الكافي في فقه الإمام أحمد

 [باب الصيد]
وهو مباح لقول الله تعالى: {وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا} [المائدة: 2] . وقَوْله تَعَالَى: {أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ} [المائدة: 4] . قال ابن عباس: هي الكلاب المعلمة والبازي، وكل ما تعلم الصيد.

فصل:
من صاد صيداً فذكاه حل بكل حال، لحديث أبي ثعلبة. وإن أدرك ميتاً حل بشروط سبعة.
أحدها: أهلية الصائد على ما ذكرنا في الذكاة؛ لأن الاصطياد كالذكاة، وقائم مقامها.
الثاني: التسمية عند إرسال الجارح أو السهم لما ذكرنا في الذكاة، ولا يعفى عنهما في عمد ولا سهو؛ لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذا أرسلت كلبك وسميت فكل، وإن وجدت معه غيره فلا تأكل، فإنك إنما سميت على كلبك، ولم تسم على الآخر» متفق عليه.
وعنه: يعفى عنها في السهو، لما ذكرنا في الذكاة.
وعنه: يعفى عن السهو في إرسال السهم؛ لأنه آلته فهو كسكينة، ولا يعفى عنه في إرسال الكلب، للحديث، والأول المذهب.
الشرط الثالث: إرسال الجارح؛ لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذا أرسلت كلبك، وسميت فكل» ولأن إرسالها أقيم مقام الذبح، فاعتبر وجوده، فإن استرسل الكلب بنفسه، لم يبح صيده فإن سمى صاحبه وزجره، فزاد في عدوه حل صيده؛ لأنه أثر فيه، فصار كإرساله، وإن لم يزد في عدوه لم يبح؛ لأنه لم يؤثر.
الشرط الرابع: أن يكون الجارح معلماً؛ لقول الله تعالى: {وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ} [المائدة: 4] . ولما روى أبو ثعلبة الخشني أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «ما صدت بكلبك المعلم، وذكرت اسم الله فكل، وما صدت بكلبك الذي ليس بمعلم فأدركت ذكاته فكل» متفق عليه.

(1/552)


ويعتبر في تعليمه إن كان سبعاً ثلاثة أشياء: أن يسترسل إذا أرسل، وأن ينزجر إذا زجر، ولا يأكل إذا أمسك.
وهل يعتبر تكرار ذلك منه، فيه وجهان:
أحدهما: يعتبر ثلاثاً، ذكره القاضي؛ لأن ترك الأكل في المرة الواحدة يحتمل أنه لشبع أو عارض، فيعتبر تكراره، ليعلم أنه لتعلمه.
والثاني: لا يعتبر، ذكره أبو جعفر الشريف، وأبو الخطاب؛ لأنه تعلم صنعة، فلم يعتبر تكراره كسائر الصنائع، وأما الطائر كالبازي والصقر، فيعتبر أن يسترسل إذا أرسله، ويجيبه إذا دعاه، ولا يعتبر ترك الأكل؛ لأن تعليمه بأكله، وكل حيوان يقبل التعليم يحل صيده، لعموم الآية إلا الكلب الأسود البهيم، فإنه لا يحل اقتناؤه ولا صيده؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أمر بقتله، وقال: «إنه شيطان» وما وجب قتله حرم اقتناؤه وتعليمه، فوجب أن لا يحل صيده.
الشرط الخامس: أن يرسله على صيد، فإن أرسله على غير شيء، أو على إنسان، أو حجر أو بهيمة، فأصاب صيداً لم يحل؛ لأنه لم يرسله على صيد، فأشبه ما استرسل بنفسه، ويحتمل أن يحل كما لو أرسله على صيد، فصاد غيره، وإن أرسله على صيد فأصاب غيره، أو قتل جماعة حلت للخبر، ولأنه أرسله على صيد فحل ما صاده، كما لو أرسله على كبار فتفرقت عن صغار فصادها. ولو سمع حساً أو رأى سواداً، فظنه صيداً، فأرسل عليه كلبه أو سهمه فأصاب صيداً حل؛ لأنه قصد الصيد، وإن لم يظنه صيداً لم يبح صيده؛ لأن صحة قصده تبنى على ظنه، سواء كان الذي رآه صيداً، أو لم يكن.
الشرط السادس: أن يجرح الصيد، فإن قتله بخنقه، أو صدمته لم يحل لأنه قتله بغير جرح، أشبه ما لو رمى بالبندق والحجر.
وقال ابن حامد: يباح لعموم قَوْله تَعَالَى: {فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ} [المائدة: 4] وعموم الخبر.
الشرط السابع: أن يختص السباع، وهو ترك الأكل من الصيد، وفيه روايتان:
إحداهما: هو شرط، فمتى أكل الجارح من الصيد لم يحل، لما روى عدي بن حاتم أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «فإذا أرسلت كلبك المعلم، وذكرت اسم الله عليه فكل ما أمسك عليك، وإن قتل إلا أن يأكل الكلب، فإن أكل فلا تأكل فإني أخاف أن يكون إنما أمسك على نفسه» متفق عليه.

(1/553)


والثانية: لا يحرم، لما روى أبو ثعلبة قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذا أرسلت كلبك المعلم، وذكرت اسم الله عليه فكل وإن أكل» رواه أبو داود. والأولى أولى؛ لأن حديثنا أصح، ولا يحرم المتقدم من صيوده؛ لأنها وجدت مع اجتماع شروط التعلم فيه، فلا تحريم بالاحتمال، وإن شرب من دم الحيوان، لم يحرم رواية واحدة؛ لأنه لم يأكل، ولأن الدم لا ينفع الصائد، فلا يخرج بشربه عن أن يكون ممسكاً على صائده.

فصل:
وما أصاب فم الكلب، وجب غسله سبعاً إحداهن بالتراب، كغيره من المحال ويحتمل أن لا يجب؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ} [المائدة: 4] ولم يأمر بالغسل، ولأنه يشق إيجاب غسله فسقط.

فصل:
ويباح الصيد بغير الحيوان؛ لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لأبي ثعلبة: «ما صدت بقوسك وذكرت اسم الله عليه فكل» ولأن أبا قتادة شد على حمار وحشي فقتله، قال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إنما هي طعمة أطعمكموها الله» متفق عليهما. فما كان محدداً كالسهم والسيف، حل ما قتل به إذا اجتمعت الشروط، كالمعلم من الجوارح، وما لم يكن محدداً كالشباك، والأشراك والعصي والحجارة والبندق، فما أدرك ذكاته حل، وما لم يدرك ذكاته لم يحل، كغير المعلم؛ لأنه لم يقتل بجروحه، فيكون قتيله منخنقة أو موقوذة. ولو قتل المحدد الصيد بعرضه أو ثقله لم يبح لذلك، ولما روى عدي قال: «سئل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن صيد المعراض، فقال: ما خزق فكل، وما قتل بعرضه فهو وقيذ فلا تأكل» متفق عليه. ولو نصب المناجل لصيد وسمى، فجرحت الصيد وقتلته أبيح لأنها آلة محددة فأشبهت السهم، ولو وقع السهم على الأرض ثم وثب فقتل الصيد، أو أعانته الريح، ولولاها ما وصل حل لحديث أبي ثعلبة.

فصل:
إذا اجتمع في الصيد مبيح ومحرم، مثل أن يقتله بمثقل ومحدد، أو بسهم مسموم، أو بسهم مسلم، وبسهم مجوسي، أو سهم غير مسمى عليه، أو كلب مسلم وكلب مجوسي، أو غير مسمى عليه، أو غير معلم، أو اشتركا في إرسال الجارحة عليه، أو وجد مع كلبه كلباً لا يعرف مرسله، أو لا يعرف حاله، أو وجد مع سهمه سهماً كذلك لم يبح الصيد؛ لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذا أرسلت كلبك وسميت فكل وإن وجدت معه غيره فلا تأكل، فإنما سميت على كلبك ولم تسم على الآخر» ولأن

(1/554)


الأصل الحظر، فإذا شككنا في المبيح رد إلى أصله. وإن علم أن كلبه أو سهمه القاتل دون الآخر، مثل أن يجرح في المقتل، والآخر في غيره، أو يكون الآخر رد عليه الصيد أبيح لعدم الاشتباه، وكذلك إن علم أن شريك كلبه أو سهمه مما يباح صيده حل لذلك. ولو خرج الصيد، فوقع في ماء، أو تردى تردياً يقتله لم يبح لذلك. وقد روى عدي عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «إذا رميت الصيد، فوجدته بعد يوم أو يومين، ليس به إلا أثر سهمك فكل، وإن وجدته غريقاً في الماء فلا تأكل» متفق عليه.

فصل:
ولو صاد المسلم بكلب المجوسي حل، وعنه: لا يحل؛ لقول الله تعالى: {وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ} [المائدة: 4] . والأول المذهب؛ لأن هذا آلة فأشبه ما لو صاد بقوسه وسهمه. ولو صاد المجوسي بكلب مسلم لم يبح، كما لو صاد بقوسه.

فصل:
وإن رمى صيداً، أو أرسل كلبه عليه، فغاب عنه، ثم وجده ميتاً وسهمه فيه، أو وجده مع كلبه ولا أثر به، يحتمل أن يقتله غيره حل، لحديث عدي، وعنه: إن غاب نهاراً حل، وإن غاب ليلاً لم يحل.
وعنه: إن غاب يسيراً أكله، وإن غاب كثيراً لم يأكله؛ لأنه يروى عن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، والأول أولى للخبر، ولأنه قد وجد سبب إباحته يقيناً، والمعارض مشكوك فيه، فلا يزول عن اليقين بالشك. وإن شك في سهمه، أو من قتل به، أو وجد به أثر يحتمل أنه قتله، أو وجد غريقاً لم يبح للخبر، ولأنه شك في حله فوجب رده إلى أصله.

فصل:
إذا أدرك الصيد، وفيه حياة غير مستقرة، فتركه حتى مات حل لأن عقره قد ذبحه، وكذلك إن لم يبق من الزمان ما يتمكن من ذبحه فيه، وإن وجد فيه حياة مستقرة في زمن يمكن ذبحه فيه، فلم يذبحه حتى مات لم يحل لأنه صار مقدوراً على ذبحه، فلم يبح بغيره، كغير الصيد، فإن لم يكن معه ما يذكيه به، ففيه روايتان:
إحداهما: لا يباح لذلك.
والثانية: يرسل عليه صائده حتى يقتله فيحل، اختارها الخرقي. لأنه صيد قتله صائده قبل إمكان ذبحه، فأشبه الذي قتله قبل إدراكه.

(1/555)


فصل:
إذا ضرب صيداً فأبان منه عضواً، وبقيت فيه حياة مستقرة، فالعضو حرام لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ما أبين من حي فهو ميت» رواه أبو داود. وإن قطعه نصفين أو قطع رأسه، حل جميعه؛ لأنه مات بضربته، وإن قطع منه عضواً وبقي في سائره حياة غير مستقرة حل جميعه؛ لأنها ذكاة لبعضه فكانت ذكاة لجميعه، كما لو أبان رأسه. وقد استحسن أبو عبد الله - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قول الحسن: لا بأس بالطريدة، قال أبو عبد الله: الطريدة: الغزال، يمر بالعسكر فيضربه القوم بأسيافهم، فيأخذ كل واحد منهم قطعة. قال الحسن: ما زال الناس يفعلون ذلك في مغازيهم، وعن أبي عبد الله - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أنه لا يؤكل منه ما أبين في حياته، يؤكل سائره، للخبر. وإن بقي معلقاً بجلده حل رواية واحدة؛ لأنه متصل بجملته، أشبه سائر أعضائه.

فصل:
وإذا أثبت الصيد برميته أو شبكته أو غيرهما من آلات الصيد ملكه، فإن انفلت من الشبكة زال ملكه عنه؛ لأنه لم يستقر، فزال بانفلاته، فإن أخذ الشبكة معه، فصاده آخر رد الشبكة على صاحبها، وملك الصيد إلا أن يكون غير ممتنع بها، فيكون لصاحبها؛ لأنها التي أمسكته. ومن أمسك صيداً، واستقرت يده عليه ثم انفلت لم يزل ملكه عنه لأن اليد استقرت عليه، فلم تزل عنه بانفلاته كبهيمة، فإن أرسله، وقال: قد أعتقتك، لم يزل ملكه عنه؛ لأنه ليس بمحل للعتق.

فصل:
وإن أثبت الصيد بسهمه، فرماه آخر فقتله حرم؛ لأنه صار مقدوراً عليه، فلم يبح بغير الذبح، وعلى الثاني قيمته مجروحاً لصاحبه؛ لأنه أتلفه عليه إلا أن يكون سهم الثاني ذبحه فيحل؛ لأنه ذكاه، فإن ادعى كل واحد منهما أنه الأول حلف كل واحد منهما، وبرئ من الضمان؛ لأن الأصل براءة ذمته، وإن اتفقا على السابق، وأنكر الثاني كون الأول أثبته، فالقول قوله؛ لأن الأصل بقاء امتناعه، ويحرم على الأول اعترافه بتحريمه، ويحل للثاني. وإن رمياه فوجداه مثبتاً، لم يعلما من أثبته منهما، فهو بينهما، وإن وجداه ميتاً، ولم يعلما هل أثبته الأول أم لا؟ حل؛ لأن الأصل بقاء امتناعه والله سبحانه وتعالى أعلم.

[باب ما يحل وما يحرم من الحيوان]
باب ما يحل ويحرم الحيوان ثلاثة أقسام: أهلي، فيباح منه بهيمة الأنعام؛ لقول الله تعالى:

(1/556)


{أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الأَنْعَامِ} [المائدة: 1] والخيل كلها، لما روى جابر قال: «نهى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن لحوم الحمر الأهلية، وأذن في لحوم الخيل» . وقالت أسماء: «نحرنا فرساً على عهد رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فأكلناه، ونحن بالمدينة» . متفق عليهما، والدجاج لما روى أبو موسى، قال: «رأيت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يأكل لحم الدجاج» . متفق عليه. والإوز والبط؛ لأنها طيبات، فتدخل في قَوْله تَعَالَى: {أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ} [المائدة: 4] وتحرم الحمر، لحديث جابر. والبغال؛ لأنها متولدة منها، والمتولد بين الوحشي والأهلي كذلك، وما تولد بين حلال وحرام، كالسمع والعسبار كذلك. وتحرم الكلاب والسنانير؛ لأنها من السباع، وتأكل الخبائث.

فصل:
القسم الثاني: الوحشي، فيباح منه الحمر، لحديث أبي قتادة. والأرانب، لما روى أنس «أنه أخذ أرنباً، فذبحها أبو طلحة، وبعث بوركها إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقبله» . متفق عليه. والضباع لما روى جابر قال: «سألت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن الضبع، فقال: هو صيد ويجعل فيه كبش إذ صادفه المحرم» . رواه أبو داود والترمذي وقال هذا حديث حسن صحيح.
والضباب، لما روى ابن عباس قال: «أتي النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بضب، فرفع يده فقلت أحرام هو يا رسول الله؟ قال: لا، ولكنه لم يكن بأرض قومي، فأجدني أعافه فاحتزه خالد فأكله، ورسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ينظر إليه» متفق عليه.
ويباح البقر والظباء والنعام والأوبار واليرابيع؛ لأنها مستطابة، قضت الصحابة فيها بالجزاء على المحرم، وتباح الزرافة، نص عليه؛ لأنها من الطيبات المستحسنات.
وعنه في اليربوع: أنه محرم؛ لأنه يشبه الفأرة، وفي الثعلب روايتان:
إحداهما: يحرم؛ لأنه من السباع.
والثانية: يحل؛ لأنه يفدى من الإحرام، وفي سنور البر روايتان لذلك.
ويباح من الطير الحمام وأنواعه، والعصافير والقنابر والحجل والقطا، والحبارى والكركي، والكروان، وغراب الزرع، والزاغ وأشباهها مما يلتقط الحب، أو يفدى من الإحرام، وقد روى سفينة قال: «أكلت مع النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لحم حبارى» . رواه أبو داود.
وفي الهدهد والصرد روايتان:
إحداهما: يباح؛ لأنها تشبه المباح.
والثانية: يحرم؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «نهى عن قتل الهدهد والصرد» رواه أبو داود وابن ماجه. وكل طير لا يصيد بمخلبه، ولا يأكل الجيف، ولا يستخبث، فهو حلال.

(1/557)


فصل:
يحرم الخنزير، لنص الله تعالى على تحريمه، وكل ذي ناب من السباع، كالكلب والأسد والفهد، والنمر والذئب، وابن آوى والنمس، وابن عرس، والفيل والقرد، لما روى أبو ثعلبة «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى عن كل ذي ناب من السباع» . متفق عليه. وتحريم سباع الطير، كالعقاب والبازي والصقر والشاهين، والحدأة والبومة، لما روى ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: «نهى رسول الله عن كل ذي ناب من السباع وكل ذي مخلب من الطير» رواه مسلم وأبو داود.
ويحرم ما يأكل الجيف، كالنسر والرخم، وغراب البين، والأبقع والعقعق؛ لأنها مستخبثة لأكلها الخبائث، وقد قال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «خمس فواسق يقتلن في الحل والحرم» ذكر منها الحدأة والغراب. وما أبيح قتله، لم يبح أكله.
وتحرم الخبائث كلها، كالفأر والجراذين والأوزاغ والعظا والورل، والقنفذ والحرباء والصراصير والجعلان والخنافس والحيات والعقارب والدود والوطواط والخفاش والزنابير واليعاسيب والذباب والبق والبراغيث والقمل وأشباهها؛ لقول الله تعالى: {وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ} [الأعراف: 157] وقد روى أبو هريرة «أن القنفذ ذكر عند رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: هو خبيثة من الخبائث» رواه أبو داود. وما لم يذكره يرد إلى أقرب الأشياء شبهاً به، فيلحق به بالإباحة والتحريم؛ لأن القياس حجة، وما لم يكن شبيهاً بشيء منها فهو حلال؛ لقول الله تعالى: {خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا} [البقرة: 29] . خرج من عمومها ما قام الدليل على تحريمه، والباقي يبقى على الأصل.

فصل:
القسم الثالث: حيوان البحر يباح جميعه؛ لقول الله تعالى: {أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ} [المائدة: 96] إلا الضفدع؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى عن قتلها، ولأنها مستخبثة. وكره أحمد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - التمساح؛ لأنه ذو ناب، فيحتمل أنه محرم؛ لأنه سبع ويحتمل أنه مباح للآية. وقال ابن حامد: يحرم الكوسج؛ لأنه ذو ناب، وقال أبو علي النجاد: لا يؤكل من البحري ما يحرم نظيره في البر، ككلب الماء وخنزيره وإنسانه، والأول أولى. وقد قال أحمد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - في كلب الماء: يذبحه، وركب الحسن بن علي على سرج عليه جلد كلب ماء.

(1/558)


فصل:
وكره أحمد لحوم الجلالة وألبانها.
قال القاضي: هي أكثر علفها النجاسة، فإن كان أكثره الطاهر فليست جلالة، قال: ولحمها ولبنها حرام. وفي بيضها روايتان.
وقال ابن أبي موسى عن أحمد رواية أخرى إن أكلها غير محرم، لعموم قَوْله تَعَالَى: {أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الأَنْعَامِ} [المائدة: 1] . والأولى ظاهر المذهب، لما روى ابن عمر قال: «نهى رسول الله الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن أكل الجلالة وألبانها» . رواه أبو داود. وعن عبد الله بن عمرو بن العاص قال: «نهى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن الإبل الجلالة أن يؤكل لحمها، ولا يشرب لبنها، ولا يحمل عليها إلا الأدم، ولا يركبها الناس حتى تعلف أربعين ليلة» . رواه الخلال ويزول تحريمها، وكراهتها بحبسها عن أكل النجاسات ويحبس البعير أربعين ليلة للخبر والبقرة في معناه، ويحبس الطائر ثلاثاً لأن ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - كان إذا أراد أكلها حبسها ثلاثاً.
وعن أحمد: أن الجميع يحبس ثلاثا لخبر ابن عمر.

فصل:
وما سقي من الزروع والثمار بالنجاسات أو سمد بها نجس، كالجلالة؛ لأنه يتغذى بالنجاسات، وتترقى فيه أجزاؤها، فأشبه الجلالة، ويطهر بسقيها بالطهارات، كالجلالة إذا أكلت الطهارات.

فصل:
وتحرم الميتة والدم للآية، وتحرم النجاسات كلها؛ لأنها من الخبائث، وتحرم السموم المضرة، كما يحرم عليه إتلاف شيء من جسده.

فصل:
فإن اضطر إلى شيء مما حرم عليه، أبيح تناوله؛ لقول الله تعالى: {إِلا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ} [الأنعام: 119] وفي قدر ما يباح روايتان:

(1/559)


إحداهما: قدر ما يسد رمقه، اختارها الخرقي؛ لأنه يخرج بأكله عن كونه مضطراً، فتزول الإباحة بزواله.
والثانية: له الشبع؛ لأنه طعام جاز له سد الرمق منه، فجاز له الشبع، كالحلال.
وهل يجب عليه أكل ما يسد رمقه، فيه وجهان:
أحدهما: يجب لقول الله تعالى: {وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ} [النساء: 29] .
والثاني: لا يجب؛ لأنه تجنب ما حرم عليه. وقد روي عن عبد الله بن حذافة صاحب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن ملك الروم حبسه، ومعه لحم خنزير مشوي، وماء ممزوج بخمر ثلاثة أيام، فأبى أن يأكله، وقال: لقد أحله الله لي، ولكن لم أكن لأشمتك بدين الإسلام، ومن اضطر إلى طعام من ليس به مثل ضرورته لزمه بذله له؛ لأن في منعه منه إعانة على قتله، وإن بذله بثمن مثله لمن يقدر على ثمنه لزمه أخذه، ولم تحل له الميتة؛ لأنه غير مضطر، وإن امتنع من بذله إلا بأكثر من ثمن مثله فاشتراه به لم يلزمه إلا ثمن مثله؛ لأنه اضطر إلى بذل الزيادة بغير حق، فلم يلزمه كالمكره، وإن منعه منه بالكلية فله قتاله عليه؛ لأنه صار أحق به من مالكه وإن وجد المضطر ميتة، وطعاماً لغائب، فطابت نفسه بأكل الميتة فهي أولى؛ لأن إباحتها ثبتت بالنص، فكانت أولى مما ثبت بالاجتهاد، وإن لم تطب نفسه بأكلها أكل طعام الغير؛ لأنه مضطر إليه.
وإن وجد المحرم ميتة وصيداً فكذلك؛ لأن المحرم إذا ذبح الصيد صار ميتة، ولزمه الجزاء، فيجتمع فيه تحريمان، ومن لم يجد إلا آدمياً معصوماً لم يبح له قتله؛ لأنه لا يحل وقاية نفسه بأخيه، ولا يحل له قطع شيء من نفسه ليأكله؛ لأنه يتلفه يقيناً ليحصل ما هو موهوم. وإن وجد آدمياً مباح الدم، فله قتله وأكله؛ لأن إتلافه مباح، وإن وجد ميتاً معصوماً، فالأولى إباحته، لدخوله في عموم الآية؛ ولأن فيه حفظ الحي، فأشبه غير المعصوم، اختار هذا أبو الخطاب.
وقال غيره من أصحابنا: لا يباح؛ لأن كسر عظم الميت ككسر عظم الحي، وإن وجد المضطر خمراً لم يبح شربها؛ لأنها لا تدفع جوعاً ولا عطشاً، ولا فيها شفاء، لما روت أم سلمة أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إن الله لم يجعل شفاءكم فيما حرم عليكم» وإن وجد ماء ممزوجاً بخمر يدفع العطش فله الشرب منه؛ لأنه يدفع به الهلاك.
وإن غُص بلقمة، ولم يجد مائعاً يدفعها به، وخاف الهلاك فله دفعه بها لأنه يحصل بها.

(1/560)


فصل:
ومن مر بثمرة لا حائط لها، ولا ناطر، ففيه ثلاث روايات:
إحداهن: أنه يأكل ولا يحمل، لما روي عن أبي زينب، قال: سافرت مع أنس بن مالك، وعبد الرحمن بن سمرة، وأبي برزة، فكانوا يمرون بالثمار، فيأكلون في أفواههم. وقال عمر: يأكل ولا يتخذ خبنة.
والثانية: يباح ما سقط، ولا يرمي بحجر ولا يضرب، لما روى رافع أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا ترم وكُلْ ما وقع» حديث صحيح.
والثالثة: له الأكل إن كان جائعاً، ولا يأكل إن لم يكن جائعاً، لما روى عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أنه سئل عن الثمر المعلق، فقال: ما أصاب منه ذي الحاجة، غير متخذ خبنة، فلا شيء عليه، ومن خرج منه بشيء فعليه غرامة مثليه، والعقوبة» هذا حديث حسن وفي الزرع روايتان:
إحداهما: هو كالثمرة؛ لأن العادة جارية بأكل الفريك والباقلاء ونحوهما.
والثانية: لا يباح؛ لأن الفاكهة خلقت للأكل رطبة والنفوس إليها أميل بخلاف الزرع، وما كان محوطاً أو له ناطر، فليس له الدخول بحال؛ لقول ابن عباس: إذا كان عليها حائط، فهو حريم، فلا تأكل، وإن لم يكن حائط فلا بأس.
وفي لبن الماشية روايتان:
إحداهما: هو كالثمرة، لما روى الحسن عن سمرة أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إذا أتى أحدكم على ماشية فيها صاحبها، فليستأذنه فإن أذن، فليحتلب وليشرب وإن لم يكن فيها فليصوت ثلاثاً، فإن لم يجب، فليحتلب وليشرب، ولا يحمل» حديث صحيح.
والثانية: لا يحل له الحلب؛ لقول رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا يحلبن أحد ماشية أحد إلا بإذنه» متفق عليه.

(1/561)