الكافي
في فقه الإمام أحمد [كتاب الإجارة]
وهي بيع المنافع، وهي جائزة في الجملة؛ لقول الله تعالى: {قَالَتْ
إِحْدَاهُمَا يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ} [القصص: 26] .
الآيتين، وقول الله تعالى: {فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ
أُجُورَهُنَّ} [الطلاق: 6] ولأن الحاجة إلى المنافع كالحاجة إلى الأعيان،
فلما جاز عقد البيع على الأعيان، وجب أن يجوز عقد الإجارة على المنافع،
وينعقد بلفظ الإجارة والكري؛ لأنه لفظ موضوع لها، وفي لفظ البيع وجهان:
أحدهما: ينعقد به؛ لأنها صنف منه.
والثاني: لا تنعقد به؛ لأنها تخالفه في الاسم والحكم، فلم تنعقد بلفظه،
كالنكاح.
فصل:
وتجوز إجارة الظئر للرضاع، والراعي لرعاية الغنم، للآيتين، واستئجار
الدليل، ليدل على الطريق؛ لأنه ثبت «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - وأبا بكر استأجرا رجلاً من بني الديل هادياً خريتاً والخريت
الماهر بالهداية وهو على دين كفار قريش، وأمناه فدفعا إليه راحلتيهما،
وواعداه غار ثور بعد ثلاث ليال فأتاهما براحلتيهما صبيحة ليال ثلاث
فارتحلا» .
رواه أحمد والبخاري، وإجارة كل عين يمكن استيفاء المنفعة المباحة منها مع
بقاء عينها دائماً، قياساً على المنصوص عليه، وتجوز إجارة النقود للتحلي
والوزن، واستئجار شجر ليجفف عليها الثياب، والغنم لتدوس الزرع والطين؛
لأنها منفعة مباحة يجوز أخذ
(2/169)
العوض عنها في غير هذه الأعيان، فجاز فيها،
كالبيع، ولا يجوز عقدها على ما لا نفع فيه، مثل أن يستأجر للزرع سبخة لا
تنبت، أو لا ماء لها يكفي.
فإن كان لها ماء معتاد، كماء العيون والأنهار، والمد بالبصرة، والمطر في
موضع يكتفى به، جاز، وإن كانت الأرض على نهر يستقى بزيادته، كالنيل
والفرات، وتسقيها الزيادة المعتادة، جازت إجارتها؛ لأن الغالب وجودها، فهي
كالمطر لغيرها، وإن كان لا يسقيها إلا زيادة نادرة، فاستأجرها بعد الزيادة،
صح؛ لأنها معلومة، وإن استأجرها قبلها، لم يصح؛ لأنه لا يعلم وجودها، فهي
كبيع الطير في الهواء، وإن استأجرها، ولم يذكرها للزراعة، وكانت تصلح
لغيرها، صح، وإن لم تصلح لغيرها، لم يصح؛ لأن نفعها معدوم، وإن غرقت الأرض
فاكتراها لزرع ما لا ينبت في الماء، كالحنطة، وللماء مغيض يمكن فتحه فينحسر
الماء، ويمكن زرعها، صح؛ لأنه يمكن زرعها بفتحه، كما يمكن سكنى الدار
بفتحها، وإن علم أنه ينحسر عادة، صح؛ لأنه يعلم بالعادة إمكان الانتفاع.
فإن لم يعلم هل ينحسر أو لا؟ لم يصح، لما ذكرنا، وإن اكترى أرضاً على نهر
تغرق بزيادته المعتادة، لم يصح؛ لأنه غير منتفع بها عادة.
فإن كانت بخلاف ذلك، صح.
فصل:
ولا يجوز عقد الإجارة على المنافع المحرمة، كالغناء والنياحة والزمر، ولا
إجارة داره لمن يتخذها كنيسة، أو بيت نار، أو يبيع فيها الخمر ونحوه؛ لأنه
محرم، فلم تجز الإجارة لفعله، كإجارة الأمة للزنا، ولا يجوز استئجار رجل
ليكتب له غناء أو نوحاً، أو شيئاً محرماً لذلك، ولا يجوز استئجاره ليحمل
خمراً، ليشربها لذلك، وعنه: فيمن حمل خنزيراً، أو ميتة لنصراني، أكره أكل
كرائه، ولكن يقضى له بالكراء، وإذا كان لمسلم، فهو أشد.
قال القاضي: هذا محمول على أنه استأجره ليرقيها، أما للشرب، فمحظور، لا يحل
أخذ الأجرة عليه، وإن استأجر حجاماً ليحجمه، جاز، «لأن النبي - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حجمه أبو طيبة، فأعطاه أجره صاعين من طعام
وكلم مواليه فخففوا عنه» .
متفق عليه.
قال ابن عباس: ولو كان حراماً ما أعطاه أجره، ويكره للحر أكل أجره؛ لقول
النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «كسب الحجام خبيث: وقال:
أطعمه عبدك أو خادمك» وقال القاضي: لا تصح إجارته لهذا الحديث.
فصل:
ولا تجوز إجارة الفحل للضراب، لما روى ابن عمر «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى عن عسب الفحل» .
أخرجه البخاري، ولأن المقصود منه الماء الذي يخلق منه الولد، وهو محرم، لا
قيمة له، فلم يجز أخذ عوضه، كالدم، ولا يجوز إجارة النقود، ليجمل بها
الدكان
(2/170)
لأنها لم تخلق لذلك، ولا تراد له، فبذل
العوض فيه من السفه، وأخذه من أكل المال بالباطل، وكذلك استئجار الشمع
للتجميل به، أو ثوب ليوضع على سرير الميت لا يجوز ذلك.
فصل:
ولا يجوز عقد الإجارة على ما تذهب أجزاؤه بالانتفاع به، كالمطعوم والمشروب،
والشمع ليسرجه، والشجر يأخذ ثمرته، والبهيمة يحلبها؛ لأن الإجارة عقد على
المنافع، فلا تجوز لاستيفاء عين، كما لو استأجر ديناراً لينفقه إلا في
الظئر تجوز للرضاع؛ لأن الضرورة تدعو إليه، لبقاء الآدمي، ولا يقوم غيرها
مقامها.
فصل:
ولا تجوز إجارة ما يسرع فساده، كالرياحين؛ لأنه لا يمكن الانتفاع بها مع
بقاء عينها دائماً، فجرت مجرى المطعوم، فإن كانت مما تبقى عينه دائماً
كالعنبر، جازت إجارته للشم، لما تقدم.
فصل:
وما يخص فاعله أن يكون من أهل القربة، وهم المسلمون، كالحج وتعليم القرآن،
ففيه روايتان: إحداهما: يجوز الاستئجار عليه؛ لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إن أحق ما أخذتم عليه أجراً كتاب الله» .
رواه البخاري، وأباح أخذ الجعل عليه، ولأنه فعل مباح، فجاز أخذ الأجرة
عليه، كتعليم الفقه.
والثانية: لا يجوز؛ لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
لعثمان بن أبي العاص: «واتخذ مؤذناً لا يأخذ على أذانه أجراً» رواه أبو
داود، ولأنه لا يقع إلا قربة لفاعله، فلم يجز أخذ العوض عليه كالصلاة.
فأما الاستئجار لتعليم الفقه والشعر المباح فيجوز؛ لأن فاعله لا يختص أن
يكون من أهل القربة، فجاز كبناء المساجد، وفي إجارة المصحف وجهان، بناء على
بيعه.
فصل:
قال بعض أصحابنا: لا يجوز إجارة المشاع لغير الشريك، إلا أن يؤجراه معاً؛
لأنه لا يمكنه تسليم حصته إلى المستأجر، إلا بموافقة الشريك، وقال أبو حفص:
يجوز؛ لأنه يصح بيعه ورهنه، فصحت إجارته، كالمفرد.
(2/171)
فصل:
ولا بأس أن يؤجر نفسه من الذمي، نص عليه؛ «لأن علياً - رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُ - أجر نفسه يهودياً، يسقي له كل دلو بتمرة، وأخبر به النبي - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فلم ينكره» وأكل أجرته، ولا يؤجر نفسه
لخدمته؛ لأنه يتضمن إذلال المسلم للكافر فلم يجز، كبيعه إياه، ويتخرج
الجواز؛ لأنه عاوضه عن منفعة، فجاز، كإجارته لعمل شيء.
فصل:
والإجارة على ثلاثة أضرب.
إجارة عين معينة، كالدور، وموصوفة في الذمة، كبعير للركوب، وعقد على عمل في
الذمة، كخياطة ثوب وحمل متاع؛ لأن البيع يقع في عين حاضرة وموصوفة، ومقدر
معلوم، كقفيز من صبرة، فكذلك الإجارة.
فإن كانت الإجارة لعين معينة، اشترط معرفتها برؤية أو صفة إن كانت تنضبط
بالصفات، كالحيوان، فإن لم تنضبط كالدار، والأرض، فلا بد من رؤيتها، كما
يشترط ذلك في البيع، وفي استئجار عين لم يرها، ولم توصف له وجهان، بناءً
على بيعها، ويشترط معرفة المنفعة، فإن كان لها عرف، كسكنى الدار، لم يحتج
إلى ذكرها؛ لأنها لا تكترى إلا لذلك، فاستغنى عن ذكرها، كالبيع بثمن مطلق،
في موضع فيه نقد معروف، وإن اكترى أرضاً، احتاج إلى ذكر ما يكتري له، من
غراس أو بناء، أو زرع؛ لأنها تكترى لذلك كله، وضرره يختلف، فوجب بيانه، وإن
أجرها للزرع مطاقاً صح، وله زرع ما شاء؛ لأنه يجوز أن يستأجرها لأعظم الزرع
ضرراً، فإذا أطلق العقد تناوله بإطلاقه، ودخل فيه ما دونه، وإن قال:
لتزرعنها ما شئت، فهو أولى بالصحة، لتصريحه بذلك، وإن اكتراها لزرع معين،
فله زرعه ومثله في الضرر ودونه؛ لأن الزرع إنما ذكر لتقدير منفعة الأرض،
فلم يتعين، كما لو اكترى للسكنى، كان له أن يسكن غيره، وإن قال: لتزرعها أو
تغرسها لم يصح؛ لأنه لم يعين، أشبه ما لو باعه أحد هذين العبدين، وإن قال:
لتزرعها وتغرسها ما شئت، صح، وله ما شاء منهما؛ لأنه جعلهما له، فملكهما
كالنوع الواحد.
فصل:
وإن اكترى ظهراً للركوب، اشترط معرفته، برؤية أو صفة لأنه يصح بيعه بهما،
وذكر المهملج والقطوف من الخيل؛ لأن سيرهما يختلف، ومعرفة ما يركب به من
سرج أو غيره؛ لأنه يختلف بالمركوب والراكب، ولا يحتاج إلى ذكر الذكورية
والأنوثية؛ لأن التفاوت بينهما يسير، وقال القاضي: يفتقر إلى معرفته
لتفاوتهما، ولا بد من معرفة الراكب برؤية أو صفة، ذكره الخرقي؛ لأن الصفة
تكفي في بيع مثله، وقال الشريف: لا يجزئ فيه إلا الرؤية؛ لأن الصفة لا تأتي
عليه، ولا بد من معرفة المحامل والأغطية،
(2/172)
والأوطئة والمعاليق، كالقدر والسطيحة
ونحوهما، إما برؤية أو صفة أو وزن، وإن اكترى ظهراً لعمل في مدة، كالحراثة
والدياس والسقي والطحن، اشترط معرفة الظهر بالتعيين أو الصفة؛ لأن العمل
يختلف باختلافه، وإن استأجره على عمل معين، كحراثة قدر من الأرض، ودياس زرع
معين، وطحن قفزان معلومة، لم يحتج إلى معرفة الظهر؛ لأنه لا يختلف، ويحتاج
في الطحن إلى معرفة الحجر، وفي السقي إلى معرفة البئر، والدولاب؛ لأنه
يختلف، وإن اكترى لحمل متاع، لم يحتج إلى ذكر جنس الظهر، لعدم الغرض في
معرفته ويشترط معرفة المتاع برؤية أو صفة، فيذكر جنسه من حديد أو قطن أو
نحوه؛ لأن ضرره يختلف، وقدره بالوزن إن كان موزوناً، أو بالكيل إن كان
مكيلاً؛ لأن البيع يصح بكلا الطريقين، وإن ذكر وزن المكيل، فهو أحصر.
وإن دخلت الظروف في وزن المتاع، استغني عن ذكرها، وإن لم تدخل وكانت معروفة
لا تختلف كثيراً، صح من غير تعيينها؛ لأن تفاوتها يسير، وإن اختلفت كثيراً،
اشترط معرفتها بالرؤية، أو الصفة لذلك، ولو اكترى ظهراً ليحمل عليه ما شاء،
لم يصح؛ لأنه يدخل في ذلك ما يقتل البهيمة، وإن شرط أن يحمل عليها طاقتها،
لم يصح؛ لأنه لا ضابط له.
فصل:
وإن استأجر راعياً مدة، صح؛ لأن موسى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أجر نفسه
لرعاية الغنم ثماني سنين، ويشترط معرفة الحيوان؛ لأن لكل جنس تأثيراً في
إتعاب الراعي، ويجوز أن يكون على معين، وعلى موصوف في الذمة، فإن كان على
موصوف في الذمة اشترط ذكر العدد؛ لأن العمل يختلف به، وإن استأجر ظئراً،
اشترط معرفة الصبي بالتعيين؛ لأن الرضاع يختلف به، ولا تأتي عليه الصفة،
وإن استأجر رجلاً ليحفر له بئراً، أو نهراً، اشترط معرفة الأرض؛ لأن الغرض
يختلف باختلافها ومعرفة الطول والعرض، والعمق؛ لأن الغرض يختلف بذلك كله،
وإن استأجره لبناء حائط، اشترط ذكر طوله وعرضه وعلوه، وآلته من لبن أو طين
أو غيره؛ لأن الغرض يختلف بذلك كله، وإن استأجره لضرب لبن، اشترط معرفته
الماء والتراب والطول والسمك والعرض والعدد، وعلى هذا جميع الأعمال التي
يستأجر عليها.
فإن كان في ما يختلف فيها الغرض ما لا يعرفه، رجع فيه إلى أهل الخبرة به،
ليعقد على شرطه، كما لو أراد النكاح، من لا يعرف شروطه، رجع إلى من يعرفه
ليعرفه شروطه، وإن عجز عن معرفته، وكل فيه من يعرفه ليعقده.
فصل:
ويشترط معرفة قدر المنفعة؛ لأن الإجارة بيع، والبيع لا يصح إلا في معلوم
القدر، ولمعرفتها طريقان:
(2/173)
أحدهما: تقدير العمل، كخياطة ثوب معين،
والركوب، أو حمل شيء معلوم إلى مكان معين.
والثاني: تقدير المدة كسكنى شهر، فإن كانت المنفعة لا تتقدر بالعمل،
كالتطيين والتجصيص، فإن مقداره يختلف في الغلظ والرقة، وما يروي الأرض من
الماء، يختلف باختلاف الأرض واحتياجها إلى الماء، وما يشبع الصبي في
الرضاع، يختلف باختلاف الصبيان، والأحوال، والسكنى ونحوها، فلا يجوز تقديره
إلا بالمدة، لتعذر تقديره بالعمل، وما يتقدر بالعمل، كاستئجار الظهر للحرث
والحمل والطحن والدياس، والعبد للخدمة، جاز تقديره بالعمل، فإن شرط تقديره
بالعمل والمدة فقال: استأجرتك لتحرث لي هذه الأرض في شهر، لم يصح؛ لأنه إن
حرثها في أقل من شهر، أو فرغ الشهر قبل حرثها، فطولب بتمام ما بقي، كان
زيادة على المشروط، وإن لم يتمم، كان نقصاً، وعن أحمد ما يدل على الصحة؛
لأن الإجارة معقودة للعمل، والمدة مذكورة للتعجيل، فجاز كالجعالة، ويشترط
فيما قدر بمدة، معرفة المدة؛ لأنها الضابطة للمعقود عليه، فإن قدرها بسنة
أو شهر، كان ذلك بالأهلة؛ لأنها المعهودة في الشرع، فوجب حمل المطلق عليها،
فإن كان ذلك في أثناء شهر، عد باقيه، ثم عد أحد عشر شهراً بالهلال، ثم كمل
الأول بالعدد ثلاثين يوماً؛ لأنه تعذر إتمامه بالهلال فكمل بالعدد، وحكي
فيه رواية أخرى: أنه يستوفي الجميع بالعدد؛ لأنه يجب إتمام الشهر مما يليه،
فيصير ابتداء الثاني في أثنائه، وكذلك ما بعده، وإن عقد على سنة رومية،
وهي: ثلاثمائة وخمسة وستون يوماً وربع، وهما يعلمان ذلك، جاز، وإن جهلاها
أو أحدهما، لم يصح؛ لأن المدة مجهولة عنده، والحكم في مدة الإجارة، كالحكم
في مدة السلم على ما مضى فيه.
فصل:
وتجوز الإجارة مدة لا تلي العقد، مثل أن يؤجره شهر رجب وهو في صفر، سواء
كانت فارغة أو مؤجرة مع المستأجر، أو غيره؛ لأنها مدة يجوز العقد عليها مع
غيرها، فجاز عليها مفردة، كالتي تلي العقد، ويحتاج إلى ذكر ابتدائها؛ لأنها
أحد طرفي المدة، فاحتيج إلى معرفتها كالانتهاء، فإن كانت تلي العقد
فابتداؤها منه، ولا يحتاج إلى ذكرها؛ لأنها معلومة.
فصل:
فإن قال: أجرتكها كل شهر بدرهم، فالمنصوص أنه صحيح، وذهب إليه الخرقي
والقاضي؛ لكن تصح في الشهر الأول بإطلاق العقد؛ لأنه معلوم يلي العقد
وأجرته معلومة، وما بعده يصح العقد فيه بالتلبس به، ولكل واحد منهما الفسخ
عند تقضي كل
(2/174)
شهر؛ «لأن علياً - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -
أجر نفسه من يهودي يستقي له كل دلو بتمرة، وجاء به إلى النبي - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فأكل منه» وذهب أبو بكر وجماعة من أصحابنا
إلى بطلانه؛ لأن العقد على كل الشهور، وهي مبهمة مجهولة، فلم يصح، كما لو
جعل أجرتها في الجميع شيئاً واحداً.
فصل:
ويشترط في صحة الإجارة ذكر الأجرة؛ لأنه عقد يقصد فيه العوض فلم يصح من غير
ذكره كالبيع، ويشترط أن تكون معلومة لذلك، ويحصل العلم بالمشاهدة أو بالصفة
كالبيع، ويشترط أن تكون معلومة لذلك، ويحصل العلم بالمشاهدة أو بالصفة
كالبيع، وفي وجه آخر، لا بد من ذكر قدره وصفته؛ لأنه ربما انفسخ العقد،
ووجب رد عوضه بعد تلفه، فاشترط معرفة قدره ليعلم بكم يرجع، كرأس مال السلم،
وقد ذكرنا وجه الوجهين في السلم، وتجوز بأجرة حالة ومؤجلة؛ لأن الإجارة
كالبيع، وذلك جائز فيه، فإن أطلق العقد وجبت به حالة، ويجب تسليمها بتسليم
العين؛ لأنها عوض في معاوضة، فتستحق بمطلق العقد كالثمن، وإن كانت الإجارة
على عمل في الذمة، استحق استيفاء الأجرة عند انقضاء العمل؛ لقول النبي -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أعطوا الأجير أجره قبل أن يجف عرقه»
ولأنه أحد العوضين، فلزم تسليمه عند تسليم الأجر كالبيع، وإن شرطا تأجيلها،
جاز إلا أن يكون العقد على منفعة في الذمة، ففيه وجهان: أحدهما: يجوز لأنه
عوض في الإجازة، فجاز تأجيله، كما لو كان على عين.
والثاني: لا يجوز؛ لأنه عقد على ما في الذمة، فلم يجز تأجيل عوضه كالسلم.
فصل:
ويجوز أن يستأجر الأجير بطعامه وكسوته، سواء جعل ذلك جميع الأجرة أو بعضها؛
لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «رحم الله أخي موسى،
أجر نفسه ثماني سنين، على طعام بطنه وعفة فرجه» رواه ابن ماجة ولأن العادة
جارية به من غير نكير، فأشبه الإجماع.
فإن قدر الطعام والكسوة، فحسن، وإن أطلق، جاز، ويرجع في القوت إلى الإطعام
في
(2/175)
الكفارة، وفي الملبوس إلى أقل ملبوس مثله،
ولأن لذلك عرفاً في الشرع، فحمل الإطلاق عليه.
فصل:
وإذا استوفى المنفعة، استقرت الأجرة؛ لأنه قبض المعقود عليه، فاستقر بدله،
كما لو قبض المبيع، وإن سلم إليه العين مدة يمكن الاستيفاء فيها، استقرت
الأجرة عليه؛ لأن المعقود عليه تلف تحت يده، فأشبه تلف المبيع تحت يده، وإن
عرض عليه العين ومضت مدة، يمكن الاستيفاء فيها، استقرت الأجرة؛ لأن المنافع
تلفت باختياره، فأشبه تلف المبيع بعد عرضه على المشتري، وإن كان العقد على
عمل في الذمة، لم تستقر الأجرة إلا باستيفاء العمل؛ لأنه عقد على ما في
الذمة، فلم يستقر عوضه ببذل التسليم كالمسلم فيه وإن كان العقد فاسداً، لم
يستقر ببذل التسليم، كما لا يستقر ببذل المبيع، ويجب باستيفائها؛ لأنه
استوفاها بشبهة عقد، وإن قبض العين ومضت مدة يمكن استيفاء المنفعة فيها،
ففيه روايتان: إحداهما: لا يجب شيء؛ لأنه عقد فاسد على منفعة لم يستوفها،
فلم يجب العوض كالنكاح.
والثانية: يجب أجر المثل؛ لأن البيع الفاسد كالصحيح في استقرار البدل،
فكذلك الإجارة.
فصل:
ويجوز أن يكتري الرجلان ظهراً، يتعاقبان عليه، وأن يكتري الرجل عقبة يركب
في بعض الطريق إذا كان ذلك معلوماً؛ لأنه يجوز العقد على جميعه، فجاز على
بعضه، كالزمان، فإن كان في طريق فيه عادة في الركوب والنزول، جاز العقد
مطلقاً، وحمل على العادة، كالنقد في البيع، وإن لم يكن فيه عادة، اشترط
بيان ما يركب؛ لأنه غير معلوم، فوجب بيانه كالثمن، وإن اختلفا في البادئ
منهما، أقرع بينهما؛ لأنهما تساويا في الملك، فقدم أحدهما بالقرعة، كما في
القسمة.
فصل:
إذا دخل حماماً، أو قعد مع ملاح في سفينة، فعليه أجرهما وإن لم يعقدا معه
إجارة؛ لأن العرف جار بذلك، فجرى مجرى الشرط، كنقد البلد، وكذلك إن دفع
ثوبه إلى خياط، أو قصار، منتصبين لذلك، أو مناد، أو رجل معروف بالبيع
بالأجر ليبيعه، فلهم أجر أمثالهم لذلك، وإن دفع كتاباً إلى رجل ليحمله إلى
صاحب له بأجر، فحمله فوجد صاحبه غائباً فله الأجر للذهاب؛ لأنه فعل ما
استأجره عليه، وللرد؛ لأنه بإذنه
(2/176)
تقديراً إذ ليس سوى رده إلا تضييعه، وقد
علم أنه لا يرضى تضييعه، فتعين رده.
فصل:
إذا آجره مدة تلي العقد، لم يجز شرط الخيار؛ لأنه يمنع التصرف فيها أو في
بعضها فينقص عما شرطاه، وفي خيار المجلس وجهان: أحدهما،: لا يثبت لذلك.
والثاني: يثبت لأنه يسير، وإن كانت لا تلي العقد، ثبت فيها الخياران؛ لأنها
بيع ولا مانع من ثبوته فيها، وكذلك إن كانت على عمل في الذمة، أو على منفعة
عين في الذمة ثبتا فيها لذلك. والله سبحانه وتعالى أعلم.
[باب ما يجوز فسخ الإجارة وما يوجبه]
وهي: عقد لازم ليس لواحد منهما فسخها؛ لأنها بيع فأشبهت بيوع الأعيان، إلا
أن يجد العين معيبة، فيملك الفسخ بما يحدث من العيب؛ لأن المنافع لا يحصل
قبضها إلا بالاستيفاء، فهي كالمكيل يتعيب قبل قبضه، فإن بادر المكتري إلى
إزالة العيب من غير ضرر يلحق المستأجر، كدار تشعثت فأصلحها، فلا خيار
للمستأجر لعدم الضرر، وإلا فله الفسخ، فإن سكنها مع عيبها، فعليه الأجرة
علم أو لم يعلم؛ لأنه استوفى جميع المعقود عليه معيباً، مع علمه به، فلزمه
البدل، كالمبيع المعيب إذا رضيه، وإن كان العقد على موصوف في الذمة فرد
بعيب، لم ينفسخ العقد، ويطالب ببدله، فإن تعذر بدله، فله الفسخ، لتعذر
المعقود عليه، كما لو وجد بالسلم عيباً فرده، والعيب ما تنقص به المنفعة،
كانهدام حائط الدار، وتعيبه وانقطاع ماء بئرها أو تغيره، وانقطاع ماء الأرض
أو نقصه، وتغير الظهر في المشي، وعرجه الفاحش وربضه، وكونه عضوضاً أو
جموحاً، وضعف بصر الأجير في الخدمة ومرضه.
فأما كون الظهر خشن المشي، فليس بعيب؛ لأن المنفعة فيه كاملة، وإن اختلفا
في العيب، رجع فيه إلى أهل الخبرة.
فصل:
وإن تلفت العين في يده، انفسخت الإجارة، كما لو تلف المكيل قبل قبضه، وإن
تلفت قبل مضي شيء من المدة فلا أجرة عليه؛ لأنه لم يقبض شيئاً من المعقود
عليه، وإن تلفت بعد مضي شيء منها، فعليه من الأجرة بقدر ما استوفى، ويسقط
بقدر ما بقي، فإن كان أجرها في بعض المدة أكثر، قسمت على القيمة، وإن كانت
الإجارة على موصوف في الذمة، لم تنفسخ بالتلف، وله البدل كما لو تعيب.
(2/177)
فصل:
إذا اكترى أرضاً للزرع، فانقطع ماؤها، أو داراً فانهدمت، انفسخ العقد في
أحد الوجهين؛ لأن المنفعة المقصودة منها تعذرت، فأشبه تلف العبد، والآخر:
لا ينفسخ؛ لأنه يمكن الانتفاع بها كالسكنى في خيمة، أو يجمع فيها حطباً أو
متاعاً، لكن له الفسخ؛ لأنها تعيبت، وإن ماتت المرضعة، انفسخت الإجارة، وعن
أبي بكر: لا تنفسخ ويجب في مالها أجر رضاعه والمذهب الأول؛ لأن المعقود
عليه تلف، فأشبه تلف عبد الخدمة، وإن مات المرتضع، انفسخ العقد؛ لأنه تعذر
استيفاء المعقود عليه؛ لأن غيره لا يقوم مقامه لاختلافهم في الرضاع، ولذلك
وجب تعيينه، ولم استأجر رجلاً ليقلع ضرسه فبرئ، أو ليكحل عينه فبرئت، أو
ليقتص له فمات المقتص منه، أو عفي عنه، انفسخ العقد؛ لأنه تعذر استيفاء
المعقود عليه فانفسخ، كما لو تعذر بالموت، وإن استأجر للحج فمات، ففيه
وجهان: أحدهما: تنفسخ الإجارة؛ لأنه تعذر الاستيفاء بموته، أشبه موت
المرتضع.
والثاني: لا تنفسخ، ويقوم وارثه مقامه، كما لو كان المستأجر داراً، وإن لم
يمت لكن تلف ماله، لم تنفسخ الإجارة؛ لأن المعقود عليه سليم.
فصل:
فإن غصبت العين المستأجرة، فللمستأجر الفسخ؛ لأن فيه تأخير حقه، فإن فسخ،
فالحكم فيه كالفسخ بتلف العين، وإن لم ينفسخ حتى انقضت المدة، خير بين
الفسخ والرجوع على المؤجر بالمسمى، ويرجع المؤجر على الغاصب بأجر المثل،
وبين إمضاء العقد ومطالبة الغاصب بأجرة المثل؛ لأن المنافع تلفت في يد
الغاصب، فأشبه ما لو أتلف المبيع أجنبي، وإن كان العقد على موصوف في الذمة،
طولب المؤجر بإقامة عين مقامها، فإن تعذر، فله الفسخ؛ لأن فيه تأخير حقه.
فصل:
فإن أجر نفسه ثم هرب، أو اكترى عيناً ثم هرب بها، فللمستأجر الخيار بين
الصبر والفسخ؛ لأن فيه تأخير حقه، فأشبه ما لو اشترى مكيلاً فمنعه قبضه،
وإن كانت الإجارة على موصوف في الذمة، استؤجر من ماله من يعمله، كما لو هرب
قبل تسليم المسلم فيه، فإن لم يكن، فللمستأجر الخيار بين الفسخ والصبر إلى
أن يقدر عليه فيطالبه بالعمل، كما لو تعذر تسليم المسلم فيه، وإن كانت
الإجارة على مدة انقضت في هربه، بطلت الإجارة؛ لأنه أتلف المعقود عليه،
فأشبه ما لو باعه مكيلاً فأتلفه قبل تسليمه.
فصل.
(2/178)
وإن أجر عبده، ثم أعتقه، لم تنفسخ الإجارة؛
لأنه عقد على المنفعة فلم تنفسخ بالعتق، كالنكاح، ولا يرجع العبد بشيء؛ لأن
منفعته استحقت بالعقد قبل العتق، فلم يرجع ببدله، كما لو زوج أمته، ثم
أعتقها، ونفقته على سيده؛ لأنه يملك بدل منفعته، فهو كالباقي على ملكه.
فصل:
وإن أجر عيناً، ثم باعها، صح البيع؛ لأنه عقد على المنفعة، فلم يمنع البيع
كالنكاح، ولا تبطل الإجارة قياساً على النكاح، وإن باعها من المستأجر، صح
لذلك، وفي الإجارة وجهان: أحدهما: تبطل لأنها عقد على المنفعة، فأبطلها ملك
الرقبة كالنكاح، فعلى هذا يسقط من الأجرة بقدر ما بقي من المدة.
والثاني: لا تبطل؛ لأنه عقد على الثمرة، فلم تبطل بملك الأصل، كما لو اشترى
ثمرة شجرة ثم ملك أصلها، ومتى وجد المستأجر عيباً ففسخ به، رجع على المؤجر؛
لأن عوض الإجارة له، فالرجوع عليه، وإن كان المستأجر هو المشتري فكذلك، إن
قلنا: لا تنفسخ الإجارة، وإن قلنا: تنفسخ، لم يرجع على أحد.
فصل:
ولا تنفسخ الإجارة بموت المتكاريين، ولا موت أحدهما؛ لأنه عقد لازم، فلا
يبطل بموت المتعاقدين مع سلامة المعقود عليه كالبيع، وإن أجر عيناً موقوفة
عليه، ثم مات ففيه وجهان: أحدهما: لا تبطل؛ لأنه أجر ما له إجارته شرعاً،
فلم تبطل بموته كما لو أجر ملكه، ولكن يرجع البطن الثاني في تركة المؤجر
بأجر المدة الباقية، إن كان قبضها؛ لأن المنافع لهم فاستحقوا أجرتها.
والثاني: تبطل فيما بقي من المدة؛ لأننا تبينا أنه أجر ملكه وملك غيره، فإن
المنافع بعد موته لغيره بخلاف المالك، فإن ورثته إنما يملكون ما خلفه، وما
خرج عن ملكه بالإجارة في حياته، غير مخلف فلم يملكوه، والأمر إلى من انتقل
إليه الوقف في إجارته أو تركه، فعلى هذا يرجع المستأجر على المؤجر بأجرة
بقية المدة، وإن أجر الولي الصبي، أو ماله مدة فبلغ في أثنائها، ففيه وجهان
أيضاً كهذين.
(2/179)
[باب ما يلزم
المتكاريين وما لهما فعله]
يجب على المكري ما يحتاج إليه من التمكين، من الانتفاع، كمفتاح الدار،
وزمام الجمل والقتب والحزام، ولجام الفرس وسرجه؛ لأن عليه التمكين من
الانتفاع، ولا يحصل إلا بذلك، وما تلف من ذلك في يد المكتري، لم يضمنه، كما
لا يضمن العين، وعلى المكري بدله، لأن التمكين مستحق عليه إلى أن يستوفي
المكتري المنفعة.
فأما ما يحتاج إليه لكمال الانتفاع، كالحبل والدلو والمحمل والغطاء، والحبل
الذي يقرن به بين المحملين فهو على المكتري؛ لأن ذلك يراد لكمال الانتفاع
فأشبه بسط الدار.
فصل:
وعلى المكري رفع المحمل وحطه، ورفع الأحمال وسوق الظهر وقوده؛ لأن ذلك
العادة، فحمل العقد عليه. وعليه أن ينزل الراكب للطهارة وصلاة الفرض؛ لأنه
لا يمكن فعله راكباً، وليس ذلك عليه للأكل والنفل؛ لأنه ممكن على الظهر،
وعليه أن يبرك الجمل للمرأة وللمريض والضعيف، وإن كانت الإجارة على تسليم
الظهر، لم يكن عليه شيء من ذلك، فأما أجرة الدليل، فإن كانت الإجارة على
تحصيل الراكب في البلد فعلى المكري؛ لأنه من مؤنة التحصيل، وإن كانت على
تسليم الظهر، أو على مدة، فهو على المكتري؛ لأن الذي على المكري تسليم
الظهر وقد فعل، وعلى المكري تسليم الدار فارغة الحش والبالوعة؛ لأنه من
التمكن، فإن امتلأ في يد المكتري، فعليه كسحه؛ لأنه ملأه فكان عليه إزالته،
كتنظيف الدار، وعلى المكري إصلاح ما انهدم من الدار، وتكسر من خشب؛ لأنه من
التمكين وإذا استأجر ظئراً للرضاع وشرط الحضانة، وهي خدمة الصغير وغسل خرقه
لزمها، وإن لم يشترطه عليها، لم يلزمها إلا الرضاع؛ لأنهما منفعتان
مقصودتان تنفرد إحداهما عن الأخرى، فلم تلزم إحداهما بالعقد على الأخرى،
وعليها أن تأكل وتشرب ما يدر به اللبن ويصلح به، وللمكتري مطالبتها به؛
لأنه من التمكين، ويضر الصبي تركه.
فصل:
وعلى المكتري علف الظهر وسقيه؛ لأنه من التمكين، فإن هرب، وترك جماله، رفع
الأمر إلى الحاكم ليحكم في مال الجمال بالعلف، فإن لم يجد له مالاً، اقترض
عليه، فإن اقترض من المكتري، أو أذن له في الإنفاق عليها قرضاً، جاز؛ لأنه
موضع حاجة، وإن كان في الجمال فضل عن المكتري، باعه وأنفق منه، فإذا رجع
الجمال، أو اختلفا في النفقة، فالقول قول المنفق؛ لأنه أمين إذا كانت دعواه
لقدر النفقة بالمعروف، وما زاد لا يرجع به؛ لأنه متطوع، فإن أنفق من غير
إذن الحاكم مع إمكانه، وأشهد على
(2/180)
ذلك، فهل يرجع به؟ على وجهين بناء على من
ضمن دينه بغير إذنه، وإن لم يجد من يشهد فأنفق، ففي الرجوع وجهان.
أصحهما: يرجع به؛ لأنه موضع ضرورة فأشبه ما لو أنفق على الآبق في رده، وإذا
وصل دفع الجمال إلى الحاكم، ليوفي المنفق نفقته منها، ويفعل في سائرها ما
يرى الحظ فيه لصاحبها، من بيعها وحفظ ثمنها، أو بيع بعضها، وإنفاقه على
باقيها.
فصل:
وليس على المكتري مؤنة رد العين؛ لأنها أمانة، فلم يلزم مؤنة ردها
كالوديعة، ويحتمل أن يلزمه؛ لأنه غير مأذون له في إمساكها بعد انقضاء
مدتها، فلزمه مؤنة ردها كالعارية.
فصل:
وللمكتري استيفاء المنفعة بالمعروف؛ لأن إطلاق العقد يقتضي المتعارف، فصار
كالمشروط، فإذا استأجر داراً للسكنى، فله وضع متاعه فيها؛ لأنه متعارف في
السكنى، ويترك فيها من الطعام ما جرت عادة الساكن به لذلك، وليس له جعلها
مخزناً للطعام؛ لأنه غير متعارف وفيه ضرر؛ لأن الفأر تنقب الحيطان للحصول
إليه، ولا يجوز أن يربط، فيها الدواب، ولا يطرح فيها الرماد والتراب؛ لأنه
غير متعارف به، وإن اكترى قميصاً ليلبسه، لم يكن له أن ينام فيه ليلاً، وله
ذلك نهاراً؛ لأن العادة الخلع لنوم الليل دون النهار، وليس له أن يتزر به؛
لأنه يعتمد عليه أكثر من اللبس، وله أن يرتدي به في أحد الوجهين؛ لأنه أخف،
والآخر ليس له ذلك؛ لأنه غير المتعارف في لبس القميص، وإن اكترى ظهراً في
طريق، العادة السير فيه زمناً دون زمن لم يسر إلا فيه؛ لأنه المتعارف، وإن
كانت العادة النزول للرواح، وكان رجلاً قوياً، ففيه وجهان: أحدهما: يلزمه
ذلك؛ لأنه المتعارف.
والثاني: لا يلزمه؛ لأنه اكترى للركوب في جميع الطريق، فلم يلزمه تركه في
بعضه، وإن اكتره إلى مكة، لم يجز أن يحج عليه؛ لأنه زيادة، وإن اكتراه ليحج
عليه، فله الركوب إلى منى، ثم إلى عرفة، ثم إلى مكة، وهل له أن يركبه
عائداً إلى منى؟ فيه وجهان: أحدهما: لا يجوز؛ لأنه قد حل من الحج.
والثاني: له ذلك؛ لأنه من تمام الحج.
(2/181)
فصل:
وله ضرب الظهر، وكبحه باللجام، وركضه برجله للمصلحة؛ «لأن النبي - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ضرب جمل جابر حين ساقه» ولأنه لا يتوصل إلى
استيفاء المنفعة إلا به، فملكه كركوبه، وإن شرط حمل أرطال من الزاد، فله
إبدال ما يأكل؛ لأن له غرضاً في أن يشتري الزاد من الطريق، ليخفف عليه حمله
فملك بدله، كالذي يشرب من الماء.
فصل:
وله أن يستوفي النفع المعقود ومثله ودونه في الضرر، ولا يملك فوقه، ولا ما
يخالف ضرر ضرره، لأنه يأخذ فوق حقه، أو غير حقه.
فإن اكترى ظهراً في طريق، فله ركوبه إلى ذلك البلد في مثله، ودونه في
الخشونة، والمسافة والمخافة، ولا يركبه في أخشن منه، ولا أبعد، ولا أخوف،
وإن اكترى أرضاً للغراس والبناء، فله زرعها؛ لأنه أقل ضرراً، وإن استأجرها
لأحدهما لم يملك الآخر؛ لأن ضرر كل واحد منهما يخالف ضرر الآخر، وإن
استأجرها للزرع لم يغرس، ولم يبين؛ لأنهما أضر منه، وإن استأجرها لزرع
الحنطة، فله زرعها، وزرع ما ضرره كضررها أو أدنى، كالشعير، والبقلاء، ولا
يملك زرع الدخن والذرة والقطن؛ لأن ضررها أكثر، وإن اكترى ظهراً ليحمل عليه
قطناً، لم يجز أن يحمل عليه حديداً؛ لأنه أضر على الظهر لاجتماعه وثقله،
وإن اكتراه للحديد، لم يحمل عليه قطناً؛ لأنه أضر لتجافيه، وهبوب الريح
فيه، وإن اكتراه ليركبه، لم يحمل عليه؛ لأن الراكب يعين الظهر بحركته، وإن
اكتراه للحمل، لم يملك ركوبه؛ لأن الراكب يقعد في موضع واحد، والحمل يتفرق
على جنبيه، وإن شرط ركوبه عرياناً، لم يركب بسرج؛ لأنه زيادة، وإن شرط
ركوبه بسرج، لم يركبه عرياناً؛ لأنه يضر بظهر الحيوان، والعارية كالإجارة
في هذا؛ لأنها تمليك للمنفعة، فأشبهت الإجارة.
فصل:
وله أن يستوفي المنفعة بنفسه وبمثله، فإن اكترى داراً، فله أن يسكنها مثله،
ومن هو دونه في الضرر، ولا يسكنها من هو أضر منه، وإن اكترى ظهراً يركبه،
فله أن يركبه مثله، ومن هو أخف منه، لما ذكرنا في الفصل قبله، فإن شرط أن
لا يستوفي غير المنفعة بنفسها، ولا يستوفي مثلها، ولا دونها، ولا يستوفيها
بمثله، ولا بدونه، صح الشرط؛ لأنه يملكه المنافع، فلا يملك إلا ما ملكه،
ويحتمل أن لا يصح؛ لأنه ينافي موجب الإجارة، ولا يبطل العقد؛ لأن الشرط لا
يؤثر المؤجر، فلغي وبقي العقد على مقتضاه.
(2/182)
فصل:
وله أن يؤجر العين؛ لأن الإجارة كالبيع، وبيع المبيع جائز، وكذلك إجارة
المستأجر، ويجوز أن يؤجرها للمؤجر وغيره، كما يجوز بيع المبيع للبائع
وغيره، فإن أجرها قبل قبضها، لم يجز، ذكره القاضي؛ لأنها لم تدخل في ضمانه،
فلم تجز إجارتها، كبيع الطعام قبل قبضه، ويحتمل الجواز؛ لأن المنافع لا
تصير مقبوضة بقبض العين، فلم يؤثر قبض العين فيها، ويحتمل أن تجوز إجارتها
للمؤجر؛ لأنها في قبضه، ولا تجوز من غيره لعدم ذلك، وتجوز إجارتها بمثل
الأجرة وزيادة، كالبيع برأس المال وزيادة، وعنه: إن أحدث في العين زيادة،
جازت إجارتها بزيادة، وإن لم يفعل لم يؤجرها بزيادة؛ لأن النبي - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «نهى عن ربح ما لم يضمن» فإن فعل تصدق
بالزيادة، وعنه: يجوز بإذن المالك، ولا يجوز بغير إذنه، والمذهب الأول.
فصل:
فإن استوفى أكثر من المنفعة بزيادة متميزة مثل إن اكترى إلى مكان، فجاوزه،
أو ليحمل قفيزاً فحمل اثنين لزمه المسمى، لما عقد عليه، وأجرة المثل
للزيادة؛ لأنه استوفى المعقود عليه، فاستقر المسمى ولزمته أجرة الزيادة،
كما لو اشترى قفيزاً، فقبض اثنين، وإن كانت الزيادة لا تتميز، كرجل اكترى
أرضاً ليزرع حنطة فزرع دخناً فكذلك قال أحمد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -:
ينظر ما يدخل على الأرض من النقصان، ما بين الحنطة والشعير، فيعطي رب
الأرض، فأوجب المسمى وزيادة؛ لأنه لما عين الحنطة تعلق العقد بما يماثله في
الضرر، فصار مستوفياً للمعقود عليه وزيادة كالتي قبلها، وقال أبو بكر: عليه
أجرة المثل للجميع؛ لأنه عدل عن المعقود عليه إلى غيره، فلزمته أجرة المثل،
كما لو زرع غير الأرض، ولرب الأرض منع المستأجر من زرع الأرض، فإن زرع
فحكمه في ذلك حكم الغاصب على ما سيأتي.
فصل:
فإن اكترى أرضاً للزرع مدة، فليس له زرع ما لا يستحصد فيها؛ لأن عليه
تسليمها، فارغة عند انتهائها، وهذا يمنع ذلك، وللمالك منعه من زرعه لذلك،
فإن فعل، لم يجبر، على قلعه في المدة؛ لأنه مالك لمنفعة الأرض، فإذا انقضت
ولم يحصد، خير المالك بين أخذه، ودفع نفقته، وبين تركه بالأجرة لأنه تعدى
بزرعه، فأشبه الغاصب، وإن كان بقاؤه بغير تفريط، إما لشدة برد، أو قلة مطر
ونحوه، فعلى المؤجر تركه بالأجرة؛ لأنه زرعه بحق، فكان عليه المسمى للمدة،
وأجرة المثل للزائد لا غير.
(2/183)
فصل:
فإن اكتراها مدة ليزرع فيها زرعاً لا يكمل فيها، وشرط قلعه في آخرها، صح
العقد والشرط؛ لأنه قد يكون له غرض صحيح فيه، وإن شرط تبقيته حتى يكمل فسد
العقد لجهل المدة، ولأن شرط تبقيته تنافي تقدير مدته، وللمؤجر منعه من
الزرع؛ لأن العقد فاسد، فإن زرعه، لزم إبقاؤه بشرطه؛ لأنه زرعه بإذن
المالك، وإن أطلق العقد، صح؛ لأن الانتفاع بالأرض في هذه المدة ممكن، فإذا
انقضت، والزرع باق، احتمل أن يكون حكمه حكم المفرط لزرعه في مدة الإجارة ما
لا يكمل فيها، واحتمل أن يكون حكمه حكم غير المفرط لتفريط المؤجر بإجارة
مدة لا يكمل فيها.
فصل:
وأن استأجرها للغراس مدة، جاز، وله الغرس فيها، ولا يغرس بعدها؛ لأن العقد،
يقتضي التصرف في المدة دون ما بعدها، فإن غرس، فانقضت المدة، وكان مشروطاً
عليه القلع عند انقضائها، أخذ بما شرطه، ولم يلزمه تسوية الحفر؛ لأنه لما
شرط القلع، مع علمه بأنه يحفر الأرض كان راضياً، وإن لم يكن شرط القلع، لم
يجب؛ لأن تفريغ المستأجر على حسب العادة، والعادة ترك الغراس حتى ييبس،
وللمستأجر قلع غرسه؛ لأنه ملكه، فإن قلعه، لزمه تسوية الحفر؛ لأنه حفرها
لتخليص ملكه من ملك غيره بغير إذنه، وإن لم يقلعه، فللمؤجر دفع قيمته
ليملكه؛ لأن الضرر يزول عنهما به، أشبه الشفيع في غراس المشتري، وإن أراد
قلعه، وكان لا ينقص بالقلع، أو ينقص لكنه يضمن، أرش النقص، فله ذلك؛ لأن
الضرر يزول عنهما به، وإن اختار إقراره بأجرة مثله، فله ذلك؛ لأن الضرر
يزول عنهما به، ولصاحب الشجر بيعه للمالك ولغيره، فيكون بمنزلته؛ لأن ملكه
ثابت عليه، فأشبه الشقص المشفوع، والبناء كالغراس في جميع ما ذكرنا.
[باب تضمين الأجير واختلاف المتكاريين]
الأجير على ضربين: خاص ومشترك، فالخاص: هو الذي يؤجر نفسه مدة، فلا ضمان
عليه فيما يتلف في يده بغير تفريط، مثل أن يأمره بالسقي، فيكسر الجرة، أو
بكيل شيء، فيكسر الكيل، أو بالحرث، فيكسر آلته نص عليه، أو بالرعي، فتهلك
الماشية بغير تفريطه، والمشترك: الذي يؤجر نفسه على عمل، فظاهر كلام
الخرقي، أنه يضمن ما تلف بعمله، ونص عليه أحمد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -
في حائك دفع إليه غزل، فأفسد حياكته يضمن، والقصار ضامن لما يتخرق من مده
ودقه وعصره وبسطه، والطباخ ضامن لما أفسد من طبخه، لما روى جلاس بن عمرو:
أن علياً - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - كرم الله وجهه: كان يضمن الأجير، ولأنه
قبض العين لمنفعة من غير استحقاق، فكان ضامناً لها
(2/184)
كالمستعير، وقال القاضي وأصحابه: إن كان
يعمل في ملك المستأجر، كخياط أو خباز، أخذه إلى داره ليستعمله فيها، فلا
ضمان عليه ما لم يتعد فيه، مثل أن يسرف في الوقود أو يلزقه قبل وقته، أو
يتركه بعد وقته فيضمن؛ لأنه أتلفه بعدوانه، وما لا فلا ضمان عليه؛ لأنه سلم
نفس إلى صاحب العمل، فأشبه الخاص، وإن كان العمل في غير ملك المستأجر، ضمن
ما جنت يداه لما ذكرناه، ولا ضمان عليه فيما تلف من حرزه؛ لأنها أمانة في
يده، فأشبه المودع، وإن حبسها على أجرتها فتلفت، ضمنها؛ لأنه متعد بإمساكها
إذ ليست رهناً ولا عوضاً عن الأجرة.
فصل:
ولا ضمان على المستأجر في العين المستأجرة إن تلفت بغير تفريط؛ لأنه قبضها
ليستوفي ما ملكه فيها، فلم يضمنها كالزوجة، والنخلة التي اشتراها ليستوفي
ثمرتها، وإن تلفت بفعله بغير عدوان، كضرب الدابة وكبحها، لم يضمن؛ لأنها
تلفت من فعل مستحق، فلم يضمنها، كما لو تلفت تحت الحمل، وإن تلفت بعدوان،
كضربها من غير حاجة، أو لإسرافه فيه، ضمن؛ لأنه جناية على مال الغير، وإن
اكترى إلى مكان، فتجاوزه، فهلك الظهر، ضمنه؛ لأنه متعد، أشبه الغاصب، وإن
هلك بعد نزوله عنه، وتسليمه إلى صاحبه، لم يضمنه؛ لأنه برئ بتسليمه إليه
إلا أن يكون هلاكه، لتعب الحمل فيضمنه؛ لأنه هلك بعدوانه، وإن حمل عليه
أكثر مما استأجره، فتلف، ضمنه لذلك، وإن اكترى دابة ليركبها فركب معه آخر
بغير إذن فتلفت، ضمانها الآخر كلها؛ لأن عدوانه سبب تلفها فضمنها، كمن ألقى
حجراً في سفينة موقرة فغرقها، وإن تلفت الدابة، بعد عودها إلى المسافة،
ضمنها؛ لأن يده صارت ضامنة، فلم يسقط عنه ذلك إلا بإذن جديد، ولم يوجد.
فصل:
ولو قال لخياط: إن كان هذا يكفيني قميصاً فاقطعه فقطعه، فلم يكفه، ضمنه؛
لأنه إنما أذن له في قطعه بشرط الكفاية ولم يوجد، وإن قال: هو يكفيك قميصاً
فقال: اقطعه، فقطعه، فلم يكفه لم يضمنه؛ لأنه قطعه بإذن مطلق.
فصل:
ومن أجر عيناً فامتنع من تسليمها فلا أجرة له؛ لأنه لم يسلم المعقود عليه،
فلم يستحق عوضه، كالمبيع إذا لم يسلمه، وإن سلمه بعض المدة، ومنعه بعضاً،
فقال أصحابنا: لا أجرة له؛ لأنه لم يسلم ما تناوله العقد، فأشبه الممتنع من
تسليم الجميع، ويحتمل أن يلزمه عوض ما استوفاه، كما باعه مكيلاً فسلم إليه
بعضه، ومنعه من
(2/185)
باقيه، وإن أجر نفسه على عمل، وامتنع من إتمامه، فكذلك، وإن أجر عبده فهرب،
أو دابة فشردت في بعض المدة فله من الأجرة بقدر ما استوفي من المدة؛ لأن
الامتناع بغير فعله، فأشبه ما لو مات، وإن تلف الثوب في يد الصانع بغير
تفريطه، فلا أجرة له فيما عمل؛ لأنه لم يسلمه إلى المستأجر، فلم يستحق
عوضه، وإن تلف بتفريطه خير المالك بين تضمنه إياه معمولاً، ويدفع إليه
أجرته، وبين تضمينه إياه غير معمول ولا أجرة له، وإن استأجر الأجير المشترك
أجيراً خاصاً، فأتلف الثوب، فلا ضمان على الخاص، ويضمنه المشترك.
فصل:
وإذا اختلف المتكاريان في قدر الأجرة أو المنفعة، تحالفا؛ لأنه عقد معاوضة،
أشبه البيع، ثم الحكم في فسخ الإجارة، كالحكم في فسخ البيع؛ لأنها بيع، وإن
اختلفا في العدوان، فالقول قول المستأجر؛ لأن الأصل عدم العدوان، والبراءة
من الضمان، وإن اختلفا في رد العين، ففيه وجهان: أحدهما: القول قول المؤجر؛
لأن الأصل عدم الرد، ولأن المستأجر قبض العين لنفسه، أشبه المستعير.
والثاني: القول قول الأجير؛ لأنه أمين، فأشبه المودع، وإن هلكت العين، فقال
الأجير: هلكت بعد العمل، فلي الأجرة، فأنكره المستأجر، فالقول قوله؛ لأن
الأصل عدم العمل، وإن دفع ثوباً إلى خياط، فقطعه قباء، وقال: بهذا أمرتني،
فلي الأجرة، ولا ضمان علي وقال صاحبه: إنما أمرتك بقطعه قميصاً، فالقول قول
الأجير، نص عليه؛ لأنه مأذون له في القطع، والخلاف في صفته، فكان القول قول
المأذون له كالمضارب ولأن الأصل عدم وجوب الغرم، فكان القول قول من ينفيه،
ويتخرج أن يقبل قول المالك؛ لأن القول قوله في أصل الإذن، فكذلك في صفته،
ولأن الأصل عدم ما ينفيه، فكان القول قوله فيه. |