياء:
حمد الله تعالى؛ لأن جابراً قال: «كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يخطب الناس، يحمد الله ويثني عليه بما هو أهله، ثم يقول: من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له» .
والثاني: الصلاة على رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؛ لأن كل عبادة افتقرت إلى ذكر الله تعالى، افتقرت إلى ذكر رسوله، كالأذان.
الثالث: الموعظة؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يعظ، وهو القصد من الخطبة فلا يجوز الإخلال بها.
الرابع: قراءة آية؛ لأن جابر بن سمرة قال: «كانت صلاة رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قصداً، وخطبته قصداً، يقرأ آيات من القرآن، ويذكر الناس» . رواه أبو داود والترمذي. ولأن الخطبة فرض في الجمعة، فوجبت فيها القراءة كالصلاة، وعن أحمد [- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -] ما يدل على أنه لا يشترط قراءة آية، فإنه قال: القراءة في الخطبة على المنبر. ليس فيه شيء مؤقت ما شاء قرأ، وتشترط هذه الأربعة في الخطبتين؛ لأن ما وجب في إحداهما وجب في الأخرى كسائر الفروض.

فصل:
وسننها ثلاث عشرة:
أن يخطب على منبر أو موضع عال؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يخطب على منبره؛ ولأنه أبلغ في الإعلام.
الثاني: أن يسلم عقيب صعوده إذا أقبل عليهم؛ لأن جابراً قال: «كان النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا صعد المنبر سلم عليهم» رواه ابن ماجه.

(1/328)


الثالث: أن يجلس إذا سلم عليهم؛ لأن ابن عمر قال: «كان النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يجلس إذا صعد المنبر حتى يفرغ المؤذن، ثم يقوم فيخطب، ثم يجلس فلا يتكلم، ثم يقوم فيخطب» ، رواه أبو داود.
الرابع: أن يخطب قائماً؛ لأن جابر بن سمرة قال: «إن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يخطب قائماً، ثم يجلس، ثم يقوم فيخطب، فمن حدثك أنه كان يخطب جالساً، فقد كذب» ، رواه مسلم وأبو داود.
وليس ذلك بشرط؛ لأن المقصود يحصل بدونه.
الخامس: أن يجلس بينهما لما رويناه، وليس بواجب؛ لأنها جلسة للاستراحة، وليس فيها ذكر مشروع، فأشبهت الأولى.
السادس: أن يعتمد على سيف أو قوس أو عصا، لما روى الحكم بن حزن قال: «وفدت على رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فشهدنا معه الجمعة، فقام متوكئاً على سيف، أو قوس، أو عصا، فحمد الله وأثنى عليه بكلمات خفيفات طيبات مباركات» ، رواه أبو داود، ولأن ذلك أمكن له، فإن لم يكن معه شيء أمسك شماله بيمينه، أو أرسلهما عند جنبيه وسكنهما.
السابع: أن يقصد بلقاء وجهه؛ لأن في التفاته إلى أحد جانبيه إعراضاً عمن في الجانب الآخر.
الثامن: أن يرفع صوته؛ لأن جابراً قال: «كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا خطب احمرت عيناه وعلا صوته، واشتد غضبه، كأنه منذر جيش، يقول صبحكم ومساكم، ويقول: أما بعد: فإن خير الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد، وشر الأمور محدثاتها، وكل بدعة ضلالة» رواه مسلم، ولأنه أبلغ في الإسماع.
التاسع: أن يكون في خطبته مترسلاً معرباً، مبيناً من غير عجلة ولا تمطيط؛ لأنه أبلغ وأحسن.
العاشر: تقصير الخطبة، لما روى عمار قال: سمعت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول:
«إن طول صلاة الرجل وقصر خطبته مئنة من فقهه، فأطيلوا الصلاة وقصروا الخطبة» . رواه مسلم.
الحادي عشر: ترتيبها، يبدأ بالحمد لله، ثم بالصلاة على رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ثم يعظ؛ لأنه أحسن والنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يبدأ بالحمد لله، وقال: «كل كلام ذي بال لا يبدأ فيه بحمد الله فهو أبتر» .

(1/329)


الثاني عشر: أن يدعو للمسلمين؛ لأن الدعاء لهم مسنون، في غير الخطبة ففيها أولى وإن دعا للسلطان فحسن لأن صلاحه نفع للمسلمين، فالدعاء له دعاء لهم.
الثالث عشر: أن يؤذن لها إذا جلس الإمام على المنبر؛ لأن الله تعالى قال: {إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ} [الجمعة: 9] ، يعني الأذان، قال السائب: «كان النداء يوم الجمعة إذا جلس الإمام على المنبر، على عهد رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأبي بكر وعمر، فلما كان عثمان، وكثر الناس زاد النداء الثالث» رواه البخاري. وهذا النداء الأوسط هو الذي يتعلق به وجوب السعي، وتحريم البيع؛ لأنه الذي كان مشروعاً حين نزول الآية، فتعلقت الأحكام به. ويسن الأذان الأول في أول الوقت؛ لأن عثمان سنه، وعملت به الأمة بعده، وهو مشروع للإعلام بالوقت، والثاني للإعلام بالخطبة، والإقامة للإعلام بقيام الصلاة.

فصل:
ولا يشترط للجمعة إذن الإمام؛ لأن علياً - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - صلى بالناس، وعثمان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - محصور، ولأنها من فرائض الأعيان، فلم يعتبر لها إذن الإمام، كالظهر. قال أحمد: وقعت الفتنة بالشام تسع سنين، فكانوا يجمعون لكن إن أمكن استئذانه فهو أكمل وأفضل، وعنه أنه شرط؛ لأنه لا يقيمها في كل عصر إلا الأئمة.

فصل:
وتصلى خلف كل بر وفاجر، لحديث جابر، ولأنها من شعائر الإسلام الظاهرة، وتختص بإمام واحد، فتركها خلف الفاجر يفضي إلى الإخلال بها، فلم يجز ذلك كالجهاد، ولهذا أبيح فعلها في الطرق، ومواضع الغصب، صيانة لها عن الفوات.

فصل:
[و] إذا فرغ من الخطبة نزل، فأقيمت الصلاة فصلى بهم ركعتين، يقرأ في كل ركعة بالحمد لله وسورة معها، ويجهر بالقراءة للإجماع ونقل الخلف عن السلف. ومهما قرأ به بعد أم الكتاب فيها أجزأه، إلا أن المستحب أن يقرأ فيها بالجمعة والمنافقين، أو بسبح، والغاشية، لما روى أبو هريرة قال: «سمعت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقرأ بسورة الجمعة والمنافقين، في الجمعة» . وعن النعمان بن بشير قال: «كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقرأ في العيدين والجمعة بـ {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى} [الأعلى: 1] و {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ} [الغاشية: 1] » رواهما مسلم.

(1/330)


فصل:
ومتى أمكن الغنى بجمعة واحدة في المصر لم يجز أكثر منها؛ لأن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسيلم وخلفاءه لم يقيموا إلا جمعة واحدة، وإن احتيج إلى أكثر منها جاز؛ لأنها تفعل في الأمصار العظيمة في جوامع من غير نكير، فصار إجماعاً، ولأنها صلاة عيد جاز فعلها في موضعين مع الحاجة كغيرها، وإن استغنى بجمعتين لم تجز الثالثة. فإن صليت في موضعين من غير حاجة، وإحداهما جمعة الإمام فهي الصحيحة، ويحتمل أن السابقة هي الصحيحة؛ لأنه لم يتقدمها ما يفسدها، وبعد صحتها لا يفسدها ما بعدها، والأول أولى؛ لأن في تصحيح غير جمعة الإمام افتئاتاً عليه، وتبطيلاً لجمعته، ومتى أراد أربعون نفساً إفساد صلاة الإمام، والناس أمكنهم ذلك، فإن لم يكن لأحدهما مزية فالسابقة هي الصحيحة لما ذكرناه، وتفسد الثانية. وإن وقعتا معاً: فهما باطلتان؛ لأنه لا يمكن تصحيحهما، ولا تعيين إحداهما بالصحة فبطلتا، كما لو جمع بين أختين. وعليهم إقامة جمعة ثالثة؛ لأنه مصر لم تصل فيه جمعة صحيحة، وإن علم سبق إحداهما وجهلت، فعلى الجميع الظهر؛ لأن كل واحد لم يتيقن براءة ذمته من الصلاة، وليس لهم إقامة الجمعة لأن المصر قد صليت فيه جمعة صحيحة وإن جهل الحال، فسدتا. وهل لهم إقامة الجمعة؟ على وجهين:
أحدهما: لا يقيمونها للشك في شرط إقامتها.
والثاني: لهم ذلك؛ لأننا لم نعلم المانع من صحتها والأصل عدمه. وذكر القاضي وجهاً من إقامتها مع العلم بسبق إحداهما؛ لأنه لما تعذر تصحيح إحداهما بعينها صارت كالمعدومة. ولو أحرم بالجمعة فعلم أنها قد أقيمت في مكان آخر لم يكن له إتمامها.
وهل يبني عليها ظهراً أم يستأنفها؟ على وجهين:
أصحهما استئنافها؛ لأن ما مضى منها لم يكن جائزاً له فعله، ويعتبر السبق بالإحرام؛ لأنه متى أحرم بإحداهما حرم الإحرام بالأخرى للغنى عنها.

فصل:
ولا يجوز لمن تجب عليه الجمعة السفر بعد دخول وقتها؛ لأنه يتركها بعد وجوبها عليه، فلم يجز، كما لو تركها لتجارة إلا أن يخاف فوت الرفقة، فأما قبل الوقت فيجوز للجهاد، لما روى ابن عباس قال: «بعث رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عبد الله بن رواحة في سرية، فوافق ذلك يوم الجمعة، فقدم أصحابه وقال: أتخلف فأصلي مع النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثم ألحقهم. قال: فلما صلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رآه فقال: ما منعك أن تغدو مع أصحابك؟ فقال: أردت أن أصلي معك ثم ألحقهم، فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: لو أنفقت ما في الأرض ما

(1/331)


أدركت فضل غدوتهم» من " المسند " وهل يجوز لغير الجهاد؟ فيه روايتان:
إحداهما: يجوز؛ لأن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: الجمعة لا تحبس عن سفر، ولأنها لم تجب، فأشبه السفر من الليل.
والثانية: لا يجوز لما روى الدارقطني في الإفراد عن ابن عمر أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من سافر من دار إقامة يوم الجمعة دعت عليه الملائكة ألا يصحب في سفره» .

فصل:
ويجب السعي بالنداء الثاني لما ذكرنا، إلا لمن منزله في بعد، فعليه أن يسعى في الوقت الذي يكون به مدركاً للجمعة؛ لأن ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب ويستحب التبكير بالسعي، لما روى أبو هريرة أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من اغتسل يوم الجمعة غسل الجنابة ثم راح فكأنما قرب بدنة، ومن راح في الساعة الثانية فكأنما

(1/332)


قرب بقرة، ومن راح في الساعة الثالثة فكأنما قرب كبشاً أملح، ومن راح في الساعة الرابعة فكأنما قرب دجاجة، ومن راح في الساعة الخامسة فكأنما قرب بيضة، فإذا خرج الإمام حضرت الملائكة يستمعون الذكر» متفق عليه. وقال علقمة: خرجت

(1/333)


مع عبد الله يوم الجمعة، فوجد ثلاثة قد سبقوه فقال: رابع أربعة وما رابع أربعة ببعيد. ثم قال: سمعت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: «إن الناس يجلسون يوم القيامة على قدر رواحهم إلى الجمعة» رواه ابن ماجه. ويستحب أن يأتيها ماشياً ليكون أعظم للأجر، وعليه سكينة ووقار، لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا تأتوا الصلاة وأنتم تسعون، وأتوها وعليكم السكينة والوقار» ، متفق عليه. ويقارب بين خطاه لتكثر حسناته.

فصل:
ويستحب أن يغتسل ويتطيب، ويتنظف بقطع الشعر، وقص الظفر، وإزالة الرائحة، لما روى أبو سعيد أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا يغتسل رجل يوم الجمعة ويتطهر بما استطاع من طهر، ويدهن من دهنه، ويمس من طيب بيته، ثم يخرج فلا يفرق بين اثنين، ثم يصلي ما كتب له، ثم ينصت إذا تكلم الإمام، إلا غفر له ما بينه وبين الجمعة الأخرى» رواه البخاري. وعنه: أن الغسل واجب، لما روي عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «غسل يوم الجمعة واجب على كل محتلم، وسواك وأن يمس طيباً» رواه مسلم. والأول المذهب؛ لأن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من توضأ يوم الجمعة فبها ونعمت، ومن اغتسل الغسل أفضل» قال الترمذي: هذا حديث حسن، والخبر الأول أريد به تأكيد الاستحباب، ولذلك ذكر فيه السواك والطيب وليسا واجبين.
ووقت الغسل بعد الفجر لقوله: «يوم الجمعة» والأفضل فعله عند الرواح؛ لأنه أبلغ في المقصود. ولا يصح إلا بنيته؛ لأنه عبادة، فإن اغتسل للجمعة والجنابة أجزأه، وإن اغتسل للجنابة وحدها احتمل أن يجزئه، لقوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «من اغتسل يوم الجمعة غسل الجنابة» ، ولأن المقصود التنظيف وهو حاصل، واحتمل أن لا يجزئه لقوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «وليس للمرء من عمله إلا ما نواه» .

فصل:
وإذا أتى المسجد كره له أن يتخطى الناس، لقوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «ولم يفرق بين اثنين» إلا أن يكون إماماً ولا يجد طريقاً فلا بأس بالتخطي؛ لأنه موضع حاجة. ومن لم يجد موضعاً إلا فرجة، لا يصل إليها بتخطي الرجل والرجلين، فلا بأس. فإن

(1/334)


تركوا أول المسجد فارغاً وجلسوا دونه، فلا بأس بتخطيهم؛ لأنهم ضيعوا حق نفوسهم. وإن ازدحم الناس في المسجد وداخله اتساع فلم يجد الداخل لنفسه موضعاً، فعلم أنهم إذا قاموا تقدموا، وإن لم يرج ذلك فله تخطيهم؛ لأنه موضع حاجة.
وليس لأحد أن يقيم غيره ويجلس مكانه، لما روى ابن عمر أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا يقيم الرجل الرجل من مقعده ويجلس فيه» متفق عليه. وإن قام له رجل من مكانه وأجلسه فيه جاز؛ لأن الحق له، لكن إن كان المتنفل ينتقل إلى موضع أبعد من موضعه كره لما فيه من الإيثار بالقربة.
ولو قدم رجل غلامه فجلس في موضع فإذا جاء قام الغلام وجلس مكانه فلا بأس به. كان ابن سيرين يفعله. وإن فرش له مصلى لم يكن لغيره الجلوس عليه. وهل لغيره رفعه والجلوس في موضعه؟ فيه وجهان:
وإن قام الجالس من موضعه لحاجة ثم عاد إليه فهو أحق به، لما روى أبو هريرة قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذا قام أحدكم من مجلسه ثم رجع إليه فهو أحق به» رواه مسلم. وإن نعس فأمكنه التحول إلى مكان لا يتخطاه فيه أحد استحب له ذلك، لما روى ابن عمر قال: سمعت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: «إذا نعس أحدكم يوم الجمعة في مجلسه فليتحول إلى غيره» من المسند. وهو حديث صحيح.

فصل:
ويستحب الدنو من الإمام لقول رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من غسل يوم الجمعة واغتسل، وبكر وابتكر، ومشى ولم يركب، ودنا من الإمام، واستمع ولم يلغ، كان له بكل خطوة عمل سنة أجر صيامها وقيامها» رواه ابن ماجه والنسائي. وإن حضر قبل الخطبة اشتغل بالتنفل، أو ذكر الله، وقراءة القرآن، ويكثر من الدعاء لعله يوافق ساعة الإجابة، ويكثر من الصلاة على رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ويقرأ سورة الكهف؛ لأنه يروى عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «من قرأ سورة الكهف يوم الجمعة أو ليلة الجمعة وقي الفتنة» .

فصل:
فإذا جلس الإمام على المنبر انقطع التنفل، فإذا أخذ من الخطبة حرم الكلام،

(1/335)


لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذا قلت لصاحبك والإمام يخطب أنصت فقد لغوت» متفق عليه.
وروى ثعلبة بن مالك أنهم كانوا يتحدثون يوم الجمعة وعمر جالس على المنبر، فإذا سكت المؤذن، قام عمر ولم يتكلم أحد حتى يقضي الخطبتين، فإذا قامت الصلاة ونزل عمر تكلموا. وعنه: لا يحرم الكلام، لما روى أنس قال: «بينما النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يخطب يوم الجمعة، إذ قام رجل فقال: يا رسول الله، هلك الكراع هلك الشاء، فادع الله أن يسقينا» . وذكر الحديث. متفق عليه. والأول أولى، وهذا يحتمل أنه من تكليم الخطيب دون غيره لأنه لا يشتغل بتكليمه عن سماع خطبته. والبعيد والقريب سواء في ذلك. وقد روي عن عثمان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه قال: إن للمنصت الذي لا يسمع من الخطبة مثل للسامع، إلا أن للبعيد أن يذكر الله ويقرأ القرآن سراً، وليس الجهر، ولا المذاكرة في

(1/336)


الفقه، «لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى عن الحلق يوم الجمعة والإمام يخطب» . وروى أبو داود والنسائي عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى عن التحلق يوم الجمعة قبل الصلاة» ، ومن يسمع متكلماً لم ينهه بالقول: للخبر، ولكن يشير إليه، ويضع إصبعه على فيه، وإن وجب الكلام مثل تحذير ضرير شيئاً مخوفاً فعليه الكلام؛ لأنه لحق آدمي، فكان مقدماً على غيره، ومن سأله الإمام عن شيء فعليه إجابته؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سأل الداخل: أصليت فأجابه، وسأل عمر عثمان فأجابه، وفي رد السلام، وتشميت العاطس، روايتان:
إحداهما: يفعل لأنه لحق آدمي، فأشبه تحذير الضرير.
والأخرى: لا يفعله لأن المسلم سلم في غير موضعه، والتشميت سنة لا يترك لها الإنصات الواجب، ولا يتصدق على سائل والإمام يخطب، وإذا لم يسمع الخطبة، فلا بأس أن يشرب الماء.

فصل:
ولا يحرم الكلام على الخاطب؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يتكلم، وعمر سأل عثمان أية ساعة هذه؟ فإذا وصل الخطيب إلى الدعاء ففيه وجهان:
أحدهما: يباح الكلام؛ لأنه فرغ من الخطبة.
والثاني: لا يباح؛ لأنه قاطع للخطبة أشبه التطويل في الموعظة.

فصل:
ومن دخل والإمام يخطب لم يجلس حتى يركع ركعتين، يوجز فيهما، لما روى جابر قال: «دخل رجل والنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يخطب قال: صليت يا فلان قال: لا، قال: فصل ركعتين» . متفق عليه. زاد مسلم ثم قال: «إذا جاء أحدكم يوم الجمعة والإمام يخطب فليركع ركعتين وليتجوز فيهما» .

فصل:
ويسن أن يصلي بعد الجمعة أربعاً لما روى أبو هريرة قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من كان منكم مصلياً بعد الجمعة فليصل بعدها أربعاً» رواه مسلم، وإن شاء صلى ركعتين، لما روى ابن عمر: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يصلي بعد الجمعة ركعتين» ، متفق عليه، وإن شاء صلي ستاً لأن ابن عمر روى أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يفعله، ويستحب أن

(1/337)


يفصل بين الجمعة والركوع بكلام، أو رجوع إلى منزله، لما روى السائب بن يزيد قال: قال لي معاوية: «إذا صليت صلاة الجمعة فلا تصليها بصلاة حتى تتكلم، أو تخرج، قال: كان النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يأمرنا بذلك» ، رواه مسلم.

فصل:
ويستحب أن يقرأ في صلاة الفجر يوم الجمعة: {الم - تَنْزِيلُ} [السجدة: 1 - 2] و {هَلْ أَتَى عَلَى الإِنْسَانِ} [الإنسان: 1] «لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يقرأ في صلاة الفجر يوم الجمعة: {الم - تَنْزِيلُ الْكِتَابِ} [السجدة: 1 - 2] و {هَلْ أَتَى عَلَى الإِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ} [الإنسان: 1] » رواه مسلم. قال أحمد: ولا أحب أن يداوم عليها، لئلا يظن الناس أنها مفضلة بسجدة.

فصل:
فإذا اتفق عيد في يوم جمعة فصلوا العيد لم تلزمهم الجمعة، ويصلون ظهراً لما روى زيد بن أرقم قال: «شهدت مع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عيدين اجتمعا في يوم، فصلى العيد ثم رخص في الجمعة، فقال: من شاء أن يجمع فليجمع» . وعن أبي هريرة عن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «اجتمع في يومكم هذا عيدان فمن شاء أجزأه من الجمعة وإنا مجمعون إن شاء الله» رواهما أبو داود.
وتجب الجمعة على الإمام لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إنا مجمعون» ولأن تركه لها منع لمن يريدها من الناس.
وعنه: لا تجب؛ لأن ابن الزبير لم يصلها وكان إماماً، ولأن الجمعة إذا سقطت عن المأمومين سقطت عن الإمام، كحالة السفر، فإن عجل الجمعة في وقت العيد أجزأته عن العيد والظهر، في ظاهر كلامه لما روى عطاء قال: اجتمع يوم جمعة ويوم فطر على عهد ابن الزبير، فقال: عيدان قد اجتمعا في يوم واحد، فجمعهما وصلاهما ركعتين، فلم يزد عليهما حتى صلى العصر، وبلغ فعله ابن عباس فقال: أصاب السنة.

[باب صلاة العيدين]
وهي فرض على الكفاية؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - والخلفاء بعده كانوا يداومون عليها، ولأنها من شعائر الإسلام الظاهرة، فكانت فرضاً كالجهاد، ولا تجب على الأعيان؛ لأن

(1/338)


النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ذكر للأعرابي خمس صلوات فقال: هل علي غيرها؟ قال: «لا، إلا أن تطوع» متفق عليه.
فإن اتفق أهل بلد على تركها قاتلهم الإمام، لتركهم شعائر الإسلام الظاهرة، فأشبه تركهم الأذان. ويشترط لوجوبها ما يشترط للجمعة؛ لأنها صلاة عيد، فأشبهت الجمعة، ولا يشترط لصحتها الاستيطان، ولا العدد؛ لأن أنساً كان إذا لم يشهد العيد مع الإمام جمع أهله ومواليه، ثم قام عبد الله بن أبي عتبة مولاه فصلى بهم ركعتين يكبر فيهما ولأنهما من حق من انتفت فيه شروط الوجوب تطوع، فلم يشترط لها ذلك كسائر التطوع، وقال القاضي: كلام أحمد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يقتضي أن في اشتراط الاستيطان والعدد وإذن الإمام روايتين.

فصل:
ووقتها من حين ترتفع الشمس وتزول وقت النهي إلى الزوال، فإن لم يعلم بها إلا بعد الزوال خرج من الغد فصلى بهم، لما روى أبو عمير بن أنس عن عمومة له من أصحاب النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أن ركباً جاؤوا إلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فشهدوا أنهم رأوا الهلال بالأمس، فأمرهم أن يفطروا فإذا أصبحوا أن يغدوا إلى مصلاهم» ، رواه أبو داود. ويسن تقديم الأضحى وتأخير الفطر، لما روى عمرو بن حزم «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يقدم الأضحى ويؤخر الفطر» ، ولأن السنة إخراج الفطرة قبل الصلاة، ففي تأخير الصلاة توسيع لوقتها، ولا تجوز التضحية إلا بعد الصلاة، ففي تعجيلها مبادرة إلى الأضحية.

فصل:
ويسن أن يأكل في الفطر قبل الصلاة، ويمسك في الأضحى حتى يصلي لما روى بريدة قال: «كان النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لا يخرج يوم الفطر حتى يفطر، ولا يطعم يوم النحر حتى يصلي» ، رواه الترمذي، ويفطر على تمرات وتر، لما روى أنس قال: «كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لا يغدو يوم الفطر حتى يأكل تمرات» . رواه البخاري وفي لفظ: «ويأكلهن وتراً» .

فصل:
والسنة أن يصليها في المصلى؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - والخلفاء بعده كانوا يفعلونها فيه، ويستحب أن يستخلف على ضعفة الناس من يصلي بهم في الجامع لأن علياً - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - استخلف أبا مسعود البدري، يصلي بضعفة الناس في المسجد، وهل يصلي المستخلف ركعتين أو أربعاً، على روايتين بناء على اختلاف الروايات في فعل أبي مسعود وقد روي أنه صلى بهم ركعتين وروي أنه صلى بهم أربعاً، وإن كان عذر من

(1/339)


مطر أو نحوه صلى في المسجد، لما روى أبو هريرة قال: «أصابنا مطر في يوم عيد، فصلى بنا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في المسجد» . رواه أبو داود.

فصل:
ويسن الاغتسال للعيد، والطيب والتنظيف والسواك، وأن يلبس أحسن ثيابه، لما روي أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال في جمعة من الجمع: «إن هذا يوم جعله الله عيداً للمسلمين فاغتسلوا ومن كان عنده طيب فلا يضره أن يمس منه، وعليكم بالسواك» فعلل ذلك بأنه يوم عيد، ولأن هذا اليوم يشرع فيه الاجتماع للصلاة، فأشبه الجمعة، وقد روي «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يعتم، ويلبس برده الأحمر في العيدين والجمعة» رواه ابن عبد البر. إلا أن المعتكف يستحب له الخروج في ثياب اعتكافه، ليبقى عليه أثر العبادة.

فصل:
ويستحب أن يبكر إليها المأموم، ماشياً مظهراً للتكبير؛ لأن علياً - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: من السنة أن يأتي العيد ماشياً. رواه الترمذي وقال، حديث حسن ولأنه أعظم للأجر، ويتأخر الإمام إلى وقت الصلاة؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يفعله، ولأن الإمام ينتظر ولا ينتظر، وإذا غدا من طريق رجع من غيره؛ لأن جابراً قال: «كان النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا كان يوم عيد خالف الطريق.» رواه البخاري.

فصل:
قال ابن حامد: ويستحب خروج النساء، لما روت أم عطية قالت: «أمرنا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن نخرجهن في الفطر والأضحى، العواتق والحيض وذوات الخدور، فأما الحيض فيعتزلن المصلى، ويشهدن الخير ودعوة المسلمين» . متفق عليه. قال القاضي: وظاهر كلام أحمد أن ذلك جائز غير مستحب، ولا يلبسن ثوب شهرة، ولا يتطيبن لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «وليخرجن تفلات» .

فصل:
وليس لها أذان ولا إقامة لما روى عطاء قال: أخبرني جابر «أن لا أذان للصلاة يوم الفطر ولا إقامة ولا نداء، ولا شيء لا نداء يومئذ ولا إقامة» ، متفق عليه. وقال جابر بن سمرة: «صليت مع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - العيد غير مرة ولا مرتين بلا أذان ولا إقامة» . رواه مسلم.

فصل:
وصلاة العيد ركعتان، يقرأ في كل ركعة منهما بالحمد لله وسورة، ويجهر بالقراءة

(1/340)


بلا خلاف، قال عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: «صلاة الأضحى ركعتان، وصلاة الفطر ركعتان، تمام غير قصر على لسان نبيكم - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وقد خاب من افترى» . رواه الإمام أحمد في " المسند ". ويسن أن يقرأ فيهما بسبح و {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ} [الغاشية: 1] لحديث النعمان بن بشير. ومهما قرأ أجزأه، ويكبر في الأولى سبع تكبيرات منها تكبيرة الإحرام، وفي الثانية خمساً سوى تكبيرة القيام، لما روت عائشة أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «التكبير في الفطر والأضحى في الأولى سبع تكبيرات، وفي الثانية خمس تكبيرات سوى تكبيرتي الركوع» رواه أبو داود.
واعتددنا بتكبيرة الإحرام لأنها في حال القيام، ولم نعتد بتكبيرة القيام لأنها قبله.
ويسن أن يرفع يديه في كل تكبيرة، لما روي عن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه كان يرفع يديه مع كل تكبيرة في الجنازة وفي العيد. رواه الأثرم. ويحمد الله، ويثني عليه، ويصلي على النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بين كل تكبيرتين، وإن أحب قال: الله أكبر كبيراً، والحمد لله كثيراً، وسبحان الله بكرة وأصيلاً، وصلى الله على محمد النبي الأمي وآله وسلم تسليماً؛ لأنه يجمع بين ما ذكرناه.
وموضع التكبير بين الاستفتاح، وقبل الاستعاذة والقراءة في الركعتين. وعنه: أنه قبل الاستفتاح أيضاً اختارها الخلال وصاحبه، والأول أولى؛ لأن الاستفتاح لافتتاح الصلاة، فيكون في أولها، والاستعاذة للقراءة فتكون في أولها. وعنه: أنه يوالي بين القراءتين، يجعلها في الأولى بعد التكبير، وفي الثانية قبله، لما روى علقمة أن عبد الله بن مسعود وأبا موسى وحذيفة خرج عليهم الوليد بن عقبة قبل العيد يوماً فقال لهم: إن هذا العيد قد دنا فكيف التكبير فيه؟ فقال عبد الله: تبدأ وتكبر تكبيرة تفتتح بها الصلاة، وتحمد ربك، وتصلي على النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ثم تدعو وتكبر، إلى أن قال: وتركع، ثم تقوم فتقرأ وتحمد ربك،. وذكر الحديث. قال أبو موسى وحذيفة صدق. ووجه الأولى أنه تكبير في إحدى ركعتي العيد فكان قبل القراءة كالأولى.

فصل:
وتكبيرات العيد الزوائد والذكر بينها سنة لا يؤثر تركها عمداً، وإن والى بين التكبير كان جائزاً، وإن نسي التكبير حتى شرع في القراءة، لم يعد إليه لأنه سنة فلا يعود إليها بعد شروعه في القراءة كالاستفتاح.

فصل:
فإذا سلم خطب خطبتين كخطبتي الجمعة؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فعل ذلك. ويفارق خطبتي الجمعة في أربعة أشياء:

(1/341)


أحدها: أن محلها بعد الصلاة، لما روى ابن عمر «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأبا بكر وعمر وعثمان كانوا يصلون العيدين قبل الخطبة» . متفق عليه.
الثاني: أنه يسن أن يستفتح الأولى بتسع تكبيرات متواليات، والثانية بسبع، ويكثر التكبير في أضعاف الخطبة، لما روى سعد مؤذن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يكبر بين أضعاف الخطبة، يكثر التكبير بن خطبتي العيدين» .
الثالث: أن يحثهم في الفطر على إخراج الفطر، ويبين لهم ما يخرجونه ووقته وجنسه، وفي الأضحى يرغبهم في الأضحية، ويبين لهم ما يجزئ فيها، ووقت ذبحها، ويحثهم على الإطعام منها؛ لأنه وقت هذا النسك فيشرع تبيينه.
الربع: أنهما سنة لا يجب استماعهما ولا الإنصات لهما، لما روى عبد الله بن السائب قال: «شهدت مع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - العيد، فلما قضى الصلاة قال: إنا نخطب فمن أحب أن يجلس للخطبة فليجلس، ومن أحب أن يذهب فليذهب» رواه أبو داود. ويستحب أن يجلس عقيب صعوده ليستريح، وقيل: لا يجلس؛ لأن الجلوس في الجمعة لموضع الأذان ولا أذان ههنا.

فصل:
ولا يتنفل قبل الصلاة وبعدها في موضع الصلاة لا في المسجد ولا في المصلى، إماماً كان أو مأموماً، لما روى ابن عباس «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خرج يوم الفطر فصلى ركعتين لم يصل قبلها ولا بعدها» . متفق عليه. ولا بأس أن يصلي بعد رجوعه، لما روى أبو سعيد قال: «كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لا يصلي قبل العيد شيئاً، فإذا رجع إلى منزله صلى ركعتين» . رواه ابن ماجه.

فصل:
ومن سبق بالتكبير أو بعضه لم يقضه لأنه سنة فات محلها.
وقال ابن عقيل: يأتي به؛ لأن محله القيام وقد أدركه، وإن أدركه في الركوع تتبعه ولم يقض التكبير وجهاً واحداً، وإن أدركه في التشهد قام إذا سلم الإمام فقضى ركعتين يكبر فيهما، وإن أدركه في الخطبة استمع ثم قضى الصلاة إن أحب. وفي صفة القضاء ثلاث روايات:
إحداهن: يقضيها على صفتها، لحديث أنس ولأنه قضى صلاة فكان على صفتها كغيرها.

(1/342)


الثانية: يصليها أربعاً بسلام واحد إن أحب، أو بسلامين، لما روى الأثرم عن عبد الله بن مسعود قال: من فاته العيد فليصل أربعاً، ولأنها صلاة عيد فإذا فاتت صليت أربعاً كالجمعة.
الثالثة: هو مخير بين ركعتين وأربع؛ لأنه تطوع نهار فكانت الخيرة إليه فيه كالضحى.

فصل:
ويشرع التكبير في العيدين، لقول الله تعالى: {وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ} [البقرة: 185] . وعن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه كان يكبر حتى يسمع أهل الطريق.
قال القاضي: والتكبير في الفطر مطلق غير مقيد على ظاهر كلامه. يعني لا يختص بأدبار الصلوات.
وقال أبو الخطاب: يكبر من غروب الشمس إلى خروج الإمام إلى الصلاة. وهل يكبر بعد صلاة العيد على روايتين.

فصل:
فأما التكبير في الأضحى فهو على ضربين: مطلق ومقيد. فأما المطلق فالتكبير في جميع الأوقات، من أول العشر إلى آخر أيام التشريق. وأما المقيد فهو التكبير في أدبار الصلوات، من صلاة الصبح يوم عرفة إلى العصر من آخر أيام التشريق. قيل لأحمد: بأي حديث تذهب إلى أن التكبير في صلاة الفجر يوم عرفة إلى العصر من آخر أيام التشريق؟ قال: بالإجماع عن عمر وعلي وابن عباس وابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -. وقد روي عن جابر «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلى الصبح يوم عرفة، ثم أقبل علينا فقال: الله أكبر ومد التكبير إلى آخر أيام التشريق» . وصفة التكبير المشروع: (الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله والله أكبر، الله أكبر ولله الحمد) ؛ لأن هذا يروى عن علي وابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -. قال أبو عبد الله: اختياري تكبير ابن مسعود. وذكر مثل هذا، ولأن في حديث جابر «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كبر تكبيرتين» ، ولأنه تكبير خارج الصلاة فكان شفعاً كتكبير الأذان.

فصل:
وموضعه عقيب أدبار الصلوات المفروضات، ولا يشرع عقيب النوافل لأنه لا أذان

(1/343)


لها فلم يكبر بعدها كصلاة الجنازة. وإن سبق الرجل ببعض الفريضة كبر إذا سلم. وإن صلاها كلها وحده ففيه روايتان:
إحداهما: يكبر لأنه ذكر مشروع للمسبوق فأشبه التسليمة الثانية.
والثانية: لا يكبر؛ لأن ابن عمر كان لا يكبر إذا صلى وحده. وقال ابن مسعود: إنما التكبير على من صلى في الجماعة، ولأنه مخصوص بوقت فخص بالجماعة كالخطبة. والمسافر كالمقيم في التكبير، والمرأة كالرجل. قال البخاري: النساء كن يكبرن خلف أبان بن عثمان وعمر بن عبد العزيز مع الرجال في المسجد، ويخفضن أصواتهن حتى لا يسمعهن الرجال. وعن أحمد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أنها لا تكبر. ومن فاتته صلاة في أيام التكبير فقضاها فيها كبر، وإن قضاها بعدها لم يكبر؛ لأن التكبير مقيد بالوقت.

فصل:
ويكبر مستقبل القبلة، فإن أحدث قبل التكبير لم يكبر؛ لأن الحدث يقطع الصلاة. وإن نسي التكبير استقبل القبلة وكبر، ما لم يخرج من المسجد. ويستحب الاجتهاد في العمل الصالح في أيام العشر، لما روي عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «ما العمل الصالح في أيام أفضل منه من العشر، قالوا: ولا الجهاد في سبيل الله؟ قال: ولا الجهاد في سبيل الله إلا رجل خرج يخاطر بنفسه وماله فلم يرجع بشيء» أخرجه البخاري.

[باب صلاة الكسوف]
وهي سنة مؤكدة عند كسوف الشمس أو القمر، لما روى أبو مسعود قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إن الشمس والقمر آتيان من آيات الله تعالى يخوف الله بهما عباده وإنهما لا ينكسفان لموت أحد من الناس، فإذا رأيتم منها شيئاً فصلوا وادعوا حتى ينكشف ما بكم» وعن عائشة قالت: «خسفت الشمس على عهد رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فبعث منادياً فنادى: الصلاة جامعة، وخرج إلى المسجد، فصف الناس وراءه، وصلى أربع ركعات في ركعتين وأربع سجدات» ، متفق عليهما. وتجوز جماعة وفرادى لإطلاق الأمر بهما في

(1/344)


حديث أبي مسعود، والجماعة أفضل لفعل النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لها في جماعة، وينادي لها: الصلاة جامعة للحديث. وتفعل في لمسجد للخبر، ولأن وقتها ضيقاً فلو خرجوا إلى المصلى خيف فواتها.

فصل:
وصفتها أن يكبر للإحرام ويستفتح، ثم يقرأ الفاتحة وسورة البقرة أو نحوها، ثم يركع ويسبح نحواً من مائة آية ثم يرفع فيسمع ويحمد ويقرأ الفاتحة وآل عمران أو نحوها، ثم يركع فيسبح نحواً من سبعين آية، ثم يرفع فيسمع ويحمد، ثم يسجد سجدتين يسبح فيهما نحواً من الركوع، ثم يقوم إلى الثانية، فيقرأ الفاتحة وسورة النساء، ثم يركع ويسبح نحواً من خمسين آية ثم يرفع فيسمع ويحمد ويقرأ الفاتحة وسورة المائدة، ثم يركع فيسبح نحواً من أربعين آية، ثم يرفع فيسمع ويحمد ثم يسجد نحواً من ركوعه، ويتشهد ويسلم؛ وليس هذا التقدير في القراءة والتسبيح منقولاً عن أحمد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، ولا هو متعين. وما قرأ به بعد أم الكتاب فيها أجزأه، لكن يستحب ذلك ليقارب فعل النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فيما روت عائشة قالت: قال: «خسفت الشمس في حياة رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فخرج إلى المسجد فقام وكبر، وصف الناس وراءه فقرأ رسول الله قراءة طويلة، ثم كبر فركع ركوعاً طويلاً، ثم رفع رأسه فقال: سمع الله لمن حمده ربنا ولك الحمد، ثم قام فقرأ قراءة طويلة هي أدنى من القراءة الأولى ثم كبر فركع ركوعاً هو أدنى من الركوع الأول، ثم قال: سمع الله لمن حمده ربنا ولك الحمد، ثم سجد، ثم فعل في الركعة الأخرى مثل ذلك حتى استكمل أربع ركعات وأربع سجدات، فانجلت الشمس.» متفق عليه.
وفي رواية أخرى: «فرأيت أنه قرأ في الأولى بسورة البقرة، وفي الثانية سورة آل عمران» ، ويجهر بالقراءة ليلاً كان أو نهاراً؛ لأن عائشة روت «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جهر في صلاة الخسوف» [رواه أبو داود] . ولأنها صلاة شرع لها الجمع الكثير فسن لها الجهر كالعيد، وإن صلى في كل ركعة ثلاث ركوعات على نحو ما ذكرنا جاز؛ لأن [عائشة روت] ، «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلى ست ركعات وأربع سجدات» . رواه مسلم.

(1/345)


وإن جعل في كل ركعة أربع ركوعات جاز أيضاً؛ لأنه يروى عن علي وابن عباس عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، والمختار الأول؛ لأنه أصح وأشهر.

فصل:
ووقتها من حين الكسوف إلى حين التجلي، فإن فاتت لم تقض لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «صلوا حتى يكشف الله ما بكم» وإن تجلت وهو في الصلاة أتمها وخففها، وإن سلم قبل انجلائها لم يصل أخرى واشتغل بالذكر والدعاء، وإن استترت بغيم صلى؛ لأن الأصل بقاء الكسوف، وإن غابت كاسفة فهو كانجلائها؛ لأنه ذهب وقت الانتفاع بنورها. وإن طلعت الشمس والقمر خاسف فكذلك لما ذكرنا، وإن غاب ليلاً وهو كاسف لم يصل كالشمس إذا غابت. وقال القاضي: يصلي لأن وقت سلطانه باق.

فصل:
قال القاضي: لم يذكر لها أحمد خطبة، ولا رأيته لأحد من أصحابنا، وذلك لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أمرنا بالصلاة دون الخطبة.

فصل:
إذا اجتمع الكسوف والجنازة بدئ بالجنازة؛ لأنه يخاف عليها وإن اجتمع مع المكتوبة في آخر وقتها بدئ بها؛ لأنها آكد. وإن كان في أول وقتها بدئ بصلاة الكسوف؛ لأنه يخشى فواتها. وإن اجتمع هو والوتر وخيف فواتهما بدئ بالكسوف لأنه آكد.

فصل:
ولا يصلى لغير الكسوف من الآيات؛ لأنه لم ينقل عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ولا عن أحد من خلفائه. إلا أن أحمد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: يصلي للزلزلة الدائمة لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - علل الكسوف بأنه آية يخوف الله بها عباده، والزلزلة أشد تخويفاً، فأما الرجفة فلا تبقى مدة تتسع لصلاة.

[باب صلاة الاستسقاء]
وهي سنة عند الحاجة إليها. لما روى عبد الله بن زيد قال: «خرج النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -

(1/346)


يستسقي، فتوجه إلى القبلة يدعو، وحول رداءه وصلى ركعتين جهر فيهما بالقراءة» . متفق عليه. وصفتها في موضعها وأحكامها صفة صلاة العيد. وهل يكبر فيهما تكبير العيدين؟
على روايتين:
إحداهما: لا يكبر لأن عبد الله بن زيد لم يذكره.
والثاني: يكبر؛ لأن ابن عباس روى «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلى ركعتين كما يصلي في العيدين» ، حديث صحيح. وعن جعفر بن محمد عن أبيه «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأبا بكر وعمر كانوا يصلون صلاة الاستسقاء يكبرون فيها سبعاً، وخمساً» . رواه الشافعي في " مسنده ". ولا وقت لها معين، إلا أن الأولى فعلها في وقت صلاة العيد، لشبهها بها. وذكر ابن عبد البر أن الخروج إليها عند زوال الشمس عند جماعة العلماء.

فصل:
وفي إذن الإمام روايتان، بناء على صلاة العيد:
إحداهما: هو شرط لها. قال أبو بكر: فإن خرجوا بغير إذن الإمام صلوا ودعوا بغير خطبة.
والثانية: يصلون ويخطب بهم أحدهم، والأولى للإمام إذا أراد الاستسقاء أن يعظ الناس، ويأمرهم بتقوى الله، والخروج عن المظالم، والتوبة من المعاصي وتحليل بعضهم بعضاً، والصيام والصدقة، وترك التشاحن؛ لأن المعاصي سبب القحط، والتقوى سبب البركات، قال الله تعالى: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [الأعراف: 96] . ويعد الناس يوماً يخرجون فيه، ويأمرهم أن يخرجوا على الصفة التي خرج عليها رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. قال ابن عباس: «خرج رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - للاستسقاء متبذلاً، متواضعاً متخشعاً، متضرعاً حتى أتى المصلى، فلم يخطب كخطبتكم هذه، ولكن لم يزل في الدعاء، والتضرع والتكبير، وصلى ركعتين كما كان يصلي في العيد» . هذا حديث صحيح. ويسن التنظيف وإزالة الرائحة لئلا يؤذي الناس بها، ولا يلبس زينة ولا يتطيب؛ لأن هذا يوم استكانة وخضوع.

فصل:
ويخرج الشيوخ والصبيان، ومن له ذكر جميل ودين وصلاح؛ لأنه أسرع للإجابة.

(1/347)


ويستحب أن يستسقي الإمام بمن ظهر صلاحه؛ لأن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - استسقى بالعباس عم رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، واستسقى معاوية والضحاك بيزيد بن الأسود الجرشي، وروي أن معاوية أمر يزيد بن الأسود فصعد المنبر، فقعد عند رجليه، فقال معاوية: اللهم إنا نستشفع إليك بخيرنا وأفضلنا، اللهم إنا نستشفع إليك بيزيد بن الأسود الجرشي، يا يزيد ارفع يديك إلى الله، فرفع يديه ورفع الناس أيديهم، فما كان بأوشك من أن ثارت سحابة في الغرب، كأنها ترس، وهب لها ريح، فسقوا حتى كاد الناس أن لا يبلغوا منازلهم. ولا يستحب إخراج البهائم؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم يخرجها، ولا إخراج الكفار؛ لأنهم أعداء الله فلا يتوسل بهم. فإن خرجوا لم يمنعوا لأنهم يطلبون رزقهم، ويفردون عن المسلمين بحيث إن أصابهم عذاب لم يصب غيرهم.

فصل:
واختلفت الرواية في الخطبة فروي: أنه لا يخطب وإنما يدعو، لقول ابن عباس: «لم يخطب خطبتكم هذه» ، وروي أنه يخطب قبل الصلاة، لقول عبد الله بن زيد: «فتوجه إلى القبلة يدعو، وحول رداءه ثم صلى» .
وعنه: أنه مخير في الخطبة قبل الصلاة وبعدها؛ لأن الجميع مروي.
وعنه: يخطب بعد الصلاة؛ لأن أبا هريرة قال: «صلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثم خطبنا» . وهذا صريح. ولأنها مشبهة بصلاة العيد، وخطبتها بعد الصلاة. فإذا صعد المنبر جلس، ثم قام فخطب خطبة واحدة، يفتتحها بالتكبير لأنه لم ينقل أحد من الرواة خطبتين، ويكثر فيها الاستغفار، وقراءة الآيات التي فيها الأمر بالاستغفار مثل: {اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا} [نوح: 10] {يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا} [نوح: 11] ، {وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ} [هود: 3] . ويكثر الدعاء والتضرع ويدعو بدعاء النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وقد روى ابن قتيبة بإسناده عن أنس: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خرج إلى الاستسقاء، فتقدم فصلى ركعتين يجهر فيهما بالقراءة، فلما قضى صلاته استقبل القوم بوجهه، وقلب رداءه ورفع يديه، وكبر تكبيرة قبل أن يستسقي، ثم قال: اللهم اسقنا وأغثنا، اللهم اسقنا غيثاً مغيثاً، وحياً ربيعاً، وجداً طبقاً، غدقاً مغدقاً، مونقاً، هنيئاً مريئاً مريعاً، مربعاً، مرتعاً، سابلاً، مسبلاً مجللاً، دائماً، دروراً، نافعاً، غير ضار عاجلاً غير رائث، اللهم تحيي به البلاد وتغيث به العباد، وتجعله بلاغاً للحاضر منا والباد، اللهم أنزل في أرضنا زينتها، وأنزل في أرضنا سكنها، اللهم أنزل علينا من

(1/348)


السماء ماء طهوراً، فأحي به بلدة ميتاً، واسقه مما خلقت لنا أنعاماً وأناسي كثيراً» . فالحيا الذي يحيى به الأرض.
والجدا: المطر العام.
والطبق: الذي يطبق الأرض.
والغدق: الكثير.
والمونق: المعجب.
والمريع: ذو المراعة والخصب.
والمربع: المقيم، من قولك: ربعت بالمكان إذا أقمت فيه.
والمرتع: من قولك: رتعت الإبل إذا رعت.
والسابل: المطر.
والمسبل: الماطر.
والسكن: القوة لأن الأرض تسكن به.
وعن ابن عمر أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان إذا استسقى قال: «اللهم اسقنا غيثاً مغيثاً، هنيئاً، مريئاً، غدقاً، مجللاً، طبقاً، عاماً، سحاً، دائماً، اللهم اسقنا الغيث ولا تجعلنا من القانطين، اللهم إن بالعباد والبلاد من اللأواء والضنك والجهد ما لا نشكوه إلا إليك، اللهم أنبت لنا الزرع، وأدر لنا الضرع، واسقنا من بركات السماء، وأنزل علينا من بركاتك، اللهم ارفع عنا الجهد والجوع والعري، واكشف عنا من العذاب ما لا يكشفه غيرك، اللهم إنا نستغفرك إنك كنت غفاراً فأرسل السماء علينا مدراراً» . ويستقبل القبلة في أثناء الخطبة، ويحول رداءه، يجعل اليمين يساراً واليسار يميناً كما فعل النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تفاؤلاً أن يحول الله تعالى الجدب خصباً، ولا يجعل أعلاه أسفله؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم يفعله، ويدعو الله في استقباله فيقول: اللهم إنك أمرتنا بدعائك ووعدتنا إجابتك، وقد دعوناك كما أمرتنا فاستجب لنا كما وعدتنا. لأن عبد الله بن زيد روى: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خرج إلى المصلى يستسقي، فاستقبل القبلة ودعا، وحول رداءه وجعل الأيمن على الأيسر، والأيسر على الأيمن» .
ويرفع يديه؛ لأن أنساً قال: «كان النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لا يرفع يديه في شيء من الدعاء إلا في الاستسقاء، كان يرفع يديه حتى يرى بياض إبطيه» . متفق عليه. فإن سقوا قبل الصلاة

(1/349)


صلوا وشكروا الله تعالى، وسألوه المزيد من فضله، وإن صلوا ولم يسقوا عادوا في اليوم الثاني والثالث لأن الله يحب الملحين في الدعاء.

فصل:
والاستسقاء على ثلاثة أضرب:
أحدها: مثل ما وصفنا.
والثاني: أن يستسقي الإمام يوم الجمعة على المنبر كما روى أنس: «أن رجلاً دخل يوم الجمعة ورسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يخطب فاستقبل رسول الله قائماً ثم قال: يا رسول الله، هلكت الأموال، وتقطعت السبل، فادع الله يغيثنا. فرفع رسول الله يديه فقال: اللهم أغثنا، اللهم أغثنا، اللهم أغثنا» ، وذكر الحديث، متفق عليه.
الثالث: أن يدعو عقيب الصلوات، ويستحب أن يقف في أول المطر، ويخرج ثيابه ليصيبها لما روى أنس في حديثه «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم ينزل عن منبره حتى رأينا المطر يتحادر من لحيته» . [رواه البخاري] .

فصل:
فإن كثر المطر بحيث يضرهم، أو كثرت مياه العيون حتى خيف منها، استحب أن يدعو الله تعالى حتى يخففه؛ لأن في حديث أنس قال: «فمطرنا من الجمعة إلى الجمعة، فجاء رجل إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: يا رسول الله، تهدمت البيوت، وقطعت السبل وهلكت المواشي فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: اللهم على ظهور الجبال والآكام، وبطون الأودية ومنابت الشجر فانجابت عن المدينة انجياب الثوب» . متفق عليه. وفي حديث آخر: «اللهم حوالينا ولا علينا ويقول: {رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} [البقرة: 286] » .

(1/350)