الكافي في فقه الإمام أحمد

 [كتاب الجنايات]
قتل الآدمي بغير حق محرم، وهو من الكبائر إذا كان عمدًا، لقول الله تعالى: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا} [النساء: 93] الآية. ويوجب القصاص، لقول الله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى} [البقرة: 178] الآية. وقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من قتل له قتيل، فهو بخير النظرين، إما أن يقتل، وإما أن يفدى» متفق عليه.

فصل:
والقتل على ثلاثة أضرب. عمد، وهو: أن يقصده بمحدد، أو ما يقتل غالبًا، فيقتله.
والثاني: الخطأ وهو: أن لا يقصد إصابته فيصيبه فيقتله، فلا قصاص فيه، لقول الله تعالى: {وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ} [النساء: 92] ، وقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «رفع عن أمتي الخطأ والنسيان» ولأن القصاص عقوبة، فلا تجب بالخطأ، كالحد.
والثالث: خطأ العمد، وهو: أن يقصد إصابته بما لا يقتل غالبًا فيقتله، فلا قصاص فيه، لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ألا إن دية الخطأ شبه العمد ما كان بالسوط والعصا مائة

(3/251)


من الإبل» . رواه أبو داود. ولأنه لم يقصد القتل، فلا تجب عقوبته، كما لا يجب حد الزنا بوطء الشبهة.

فصل:
يشترط لوجوب القصاص أربعة شروط: أحدها: العمد، لما ذكرنا.
والثاني: كون القاتل مكلفًا، فلا يجب على صبي، ولا مجنون، ولا نائم، لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «رفع القلم عن ثلاثة: عن الصبي حتى يبلغ، وعن المجنون حتى يفيق، وعن النائم حتى يستيقظ» . ولأنه عقوبة مغلظة، فلم تجب عليهم، كالحد. فإن وجب عليه القصاص، ثم جن، لم يسقط؛ لأنه حق لآدمي، فلم يسقط بجنونه، كسائر الحقوق.

فصل:
الثالث: أن يكون المقتول مكافئًا للقاتل، وهو أن يساويه في الدين والحرية. أو الرق، فيقتل الحر المسلم بالحر المسلم، ذكرًا كان أو أنثى، ويقتل العبد المسلم، بالعبد المسلم، ذكرًا كان أو أنثى، تساوت قيمتاهما، أو اختلفتا. وعنه: لا يجري القصاص بين العبيد، إلا أن تتساوى قيمتهم؛ لأنه بدل مال، فيعتبر فيه التساوي، كالقيمة، والأول: الصحيح، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالأُنْثَى بِالأُنْثَى} [البقرة: 178] ولأنه قصاص، فلا يعتبر فيه التساوي في القيمة، كالأحرار. وعن أحمد: أن الرجل إذا قتل بالمرأة، يدفع إليه نصف ديته؛ لأن ديتها نصف ديته، والمذهب خلاف هذا، لما روى عمرو بن حزم «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كتب إلى أهل اليمن: أن الرجل يقتل بالمرأة» . رواه النسائي. ولأنه قصاص واجب، فلم يوجب رد شيء، كقتل الجماعة بالواحد.
ويقتل الحر الذمي بالحر الذمي. والعبد الذمي بمثله؛ لأنهم تساووا، فأشبهوا المسلمين، ويقتل الذمي بالمسلم، والعبد بالحر، والأنثى بالذكر، والمرتد بالذمي؛ لأنه إذا قتل بمثله، فبمن هو أعلى منه أولى.

(3/252)


فصل:
ولا يقتل مسلم بكافر، لما روي عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «المسلمون تتكافأ دماؤهم، ويسعى بذمتهم أدناهم، ولا يقتل مسلم بكافر» رواه النسائي. ووافقه على آخره البخاري.
ولا يقتل حر بعبد، لقول الله تعالى: {الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ} [البقرة: 178] فيدل على أنه لا يقتل به الحر. وروي عن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه قال: «من السنة ألا يقتل حر بعبد» ، وإن قتل ذمي حر عبدًا مسلمًا، فعليه قيمته، ويقتل لنقضه العهد.

فصل:
والاعتبار في التكافؤ بحالة الوجوب؛ لأنه عقوبة على جناية، فاعتبرت بحالة الوجوب، كالحد. فلو قتل ذمي ذميًا، ثم أسلم القاتل، أو جرح ذمي ذميًا، ثم أسلم الجارح، ومات المجروح، أو قتل عبد عبدًا، أو جرحه، ثم عتق الجارح، ومات المجروح، وجب القصاص؛ لأنهما متكافئان حال الجناية، ولأن القصاص قد وجب، فلا يسقط بما طرأ، كما لو جن.
وإن جرح مسلم ذميًا، أو حر عبدًا، ثم أسلم المجروح، وعتق ومات، لم يجب القصاص، لعدم التكافؤ حال الوجوب. وإن قطع مسلم أو ذمي يد مرتد، أو حربي، ثم أسلم، ومات، فلا قود ولا دية؛ لأنه لم يجن على معصوم. وإن قطع مسلم يد مسلم، فارتد المجروح ومات، فلا قصاص في النفس؛ لأنه حال الموت مباح الدم، وفي اليد وجهان:
أحدهما: يجب القصاص فيها؛ لأن التكافؤ بينهما موجود في حال قطعها.
والثاني: لا قصاص فيها؛ لأننا تبينا أن قطعها، قبل، ولم يوجب القتل، فلا يوجب غيره، ولأن الطرف تابع للنفس، فسقط تبعًا لسقوط القصاص فيها. وإن جرح مسلم مسلمًا، فارتد المجروح، ثم أسلم ومات، وجب القصاص، نص عليه؛ لأنهما متكافئان حال الجناية والموت، أشبه ما لو لم يرتد. وذكر القاضي وجهًا آخر أنه إن كان زمن الردة مما تسري فيه الجناية، فلا قصاص؛ لأن السراية في حال الردة لا توجب،

(3/253)


فقد مات من جرح موجب، وسراية غير موجبة، فلا توجب، كما لو قتله بجرحين خطأ وعمد.

فصل:
ولا قصاص على قاتل حربي، لقول الله تعالى: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} [التوبة: 5] ولا على قاتل مرتد كذلك، ولأنه مباح الدم، أشبه الحربي. ولا على قاتل زان محصن كذلك. وسواء كان القاتل مسلمًا، أو ذميًا، فإن قتل من عرفه مرتدًا، وكان قد أسلم ولا يعلم إسلامه ففيه وجهان: أحدهما: لا قصاص عليه؛ لأنه لم يقصد قتل معصوم، فلم يلزمه قصاص، كما لو قتل في دار الحرب من يعتقده حربيًا بعد أن أسلم.
والثاني: عليه القصاص؛ لأنه قتل مكافئًا عدوانًا عمدًا، والظاهر أنه لا يخلى في دار الإسلام إلا بعد إسلامه، بخلاف من في دار الحرب. وإن قتل من يعرفه ذميًا، أو عبدًا، وكان قد أسلم، وعتق، فعليه القصاص؛ لأنه قصد قتل معصوم وهو مكافئ له، فأشبه من علم حاله.

فصل:
الشرط الرابع: انتفاء الأبوة، فلا يقتل والد بولده وإن سفل، والأب والأم في هذا سواء. وعنه: ما يدل على أن الأم تقتل بولدها، والمذهب: الأول لما روى عمر بن الخطاب وابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا يقتل والد بولده» رواه ابن ماجه. ولأنها أحد الوالدين، فأشبهت الأب، والجد والجدات من قبل الأب، ومن قبل الأم. وإن علوا. يدخلون في عموم الخبر، ولأنه حكم يتعلق بالولادة، فاستوى فيه القريب والبعيد، كالمحرمية.

فصل:
وإذا ادعى رجلان نسب لقيط، ثم قتلاه قبل لحوق نسبه بأحدهما، فلا قصاص فيه؛ لأن كل واحد يجوز أن يكون أباه، ويجوز أن يكونا أبويه. وإن رجع أحدهما عن الدعوة، أو ألحقته القافة بغيره. انقطع نسبه، وعليه القصاص؛ لأنه أجنبي. وإن رجعا

(3/254)


جميعًا عن الدعوة، لم يقبل رجوعهما؛ لأن النسب حق للولد، وقد ثبت بإقرارهما، فلم يقبل رجوعهما عنه، كما لو أقرا له بمال، بخلاف ما لو رجع أحدهما منفردًا، فإن نسب الولد لا ينقطع برجوعه وحده. وإن اشترك اثنان في وطء امرأة، فأتت بولد يمكن أن يكون منهما، فقتلاه قبل لحوقه بأحدهما، فلا قصاص، ولو أنكر أحدهما النسب؛ لأن النسب لا ينقطع عنه بإنكاره، بخلاف التي قبلها. وإن قتل زوجته، ولها منه ولد، لم يجب القصاص؛ لأنه إذا لم يجب عليه بجنايته عليه، لم يجب بجنايته على غيره. وسواء كان لها ولد من غيره، أو لم يكن؛ لأن القصاص لا يتبعض، فإذا سقط نصيب ولده، سقط باقيه، كما لو عفا أحد الشريكين. وإن قتل خال ولده، فورثته أمه، ثم ماتت فورثها الولد، سقط القصاص كذلك. وإن اشترى المكاتب أباه، فقتل أبوه عبدًا له، لم يجب القصاص كذلك. وإن جنى المكاتب على أبيه، لم يجب القصاص؛ لأنه عبده، فلا يقتص له من سيده.

فصل:
ويقتل الولد بكل واحد من الأبوين، وعنه: لا يقتل؛ لأنه لا تقبل شهادته له، لأجل النسب، أشبه الأب، والمذهب: الأول لظاهر الآية والأخبار والقياس، وقياسه على الوالد ممتنع، لتأكد حرمة الوالد.

فصل:
إذا شارك الإنسان غيره في القتل، لم يخل من أربعة أقسام:
أحدها: أن يشترك جماعة في قتل من يكافئهم عمدًا، فيجني كل واحد منهم جناية، يضاف إليه القتل لو انفردت، فيجب القصاص على جميعهم. وعنه: لا يجب على واحد منهم، لقول الله تعالى: {النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} [المائدة: 45] مفهومه أنه لا يؤخذ به أكثر من نفس واحدة. والمذهب الأول، لما روى سعيد بن المسيب: أن عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قتل سبعة من أهل صنعاء قتلوا رجلًا واحدًا. وقال: لو تمالأ عليه أهل صنعاء، لقتلتهم جميعًا. ولم ينكره منكر، فكان إجماعًا. ولأنه لو لم يجب القصاص على جميعهم، جعل الاشتراك وسيلة إلى سفك الدماء.
القسم الثاني: أن يقتلوه عمدًا، أو بعضهم غير مكافئ، مثل أن يشترك اثنان في قتل ولد أحدهما، أو حر وعبد، في قتل عبد، أو مسلم وذمي في قتل ذمي، ففيه روايتان:

(3/255)


أظهرهما: أنه يجب القصاص على المكافئ؛ لأنه شارك في القتل العمد العدوان، فوجب عليه القصاص، كشريك المكافئ.
والثانية: لا يجب؛ لأنه قتل تركب من موجب وغير موجب، فلا يوجب، كما لو كان شريكه خاطئًا.
القسم الثالث: أن يقتلا مكافئًا وأحدهما عامد، والآخر خاطئ، ففيه روايتان:
أظهرهما: لا قصاص فيه؛ لأنه قتل لم يتمخض عمدًا، فلم يوجب القصاص، كعمد الخطأ، وكما لو قتله بجرحين عمد وخطأ.
والثانية: يجب القصاص على العامد؛ لأنه شارك في القتل عمدًا عدوانًا، فوجب عليه القصاص كشريك العامد. والحكم في شريك الصبي والمجنون، كالحكم في شريك الخاطئ؛ لأن عمدهما خطأ.
القسم الرابع: شارك سبعًا، أو إنسانًا، في قتل نفسه، مثل أن يجرح رجلًا عمدًا أو يجرح الرجل نفسه عمدًا، ففيه وجهان:
أحدهما: يجب القصاص لذلك.
والآخر: لا يجب القصاص؛ لأنه إذا لم يجب على شريك الخاطئ وجنايته مضمونة، فهاهنا أولى. وإن جرحه فتداوى بسم غير موح، إلا أنه يقتل غالبًا، أو خاط لحم جرحه في لحم حي، أو خاف التآكل، فقطعه فمات، أو فعل هذا وليه، ففيه وجهان:
أحدهما: الحكم في شريكه، كالحكم فيما لو جرح نفسه عمدًا؛ لأنه عمد هذا الفعل.
والثاني: أنه كشريك الخاطئ؛ لأنه لم يقصد الجناية على نفسه، إنما قصد المداواة، فكان فعله عمدًا خطأً، فلم يجب القصاص على شريكه.

فصل:
وإن جرح رجلًا جرحًا، وجرح آخر مائة، فهما سواء؛ لأنه قد يموت من الواحد، ولا يموت من المائة، ولا يمكن إضافة القتل إلى أحدهما بعينه، ولا الإسقاط، فوجب على الجميع. وإن قطع أحدهما من الكوع، والآخر من المرفق، فهما سواء؛ لأنهما جرحان، حصل الزهوق عقيبهما، فأشبه ما لو كانا في يدين. وإن قطع أحدهما يده، ثم ذبحه الآخر، أو شق بطنه وأبان حشوته، فعلى الأول ما على قاطع اليد منفردة.

(3/256)


والثاني: هو القاتل؛ لأنه قطع سراية القطع، فصار، كما لو اندمل القطع، ثم قتله. وإن كان قطع اليد آخر فالأول القاتل، ولا ضمان على قاطع اليد؛ لأنه صار في حكم الميت، إنما يتحرك حركة المذبوح، ولا حكم لكلامه في وصيته، ولا غيرها. وإن أجافه جائفة، يتحقق الموت منها، إلا أن الحياة فيه مستقرة، ثم ذبحه آخر، فالقاتل هو الثاني؛ لأن حكم الحياة باق، ولهذا أوصى عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - بعدما سقي اللبن فخرج من جرحه، وأيس منه فعمل بوصيته، فأشبه المريض المأيوس منه. وإن ألقى رجلًا من شاهق، فتلقاه آخر بسيف، فقده قبل وقوعه، فالقصاص على من قده؛ لأنه مباشر للإتلاف، فانقطع حكم المتسبب، كالحافر مع الدافع.

[باب جنايات العمد الموجبة للقصاص]
وهي تسعة أقسام: أحدها: أن يجرحه بمحدد يقطع اللحم والجلد، كالسيف، والسكين، والسنان، والقدوم، وما حدد من حجر، أو خشب، أو قصب، أو زجاج، أو غيره، أو بما له مور وغور، كالمسلة والسهم، والقصبة المحددة، فيموت به فهذا موجب للقصاص إجماعًا. وإن غرزه بإبرة في مقتل، كالصدر، والفؤاد، والخاصرة، والعين، وأصل الأذن فمات، وجب القود؛ لأن هذا في المقتل، كغيره في غيره. وإن غرزه في غير مقتل، كالألية والفخذ، فبقي منه ضمانًا، حتى مات، وجب القود؛ لأن الظاهر موته به. وإن مات في الحال، ففيه وجهان:
أحدهما: لا قود فيه؛ لأنه لا يقتل غالبًا أشبه ما لو ضربه بعصاة.
والثاني: فيه القود؛ لأن له مورًا وسراية في البدن. وفي البدن مقاتل خفية، أشبه ما لو غرزه في مقتل.

فصل:
القسم الثاني: ضربه بمثقل كبير، يقتل مثله غالبًا، سواء كان من حديد أو خشب أو حجر، أو ألقى عليه حائطًا، أو حجرًا كبيرًا، أو رض رأسه بحجر، فعليه القود، لما روى أنس: «أن يهوديًا قتل جارية، على أوضاح لها بحجر، فقتله رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بين حجرين» ، متفق عليه وفي مسلم: «فأقاده» ولأنه يقتل غالبًا، أشبه المحدد. وإن ضربه بقلم، أو إصبع، أو شبههما، أو مسه بكبير مسًا، فلا قود فيه؛ لأنه لم يقتله. وإن كان مما لا يحتمل الموت به، كالعصا والوكزة بيده، فكان في مقتل، أو مرض أو صغر، أو شدة برد، أو حر أو وإلى الضرب به، أو عصر خصيتيه عصرًا شديدًا، بحيث يقتل

(3/257)


غالبًا، ففيه القود؛ لأنه يقتل غالبًا، أشبه الكبير. وقد وكز موسى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - القبطي، فقضى عليه. وإن لم يكن مثله يقتل غالبًا، فهو عمد الخطأ، لا قود فيه، لقول رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إلا أن دية القتل شبه العمد ما كان بالسوط والعصا، مائة من الإبل» . رواه أبو داود.

فصل:
القسم الثالث: منع خروج نفسه، إما بخنقه بحبل أو غيره، أو غمه بمخدة، أو وضع يده على فيه مدة يموت فيها غالبًا، ونحو هذا، ففيه القود؛ لأنه يقتل غالبًا، وإن خلاه حيًا متألمًا فمات، فعليه القود؛ لأنه مات من سراية جنايته، أشبه الميت من الجرح. وإن صح منه ثم مات، لم يضمنه؛ لأنه لم يقتله، أشبه ما لو برئ الجرح ثم مات. وإن كان ما فعله به، لا يموت منه غالبًا، فمات، فهو عمد الخطأ.

فصل:
القسم الرابع: إلقاؤه في مهلكة، كالنار، والماء الكثير الذي لا يمكنه التخلص منه، لكثرته، أو ضعف الملقى أو ربطه، ونحو ذلك، أو في بئر ذات نفس، أو ألقاه من شاهق، يقتل غالبًا، ففيه القود؛ لأنه يقتل غالبا. وإن كان لا يقتل غالبًا، أو التخلص منه ممكن، فلا قود فيه؛ لأنه عمد الخطأ، وإن التقمه في الماء القليل حوت، فلا قود فيه كذلك، وإن ألقاه في لجة لا يمكنه التخلص منها، فالتقمه الحوت فيها، أو قبل وصوله إليها، ففيه وجهان:
أحدهما: فيه القود؛ لأنه ألقاه في مهلكة، فهلك، أشبه ما لو هلك بها.
والثاني: لا قود؛ لأنه هلك بغير ما قصد إهلاكه به، أشبه الذي قبله.

فصل:
القسم الخامس: أن ينهشه حية، أو سبعًا قاتلًا، أو يجمع بينه وبين أسد، أو نمر، أو حية، في موضع ضيق، أو ألقاه مكتوفًا بين يدي أسد أو نحوه مما يقتل غالبًا، ففعل به السبع فعلًا، لو فعله الملقي أوجب القود، ففيه القود؛ لأن فعل السبع كفعله؛ لأنه صار آلة له، والحيات كلها سواء في أحد الوجهين؛ لأنها جنس يقتل سمه غالبًا، وفي الآخر إن كانت الحية مما لا يقتل سمها غالبًا كحية الماء، وثعبان الحجاز، فلا قود فيها؛ لأن هذا لا يقتل غالبًا، أشبه الضرب بمثقل صغير. وإن ألقاه مكتوفًا في أرض مسبعة، أو ذات حيات فقتلته، فلا قود فيه؛ لأنه مما لا يقتل غالبًا، فكان عمد الخطأ.

(3/258)


وقال القاضي: حكمه حكم الممسك للقتل على ما سنذكره؛ لأنه أمسكه بربطه حتى قتلته.

فصل:
القسم السادس: سقاه سمًا مكرهًا، أو خلطه بطعامه، أو بطعام قدمه إليه، أو أهداه إليه، فأكله غير عالم بحاله، ففيه القود، لما روي «أن يهودية أهدت لرسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بخيبر شاة مصلية، فأكل منها رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأصحابه، ثم قال: ارفعوها، فإنها قد أخبرتني أنها مسمومة فأرسل إلى اليهودية فقال: ما حملك على ما صنعت؟ فقالت: إن كنت نبيًا، لم يضرك، وإن كنت ملكًا، أرحت الناس منك. فأكل منها بشر بن البراء بن معرور، فمات، فأرسل إليها فقتلها» ، رواه أبو داود. ولأنه يقتل غالبًا، أشبه القتل بالسلاح. وإن خلطه بطعام، وتركه في بيت نفسه، فدخل رجل فأكل فمات، فلا قود؛ لأنه عمد قتل نفسه، فأشبه ما لو قدم إليه سكينًا، فقتل بها نفسه، وإن ادعى ساقي السم أنه لم يعلم أنه يقتل، ففيه وجهان:
أحدهما: عليه القود؛ لأن السم يقتل غالبًا.
والثاني: لا قود فيه؛ لأنه يجوز خفاء ذلك عليه، فتكون شبهة يسقط بها القود.

فصل:
القسم السابع: قتله بسحر يقتل غالبًا، ففيه القود؛ لأنه يقتل غالبًا، أشبه السكين. وإن كان مما لا يقتل غالبًا، فهو خطأ العمد. وإن ادعى الجهل بكونه يقتل غالبًا، وكان مما يجوز خفاؤه عليه فيه، فلا قود عليه؛ لأنه يخل بمتحض العمد.

فصل:
القسم الثامن: حبسه ومنعه الطعام والشراب مدة يموت في مثلها غالبًا، فمات، ففيه القود؛ لأنه يقتل غالبًا، وإن كانت المدة لا يموت فيها غالبًا، فهو شبه عمد. وإن حبسه على ساحل بحر في مكان يزيد عليه الماء غالبًا زيادة تقتله، فمات منه، ففيه القود؛ لأنه يقتل غالبًا. وإن كانت الزيادة غير معلومة، فهو شبه عمد. وإن أمسكه لرجل ليقتله فقتله، ففيه روايتان:
إحداهما: عليه القصاص؛ لأنه تسبب إلى قتله بما يقتل غالبًا، فأشبه شهود القصاص إذا رجعوا.

(3/259)


والثانية: لا قصاص، لكن يحبس حتى يموت لما روى ابن عمر: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إذا أمسك الرجل، الرجل، وقتله الآخر، يقتل الذي قتل، ويحبس الذي أمسك» . أخرجه الدارقطني. ولأنه حبسه إلى الموت، فيفعل به مثل فعله. وسواء حبسه بيديه، أو بجناية عليه، أو غير ذلك. وإن أمسكه لغير القتل فقتل، فلا ضمان على الممسك؛ لأنه لم يقتله، ولا قصد قتله.

فصل:
القسم التاسع: أن يتسبب إلى قتله بما يفضي إليه غالبًا، أربعة أنواع:
أحدها: أن يكره غيره على قتله، فيجب القصاص على المكره، والمكره جميعًا؛ لأن المكره تسبب إلى قتله بما يفضي إليه غالبًا، أشبه ما لو أنهشه حية، أو أسدًا، أو رماه بسهم. والمكره قتله ظلمًا، لاستبقاء نفسه، فلزمه القصاص، كما لو قتله في المجاعة ليأكله.
النوع الثاني: أن يأمر من لا يميز من المجانين والصبيان، أو عبدًا أعجميًا لا يعلم تحريم القتل بقتله، فيقتله، فعلى الآمر القصاص، دون المأمور؛ لأن المأمور صار كالآلة له، فأشبه الأسد والحية. وإن كان المأمور مميزًا فلا قود على الآمر؛ لأن المأمور له قصد صحيح فأشبه ما لو كان رجلًا عاقلًا. فإن كان العبد يعلم تحريم القتل، فالقصاص عليه؛ لأنه مباشر للقتل، مختار، عالم بتحريمه، فأشبه الحر، ويؤدب السيد، لتسببه إليه. وإن أمر السلطان رجلًا بقتل رجل بغير حق، ولم يعلم الحال، فقتله، فالقصاص على الآمر؛ لأن المأمور معذور في قتله، لكونه مأمورًا بطاعة السلطان في غير المعصية، والظاهر أنه لا يأمر إلا بحق. وإن علم أنه مظلوم فالقصاص عليه وحده؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق» من ((المسند)) . فصار كالقاتل من غير أمر. وإن أمره غير السلطان بالقتل، فقتل، فالقصاص على القاتل وحده، علم أو جهل؛ لأنه لا تلزمه طاعته.
النوع الثالث: أن يشهد رجلان على رجل بما يوجب القتل، فقتل بغير حق، ثم رجعا عن الشهادة، وأقرا أنهما فعلا ذلك ليقتل، فعليهما القود، لما روى القاسم بن عبد الرحمن: أن رجلين شهدا عند علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - على رجل، أنه سرق، فقطعه، ثم رجعا عن الشهادة، فقال: لو أعلم أنكما تعمدتما، لقطعت أيديكما، وغرمهما دية يده. ولأنهما قتلاه بسبب يقتل غالبًا، أشبه المكره.

(3/260)


الرابع: الحاكم إذا حكم عليه بما يوجب قتله ظلمًا متعمدًا، فقتل، فعليه القصاص لذلك، وكذلك الولي الذي أمر بقتله، إذا أقر أنه علم براءته وأمر بقتله ظلمًا.

[باب القصاص فيما دون النفس]
يجب القصاص فيما دون النفس بالإجماع لقول الله تعالى: {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالأَنْفَ بِالأَنْفِ وَالأُذُنَ بِالأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ} [المائدة: 45] . وروى أنس أن «الربيع بنت النضر كسرت ثنية جارية، فعرضوا عليهم الأرش، فأبوا إلا القصاص، فجاء أخوها أنس بن النضر فقال: يا رسول الله. تكسر ثنية الربيع؟ والذي بعثك بالحق لا تكسر ثنيتها. فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: كتاب الله القصاص. فعفا القوم، فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: إن من عباد الله من لو أقسم على الله لأبره» أخرجه البخاري ومسلم ولأن ما دون النفس، كالنفس في الحاجة إلى الحفظ، فكان، كالنفس في القصاص.

فصل:
ومن لا يقاد بغيره في النفس، لا يقاد به فيما دونها بغير خلاف، ومن يقاد به في النفس يقاد به فيما دونها. وعنه: لا قصاص بين العبيد في الأطراف؛ لأنها أموال. والمذهب: الأول لأن ما دون النفس كالنفس في وجوب القصاص، فكان كالنفس فيما ذكرنا.

فصل:
وإن اشترك جماعة في إبانة عضو دفعة واحدة، مثل أن يتحاملوا على الحديدة تحاملًا واحدًا حتى يبينوا يده، فعلى جميعهم القصاص، لحديث علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، ولأنه أحد نوعي القصاص، فيؤخذ فيه الجماعة بالواحد، كالنفس. وإن تفرقت جناياتهم، بأن قطع كل واحد من جانب، أو قطع واحد، وأتمه آخر، أو قطعا بمنشار يمده كل واحد مرة، فلا قصاص؛ لأن فعل كل واحد في بعض العضو، فلم يجز أخذ جميع عضوه، كما لو لم يقطع الآخر. وعنه: لا يؤخذ طرف الجماعة بواحد، كما ذكرنا في النفوس ولأن ذلك مما يجب في النفوس للزجر كي لا يتخذ الاشتراك وسيلة إلى

(3/261)


إسقاط القصاص، ولا يوجد ذلك في الأطراف، لندرة الحالة التي يمكن إيجاب القصاص بها.

فصل:
والقصاص فيما دون النفس نوعان: جروح، وأطراف. فأما الجروح: فيجب القصاص في كل جرح ينتهي إلى عظم. سواء كان موضحة في رأس، أو وجه، أو ساعد، أو عضد، أو فخذ، أو ساق، أو ضلع، أو غيره، لقول الله تعالى: {وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ} [المائدة: 45] ولأنه أمكن الاقتصاص من غير حيف، فوجب كما في الطرف. وما لا ينتهي إلى عظم، كالجائفة، وما دون الموضحة من الشجاج، أو كانت الجناية على عظم، ككسر الساعد، والعضد، والهاشمة، والمنقلة، والمأمومة، لم يجب القصاص؛ لأن المماثلة غير ممكنة، ولا يؤمن أن يستوفى أكثر من الحق، فسقط، إلا إذا كانت الشجة فوق الموضحة، فله أن يقتص موضحة؛ لأنها بعض جنايته، وقد أمكن القصاص، فوجب، كما لو كانت جناية في محلين. وفي وجوب الأرش الباقي وجهان:
أحدهما: يجب، وهو قول ابن حامد؛ لأنه تعذر فيه القصاص فوجب الأرش، كما لو تعذر في جميعها.
والثاني: لا يجب. وهو اختيار أبي بكر؛ لأنه جرح واحد، فلا يجمع فيه بين قصاص وأرش. كالشلاء بالصحيحة.

فصل:
ويجب في الموضحة، قدرها طولًا وعرضًا، لقول الله تعالى: {وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ} [المائدة: 45] والقصاص: المماثلة. ولا يمكن في الموضحة إلا بالمساحة، فإن كانت في الرأس، حلق موضعها من رأس الجانب، وعلم القدر المستحق بسواد، أو غيره، ثم اقتص. فإن كانت في مقدم الرأس، أو مؤخره، أو وسطه، فأمكن أن يستوفي قدرها من موضعها، لم يجز غيره. وإن زاد قدرها على موضعها من رأس الجاني. استوفي بقدرها وإن جاوز الموضع الذي شجه في مثله؛ لأن الجميع رأس. وإن زاد قدرها على رأس الجاني كله، لم يجز أن ينزل إلى الوجه، ولا القفا؛ لأنه قصاص في غير العضو المجني عليه، فيقتص في رأس الجاني كله. وهل له الأرش لما بقي؟ على وجهين، كما تقدم. وإن كانت الموضحة في الساعد، وزاد قدرها على ساعد الجاني، لم ينزل إلى الكف، ولم يصعد إلى العضد. وإن كانت في الساق، لم ينزل إلى القدم، ولم

(3/262)


يصعد إلى الفخذ، كما ذكرنا في الرأس. وإن أوضح جميع رأسه ورأس الجاني أكبر، فللمجني عليه أن يبتدئ بالقصاص من أي جانب شاء من رأس الجاني؛ لأن الجميع محل الجناية. وله أن يستوفي بعض حقه من مقدم الرأس، وبعضه من مؤخره، إلا أن يكون في ذلك زيادة ضرر أو شين، فيمنع لذلك؛ لأنه لم يجاوز موضع الجناية، ولا قدرها، ويحتمل أن لا يجوز؛ لأنه يأخذ موضحتين بموضحة. وإن أوضحه موضحتين، قدرهما جميع رأس الجاني، فللمجني عليه الخيار، بين أن يوضحه في جميع رأسه موضحة واحدة، وبين أن يوضحه موضحتين يقتص فيهما على قدر الواجب له، ولا أرش له في الباقي وجهًا واحدًا؛ لأنه يترك الاستيفاء مع إمكانه.

فصل:
النوع الثاني: الأطراف. ويجب القصاص فيها، إذا كان القطع ينتهي إلى عظم، فتقلع العين بالعين، لقول الله تعالى: {وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ} [المائدة: 45] . ولأنه يمكن القصاص فيها؛ لانتهائها إلى مفصل، فوجب، كالموضحة. وتؤخذ عين الشاب الصحيحة الحسناء بعين الشيخ المريضة الرمصاء، كما يؤخذ الشاب الصحيح الجميل بالشيخ المريض. ولا تؤخذ صحيحة بقائمة؛ لأنه يأخذ أكثر من حقه. ويجوز أن يأخذ القائمة بالصحيحة؛ لأنها دون حقه، كالشلاء بالصحيحة. ولا أرش له معها؛ لأن التفاوت في الصفة. وإن جنى على رأسه بلطمة، فأذهب ضوء عينيه، وجب القصاص؛ لأن الضوء لا يمكن مباشرته بالجناية، فوجب القصاص فيه بالسراية، كالنفس، فإن كانت اللطمة لا تفضي إلى تلف العين غالبًا، فلا قصاص فيه؛ لأنه شبه عمد، أشبه ما لو قتله.

فصل:
وإن قلع الأعور عين مثله عمدًا ففيه القصاص، لتساويهما. وإن قلع عين صحيح، فلا قصاص عليه. وعليه دية كاملة؛ لأن ذلك يروى عن عمر وعثمان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - ولأنه لم يذهب بجميع بصره، فلم يجز أن يذهب بجميع بصره، كما لو كان ذا عينين. ويجب جميع الدية؛ لأنه لما درئ عنه القصاص لفضيلته، ضوعفت الدية عليه، كالمسلم إذا قتل الذمي عمدًا. وإن قلع عيني صحيح، خير بين قلع عينه، ولا شيء له سواه؛ لأنه أخذ جميع بصره لجميعه، وبين دية عينيه؛ لأن القصاص لم يتعذر. وإن قلع صحيح عين الأعور فله الاقتصاص من مثلها، ويأخذ نصف الدية. نص عليه؛ لأن عينه كعينين، لاشتمالها على جميع البصر، وقيامها مقام العينين.

(3/263)


فصل:
ويؤخذ الجفن بالجفن، لقوله سبحانه: {وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ} [المائدة: 45] . ولأنه ينتهي إلى مفصل، ويؤخذ جفن كل واحد من الضرير والبصير بالآخر؛ لأنهما متساويان في السلامة، والنقص، وعدم البصر نقص في غيره، فلم يمنع جريان القصاص فيه.

فصل:
ويؤخذ الأنف بالأنف لقول الله تعالى: {وَالأَنْفَ بِالأَنْفِ} [المائدة: 45] . ولا يجب القصاص إلا في المارن، وهو ما لان منه؛ لأنه ينتهي إلى مفصل. ويؤخذ الشام بالأخشم، والأخشم بالشام، لتساويهما في السلامة، وعدم الشم نقص في غيره، ويؤخذ البعض بالبعض. فيقدر ما قطعه بالأجزاء، كالنصف والثلث. ثم يقتص من مارن الجاني بمثله، ولا يؤخذ بالمساحة؛ لأنه يفضي إلى أخذ جميع أنف الجاني ببعض أنف المجني عليه، ويؤخذ المنخر بالمنخر، والحاجز بين المنخرين بالحاجز، ولا يؤخذ مارن صحيح، بمارن سقط بعضه أو انخرم؛ لأنه يأخذ أكثر من حقه. ولا يؤخذ صحيح بمستحشف كذلك، ويحتمل أن يؤخذ؛ لأنه يقوم مقام الصحيح، ويؤخذ الذي سقط بعضه بالصحيح، وفي الأرش في الباقي وجهان. ويؤخذ المستحشف بالصحيح من غير أرش؛ لأنه نقص معنى، فهو كالشلل.

فصل:
وتؤخذ الأذن بالأذن، لقوله سبحانه: {وَالأُذُنَ بِالأُذُنِ} [المائدة: 45] . ولأنها تنتهي إلى حد فاصل. وتؤخذ أذن السميع. بأذن الأصم، وأذن الأصم، بأذن السميع، كما ذكرنا في الأنف، والمثقوبة للزينة كالصحيحة؛ لأن الثقب ليس بنقص، ويؤخذ البعض بالبعض. ولا تؤخذ صحيحة بمخرومة، وتؤخذ المخرومة بالصحيحة. وفي الأرش للباقي وجهان.
وتؤخذ المستحشفة بالصحيحة، وفي أخذ الصحيحة بالمستحشفة وجهان، كما ذكرنا في الأنف. وإن شق أذنه فألصقها صاحبها، فالتصقت، فلا قصاص، لتعذر المماثلة. وإن قطعها فأبانها، فألصقها صاحبها فالتصقت، فقال القاضي: له القصاص؛ لأنه وجب بالقطع، فلم يسقط بالإلصاق. وقال أبو بكر: لا قصاص فيها؛ لأنا لم تبن على الدوام أشبه الشق، وله أرش الجرح. فإن سقطت بعد ذلك، قريبًا أو بعيدًا، رد الأرش، وله القصاص. وإن اقتص من الجاني، فقطع أذنه، فألصقها فالتصقت برئ من حقه؛ لأن الاستيفاء، حصل بالإبانة. وإن لم يبنها قطع بعضها فالتصقت، فله قطع جميعها،

(3/264)


لأنه استحق إبانته ولم يفعل، والحكم في السن، كالحكم في الأذن، فيما ذكرنا.

فصل في السن بالسن: وتؤخذ السن بالسن، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ} [المائدة: 45] ولحديث الربيع، ولأنه محدود في نفسه يمكن القصاص فيه، فوجب كالأذن، ولا تؤخذ صحيحة بمكسورة، وتؤخذ المكسورة بالصحيحة. وفي الأرش للباقي وجهان. وإن كسر بعض السن، برد من سن الجاني مثله، يقدر بالأجزاء، إلا أن يتوهم انقلاعها أو سوادها، فيسقط القصاص؛ لأن توهم الزيادة، يسقط القصاص. كقطع اليد من غير مفصل. ولا يقتص الحال، كالشعر، وإن مات قبل اليأس من عودها، فلا قصاص، لعدم تحقق الإتلاف، فلا يجوز استيفاؤه مع الشك. فإن لم تعد، ويئس من عودها، وجب القصاص؛ لأن ذلك حصل بالجناية، وإن يئس من عودها فاقتص، أو اقتص من سن كبير، فنبت له مكانها، فعليه دية سن الجاني؛ لأنه قلع سنًا بغير سن، فإن نبتت سن الجاني أيضًا، أو قلع النابتة للمجني عليه، فلا شيء لواحد منهما. وإن نبتت سن الجاني دون المجني عليه، فله قلعها؛ لأنه أعدم سنه على الدوام، فملك أن يفعل به ذلك، ويحتمل ألا يملكه؛ لأنه قلعت له سن، فلا يملك قلع سنين.

فصل:
وتؤخذ الشفة بالشفة، وهي: ما جاوز حد الذقن والخدين علوًا وسفلًا، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ} [المائدة: 45] . ولأنها تنتهي إلى حد معلوم يمكن القصاص فيه، فوجب كالأنف. ويؤخذ البعض بالبعض، يقدر بالأجزاء، كبعض المارن.

فصل:
ويؤخذ اللسان باللسان، للآية، والمعنى، وبعضه ببعضه، لما ذكرنا. ولا يؤخذ أخرس بناطق؛ لأنه أكثر من حقه. ويؤخذ الأخرس بالناطق؛ لأنه دون حقه، ولا أرش معه؛ لأن التفاوت في المعنى، لا في الأجزاء. ويؤخذ لسان الفصيح بلسان الألثغ، ولسان الصغير، كما يؤخذ الكبير الصحيح بالطفل المريض.

فصل:
وتؤخذ اليد باليد، والرجل بالرجل، وكل إصبع بمثلها، وكل أنملة بمثلها، للآية، والمعنى. فإن قطع يده من الكوع، أو المرفق، فله أن يقتص من موضع القطع. وليس

(3/265)


له أن يقتص من دونه؛ لأنه أمكنه استيفاء حقه من موضعه، فلم يجز أن يستوفي من غيره. وإن قطعت يده من العضد، أو الساعد، لم يجز الاقتصاص من موضع القطع، بغير خلاف؛ لأنه لا يأمن الزيادة. وهل له أن يقتص من مفصل دونه؟ فيه وجهان:
أحدهما: ليس له ذلك، اختاره أبو بكر، لما روى نمران بن جارية عن أبيه: «أن رجلًا ضرب رجلًا على ساعده بالسيف، فقطعها من غير مفصل، فاستدعى عليه النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فأمر له بالدية، فقال: إني أريد القصاص: قال: خذ الدية بارك الله لك فيها ولم يقض له بالقصاص» . رواه ابن ماجه، ولأنه يقتص من غير محل الجناية، فلم يجز. كما لو أمكن القصاص من محل الجناية.
والثاني: له أن يقتص، اختاره بعض أصحابنا. فإذا قطعت من الساعد، فله أن يقتص من الكوع. وإن قطعت من العضد، فله أن يقتص من المرفق؛ لأنه عجز عن استيفاء حقه، وأمكنه أخذ دونه، فجاز، كما لو جرحه مأمومة، فأراد أن يقتص موضحة. وفي أخذ الحكومة للباقي وجهان. وإذا قطعت يده من العضد، لم يملك أن يقطع من الكوع؛ لأنه أمكنه استيفاء الذراع قصاصًا، فلم يكن له قطع ما دونه، كما لو قطع من المرفق. وإن قطعها من الكتف، فقال أهل الخبرة. يمكن الاقتصاص من غير جائفة، فله ذلك؛ لأنه مفصل، وليس له أن يقتص مما دونه، وإن قالوا: نخاف الجائفة، فلا قصاص منها؛ لأنها يخاف الزيادة. وفي الاقتصاص من المرفق وجهان. وحكم الرجل في القصاص من مفاصلها، من القدم والركبة والورك حكم اليد، سواء على ما بينا.

فصل:
ولا تؤخذ صحيحة بشلاء؛ لأنها فوق حقه، فأما الشلاء بالصحيحة، أو بالشلاء، فإن قال أهل الخبرة: لا يخاف عليه، اقتص؛ لأنه يأخذ حقه، أو دونه ولا أرش بالشلل؛ لأن الشلاء كالصحيحة في الخلقة، وإنما نقصت في الصفة، فأشبه الذمي مع المسلم، وإن قالوا: إن قطعت، خيف ألا تنسد العروق، ويدخل الهواء البدن فيفسد، لم يجز أن يقتص، لخوف الزيادة.

فصل:
ولا تؤخذ كاملة بناقصة. فلا تؤخذ ذات أظفار بما لا أظفار لها. ولا ذات خمس أصابع، بذات أربع. ولا بذات خمس بعضها أشل؛ لأنه أكثر من حقه. وهل له أن يقطع

(3/266)


من أصابع الجاني بقدر أصابعه؟ على الوجهين. فإن قلنا: له قطعها. فهل يدخل أرش ما تحت الأصابع من الكف في القصاص؟ فيه وجهان:
أحدهما: تدخل، كما تدخل في ديتها.
والثاني: لا تدخل؛ لأنه جزء يستحق إتلافه، تعذر عليه أخذه فوجب أرشه، كالمنفرد. فإن كانت الزائدة من أصابع الجاني زائدة في الخلقة، لم تمنع القصاص عند ابن حامد؛ لأنها عيب ونقص في المعنى، فلم يمنع وجودها أخذها بالكاملة، كالسلعة فيها. واختار القاضي: أنها تمنع؛ لأنها زيادة في الأصابع، أشبهت الأصلية. فإن قطع ناقص الأصابع يدًا كاملة، وجب القصاص؛ لأنه يأخذ دون حقه. وفي وجوب الدية للأصابع الزائدة وجهان.

فصل:
وإن قطع ذو يد كاملة، كفًا فيها أربع أصابع أصلية، وإصبع زائدة، لم يجب القصاص؛ لأنه يأخذ أكثر من حقه، وفي جواز الاقتصاص من أصابعه الأصلية وجهان. فإن اقتص منها. فهل له حكومة في الزيادة؟ على وجهين لما تقدم. وإن قطع من له أربع أصابع أصلية، وإصبع زائدة، كفًا كاملة الأصابع، ملك القصاص، ولا أرش له، لنقصان الزائدة؛ لأنها كالأصلية في الخلقة، وإنما هي ناقصة في المعنى. وإن كان في يد كل واحد منهما إصبع زائدة، أخذت إحداهما بالأخرى، لتساويهما، وإذا قطع إصبعًا فتآكلت إلى جانبها أخرى، وسقطت من مفصل، أو تآكل الكف، وسقط من الكوع، وجب القصاص في الجميع؛ لأنه تلف بسراية قطع مضمون بالقصاص، فوجب فيه القصاص، كالنفس، وإن شلت إلى جانبها أخرى، لم يجب القصاص في الشلاء؛ لأنها لو شلت بجنايته مباشرة، لم يجب القصاص، فهاهنا أولى.

فصل:
وتؤخذ الأليتان بالأليتين، لقوله سبحانه: {وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ} [المائدة: 45] ولأنهما ينتهيان إلى حد فاصل، فوجب فيهما القصاص، كالشفتين.

فصل:
وتؤخذ الذكر بالذكر كذلك، ويؤخذ بعضه ببعضه، لما ذكرنا في الأنف، ويؤخذ كل واحد من الأقلف والمختون بمثله؛ لأن زيادة أحدهما على الآخر بجلدة تستحق

(3/267)


إزالتها. ولا يؤخذ صحيح بأشل؛ لأن الأشل ناقص، فلم يؤخذ به كامل، كاليد. ولا يؤخذ ذكر الفحل، بذكر الخصي؛ لأنه ناقص، لعدم الإنزال، والإيلاد، ولا بذكر خنثى؛ لأنه لا يعلم أنه ذكر. وفي أخذ الصحيح بذكر العنين. وجهان:
أحدهما: لا يؤخذ به، لنقصه.
والثاني: يؤخذ به؛ لأنه غير مأيوس منه، أشبه المريض.

فصل:
وتؤخذ الأنثيين بالأنثيين، للآية والمعنى. فإن قطع إحداهما، وقال أهل الخبرة: يمكن أخذها من غير تلف الأخرى، اقتص منه. وإن قالوا: يخاف تلف الأخرى، لم يقتص منه، لتوهم الزيادة.

فصل:
ولا قصاص في شفري المرأة عند القاضي؛ لأنه لحم لا مفصل له ينتهي إليه، فلم يقتص منه، كلحم الفخذ. وقال أبو الخطاب: فيهما القصاص؛ لأنه يعرف انتهاؤهما، فجرى فيهما القصاص، كالشفتين، وأجفان العينين.

فصل:
وإن قطع ذكر خنثى مشكل، وأنثييه وشفريه، فلا قصاص له حتى يتبين؛ لأننا لا نعلم أن المقطوع فرج أصلي. وإن طلب الدية، وكان يرجى انكشاف حاله، أعطي اليقين، وهو دية شفري امرأة، وحكومة في الذكر والأنثيين. وإن كان مأيوسًا من كشف حاله، أعطي نصف دية ذلك كله، وحكومة في نصفه الباقي، وعلى قول ابن حامد: لا حكومة فيه؛ لأنه نقص.

فصل:
وإن اختلف العضوان في صغر، أو كبر، أو طول، أو قصر، أو صحة، أو مرض، لم يمنع القصاص؛ لأن اعتبار التساوي في هذه المعاني، يسقط القصاص، فيسقط اعتبارها، كما في النفس.

فصل:
وما انقسم إلى يمين ويسار، كالعينين والأذنين، والمنخرين، واليدين، والرجلين، أو إلى أعلى وأسفل، كالجفنين، والشفتين، لم يؤخذ شيء منها بما يخالفه في ذلك. ولا تؤخذ سن بسن غيرها، ولا إصبع بإصبع تخالفها، ولا أنملة بأنملة لا تماثلها في

(3/268)


موضعها واسمها؛ لأنها جوارح مختلفة المنافع والأماكن، فلم يؤخذ بعضها ببعض، كالعين والأنف. ولا يؤخذ أصلية من الأصابع والأسنان بزائدة، ولا زائدة بأصلية، لعدم التماثل بينهما. وتؤخذ الزائدة بالزائدة، إذا اتفق محلاهما، لتماثلهما، وإن اختلف محلاهما، لم تؤخذ إحداهما بالأخرى؛ لأنهما مختلفتان في أصل الخلقة، أشبه الوسطى بالسبابة، وإن تراضى الجاني والمجني عليه، بأخذ ما لا يجب القصاص فيه، لم يجز؛ لأن الدماء لا تستباح بالإباحة.

فصل:
وإن جرحه جرحًا فيه القصاص، فاندمل، ثم قتله، وجب القصاص فيهما؛ لأنهما جنايتان، يجب القصاص في كل واحدة منهما منفردة، فوجب عند الاجتماع، كاليدين. وإن قتله قبل اندمال الجرح، ففيه روايتان.
إحداهما: يجب القصاص أيضًا. لما ذكرناه.
والثانية: يقتل ولا قصاص في الجرح؛ لأن القصاص في النفس، أحد بدلي النفس، فدخل الطرف في حكم الجملة كالدية.

فصل:
وإن قتل واحد جماعة، أو قطع عضوًا من جماعة، لم تتداخل حقوقهم؛ لأنها حقوق مقصودة لآدميين، فلم تتداخل، كالديون، لكن إن رضي الكل باستيفاء القصاص منه جاز؛ لأن الحق لهم، فجاز أن يرضى الجماعة بالواحد، كما لو قتل عبدًا عبيدًا خطأً فرضوا بأخذه. وإن طلب واحد القصاص، والباقون الدية، فلهم ذلك، وإن طلب كل واحد استيفاء القصاص مستقلًا، قدم الأول؛ لأن له مزية السبق، فإن أسقط حقه قدم الثاني، ثم الثالث، ويصير حق الباقين في الدية؛ لأن القود فاتهم، فانتقل حقهم إلى الدية، كما لو مات، وإذا قتلهم دفعة واحدة، أو أشكل السابق، قدم من تقع له القرعة؛ لأن حقوقهم تساوت، فوجب المصير إلى القرعة، كالسفر بإحدى النساء، فإن عفا من له القرعة، أعيدت للباقين، لتساويهم. ومتى ثبت القصاص لأحدهم بالسبق، أو بالقرعة، فبادر غيره فقتله، كان مستوفيًا لحقه، ووجب للآخر الدية، كما لو قتل مرتدًا، كان مستوفيًا لقتل الردة. وإن أساء في الافتئات على الإمام. وإن كان الأول غائبًا، أو صغيرًا، انتظر؛ لأن الحق له. وإن كان القتل في المحاربة، فهو كالقتل في غيرها؛ لأنه قتل موجب للقصاص، فأشبه غيره.

فصل:

(3/269)


وإن قطع طرف رجل، وقتل آخر، قطع لصاحب الطرف، ثم قتل للآخر، تقدم القتل، أو تأخر؛ لأنه أمكن الجمع بين الحقين من غير نقص، فلم يجز إسقاط أحدهما، بخلاف التي قبلها. وإن قطع يد رجل، وإصبعًا من آخر، قدمنا السابق منهما، أيهما كان؛ لأن اليد تنقص بنقص الإصبع، ولذلك لا تؤخذ الصحيحة بالناقصة، بخلاف النفس، فإنها لا تنقص بقطع الطرف، بدليل أخذ الصحيح الأطراف بمقطوعها.

فصل:
وإن قتل وارتد، أو قطع يمينًا وسرق، قدم حق الآدمي؛ لأن حقه مبني على التشديد، لشحه وحاجته. وحق الله مبني على السهولة، لغنى الله وكرمه.

[باب استيفاء القصاص]
إذا قتل الآدمي، استحق القصاص ورثته كلهم، لما روى أبو شريح أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من قتل له قتيل، فأهله بين خيرتين، أن يأخذوا العقل، أو يقتلوا» . رواه أبو داود. وفي ((الصحيحين)) من حديث أبي هريرة أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من قتل له قتيل، فهو بخير النظيرين، إما أن يقتل، وإما أن يفدى» . ولأنه حق يستحقه الوارث من جهة موروثه، فأشبه المال. فإن كان الوارث صغيرًا، لم يستوف له الولي. وعنه: للأب استيفاؤه؛ لأنه أحد بدلي النفس، فأشبه الدية. والمذهب الأول؛ لأن القصد التشفي، ودرك الغيظ، ولا يحصل ذلك باستيفاء الأب، فلم يملك استيفاءه، كالوصي، والحاكم. فعلى هذا: يحبس القاتل إلى أن يبلغ الصغير، ويعقل المجنون، ويقدم الغائب؛ لأنه فيه حظًا للقاتل بتأخير قتله، وحظًا للمستحق بإيصال حقه إليه. فإن أقام القاتل كفيلًا، ليخلي سبيله، لم يجز؛ لأن الكفالة بالدم غير صحيحة. وإن وثب الصبي، أو المجنون على القاتل، فقتله، ففيه وجهان:
أحدهما: يصير مستوفيًا لحقه؛ لأنه عين حقه أتلفه، فأشبه ما لو كانت وديعة عند رجل.
والثاني: لا يصير مستوفيًا لحقه؛ لأنه ليس من أهل الاستيفاء، فتجب له دية أبيه، وعلى عاقلته دية القاتل، بخلاف الوديعة، فإنها لو تلفت من غير تعد، برئ منها المودع، ولو هلك الجاني، من غير فعل، لم يبرأ من الجناية. وإن كان القصاص بين صغير وكبير، أو مجنون وعاقل، أو حاضر وغائب، لم يجز للكبير العاقل الحاضر

(3/270)


الاستيفاء؛ لأنه حق مشترك بينهما، فلم يجز لأحدهما الانفراد باستيفائه، كما لو كان بين بالغين عاقلين، وإن قتل من لا وارث له، فالقصاص للمسلمين؛ لأنهم يرثون ماله، واستيفاؤه إلى السلطان. فإن كان له من يرث بعضه، كزوج، أو زوجة، فاستيفاؤه إلى الوارث والسلطان، ليس لأحدهما الانفراد به، لما ذكرنا.

فصل:
فإن بادر بعض الورثة، فقتل القاتل بغير أمر صاحبه، فلا قصاص عليه؛ لأنه مشارك في استحقاق ما استوفاه، فلم تلزمه عقوبته، كما لو وطئ أحد الشريكين الجارية المشتركة، ويجب لشركائه حقهم من الدية، وفيه وجهان:
أحدهما: يجب على القاتل. الثاني لأن نفس القاتل كانت مستحقة لهما، فإذا أتلفها أحدهما، لزمه ضمان حق الآخر، كالوديعة لهما يتلفها أحدهما.
والثاني: يجب في تركة القاتل الأول؛ لأنه قود سقط إلى مال، فوجب في تركة القاتل، كما لو قتله أجنبي، ويرجع ورثة القاتل الأول على قاتل موروثهم بدية، ماعدا نصيبه من موروثهم. فلو قتلت امرأة رجلًا له ابنان، فقتلها أحدهما، كان للآخر في تركتها نصف دية أبيه، ويرجع ورثتها على قاتلها بنصف ديتها. وإن عفا بعض من له القصاص ثم قتله الآخر غير عالم بالعفو، أو غير عالم أن العفو يسقط القصاص، لم يجب عليه قصاص؛ لأن ذلك شبهة، فدرأت القصاص، كالوكيل إذا قتله بعد العفو، وقبل العلم، وإن قتله بعد العلم، فعليه القصاص؛ لأنه قتل معصومًا مكافئًا له لا حق له فيه، فوجب عليه القصاص، كما لو حكم بالعفو حاكم. فإن اقتصوا منه، فلورثته عليهم نصيبه من الدية، وإن اختاروا الدية، سقط عنه من الدية ما قابل حقه، ولزمه باقيها، وإن كان عفو شريكه على الدية، فله نصيبه منها، في تركة القاتل؛ لأنه حقه، انتقل من القصاص إلى ذمة القاتل في حياته، فأشبه الدين، بخلاف التي قبلها.

فصل:
ولا يجوز استيفاء القصاص إلا بحضرة السلطان؛ لأنه يفتقر إلى اجتهاد، ولا يؤمن منه الحيف مع قصد التشفي، فإن استوفاه من غير حضرة سلطان، وقع الموقع؛ لأنه استوفى حقه، ويعزر لافتئاته على السلطان. ويستحب أن يكون بحضرة شاهدين، لئلا ينكر المقتص الاستيفاء. وعلى السلطان أن يتفقد الآلة التي يستوفى بها. فإن كانت كالة، أو مسمومة، منعه الاستيفاء بها، لما روى شداد بن أوس: أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إن الله كتب الإحسان على كل شيء، فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة، وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبحة، وليحد أحدكم شفرته، وليرح ذبيحته» رواه مسلم وأبو داود ولأن

(3/271)


المسمومة تفسد البدن، وربما منعت غسله. وإن طلب من له القصاص أن يتولى الاستيفاء، لم يمكن منه في الطرف؛ لأنه لا يؤمن أن يجني عليه بما لا يمكن تلافيه. وقال القاضي: ظاهر كلام أحمد، أنه يمكن منه؛ لأنه أحد نوعي القصاص، أشبه القصاص في النفس، وإن كان في النفس، وكان يكمل الاستيفاء بالقوة والمعرفة، مكن منه، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ} [الإسراء: 33] . وقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من قتل له بعد مقالتي هذه قتيل فأهله بين خيرتين، أن يأخذوا العقل، أو يقتلوا» . ولأن القصد من القصاص، التشفي، ودرك الغيظ، وتمكينه منه أبلغ في ذلك. فإن كان لجماعة فتشاحوا في المستوفى، أقرع بينهم؛ لأنه لا يجوز اجتماعهم على القتل؛ لأن فيه تعذيبًا للجاني، ولا مزية لأحدهم، فوجب التقديم بالقرعة. ولا يجوز لمن خرجت له القرعة الاستيفاء إلا بإذن شركائه؛ لأن الحق لهم، فلا يجوز استيفاؤه بغير إذنهم. وإن كان فيهم من يحسن، وباقيهم لا يحسنون أمروا بتوكيله. وإن لم يكن مستحق للقصاص يحسن الاستيفاء، أمر بالتوكيل. فإن لم يوجد من يتوكل بغير عوض، بذل العوض من بيت المال؛ لأنه من المصالح. فإن لم يمكن، بذل من مال الجاني؛ لأن الحق عليه، فكان أجر الإيفاء عليه، كأجر كيل الطعام على البائع، وإن قال الجاني: أنا أقتص لك من نفسي، لم يجب إلى ذلك؛ لأن من وجب عليه إيفاء حق، لم يجز أن يكون هو المستوفي، كالبائع.

فصل:
وإذا وجب القتل على حامل، لم تقتل حتى تضع، لما روى معاذ بن جبل: أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إذا قتلت المرأة عمدًا، لم تقتل حتى تضع ما في بطنها إن كانت حاملًا. وحتى تكفل ولدها، وإن زنت، لم ترجم حتى تضع ما في بطنها، وحتى تكفل ولدها» . رواه ابن ماجه ولأن قتلها يفضي إلى قتل ولدها، ولا يجوز قتله. فإذا وضعت، لم تقتل حتى تسقيه اللبأ؛ لأنه لا يعيش إلا به. وإن لم يكن له من يرضعه، لم تقتل حتى ترضعه مدة الرضاع، لقوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «حتى تكفل ولدها»

(3/272)


ولأنه إذا وجب حفظه وهو حمل، فحفظه وهو مولود أولى. وإن وجدت مرضعة راتبة، قتلت؛ لأنه يستغني بها عن أمه، وإن وجدت مرضعات غير رواتب، أو لبن بهيمة يسقي منه راتب، جاز قتلها؛ لأن له ما يقوم به. ويستحب للولي تأخيره إلى الفطام؛ لأن عليه ضررًا، في اختلاف اللبن عليه، وفي شرب لبن البهيمة، فإن ادعت الحمل، حبست حتى تتبين حالها؛ لأن صدقها محتمل. وللحمل أمارات خفية تعلمها من نفسها. وفيه وجه آخر، أنها ترى القوابل، فإن شهدن بحملها أخرت، وإلا قتلت؛ لأن الحق حال عليها، فلا يؤخر بدعواها من غير بينة، فإن أشكل على القوابل، أو لم يوجد من يعرف ذلك، أخرت حتى يتبين؛ لأننا إذا أسقطنا القصاص خوف الزيادة، فتأخيره أولى.

فصل:
ولا يجوز استيفاء القصاص في الطرف، إلا بعد الاندمال، لما روى عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: «طعن رجل رجلًا بقرن في رجله، فجاء النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: أقدني، قال: دعه حتى يبرأ فأعادها عليه مرتين أو ثلاثًا، والنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: دعه حتى يبرأ فأبى فأقاده منه، ثم عرج المستقيد، فجاء النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: برأ صاحبي، وعرجت رجلي، فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: لا حق لك فذلك حين نهى أن يستقيد أحد من جرح حتى يبرأ صاحبه» . رواه الدارقطني. ولأنه قد يسري إلى النفس، فيصير قتلًا، وقد يشاركه غيره في الجناية فينقص.

فصل:
وإذا اقتص في الطرف على الوجه الشرعي، فسرى، لم يجب ضمان السراية، سواء سرى إلى النفس، أو عضو آخر، لما روي أن عمر وعليًا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قالا: من مات من حد، أو قصاص، لا دية له، الحق قتله. رواه سعيد في ((سننه)) ولأنه قطع مقدر مستحق، فلم تضمن سرايته، كقطع السارق. وإن تعدى في القطع، أو قطع بآلة كالة، أو مسمومة فسرى، ضمن السراية؛ لأنه سراية قطع غير مأذون فيه، أشبه سراية الجناية. وسراية الجناية مضمونة؛ لأنها سراية قطع مضمون. فإن اقتص في الطواف قبل الاندمال، ثم سرت الجناية، كانت سرايتها هدرًا، لخبر عمرو بن شعيب، ولأنه استعجل ما ليس له استعجاله، فبطل حقه، كقاتل موروثه. وإن سرى القطعان جميعًا، فهما هدر كذلك. وإن اقتص بعد الاندمال، ثم انتقض جرح الجناية، فسرى إلى النفس وجب القصاص به؛ لأنه اقتص بعد جواز الاقتصاص، فإن اختار الدية، فله دية إلا دية الطرف

(3/273)


المأخوذ في القصاص. فإن كانت دية الطرف كدية النفس، فليس له العفو على مال كذلك. وإن كان الجاني ذميًا قطع أنف مسلم، فاقتص منه بعد البرء، ثم سرى إلى نفس المسلم، فلوليه قتل الذمي، وهل له أن يعفو على نصف دية المسلم؟ فيه وجهان:
أحدهما: له ذلك؛ لأن دية أنف اليهودي، نصف دية المسلم، فيبقى له النصف.
والثاني: ليس له ذلك؛ لأنه استوفى بدل أنفه، أشبه ما لو كان الجاني مسلمًا.

فصل:
ولا يجوز الاقتصاص فيما دون النفس بالسيف، ولا يجوز إلا بحديدة ماضية تصلح لذلك، سواء كانت الجناية بمثلها أو بغيرها؛ لأنه لا يؤمن أن يهشم العظم، أو يتعدى إلى المحل بما يفضي إلى الزيادة، أو تلف النفس، وإن قلع عينه بأصبع، لم يجز الاستيفاء منه بالإصبع، كذلك.

فصل:
فأما النفس. فإن كان القتل بالسيف، لم يجز قتله إلا بالسيف؛ لأنه آلة القتل، وأوجاه، فإن ضربه مثل ضربته فلم يمت، كرر عليه حتى يموت؛ لأن قتله مستحق، ولا يمكن إلا بتكرار الضرب. وإن قتله بحجر، أو تغريق أو حبس حتى يموت، أو خنق ففيه روايتان:
إحداهما: يقتل بمثل ذلك، لقول الله تعالى: {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ} [النحل: 126] . ولأن «النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رضخ رأس يهودي رضخ رأس جارية بين حجرين» . متفق على معناه. وروي عنه - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: أنه قال: «من حرق حرقناه، ومن غرق غرقناه» . ولأن القصاص مشعر بالمماثلة، فيجب أن يعمل بمقتضاه.
والثانية: لا يقتل إلا بالسيف، في العنق، لما روي عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «لا قود إلا بالسيف» رواه ابن ماجه. ونهى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن المثلة. وقال: «إذا قتلتم فأحسنوا القتلة» ولأنه زيادة تعذيب في القتل، فلم تجز المماثلة فيه، كما لو قتله بسيف كال.
وإن قتله بمحرم لعينه، كالسحر وتجريع الخمر، واللواط، قتل بالسيف، رواية واحدة؛ لأن ذلك محرم لعينه، فسقط، وبقي القتل، وإن قتله بسيف كال، لم يقتل بمثله؛ لأن المماثلة فيه لا تتحقق، وإن حرقه، فقال القاضي: فيه روايتان، كالتغريق،

(3/274)


وقال بعض أصحابنا: لا يحرق بحال، لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا يحرق بالنار إلا رب النار» رواه ابن ماجه. وإن قطع يده من المفصل، أو أوضحه، ثم ضرب عنقه، فهل يفعل به كما فعل، أو يقتصر على ضرب عنقه؟ على روايتين، ذكرهما الخرقي، وإن لم يضرب عنقه، بل سرت الجناية إلى نفسه، ففيه أيضًا روايتان:
إحداهما: لا يقتل إلا بالسيف، في العنق، لئلا يفضي إلى الزيادة على ما أتي به.
والثانية: يفعل به كما فعل، فإن مات وإلا ضربت عنقه؛ لأنه لا يمكن أن يقطع منه عضو آخر. والزيادة لضرورة استيفاء الحق محتملة، بدليل تكرار الضرب في حق من قتل بضربة واحدة، وإن جرحه جرحًا لا قصاص فيه، كقطع الساعد والجائفة، فمات، أو ضرب عنقه بعده، فقال أبو الخطاب: لا يقتل إلا بالسيف في العنق، رواية واحدة؛ لأنها جناية لا قصاص فيها، فلا يستوفي بها القصاص، كتجريع الخمر، وذكر القاضي فيها روايتين، كالتي قبلها؛ لأن «النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، رض رأس اليهودي بين حجرين» ، ولأن المنع من القصاص فيها منفردة، لخوف سرايتها إلى النفس، وليس بمحذور هاهنا.

فصل:
وكل موضع، قلنا: ليس له أن يفعل مثل فعل الجاني، إذا خالف وفعل، فلا شيء عليه؛ لأنه حقه، وإنما منع منه، لتوهم الزيادة، ولو أجافه أو أمه أو قطع ساعده، فاقتص منه مثل ذلك، ولم يسر، فلا شيء عليه كذلك، وإن سرى، ضمن سرايته؛ لأنها سراية قطع، غير مأذون فيه.

فصل:
وإن جنى عليه جناية ذهب بها ضوء عينيه، فكانت مما يجب به القصاص، كالموضحة، اقتص منها، فإن ذهب ضوء عينيه، فقد استوفى حقه، وإن لم يذهب عولج بما يزيل الضوء، ولا يذهب بالحدقة، مثل أن يحمي حديدة، ويقربها منها وإن ذهب ضوء إحداهما، غطيت العين الأخرى، وقربت الحديدة إلى التي يقتص منها، لما روى يحيى بن جعدة: أن أعرابيًا، قدم بحلوبة له المدينة، فساومه فيها مولى لعثمان بن عفان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، فنازعه، فلطمه، ففقأ عينه، فقال له عثمان: هل لك أن أضعف لك الدية وتعفو عنه؟ فأبى، فرفعهما إلى علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، فدعا علي بمرآة، فأحماها ثم

(3/275)


وضع القطن على عينه الأخرى، ثم أخذ المرآة بكلبتين، فأدناها من عينه، حتى سال إنسان عينه. فإن لم يمكن إلا بالجناية، على العضو، سقط القصاص. وإن أذهب بصره بجناية لا قصاص فيها، كالهاشمة واللطمة، عولج بصره بما ذكرنا، ولم يقتص منه، للأثر، ولأنه تعذر القصاص في محل الجناية، فعدل إلى أسهل ما يمكن، كالقتل بالسحر، وله أرش الجرح، وذكر القاضي في اللطمة: أنه يفعل به، كما فعل والصحيح: الأول؛ لأن اللطمة لا يقتص منها منفردة، فكذلك إذا أذهب العين، كالهاشمة.

فصل:
ومن وجب له القصاص في النفس، فضرب في غير موضع الضرب عمدًا، أساء ويعزر. فإن ادعى أنه أخطأ في شيء يجوز الخطأ فيه، قبل قبوله مع يمينه؛ لأنه يدعي محتملًا، وهو أعلم بنفسه، وإن كان لا يجوز في مثله الخطأ، لم قبل قوله، لعدم الاحتمال، فإن أراد العود إلى الاستيفاء، لم يمكنه منه؛ لأنه لا يؤمن منه التعدي ثانيًا، وقال القاضي: يمكن؛ لأن الحق له. والظاهر، أنه لا يعود إلى مثله. وإن كان له القصاص في النفس فقطع طرفه، فلا قصاص عليه؛ لأنه قطع طرفًا يستحق إتلافه ضمنًا، فكان شبهة مسقطة للقصاص ويضمنه بديته؛ لأنه طرف له قيمة حين القطع، قطعه بغير حق، فوجب ضمانه، كما لو قطعه بعد العفو عنه.

فصل:
وإن وجب له القصاص في الطرف، فاستوفى أكثر منه عمدًا، وكان الزائد موجبًا للقصاص، مثل أن وجب له قطع أنملة، فقطع اثنتين، فعليه القود، وإن كان خطأ، أو لا يجب في مثله القود، مثل من وجبت له موضحة، فاستوفى هاشمة، فعليه أرش الزائد، كما لو فعله في غير قصاص، فإن كانت الزيادة لاضطراب الجاني، فلا شيء فيها؛ لأنها حصلت بفعله في نفسه، فهدرت. وإن استوفى من الطرف بحديدة مسمومة فمات، لم يجب القصاص؛ لأنه تلف من جائز وغيره، ويجب نصف الدية؛ لأنه تلف من فعل مضمون وغير مضمون، فقسم ضمانه بينهما.

فصل:
وإن وجب له قصاص في يد، فقطع الأخرى، فقال أبو بكر: يقع الموقع، ويسقط القصاص، سواء قطعها بتراضيهما، أو بغيره؛ لأن ديتهما واحدة، وألمهما واحد، واسمهما ومعناهما واحد، فأجزأت إحداهما عن الأخرى، كالمتماثلتين، ولأن إيجاب القصاص في الثانية، يفضي إلى قطع يدين بيد واحدة، وتفويت منفعة الجنس في حق من لم يفوتها. وقال ابن حامد: لا يجزئ؛ لأن ما لا يجوز أخذه قصاصًا، لا يجزئ

(3/276)


بدلًا، كاليد عن الرجل، فعلى هذا إن أخذها بتراضيهما، فلا قصاص على قاطعها؛ لأنه قطعها بإذن صاحبها، ويسقط القصاص في الأخرى، وفي أحد الوجهين؛ لأن عدوله عن التي يستحقها، رضي بترك القصاص فيها. ولكل واحد على الآخر دية يده.
والثاني: لا يسقط؛ لأنه أخذ الثانية بدلًا عن الأولى، ولم يسلم البدل، فبقي حقه في المبدل، فيقتص من اليد الأخرى، ويعطيه دية التي قطعها. وإن قطعها كرهًا عالمًا بالحال، فعليه القصاص فيها، وله القصاص في الأخرى. وإن قال: أخرج يمينك لأقتص منها، فأخرج يساره، فقطعها يظنها اليمين، وقال المخرج: عمدت إخراجها عالمًا أنها لا تجزئ، فلا ضمان فيها؛ لأن صاحبها بذلها راضيًا بقطعها، بغير بدل. وإن قال: ظننتها اليمنى، أو أنها الواجب قطع اليسرى. أو أنها تجزئ أو أخرجتها دهشة، فعلى قاطعها ديتها؛ لأنه بذلها لتكون عوضًا، فلم تكن عوضًا، فوجب بدلها كما لو اشترى سلعة بعوض فاسد، فتلفت عنده، وإن علم المستوفي حال المخرج، وحال اليد، ففيها القود، في أحد الوجهين؛ لأنه تعمد قطع يد معصومة، وفي الثاني: لا قود عليه؛ لأنه قطعها ببذل صاحبها ورضاه، وعليه ديتها. وإن جهل الحال، فلا قصاص عليه، وعليه ديتها. وإن كان القصاص على مجنون، فقال له المقتص: أخرج يمينك، فأخرج يساره، فقطعها عمدًا، فعليه القصاص. وإن كان جاهلًا، فعليه الدية؛ لأن بذل المجنون لا يصح، فصار كما لو بدأ بقطعه. وإن كان القصاص للمجنون، فأخرج إليه يساره، فقطعها، ذهبت هدرًا؛ لأنه ليس من أجل الاستيفاء، فإذا سلطه على إتلاف عضوه، لم يضمنه، كما لو أذن له في إتلاف ماله.

فصل:
ومن وجب عليه القصاص في نفس، أو طرف، فمات عن تركة وجبت دية جنايته في تركته؛ لأنه تعذر استيفاء القصاص من غير إسقاط، فوجبت الدية، كقتل غير المكافئ. وإن لم يخلف تركة، سقط الحق، لتعذر استيفائه.

فصل:
ومن قتل، أو أتى حدًا خارج الحرم، ثم لجأ إليه، لم يجز الاستيفاء منه في الحرم، لقول الله تعالى: {وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا} [آل عمران: 97] . ولما روى أبو شريح الكعبي: أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إن مكة حرمها الله، ولم يحرمها الناس، فلا يحل لامرئ يؤمن بالله واليوم الآخر، أن يسفك بها دمًا، ولا يعضد شجرة، فإن أحد ترخص بقتال رسول

(3/277)


الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فقولوا: إن الله أذن لرسوله، ولن يأذن لكم، وإنما أذن لي ساعة من نهار، وقد عادت حرمتها اليوم، كحرمتها بالأمس، فليبلغ الشاهد الغائب» متفق عليه. ولا يبايع، ولا يشارى، ولا يطعم، ولا يؤوى، ويقال له: اتق الله، واخرج إلى الحل. فإذا خرج استوفي منه؛ لأن ابن عباس قال ذلك، ولأن في إطعامه تمكينًا في تضييع الحق الذي عليه، ولا فرق بين القتل وغيره من العقوبات. وروى حنبل عنه: أن الحدود كلها تقام في الحرم، إلا القتل؛ لأن حرمة النفس أعظم. والمذهب: الأول. قال أبو بكر: انفرد حنبل عن عمه بهذه الرواية. ولأن ما حرم النفس، حرم الطرف كالعاصم، فإن خالف واستوفى في الحرم، أساء ووقع الموقع، كما لو استوفى من غير حضرة السلطان. ومن جنى في الحرم، جاز الاستيفاء منه في الحرم؛ لأنه انتهك حرمته، فلم ينتهض عاصمًا له، ولأن أهل الحرم، يحتاجون إلى الزجر عن الجنايات، رعاية لحفظ مصالحهم، كحاجة غيرهم، فوجب أن تشرع الزواجر في حقهم.

[باب العفو عن القصاص]
وهو مستحب لقول الله تعالى: {وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ} [المائدة: 45] . ومن وجب له القصاص، فله أن يقتص، وله أن يعفو عنه مطلقًا إلى غير بدل، وله أن يعفو على المال، لقول الله تعالى: {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ} [البقرة: 178] أوجب الاتباع والأداء بمجرد العفو. وروى أبو شريح الكعبي: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «ثم أنتم يا خزاعة، قد قتلتم هذا القتيل من هذيل، وأنا والله عاقله، فمن قتل بعده قتيلًا، فأهله بين خيرتين، إن أحبوا قتلوا، وإن أحبوا أخذوا الدية» . رواه أبو داود. وإذا عفا عن القصاص، أو عن بعضه، سقط كله؛ لأنه حق مبناه على الإسقاط لا يتبعض. فإذا سقط بعضه، سقط جميعه، كالرق، وإن وجب لجماعة فعفا بعضهم، سقط كله، لما روى زيد بن وهب، أن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أتي برجل قتل قتيلًا، فجاء ورثة المقتول ليقتلوه، فقالت امرأة المقتول، وهي أخت القاتل:

(3/278)


قد عفوت عن حقي، فقال عمر: الله أكبر عتق القتيل قبل أن ... رواه أبو داود، ولما ذكرناه في المعنى. ثم إن عفا على مال، انتقل حق الجميع إلى الدية. وإن عفا مطلقًا. انتقل حق الباقين إلى الدية. كما يسقط حق أحد الشريكين، إذا أعتق شريكه إلى القيمة. وقد روى زيد بن وهب: أن رجلًا دخل على امرأته، فوجد عندها رجلًا، فقتلها، فاستعدى عليه إخوتها عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -. فقال بعض إخوتها: قد تصدقت، فقضى لسائرهم بالدية.

فصل:
ويصح العفو، بلفظ العفو، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ} [البقرة: 178] . وبلفظ الصدقة، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ} [المائدة: 45] . وبلفظ الإسقاط؛ لأنه إسقاط للحق، وبكل لفظ يؤدي معناه؛ لأن المقصود المعنى، فبأي لفظ حصل، ثبت حكمه كعقد البيع.

فصل:
واختلفت الرواية في موجب العمد. فعنه: موجبه، أحد شيئين. القصاص، أو الدية، لخبر أبي شريح؛ لأن له أن يختار أيهما شاء. فكان الواجب أحدهما، كالهدي والطعام في جزاء الصيد. وعنه: موجبه القصاص عينًا، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى} [البقرة: 178] . ولأنه بدل يجب حقًا لآدمي، فوجب معينًا كبدل ماله، فإن قلنا بهذا، فعفا عنه مطلقًا، سقط القصاص، ولم تجب الدية؛ لأنه لم يجب له غير القصاص وقد أسقطه بالعفو. وإن قلنا: موجبه أحد الشيئين، فعفا عن القصاص مطلقًا، وجبت الدية؛ لأن الواجب أحدهما، فإن ترك أحدهما، تعين الآخر. وإن اختار الدية، سقط القصاص، وثبت المال. وإن اختار القصاص، تعين، وقال القاضي: وله الرجوع، إلى المال؛ لأن القصاص أعلى، فكان له أن ينتقل إلى الأدنى، ولهذا قلنا: له المطالبة بالدية وإن كان القصاص واجبًا عينًا، ويحتمل أنه ليس له ذلك؛ لأنه تركها فلم يرجع إليها، كما لو عفا عنها وعن القصاص. ولو جنى عبد على حر جناية موجبة للقصاص، فاشتراه بأرشها، سقط القصاص؛ لأن شراءه بالأرش اختيار للمال، ثم إن كان أرشها مقدرًا بذهب، أو فضة، صح الشراء؛ لأنه ثمن معلوم. وإن كان إبلًا، لم يصح؛ لأن صفتها مجهولة، فلم يصح جعلها عوضًا، كما لو اشترى بها غير الجاني.

(3/279)


فصل:
ويصح عفو المفلس والسفيه عن القصاص؛ لأن الحجر عليهما في المال، وليس هذا بمال. فإن عفوا إلى مال، ثبت. وإن عفوا إلى غير مال، وقلنا: الواجب أحد شيئين، ثبت المال؛ لأنه واجب، وليس لهما إسقاط المال، وإن قلنا: الواجب القصاص عينًا، صح عفوهما؛ لأنه لم يجب إلا القصاص وقد أسقطاه.

فصل:
وإن وجب القصاص لصغير، فليس لوليه العفو على غير مال؛ لأنه تصرف لا حظ للصغير فيه. وإن عفا على مال، وللصغير كفاية من ماله، أو له من ينفق عليه، لم يصح عفوه؛ لأنه يسقط القصاص من غير حاجة. وإن لم يكن له ذلك، صح عفوه؛ لأن للصغير حاجة إليه، لحفظ حياته، ويحتمل أن لا يصح؛ لأن نفقته في بيت المال. وإن قُتل من لا ولي له، فالأمر إلى السلطان، إن رأى قتل، وإن رأى عفا على مال؛ لأن الحق للمسلمين فكان على الإمام فعل ما يرى المصلحة فيه. وإن أراد أن يعفو على غير مال، لم يجز لأنه لا حظ للمسلمين فيه. ويحتمل جواز العفو على غير مال؛ لأنه روي عن عثمان أنه عفا عن عبيد الله بن عمر لما قتل الهرمزان، ولم ينكره أحد من الصحابة، ولأنه ولي الدم، فجاز له العفو على غير مال، كسائر الأولياء.

فصل:
وإذا وكل من يستوفي له القصاص، ثم عفا عنه، ثم قتله الوكيل قبل علمه بالعفو، ففيه وجهان:
أحدهما: لا يصح العفو؛ لأنه عفا في حال لا يمكن تلافي ما وكل فيه، فلم يصح، كالعفو بعد رمي الحربة إلى الجاني.
والثاني: يصح؛ لأنه حق له، فصح عفوه عنه بغير علم الوكيل، كالدين، ولا قصاص على الوكيل؛ لأنه جهل تحريم القتل، وعليه الدية؛ لأنه قتل معصومًا، ويرجع بها على العافي في أحد الوجهين؛ لأنه غره، فرجع عليه بما غرم، كالمغرور بحرية الأمة.
والثاني: لا يرجع عليه؛ لأنه محسن بالعفو، بخلاف الغارّ بالحرية.

فصل:
وإذا جنى عليه جناية، توجب القصاص فيما دون النفس، فعفا عنها، ثم سرت إلى نفسه، فلا قصاص فيها؛ لأن القصاص لا يتبعض، وقد سقط في البعض، فسقط في

(3/280)


الكل. وإن كانت الجناية لا توجب القصاص، كالجائفة، وجب القصاص في النفس؛ لأنه عفا عن القصاص فيما لا قصاص فيه، فلم يؤثر العفو. وإن كان عفوه على مال، فله الدية كاملة في الموضعين. وإن عفا عن دية الجرح، صح عفوه؛ لأن ديته تجب بالجناية، بدليل أنه لو جنى على طرف عبد، فباعه سيده، ثم برأ، كان أرش الجناية للبائع دون المشتري، وإنما تتأخر المطالبة به، كالدين المؤجل، فعلى هذا تجب له دية النفس إلا دية الجرح. وقال القاضي: ظاهر كلام أحمد أنه لا يجب شيء؛ لأن القطع غير مضمون، فكذلك سرايته. والأول أولى؛ لأن القطع موجب، وإنما سقط الوجوب بالعفو، فيختص السقوط بمحل العفو. وإن قال: عفوت عن الجناية وما يحدث منها، صح عفوه، ولا قصاص في سرايتها ولا دية؛ لأنه إسقاط للحق بعد انعقاد سببه، فصح، كالعفو عن الشفعة بعد البيع. ولا يعتبر خروج ذلك من الثلث. نص عليه؛ لأن الواجب القصاص عينًا، أو أحد شيئين، فما تعين إسقاط أحدهما. وعنه: أنه إن مات من سرايتها، لم يصح العفو؛ لأنها وصية لقاتل، وعنه: تصح وتعتبر من الثلث.

فصل:
وإن قطع إصبعًا، فعفا عنها، ثم سرى إلى الكف، ثم اندمل، فالحكم فيه على ما فصلناه في سرايته إلى النفس. فإن قال الجاني: عفوت عن الجناية وما يحدث منها، فأنكر الولي العفو عن سرايتها، فالقول قوله؛ لأنه منكر، والأصل معه.

فصل:
وإن قطع يده، فعفا عن القصاص، وأخذ نصف الدية، فعاد الجاني فقتله، فلوليه القصاص في النفس؛ لأن القتل انفرد عن القطع، فوجب القصاص فيه، كما لو قتله غير القاطع. فإن اختار الدية، فقال أبو الخطاب: له الدية كلها؛ لأن القتل منفرد عن القطع، فلم يدخل حكمه في حكمه، كما لو كان القاطع غيره، ولأن من ملك القصاص في النفس، ملك العفو عن الدية كلها، كسائر أولياء المقتولين. وقال القاضي: له نصف الدية؛ لأن القتل إذا تعقب الجناية قبل برئها، كان بمنزلة سرايتها، ولو سرى القطع، لم يجب إلا نصف الدية، كذا هاهنا.

فصل:
إذا قطع يد إنسان، فسرى إلى نفسه، فاقتص وليه في اليد، ثم عفا عن النفس على غير مال، جاز، ولا شيء عليه، سواء سرى القطع، أو وقف؛ لأن العفو يرجع إلى ما بقي، دون ما استوفي، فأشبه ما لو قبض بعض ديته، ثم أبرأه من باقيها، وإن عفا على مال، فوجب له نصف الدية؛ لأنه أخذ ما يساوي نصف الدية. وإن قطع يدي

(3/281)


رجل فسرى إلى نفسه، فاستوفى من يديه، ثم عفا عن النفس، لم يجب له شيء؛ لأنه لم يبق من الدية شيء. وإن قطع نصراني يد مسلم، فسرى، فقطع الولي يده، ثم عفا عن نفسه على مال، ففيه وجهان:
أحدهما: له نصف دية مسلم؛ لأنه رضي بأخذ يد النصراني بدل يد وليه، فبقي له النصف.
والثاني: يجب له ثلاثة أرباعها؛ لأنه استوفى يدًا قيمتها ربع دية مسلم، فبقي له ثلاثة أرباعها. وإن قطع يديه فسرى إلى نفسه، فاستوفى من يديه وعفا عن نفسه، فعلى الوجه الأول: لا شيء له؛ لأنه رضي بيده بدلًا من يديه، فيصير كما لو استوفى ديته. وعلى الثاني: له نصف الدية؛ لأنه أخذ ما يساوي نصفها، وبقي له نصفها. وإن كان الجاني امرأة على رجل، فعلى ما ذكرنا من التفصيل.

(3/282)