الكافي
في فقه الإمام أحمد [كتاب الضمان]
وهو ضم ذمة الضامن إلى ذمة المضمون عنه في التزام دينه، فإذا قال لرجل: أنا
ضامن ما لك على فلان، أو أنا به زعيم أو كفيل أو قبيل أو حميل، أو هو علي،
صار ضامناً له، وثبت في ذمته مع بقائه في ذمة المدين، ولصاحب الدين مطالبة
من شاء منهما؛ لقول الله تعالى: {وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ} [يوسف: 72] ، وقول
النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الزعيم غارم» حديث حسن رواه
أبو داود والترمذي، وروى سلمة بن الأكوع «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أُتِيَ برجل ليصلي عليه فقال: هل عليه دين؟ قالوا:
نعم، ديناران، قال: هل ترك لهما وفاء فقالوا: لا فتأخر فقيل: لم لا تصلي
عليه؟ فقال: "ما تنفعه صلاتي وذمته مرهونة إلا إن قام أحدكم فضمنه" فقام
أبو قتادة فقال: هما علي يا رسول الله، فصلى عليه النبي» .
رواه البخاري، ولا يبرأ المضمون عنه بمجرد الضمان في الحياة، رواية واحدة،
وفي الميت روايتان: إحداهما: يبرأ؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - صلى على الميت حين ضمنه أبو قتادة.
والثانية: لا يبرأ، وهي أصح لما روى جابر، «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سأل أبا قتادة عن الدينارين اللذين ضمنهما، فقال: قد
قضيتهما، فقال: الآن بردت جلدته» .
رواه أحمد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، ولأنه وثيقة بدين، فلم يسقطه كالرهن،
وكحال الحياة، ومتى برئ الغريم بأداء أو إبراء، برئ الضامن؛ لأنه تبع، فزال
بزوال أصله كالرهن، وإن أبرأ الضامن، لم يبرأ المضمون عنه؛ لأن الوثيقة
انحلت من غير استيفاء، فلم يسقط الدين كالرهن.
[فصل فيمن يصح منه الضمان]
فصل:
ولا يصح إلا من جائز التصرف، فأما المحجور عليه لصغر أو جنون أو سفه
(2/129)
فلا يصح ضمانه؛ لأنه تبرع بالتزام مال، فلم
يصح منهم، كنذر الصدقة، وخرج بعض أصحابنا ضمان الصبي بإذن وليه، على
الروايتين في صحة بيعه، وقال القاضي: يصح ضمان السفيه، ويتبع به بعد فك
حجره، وهذا بعيد؛ لأن الضمان مجرد ضرر وتضييع مال، فلم يصح منهما كالعتق،
ولا يصح ضمان العبد والمكاتب بغير إذن سيدهما؛ لأنه التزام مال، فلم يصح
منهما بغير إذن كالنكاح.
ويصح بإذنه؛ لأن المنع لحقه، فزال بإذنه، ويؤديه المكاتب مما في يده، وهل
يتعلق برقبة العبد أو بذمة سيده؟ على وجهين.
[فصل فيما يصح ضمانه]
فصل:
ويصح ضمان دين الميت المفلس وغيره، لحديث أبي قتادة، ولا يعتبر رضى المضمون
له ولا المضمون عنه، للخبر، ولا معرفة الضامن لهما؛ لأنه لا يعتبر رضاهما،
فأشبها الأجانب، ولأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم يسأل
أبا قتادة عن معرفتهما، ويحتمل أن تعتبر معرفتهما، ليؤدي إلى أحدهما، ويرجع
على الآخر بما غرم عنه، ويحتمل أن تعتبر معرفة المضمون له؛ ليؤدي إليه، ولا
تعتبر معرفة المضمون عنه، لعدم المعاملة بينه وبينه، ولا يصح إلا برضى
الضامن؛ لأنه التزام مال، فلم يصح من غير رضى الملتزم كالنذر.
فصل:
ويصح ضمان الدين اللازم، لخبر أبي قتادة، وضمان الجعل في الجعالة، لقول
الله تعالى: {وَلِمَنْ جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ}
[يوسف: 72] وضمان كل حق مالي لازم، أو مآله إلى اللزوم، كالثمن في مدة
الخيار وبعدها، والأجرة والصداق قبل الدخول وبعده، وأرش الجناية نقداً أو
حيواناً؛ لأنها حقوق مالية لازمة، أو مآلها إلى اللزوم، فصح ضمانها كالدين
والجعل، ويصح ضمان الأعيان المضمونة، كالغصوب والعواري؛ لأنها مضمونة على
من هي في يده، فأشبهت الدين، ويصح ضمان عهدة المبيع عن كل واحد منهما
لصاحبه، وهو أن يضمن الثمن الواجب بالبيع قبل تسليمه، وإن ظهر فيه عيب أو
استحق أو وجد ذلك في البيع، غرمه الضامن؛ لأن ذلك لازم، فإنه إنما يتعلق
بالضامن حكم لعيب أو غصب ونحوهما، وهذا كان موجوداً حال الضمان، فصح ضمانه
كالدين، وإن استحق الرجوع لأمر حادث، كتلف المبيع قبل قبضه، أو أخذه بشفعة،
فلا شيء على الضامن، وإن ضمن البائع أو غيره للمشتري قيمة ما يحدثه من بناء
أو غراس، أو ما يلزمه من أجرة إن خرج المبيع مستحقاً، صح، ويرجع على الضامن
بما لزمه من
(2/130)
ذلك؛ لأنه يستند إلى أمر وجودي، ويصح أن
يضمن الضامن ضامن ثالث؛ لأن دينه ثابت، فصح كالأول، ويصير الثاني فرعاً
للضامن، حكمه معه حكم الضامن مع الأصيل.
فصل:
ولا يصح ضمان الأمانات كالوديعة ونحوها؛ لأنها غير مضمونة على من هي في
يده، فكذلك على ضامنه، وإن ضمن لصاحبها ما يلزم بالتعدي، فيها صح، نص عليه
أحمد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، ولأنها تصير مضمونة على المضمون عنه، ولا
يصح ضمان مال الكتابة، وعنه: يصح؛ لأنه يجوز أن يضمن عنه دين آخر، والمذهب
الأول؛ لأن مال الكتابة غير لازم، ولا يفضي إلى اللزوم، ولأنه يملك تعجيز
نفسه، ولأن الضمان لتوثيق الحق، وما لا يلزم لا يمكن توثيقه، وفي ضمان مال
السلم روايتان: إحداهما: يصح؛ لأنه دين لازم فأشبه القرض.
والثانية: لا يصح؛ لأنه يُفضي إلى استيفائه من غير المسلم إليه، فأشبه
الحوالة.
فصل:
ويصح ضمان المعلوم والمجهول قبل وجوبه وبعده؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى:
{وَلِمَنْ جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ} [يوسف: 72] ،
وحمل البعير يختلف، فهو غير معلوم، وقد ضمنه قبل وجوبه، ولأنه التزام حق من
غير معاوضة، فأشبه النذر، وإن قال: ألق متاعك في البحر، وعلي ضمانه صح؛
لأنه استدعاء إتلاف بعوض لغرض صحيح، فصح كقوله: اعتق عبدك وعلي ثمنه.
فصل:
ويصح ضمان الحالّ مؤجلاً؛ لأن الغريم يلزمه أداؤه في جميع الأزمنة، فجاز
للضامن التزام ذلك في بعضه، كبعض الدين، وإن ضمن المؤجل حالاً لم يلزمه؛
لأنه لا يلزم الأصيل، فلا يلزم الضامن، ويقع الضمان مؤجلاً على صفته في ذمة
الضامن، وإن ضمن الدين المؤجل، وقلنا: إن الدين يحل بالموت فمات أحداهما،
حل عليه الدين، وبقي في ذمة الآخر إلى أجله، ولا يملك ورثة الضامن الرجوع
على المضمون عنه قبل الأجل؛ لأنه لم يحل.
فصل:
وإذا قضى الضامن الدين بإذن المضمون عنه، رجع عليه؛ لأنه قضى دينه بإذنه
(2/131)
فهو كوكيله، وإن ضمن بإذنه، رجع عليه؛ لأنه
تضمن الإذن في الأداء، فأشبه ما لو أذن فيه صريحاً، وإن ضمن بغير إذنه وقضى
بغير إذنه معتقداً للرجوع، ففيه روايتان: إحداهما: يرجع أيضاً؛ لأنه قضاء
مبرئ من دين واجب لم يتبرع به، فكان على من هو عليه، كما لو قضاه الحاكم
عند امتناعه.
والثانية: لا يرجع؛ لأنه تبرع فلم يرجع به، كما لو بنى داره أو علف دابته
بغير إذنه، فإن اختلفا في الإذن، فالقول قول من ينكره؛ لأن الأصل عدمه.
فصل:
ويرجع الضامن بأقل الأمرين مما قضى، أو قدر الدين؛ لأنه إن قضاه بأقل منه،
فإنما يرجع بما غرم، وإن أدى أكثر منه، فالزائد لا يجب أداؤه، فقد تبرع به،
وإن دفع عن الدين عرضاً، رجع بأقل الأمرين عن قيمته، أو قدر الدين، وإن قضى
المؤجل قبل أجله، لم يرجع قبل الأجل؛ لأنه تبرع بالتعجيل، وإن أحال به
الغريم، رجع بأقل الأمرين مما أحال به أو دينه، سواء قبض الغريم من المحال
عليه أم لم يقبض؛ لأن الحوالة كالتقبيض، وإن ضمن الضامن ضامن آخر، فقضى
الدين، رجع على الضامن، ثم رجع الضامن على المضمون عنه، وإن قضاه الضامن،
رجع على الأصيل وحده، فإن كان الأول، ضمن بلا إذن، والثاني ضمن بإذن، رجع
الثاني على الأول، ولم يرجع الأول على أحد في إحدى الروايتين.
فصل:
وإن ضمن بإذنه، فطولب بالدين، فله مطالبة المضمون عنه بتخليصه؛ لأنه لزمه
الأداء بأمره، ولا يملك المطالبة قبل ذلك؛ لأنه لا يملك الرجوع قبل
الغرامة، فلا يملك المطالبة قبل أن يطالب، وإن ضمن بغير إذنه، لم يملك
المطالبة به؛ لأنه لا دين له، ولا هو وكيل صاحب الدين، ولا لزمه الأداء
بإذن الغريم، فأشبه الأجانب.
فصل:
وإذا دفع المضمون عنه قدر الدين إلى الضامن عوضاً عما يقضيه في الثاني، لم
يصح؛ لأنه جعله عوضاً عما يجب عليه في الثاني فلم يصح، كما لو دفع إليه
شيئاً عن بيع لم يعقده، ويكون ما قبضه مضموناً عليه؛ لأنه قبضه على وجه
البدل، فأشبه المقبوض ببيع فاسد، وفيه وجه أنه يصح؛ لأن الرجوع بسببين،
ضمان وغرم، فإذا وجد أحدهما، جاز تعجيل المال، كتعجيل الزكاة.
فإن قضى الدين، استقر ملكه على ما قبض، وإن برئ قبل القضاء، وجب رد ما أخذ،
كما يجب رد الثمن إذا لم يتم البيع.
(2/132)
[فصل في اختلاف الضامن والمضمون عنه]
فصل:
وإذا ادعى الضامن القضاء، فأنكره المضمون له، فالقول قوله مع يمينه؛ لأن
الأصل معه، وله مطالبة من شاء منهما.
فإن استوفى من الضامن، لم يرجع على المضمون عنه إلا بأحد القضاءين؛ لأنه
يدعي أن المضمون عنه ظلمه بالأخذ الثاني، فلا يرجع به على غيره، وفيما يرجع
به وجهان: أحدهما: بالقضاء الأول؛ لأنه قضاء صحيح، والثاني ظلم.
والوجه الثاني: يرجع بالقضاء الثاني؛ لأنه الذي أبرأ الذمة ظاهراً، فأما إن
استوفى من المضمون عنه، فهل للضامن الرجوع عليه؟ ينظر، فإن كذبه المضمون
عنه في القضاء، لم يرجع؛ لأنه لم يثبت صدقه، وإن صدقه وكان قد فرط في
القضاء، لم يرجع بشيء؛ لأنه أذن له في قضاء مبرئ لم يوجد، وإن لم يفرط رجع،
وسنذكر التفريط في الوكالة إن شاء الله.
فإن اعترف المضمون له بالقضاء، فأنكر المضمون عنه لم يلتفت إلى إنكاره؛ لأن
الدين حق للمضمون له، فإذا أقر أنه صار للضامن، ولأنه يثبت القضاء
بالإقرار، فملك الرجوع به، كما لو ثبت ببينة، وفيه وجه آخر: أن القول قول
المضمون عنه لأنه منكر. |