الكافي
في فقه الإمام أحمد [كتاب الطلاق]
وهو على خمسة أضرب:
واجب، هو: طلاق المؤلي بعد التربص إذا أبى الفيئة، وطلاق الحكمين في الشقاق
إذا رأياه.
ومكروه، وهو: الطلاق من غير حاجة، لما روى محارب بن دثار عن ابن عمر -
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
- قال: «أبغض الحلال إلى الله الطلاق» رواه أبو داود. وعنه: أنه محرم؛ لأنه
يضر بنفسه وزوجته. وقد قال - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «لا ضرر ولا ضرار» .
ومباح، وهو: عند الحاجة إليه، لضرر بالمقام على النكاح، فيباح له دفع الضرر
عن نفسه.
ومستحب، وهو: عند تضرر المرأة بالنكاح، إما لبغضه، أو غيره، فيستحب إزالة
الضرر عنها. وعند كونها مفرطة في حقوق الله الواجبة عليها، كالصلاة ونحوه.
وعجزه عن إجبارها عليه، أو كونها غير عفيفة؛ لأن في إمساكها نقصا ودناءة،
وربما أفسدت فراشه، وألحقت به ولدا من غيره. وعنه: أن الطلاق هاهنا واجب.
قال في مسألة إسماعيل بن سعيد: هل يحل للرجل أن يقيم مع امرأة لا تصلي، ولا
تغتسل من جنابة، ولا تتعلم القرآن؟ أخشى أن لا يجوز المقام معها. وقال: لا
ينبغي له إمساك غير العفيفة.
(3/106)
ومحظور، وهو: طلاق المدخول بها في حيضها،
أو في طهر أصابها فيه، ويسمى: طلاق البدعة، لمخالفته أمر الله تعالى في
قوله: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ
فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} [الطلاق: 1] . وروى «ابن عمر أنه طلق
امرأته وهي حائض، فسأل عمر رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
- عن ذلك، فقال له رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: مره
فليراجعها، ثم ليتركها حتى تطهر، ثم تحيض ثم تطهر، ثم إن شاء أمسك بعد، وإن
شاء طلق قبل أن يمس، فتلك العدة التي أمر الله أن تطلق بها النساء» متفق
عليه. ولأن طلاق الحائض يضر بها، لتطويل عدتها. والمصابة ترتاب فلا تدري
أذات حمل هي فتعتد بوضعه؟ أم حائل فتعتد بالقرء؟ ويحتمل أن يتبين حملها
فيندم على فراقها مع ولدها. فأما غير المدخول بها، فلا يحرم طلاقها؛ لأنها
لا عدة عليها تطول. والصغيرة التي لا تحمل، والآيسة، لا يحرم طلاقهما؛ لأنه
لا ريبة لهما، ولا ولد يندم على فراقه. وكذلك الحامل التي استبان حملها لا
يحرم طلاقها، لما روى سالم عن أبيه أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - قال: «ثم ليطلقها طاهرا أو حاملا» أخرجه مسلم. ولأنه لا ريبة
لها، ولا يتجدد لها أمر يتجدد به الندم؛ لأنه على بصيرة من حملها.
فصل:
ويقع الطلاق في زمن البدعة؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
- أمر بالرجعة، ولا يكون إلا بعد طلاق. ويستحب ارتجاعها، لأمر النبي -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بها؛ ولأنه يزيل الضرر الحاصل
بالطلاق، ولا يجب لأنه بمنزلة ابتداء النكاح، أو استدامته، وكلاهما غير
واجب. وعنه: أن الرجعة واجبة لظاهر الأمر. ومتى ارتجعها، أبيح له طلاقها في
الطهر الذي يلي الحيضة التي طلق فيها قبل إصابتها؛ لأن في حديث «ابن عمر:
أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أمره أن يراجعها حتى تطهر،
ثم إن شاء طلق» . متفق عليه.
فصل:
والأولى أن يطلقها واحدة، ثم يدعها حتى تنقضي عدتها، لقول الله تعالى:
{فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} [الطلاق: 1] إلى قوله: {لَعَلَّ اللَّهَ
يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا} [الطلاق: 1]
(3/107)
{فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ
فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ} [الطلاق: 2]
وهذا لا يمكن إذا جمع الثلاث. وقال علي: لو أن الناس أخذوا بما أمر الله
تعالى من الطلاق ما يتبع رجل نفسه امرأة أبدا، يطلقها تطليقة، ثم يدعها ما
بينها وبين أن تحيض ثلاثا، فمتى شاء راجعها. وهل يحرم جمع الثلاث؟ فيه
روايتان:
إحداهما: يحرم، لمخالفته أمر الله في الطلاق واحدة. وروى محمود بن لبيد
قال: «أخبر رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن رجل طلق
امرأته ثلاث تطليقات جميعا، فغضب وقال: أيلعب بكتاب الله وأنا بين أظهركم؟
! حتى قام رجل فقال: يا رسول الله ألا أقتله؟» رواه النسائي. ولأنه حرم
بالقول امرأته لغير حاجة، فحرم، كالظهار.
والثانية: لا يحرم؛ لأن في حديث فاطمة بنت قيس أن زوجها أرسل إليها بثلاث
تطليقات ولم ينقل إنكاره عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
ولأنه طلاق يجوز تفريقه، فجاز جميعه، كطلاق النسوة، ومتى طلقها ثلاثا بكلمة
واحدة، أو بكلمات، حرمت عليه حتى تنكح زوجا غيره، لما روي «أن ركانة بن عبد
يزيد، طلق امرأته سهيمة البتة، ثم أتى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - فقال: يا رسول الله لقد طلقت امرأتي سهيمة البتة، والله ما
أردت إلا واحدة. فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -:
والله ما أردت إلا واحدة؟ فقال ركانة: والله ما أردت إلا واحدة، فقال: هو
ما أردت فردها إليه رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -» .
رواه الترمذي، والدارقطني، وأبو داود، وقال: الحديث صحيح. فلو لم تقع
الثلاث، لم يكن للاستحلاف معنى.
فصل:
ويملك الحر ثلاث تطليقات، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {الطَّلاقُ مَرَّتَانِ
فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} [البقرة: 229] . وروى
أبو رزين قال: «جاء رجل إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
فقال: قول الله
(3/108)
تعالى: {الطَّلاقُ مَرَّتَانِ} [البقرة:
229] فأين الثالثة؟ قال: {تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} [البقرة: 229] » .
ويملك العبد اثنتين، حرة كانت زوجته أو أمة، لما روي أن مكاتبا لأم سلمة،
طلق امرأته وكانت حرة تطليقتين، فأراد رجعتها، فذهب إلى عثمان - رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُ -، فوجده آخذ بيد زيد بن ثابت، فقالا: حرمت عليك، حرمت
عليك، والمكاتب والمعتق بعضه كالقن في ذلك؛ لأنه لم تكمل الحرية فيه.
فصل:
وإن طلق العبد زوجته تطليقتين ثم عتق، ففيه روايتان:
إحداهما: لا تحل له حتى تنكح زوجا غيره؛ لأنه استوفى عدد طلاقها، فأشبه
الحر إذا طلق ثلاثا.
والثانية: له أن ينكحها وتكون عنده على طلقة واحدة؛ لأنه يروى عن النبي -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قضى بذلك. رواه النسائي. وهو قول
ابن عباس وجابر.
ويصح الطلاق من كل زوج بالغ عاقل مختار. فأما غير الزوج، فلا يصح طلاقه،
لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الطلاق لمن أخذ
بالساق» وروى الخلال بإسناده عن علي أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - قال: «لا طلاق قبل نكاح» ، وعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عن
النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا طلاق إلا فيما تملك»
رواه أبو داود والترمذي. فلو قال: إذا تزوجت فلانة، أو امرأة، فهي طالق، ثم
تزوجها لم تطلق، للخبر؛ ولأنه حل لقيد النكاح قبله، فلم يصح، كما لو قال
لأجنبية: إذا دخلت الدار، فأنت طالق، ثم تزوجها. وعن أحمد: ما يدل على أنها
تطلق إذا تزوجها؛ لأنه يصح تعليقه على الشرط، فصح تعليقه على حدوث الملك
كالوصية. وأما الصبي العاقل، ففيه روايتان:
(3/109)
إحداهما: لا يقع طلاقه حتى يحتلم، لقول
النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «رفع القلم عن الصبي حتى
يحتلم» ولأنه غير مكلف، أشبه الطفل.
والثانية: أنه إن كان ابن عشر وعقل الطلاق، صح طلاقه، اختاره الخرقي؛ لأنه
يروى عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «كل طلاق
جائز إلا طلاق المعتوه والمغلوب على عقله» أخرجه الترمذي. ولأنه عاقل، أشبه
البالغ. وأما الطفل، والمجنون، والنائم، والزائل العقل لمرض، أو شرب دواء،
أو إكراه على شرب الخمر، فلا يقع طلاقه، لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «رفع القلم عن ثلاثة: عن الصبي حتى يبلغ، وعن النائم
حتى يستيقظ، وعن المجنون حتى يفيق» ، فثبت في الثلاثة بالخبر، وفي غيرهم
بالقياس عليهم. فأما السكران لغير عذر، والشارب لما يزيل عقله لغير حاجة،
ففيه روايتان:
إحداهما: يقع طلاقه، اختاره الخلال، والقاضي، لما روى أبو وبرة الكلبي قال:
أرسلني خالد إلى عمر فأتيته في المسجد، ومعه عثمان وعلي وطلحة والزبير وعبد
الرحمن، فقلت: إن خالدا يقول: إن الناس انهمكوا في الخمر، وتحاقروا عقوبته،
فقال عمر: هؤلاء عندك، فسلهم. فقال علي: نراه إذا سكر هذى، وإذا هذى افترى،
وعلى المفتري ثمانون. فقال عمر: أبلغ صاحبك ما قالوا. فجعلوه كالصاحي في
فريته، وأقاموا
(3/110)
مظنة الفرية مقامها؛ ولأنه مكلف فوقع
طلاقه، كالصاحي.
والثانية: لا يقع طلاقه، اختارها أبو بكر؛ لأن ذلك قول عثمان صح ذلك عنه؛
ولأنه زائل العقل، أشبه المجنون، وفي قتله وقذفه وسرقته وعتقه ونذره وبيعه
وشرائه مثل ما في طلاقه، والأولى أنه لا يصح منه تصرف له فيه حظ؛ لأن تصحيح
ما عليه إنما كان تغليظا عليه، فيبقى في ماله على الأصل.
فصل:
فأما المكره على الطلاق بحق، كالذي وجب عليه الطلاق، فأكرهه الحاكم عليه،
صح منه؛ لأنه قول حمل عليه بحق، فصح، كإسلام المرتد. وإن أكره بغير حق، لم
يقع طلاقه، لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «رفع عن
أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه» ولأنه
(3/111)
قول حمل عليه بغير حق، أشبه الإكراه على
كلمة الكفر. ولا يكون مكرها إلا بشروط ثلاثة:
أحدها: أن يكون المكره قادرا على فعل ما توعده به، لا يمكن دفعه عنه.
الثاني: أن يغلب على ظنه فعل ما توعده به إن لم يفعل.
الثالث: أن يكون ضرره كبيرا غير محتمل، كالقطع والقتل والحبس الطويل،
والإخراج من الديار، وأخذ المال، والإحراق بمن يغض ذلك منه، من ذوي
الأقدار. فأما من لا يغض ذلك منه، والمهدد بالشتم أو الضرب اليسير ونحوه،
فليس بمكره. واختلفت الرواية في نيله بشيء من العذاب، هل يشترط في الإكراه
أم لا؟
فعنه: هو شرط، ولا يكون الوعيد بمجرده إكراها، هذا الذي ذكره الخرقي؛ ولأن
عمر قال: ليس الرجل أمينا على نفسه إذا أوجعته، أو أوثقته؛ ولأن الوعيد
بمجرده لا يتحقق وقوعه به.
والثانية: ليس بشرط وهو الصحيح؛ لأن الوعيد بالمستقبل هو المبيح دون ما مضى
منه، لكون الماضي لا يمكن دفعه، وقد استويا في الوعيد، فيستويان في عدم
الوقوع. ولأن المهدد بالقتل إذا امتنع، قتل، فوجب أن تثبت الإباحة بمجرد
التهديد دفعا لضرر القتل عنه.
فصل:
وأما السفيه المبذر فيقع طلاقه؛ لأنه زوج مكلف فيقع طلاقه، كالرشيد.
والحجر: إنما هو في ماله، لا في غيره.
فصل:
وإن قال العجمي لامرأته: أنت طالق ولا يعلم معناه، لم تطلق لأنه لم يختر
(3/112)
الطلاق، لعدم علمه بمعناه، فإن نوى موجبه
لم يقع؛ لأنه لم يتحقق اختياره لما لا يعلمه، فأشبه ما لو نطق بكلمة الكفر
من لا يعرف معناها. ويحتمل أن تطلق لأنه أتى بالطلاق ناويا مقتضاه، فوقع
كما لو علمه. وهكذا العربي إذا نطق بلفظ الطلاق بالعجمية غير عالم بمعناه.
فصل:
وإذا طلق جزءا من زوجته، كثلثها وربعها، أو عضوا منها، كيدها وإصبعها،
طلقت؛ لأنه لا يتبعض، فإضافته إلى البعض إضافة إلى الجميع، كالقصاص. وإن
أضافه إلى الشعر والسن والظفر، لم يقع؛ لأن هذه تزول، ويخرج غيرها، فلم يقع
بإضافته إليها، كالريق. وإن أضافه إلى الريق والدمع والعرق، لم يقع؛ لأنه
ليس من ذاتها، إنما هو مجاور لها، وإن أضافه إلى سوادها أو بياضها لم يقع؛
لأنه عرض ليس من ذاتها. وإن أضافه إلى روحها. فقال أبو بكر: لا يقع؛ لأنها
ليست عضوا، ولا جزءا ولا شيئا يستمتع به، ولا يحل العقد به. وقال أبو
الخطاب: يقع بإضافته إلى روحها ودمها؛ لأن دمها من أجزائها فهو كلحمها،
وروحها بها قوامها. وإن أضافه إلى الحمل، لم يقع لأنه ليس من أعضائها،
وإنما هو مودع فيها.
فصل:
إذا قال لزوجته: أنا منك طالق، لم تطلق لأنه محل لا يقع الطلاق بإضافته
إليه من غير نية، فلم يقع بنية كالأجنبي؛ ولأنه لو قال: أنا طالق، لم يقع
به طلاق، فكذلك إذا قال: أنا منك طالق، كالأجنبي. وإن قال: أنا منك بائن،
أو بريء، ففيه وجهان:
أحدهما: لا يقع طلاقه؛ لأنه لا يقع بإضافة صريحة إليه، فكذلك كنايته.
والثاني: يقع؛ لأن البينونة والبراءة يوصف بها الرجل، فيقال: بان منها،
وبانت منه؛ ولأنه عبارة عن قطع الوصلة التي بينهما، فصح إضافته إلى كل واحد
منهما.
[باب صريح الطلاق وكنايته]
لا يقع الطلاق بمجرد النية؛ لأنه إزالة ملك، فلا يحصل بمجرد النية، كالعتق.
ولو قال: أنت، ونوى الطلاق، وأشار بأصابعه - لم يقع؛ لأنه ليس من كنايات
الطلاق ولا صريحه، ولا يقع الطلاق إلا بصريح أو كناية. فالصريح: لفظ الطلاق
وما تصرف منه؛ لأنه موضوع له على الخصوص، يثبت له عرف الشرع والاستعمال.
فإذا قال: أنت طالق أو مطلقة أو طلقتك، أو يا مطلقة، فهو صريح. وذكر أبو
بكر في قوله: أنت مطلقة - رواية أخرى أنه ليس بصريح؛ لأنه يحتمل أن يريد
طلاقا ماضيا، والمذهب الأول؛ لأنه متصرف
(3/113)
من لفظ الطلاق، فكان صريحا، كقوله: طلقتك.
ولو قيل له: أطلقت امرأتك؟ قال: نعم، كان صريحا؛ لأن الجواب يرجع إلى
السؤال، فصار كالملفوظ به. ولو قال: قد كان بعض ذلك، وفسره بتعليقه على
شرط، قبل؛ لأنه محتمل. وإن قال: أنت الطلاق، فهو صريح. نص عليه؛ لأنه لفظ
بالطلاق، وهو مستعمل في عرفهم. قال الشاعر:
فأنت الطلاق وأنت الطلاق ... وأنت الطلاق ثلاثا تماما
ويحتمل أن لا يكون صريحا؛ لأنه وصفها بالمصدر، وأخبر به عنها، وهذا تجوز.
وفي لفظ الفراق والسراح وجهان:
أحدهما: هو صريح، اختاره الخرقي؛ لأنه ورد في القرآن، فهو كلفظ الطلاق.
والثاني: ليس بصريح، اختاره ابن حامد؛ لأنه موضوع لغيره، يكثر استعماله في
غير الطلاق، أشبه سائر كناياته. ما عدا هذا فليس بصريح؛ لأنه لم يثبت له
عرف الشرع ولا الاستعمال. وإن لطم زوجته وقال: هذا طلاقك، فهو صريح. ذكره
ابن حامد، وذكره القاضي: أنه منصوص أحمد؛ لأنه أتى بلفظ الطلاق، وكذلك على
قياسه إن أطعمها، وقال: هذا طلاقك.
فصل:
وإذا أتى بصريح الطلاق وقع، نواه أو لم ينوه، جادا كان أو هازلا، لما روى
أبو هريرة أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «ثلاث
جدهن جد، وهزلهن جد، الطلاق والنكاح والرجعة» رواه الترمذي، وقال: حديث
حسن، وإذا أراد التلفظ بغير الطلاق، فسبق لسانه إليه، كأن أراد: أنت طاهر،
فسبق لسانه إلى: أنت طالق، أو أراد: فارقتك بقلبي، أو ببدني، أو سرحتك من
يدي أو سرحت رأسك، أو طلقتك من وثاقي، لم تطلق؛ لأنه عنى بلفظه ما يحتمله،
فوجب صرفه إليه. فإذا ادعى ذلك، دين فيما بينه وبين الله تعالى؛ لأنه
محتمل. فأما في الحكم، فإن كان ذلك في حال الغضب، أو سؤالها الطلاق، لم
يقبل؛ لأنه يخالف الظاهر من وجهين: مقتضى اللفظ، ودلالة الحال. وإن كان في
غيرهما، فظاهر كلام أحمد أنه يقبل؛ لأنه فسر كلامه بما يحتمله احتمالا غير
بعيد، فقبل، كما لو كرر لفظة الطلاق وأراد بالثانية التأكيد. وعنه: لا
يقبل؛ لأنه يخالف الظاهر فلم يقبل، كما لو أقر بدرهم، ثم فسره بدرهم صغير،
أو رديء. وإن نطق بهذه
(3/114)
الصلاة، لم يقع الطلاق وجها واحدا؛ لأنه
وصل كلامه بما يغير مقتضاه، فأشبه ما لو وصله بشرط، أو قال: له علي درهم
صغير. وإن قال: طلقت زوجتي، وقال: أردت في نكاح غير هذا، أو قال: يا مطلقة،
وقال: أردت من زوج قبلي، دين في ذلك. فأما في الحكم فإن لم يكن وجد، لم
يقبل؛ لأنه لا يحتمله. وإن كان وجد فهل يقبل؟ على وجهين، لما ذكرناه.
فصل:
وما عدا الصريح من الألفاظ قسمان:
أحدهما: ما لا يشبه الطلاق، ولا يدل على الفراق، كقوله: اقعدي، واقربي،
وقومي وكلي واشربي وأطعميني، واسقيني، وما أحسنك، وبارك الله عليك، وأنت
جميلة أو قبيحة، ونحو هذا فلا يقع به طلاق وإن نواه؛ لأنه لا يحتمل الطلاق،
ولو أوقعناه، لوقع بمجرد النية، ولا سبيل إليه.
والثاني: ما يشبه الطلاق، ويدل على ما معناه، فهو كناية فيه، إن نوى به
الطلاق، وقع؛ لأنه نوى بكلامه ما يحتمله. وإن لم ينو شيئا، ولا دلت عليه
قرينة، لم يقع؛ لأنه ظاهر في غير الطلاق، فلم يصرف إليه عند الإطلاق، كما
لا ينصرف الصريح إلى غيره. وإن كان جوابا لسؤالها الطلاق، وقع. نص عليه،
لدلالة الحال عليه، فإن الجواب مبني على السؤال فيصرف إليه، كما لو قيل:
أطلقت؟ فقال: نعم. وإن أتى بالكناية حال الخصومة والغضب، ففيه روايتان:
إحداهما: يقع الطلاق لأن دلالة الحال تغير حكم الأقوال والأفعال، لذلك كان
قول حسان:
فما حملت من ناقة فوق رحلها ... أبر وأوفى ذمة من محمد
مدحا جميلا، وقول النجاشي:
قبيلة لا يغدرون بذمة ... ولا يظلمون الناس حبة خردل
هجاء قبيحا، مع استوائهما في الخبر عن الوفاء بالذمة، لدلالة الحال عليه.
والثانية: لا يقع لأنه ليس بصريح في الطلاق، ولا نوى به الطلاق، فلم يقع به
الطلاق، كحال الرضا. ويتخرج من جواب السؤال مثل ذلك، ويحتمل التفريق بين
الكنايات، فيما كثر استعماله منها في غير الطلاق، كقوله: اذهبي، واخرجي،
وروحي، لا يقع بغير نية بحال؛ لأنه أتى بما جرت العادة باستعماله بغير
الطلاق كثيرا، فلم يكن طلاقا كحال الرضا، وما ندر استعماله، كقوله: اعتدي،
وحبلك على
(3/115)
غاربك، وأنت بائن، وبتة، إذا أتى في حال
الغضب، أو سؤال الطلاق، كان طلاقا، لدلالة استعماله المخالف لعادته في خصوص
هذه الحال على إرادة الفراق. فأما إن قصد بالكناية غير الطلاق، لم يقع على
كل حال؛ لأنه لو قصد ذلك بالصريح لم يقع، فالكناية أولى.
فصل:
والكنايات ثلاثة أقسام: ظاهرة، وخفية، ومختلف فيها.
فالظاهرة ستة ألفاظ: خلية، وبرية، وبائن، وبتة، وبتلة، وأمرك بيدك، وفيها
روايتان:
إحداهما: هي ثلاث وإن نوى واحدة؛ لأن ذلك يروى عن علي وابن عمر وزيد، -
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -، ولم ينقل خلافهم في عصرهم، فكان إجماعا؛ ولأنه
لفظ يقتضي البينونة بالطلاق، فوقع ثلاثا، كما لو طلق ثلاثا.
والثانية: يقع ما نواه. اختاره أبو الخطاب، لحديث ركانة الذي قدمناه؛ ولأنه
أحد نوعي الطلاق، فإذا نوى به واحدة، لم يزد عليها، كالصريح، فإن لم ينو
شيئا وقع ثلاثا. وروى عن حنبل: أنه يقع به واحدة بائنة؛ لأنه لفظ اقتضى
البينونة دون العدد، فوقعت واحدة بائنة كالخلع.
فأما الخفية، فنحو اخرجي، واذهبي، وذوقي، وتجرعي، وأغناك الله، لِقَوْلِهِ
تَعَالَى: {وَإِنْ يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللَّهُ كُلا مِنْ سَعَتِهِ}
[النساء: 130] وأشباه هذا. فهذا يقع به ما نواه؛ لأنه محتمل له. وإن لم ينو
شيئا، وقعت واحدة؛ لأنه اليقين.
وأما المختلف فيها، فالحقي بأهلك، وحبلك على غاربك، وتزوجي من شئت، واعتدي،
وغطي شعرك، وأنت حرة، وقد أعتقتك، ولا سبيل لي عليك، وأنت علي حرج، ففيها
روايتان:
إحداهما: هي ظاهرة؛ لأنها في معنى الظاهرة، والأخرى هي خفية؛ لأن «النبي -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لما دخلت عليه ابنة الجون قال: لقد
عذت بعظيم، الحقي بأهلك» متفق عليه.
ولم يكن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ليطلق ثلاثا وقد نهى
أمته عنه، وقد روى أبو هريرة «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - قال
(3/116)
لسودة بنت زمعة: اعتدي، فجعلها طلقة.» متفق
عليه. وفي معنى هذه اللفظات: استبرئي رحمك، وحللت للأزواج، وتقنعي، ولا
سلطان لي عليك، فيخرج فيها وجهان.
فصل:
فإن قال: أنت علي حرام، ففيه ثلاث روايات:
إحداهن: أنها ظهار، نوى الطلاق أو لم ينوه، ذكره الخرقي؛ لأن ذلك يروى عن
عثمان وابن عباس؛ ولأنه صريح في تحريمها فكان ظهارا كقوله: أنت علي كظهر
أمي.
والثانية: هو كناية في الطلاق؛ لأنه يروى عن علي وزيد وابن مسعود وأبي
هريرة؛ ولأن الطلاق تحريم، فصحت الكناية عنه بالحرام، كقوله: أنت الحرج.
فإن لم ينو الطلاق، كان ظهارا، فعلى هذه الروية تكون كناية ظاهرة فيها من
الخلاف مثل ما تقدم.
والثالثة: أنه يرجع فيه إلى نيته، إن نوى اليمين كان يمينا؛ لأن ذلك يروى
عن الصديق وعمر وعائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -؛ ولأنه تحريم لامرأة
فكان يمينا، كتحريم الأمة. وإن قال: أنت علي حرام، أعني به الطلاق، ففيه
روايتان:
إحداهما: أنه طلاق، وهي المشهورة؛ لأنه صريح بلفظ الطلاق.
والثانية: هي ظهار؛ لأنه لا يصلح كناية في الطلاق، فلم يصير طلاقا لقوله،
أعني به الطلاق، كقوله: أنت علي كظهر أمي. وإن قال: أنت علي كظهر أمي ينوي
به الطلاق، كان ظهارا، ولم يقع به الطلاق؛ لأنه صريح في الظهار، فلم يكن
كناية في غيره. ولو صرح به فقال: أعني به الطلاق، لم يصر طلاقا؛ لأنه لا
تصلح الكناية به.
وإن قال: أنت علي كالميتة والدم ونوى به الطلاق، فهو طلاق؛ لأنه يشبه
الطلاق، فصح أن يكنى به عنه. وإن نوى الظهار، كان ظهارا؛ لأنه يشبهه. وإن
نوى اليمين، كان يمينا؛ لأنه يشبهها، وإن لم ينو شيئا، ففيه وجهان:
أحدهما: يكون ظاهرا؛ لأن معناه: أنت علي حرام، كالميتة. والآخر يكون يمينا
ولا يكون طلاقا؛ لأنه ليس بصريح، فلا يقع الطلاق به من غير نية.
(3/117)
فصل:
ويجوز للرجل تفويض الطلاق إلى زوجته، لما روت عائشة قالت: «لما أمر رسول
الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بتخيير أزواجه، بدأ بي فقال:
إني لمخبرك خبرا فلا عليك ألا تعجلي حتى تستأمري أبويك، ثم قال: إن الله
تعالى قال: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ
تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا} [الأحزاب: 28] ، حتى بلغ:
{فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنْكُنَّ أَجْرًا عَظِيمًا}
[الأحزاب: 29] . فقلت: في أي هذا أستأمر أبوي؟ فإني أريد الله ورسوله
والدار الآخرة، ثم فعل أزواج النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
مثل ما فعلت» . متفق عليه. وهو على ضربين:
أحدهما: تفويضه بلفظ صريح. فيقول: طلقي نفسك، فلها أن تطلق نفسها واحدة،
ليس لها أكثر منها؛ لأن الأمر المطلق يتناول أقل ما يقع عليه الاسم، كما لو
وكل فيه أجنبيا، إلا أن يجعل إليها أكثر من ذلك بلفظه أو نيته. نص عليه؛
لأنه نوى بكلامه ما يحتمله. والقول قوله في نيته؛ لأنه أعلم بها. ولها أن
تطلق بلفظ الصريح والكناية مع النية لأن الجميع طلاق فيدخل في لفظه. ولها
أن تطلق متى شاءت؛ لأنه توكيل في الطلاق مطلق، فأشبه توكيل الأجنبي. وقال
القاضي: يتقيد بالمجلس قياسا على التخيير.
والثاني: تفويضه إليها بلفظ الكناية. وهو نوعان:
أحدهما: أن يقول: أمرك بيدك، فيكون لها أن تطلق نفسها ما شاءت، ومتى شاءت؛
لأنه نوع توكيل، بلفظ يقتضي العموم في جميع أمرها، فأشبه ما لو قال: طلقي
نفسك ما شئت ومتى شئت، وقد روي عن علي في رجل جعل أمر امرأته بيدها. قال:
هو لها حتى ينكل. وعن أحمد ما يدل على أنه إن نوى واحدة، فهي واحدة؛ لأنه
نوع تخيير فرجع إلى نيته كالتخيير.
والثاني: أن يقول لها: اختاري، فليس لها أن تختار أكثر من واحدة، إلا أن
يجعل إليها أكثر من ذلك بلفظه أو نيته، كما ذكرنا في قوله: طلقي نفسك. وليس
لها أن تختار، إلا عقيب تخييره، قبل أن يقطعا ذلك بالأخذ في كلام غيره، أو
قيام أحدهما عن مجلسه؛ لأن ذلك يروى عن عمر وعثمان وابن مسعود وجابر -
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -،
(3/118)
ولأنه خيار تمليك فكان على الفور، كخيار
القبول. وإن جعل إليها أكثر من ذلك بلفظه، أو نيته، أو قرينة، فهو على ما
جعل إليها؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال لعائشة:
«فلا عليك ألا تعجلي حتى تستأمري أبويك» وللزوج الرجوع فيما فوضه إليها قبل
تطليقها؛ لأنه نوع تفويض، فملك الرجوع فيه، كتوكيل الأجنبي. وإن وطئها، كان
رجوعا، لدلالته على رغبته فيها، ورجوعه عما جعل إليها.
فصل:
ولفظة الخيار، وأمرك بيدك، كناية في حق الزوج؛ لأنه ليس بصريح في إرادة
الطلاق، فلم ينصرف إليه بغير نية. وإن نوى به إيقاع الطلاق في الحال، وقع؛
لأنه يصلح كناية عن الطلاق، فأشبه سائر كناياته. وإن نوى به التفويض، فطلقت
نفسها بلفظ صريح، وقع من غير نية. وإن لم تختر شيئا، لم يقع بها شيء. وكذلك
إن اختارت زوجها؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خير
أزواجه فاخترنه، فلم يكن طلاقا. قالت عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -:
«خيرنا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فلم يكن طلاقا» .
ولأنه تفويض للطلاق إليها، فلم يقع به بمجرده طلاق، كقوله: طلقي نفسك. وإن
قالت: قبلت، فليس بشيء؛ لأن ذلك ينصرف إلى قبول التفويض، فهو كقبول
التوكيل. وإن قالت: اخترت نفسي، أو أهلي، أو أبوي، أو الأزواج، أو ألا تدخل
علي، ونحو هذا مما يحتمل إرادة الطلاق، فهو كناية يفتقر إلى النية؛ لأنه
ليس بصريح، فاعتبرت النية فيه، كالكنايات. فإن نوت به الطلاق، كان طلاقا،
وإلا فلا. ويقع به واحدة إلا أن ينوي الثلاث، إذا جعل إليها ثلاثا. وإن
ملكها ثلاث تطليقات بلفظه، أو بنيته، فطلقت ثلاثا، وقع ثلاثا، وإن طلقت أقل
منها، وقع؛ لأن من ملك ثلاثا، ملك واحدة كالزوج. وإن قال: اختاري فاختارت
نفسها، ونويا ثلاثا، وقع الثلاث. وإن نوى أحدهما طلقة، والآخر أكثر منها،
وقعت طلقة؛ لأن الطلاق يفتقر إلى تمليك الزوج وإيقاع المرأة، فالزائد لم
يوجد فيه إلا أحدهما، فلم يقع.
فصل:
وإن قال لزوجته: وهبتك لنفسك، أو لأهلك، فهو كناية، وإن نوى به الإيقاع،
وقع، وإن لم ينو الإيقاع في الحال، فهو كناية في حقهما يفتقر إلى قبولهم.
والنية من الزوج ومنهم؛ لأنه ليس بصريح. فإن نويا الطلاق دون العدد، وقعت
واحدة، يملك
(3/119)
الرجعة، وإن نويا جميعا عددا، وقع. وإن نوى
أحدهما أكثر من الآخر، وقع الأقل، لاتفاقهما عليه. وإن ردوها، لم يقع شيء؛
لأنه تمليك للبضع فافتقر إلى القبول، كقوله: اختاري. وإن باعها لغيره، لم
يقع به طلاق، وإن نوى؛ لأنه لا يتضمن معنى الطلاق، لكونه معاوضة، والطلاق
مجرد إسقاط.
فصل:
ويصح تفويض الطلاق إلى غير الزوجة؛ لأنه إزالة ملك، فصح التوكيل فيه،
كالعتق. فإن قال لرجل: طلق زوجتي، أو أمرها بيدك، فالحكم فيها كالحكم في
جعل ذلك إلى الزوجة على ما مضى. فإن وكل اثنين، لم يملك أحدهما طلاقها
منفردا، وإن جعل إليهما طلاقا ثلاثا، فطلقها أحدهما ثلاثا، والآخر واحدة،
وقعت واحدة، لاتفاقهما عليها. ولو لم يبق من طلاقها إلا واحدة، فطلقها
الوكيل ثلاثا، وقعت الواحدة؛ لأن المحل لا يتسع لأكثر من هذا.
فصل:
لا يقع الطلاق بغير اللفظ إلا في موضعين:
أحدهما: الأخرس: إن أشار بالطلاق وقع طلاقه؛ لأنه يحتاج إلى الطلاق، فقامت
إشارته فيه مقام نطق غيره، كالنكاح. ويقع في العدد ما أشار إليه؛ لأن
إشارته كلفظ غيره. وأما غير الأخرس، فلا يقع الطلاق بإشارته؛ لأنه لا ضرورة
به إليها، فلم يصح منه بها، كالنكاح.
الثاني: إذا كتب طلاق زوجته ونواه، وقع؛ لأنه حروف يفهم منها صريح الطلاق،
أشبه النطق. وإن كتب صريح الطلاق من غير نية، ففيه روايتان:
إحداهما: يقع لذلك.
والثانية: لا يقع؛ لأن الكناية تحتمل الطلاق وامتحان الخط وغيره، فلم تطلق
بمجردها، كالكنايات. وإن قصد بالكناية امتحان الخط أو غير الطلاق، لم يقع؛
لأنه لو قصد بالنطق غير الطلاق، لم يقع. فالكناية أولى. وإن قصد غم أهله،
فظاهر كلام أحمد أنه يقع؛ لأن ذلك لا ينافي الوقوع، فيغم أهله بوقوع الطلاق
بهم. وعنه: فيمن قصد تجويد الخط أنه يقع طلاقه؛ لأنه يتنافى تجويد الخط
وإيقاع الطلاق. وإن ادعى إرادة ما ينفي وقوع الطلاق، دين. وهل يقبل في
الحكم؟ يخرج على روايتين. وإن كتبه بشيء لا يتبين، ككتابته بإصبعه على
وسادة، أو في الهواء، فظاهر كلام أحمد: أنه لا يقع؛ لأن الكتابة بما لا
يتبين كالهمس بلسانه بما لا يسمع. وقال أبو حفص: يقع،
(3/120)
لأنه كتب حروف الطلاق، أشبه كتابته بما
يبين.
[باب ما يختلف به عدد الطلاق]
إذا قال لزوجته: أنت طالق ثلاثا، فهي ثلاث وإن نوى واحدة؛ لأن لفظه نص في
الثلاث لا يحتمل غيرها، والنية إنما تصرف اللفظ إلى بعض محتملاته. فإن قال:
أنت طالق واحدة، فهي واحدة وإن نوى ثلاثا؛ لأن لفظه لا يحتمل أكثر منها،
وكذلك إن قال: أنت واحدة. وإن قال: أنت طالق ولم ينو عددا فهي واحدة. وإن
نوى ثلاثا أو اثنتين: ففيه روايتان:
إحداهما: لا يقع إلا واحدة؛ لأن لفظه لا يتضمن عددا، ولا بينونة، فلم يقع
به ثلاث، كالتي قبلها.
والثانية: يقع به ما نواه؛ لأنه نوى بلفظه ما يحتمله، بدليل أنه يصح تفسيره
به، فأشبه الكناية. وإن قال: أنت طالق طلاقا، أو الطلاق، وقع ما نواه؛ لأنه
صرح بالمصدر، وهو يقع على القليل والكثير. وإن أطلق، وقع بقوله: أنت طالق
طلاقا، واحدة؛ لأنه اليقين. وفي قوله: طالق الطلاق، روايتان:
إحداهما: تطلق ثلاثا؛ لأن الألف واللام للاستغراق.
والثانية: تقع واحدة؛ لأن الألف واللام اشتهر استعمالها في الطلاق لغير
الاستغراق، كقوله: «أبغض الحلال إلى الله الطلاق» . وإن قال: فارقتك، لزمه
الطلاق، ومن أكره على الطلاق، وكذلك في غيره من الأجناس، كقوله: «اغسليه
بالماء» و «عليك بالصعيد» وتيمم بالتراب فيجب حمله على اليقين. وهكذا إن
قال: أنت الطلاق، أو الطلاق يلزمني، أو لازم لي، أو علي الطلاق، أو أنت علي
حرام أعني به الطلاق، فحكم به على ما ذكرنا. وقد نص أحمد فيمن قال: أنت علي
حرام، أعني به الطلاق، أنه ثلاث. ومن قال: أعني به طلاقا، فهي واحدة.
فصل:
فإن قال: أنت طالق كل الطلاق، أو جميعه، أو أكثره، أو منتهاه، طلقت ثلاثا؛
لأن ذلك هو الطلاق الثلاث. وإن قال: أنت طالق كعدد الماء أو الريح، أو
التراب، أو كألف، طلقت ثلاثا؛ لأنه يقتضي العدد. فإن قال: أنت طالق طلقة
صعوبتها كألف،
(3/121)
قبل لأنه يحتمل ما قاله. وإن قال: أنت طالق
ملء الدنيا، أو أشد الطلاق، أو أغلظه، أو أطوله أو أعرضه، طلقت واحدة؛ لأن
ذلك لا يقتضي عددا، والطلقة الواحدة توصف بكونها ملء الدنيا، ذكرها وإنها
أشد الطلاق عليها، لضررها به، فلم يقع الزائد بالشك. فإن نوى ثلاثا وقعت؛
لأن اللفظ يحتملها.
فصل:
وإن قال: أنت طالق من واحدة إلى ثلاث، طلقت طلقتين؛ لأن ما بعد الغاية لا
يدخل فيها بمقتضى اللفظ، وإن احتمل دخوله، لم نوقعه بالشك. وعنه: تطلق
ثلاثا؛ لأن ما بعد "إلى" قد يدخل مع ما قبلها، كقوله: {وَأَيْدِيَكُمْ
إِلَى الْمَرَافِقِ} [المائدة: 6] .
فصل:
وإن قال: أنت طالق طلقة في طلقتين ونوى الثلاث، وقع؛ لأن (في) تستعمل في
بمعنى (مع) كقوله تعالى: {فَادْخُلِي فِي عِبَادِي} [الفجر: 29] وإن نوى
واحدة، لم يقع أكثر منها؛ لأنه إنما أوقع واحدة. وإن أطلق ولا يعرف الحساب،
وقعت واحدة، فتطلق بقوله: أنت طالق، ولا يقع بقوله: في ثنتين - شيء؛ لأنه
لا يعرف مقتضاه، ويحتمل أنه إن كان في عرفهم استعمال ذلك للثلاث، طلقت
ثلاثا؛ لأن الظاهر إرادة ما تعارفوه. فإن نوى موجبه في الحساب، احتمل أن
تكون نيته كعدمها. قاله القاضي. واحتمل أن تطلق طلقتين. وهذا قول ابن حامد،
ووجه القولين ما ذكرنا فيما إذا نوى العجمي بلفظ الطلاق موجبه عند العرب،
فإن كان يعرف الحساب، وقع طلقتان؛ لأن ذلك موجبه عندهم. وإن لم ينو فقال
أبو بكر: يقع طلقتان؛ لأنه موضوعه عندهم، ويحتمل أن تقع واحدة، لما ذكرنا
في غير الحاسب.
فصل:
فإن قال: أنت طالق طلقة، بل طلقتين، وقع طلقتان. نص عليه؛ لأن ما لفظ به
بعد الإضراب يدخل فيه ما لفظ قبله، فلم يلزمه أكثر منه. كما لو قال: له علي
درهم، بل درهمان. وإن قال: أنت طالق طلقة، بل طلقة، طلقت واحدة، كما لو
قال: له علي درهم، بل درهم. وهكذا إن قال: أنت طالق، بل أنت طالق. نص عليه.
ويحتمل أن يقع طلقتان. وإن نوى به طلقتين، وقع طلقتان؛ لأنه قصد إيقاع
طلقتين بلفظين. وإن قال: أنت طالق، بل هذه الأخرى، طلقتا معا؛ لأنه أوقعه
بكل واحدة
(3/122)
منهما، فأشبه ما لو قال: له علي هذا
الدرهم، بل هذا. ولو قال: أنت طالق واحدة بل هذه ثلاثا، طلقت الأولى واحدة،
والثانية ثلاثا. وإن قال: أنت طالق هكذا، وأشار بأصابعه الثلاث، طلقت
ثلاثا؛ لأن التفسير يحصل بالإشارة، بدليل قول النبي - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الشهر هكذا وهكذا وهكذا» فإن قال: أردت بعدد
المقبوضتين، قبل منه؛ لأنه يحتمله.
فصل:
وإذا طلقها جزءا من طلقة، طلقت واحدة؛ لأن ذكر بعض ما لا يتبعض، كذكر
جميعه، كما لو قال: نصفك طالق. وإن قال: أنت طالق نصفي طلقة، طلقت طلقة؛
لأن ذلك طلقة. وإن قال: ثلاثة أنصاف طلقة. طلقت طلقتين؛ لأنه طلقة ونصف،
فيكمل النصف بالسراية، فتصير طلقتين. وإن قال نصف طلقتين، طلقت واحدة؛ لأن
نصف الطلقتين طلقة. وإن قال: أدرت من كل واحدة جزءا، طلقت طلقتين؛ لأنه أقر
على نفسه بما هو أغلظ. وإن قال نصفي طلقتين، وقعت طلقتان؛ لأن نصفي الشيء
كله. وإن قال: ثلاثة أنصاف طلقتين، طلقت ثلاثا؛ لأن نصف الطلقتين طلقة، وقد
كرره ثلاثا، ويحتمل أن يقطع طلقتان، ويكون معناه: ثلاثة أنصاف من طلقتين.
وإن قال: أنت طالق نصف طلقة، ثلث طلقة، سدس طلقة، أو نصف وثلث وسدس طلقة،
طلقت طلقة؛ لأن هذه أجزاء طلقة. وإن قال: نصف طلقة، وثلث طلقة، وسدس طلقة،
طلقت ثلاثا؛ لأن عطف جزء الطلقة على جزء آخر يدل على المغايرة، فيقع جزء من
كل طلقة، ثم يكمل بالسراية، وإن قال: أنت نصف طالق، طلقت واحدة، كما لو
قال: نصفك طالق. وإن قال: أنت نصف طلقة، طلقت واحدة، كما لو قال: أنت
الطلاق.
فصل:
فإن قال لأربع نسائه: أوقعت بينكن، أو عليكن طلقة، طلقت كل واحدة طلقة؛ لأن
لكل واحدة ربع الطلقة، ثم تكمل. فإن قال: طلقتين، فكذلك عن أبي الخطاب؛
لأنه إذا قسم لم تزد كل واحدة على طلقة، وكذلك إن أوقع بينهن ثلاثا أو
أربعا، وإن أوقع بينهن خمسا، طلقت كل واحدة طلقتين؛ لأن لكل واحدة طلقة
وربعا، فيكمل الربع طلقة. وروى الكوسج عن أحمد إذا قال: أوقعت بينكن ثلاث
طلقات: ما أرى إلا قد بنَّ منه، فظاهره أنه قد أوقع بكل واحدة ثلاثا؛ لأن
نصيب كل واحدة من كل طلقة
(3/123)
ربع، ثم يكمل بالسراية. وهذا قول أبي بكر
والقاضي. وعلى هذا يتفرع ما أشبهه.
فصل:
فإن قال: أنت طالق طلقة لا تقع عليك، أو لا ينقص به عدد طلاقك، أو لا شيء
أو ليس بشيء، طلقت؛ لأنه أوقع الطلاق، ثم وصفه بما لا يتصف به، فلغت الصفة،
وبقي الطلاق بحاله. وإن قال: أنت طالق أو لا؟ لم تطلق؛ لأنه لم يوقعه وإنما
استفهم عنه، فلم يقع، والله أعلم.
[باب ما يختلف به حكم المدخول بها وغيرها]
إذا قال: أنت طالق، أنت طالق، لغير مدخول بها، طلقت واحدة؛ لأنها بانت
بالأولى، فلم يقع بها ما بعدها؛ لأنه أوقعه على بائن. وكذلك كل طلاق يترتب
في الوقوع، كقوله: أنت طالق ثم طالق، أو طالق فطالق، أو طالق بل طالق
وطالق، أو طالق طلقة فطلقة، أو طلقة قبل طلقة، أو بعد طلقة، أو بعدها طلقة،
لم يقع إلا واحدة، كذلك. وإن قال: أنت طالق طلقتين، طلقت طلقتين؛ لأنه
أوقعهما معا في محل قابل لهما. ولو قال: أنت طالق طلقة معها طلقة، طلقت
طلقتين؛ لأن لفظه يقتضي وقوعهما معا. وكذلك لو قال: أنت طالق وطالق، طلقت
طلقتين؛ لأن الواو تقتضي الجمع دون الترتيب، فأشبهت ما قبلها، فإن قال: أنت
طالق طلقة قبلها طلقة، فكذلك في قول أبي بكر؛ لأنه تعذر وقوع الثانية قبل
الأولى، فوقعت معها. وقال القاضي: لا يقع إلا طلقة؛ لأنه أوقعهما مرتبتين،
فتقع الأولى وتلغو الثانية، كقوله: طلقة قبل طلقة. ومتى قال شيئا من ذلك
لمدخول بها، طلقت طلقتين؛ لأنها لا تبين بالأولى. ولو قال لها: إن قمت،
فأنت طالق وطالق وطالق، أو أنت طالق وطالق وطالق إن قمت، أو قال: إن قمت
فأنت طالق، إن قمت فأنت طالق، إن قمت فأنت طالق، فقامت، طلقت ثلاثا، مدخولا
بها أو غير مدخول بها؛ لأنه لا ترتيب فيه. وإن قال: إن قمت فأنت طالق، ثم
طالق، ثم طالق، فقامت، طلقت واحدة إن كانت غير مدخول بها، وثلاثا إن كان
دخل بها.
فصل:
وإذا قال لمدخول بها: أنت طالق طلقة قبلها طلقة، وقال: أردت أنني طلقتها في
نكاح آخر، أو طلقها زوج قبلي، دين. وهل يقبل في الحكم؟ فيه ثلاثة أوجه:
أحدها: يقبل؛ لأنه يحتمل أن يريد ذلك.
والثاني: لا يقبل لأنه يخالف الظاهر.
(3/124)
والثالث: إن كان وجد، قبل؛ لأن احتمال
إرادة ذلك شائع، ولا يقبل إن لم يكن وجد؛ لأنه كذب. وإن قال: بعدها طلقة،
وقال: أردت طلقة أوقعها فيما بعد، دين. وهل يقبل الحكم؟ على روايتين. وإن
قال: أردت بقولي: أنت طالق أنت طالق التأكيد بالثانية، قبل منه؛ لأنه محتمل
لما قاله. وإن أطلق، طلقت طلقتين؛ لأنه اللفظ الثاني كالأول، فيقتضي من
الوقوع ما اقتضاه الأول، وإن قال: أنت طالق طالق، فهي واحدة؛ لأن اللفظ
الثاني لا يصلح وحده للاستئناف، فينصرف إلى التأكيد، كقول النبي - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «فنكاحها باطل باطل» . وإن قصد بالثاني
الإيقاع، طلقت طلقتين، ويقدر له ما يتم الكلام به. وإن قال: أنت طالق وطالق
وطالق، فهي ثلاث. فإن قال: أردت بالثانية التوكيد، دين، ولم يقبل في الحكم؛
لأنه غاير بينهما بحرف. وإن أراد بالثالثة التوكيد، قبل في الحكم؛ لأنها
مثل الثانية في لفظها، وكذلك إذا قال: أنت طالق، فطالق، فطالق، أو طالق ثم
طالق، ثم طالق. وإن قال: أنت طالق وطالق، فطالق، أو طلق فطالق ثم طالق،
وقال: أردت التوكيد، لم يقبل؛ لأنه غاير بين الحروف. وإن غاير بين الألفاظ
فقال: أنت مطلقة، أنت مسرحة، أنت مفارقة، وقال: أردت بالثانية والثالثة
التوكيد، قبل؛ لأنه لم يغاير بين الحروف العاملة في الكلام، بخلاف التي
قبلها.
[باب الاستثناء في الطلاق]
يصح الاستثناء في الطلاق؛ لأنه لغة العرب، ونزل به القرآن. وقال أبو بكر:
لا يصح في عدد الطلقات؛ لأنه لا سبيل إلى رفع الواقع منها، والمذهب الأول؛
لأنه استثناء في الطلاق، فجاز، كما في عدد المطلقات، وليس الاستثناء رفعا
لواقع، إذ لو كان كذلك، لم يصح في الإقرار، ولا في عدد المطلقات. وإنما
يمنع دخول المستثنى، من الدخول في المستثنى منه، ولا يصح استثناء الكل، ولا
الأكثر. وفي استثناء النصف وجهان، لما نذكره في الإقرار. فإذا قال: أنت
طالق ثلاثا، إلا ثلاثا، أو إلا طلقتين، طلقت ثلاثا. وإن قال: أنت طالق
ثلاثا إلا طلقة وطلقتين، أو إلا طلقة وطلقة، ففيه وجهان:
أحدهما: لا يصح الاستثناء؛ لأن العطف بالواو، يجعل الجملتين جملة واحدة،
فيكون مستثنيا للأكثر، أو الكل.
(3/125)
والثاني: يصح؛ لأن الاستثناء الأول يمكن
تصحيحه، فلا يبطل ببطلان غيره. وإن قال: أنت طالق طلقتين وطلقة إلا طلقة،
ففيه وجهان:
أحدهما: يصح الاستثناء لما ذكرنا.
والثاني: لا يصح؛ لأن الاستثناء يعود إلى ما يليه، فيصير مستثنيا للكل؛
ولأن تصحيحه يجعل المستثنى والمستثنى منه لغوا. وإن قال: أنت طالق وطالق
وطالق إلا طلقة، أو طالق طلقتين ونصفا إلا طلقة، أو إلا نصف طلقة، فكذلك
لما ذكرنا. ولو كان العطف بغير الواو، لغا الاستثناء وجها واحدا. وإن قال:
أنت طالق خمسا إلا طلقتين، لم يصح؛ لأنه إن عاد إلى الخمس، بقي بعده ثلاث.
وإن عاد إلى الثلاث، لم يصح؛ لأنه استثنى الأكثر، وإن قال: إلا طلقة ففيه
وجهان:
أحدهما: لا يصح؛ لأنه استثناء واحدة من خمس، فبقي أربع.
والثاني: يصح، ذكره القاضي، فيقع طلقتان؛ لأن الاستثناء يعود إلى ما ملكه
من الطلقات دون ما زاد. ولا يصح الاستثناء من الاستثناء في الطلاق إلا في
مسألة واحدة، وهي قوله: أنت طالق ثلاثا إلا اثنتين، إلا واحدة، في أحد
الوجهين، بناء على استثناء النصف. وإن قال: أنت طالق ثلاثا إلا ثلاثا إلا
واحدة، لم يصح، لأن الاستثناء الأول باطل، فلا يصح الاستثناء منه، ويحتمل
أن يعود استثناء الواحدة إلى أول الكلام، لتعذر عوده إلى ما يليه، فيقع
طلقتان.
فصل:
وإن قال: أنت طالق ثلاثا، واستثنى بقلبه إلا واحدة، طلقت ثلاثا؛ لأنه يسقط
ما يقتضيه نصفه بالنية، فلم يصح. وإن قال لنسائه: أربعتكن طوالق، واستثنى
بقلبه إلا فلانة، لم يصح كذلك. وإن قال: نسائي طوالق، ونوى إلا فلانة، صح،
ولم تطلق لأنه لم يسقط اللفظ، وإنما يستعمل العموم في الخصوص، وذلك شائع.
وإذا ادعى ذلك دين. وهل يقبل في الحكم؟ على روايتين.
[باب الشروط في الطلاق]
يصح تعليق الطلاق بشرط، كدخول الدار، ومجيء زيد، ودخول سنة. فإن علقه بشرط،
تعلق به. فمتى وجد الشرط، وقع. وإن لم يوجد، لم يقع؛ لأنه إزالة ملك بني
على التغليب والسراية، أشبه العتق. ولو قال: عجلت ما علقته، لم تطلق؛ لأنه
تعلق بالشرط فلم يتغير. فإن قال: أردت الطلاق في الحال، وإنما سبق لساني
إلى الشرط، طلقت في الحال؛ لأنه أقر على نفسه بما يوجب التغليظ من غير
تهمة. وإن قال: أنت
(3/126)
طالق، ثم قال: أردت إذا دخلت الدار، دين.
وهل يقبل في الحكم؟ يخرج على روايتين.
فصل:
وأدوات الشرط المستعملة في الطلاق والعتاق ستة: إن، ومن، وإذا، ومتى، وأي،
وكلما، وليس فيها ما يقتضي التكرار إلا (كلما) فإذا قال: إن قمت، أو إذا
قمت، أو متى قمت، أو أي وقت قمت، أو من قام منكن، فهي طالق، فقامت، طلقت.
وإن تكرر القيام، لم يتكرر الطلاق؛ لأن اللفظ لا يقتضي التكرار، وإن قال:
كلما قمت، فأنت طالق، فقامت - طلقت. وإن تكرر القيام، تكرر الطلاق؛ لأن
اللفظ يقتضي التكرار. وقال أبو بكر: في (متى) ما يقتضي تكرارها؛ لأنها
تستعمل للتكرار. قال الشاعر:
متى تأته تعشو إلى ضوء ناره ... تجد خير نار عندها خير موقد
والصحيح: أنها لا تقتضيه؛ لأنها اسم زمان، فأشبهت إذا، وكل هذه الأدوات على
التراخي إذا خلت من حرف "لم"، فإن صحبتها "لم" كانت "إن" على التراخي. و
(إذا) فيها وجهان:
أحدهما: هي على الفور؛ لأنها اسم زمان، فأشبهت (متى) .
والثاني: هي على التراخي؛ لأنها أخلصت للشرط، فهي بمعنى (إن) وإن احتملت
الأمرين، لم يقع الطلاق بالشك. وسائر الأدوات على الفور؛ لأنها تقتضيه.
فإذا قال: إن لم أطلقك، فأنت طالق، ولم ينو وقتا بعينه، ولا دلت عليه
قرينة، لم يقع الطلاق إلا عند قربه منه، وذلك في آخر جزء من حياة أحدهما.
وإن قال: متى لم أطلقك، أو أي وقت لم أطلقك، فأنت طالق، أو من لم أطلقها
منكن، فهي طالق، فمضى زمن يمكن طلاقها ولم يطلقها، طلقت. وإن قال: إذا لم
أطلقك، فأنت طالق فهل تطلق قي الحال، أو في آخر حياة أحدهما؟ على وجهين.
وإن قال: كلما لم أطلقك، فأنت طالق، فمضى زمن يمكن طلاقها ثلاثا، ولم
يطلقها، طلقت ثلاثا؛ لأن معناه: كلما سكت عن طلاقك، فأنت طالق، وقد سكت
ثلاث سكتات في ثلاثة أوقات.
فصل:
وإن قال: إن دخلت الدار، أنت طالق، لم تطلق حتى تدخل، كما لو قال: أنت طالق
إن دخلت الدار. ويحتمل أن يقع في الحال؛ لأن جواب الشرط إذا تأخر عنه، لم
يكن إلا بالفاء أو بـ "إذا"، وإن قال: إن دخلت الدار وأنت طالق، طلقت في
الحال؛ لأن الواو ليست جوابا للشرط. فإن قال: أردت بها الجزاء، أو أردت أن
أجعلهما شرطين لشيء، ثم أمسكت، دين؛ لأنه محتمل لما قاله. وهل يقبل في
الحكم؟ يخرج على
(3/127)
روايتين. فإن قال: أنت طالق وإن دخلت
الدار، طلقت؛ لأنه معناه: ولو دخلت، كقوله - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ
وَالسَّلَامُ -: «من قال لا إله إلا الله دخل الجنة وإن زنى وإن سرق» . وإن
قال: أنت طالق لو دخلت الدار، طلقت؛ لأن "لو" تستعمل بعد الإثبات لغير
المنع، كقوله تعالى: {وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ}
[الواقعة: 76] . وإن قال: أردت الشرط، قُبِلَ؛ لأنه محتمل. وإن قال: أنت
طالق أن دخلت بفتح الهمزة، طلقت عند أبي بكر؛ لأن (أن) للتعليل لا للشرط،
كقوله تعالى: {يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا} [الحجرات: 17] . وقال
القاضي: قياس قول أحمد أنه إن كان نحويا، وقع طلاقه لذلك، وإن كان عاميا،
فهي للشرط؛ لأن العامي لا يريد بها إلا الشرط، فأجرى عليه حكمه. وحكي عن
الخلال: أن النحوي إذا لم يكن له نية، فهو كالعامي.
فصل:
فإن قال: أنت طالق إن شربت، إذا أكلت أو متى أكلت، لم تطلق حتى تشرب بعد
الأكل؛ لأن إدخال الشرط على الشرط يقتضي تقديم المؤخر. وإن قال: أنت طالق
إن شربت، إن أكلت، فكذلك، لما ذكرناه. وإن قال: أنت طالق إن شربت فأكلت، أو
إن شربت ثم أكلت، لم تطلق حتى تأكل بعد الشرب؛ لأنهما حرفا ترتيب. وإن قال
أنت طالق إن شربت وأكلت، طلقت بوجودهما على أي صفة؛ لأن الواو للجمع، ولا
تقتضي ترتيبا، ولا تطلق بوجود أحدهما؛ لأنها للجمع. وإن قال: أنت طالق إن
أكلت، أو شربت، طلقت بوجود أحدهما؛ لأن (أو) تقتضي تعليق الجزاء على واحد
من المذكورين؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ
عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [البقرة: 184] .
فصل:
إذا قال: إن حضت فأنت طالق، طلقت بأول جزء من الحيض. فإن رأت دما وتبين أنه
ليس بحيض، تبين أن الطلاق لم يقع. فإن قالت: قد حضت فكذبها، قبل قولها بغير
يمين. وعنه: لا يقبل قولها، ويختبرها النساء بإدخال قطنة في الفرج، فإن ظهر
الدم، فهي حائض، وإلا فلا. والمذهب الأول لقول الله تعالى: {وَلا يَحِلُّ
لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ} [البقرة:
228] . فلولا أن قولهن مقبول، ما حرم عليهن كتمانه؛ ولأنه لا يعرف إلا من
جهتها. وإن قال: قد حضتِ فأنكرته، طلقت بإقراره. وإن قال:
(3/128)
إن حضت فضرتك طالق. فقالت: قد حضت، فكذبها
لم تطلق ضرتها؛ لأن قولها يقبل في حقها دون غيرها. وإن قال الزوج: قد حضتِ
فكذبته، طلقت بإقراره. فإن قال: إن حضت فأنت وضرتك طالقتان، فقالت: قد حضت
فصدقها، طلقتا. وإن كذبها، طلقت وحدها، ولم تطلق الضرة وإن صدقها. وإن قال:
إذا حضتما، فأنتما طالقتان، فصدقهما طلقتا. وإن كذبهما، لم تطلق واحدة
منهما؛ لأن طلاق كل واحدة منهما معلق على حيضهما، ولا يقبل قول واحدة منهما
في حق ضرتها. وإن صدق إحداهما وحدها، لم تطلق؛ لأن قول المكذبة غير مقبول
في حقها، وطلقت المكذبة؛ لأنها مقبولة القول في نفسها، وقد صدق الزوج
صاحبتها، فوجد الشرطان في طلاقها فطلقت. وإن قال لأربع نسوة له: إن حضتن،
فأنتن طوالق. فقد علق طلاق كل واحدة منهن بحيض الأربع، فإن قلن: قد حضنا
فصدقهن، طلقن؛ لأنه قد وجد حيضهن بتصديقه، وإن كذبهن، أو كذب ثلاثاً أو
اثنتين، لم تطلق واحدة منهن؛ لأن قول كل واحدة لا يقبل إلا في حق نفسها،
فلم يوجد الشرط.
وإن صدق ثلاثاً، طلقت المكذبة، لما ذكرنا في الاثنتين إذا صدق إحداهما. فإن
قال: كلما حاضت إحداكن، فضرائرها طوالق، فقد جعل حيض كل واحدة شرطاً لطلاق
البواقي. فإن قلن: قد حضنا فصدقهن، طلق ثلاثاً ثلاثاً؛ لأن لكل واحدة ثلاث
ضرائر، فتطلق بحيض كل واحدة طلقة. وإن كذبهن، لم تطلق واحدة منهن.
وإن صدق واحدة منهن، طلقت كل واحدة من ضرائرها طلقة؛ لأن حيضها ثبت
بتصديقه، ولم تطلق المصدقة؛ لأنه ليس لها صاحبة ثبت حيضها. وإن صدق اثنتين.
طلقت كل واحدة منهن طلقة؛ لأن لكل واحدة منهما ضرة مصدقة، وطلقت كل واحدة
من المكذبتين طلقتين؛ لأن لكل واحدة منهما ضرتين مصدقتين. فإن صدق ثلاثاً،
طلقت المكذبة ثلاثاً، وطلقت كل واحدة من المصدقات طلقتين، لما ذكرنا.
فصل:
إذا قال لحائض: إذا حضت، فأنت طالق، لم تطلق حتى تطهر ثم تحيض؛ لأن " إذا "
اسم لزمن مستقبل، فتقتضي فعلاً مستقبلاً. وإن قال لها: إذا طهرت فأنت طالق،
طلقت بانقطاع الدم. نص عليه؛ لأنه ثبت لها أحكام الطهر من وجوب الغسل،
والصلاة، وصحة الصوم.
وذكر أبو بكر قولاً آخر: أنها لا تطلق حتى تغتسل؛ لأن بعض أحكام الحيض
باقية. وإن قال لطاهر: إذا طهرت فأنت طالق، لم تطلق حتى تحيض ثم تطهر، لما
ذكرنا.
وإن قال لها: إذا حضت حيضة فأنت طالق، لم تطلق حتى تحيض، ثم تطهر، نص عليه؛
لأنها لا تحيض حيضة كاملة إلا بذلك.
وإن قال: إن حضت نصف حيضة، فأنت طالق، احتمل أن تطلق إذا مضى نصف عادتها؛
لأن
(3/129)
الأحكام تعلقت بالعادة، واحتمل أنه متى مضت
حيضتها، تبينا وقوع الطلاق في نصفها.
وحكي عن القاضي: أنه يلغو قوله: نصف حيضة، ويتعلق الطلاق بأول الدم. وقيل
عنه: تطلق بمضي سبعة أيام ونصف؛ لأنه نصف أكثر الحيض، يعني - والله أعلم -
أنه ما دام حيضها باقياً لا يحكم بوقوع طلاقها حتى يمضي نصف أكثر الحيض؛
لأن ما قبل ذلك لا يتيقن به مضي نصف الحيضة، فلا يقع الطلاق بالشك، فإن
طهرت بدون ذلك، تبينا وقوع الطلاق، ونصف الحيضة، قلت أو كثرت؛ لأننا تبينا
مضي نصف الحيضة بمضيها كلها فإن قال لزوجتيه: إذا حضتما حيضة واحدة، فأنتما
طالقتان، لغا قوله: حيضة واحدة، لاستحالة ذلك، وصار كقوله: إذا حضتما
فأنتما طالقتان. فإن قال: أردت إذا حاضت كل واحدة منهما حيضة، قبل؛ لأنه
محتمل لما قاله.
فصل:
إذا قال لمن لطلاقها سنة وبدعة - وهي المدخول بها من ذوات الأقراء: - أنت
طالق للسنة وهي في طهر لم يصبها فيه، طلقت في الحال، لوجود الصفة. وإن كانت
حائضاً أو في طهر أصابها فيه، لم تطلق في الحال، لعدم الصفة، فإذا طهرت
الحائض أو حاضت المصابة، ثم طهرت، طلقت لوجود الصفة حينئذ، وإن قال لها:
أنت طالق للبدعة وهي حائض، أو في طهر أصابها فيه، طلقت في الحال.
وإن كانت في طهر لم يصبها فيه، لم تطلق لعدم الصفة، فإذا حاضت أو جامعها،
طلقت. وإن قال لها: أنت طالق للسنة إن كنت الآن ممن يطلق للسنة، وكانت في
زمن السنة، طلقت، لوجود الصفة، وإلا لم تطلق بحال؛ لأنه شرط لوقوعه كونها
الآن ممن يطلق للسنة، ولم يوجد ذلك. وإن قال: أنت طالق طلقة للسنة، وطلقة
للبدعة، طلقت في الحال واحدة. فإذا صارت إلى ضد حالها، طلقت الأخرى. وإن
قال: طلقة للسنة والبدعة، لغا قوله: للسنة وللبدعة، لاستحالة اجتماعهما،
وطلقت في الحال. وإن قال: أنت طالق ثلاثاً للسنة، فعلى قول الخرقي، تطلق
ثلاثاً في طهر لم يصبها فيه؛ لأنه وقت السنة.
وعلى قول أبي بكر، تطلق واحدة في طهر، لم يصيبها فيه، وتطلق الثانية
والثالثة في طهرين في نكاحين إن وجدا؛ لأن السنة تطليقة واحدة، ثم يدعها
حتى تنقضي عدتها.
وإن قال: أنت طالق ثلاثاً، بعضهن للسنة، وبعضهن للبدعة، طلقت طلقتين في
الحال، والثالثة في الحال الأخرى؛ لأن قسط الحال الأولى طلقة ونصف، فكمل،
فصار
(3/130)
طلقتين. وإن قال: أردت في هذه الحال واحدة،
والباقي في الأخرى، قبل قوله؛ لأن البعض يقع على الطلقة الواحدة حقيقة، فلم
تخالف دعواه الظاهر، فقبلت.
فصل:
وإن كان له امرأة صغيرة لا تحيض، أو آيسة، أو حامل، تبين حملها، أو غير
مدخول بها فلا سنة لطلاقها، ولا بدعة. فإذا قال: أنت طالق لا للسنة ولا
للبدعة، طلقت، لوجود الصفة، وإن قال: أنت طالق للسنة، أو للبدعة، أو للسنة
والبدعة، طلقت في الحال؛ لأنه وصفها بصفة لا تتصف بها، فلغت الصفة، ووقع
الطلاق. فإن قال: أردت إيقاعه بها إذا صارت من أهل سنة الطلاق وبدعته، دين.
وهل يقبل في الحكم؟ يخرج على روايتين.
فصل:
إذا قال لمن لطلاقها سنة وبدعة: أنت طالق أحسن الطلاق، وأجمله، وأعدله، وما
أشبه هذا من الصفات الجميلة، طلقت للسنة. وإن قال: أقبح الطلاق، وأسمجه،
وما أشبهه من صفات الذم، طلقت للبدعة.
فإن قال: أردت بالأول طلاق البدعة، وبالثاني طلاق السنة؛ لأنه الأليق بها،
فإن كان أغلظ عليه، قبل قوله؛ لأنه مقر على نفسه، وإن كان أخف عليه، دين.
وهل يقبل في الحكم؟ يخرج على روايتين.
وإن قال: أنت طالق طلاق الحرج، فهو طلاق البدعة؛ لأنه يأثم به. وإن قال:
أنت طالق طلقة حسنة قبيحة، طلقت في الحال على أي صفة كانت؛ لأنه وصف الطلقة
بما لا تتصف به، فلغت الصفة، ووقع الطلاق. وإن قال لها: أنت طالق في كل قرء
طلقة وهي ممن لطلاقها سنة وبدعة، طلقت في كل حيضة طلقة، إلا على قولنا:
الأقراء: الأطهار، فإنه يقع في كل طهر طلقة، وإن كانت ممن لا سنة لطلاقها
ولا بدعة، طلقت في الحال طلقة، ثم إن كانت ممن يتجدد لها أقراء، طلقت في كل
قرء منها طلقة. ويحتمل أن لا تطلق في الحال شيئاً؛ لأن القرء والطهر بين
الحيضتين، وليس ذلك لها.
فصل:
إذا قال لها: إن كنت حاملاً، فأنت طالق، حرم وطؤها. نص عليه؛ لأنه يحتمل أن
تكون حاملاً فيغلب التحريم. وحكى أبو الخطاب رواية أخرى: لا يحرم وطؤها؛
لأن الأصل عدم الحمل، ثم إن ولدت لأقل من ستة أشهر، تبينا وقوع الطلاق؛
لأنها كانت حاملاً. وإن ولدت لأكثر من أربع سنين، لم تطلق؛ لأننا علمنا
أنها لم تكن حاملاً. وإن ولدت فيما بين ستة أشهر وأربع سنين ولم يكن لها من
يطؤها، طلقت؛ لأنها كانت حاملاً. وإن كان لها زوج يطؤها، فولدت لأقل من ستة
أشهر من حين وطء، طلقت؛ لأننا علمنا أنه ليس من الوطء. وإن ولدته لأكثر من
ستة أشهر من وطئه، لم
(3/131)
تطلق؛ لأن الأصل عدم الحمل والطلاق. وإن
قال لها: إن لم تكوني حاملاً فأنت طالق، حرم وطؤها قبل استبرائها؛ لأن
الأصل عدم الحمل. وكل موضع يقع الطلاق في التي قبلها لا يقع هاهنا، وكل
موضع لا يقع ثم وقع هاهنا؛ لأنها ضدها، إلا إذا أتت بولد لأكثر من ستة أشهر
وأقل من أربع سنين، فهل يقع الطلاق هنا؟ فيه وجهان:
أحدهما: تطلق؛ لأن الأصل عدم الحمل قبل الوطء.
والثاني: لا تطلق؛ لأن الأصل بقاء النكاح، ويحصل الاستبراء بحيضة. نص عليه.
لأن براءة الرحم تحصل بحيضة. وذكر القاضي رواية أخرى: أنها تستبرئ بثلاثة
قروء؛ لأنه استبراء حرة، فأشبهت عدتها، والأولى أصح؛ لأن المقصود معرفة
براءتها من الحيض، وهو يحصل بحيضة، وأما عدة الحرة بثلاثة قروء، ففيها نوع
من التعبد، ولذلك يجب مع علمنا ببراءة الرحم، مثل أن يكون زوجها غائب عنها
سنين، وقد حاضت قبل طلاقه حيضات كثيرة، فلا يجوز تعديتها إلى محل لم يرد
الشرع بالتعبد فيه، ولهذا كفى استبراؤها قبل يمينه.
وإن استبرأها قبل عقد اليمين، أجزأ؛ لأن معرفة براءة الرحم تحصل به، وهو
المقصود. ولو قال: إن كنت حاملاً بذكر، فأنت طالق واحدة، وإن كنت حاملاً
بأنثى، فأنت طالق اثنتين، فولدت ذكراً وأنثى، طلقت ثلاثاً.
وإن قال إن كان حملك، أو ما في بطنك ذكراً، فأنت طالق واحدة، وإن كان أنثى،
فأنت طالق اثنتين، فولدت ذكراً وأنثى، لم تطلق؛ لأن الشرط أن يكون جميع
حملها، أو ما في بطنها ذكراً أو أنثى، ولم يوجد.
فصل:
إذا قال: إذا ولدت ولداً فأنت طالق، فولدت ولداً حياً أو ميتاً، ذكراً أو
أنثى، أو خنثى، طلقت؛ لأنه ولد. وإن قال: كلما ولدت ولداً، فأنت طالق،
فولدت ثلاثة دفعة واحدة، طلقت ثلاثاً؛ لأن صفة الثلاث قد وجدت وهي زوجة،
وإن ولدتهم واحداً بعد واحد، من حمل واحد، طلقت بالأول طلقة، وبالثاني
أخرى، وبانت بالثالث، ولم تطلق به، ذكره أبو بكر؛ لأن العدة انقضت بوضعه،
فصادفها الطلاق بائناً، فلم يقع، كما لو قال: إذا مت، فأنت طالق. وقال ابن
حامد: تطلق به الثالثة؛ لأن زمن الوقوع زمن البينونة، ولا تنافي بينهما،
والأول أصح، وعليه التفريع. فلو قال: إن ولدت ذكراً، فأنت طالق واحدة. وإن
ولدت أنثى، فأنت طالق اثنتين، فولدتهما دفعة واحدة، طلقت ثلاثاً. فإن
ولدتهما واحداً بعد واحد، وقع بالأول ما علق عليه، وبانت بالثاني ولم تطلق
به.
فإن أشكل الأول منهما، طلقت واحدة بيقين، ولم تلزمه الثانية بالشك. وقال
القاضي: قياس المذهب أن يقرع بينهما، فمن خرجت قرعته فهو الأول. ولو قال:
إن كان أول ما تلدين ذكراً، فأنت طالق واحدة، وإن كانت أنثى، فأنت طالق
اثنتين، فولدتهما
(3/132)
دفعة واحدة، لم تطلق؛ لأنه لا أول فيهما.
ومتى ادعت الولادة فصدقها، أو ادعى هو ولادتها وأنكرته، طلقت بإقراره. فإن
ادعته المرأة فأنكرها، لم تطلق إلا ببينة؛ لأن هذا يمكن إقامة البينة عليه
بخلاف الحيض.
فصل:
إذا قال لمدخول بها: إذا طلقتك، فأنت طالق، ثم طلقها، طلقت طلقتين، واحدة
بالمباشرة وأخرى بالصفة. فإن قال: أردت أنك تطلقين بما أوقعه من طلاقك
لأجعله شرطاً، دين. وهل يقبل في الحكم؟ على روايتين؛ لأن الظاهر جعله
شرطاً.
وإن وكل من طلقها، فهو كمباشرته؛ لأن فعل الوكيل كفعل الموكل. وإن قال: إذا
طلقتك، فأنت طالق، ثم قال: إن قمت، فأنت طالق، فقامت، طلقت طلقتين، واحدة
بقيامها، وأخرى بالصفة؛ لأن الصفة تطليقة لها، وتعليقه لطلاقها بقيامها إذا
اتصل به القيام، تطليق لها.
وإن قال مبتدئاً: إن قمت فأنت طالق، ثم قال: إذا طلقتك فأنت طالق، فقامت،
طلقت واحدة بقيامها، ولم تطلق الأخرى؛ لأن هذا يقتضي ابتداء إيقاع، ووقوع
الطلاق هاهنا بالقيام، إنما هو وقوع بصفة سابقة لعقد الطلاق شرطاً.
ولو قال: إذا قمت، فأنت طالق، ثم قال: إذا وقع عليك طلاقي، فأنت طالق،
فقامت، طلقت طلقتين،؛ لأن الطلاق الواقع بقيامها طلاقه، فقد وجدت الصفة.
ولو قال: إذا أوقعت عليك الطلاق فأنت طالق، ثم قال: إذا قمت فأنت طالق،
فقامت، طلقت اثنتين؛ لأن قوله: أوقعت عليك الطلاق، كقوله: طلقتك. وقال
القاضي: لا تطلق إلا طلقة بقيامها، ولا تطلق بالصفة؛ لأن ذلك يقتضي
مباشرتها به، لا وقوعه بالصفة. وإن قال: كلما طلقتك فأنت طالق، ثم قال: أنت
طالق، طلقت طلقتين، إحداهما بقوله: أنت طالق، والأخرى بالصفة، ولا تقع
الثالثة؛ لأن الصفة إيقاع الطلاق، ولم يتكرر، فلم يتكرر الطلاق.
وإن قال: كلما وقع عليك طلاقي، فأنت طالق، ثم وقع عليها طلاقه بمباشرة، أو
صفة، طلقت ثلاثاً؛ لأن الثانية طلقة واقعة عليها، فتقع عليها الثالثة. وإن
قال: كلما وقع عليك طلاقي، فأنت طالق قبله ثلاثاً، ثم قال: أنت طالق، فقال
ابن عقيل: تطلق واحدة بالمباشرة، ويلغو ما علق عليها؛ لأنه طلاق في زمن
ماض، فأشبه قوله: أنت طالق أمس. وقال القاضي: تطلق ثلاثاً؛ لأنه وصف المعلق
بصفة يستحيل وصفه بها، فإنه يستحيل وقوعها بالشرط قبله، فلغت صفتها
بالقبلية، وصار كأنه قال: إذا وقع عليك طلاقي، فأنت طالق ثلاثاً، فإن قال
لزوجتيه: كلما طلقت حفصة، فعمرة طالق، وكلما طلقت عمرة فحفصة طالق، ثم طلق
إحداهما، طلقتا جميعاً، إحداهما بالمباشرة، والأخرى بالصفة. فإن كانت
المباشرة به حفصة، لم تزد واحدة منهما على طلقة؛ لأنه ما أحدث في عمرة
طلاقاً، إنما طلقت بالصفة السابقة، وإن كانت المباشرة عمرة،
(3/133)
طلقت أخرى بالصفة الحادثة بعد تعليقه
طلاقها، وإن قال لحفصة: كلما طلقت عمرة، فأنت طالق، وقال لعمرة: كلما طلقت
حفصة، فأنت طالق، ثم طلق عمرة، طلقت كل واحدة واحدة. وإن طلق حفصة طلقة،
طلقت طلقتين، وطلقت عمرة واحدة.
وإن قال لأربع نسائه: أيتكن وقع عليها طلاقي، فضرائرها طوالق، ثم وقع
بإحداهن طلاقه، طلق الجميع ثلاثاً.
فصل:
وإن كان له أربع نساء وعبيد، فقال: كلما طلقت امرأة، فعبد من عبيدي حر،
وكلما طلقت اثنتين، فعبدان حران، وكلما طلقت ثلاثاً، فثلاثة أحرار، وكلما
طلقت أربعاً، فأربعة أحرار، ثم طلق الأربع متفرقات أو متجمعات، فإنه يعتق
من عبيده خمسة عشر، يعتق بطلاق الواحد واحد، وبطلاق الثانية ثلاثة؛ لأنها
واحدة، وهي إلى صاحبتها اثنتان، ويعتق بطلاق الثالثة أربعة؛ لأنها واحدة،
وهي مع صاحبتيها ثلاث، ويعتق بطلاق الرابعة سبعة؛ لأنها واحدة وهي مع
الثالثة اثنتان، وهي مع صواحبها أربع.
وإن شئت، قلت: فيهن أربع صفات، هن أربع، فيعتق لذلك أربعة وهن أربعة، آحاد،
فيعتق بذلك أربعة أخر، وهن اثنتان واثنتان، فيعتق بذلك أربعة أخر، وفيهن
ثلاث، فذلك خمسة عشر، وقيل: يعتق عشرة، بالواحدة واحد، وبالثانية اثنان،
وبالثالثة ثلاثة، وبالرابعة أربعة، والأول أصح؛ لأن الصفة إذا تكررت تكرر
الجزاء، وإن كان في محل واحد، ولذلك لو قال: إن كلمت رجلاً، فأنت طالق، وإن
كلمت أسود، فأنت طالق، وإن كلمت طويلاً فأنت طالق، فكلمت رجلاً أسوداً
طويلاً، طلقت ثلاثاً. ولو قال: كلما أكلت رمانة فأنت طالق، وكلما أكلت نصف
رمانة فأنت طالق، فأكلت رمانة، طلقت ثلاثاً واحدة لكونها رمانة، واثنتان
بأكلها النصفين. ولو قال: إذا ولدت ولداً، فأنت طالق، وإذا ولدت غلاماً،
فأنت طالق. وإذا ولدت أسود، فأنت طالق، فولدت غلاماً أسود، طلقت ثلاثاً.
فصل:
إذا قال لزوجته: إذا حلفت بطلاقك، فأنت طالق، ثم قال: إن خرجت، فأنت طالق،
وإن لم تخرجي، فأنت طالق، أو إن لم يكن هذا القول حقاً، فأنت طالق، طلقت في
الحال؛ لأنه حلف بطلاقها. وإن قال: إن طلعت الشمس، أو قدم الحاج، فأنت
طالق، ففيه وجهان:
أحدهما: لا تطلق حتى تطلع الشمس ويجيء الحاج؛ لأن الحلف ما قصد به المنع من
الشيء، أو الحنث عليه، أو التصديق، وليس في طلوع الشمس، وقدوم الحاج
(3/134)
شيء من هذا، هذا قول القاضي في " المجرد "
وابن عقيل.
والثاني: أنه حلف؛ لأنه تعليق على شرط فكان حلفاً، كما لو قال: إن خرجت
فأنت طالق. هذا قول القاضي في " الجامع " وأبي الخطاب. وإن قال: إذا شئت
فأنت طالق، أو إذا حضت، أو إذا طهرت، فأنت طالق، لم يكن حلفاً، وجهاً
واحداً؛ لأن تعليقه على المشيئة تمليك، وتعليقه على الحيض طلاق بدعة،
وتعليقه على الطهر طلاق سنة.
فإن قال: إذا حلفت بطلاقك، فأنت طالق. ثم أعاده ثانية، طلقت واحدة؛ لأنه
حلف بطلاقها. فإن أعاده ثالثاً، طلقت ثانية. فإن أعاده رابعاً، طلقت
ثلاثاً؛ لأن كل مرة يوجد به صفة طلاق، وتنعقد بها صفة أخرى. ومثله لو قال:
إن كلمتك، فأنت طالق، وكرره أربعاً، طلقت ثلاثاً كذلك.
ولو قال لمدخول بهما: إذا حلفت بطلاقكما فأنتما طالقتان، وكرره أربعاً،
طلقتا ثلاثاً، فإن كانتا غير مدخول بهما، بانتا إذا أعاده مرة ثانية، ولم
يقع بهما بعده طلاق، فإن كانت إحداهما مدخولاً بها، والأخرى غير مدخول بها،
فأعاده مرة، طلقت المدخول بها طلقة رجعية، والأخرى طلقة ثانية.
فإن أعاده ثانياً، لم تطلق واحدة منهما؛ لأن شرط طلاقهما الحلف بطلاقهما
ولم يحلف به؛ لأن غير المدخول بها لا يصح الحلف بطلاقها. وإن قال لمدخول
بهما، لإحداهما: إن حلفت بطلاق ضرتك، فأنت طالق، ثم قال للأخرى: مثل ذلك،
طلقت الأولى، وإن أعاده للأولى، طلقت الأخرى، وكلما أعاده لامرأة طلقت
الأخرى.
وإن قال: كلما حلفت بطلاقك، فضرتك طالق، ثم قال مثل ذلك لضرتها، طلقت، فإن
أعاده للأولى طلقت الضرة، فإن أعاده للثانية، طلقت الأولى، وكلما أعاده
لامرأة، طلقت ضرتها حتى تكمل ثلاثاً. وإن كانت إحداهما غير مدخول بها،
فطلقت مرة، لم تطلق أخرى، ولم تطلق الأخرى بإعادته لها؛ لأنه ليس بحلف
بطلاقها، لكونها بائناً.
فصل:
وإن استعمل الطلاق أو العتاق استعمال القسم، وأجابه بجوابه فقال: أنت طالق،
لأقومن، أو ما قمت، أو لقد قمت، أو إني لقائم، وبر، لم يقع الطلاق؛ لأنه
حلف بر فيه، فلم يحنث، كما لو حلف بالله، وإن حنث، وقع طلاقه. وإن قال: أنت
طالق، لولا أبوك لطلقتك، وكان صادقاً، لم تطلق. وإن كان كاذباً. طلقت.
فصل:
إذا قال: إن كلمتك، فأنت طالق، فاعلمي ذلك، أو فتحققيه، طلقت؛ لأنه كلمها
بعد عقد اليمين، إلا أن يريد بعد انقضاء كلامي هذا ونحوه، وإن زجرها فقال:
تنحي أو اسكتي، حنث؛ لأنه كلام. وإن سمعها تذكره فقال: الكاذب لعنه الله،
حنث؛ لأنه
(3/135)
كلمها. وإن قال: إن بدأتك بالكلام، فأنت
طالق، فقالت: إن بدأتك الكلام، فعبدي حر، انحلت يمينه بيمينها؛ لأنها
كلمته، فلم يكن كلامه لها بعد ذلك بداية، فإن كلمها، انحلت يمينها؛ لأنها
لم تبدأه ما لم يكن لهما نية، وإن قال: إن كلمتما هذين الرجلين، فأنتما
طالقتان، فكلمت كل واحدة واحداً، ففيه وجهان:
أحدهما: يطلقان؛ لأن تكليمهما وجد منهما.
والثاني: لا يطلقان حتى تكلم كل واحدة الرجلين معاً؛ لأنه علق طلاقهما على
فعليهما معاً. ولو قال: إن ركبتما هاتين الدابتين، فأنتما طالقتان، طلقتا
إذا ركبت كل واحدة دابة؛ لأن العرف في ركوب دابتيهما، أن يركب كل واحد
دابته.
ولو قال: أنت طالق إن كلمت زيداً ومحمد مع خالد، لم تطلق حتى تكلم زيداً في
حال يكون محمد مع خالد؛ لأن الجملة حال للجملة الأولى إلا أن يريد بكلامه
الاستئناف، فتطلق بكلام زيد بكل حال، وقال القاضي: يحنث بكلام زيد؛ لأن
الجملة الثانية استئناف، لا تعلق لها بالأولى. وإن قال: من بشرتني بقدوم
أخي، فهي طالق، فأخبره بذلك زوجتاه. وهما صادقتان، طلقت الأولى وحدها؛ لأن
البشارة خبر يحصل به سرور أو غم، وإنما تحصل بالأول، وإن كانتا كاذبتين لم
تطلق واحدة منهما؛ لأنه لا سرور في الكذب.
وإن كانت الأولى كاذبة، والثانية صادقة، طلقت الثانية وحدها لذلك. وإن قال:
من أخبرتني بقدوم أخي فهي طالق، فقال القاضي: هي كالتي قبلها سواء؛ لأن
المراد من الخبر الإعلام، ولا يحصل إلا بالخبر الأول الصدق. ويحتمل أن تطلق
الثانية والكاذبة؛ لأن الخبر يقع على الجميع.
فصل:
إذا قال: أنت طالق إن شئت، أو متى شئت، أو غير ذلك من الحروف، فقالت: قد
شئت طلقت، سواء شاءت على الفور، أو التراخي؛ لأنه تعليق للطلاق على شرط،
فأشبه سائر التعليق. وإن قالت: قد شئت إن شئت، أو إن شاء أبي، لم تطلق وإن
شاء؛ لأنها لم تشأ، إنما علقت مشيئتها بمشيئته، كما لو قالت: قد شئت إذا
طلعت الشمس. ولو قال: أنت طالق إن شاء زيد، فشاء وهو مجنون أو طفل، لم
تطلق؛ لأنه لا مشيئة لهما، وكذلك إن شاء وهو سكران، وخرجه أصحابنا على
روايتين في طلاقه، وإن شاء وهو مميز، طلقت؛ لأن له مشيئة، ولذلك صح اختياره
لأحد أبويه، وخوطب بالاستئذان في العورات الثلاث. وإن كان أخرس فأومأ
بمشيئته، طلقت؛ لأن إشارته كنطق غيره.
وإن كان ناطقاً فخرس فكذلك؛ لأنه من أهل الإشارة، ويحتمل أن لا يحنث؛ لأن
إشارته لا يعتد بها في تلك الحال في الشرع. وإن مات أو جن، لم تطلق؛ لأنه
لم يشأ
(3/136)
وحكي عن أبي بكر: أنها تطلق. وإن قال: أنت
طالق إن شاءت البهيمة، فهو تعليق للطلاق على المستحيل. وإن قال: أنت طالق
لمشيئة أبيك، أو رضاه، طلقت في الحال؛ لأن معناه: ليرضى، أو لكونه شاء، فإن
قال: أردت تعليقه بذلك، قبل منه؛ لأن ذلك يستعمل للشرط في قوله: أنت طالق
للسنة.
فإن قال: أنت طالق إلا أن تشائي، فشاءت في الحال، لم تطلق، وإن لم تشأ،
طلقت؛ لأنه أوقعه عليها، إلا أن ترفعه مشيئتها، فإذا لم يوجد ما يرفعه،
وقع. وإن قال: أنت طالق واحدة، إلا أن تشائي ثلاثاً، فشاءت ثلاثاً، طلقت
ثلاثاً، وإن لم تشأ، أو شاءت دون الثلاث، وقعت واحدة؛ لأن هذا هو السابق
إلى الفهم من ذلك.
وفيه وجه آخر أنها إذا شاءت ثلاثاً، لم تطلق؛ لأنه علق وقوع الواحدة على
عدم مشيئتها الثلاث، ولم يوقع لمشيئتها شيئاً، فأشبه قوله: إلا أن تشائي.
وإن قال: أنت طالق إن شئت وشاء أبوك، فشاء أحدهما منفرداً، لم تطلق؛ لأنه
لم يوجد الشرط.
فصل:
وإن قال: أنت طالق، إن كنت تحبين أن يعذبك الله بالنار، أو قال: إن كنت
تحبين ذلك [بقلبك] ، فقالت: أنا أحب ذلك، ففيه وجهان:
أحدهما: لا تطلق؛ لأنها لا تحب ذلك، وقولها كذب، لا يلتفت إليه.
والثاني: تطلق لأنه لما لم يوقف على ما في القلب، علق على النطق، كالمشيئة.
فصل:
فإن قال: أنت طالق، أو عبدي حر إن شاء الله، طلقت زوجته، وعتق عبده، لما
روي عن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه قال: إذا قال الرجل لزوجته:
أنت طالق إن شاء الله، فهي طالق. ولأنه استثناء يرفع جملة الطلاق حالاً
ومآلاً، فلم يصح، كاستثناء الكل. فإن قال: أنت طالق، إن دخلت الدار إن شاء
الله، ففيه روايتان:
إحداهما: يقع الطلاق لما ذكرنا، والأخرى: لا يقع؛ لأن الطلاق المعلق بشرط
يمين، فيدخل في عموم قول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من
حلف على يمين، فقال: إن شاء الله، فلا حنث عليه» رواه الترمذي وقال: حديث
حسن غريب. وإن قال: أنت طالق، إلا أن يشاء الله، طلقت لما ذكرنا، ولأنه علق
رفع الطلاق على مشيئته لا يوقف عليها، وإن قال: أنت طالق ما لم يشأ الله،
أو إن لم يشأ الله، طلقت؛ لأنه علقه بمستحيل، فإن
(3/137)
وقوع طلاقها إذا لم يشأ الله محال، ويحتمل
أن لا يحنث. وإن قال: أنت طالق لتدخلن الدار إن شاء الله، لم يحنث دخلت
الدار أو لم تدخل؛ لأنها إن دخلت، فقد شاء الله، وإن لم تدخل، فلم يشأ الله
تعالى.
فصل:
لا يصح تعليق الطلاق قبل النكاح، فلو قال لأجنبية: إن دخلت الدار، فأنت
طالق، فتزوجها ودخلت الدار، لم تطلق، لما روي عن النبي - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «لا طلاق ولا عتاق فيما لا يملك ابن آدم وإن
عينها» رواه الدارقطني. وفي لفظ «لا طلاق فيما لا يملك» رواه الترمذي،
وقال: حديث حسن. وروى أبو داود والطيالسي نحوه.
وإن قال: كل امرأة أتزوجها، فهي طالق، وإن تزوجت فلانة فهي طالق، ثم
تزوجها، لم يقع كذلك. قال أبو بكر: لا يختلف قول أبي عبد الله: إن الطلاق
إذا وقع قبل النكاح، لا يقع.
وقال غيره عن أحمد: ما يدل على أن الطلاق يقع؛ لأنه يصح تعليقه على
الإخطار، فصح تعليقه على الملك، كالوصية. والمذهب الأول، لما ذكرنا، ولأن
من لا يقع طلاقه بالمباشرة، لا يصح تعليقه، كالمجنون.
فصل:
إذا علق الطلاق بعد النكاح بوقت، طلقت بأوله؛ لأنه إذا علق بشيء، تعلق
بأوله، كما لو قال: أنت طالق، إذا دخلت الدار، طلقت بدخولها أول جزء منها.
فلو قال: أنت طالق في رمضان، طلقت بغروب شمس شعبان. وإن قال: أنت طالق
اليوم، طلقت في الحال.
وإن قال: أنت طالق غداً، طلقت بطلوع فجره. فإن قال: أردت في آخر الشهر
واليوم والغد، دين وهل يقبل في الحكم؟ يخرج على روايتين. وإن قال: أنت طالق
في أول رمضان، أو في غرته، طلقت في أوله، ولم يقبل قوله: نويت آخره؛ لأنه
لا يحتمله.
وإن قال: أردت بالغرة اليوم الثاني، قبل لأنه محتمل؛ لأن الثلاث الأول من
الشهر، تسمى غرراً. وإن قال: أنت طالق إذا رأيت هلال رمضان، طلقت بأول جزء
منه؛ لأن رؤيته في الشرع عبارة عما يعلم به دخوله، بدليل قول النبي -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته» . فإن
قال: أردت إذا رأيته بعينيك، قبل؛ لأنه فسر اللفظ
(3/138)
بموضوعه، ويتعلق الحكم برؤيتها إياه بعد
الغروب؛ لأن هلال الشهر ما كان في أوله، ويحتمل أن يتعلق برؤيتها إياه قبل
الغروب، وبعده؛ لأنه هلال للشهر يتعلق به وجوب الصوم والفطر. وإن لم تره
حتى أقمر، لم تطلق؛ لأنه ليس بهلال.
واختلف فيما يقمر به، فقيل بعد ثالثة، وقيل باستدارته، وقبل إذا بهر ضوءه.
وإن قال: أنت طالق إلى شهر رمضان، طلقت في أول جزء منه، كقوله: في شهر
رمضان؛ لأنه جعل الشهر غاية للطلاق، ولا غاية لآخره، فوجب أن يجعل غاية
لأوله.
فإن قال: أردت الإيقاع في الحال، طلقت؛ لأنه يقر على نفسه بما هو أغلظ. وإن
قال: أنت طالق في آخر أول الشهر، طلقت في آخر أول يوم منه؛ لأنه أوله. وإن
قال: في أول آخره، طلقت بطلوع فجر آخر يوم منه؛ لأنه آخره وقال أبو بكر:
تطلق في المسألتين. بغروب شمس اليوم الخامس عشر منه؛ لأنه آخر نصف الشهر
الأول وأول نصفه الآخر.
فصل:
إذا قال: إذا مضت سنة، فأنت طالق، اعتبر مضي سنة بالأهلة؛ لأنها السنة
المعهودة في الشرع. فإن قاله في أثناء شهر، كمل ذلك الشهر بالعدد، ثلاثين
يوماً، وأحد عشر شهراً بالأهلة. وإن قال: أردت سنة بالعدد، وهي ثلاثمائة
وستون يوماً، أو شمسية وهي ثلاثمائة وخمس وستون يوماً، قبل؛ لأنه سنة
حقيقية. وإن قال: إذا مضت السنة، فأنت طالق، طلقت بانسلاخ ذي الحجة؛ لأن
التعريف " بالألف واللام " يقتضي ذلك. فإن قال: أردت سنة كاملة، دين. وهل
يقبل في الحكم؟ يخرج على روايتين. وإن قال: أنت طالق في كل سنة طلقة، طلقت
في الحال. ثم إذا مضت سنة كاملة، طلقت أخرى، وكذلك الثالثة.
وقال أبو الخطاب: تطلق الثانية بدخول المحرم، وكذلك الثالثة. فإن قال: أردت
أن تكون ابتداء السنين من أول الجديدة، دين. وهل يقبل في الحكم؟ يخرج على
روايتين.
فصل:
وإن قال: أنت طالق، إذا قدم فلان غداً، أو غداً إذا قدم فلان، لم تطلق حتى
يقدم؛ لأن الطلاق لا يقع قبل شرطه. فإن مات قبل قدومه، لم تطلق؛ لأنها لم
تبق محلاً للطلاق. وإن قدم بعد الغد، لم تطلق، لفوات محل الطلاق، وإن قال:
أنت طالق يوم يقدم فلان، فقدم ليلاً، لم تطلق؛ لأن الشرط لم يوجد، إلا أن
يريد باليوم الوقت، فتطلق. قال الله تعالى: {وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ
دُبُرَهُ} [الأنفال: 16] . وإن قدم نهاراً، طلقت، وهل تطلق في أول اليوم،
أو حين قدومه؟ فيه وجهان:
(3/139)
أحدهما: تطلق من أوله، كما لو قال: أنت
طالق يوم الجمعة.
والثاني: لا تطلق إلا بعد قدومه؛ لأنه جعل قدومه فيه شرطاً، فلا تطلق قبله.
فإن مات قبل قدومه، طلقت على الوجه الأول، ولم تطلق على الثاني.
فصل:
وإن قال: أنت طالق اليوم، إن لم أطلقك اليوم، ولم يطلقها، طلقت في آخر
اليوم إذا بقي منه ما لا يتسع، لقوله: أنت طالق؛ لأن معناه إذا فاتني طلاقك
اليوم، فأنت طالق، وبهذا يفوت طلاقها. وقال أبو بكر: لا تطلق؛ لأن شرط
طلاقها خروج اليوم، وبخروجه يفوت محل طلاقها.
وإن قال: أنت طالق اليوم إذا جاء غد، فقال القاضي في موضع: يقع الطلاق في
الحال؛ لأنه علقه بشرط محال، فلغا شرطه، ووقع الطلاق، كما لو قال لآيسة:
أنت طالق للبدعة. وقال في " المجرد ": لا تطلق؛ لأنه لا يقع في اليوم، لعدم
الشرط وإذا جاء الغد، لم يمكن الطلاق في اليوم؛ لأنه زمن ماض.
فصل:
وإن قال: أنت طالق اليوم، غداً، طلقت واحدة؛ لأن من طلقت اليوم، فهي طالق
غداً. وإن قال: أردت طلقة اليوم، وطلقة غداً، طلقت اثنتين؛ لأنه يقر على
نفسه بما هو أغلظ. وإن قال: أردت نصف طلقة اليوم، ونصف غداً، فكذلك؛ لأن كل
نصف يكمل بالسراية، فيصيران طلقتين. وإن قال: أردت نصف طلقة اليوم، وباقيها
غداً، فكذلك في إحدى الوجهين؛ لأن باقيها نصف يكمل بالسراية.
والثاني: لا تطلق إلا واحدة؛ لأنه لما كمل النصف الأول، لم يبق من الطلقة
شيء، فلا باقي لها. فإن قال: أنت طالق في اليوم والغد، طلقت واحدة لما
ذكرنا. وإن قال: أنت طالق في اليوم وفي الغد، فكذلك في أحد الوجهين. وفي
الآخر: تطلق طلقتين؛ لأن إعادة حرف الصلة يقتضي فعلاً، فكأنه قال: أنت طالق
في اليوم، وأنت طالق في غد.
فصل:
إذا قال: أنت طالق بعد موتي، لم تطلق؛ لأنها بعد موته بائن، فليست محلاً
للطلاق. وإن قال: أنت طالق مع موتي لم تطلق؛ لأن زمن البينونة زمن الطلاق،
فلم يمكن إيقاعه.
وإن تزوج أمة أبيه، ثم قال: إذا مات أبي فأنت طالق، فمات أبوه، لم تطلق؛
لأنه يملكها بموت أبيه، فينفسخ نكاحه، فيجتمع الفسخ والطلاق، فيمتنع وقوعه،
كالتي قبلها. وفيه وجه آخر، أنها تطلق؛ لأن زمن الطلاق عقيب الموت، وهو
(3/140)
زمن الملك، والفسخ بعد الملك، فيتقدم
الطلاق الفسخ فيقع. وإن قال: إن اشتريتك، فأنت طالق، واشتراها، فعلى وجهين،
كالتي قبلها. وإن قال الأب لجاريته: إذا مت فأنت حرة، وقال الزوج: إذا مات
أبي فأنت طالق، فمات الأب، وقعت الحرية والطلاق معاً؛ لأن الحرية تمنع ثبوت
الملك له، فلا ينفسخ نكاحه، فيقع طلاقه.
فصل:
إذا قال: أنت طالق أمس، أو قبل أن أتزوجك، لم يقع الطلاق. نص عليه؛ لأنه
إضافة إلى زمن يستحيل وقوعه فيه، فلم يقع، كما لو قال: أنت طالق قبل موتي
بشهر، ومات قبل مضي شهر، وقال القاضي في بعض كتبه: تطلق؛ لأنه وصف الطلقة
بما لا تتصف به، فلغت الصفة، ووقع الطلاق، كما لو قال لآيسة: أنت طالق
للبدعة.
وحكي عن أبي بكر أن الطلاق يقع في قوله: أنت طالق قبل أن أتزوجك خاصة؛ لأنه
يمكن أن يتزوجها بائناً. وهذا الوقت قبله فيقع فيه، بخلاف التي قبلها. وإن
قال: أردت طلاقها في الحال، وقع؛ لأنه يقر على نفسه بما هو أغلظ. وإن قال:
أردت أني طلقتها أمس، طلقت بإقراره. وإن قال: أردت أني طلقتها في نكاح آخر،
أو طلقها زوج قبلي، فقد ذكرنا حكمه فيما مضى.
وإن قال: أنت طالق قبل قدوم أخي بشهر، أو قبل موتي بشهر، فقدم أخوه، أو مات
مع مجيء الشهر أو قبله، لم تطلق؛ لأنه زمن ماض. وإن قدم أو مات بعد مضي شهر
وجزء يقع الطلاق فيه، تبينا أنه وقع في ذلك الجزء قبل الشهر. فإن خلعها بعد
تعليق طلاقها بيوم، ثم مات، أو قدم بعد التعليق بشهر وساعة، وقع الطلاق دون
الخلع؛ لأنها بانت بالطلاق، فكان الخلع لبائن.
وإن مات أو قدم بعد الخلع بشهر وساعة، صح الخلع؛ لأنه صادف زوجة ولم يقع
الطلاق؛ لأنها بانت بالخلع قبله. وإن قال: أنت طالق قبل موتي، طلقت في
الحال؛ لأنه قبل موته، وكذلك إن قال: أنت طالق قبل قدوم زيد، سواء قدم أو
لم يقدم. ذكره القاضي. وإن قال: أنت طالق قبيل موتي، أو قبيل قدوم زيد، لم
يقع الطلاق إلا في الجزء الذي يلي الموت؛ لأن ذلك تصغير يقتضي الجزء
اليسير.
فصل:
وإن علقه على مستحيل، كقوله: أنت طالق إن طرت، ففيه وجهان:
أحدهما: لا تطلق؛ لأنه علقه على صفة لم توجد.
والثاني: تطلق؛ لأنه علق طلاقها على ما يرتفع به جملة، فلغا الشرط، ووقع
الطلاق، كقوله: أنت طالق طلقة لا تلزمك. ولو قال: أنت طالق إن لم تطيري، أو
تقتلي الميت، طلقت في الحال؛ لأنه معلوم عدمه. وإن قال: أنت طالق لتطيرن
(3/141)
فكذلك. وحكي عن القاضي أنه لا يحنث.
فصل:
إذا كتب إليها: إذا أتاك كتابي، فأنت طالق، فأتاها الكتاب، طلقت إذا أتاها،
وإن ذهبت حواشيه، أو انمحى ما فيه، إلا ذكر الطلاق، طلقت؛ لأنه أتاها كتابه
مشتملاً على المقصود. وإن انمحى كل ما فيه، أو انمحى ذكر الطلاق، أو ضاع
الكتاب، لم تطلق؛ لأن المقصود لم يأت. وإن ذهب الكتاب إلا موضع الطلاق،
ففيه وجهان:
أحدهما: تطلق؛ لأن المقصود أتاها.
والثاني: لا تطلق؛ لأن الكتاب لم يأت. وإن قال إذا أتاك طلاقي، فأنت طالق،
ثم كتب: إذا أتاك كتابي، فأنت طالق، فأتاها الكتاب، طلقت طلقتين، واحدة
بمجيء الكتاب، والأخرى بمجيء الطلاق.
فصل:
إذا قال إن لم تخبريني بعدد حب هذه الرمانة، فأنت طالق، فإنها تعد له عدداً
يعلم أن عددها داخل فيه، ولا يحنث إذا نوى ذلك. فإن لم ينو، حنث في قياس
المذهب؛ لأن الأيمان تنبني على المقاصد، وظاهر قصد الحالف العلم بكميته،
ولا يحصل بهذا. فإن قال: إن لم تميزي نوى ما أكلت من نوى ما أكلت، فأنت
طالق، فأفردت كل نواة وحدها، فالحكم فيها كالتي قبلها.
ولو وقعت في ماء جار، فقال: إن أقمت فيه، أو خرجت منه فأنت طالق، فقال
القاضي في " الجامع ": هي كذلك؛ لأن الظاهر قصده خروجها من النهر. وقال في
" المجرد " لا يحنث بحال؛ لأن الماء الذي كانت فيه جرى وصارت في غيره.
ولو قال: إن كانت امرأتي في السوق، فعبدي حر، وإن كان عبدي في السوق،
فامرأتي طالق، وكانا في السوق، عتق العبد، ولم تطلق المرأة؛ لأن العبد عتق
باللفظ الأول، فلما عتق، لم يبق له في السوق عبد.
ولو كان في فيها تمرة فقال: إن أكلتيها، أو أمسكتيها، أو ألقيتيها، فأنت
طالق، فأكلت بعضها، ورمت بعضها، انبنى على فعل بعض المحلوف عليه. ولو كانت
على سلم، فحلف عليها ألا تنزل عنه، ولا تصعد عنه، ولا تقف عليه، فإنها
تنتقل إلى سلم آخر، ثم تنزل أو تصعد؛ لأن نزولها أو صعودها إنما حصل من
غيره.
ولو سرقت زوجته منه شيئاً، فحلف: لتصدقني أسرقت مني شيئاً، أم لا؟ وكانت قد
سرقت منه، وخشيت أن تخبره، فإنها تقول: سرقت منك ما سرقت منك. وتكون " ما "
هاهنا، بمعنى الذي.
فصل:
ومتى علق طلاق زوجته على صفة، ثم أبانها، ثم تزوجها قبل الصفة، عادت
(3/142)
الصفة؛ لأن العقد والصفة وجدا منه في
الملك، فأشبه ما لو لم يتخللهما بينونة. وإن وجدت الصفة حال البينونة، لم
ينحل اليمين؛ لأنه لم يحنث في يمينه، فلم تنحل، كما لو لم توجد الصفة، ولأن
الملك مقدر في يمينه لتقييد الطلاق به، ويتخرج أن تنحل الصفة، بناء على
قوله في العتق، وهو اختيار أبي الحسن التميمي؛ لأن الصفة وجدت فانحلت
اليمين بها، كما لو وجدت حال الملك.
ولأن اليمين إذا تعلقت بعين، لم تتقيد بالملك، كما لو حلف: لا يدخل هذه
الدار وهي ملكه، والله أعلم.
[باب الشك في الطلاق]
. إذا شك هل طلق، أم لا؟ لم تطلق؛ لأن النكاح متيقن، فلا يزول بالشك. وإن
طلق فلم يدر، أواحدة طلق أم ثلاثا؟ بنى على اليقين كذلك، نص عليه أحمد.
فإذا ارتجعها، فعليه نفقتها. واختلف أصحابنا في حلها، فقال الخرقي: هي
محرمة؛ لأنه متيقن للتحريم الحاصل بالطلاق، شاك في حصول الحل بالرجعة، فلا
يزول التحريم المتيقن بالشك.
وقال غيره: تحل؛ لأن الرجعة مزيلة لحكم المتيقن من الطلاق، ومنهم من منع
حصول التحريم بالطلاق، لكون الرجعية مباحة، فلم يكن التحريم متيقناً.
والورع أن يلتزم حكم الطلاق الأكثر، فيدعها حتى تقضي عدتها لتحل لغيره،
لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «دع ما يريبك إلى ما لا
يريبك» .
فصل:
وإذا قال لنسائه: إحداكن طالق، ولم ينو واحدة بعينها، أقرع بينهن، فأخرجت
بالقرعة المطلقة منهن، نص عليه؛ لأن ذلك يروى عن علي وابن عباس - رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُمْ - ولأن الطلاق إزالة ملك بني على التغليب والسراية،
فتدخله القرعة، كالعتق.
وإن نوى واحدة بعينها، طلقت وحدها؛ لأنه نوى بلفظه ما يحتمله فانصرف إليه،
وقوله في ذلك مقبول؛ لأنه لا يعلم إلا من جهته، فقبل منه، كقول المرأة في
حيضها. وإن قال: هذه المطلقة، بل هذه، طلقتا؛ لأن إقراره بطلاق الثانية
مقبول، ورجوعه عن طلاق الأولى غير مقبول.
وإن قال: طلقت هذه، بل هذه أو هذه، طلقت الأولى وإحدى الأخريين. وإن قال:
هذه، أو هذه، بل هذه طلقت الثالثة وإحدى الأوليين. وإن قال: طلقت هذه وهذه
أو هذه، احتمل أن يكون الشك في الجميع؛ لأنه أتى بحرف الشك بعد
(3/143)
الأوليين، فيعود إليهما، واحتمل أن يكون
الشك في الثانية والثالثة؛ لأن حرف الشك بينهما. وإن قال: طلقت هذه، أو هذه
وهذه، ففي أحد الوجهين يكون شاكاً في طلاق الجميع، لا يدري أطلق الأولى
وحدها، أو الأخريين جميعاً؟ وفي الأخرى يكون متيقناً لطلاق الثانية، شاكاً
في الأوليين.
وكل موضع علم أنه طلق بعضهن، فاشتبهت عليه بغيرها، فحكمها حكم المنسية على
ما سنذكره. وإن لم ينو واحدة بعينها، تعينت بالقرعة، وعليه نفقة الجميع حتى
تتعين المطلقة؛ لأنهن محبوسات عليه.
فصل:
وإن طلق واحدة بعينها ثلاثاً وأنسيها، أو خفيت عليه، بأن طلقها في ظلمة، أو
من وراء حجاب، أو يراها في طاقة، فيطلقها وتشتبه عليه، فإنه يحرم عليه
الجميع؛ لأنه اشتبهت زوجته بغيرها فحرمتا، كما لو اشتبهت بمن لم يتزوجها.
وإن علمها، عينها، وقبل قوله؛ لأنه لا يعلم إلا من جهته.
فإن امتنع مع العلم، حبس حتى يعينها؛ لأنه حق عليه امتنع من إيفائه. وإن
ادعت غير المعينة عليه أنها المطلقة، فالقول قوله من غير يمين. فإن مات،
أقرع بينهن. فمن خرجت لها القرعة فلا ميراث لها. قال إسماعيل بن سعيد: سألت
أحمد عن الرجل يطلق امرأة من نسائه، ولا يعلم أيتهن طلق، قال: أكره أن أقول
في الطلاق بالقرعة. قلت: أرأيت إن مات بعدها؟ قال: أقول بالقرعة، وذلك لأنه
تصير القرعة على المال. وقد روي عن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - في رجل
له أربع نسوة طلق إحداهن ثم مات، لا يدري أيتهن طلق، أقرع بين الأربع،
وأنذر منهن واحدة، وقسم بينهن الميراث. وكذلك إن ماتت إحداهن، أو متن
جميعاً أقرعنا بينهن، فمن خرجت عليها القرعة، حرمناه ميراثها.
وقال الخرقي وكثير من أصحابنا: يقرع بينهن في حياته، فمن خرجت عليها قرعة
الطلاق، بانت، وحل له البواقي، احتجاجاً بحديث علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ
-. فإن ذكر بعد ذلك أن المطلقة غيرها، بانت المذكورة؛ لأنها المطلقة، ويكون
وطؤه لها وطأ بشبهة، وترد إليه الأخرى، إلا أن تكون قد تزوجت، أو تكون
القرعة بحكم حاكم، فلا ترد، نص عليه؛ لأنها إذا تزوجت، فقد تعلق بها حق
غيره، فلم يقبل قوله في فسخ نكاح غيره. وقرعة الحاكم كحكمه، لا سبيل إلى
نقضه. وقال أبو بكر وابن حامد: لا ترد إليه التي عينتها القرعة بحال؛ لأنه
لا يقبل قوله عليها، ولا يرثها إن ماتت، وإن مات هو ورثته.
فصل:
وإن رأى طائراً فقال: إن كان غراباً فحفصة طالق، وإن كان حماماً فعمرة
طالق، فطار ولم يعرف ما هو، لم يلزمه طلاق؛ لأنه يحتمل أنه غيرهما. ولو
قال: إن كان غراباً، فحفصة طالق، وإن لم يكن غراباً، فعمرة طالق، ولم يعرف
ما هو، طلقت
(3/144)
إحداهما. والحكم فيها على ما ذكرنا في
المشتبهة، وإن كان الحالف رجلين، فقد حنث أحدهما، فيحرم الوطء عليهما؛
لأننا علمنا التحريم في إحداهما، فأشبه ما لو كان الحالف واحداً على
زوجتين، ويبقى في حق كل واحد منهما أحكام النكاح، من النفقة والكسوة
والمسكن؛ لأن نكاحه كان متيقناً، وزواله مشكوك فيه. وإن قال أحدهما: إن كان
غراباً، فعبدي حر، وقال الآخر: إن لم يكن غراباً، فعبدي حر، لم يعتق واحد
منهما؛ لأن الأصل الرق. فإن اشترى أحدهما عبد صاحبه، عتق؛ لأن تمسكه بعبده
اعتراف منه بعتق الآخر، وقد ملكه فيعتق، قاله القاضي. وقال أبو الخطاب:
يقرع بينهما حينئذ؛ لأن العبدين صارا له، وقد علم عتق أحدهما لا بعينه،
فيعتق بالقرعة إلا أن يكون أحدهما قد أقر أن الحانث صاحبه، فيؤخذ بإقراره.
ولو كان الحالف واحداً فقال: إن كان غراباً، فعبدي حر، وإن لم يكن غراباً
فأمتي حرة، ولم يعرف، أقرع بينهما، فمن خرجت قرعته، فهو الحر؛ لأن القرعة
تستعمل لتعيين الحرية.
فصل:
إن قال لحماته: ابنتك طالق، أو كان اسم زوجته زينب فقال: زينب طالق، طلقت
زوجته. فإن قال: أردت ابنتك الأخرى، أو امرأة أجنبية اسمها زينب، دين؛ لأنه
يحتمل ما قاله، ولم يقبل في الحكم. نص عليه. لأن غير زوجته ليست محلاً
لطلاقه، فلم يقبل تفسيره بها. وإن نظر إلى زوجته وأجنبية فقال: إحداكما
طالق، فكذلك؛ لما ذكرناه. وقال القاضي: هل يقبل في الحكم؟ على روايتين.
فصل:
فإن كانت له زوجتان، هند وزينب فقال: يا هند، فأجابته زينب، فقال: أنت طالق
ينوي المجيبة، أو لم يكن له نية، طلقت المجيبة وحدها؛ لأنها المخاطبة
بالطلاق، ولم يرد غيرها به. وإن قال: ظننت المجيبة هنداً، فطلقتها، طلقت
هند رواية واحدة؛ لأنه أرادها بطلاقه، وفي زينب روايتان:
إحداهما: تطلق، اختارها ابن حامد؛ لأنه خاطبها بالطلاق فطلقت، كما لو لم
يكن له نية.
والثانية: لا تطلق؛ لأنه لم يردها بكلامه، فلم تطلق، كما لو أراد أن يقول:
أنت طاهر، فسبق لسانه بقوله، أنت طالق، وقال أبو بكر: لا يختلف كلام أحمد:
أنها لا تطلق.
وإن قال: علمت أن المجيبة زينب وأردت طلاق هند، طلقتا معاً " هند "
بإرادته، وزينب بخطابه لها بالطلاق اختياراً. ولو لقي أجنبية ظنها زوجته
فقال: أنت طالق، طلقت زوجته؛ لأنه قصد زوجته بلفظ الطلاق، فطلقت، كالتي
قبلها. وإن لقي زوجته
(3/145)
فظنها أجنبية فقال: تنحي يا مطلقة، أو
أمته، فقال: تنحي يا حرة يظنها أجنبية، فقال أبو بكر لا يلزمه عتق، ولا
طلاق؛ لأنه لم يقصد طلاقاً ولا عتقاً. ويخرج على قول ابن حامد: أن يقع
العتق والطلاق بناء على المسألة في أول الفصل.
(3/146)
|