الكافي
في فقه الإمام أحمد [باب الرهن]
وهو المال يجعل وثيقة بالدين المستوفى منه إن تعذر وفاؤه من المدين ويجوز
في السفر؛ لقول الله تعالى: {وَإِنْ كُنْتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا
كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ} [البقرة: 283] وفي الحضر؛ لما روت عائشة
[- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -] : «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - اشترى من يهودي طعاماً ورهنه درعه» متفق عليه؛ ولأنه وثيقة
جازت في السفر، فتجوز في الحضر كالضمان والشهادة.
فصل
ويجوز الرهن بعوض القرض؛ للآية. وبثمن المبيع؛ للخبر. وكل دين يمكن
استيفاؤه منه؛ كالأجرة، والمهر، وعوض الخلع، ومال الصلح، وأرش الجناية
والعيب، وبدل المتلف. قياساً على الثمن، وعوض القرض وفي دين السلم روايتان:
إحداهما: يصح الرهن به للآية والمعنى.
والأخرى: لا يجوز؛ لأنه لا يأمن هلاك الرهن بعدوان، فيصير مستوفياً حقه من
غير المسلم فيه. وقد قال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من
أسلم في شيء، فلا يصرفه إلى غيره» .
[الرهن بمال الكتابة]
فصل
ولا يجوز الرهن بمال الكتابة؛ لأنه غير
لازم. فإن للعبد تعجيز نفسه، ولا يمكن استيفاؤه من الرهن، لأنه لو عجز، صار
هو والرهن لسيده. ولا يجوز بما يحمل العاقلة من الدية قبل الحول؛ لأنه لم
يجب، ولا يعلم أن مآله إلى الوجوب، فإنه يحتمل حدوث ما يمنع وجوبه. ويجوز
الرهن به بعد الحول؛ لأنه دين مستقر. ولا يجوز بالجعل في الجعالة قبل
العمل؛ لعدم الوجوب، ويجوز بعده.
وقال القاضي: يحتمل جواز الرهن به قبل العمل؛ لأن مآله إلى الوجوب. ولا يصح
(2/74)
الرهن بما ليس بثابت في الذمة، كالثمن
المتعين، والأجرة المتعينة، والمنافع المعينة. نحو أن يقول: أجرتك داري هذه
شهراً؛ لأن العين لا يمكن استيفاؤها من الرهن، ويبطل العقد بتلفها. وقياس
هذا أنه لا يصح الرهن بالأعيان المضمونة، كالمغصوب والعارية والمقبوض على
وجه السوم؛ لتعذر استيفاء العين من الرهن. وإن جعله بقيمتها كان رهناً بما
لم يجب. ولا يعلم أن مآله إلى الوجوب.
وقال القاضي: قياس المذهب صحة الرهن بها؛ لصحة الكفالة بها.
فصل
ويصح الرهن بالحق بعد ثبوته. لقول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ
آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ} [البقرة: 282] إلى قوله: {فَرِهَانٌ
مَقْبُوضَةٌ} [البقرة: 283] . ومع ثبوته وهو أن يشترط الرهن في عقد البيع
أو القرض؛ لأن الحاجة داعية إليه. فإنه لو لم يشترطه، لم يلزم الغريم
الرهن. وإن رهن قبل الحق، لم يصح في ظاهر المذهب. اختاره أبو بكر والقاضي؛
لأنه تابع للدين، فلا يجوز قبله كالشهادة. واختار أبو الخطاب: صحته. فإذا
دفع إليه رهناً على عشرة دراهم يقرضه إياه، ثم أقرضه، لزم الرهن؛ لأنه
وثيقة بحق، فجاز عقدها قبله كالضمان.
فصل
ولا يلزم الرهن من جهة المرتهن؛ لأن العقد لِحَظِّهِ وحده، فكان له فسخه
كالمضمون له. ويلزمه من جهة الراهن؛ لأن الحظ لغيره فلزمه من جهته، كالضمان
في حق الضامن، ولأنه وثيقة فأشبه الضمان. ولا يلزم إلا بالقبض؛ لقول الله
تعالى: {فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ} [البقرة: 283] . ولأنه عقد إرفاق، فافتقر
إلى القبض كالقرض. وعنه في غير المكيل والموزون: أنه يلزم بمجرد العقد،
قياساً على البيع. والأول: المذهب؛ لأن البيع معاوضة، وهذا إرفاق، فهو أشبه
بالقرض. وإذا كان الرهن في يد الراهن، لم يجز قبضه إلا بإذنه؛ لأنه له قبل
القبض، فلا يملك المرتهن إسقاط حقه بغير إذنه، كالموهوب. وإن كان في يد
المرتهن، فظاهر كلامه لزومه، بمجرد العقد؛ لأن يده ثابتة عليه، وإنما يعتبر
الحكم فقط، فلم يحتج إلى قبض، كما لو منع الوديعة صارت مضمونة. وقال القاضي
وأصحابه: لا يلزمه حتى تمضي مدة يتأتى قبضه فيها، ولو كان غائباً، لا يصير
مقبوضاً حتى يوافيه هو أو وكيله، ثم تمضي مدة يمكن قبضه فيها؛ لأن
(2/75)
العقد يفتقر إلى القبض، ولا يحصل القبض إلا
بفعله، أو إمكانه، ثم هل يفتقر إلى إذن الراهن في القبض، على وجهين:
أحدهما: لا يفتقر إليه؛ لأن إقراره عليه كإذنه فيه.
والثاني: يفتقر؛ لأنه قبض يلزم به عقد غير لازم، فافتقر إلى الإذن كما لو
لم يكن في يده.
فصل
وإذا أذن في القبض، ثم رجع عنه قبل القبض، أو قبل مضي مدة يتأتى القبض
فيها، لما في يده، فهو كمن لم يأذن؛ لأن الإذن قد زال. وإن أذن فيه ثم جن
أو أغمي عليه، زال الإذن؛ لخروجه عن كونه من أهله. ويقوم ولي المجنون
مقامه، إن رأى الحظ في القبض، أذن فيه، وإلا فلا. وإن تصرف الراهن في الرهن
قبل قبضه، بعتق أو هبة أو بيع أو جعله مهراً، بطل الرهن؛ لأن هذه التصرفات
تمنع الرهن، فانفسخ بها. وإن رهنه، بطل الأول؛ لأن المقصود منه ينافي
الأول. وإن دبره، أو أجره أو زوج الأمة، لم يبطل الرهن؛ لأن هذه التصرفات
لا تمنع البيع، فلا تمنع صحة الرهن. وإن كاتب العبد ـ وقلنا: يصح رهن
المكاتب ـ لم يبطل بكتابته؛ لأنه لا ينافيها. وإن قلنا: لا يصح رهنه، بطل
بها لتنافيها.
فصل
وإن مات أحد المتراهنين، لم يبطل الرهن؛ لأنه عقد لا يبطله الجنون، أو مآله
إلى اللزوم، فلم يبطله الموت كبيع الخيار. ويقوم وارث الميت مقامه في
الإقباض والقبض، فإن لم يكن على الراهن دين سوى دين الرهن، فلوارثه إقباضه.
وإن كان عليه دين سواه، فليس له إقباضه؛ لأنه لا يملك تخصيص بعض الغرماء
برهن. وعنه: له إقباضه؛ لأن المرتهن لم يرض بمجرد الذمة، بخلاف غيره.
والأول أولى؛ لأن حقوق الغرماء تعلقت بالتركة قبل لزوم حقه، فلم يجز تخصيصه
بغير رضاهم، كما لو أفلس الراهن، فإن أذن الغرماء في إقباضه، جاز؛ لأن الحق
لهم، فإذا قبضه، لزم، سواء مات قبل الإذن في القبض أو بعده.
فصل
وإن حجر على الراهن قبل القبض، لم يملك إقباضه فإن كان الحجر لسفه، قام
وليه مقامه كما لو جن، وإن كان لفلس، لم يجز لأحد إقباضه إلا بإذن الغرماء؛
لأن فيه تخصيص المرتهن بثمنه دونهم.
(2/76)
فصل
ومتى امتنع الراهن من إقباضه، وقلنا: إن القبض ليس بشرط في لزومه أجبره
الحاكم. وإن قلنا: هو شرط، لم يجبره، وبقي الدين بغير رهن. وهكذا إن انفسخ
الرهن قبل القبض، إلا أن يكون مشروطاً في بيع، فيكون للبائع الخيار بين فسخ
البيع وإمضائه؛ لأنه لم يسلم له ما شرط، فأشبه ما لو شرط صفة في المبيع
فبان بخلافها. وإن قبض الرهن، فوجد معيباً، فله الخيار؛ لأنه لم يسلم له ما
شرطه. فإن رضيه معيباً، فلا أرش له؛ لأن الرهن إنما لزم فيما قبض دون الجزء
الفائت. وإن حدث العيب، أو تلف الرهن في يد المرتهن، فلا خيار له؛ لأن
الراهن وفى له بما شرط، فإن تعب عنده، ثم أصاب به عيباً قديماً، فله رده،
وفسخ البيع؛ لأن العيب الحادث عنده لا يجب ضمانه على المرتهن وخرجه القاضي
على الروايتين في البيع. وإن علم بالعيب بعد تلفه، لم يملك فسخ البيع؛ لأنه
قد تعذر عليه رد الرهن، لهلاكه.
فصل
ولا ينفك شيء من الرهن حتى يقضي جميع ديونه؛ لأنه وثيقة به، فكان وثيقة بكل
جزء منه كالضمان. فإن رهن شيئا من رجلين، أو رهن رجلان رجلاً شيئاً، فبرئ
أحدهما، أو برئ الراهن من دين أحدهما، انفك نصف الراهن؛ لأن الصفقة التي في
أحد طرفيها عقدان فلا يقف انفكاك أحدهما على فكاك الآخر، كما لو فرق بين
العقدين. وإن أراد الراهن مقاسمة المرتهن في الأولى، أو أراد الراهنان
القسمة في الثانية ولا ضرر فيها، كالحبوب والأدهان، أجبر الممتنع عليها،
وإن كان فيها ضرر، لم يجبر عليها، كغير الرهن، ويبقى الرهن مشاعاً.
فصل
واستدامة القبض كابتدائه في الخلاف في اشتراطه للآية، ولأنها إحدى حالتي
الرهن، فأشبهت الابتداء، فإن قلنا باشتراطه، فأخرجه المرتهن عن يده
باختياره إلى الراهن، زال لزومه، وبقي كالذي لم يقبض، مثل أن أجره إياه، أو
أودعه، أو أعاره أو غير ذلك. فإن رده الراهن إليه، عاد اللزوم بحكم العقد
السابق؛ لأنه أقبضه باختياره، فلزم به كالأول. وإن أزيلت يد المرتهن
بعدوان، كغضب ونحوه، فالرهن بحاله؛ لأن يده ثابتة حكماً، فكأنها لم تزل.
فصل
والرهن أمانة في يد المرتهن، إن تلفت بغير تعد منه، لم يضمنه، ولم يسقط شيء
من دينه؛ لما روى الأثرم عن سعيد بن المسيب قال: «قضى رسول الله - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن الرهن لا
(2/77)
يغلق، والرهن ممن رهنه» . ولأنه وثيقة بدين
ليس بعوض عنه، فلم يسقط بهلاكه كالضامن. وإن كان الرهن فاسداً، لم يضمنه؛
لأن ما لا يضمن بالعقد الصحيح، لا يضمن بالعقد الفاسد. وإن وقت الرهن، فتلف
بعد الوقت، ضمنه؛ لأنه مقبوض بغير عقد. وإن رهنه مغصوباً، لم يعلم به
المرتهن، فهل للمالك تضمين المرتهن؟ فيه وجهان:
أحدهما: لا يضمنه؛ لأنه دخل على أنه أمين.
والثاني: يضمنه؛ لأنه قبضه من يد ضامنه، فإذا ضمنه رجع على الراهن في أحد
الوجهين؛ لأنه غره. والثاني: لا يرجع؛ لأن التلف حصل في يده فاستقر الضمان
عليه، وإن ضمن الراهن، فهل يرجع على المرتهن؟ على وجهين إن قلنا: يرجع
المرتهن، لم يرجع الراهن، وإن قلنا: لا يرجع ثم رجع هاهنا وإن انفك الرهن
بقضاء أو إبراء، بقي الرهن أمانة؛ لأن قبضه حصل بإذن مالكه، لا لتخصيص
القابض بنفعه فأشبه الوديعة.
فصل
إذا حل الدين فوفاه الراهن، انفك الرهن. وإن لم يوفه وكان قد أذن في بيع
الرهن، بيع واستوفي الدين من ثمنه. وما بقي فله. وإن لم يأذن، طولب
بالإيفاء أو ببيعه، فإن أبى أو كان غائباً، فعل الحاكم ما يراه من إجباره
على البيع، أو القضاء، أو بيع الرهن بنفسه، أو بأمينه، والله أعلم.
[باب ما يصح رهنه وما لا يصح]
يصح رهن كل عين يصح بيعها؛ لأن مقصود الرهن الاستيثاق بالدين باستيفائه من
ثمنه عند تعذر استيفائه من الراهن، وهذا يحصل مما يجوز بيعه. ويصح رهن
المتاع؛ لأنه يجوز بيعه، فجاز رهنه كالمفرز، ثم إن اتفقا على جعله في يد
المرتهن، أو يد عدل وديعة للمالك، أو بأجرة، جاز. وإن اختلفا، جعله الحاكم
في يد عدل وديعة لهما، أو يؤجره لهما محبوساً قدر الرهن للمرتهن، وإن رهن
نصيبه من جزء من المشاع وكان مما لا ينقسم، جاز. وإن جازت قسمته، احتمل
جواز رهنه؛ لأنه يصح بيعه، واحتمل أن لا يصح؛ لاحتمال أن يقتسماه، فيحصل
المرهون في حصة الشريك. ويصح رهن العبد المرتد والجاني؛ لأنه يجوز بيعهما.
وفي رهن القاتل في المحاربة وجهان، بناء على بيعه. ويصح رهن المدبر في ظاهر
المذهب، لظهوره في بيعه. ويصح رهن من علق عتقه بصفة توجد بعد حلول الدين،
لإمكان استيفائه من ثمنه. وإن كانت الصفة توجد قبل حلول الدين، لم يجز
رهنه؛ لأنه لا يمكن استيفاؤه من ثمنه. وإن كانت
(2/78)
تحتمل الأمرين، احتمل أن يصح رهنه؛ لأن
الأصل بقاء العقد، والعتق قبله مشكوك فيه، فهو كالمدبر واحتمل أن لا يصح
رهنه؛ لأنه يحتمل العتق قبل حلول الحق، وهذا غرر لا حاجة إليه. فإن مات سيد
المدبر وهو يخرج من الثلث، أو وجدت الصفة، عتق، وبطل الرهن. ولا يصح رهن
المكاتب؛ لتعذر استدامة قبضه. ويتخرج أن يصح إن قلنا: استدامة القبض غير
مشترطة، وأنه يصح بيعه، ويكون ما يؤديه من نجوم كتابته، رهناً معه. وإن
عتق، بقي ما أداه رهناً، كالقن إذا مات بعد الكسب، وجميع هذه المعاني عيوب،
لها حكم غيرها من العيوب.
فصل
ويصح رهن ما يسرع إليه الفساد؛ لأنه مما يجوز بيعه، وإيفاء الدين من ثمنه،
فأشبه الثياب، فإن كان الدين يحل قبل فساده، بيع وقضي من ثمنه. وإن كان
يفسد قبل الحلول، وكان مما يمكن إصلاحه بالتجفيف، كالعنب، جفف. ومؤنة
تجفيفه على الراهن؛ لأنه من مؤنة حفظه، فأشبه نفقة الحيوان. وإن كان مما لا
يجفف، فشرطا بيعه، وجعل ثمنه رهناً، فعلا ذلك. وإن لم يشرطاه، ففيه وجهان:
أحدهما: يصح الرهن ويباع كما لو شرطاه؛ لأن الحال يقتضي ذلك لكون المالك لا
يعرض ملكه للتلف، فحمل مطلق العقد عليه، كما يحمل على تجفيف العنب.
والثاني: لا يصح؛ لأن البيع إزالة ملكه قبل حلول الحق، فلم يجبر عليه
كغيره. وإن شرط أن لا يباع، فسد وجهاً واحداً؛ لأنه إن وفى بشرطه، لم يمكن
إيفاء الدين من ثمنه، وإن رهنه عصيراً، صح لذلك، فإن تخمر خرج من الرهن؛
لأنه لا قيمة له. فإن عاد خلاً، عاد رهناً لأن العقد كان صحيحاً، فلما طرأ
عليه معنى أخرجه عن حكمه، ثم زال المعنى، عاد الحكم كما لو ارتد أحد
الزوجين، ثم عاد في العدة عادت الزوجية. وإن كان استحالته قبل القبض، لم
يعد رهناً؛ لأنه ضعيف، فأشبه الردة قبل الدخول.
فصل
ويصح رهن الثمرة قبل بدو صلاحها، والزرع الأخضر مطلقاً وبشرط التبقية؛ لأن
الغرر يقل فيه، لاختصاصه بالوثيقة مع بقاء الدين بحاله، بخلاف البيع، قال
القاضي: ويصح رهن المبيع المكيل والموزون قبل قبضه؛ لأن قبضه مستحق
للمشتري، فيمكنه قبضه، ثم يقبضه. وإنما منع من بيعه، لئلا يربح فيما لم
يضمنه وهو منهي عنه. وإن رهن ثمرة إلى محل تحدث فيه أخرى لا تتميز، فالرهن
باطل؛ لأنه مجهول حين حلول
(2/79)
الحق، فلا يمكن إمضاء الرهن على مقتضاه.
وإن رهنها بدين حال، أو شرط قطعها عند خوف اختلاطها، جاز؛ لأنه لا غرر فيه،
فإن لم يقطعها حتى اختلطت، لم يبطل الرهن؛ لأنه وقع صحيحاً، لكن إن سمح
الراهن ببيع الجميع، أو اتفقا على قدر منه، جاز. وإن اختلفا وتشاحا، فالقول
قول الراهن مع يمينه؛ لأنه منكر.
فصل
ويصح رهن الجارية دون ولدها؛ لأن الرهن لا يزيل الملك، فلا يحصل التفريق
فيه. فإن احتيج إلى بيعها، بيع ولدها معها؛ لأن التفريق بينهما محرم،
والجمع بينهما في البيع جائز، فتعين. وللمرتهن من الثمن بقدر قيمة الجارية
منه، وكونها ذات ولد عيب؛ لأنه ينقص من ثمنها.
فصل
ولا يصح رهن ما لا يجوز بيعه، غير ما ذكرنا، كالوقف وأم الولد، والكلب
ونحوها؛ لأنه لا يمكن إيفاء الدين منه وهو المقصود. ولا يصح رهن ما لا يقدر
على تسليمه. ولا المجهول الذي لا يجوز بيعه؛ لأن الصفات مقصودة في الرهن
لإيفاء الدين، كما تقصد في البيع للوفاء بالثمن. ولا رهن مال غيره بغير
إذنه، ويتخرج جوازه ويقف على إجازة مالكه، كبيعه. فإن رهن عيناً يظنها
لغيره وكانت ملكه، ففيه وجهان:
أحدهما: يصح؛ لأنه صادف ملكه.
والثاني: لا يصح؛ لأنه عقده معتقداً فساده. ولا يصح رهن الرهون من غير إذن
المرتهن؛ لأنه لا يملك بيعه في الدين الثاني، فإن رهنه عند المرتهن بدين
آخر، مثل أن رهنه عبداً على ألف، ثم استدان منه ديناً آخر، وجعل العبد
رهناً بهما، لم يصح؛ لأنه رهن مستحق بدين، فلم يجز رهنه بغيره كما لو رهنه
عند غير المرتهن.
فصل
ولا يصح رهن ما لا يجوز بيعه من أرض الشام والعراق ونحوهما مما فتح عنوة في
ظاهر المذهب؛ لأنها وقف. وما فيها من بناء من ترابها، فحكمه حكمها. وما جدد
فيها من غراس وبناء من غراس وبناء من غير ترابها، إن أفرده بالرهن، ففيه
روايتان:
إحداهما: لا يصح؛ لأنه تابع لما لا يجوز رهنه، فهو كأساسات الحيطان.
والثانية: يجوز؛ لأنه مملوك غير موقوف، وإن رهنه مع الأرض، بطل في الأرض،
والغراس والبناء وجهان بناء على تفريق الصفقة.
(2/80)
فصل
وفي رهن المصحف، روايتان، كبيعه. وإن رهنه أو رهن كتب الحديث، أو عبداً
مسلماً لكافر، لم يصح؛ لأنه لا يصح بيعه له، ويحتمل أن يصح إذا شرطا كونه
في يد مسلم، ويبيعه الحاكم إذا امتنع مالكه؛ لأن الرهن لا ينقل الملك إلى
الكافر، بخلاف البيع، ولا يجوز رهن المنافع؛ لأنها تهلك إلى حلول الحق. ولو
رهنه أجرة داره شهراً، لم يصح؛ لأنه مجهول. ولو رهن المكاتب من يعتق عليه،
لم يصح؛ لأنه لا يملك بيعه.
[باب ما يدخل في الرهن وما يملكه الراهن وما
يلزمه]
باب ما يدخل في الرهن وما لا يدخل وما يملكه الراهن، وما لا يملكه وما
يلزمه وما لا يلزمه جميع نماء الرهن المنفصل يدخل في الرهن ويباع معه؛ لأنه
عقد وارد على الأصل، فثبت حكمه في نمائه كالبيع، أو نماء حادث من غير
الرهن، أشبه المتصل. ولو ارتهن أرضاً، فنبت فيها شجر، دخل في الرهن؛ لأنه
من نمائها، سواء نبت بنفسه أو بفعل الراهن. ويدخل فيه الصوف واللبن
الموجودان، والحادثان، لدخولهما في البيع. وإن رهنه أرضاً ذات شجر، أو
شجراً مثمراً، فحكمه في ذلك حكم البيع. وإن رهنه داراً فخربت، فأنقاضها
رهن؛ لأنها من أجزائها. وإن رهنه شجراً، لم تدخل أرضه في الرهن؛ لأنها أصل
فلا تدخل تبعاً.
فصل
ولا يملك الراهن التصرف في الرهن، باستخدام ولا سكنى، ولا إجارة ولا إعارة،
ولا غيرها بغير رضى المرتهن، ولا يملك المرتهن ذلك بغير رضى الراهن. فإن لم
يتفقا على التصرف، كانت منافعه معطلة تهلك تحت يد المرتهن حتى يفك؛ لأن
الرهن عين محبوسة على استيفاء حق، فأشبهت المبيع المحبوس على ثمنه. وإن
اتفقا على إجارته أو إعارته، جاز في قول الخرقي وأبي الخطاب؛ لأن يد
المستأجر والمستعير نائبة عن يد المرتهن في الحفظ، فجاز، كما لو جعلاه في
يد عدل. ولا فائدة في تعطيل المنافع؛ لأنه تضييع مال نهى النبي - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عنه. وقال أبو بكر: لا يجوز إجارته. فإن فعلا
بطل الرهن؛ لأن الرهن يقتضي الحبس عند المرتهن أو نائبه. فمتى وجد عقد
يقتضي زوال الحبس، بطل الرهن. وقال ابن أبي موسى: إن أجره المرتهن، أو
أعاره بإذن الراهن، جاز. وإن فعل ذلك الراهن بإذن المرتهن، فكذلك في أحد
الوجهين. وفي الآخر يخرج من الرهن؛ لأن المستأجر قائم مقام الراهن، فصار
كما لو سكنه الراهن.
فصل
ولا يمنع الراهن من إصلاح الرهن، كمداواته بما لا يضر، وفصده وحجمه عند
(2/81)
حاجته إليه، وودج الدابة وتبزيغها، وإطراق
الإناث عند حاجتها؛ لأنه إصلاح لماله من غير ضرر، فلم يمنع منه كالعلف. وإن
أراد قطع شيء من بدنه، لخبيثة فيه، وقال أهل الخبرة: الأحوط قطعها، فله
فعله. وإن ساووا الخوف في قطعها، وتركها، فامتنع أحدهما من قطعها، فله ذلك؛
لأن فيه خطراً بحقه. وللراهن مداواة الماشية من الجرب بما لا ضرر فيه،
كالقطران بالزيت اليسير، وإن خيف ضرره كالكثير لم يملكه. وليس له قطع
الأصبع الزائدة والسلعة؛ لأنه يخاف منه الضرر، وتركها لا يضر، وليس له
الختان إن كان لا يبرأ منه قبل محل الحق؛ لأنه ينقص ثمنه، وإن كان يبرأ
قبله والزمان معتدل، لم يمنع منه؛ لأنه يزيد به الثمن، ولا يضر المرتهن.
وليس للمرتهن فعل شيء من ذلك بغير رضى الراهن.
فصل
ولا يملك الراهن بيع الرهن، ولا هبته، ولا جعله مهراً، ولا أجرة ولا كتابة
العبد، ولا وقفه؛ لأنه تصرف يبطل به حق المرتهن من الوثيقة، فلم يصح من
الراهن بنفسه، كالفسخ. وفي الوقف وجه آخر: أنه يصح؛ لأنه يلزم لحق الله
تعالى، أشبه العتق. والأول: الصحيح؛ لأنه تصرف لا يسري إلى ملك الغير، فلم
يصح كالهبة.
ولا يصح تزويج الرقيق. وقال القاضي: له تزويج الأمة. ويمنع الزوج وطأها،
والأول: أصح؛ لأنه ينقص ثمنها فلم يصح، كتزويج العبد.
فصل
ولا يجوز له عتق الرهن؛ لأن فيه إضراراً بالمرتهن، وإسقاط حقه اللازم، فإن
فعل، نفذ عتقه، نص عليه؛ لأنه محبوس، لاستيفاء حق فنفذ فيه عتق المالك،
كالمحبوس على ثمنه. وعنه: لا ينفذ عتق المعسر؛ لأنه عتق في ملكه، يبطل به
حق غيره، فاختلف فيه الموسر والمعسر، كالعتق في العبد المشترك. فإن أعتق
الموسر، فعليه قيمته تجعل مكانه رهناً؛ لأنه أبطل حق الوثيقة بغير إذن
المرتهن، فلزمته قيمته، كما لو قتله. وإن أعتق المعسر، فالقيمة في ذمته، إن
أيسر قبل حلول الحق، أخذت منه رهناً، وإن أيسر بعد حلول الحق، طولب به
خاصة؛ لأن ذمته تبرأ به من الحقين معاً وتعتبر القيمة حين الإعتاق؛ لأنه
حال الإتلاف.
فصل
وليس للراهن وطء الجارية. وإن كانت لا تحبل؛ لأن من حرم وطؤها يستوي فيه من
تحبل، ومن لا تحبل، كالمستبرأة. فإن وطئ فلا حد عليه لأنها ملكه. فإن نقصها
لكونها بكراً أو أفضاها، فعليه ما نقصها، إن شاء جعله رهناً، وإن شاء جعله
قصاصاً من
(2/82)
الحق. وإذا لم تحمل منه، فهي رهن بحالها،
كما لو استخدمها. وإن ولدت منه، فولده حر، وصارت أم ولد له؛ لأنه أحبلها
بحر في ملكه. وتخرج من الرهن، موسراً كان، أو معسراً رواية واحدة؛ لأن
الإحبال أقوى من العتق، ولذلك ينفذ إحبال المجنون، دون عتقه. وعليه قيمتها
يوم إحبالها؛ لأنه وقت إتلافها. وإن تلفت بسبب الحمل، فعليه قيمتها؛ لأنها
تلفت بسبب كان منه.
فصل
وكل ما منع الراهن منه، لحق المرتهن، إذا أذن فيه، جاز له فعله؛ لأن المنع
لحقه، فجاز بإذنه، فإن رجع عن الإذن قبل الفعل، سقط حكم الإذن. فإن لم يعلم
بالرجوع حتى فعل، فهل يسقط الإذن؟ فيه وجهان؛ بناء على عزل الوكيل بغير
علمه. فإن تصرف بإذنه فيما ينافي الرهن من البيع والعتق ونحوهما، صح تصرفه
وبطل الرهن؛ لأنه لا يجتمع مع ما ينافيه، إلا البيع، فله ثلاثة أحوال:
أحدها: أن يبيعه بعد حلول الحق فيتعلق حق المرتهن بالثمن، ويجب قضاء الدين
منه إلا أن يقضيه غيره؛ لأن مقتضى الرهن بيعه، واستيفاء الحق من ثمنه.
الثاني: أن يبيعه قبل حلول الحق بإذن مطلق، فيبطل الرهن ويسقط حق المرتهن
من الوثيقة؛ لأنه تصرف في عين الرهن تصرفاً لا يستحقه المرتهن، فأبطله
كالعتق.
والثالث: أن يشترط جعل الثمن رهناً، ويجعل دينه من ثمنه، فيصح البيع
والشرط؛ لأنه لو شرط ذلك بعد حلول الحق، جاز، فكذلك قبله. وإن أذن له في
الوطء والتزويج، جاز؛ لأنه منع منه لحقه، فجاز بإذنه، فإن فعل لم يبطل
الرهن؛ لأنه لا ينافيه. فإن أفضى إلى الحمل أو التلف، فلا شيء على الراهن؛
لأنه مأذون في سببه، وإن أذن له في ضربها، فتلفت به، فلا ضمان عليه؛ لأنه
تولد من المأذون فيه، كتولد الحمل من الوطء.
فصل
ويلزم الراهن مؤنة الرهن كلها، من نفقة وكسوة وعلف، وحرز وحافظ وسقي،
وتسوية وجذاذ وتجفيف. لما روي عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - أنه قال: «الرهن لمن رهنه له غنمه وعليه غرمه» وهذا من غرمه.
ولأنه ملكه فكانت نفقته عليه، كالذي في يده. فإن
(2/83)
احتاج إلى دواء، أو فتح عرق، لم يلزمه؛ لأن
الشفاء بيد الله تعالى، وقد يحيا بدونه، بخلاف النفقة، ولا يجبر على إطراق
الماشية؛ لأنه ليس مما يحتاج إليه لبقائها، وليس عليه ما يتضمن زيادة
الرهن. فإن احتاجت إلى راع لزمه؛ لأنه لا قوام لها بدونه. فإن أراد السفر
بها ليرعاها ولها في مكانها مرعى تتماسك به، فللمرتهن منعه؛ لأن فيه
إخراجها عن يده ونظره، وإن أجدب مكانها، فللراهن السفر بها لأنه موضع حاجة.
فإن اتفقا على السفر بها، واختلفا في مكانها، قدمنا قول من يطلب الأصلح،
فإن استويا، قدم قول المرتهن؛ لأنه أحق باليد.
فصل
وليس للمرتهن أن ينتفع من الرهن بشيء بغير إذن الراهن، لقول النبي - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الرهن من راهنه، له غنمه وعليه غرمه»
ومنافعه من غنمه، ولأن المنافع ملك للراهن، فلم يجز أخذها بغير إذنه، كغير
الرهن، إلا ما كان مركوباً أو محلوباً ففيه روايتان:
إحداهما: هو كغيره لما ذكرناه.
والثانية: للمرتهن الإنفاق عليه، ويركب ويحلب بقدر نفقته، متحرياً للعدل في
ذلك، سواء تعذر الإنفاق من المالك أو لم يتعذر. لما روى أبو هريرة قال: قال
رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الرهن يركب بنفقته،
ولبن الدر يشرب بنفقته إذا كان مرهوناً، وعلى الذي يركب ويشرب النفقة» رواه
البخاري. وفي لفظ: «فعلى المرتهن علفها، ولبن الدر يشرب، وعلى الذي يشرب
نفقته، ويركب» . فإن أنفق متبرعاً، فلا شيء له. رواية واحدة. وليس له
استخدام العبد بقدر نفقته. وعنه: له ذلك إذا امتنع مالكه من الإنفاق عليه،
كالمركوب والمحلوب. قال أبو بكر: خالف حنبل الجماعة. والعمل على أنه لا
ينتفع من الرهن بشيء؛ لأن القياس يقتضي ذلك، خولف في المركوب والمحلوب
للأثر، ففي غيره يبقى على القياس.
فصل
وإن أنفق المرتهن على الرهن متبرعاً، لم يرجع، وإن أنفق بإذن الراهن بنية
الرجوع، رجع بما أنفق؛ لأنه نائب عنه، فأشبه الوكيل، وإن أنفق بغير إذنه،
معتقداً للرجوع نظرنا، فإن كان مما لا يلزم الراهن، كعمارة الدار، لم يرجع
بشيء؛ لأنه تبرع بما لا يلزمه، فلم يرجع به كغير المرتهن، وإن كان مما
يلزمه، كنفقة الحيوان، وكفن العبد، فهل يرجع به؟ على روايتين، بناء على من
قضى دينه بغير إذنه.
فصل
فإذا أذن الراهن للمرتهن في الانتفاع به بغير عوض، والرهن في قرض، لم يجز؛
(2/84)
لأنه يصير قرضاً منفعة، وإن كان في غير
قرض، جاز لعدم لذلك. وإن أذن له في الانتفاع بعوض، مثل أن أجره إياه، فإن
حاباه في الأجرة، فهو كالانتفاع بغير عوض، وإن لم يحابه فيها، جاز في القرض
وغيره، لكونه ما انتفع بالقرض، إنما انتفع بالإجارة. وقال القاضي: ومتى
استأجره المرتهن أو استعاره، خرج من الرهن في مدتهما؛ لأنه طرأ عليه عقد
أوجب استحقاقه في الإجارة برضاهما، فإذا انقضى العقد عاد الرهن بحكم العقد
السابق، والصحيح أنه لا يخرج بذلك عن الرهن؛ لأن القبض مستدام فلا تنافي
بين العقدين، لكنه في العارية، يصير مضموناً، لكون العارية مضمونة.
فصل
وإن انتفع به بغير إذن الراهن، فعليه أجرة ذلك في ذمته. فإن كان الدين من
جنسها تقاصت هي وقدرها من الدين وتساقطا، وإن تلف الرهن ضمنه؛ لأنه تعدى
فيه فضمنه كالوديعة.
[باب جناية الرهن والجناية عليه]
إذا جنى الرهن على أجنبي، تعلق حق المجني عليه برقبته، وقدم على المرتهن؛
لأنه يقدم على المالك، فأولى أن يقدم على المرتهن. فإن سقط حق المجني عليه
بعفو أو فداء، بقي حق المرتهن؛ لأنه لم يبطل دائماً، وإنما قدم حق المجني
عليه لقوته؛ فإذا زال، ظهر حق المرتهن، وإن كان الحق قصاصاً في النفس، اقتص
منه، وبطل الرهن، وإن كان في الطرف، اقتص له وبقي الرهن في باقيه. وإن كان
مالاً أو قصاصاً، فعفي عنه إلى مال فأمكن إيفاء حقه، ببيع بعضه، بيع منه
بقدر ما يقضي به حقه، وباقيه رهن. وإن لم يمكن إلا ببيع جميعه، بيع، فإن
استغرق ثمنه، بطل الرهن، وإن فضل منه شيء، تعلق به حق المرتهن. وإن كان أرش
الجناية عليه أكثر من ثمنه، فطلب المجني عليه تسليمه للبيع، وأراد الراهن
فداءه، فله ذلك؛ لأن حق المجني عليه في قيمته لا في عينه، ويفديه بأقل
الأمرين من قيمته، أو أرش جنايته في أحد الوجهين؛ لأن ما يدفعه عوض عنه،
فلم يلزمه أكثر من قيمته، وفي الآخر يلزمه أرش الجناية كلها أو تسليمه؛
لأنه ربما رغب فيه راغب فاشتراه بأكثر من قيمته، وفي الآخر يلزمه أرش
الجناية كلها أو تسليمه؛ لأنه ربما رغب فيه راغب فاشتراه بأكثر من قيمته
فينتفع به المجني عليه. وإن أبى الراهن فداءه، فللمرتهن فداؤه بمثل ما
يفديه به الراهن، وحكمه في الرجوع بذلك حكم ما يقضي به دينه، فإن شرط جعله
رهناً بالفداء مع الدين الأول، لم يصح؛ لأنه رهن فلم يجز رهنه بدين سواه،
وأجازه القاضي؛ لأن المجني عليه يملك إبطال الرهن بالبيع، فصار كالجائز قبل
القبض. والزيادة في دين الرهن قبل لزومه جائزة. ولأن الحق متعلق به، وإنما
ينتقل من الجناية إلى الرهن. بخلاف غيره.
(2/85)
فصل
فإن جنى على سيده جناية لا توجب قصاصاً، فهي هدر؛ لأنه مال لسيده فلا يثبت
له في ماله، كما لو لم يكن رهناً. وإن كانت موجبة للقود فيما دون النفس،
فعفي على مال، سقطت مطلقاً لذلك. وإن أحب القصاص، فله ذلك؛ لأن القصاص يجب
للزجر، والحاجة تدعو إلى زجره عن سيده. وإن كانت على النفس، فللورثة
القصاص. وليس لهم العفو على مال في أحد الوجهين، لما ذكرنا في السيد،
ولأنهم يقومون مقام الموروث، ولم يكن له العفو على مال، فكذلك وارثه،
والثاني: لهم ذلك؛ لأن الجناية حصلت في ملك غيرهم فأشبه الجناية على أجنبي.
فصل
فإن جنى على موروث سيده، ولم ينتقل الحق إلى سيده، فهي جناية على أجنبي،
وإن انتقل إليه، وكانت الجناية موجبة للقصاص في طرف، فمات المجني عليه،
فللسيد القصاص والعفو على مال؛ لأن المجني عليه ملك ذلك فملكه وارثه. وإن
كانت على النفس فكذلك في أحد الوجهين. والثاني: ليس له العفو على مال، كما
لو كانت الجناية على نفسه. وأصلهما: هل يثبت للموروث ثم ينتقل إلى الوارث،
أم للوارث ابتداء؟ فيه روايتان. فإن قلنا: يثبت للموروث ابتداء، فليس له
العفو على مال كالجناية على طرف نفسه، وإن قلنا: يثبت للموروث فله العفو
على مال؛ لأن الحق ينتقل إليه على الصفة التي كان لموروثه، لكون الاستدامة
أقوى من الابتداء. وإن كانت الجناية موجبة للمال، أو كان الموروث قد عفي
على مال، ثبت ذلك للسيد. لذلك فيقدم به على المرتهن.
فصل
وإن جنى على عبد لسيده غير مرهون، فحكمه حكم الجناية على طرف سيده. وإن كان
مرهوناً عند مرتهن القاتل بحق واحد، والجناية موجبة للمال، أو عفا السيد
على مال، ذهب هدراً. كما لو مات حتف أنفه. وإن كان رهناً بحق آخر، تعلق دين
المقتول برقبة القاتل. إن كانت قيمة المقتول أكثر من قيمة القاتل، أو
مساوية لها. وإن كانت أقل تعلق برقبة القاتل بقدر قيمة المقتول، فأي
الدينين حل أولاً، بيع فيه، فيستوفى من ثمنه، وباقيه رهن بالآخر، وإن كان
المقتول رهناً عند غير مرتهن القاتل، وكانت الجناية موجبة للقصاص، فللسيد
الخيرة بين القصاص والعفو على مال؛ لأنه يتعلق به حق غيره، ويثبت المال في
رقبة العبد. فإن كان لا يستغرق قيمته، بيع منه بقدر أرش الجناية ويكون
رهناً عند مرتهن المجني عليه، وباقيه رهن بدينه. وإن لم يمكن بيع بعضه، بيع
كله، وقسم ثمنه بينهما على حسب ذلك، وإن كانت الجناية تستغرق قيمته،
فالثاني أحق به. وهل يباع، أو ينقل فيجعل رهناً عنده؟ فيه وجهان:
(2/86)
أحدهما: لا يباع لعدم الفائدة في بيعه.
والثاني: يباع؛ لأنه ربما زاد فيه مزايد فاشتراه بأكثر من قيمته، فكل موضع
قلنا: للسيد القصاص أو لوارثه، فاقتص، فقال بعض أصحابنا: عليه قيمته، تجعل
مكانه، لأنه أتلف الرهن باختياره، ويحتمل أن لا يجب عليه شيء؛ لأنه اقتص
بإذن الشارع، فلم يلزمه شيء، كالأجنبي.
فصل
وجنايته بإذن سيده كجنايته بغير إذنه، إلا أن يكون صبياً، أو أعجمياً لا
يعلم تحريم الجناية، فيكون السيد هو الجاني يتعلق به القصاص والدية،
كالمباشر لها، ولا يباع العبد فيها، وقيل: يباع إذا كان معسراً؛ لأنه باشر
الجناية والأول أصح؛ لأن العبد آلة، ولو تعلقت به الجناية، بيع فيها وإن
كان سيده موسراً.
فصل
وإن جنى على الرهن، فالخصم الراهن؛ لأنه مالكه ومالك بدله، فإن كانت
الجناية موجبة للقصاص، فله أن يقتص، أو يعفو، فإن اقتص، ففيه وجهان:
أحدهما: عليه قيمته تجعل مكانه؛ لأنه أتلف مالاً استحق بسبب إتلاف [الرهن]
فغرم قيمته، كما لو كانت الجناية موجبة للمال.
والثاني: لا شيء عليه؛ لأنه لم يجب بالجناية مال، ولا استحق بحال، وليس على
الراهن السعي للمرتهن في اكتساب مال، وإن عفا على مال، أو كانت الجناية
موجبة للمال، كان رهناً مكانه. فإن عفا الراهن عن المال، لم يصح عفوه؛ لأنه
محل تعلق به حق المرتهن، فلم يصح عفو الراهن عنه. كما لو قبضه المرتهن،
وقال أبو الخطاب: يصح وتؤخذ منه قيمته وتكون رهناً؛ لأنه أتلفه بعفوه. وقال
القاضي: تؤخذ قيمته من الجاني، فتجعل مكانه، فإذا زال الرهن، ردت إلى
الجاني، كما لو أقر على عبده المرهون بالجناية، وإن عفا الراهن عن الجناية
الموجبة للقصاص إلى غير مال، انبنى على موجب العمد. فإن قلنا: أحد شيئين،
فهو كالعفو عن المال، وإن قلنا: القصاص، فهو كالاقتصاص، فيه وجهان.
فصل
إذا أقر الراهن أن العبد كان جنى قبل رهنه، فكذبه المرتهن، وولي الجناية،
لم يسمع قوله، وإن صدقه ولي الجناية وحده، قبل إقراره على نفسه دون
المرتهن، فيلزمه أرش الجناية؛ لأنه حال بين المجني عليه، وبين رقبة الجاني
بفعله، فأشبه ما لو قتله،
(2/87)
فإن كان معسراً، فمتى انفك الرهن، كان
المجني عليه أحق برقبته، وعلى المرتهن اليمين أنه لا يعلم ذلك، فإن نكل،
قضي عليه. وفيه وجه آخر، أنه يقبل إقرار الراهن؛ لأنه غير متهم؛ لأنه يقر
بما يخرج الرهن من ملكه، وعليه اليمين؛ لأنه يبطل بإقراره حق المرتهن فيه،
وإن أقر أنه كان أعتقه، عتق؛ لأنه يملك عتقه، فملك الإقرار به، فيخرج العبد
من الرهن، ويؤخذ من الراهن قيمته، تجعل مكانه، ولا يقبل قوله في تقديم
عتقه؛ لأنه يسقط به حق المرتهن من عوضه.
فصل
وإن أقر رجل بالجناية على الرهن، فكذبه الراهن والمرتهن، فلا شيء لهما. وإن
صدقه الراهن وحده فله الأرش، ولا حق للمرتهن فيه لإقراره بذلك. وإن صدقه
المرتهن وحده، أخذ الأرش فجعل رهناً عنده، فإذا خرج من الرهن، رجع إلى
الجاني، ولا حق للراهن فيه. والله سبحانه وتعالى أعلم.
[باب الشروط في الرهن]
يصح شرط جعل الرهن في يد عدل، فيقوم قبضه مقام قبض المرتهن؛ لأنه قبض في
عقد، فجاز التوكيل فيه، كقبض الموهوب، وما دام العدل حاله، فليس لأحدهما،
ولا للحاكم نقله عن يده؛ لأنهما رضياه ابتداء، وإن اتفقا على نقله، جاز؛
لأن الحق لهما لا يعدوهما. وإن تغيرت حاله بفسق، أو ضعف عن الحفظ، أو عداوة
لهما، أو لأحدهما، فمن طلب نقله منهما فله ذلك؛ لأنه متهم في حقه، ففي
بقائه في يده ضرر، ثم إن اتفقا على من يضعانه عنده، جاز، وإن اختلفا، وضعه
الحاكم في يد عدل، وإن اختلفا في تغير حاله، بعث الحاكم وعمل بما يظهر له،
وإن مات العدل، لم يكن لوارثه إمساكه إلا بتراضيهما؛ لأنهما ما ائتمناه،
وإن رده العدل عليهما، لزمهما قبوله؛ لأنه متطوع بحفظه، فلم يلزمه المقام
عليه، فإن امتنعا أجبرهما الحاكم، فإن تغيبا، أو كانا غائبين، نصب الحاكم
أميناً يقبضه لهما؛ لأن للحاكم ولاية على الغائب الممتنع من الحق، وإن دفعه
الحاكم إلى أمين من غير امتناعهما، ولا غيبتهما، ضمن الحاكم والأمين معاً؛
لأنه لا ولاية له على غير الممتنع والغائب، فإن امتنعا، أو غابا، فلم يجد
الحاكم ضمن؛ لأنه يقوم مقامهما. وكذلك لو أودعه من غير امتناعهما، ولا
غيبتهما، ضمن هو والقابض معاً. وإن امتنع أحدهما، ولم يجد حاكماً، لم يكن
له دفعه إلى الآخر، فإن فعل ضمن؛ لأنه يمسكه لنفسه. والعدل يمسكه لهما، فإن
رده إلى يده، زال الضمان.
(2/88)
فصل
وإن شرط جعله في يد اثنين، صح الشرط، ولم يكن لأحدهما الانفراد بحفظه؛ لأن
المتراهنين لم يرضيا إلا بحفظهما معاً، فلم يجز لأحدهما الانفراد به،
كالوصيين، فإن سلمه أحدهما إلى صاحبه، ضمن نصفه؛ لأنه القدر الذي تعدى فيه،
فإن مات أحدهما أو تغير حاله، أقيم مقامه عدل.
فصل
وكل من جاز توكيله، جاز جعل الرهن على يديه، مسلماً كان أو كافراً، عدلاً
أو فاسقاً، ذكراً أو أنثى؛ لأنه جاز توكيله في غير الرهن، فجاز فيه،
كالعدل. ولا يجوز أن يكون صبياً أو مجنوناً؛ لأنه غير جائز التصرف، فإن
فعلا، كان قبضه له وعدمه واحداً. وإن كان عبداً، فله حفظه بإذن سيده، ولا
يجوز بغير إذنه؛ لأن منافعه لسيده، فلا يجوز تضييعها في الحفظ من غير إذنه،
وإن كان مكاتباً وكان بغير جعل، لم يجز؛ لأنه ليس له التبرع، وإن كان بجعل
جاز؛ لأن له الكسب بغير إذن سيده، فإن لم يشرط جعله في يد أحد، فهو في يد
المرتهن؛ لأنه المستوجب للعقد، فكان القبض له كالمتهب، فإن قبضه ثم تغيرت
حاله في الثقة، أو الحفظ، أو حدث بينهما عداوة، فللراهن دفعه إلى الحاكم،
ليزيل يده، ويجعل في يد عدل؛ لأنه لم يرض بحفظه في هذه الحال. وإن اختلفا
في تغير حاله، بحث الحاكم، وعمل بما بان له، وإن مات المرتهن، نقل عن
الوارث إلى عدل؛ لأن الراهن لم يرض بحفظه.
فصل
إذا شرط أن يبيعه المرتهن، أو العدل عند حلول الحق، صح شرطه؛ لأن ما صح
توكيل غيرهما فيه، صح توكيلهما فيه، كبيع عين أخرى. فإن عزلهما الراهن، صح
عزله؛ لأن الوكالة عقد جائز، فلم يلزم المقام عليهما، كما لو وكل غيرهما،
أو وكلهما في بيع غيره، ولو مات المرتهن، لم يكن لوارثه البيع؛ لأنه لم
يؤذن له، ويتخرج أنه لا يملك عزلهما؛ لأنه يفتح باب الحيلة، فإن عزل
المرتهن العدل عن البيع، لم يملكه إلا في الحال الذي يملكه الراهن؛ لأنه
وكيله خاصة، وإن أذنا له في بيع الرهن، فتلف بجناية قيمته مكانه، فقال
القاضي: قياس المذهب أن له بيعها؛ لأنه يجوز له بيع نمائه تبعاً، فبيع
قيمته أولى، والصحيح أنه لا يملك بيعها؛ لأنه لم يؤذن له فيه، ولا هي تبع
لما أذن فيه، بخلاف النماء.
فصل
وإن أذنا له في البيع بنقد، لم يكن له خلافهما؛ لأنه وكيلهما، وإن أطلقا أو
(2/89)
اختلفا، باع بنقد البلد؛ لأن الحظ فيه، فإن
كان فيه نقود، باع بأغلبها، فإن تساوت، باع بما يرى الحظ فيه؛ لأن الغرض
تحصيل الحظ، فإن تساوت، باع بجنس الدين؛ لأنه يمكن القضاء منه، فإن لم يكن
فيها جنس الدين، عين له الحاكم ما يبيع به. وحكمه حكم الوكيل في وجوب
الاحتياط في الثمن على ما سنذكره، فإذا باع وقبض الثمن، فتلف في يده من غير
تعد، فلا ضمان عليه؛ لأنه أمين وهو من ضمان الراهن؛ لأنه ملكه. فإن أنكر
الراهن تلفه، فالقول قول العدل مع يمينه؛ لأنه أمين فهو كالمودع. فإن قال:
ما قبضته من المشتري، فالقول قول العدل لذلك، ويحتمل أن لا يقبل قوله؛ لأن
هذا إبراء للمشتري. وإن خرج الرهن مستحقاً، فالعهدة على الراهن دون العدل؛
لأنه وكيل، وإن استحق بعد تلف الثمن في يد العدل، رجع المشتري على الراهن
دون العدل؛ لأنه قبض منه على أنه أمين في قبضه، وتسليمه إلى المرتهن، وإن
كان الثمن باقياً في يد العدل، أو المرتهن، رجع المشتري فيه؛ لأنه عين ماله
قبض بغير حق، وإن وجد المشتري بالمبيع عيباً فرده بعد قبض المرتهن ثمنه، لم
يرجع عليه؛ لأنه قبضه بحق ولا على العدل؛ لأنه أمين، ويرجع على الراهن، إلا
أن يكون العدل لم يعلم المشتري أنه وكيل، فيكون رجوعه عليه، ثم يرجع هو على
الراهن، فإن تلف المبيع في يد المشتري، ثم بان مستحقاً، فلمالكه تضمين من
شاء من الراهن والعدل والمرتهن؛ لأن كل واحد منهم قبض ماله بغير حق، ويستقر
الضمان على المشتري؛ لأن التلف حصل في يده، ويرجع على الراهن بالثمن الذي
أخذ منه، وإذا باع العدل الرهن بيعاً فاسداً، وجب رده، فإن تعذر رده،
فللمرتهن تضمين من شاء من العدل والمشتري أقل الأمرين، من قيمة الرهن، أو
قدر الدين؛ لأنه يقبض ذلك مستوفياً لحقه، لا رهناً، فلم يكن له أكثر من
دينه، وما بقي للراهن يرجع به على من شاء منهما، وإن وفى الراهن المرتهن،
رجع بقيمته على من شاء منهما، ويستقر الضمان على المشتري، لحصول التلف في
يده.
فصل
وإذا ادعى العدل دفع الثمن إلى المرتهن، فأنكره، ففيه وجهان:
أحدهما: القول قول العدل؛ لأنه أمين. فإذا حلف برئ ويرجع المرتهن على
الراهن.
والثاني: القول قول المرتهن؛ لأنه منكر. والعدل إنما هو أمينه في الحفظ، لا
في دفع الثمن إليه. فإذا حلف، رجع على من شاء منهما، فإذا رجع على العدل،
لم يرجع العدل على الراهن؛ لأنه يقر ببراءة ذمته منه، ويدعي أن المرتهن
ظلمه وغصبه. وإن
(2/90)
رجع على الراهن، رجع الراهن على العدل،
لتفريطه في القضاء بغير بينة، إلا أن يكون قضاؤه بحضرة الراهن، أو ببينة
فماتت، أو غابت فلا يرجع عليه، لعدم تفريطه، وعنه: لا يرجع على العدل بحال؛
لأنه أمين، ولو غصب المرتهن الرهن من العدل ثم رده إليه، زال الضمان؛ لأنه
رده إلى وكيل الراهن في إمساكه، فأشبه ما لو أذن له في دفعه إليه. ولو كان
الرهن في يده، فتعدى فيه، ثم زال التعدي، لم يزل الضمان؛ لأن استئمانه زال
بذلك، فلم يعد بفعله.
فصل
وإذا رهن أمة رجلاً، وشرط جعلها في يد امرأة، أو ذي رحم لها، أو ذي زوجة أو
أمة، جاز؛ لأنه لا يفضي إلى الخلوة بها. وإن لم يكن كذلك، فسد الرهن،
لإفضائه إلى خلوة الأجنبي بها، ولو اقترض ذمي من مسلم مالاً، ثم رهنه
خمراً، لم يصح؛ لأنها ليست مالاً، وإن باعها الذمي أو وكيله، وأتاه بثمنها،
فله أخذه، فإن امتنع، لزمه، وقيل له: إما أن تقبض، أو أن تبرئ؛ لأن أهل
الذمة إذا تقابضوا في العقود الفاسدة، جرى مجرى الصحيح.
فصل
فإن شرط ما ينافي مقتضى الرهن، نحو أن يشترط أن لا يسلمه، أو لا يباع عند
الحلول، أو لا يستوفى الدين من ثمنه، أو شرط أن يبيعه بما شاء، أو لا يبيعه
إلا بما يرضيه، فسد الشرط؛ لأن المقصود مع الوفاء به مفقود. وإن شرط أنه
متى حل الحق، ولم توفني، فالرهن لي بالدين، أو بثمن سماه، فسد؛ لما روي عن
النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «لا يغلق الرهن»
رواه الأثرم. ومعناه: استحقاق المرتهن له لعجز الراهن عن فكاكه، ولأنه علق
البيع على شرط مستقبل، فلم يصح، كما لو علقه على قدوم زيد. وإن قال: أرهنك
على أن تزيدني في الأجل، لم يصح؛ لأن الدين الحال لا يتأجل، وإذا لم يثبت
الأجل فسد الرهن؛ لأنه في مقابلته. وإن شرط أن ينتفع المرتهن بالرهن في دين
القرض، لم يجز، وإن كان بدين مستقر في مقابلة تأخيره عن أجله، لم يجز؛ لأنه
بيع للأجل، وإن كان في بيع، فعن أحمد جوازه إذا جعل المنفعة معلومة، كخدمة
شهر ونحوه، فيكون بيعاً وإجارة. وإن لم تكن معلومة، بطل الشرط للجهالة،
وبطل البيع لجهالة ثمنه، وما عدا هذا، فهو إباحة لا يلزم الوفاء به، وإن
قال: رهنتك ثوبي هذا يوماً، ويوماً لا أوقته، فالرهن فاسد؛ لأن ينافي
مقتضاه، وكل شرط يسقط به دين الرهن يفسده، وما لا يؤثر في ضرر أحدهما
كاشتراط جعل الأمة في يد أجنبي عزب، لا يفسده. وفي سائر الشروط الفاسدة
وجهان:
(2/91)
أحدهما: يفسد بها الرهن.
والآخر: لا يفسد بناء على الشروط الفاسدة في البيع، ويحتمل أن ما ينقص
المرتهن، يبطله وجهاً واحداً، وفي سائرها وجهان:
أحدهما: يبطل الرهن؛ لأنه شرط فاسد، فأبطله كالأول.
والثاني: لا يبطله؛ لأنه زائد، فإذا بطل، بقي العقد بأحكامه.
[باب اختلاف المتراهنين]
إذا قال: رهنتني كذا فأنكر، أو اختلفا في قدر الدين، أو قدر الرهن، فقال:
رهنتني هذين، قال: بل هذا وحده، أو قال: رهنتني هذا بجميع الدين قال: بل
نصفه، أو قال: رهنتنيه بالحال، قال: بل بالمؤجل، فالقول قول الراهن؛ لأنه
منكر. والأصل عدم ما أنكره، ولأن القول قوله في أصل العقد، فكذلك في صفته،
فإن قال: رهنتني عبدك هذا. قال: بل ثوبي هذا؛ لم يثبت الرهن في الثوب؛ لرد
المرتهن له، وحلف الراهن على العبد، وخرج بيمينه. وإن قال: أرسلت وكيلك
فرهن عبدك على ألفين قبضها مني، فقال: ما أذنت له في رهنه إلا بألف، سئل
الرسول، فإن صدق الراهن، حلف على أنه ما رهنه إلا بألف، ولا قبض غيرها، ولا
يمين على الراهن؛ لأن الدعوى على غيره. وإن صدق المرتهن، حلف الراهن، وعلى
الرسول ألف؛ لأنه أقر بقبضها، ويبقى العبد رهناً على ألف واحدة. ومن توجهت
عليه اليمين فنكل، فهو كالمقر سواء.
فصل
فإن قال: رهنتني عبدك هذا بألف، فقال: بل بعتكه بها، أو قال: بعتنيه بألف،
فقال: بل رهنتكه بها، حلف كل واحد منهما على نفي ما ادعى عليه، فسقط، ويأخذ
السيد عبده، وتبقى الألف بغير رهن.
فصل
وإن قال الراهن: قبضت الرهن بغير إذني فقال: بل بإذنك، فالقول قول الراهن؛
لأنه منكر. وإن قال: أذنت لك، ثم رجعت قبل القبض، فأنكر المرتهن، فالقول
قوله؛ لأن الأصل عدم الرجوع، وإن كان الرهن في يد الراهن، فقال المرتهن:
قبضته ثم غصبتنيه، فأنكر الراهن، فالقول قوله؛ لأن الأصل معه. وإن أقر
بتقبيضه، ثم قال: أحلفوه لي أنه قبض بحق، ففيه وجهان:
أحدهما: يحلف؛ لأن ما ادعاه محتمل.
(2/92)
والثاني: لا يحلف؛ لأنه مكذب لنفسه. وإن
رهنه عصيراً، ثم وجد خمراً، فقال المرتهن: إنما أقبضني خمراً، فلي فسخ
البيع. وقال الراهن: بل كان عصيراً، فقال أحمد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -:
فالقول قول الراهن؛ لأنه يدعي سلامة العقد، وصحة القبض، فظاهر حال المسلم
استعمال الصحيح، فكان القول قول من يدعيه، كما لو اختلفا في شرط يفسد
المبيع. ويحتمل أن القول قول المرتهن بناء على اختلاف المتبايعين في حدوث
العيب. ولو كان الرهن حيواناً فمات، واختلفا في حياته وقت الرهن، أو القبض،
فحكمه حكم العصير. وإن أنكر المرتهن قبضه، فالقول قوله؛ لأن الأصل معه. وإن
وجده معيباً واختلفا في حدوثه، ففيه وجهان مبنيان على الروايتين في البيع.
فصل
إذا كان لرجل على آخر ألف برهن، وألف بغير رهن، فقضاه ألفاً وقال: قضيت دين
الرهن، فقال: هي عن الألف الآخر، فالقول قول الراهن، سواء اختلفا في لفظه
أو نيته؛ لأنها تنتقل منه، فكان القول قوله في صفة النقل، وهو أعلم بنيته.
ولو دفعها بغير لفظ ولا نية، فله صرفها إلى أيهما شاء، كما لو دفع زكاة أحد
الألفين، فإن أبرأه المرتهن من أحدهما، فالقول قول المرتهن لذلك. وإن أطلق،
فله صرفها إلى أيهما شاء. ذكره أبو بكر.
فصل
وإن كان عليه ألفان لرجلين، فادعى كل واحد منهما أنه رهنه عبده بدينه
فأنكرهما، حلف لهما. وإن صدق أحدهما، أو قال: هو السابق، سلمه إليه وحلف
للآخر. وإن نكل والعبد في يد أحدهما، فعليه للآخر قيمته تجعل رهناً؛ لأنه
فوته على الثاني بإقراره للأول، أو بتسليمه إليه. وقال القاضي: هل يرجح
صاحب اليد أو المقر له؟ يحتمل وجهين. فإن قال: لا أعلم المرتهن منهما، أو
السابق، حلف على ذلك، والقول قول من هو في يده منهما مع يمينه. وإن كان في
أيديهما، أو يد غيرهما، فالحكم في ذلك كالحكم فيما إذا ادعيا ملكه.
فصل
فإن ادعى على رجلين أنهما رهناه عبدهما بدينه فأنكراه، فالقول قولهما. وإن
شهد كل واحد منهما على الآخر، قبلت شهادته؛ لأنه لا يجلب بهذه الشهادة
نفعاً، ولا يدفع بها ضرراً. وإن أقر أحدهما وحده، لزم في نصيبه، وتسمع
شهادته على صاحبه لما ذكرناه.
(2/93)
فصل
وإن ادعى المرتهن هلاك الرهن بغير تفريط، فالقول قوله؛ لأنه أمين فأشبه
المودع. وإن ادعى الرد، ففيه وجهان:
أحدهما: يقبل قوله لذلك.
والثاني: لا يقبل؛ لأنه قبضه لنفسه، فلم يقبل قوله في الرد كالمستأجر. وإن
أعتق الراهن الجارية، أو وطئها، فادعى أنه بإذن المرتهن فأنكره، فالقول قول
المرتهن؛ لأن الأصل معه، فإن نكل، قضى عليه. وإن صدقه فأتت بولد، فأنكر
المرتهن مدة الحمل، فالقول قوله؛ لأن الأصل عدمها، وإن وطئها المرتهن بإذن
الراهن، وادعى الجهالة، وكان مثله يجهل ذلك، فلا حد عليه؛ لأن الحد يدرأ
بالشبهات. ولا مهر؛ لأنه حق للسيد فسقط بإذنه، والولد حر يلحق نسبه؛ لأنه
من وطء شبهة، ولا تصير أم ولد؛ لأنه لا ملك له فيها. وإن لم تكن له شبهة،
فعليه الحد والمهر وولده رقيق.
(2/94)
|