الكافي
في فقه الإمام أحمد [كتاب الأيمان]
لا تنعقد اليمين إلا من مختار، فأما الصبي، والمجنون، والنائم، فلا تنعقد
أيمانهم، لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «رفع القلم عن
ثلاثة» ... الحديث.
وفي السكران وجهان، بناء على طلاقه. ولا تنعقد يمين المكره؛ لأنه قول أكره
عليه بغير حق، فلم يصح، ككلمة الكفر. وتنعقد اليمين من الكافر، وتلزمه
الكفارة بالحنث، سواء حنث في الكفر أو الإسلام؛ «لأن عمر - رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُ - قال: يا رسول الله، إني نذرت في الجاهلية أن أعتكف ليلة في المسجد
الحرام، فقال له النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أوف بنذرك»
؛ ولأنه من أهل القسم، يصح استحلافه عند الحاكم، فانعقدت يمينه كالمسلم.
فصل:
واليمين على أربعة أضرب: يمين منعقدة تجب الكفارة بالحنث فيها، وهي اليمين
على مستقبل متصور، عاقدا عليه قلبه، فتوجب الكفارة، لقول الله تعالى:
{وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الأَيْمَانَ} [المائدة: 89] .
الضرب الثاني: لغو اليمين، فلا كفارة فيه، لقول الله تعالى: {لا
يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ} [المائدة: 89] ،
واللغو نوعان:
أحدهما: أن تجري اليمين على لسانه من غير قصد إليها، لما روت عائشة -
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - قال: يعني اللغو في اليمين هو كلام الرجل في بيته: لا والله،
وبلى والله» رواه البخاري وأبو داود.
(4/186)
وقال القاضي: هو أن يريد أن يقول: والله،
فيجري على لسانه: لا والله، أو عكس ذلك.
والثاني: أن يحلف على شيء، يظنه كما حلف، فيتبين بخلافه. وعنه: في هذا
النوع الكفارة؛ لأن ظاهر حديث عائشة حصر اللغو في النوع الأول، وظاهر
المذهب الأول؛ لأن هذا يمين على ماض فلم يوجب الكفارة، كالغموس.
الضرب الثالث: يمين الغموس، وهي التي يحلفها كاذبا، عالما بكذبه، فلا كفارة
فيها في ظاهر المذهب؛ لأنها يمين غير منعقدة لا توجب برا، ولا يمكن فيها
فلم توجب كفارة، كاللغو. وقد روي عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - أنه قال: «خمس من الكبائر لا كفارة لهن» ، ذكر منهن: «الحلف
على يمين فاجرة يقتطع بها مال امرئ مسلم» .
وعن أحمد: أن الكفارة تجب فيها؛ لأنه حالف مخالف مع القصد، فلزمته الكفارة
كالحالف على مستقبل.
الضرب الرابع: أن يحلف على مستحيل، كصوم أمس، والجمع بين الضدين، وشرب ماء
إناء لا ماء فيه، فلا كفارة فيها؛ لأنها غير منعقدة، لعدم تصور البر فيها،
كيمين الغموس. وقال القاضي: قياس المذهب أن تجب فيها الكفارة؛ لأنها يمين
على مستقبل. وإن حلف على مستحيل عادة، كإحياء الميت، وقلب الأعيان، فقال
القاضي وأبو الخطاب: فيها كفارة؛ لأنه متوهم التصور. وقياس المذهب أنها
كالتي قبلها؛ لأنها لا توجب برا، ولا يمكن فيها.
فصل:
فإن استثنى عقيب يمينه، فقال: إن شاء الله، لم يحنث، لما روى عن «النبي -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: من حلف فقال إن شاء الله -
لم يحنث» ، رواه أبو داود؛ لأنه علق المحلوف عليه بشرط يلزم من وجوده
وجوده، ومن عدمه عدمه، فلم يتصور الحنث فيها. ويشترط أن يكون متصلا
باليمين، ولا يفصل بينهما بكلام أجنبي، ولا سكوت يمكن الكلام فيه؛ لأن
الاستثناء من تمام الكلام، فاعتبر اتصاله به كالشرط وخبر المبتدأ. وعنه:
يجوز الاستثناء ما لم يطل الفصل، لما روى ابن عباس «أن النبي - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: لأغزون قريشا، ثم سكت، ثم قال: إن شاء
الله» رواه أبو داود.
(4/187)
وقال بعض أصحابنا: يجوز الاستثناء ما دام
في المجلس، واشترط القاضي أن يقصد الاستثناء، فإن سبق لسانه إليه من غير
قصد كالعادة، لم يصح الاستثناء؛ لأن اليمين يعتبر لها القصد، فكذلك ما يرفع
حكمها، ولا ينفعه الاستثناء بقلبه حتى يقول بلسانه، لقول رسول الله -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: إن شاء الله فعلقه بالقول؛ ولأن
اليمين لا تنعقد بالنية، فكذلك الاستثناء، إلا أن أحمد قال: إن كان مظلوما،
فاستثنى في نفسه، رجوت أن يجوز إذا حلف على نفسه، وذلك لأنه بمنزلة
التأويل، يجوز للمظلوم دون غيره.
فصل:
ولا تنعقد اليمين إلا باسم من أسماء الله تعالى، أو صفة من صفاته، لما روى
عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: إن الله ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم، فمن كان
حالفا فليحف بالله، أو ليصمت» متفق عليه. وعن ابن عمر: «أن رسول الله -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: من حلف بغير الله فقد أشرك» .
قال الترمذي: هذا حديث حسن.
فلو حلف بالكعبة أو بنبي، أو عرش، أو كرسي، أو غير ذلك، لم تنعقد يمينه.
وعنه: من حلف بحق رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فحنث،
فعليه الكفارة؛ لأنه أحد شرطي الشهادة، فأشبه الحلف باسم الله، والأول
أولى، لدخوله في عموم الأحاديث وشبهه، كسائر الأنبياء - عَلَيْهِمْ
السَّلَامُ -.
فصل:
وأسماء الله ثلاثة أقسام:
أحدها: ما لا يشارك الله تعالى فيه غيره، نحو: الله، والرحمن، ومالك يوم
الدين، ورب العالمين، والحي الذي لا يموت، فالحلف بها يمين بكل حال.
الثاني: ما يسمى به غير الله، وإطلاقه ينصرف إليه، كالملك، والجبار
والسلطان والرحيم، والقادر، فهذا إن نوى اليمين، أو أطلق، كان يمينا؛ لأنه
بإطلاقه ينصرف إليه، وإن نوى به غير الله، لم يكن يمينا؛ لأنه نوى ما
يحتمله، مما لو صرح به لم يكن يمينا. قال طلحة العاقولي: إذا قال: والخالق
والرزاق والرب، كان يمينا بكل حال؛ لأنها لا تستعمل مع لام التعريف، إلا في
اسم الله تعالى، فأشبهت القسم الأول.
الثالث: ما لا ينصرف بالإطلاق إلى اسم الله تعالى، كالحي، والعالم،
والموجود، والمؤمن، والكريم. فهذا إن أطلق لم يكن يمينا؛ لأنه لا ينصرف مع
الإطلاق إليه، وإن قصد باليمين اسم الله، كان يمينا. وقال القاضي: لا يكون
يمينا،
(4/188)
لأن اليمين إنما تنعقد لحرمة الاسم، ومع
الاشتراك لا حرمة له، والأول أصح؛ لأنه أقسم بالله قاصدا للحلف به، فكان
يمينا كالذي قبله.
فصل:
وصفات الله تعالى تنقسم قسمين:
أحدهما: ما هو صفة لذات الله تعالى لا يحتمل غيرها، كعظمة الله، وعزته،
وجلاله، وكبريائه، فالقسم بها يمين منعقدة؛ لأنها صفة من صفات ذات الله لم
يزل موصوفا بها، أشبهت أسماءه.
والثاني: ما هو صفة حقيقية، ويعبر به عن غير ذلك مجازا، كعلم الله وقدرته،
فإن أطلق كان يمينا، فإن نوى بعلم الله معلومه، وبقدرته مقدوره، فالمنصوص
عن أحمد أنه يمين؛ لأنه موضوع لليمين، فلا يقبل منه غيره، ويحتمل أن لا
يكون يمينا؛ لأنه نوى بكلامه ما يحتمله مما ليس بيمين، فأشبه القسم
بالقادر. وإن أقسم بحق الله، كان يمينا؛ لأنه إذا اقترن به عرف الاستعمال
باليمين، انصرف إلى ما يستحقه لنفسه من العظمة والكبرياء، فأشبه قدرة الله.
وإن قال: لعمر الله، كان يمينا؛ لأنه أقسم بصفة من صفات الله، فهو كالحالف
ببقاء الله. ويقال: الْعَمْرُ وَالْعُمُرُ وَاحِدٌ، فهو قسم ببقاء الله.
وقد ثبت لها عرف الاستعمال. قال الله تعالى: {لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي
سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ} [الحجر: 72] .
وقال النابغة:
فلا لعمر الذي قد زرته حججا ... وما هريق على الأنصاب من جسد
وإن قال: وايم الله، أو وايمن الله، فهو يمين، كما ذكرنا في الذي قبله، وإن
حلف بالقرآن، أو بكلام الله، فهي يمين منعقدة؛ لأن كلام الله صفة من صفاته،
والقرآن هو كلام الله. وإن حلف بسورة منه، فهي يمين؛ لأنها من القرآن،
وكذلك إن حلف بالمصحف؛ لأن القرآن فيه. قال الله تعالى: {إِنَّهُ لَقُرْآنٌ
كَرِيمٌ} [الواقعة: 77] {فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ} [الواقعة: 78] .
وإن حلف بعهد الله، أو ميثاقه، أو أمانته، فهو يمين؛ لأنه يحتمل كلام الله
الذي أمرنا به ونهانا، كقول تعالى: {أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ} [يس: 60]
، وقرينة الاستعمال صارفة إليه. وإن قال: والعهد والميثاق والأمانة، ونوى
ذلك كان يمينا. وإن أطلق ففيه روايتان:
(4/189)
إحداهما: يكون يمينا كذلك؛ ولأن اللام إن
كانت للتعريف، صرفته إلى عهد الله وميثاقه، وإن كانت للاستغراق، دخل ذلك
فيه.
والثانية: لا كفارة فيه؛ لأنه يحتمل غير ما تجب به الكفارة.
فصل:
وحروف القسم ثلاثة: الباء وهي الأصل تدخل على المُظهَر والمضمر، والواو وهي
بدل منها، تدخل على المظهر وحده، والتاء وهي بدل من الواو. وتدخل على اسم
الله تعالى وحده، فبأيها أقسم كان قسما صحيحا. وإن أقسم بغير حرف، فقال:
الله لأقومن، بالنصب، أو الجر - كان صحيحا؛ لأنه لغة صحيحة. وقد ورد به عرف
الاستعمال في الشرع. قال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
لركانة بن عبد يزيد: «الله ما أردت إلا واحدة، قال: الله ما أردت إلا
واحدة» . فإن قال: الله - بالرفع - لأقومن، ونوى اليمين، كان يمينا مع
لحنه، وإن لم يرد اليمين لم يكن يمينا؛ لأنه لم يأت بالموضوع، ولا قصده.
وقال أبو الخطاب: يكون يمينا، إلا أن يكون من أهل العربية. وإن قال: لاها
الله، ونوى اليمين، كان يمينا؛ لأن أبا بكر الصديق - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ
- قال في سلب قتيل أبي قتادة: لاها الله، إذا لا يعمد إلى أسد من أسد الله،
يقاتل عن الله وعن رسوله، فيعطيك سلبه، وإن قال: أشهد بالله، أو أقسم بالله
أو أحلف بالله، أو أقسمت بالله، أو شهدت بالله، ونوى اليمين، أو أطلق، كان
يمينا؛ لأنه قد ثبت له عرف الشرع والاستعمال. فإن قصد بذلك الخبر عما يفعله
ثانيا، أو عما فعله ماضيا، لم يكن يمينا. وكذلك القول في: أعزم بالله،
وعزمت بالله، في ظاهر كلام الخرقي. وقال أبو بكر: إن أطلق، لم يكن يمينا؛
لأنه لم يثبت له عرف الشرع ولا الاستعمال. وإن قال: قسما بالله، أو ألية
بالله، فهو يمين؛ لأن تقديره: أقسمت قسما، وآليت ألية. فإن قال: أقسمت، أو
آليت، أو حلفت، أو شهدت لأفعلن، ونوى اليمين بالله - فهو يمين؛ لأنه نوى ما
يحتمله مما هو يمين. وإن أطلق، ففيه روايتان:
إحداهما: هو يمين؛ لأنه ثبت له عرف الشرع والاستعمال، «فإن أبا بكر -
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: أقسمت عليك يا رسول الله لتخبرني بما أصبت
مما أخطأت، فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: لا تقسم يا
أبا بكر» .
وقالت عاتكة بنت زيد بن عمرو:
آليت لا تنفك عيني حزينة ... عليك ولا ينفك جلدي أغبرا
(4/190)
والثانية: تنعقد اليمين؛ لأنه يحتمل القسم
بغير اسم الله تعالى. وإن قال: حلفت بالله وأراد الخبر، لم يكن يمينا،
اختاره أبو بكر. وعنه: عليه الكفارة لإقراره على نفسه، والأول المذهب؛ لأنه
حكم بينه وبين الله تعالى، فلا يلزمه ما لم يوجد سببه. وإن قال: عليّ يمين،
فكذلك. فإن أراد عقد اليمين، لم يكن يمينا؛ لأنه لم يأت باسم الله، ولا
صفته، فلم يكن يمينا، كسائر الكلام.
فصل:
ويجاب القسم بأحرف خمسة: إن، واللام في الإيجاب، كقول الله: {قُلْ إِي
وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ} [يونس: 53] ، وقَوْله تَعَالَى: {قُلْ بَلَى
وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ} [التغابن: 7] ، و"ما" و"لا" و"إن" الخفيفة في
النفي كقول الله تعالى: {وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى} [الضحى: 2] {مَا
وَدَّعَكَ رَبُّكَ} [الضحى: 3] ، وقَوْله تَعَالَى: {وَأَقْسَمُوا
بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لا يَبْعَثُ اللَّهُ مَنْ يَمُوتُ} [النحل:
38] ، وقوله سبحانه: {يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنْ أَرَدْنَا إِلا
إِحْسَانًا وَتَوْفِيقًا} [النساء: 62] ، وتحذف "لا" وهي مرادة، كقول الله
تعالى: {تَاللَّهِ تَفْتَأُ تَذْكُرُ يُوسُفَ} [يوسف: 85] . وقال امرؤ
القيس:
فقلت يمين الله أبرح قاعدا
أي: لا أبرح. فإن قال: بالله صل لم تنعقد يمينه؛ لأنه لم يجبه بجواب القسم،
وإن قال: تالله لتفعلن، انعقدت يمينه، والكفارة على الحالف؛ لأنه الحانث.
فصل:
وإن حرم على نفسه شيئا، وقال: ما أحل الله علي حرام، فهي يمين. سواء أطلق
ذلك، أو علقه على شرط، لقول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ
تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ} [التحريم: 1] إلى قوله تعلى: {قَدْ
فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ} [التحريم: 2] يعني:
التكفير. قالت عائشة: «كان النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
يمكث عند زينب، ويشرب عندها عسلا، فتواطأت أنا وحفصة أيتنا دخل عليها النبي
- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فلتقل: إني أجد منك ريح مغافير،
فدخل على إحدانا، فقالت ذلك، فقال: لا، بل شربت عسلا ولن أعود له، فنزلت:
{يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ}
[التحريم: 1] » . متفق عليه.
(4/191)
وإن حرم أمته، أو أم ولده، فهو كتحريم
ماله؛ لأنها مال له. وقد قال الحسن: إن الآية نزلت في تحريم مارية القبطية.
فصل:
وإن حلف بالخروج من الإسلام، فقال: هو بريء من الإسلام، أو كافر، أو يهودي،
إن فعل - أثم؛ لما روي عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه
قال: «من حلف بملة غير الإسلام كاذبا متعمدا، فهو كما قال.» متفق عليه.
وفي لفظ: «من حلف أنه بريء من الإسلام، فإن كان قد كذب، فهو كما قال، وإن
كان صادقا لم يرجع إلى الإسلام سالما» .
وهل تنعقد يمينه موجبة للكفارة؟
فيه روايتان:
إحداهما: تنعقد، لما روى أبو بكر بإسناده عن زيد بن ثابت عن النبي - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أنه سئل عن الرجل يقول: هو يهودي، أو
نصراني، أو مجوسي، أو بريء من الإسلام في اليمين يحلف بها، فيحنث في هذه
الأشياء، قال: عليه كفارة يمين» .
والثانية: لا كفارة عليه؛ لأنه لم يحلف باسم الله، ولا صفته، فأشبه الحالف
بمحو المصحف.
وإن حلف باستحلال الزنا والخمر، أو ترك الصلاة، أو الصيام، فهو كالحالف
بالكفر؛ لأن ذلك كفر. وإن حلف بمحو المصحف، وقتل النفس التي حرم الله
ومعصيته في كل ما أمر، أو لعن نفسه، فلا كفارة فيه، نص عليه؛ لأنه لا يوجب
الكفر. وإن قال: لا يراني الله في موضع كذا، فذكر القاضي: أن أحمد نص على
أنه موجب للكفارة.
فصل:
وإن حلف رجل، فقال آخر: يميني في يمينك، يريد أنه يلزمني من اليمين ما
يلزمك، لم تنعقد يمينه؛ لأن اليمين بالله لا تنعقد بالكناية؛ لأن تعلق
الكفارة بها لحرمة اللفظ، ولا يوجد في الكناية. وإن كان ذلك في الطلاق،
انعقدت يمينه؛ لأن الطلاق ينعقد بالكناية. وإن قال: أيمان البيعة تلزمني
ولا يعرفها، أو لا نية له، لم يلزمه حكمها؛ لأن هذا كناية، فيعتبر له
النية. ولا تصح النية لما لا يعرفه. وإن عرفها، ونوى التزام ما فيها،
انعقدت يمينه بالطلاق، والعتاق؛ لأن اليمين بها تنعقد بالكناية، ولم تنعقد
باليمين بالله؛ لأنها لا تنعقد بالكناية.
(4/192)
وأيمان البيعة أيمان رتبها الحجاج، تشتمل
على اليمين بالله تعالى والعتاق، والطلاق، والحج، وصدقة المال، يستحلف بها
الناس عند عقد البيعة.
فصل:
والحالف مخير في يمينه بين البر، وبين التكفير. ولا يحرم المحلوف عليه بها،
لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذا حلفت على يمين
فرأيت غيرها خيراً منها، فأت الذي هو خير، وكفر عن يمينك» .
وإن فعل المحلوف عليه ناسياً، أو مكرهاً، لم يحنث، لقول الله تعالى:
{وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِنْ مَا
تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ} [الأحزاب: 5] وقول النبي - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إن الله تجاوز لأمتي عن الخطأ والنسيان وما
استكرهوا عليه» رواه ابن ماجه والدارقطني؛ ولأنه غير قاصد للمخالفة، فلم
يحنث، كالنائم.
وعنه: أنه يحنث؛ لأنه فعل المحلوف عليه قاصداً لفعله، أشبه غير الناسي. وإن
فعله جاهلاً، كرجل حلف لا يكلم فلاناً، فكلمه يظنه غيره، أو سلم على جماعة
هو فيهم ولم يعلم به، أو حلف لا يفارقه حتى يقضيه حقه. فأعطاه قدر حقه،
ففارقه، فوجده رديئاً، ففيه روايتان، كالناسي؛ لأنه غير قاصد للمخالفة. ومن
حلف على غيره، ألا يفعل وكان المحلوف عليه ممن يمتنع بيمينه، فهو في الجهل
والنسيان، كالحالف. وإن كان ممن لا يمتنع بيمينه، كالسلطان، والحاج، استوى
في الحنث العلم والجهل والنسيان؛ لأنه مما لا يؤثر اليمين في امتناعه،
فأشبه تعليق الطلاق بطلوع الشمس.
[باب كفارة اليمين]
ومن حلف، فهو مخير في التكفير قبل الحنث أو بعده، سواء كانت الكفارة صوماً
أو غيره، لما روى عبد الرحمن بن سمرة قال: قال النبي - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «يا عبد الرحمن بن سمرة، إذا حلفت على يمين، فرأيت
غيرها خيراً منها، فكفر عن يمينك، وائت الذي هو خير» متفق عليه. وفي لفظ:
«ثم ائت الذي هو خير» رواه أبو داود؛ لأنه كفر بعد سببه، فجاز ككفارة
الظهار، والقتل بعد الجرح.
(4/193)
فصل:
وهو مخير في أن يطعم عشرة مساكين أو يكسوهم، أو يعتق رقبة. فإن لم يجد صام
ثلاثة أيام، لقول الله تعالى: {لا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي
أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الأَيْمَانَ
فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا
تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ
لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ
إِذَا حَلَفْتُمْ وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ} [المائدة: 89] . وقد شرحنا
العتق والإطعام في كفارة الظهار.
فأما الكسوة، فلا يجزئه أقل من كسوة عشرة مساكين، للآية. وتقدر الكسوة بما
يجزئ في الصلاة، وهو ثوب للرجل، وللمرأة درع وخمار يستر جميعها. ولا يجزئ
السراويل، ولا إزار وحده؛ لأن التكفير عبادة تعتبر فيها الكسوة، فأشبهت
الصلاة. وتجزئه كسوتهم من القطن والكتان والصوف، وسائر ما يسمى كسوة؛ لأن
الله تعالى لم يعين جنسها، فوجب أن لا يتعين. وتجوز كسوتهم من الجديد
واللبيس، إلا أن يكون مما ذهبت منفعته باللبس، فلا يجزئ؛ لأن ذلك معيب،
فأشبه الحب المعيب. وإن كسا بعض المساكين من جنس وباقيهم من جنس آخر، أو
أطعمهم من جنس، جاز؛ لأنه قد أطعم وكسا عشرة، فجاز، كما لو كان من جنس
واحد. وإن أطعم بعضهم، وكسا باقيهم، جاز؛ لأنه أخرج من جنس المنصوص عليه
بعدة العدد الواجب، فأجزأ، كما لو أخرجه من جنس واحد؛ ولأن كل واحد من
النوعين يقوم مقام صاحبه في جميع العدد، فقام مقامه في بعضه كالتيمم مع
الماء. وإن أعتق نصف عبد. وأطعم خمسة مساكين، أو كساهم، لم يجزئه؛ لأن
مقصودهما مختلف متباعد، فلم يكمل أحدهما بصاحبه، كالإطعام والصيام. ويشترط
التتابع في صوم الأيام الثلاثة، وعنه: لا يشترط؛ لأن الأمر بها مطلق، فلم
يجز تقييده بغير دليل، فظاهر المذهب الأول؛ لأن في قراءة أبي وابن مسعود
(فصيام ثلاثة أيام متتابعات) فالظاهر أنهما سمعاه من رسول الله - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فيكون خبراً.
فصل:
وإن حلف العبد أجزأه الصيام؛ لأن ذلك فرض الحر المعسر، وهو أحسن من العبد
حالاً، وإذا أذن له سيده في التكفير بالمال، لم يلزمه؛ لأنه غير مالك له.
وظاهر كلام الخرقي: أنه لا يجزئه غير الصيام. وقال غيره: فيه روايتان:
إحداهما: لا يجزئه إلا الصيام؛ لأنه لا يملك المال، فلم يجز له التكفير به،
كالحر يكفر بمال غيره.
(4/194)
والثانية: له التكفير بالمال إذا أذن له
سيده فيه. وملكه قدر ما يكفر به؛ لأنه قدر على التكفير بالمال، فصح تكفيره
به، كالمعسر يملك ما يكفر به، فعلى هذا له التكفير بالإطعام. وهل له
التكفير بالعتق؟ على روايتين:
إحداهما: له ذلك؛ لأنه من صح تكفيره بالإطعام، صح تكفيره بالعتق، كالحر.
والثانية: لا يجوز؛ لأن العتق يقتضي الولاية والإرث، وليس ذلك للعبد. فإن
قلنا: يجوز، فأذن له في إعتاق نفسه عن كفارته، ففعل، ففيه وجهان:
أحدهما: يجوز؛ لأنها رقبة تجزئ عن غيره. فأجزأت عنه كغيره.
والثاني: لا تجزئه؛ لأنه لا يملك نفسه، فلا يجزئه التكفير بها، كما لو لم
يؤذن له؛ ولأن الكفارة عنه، لم يجز صرفها إلى نفسه، كالحر. فأما إن أذن في
العتق مطلقاً، لم يجز أن يعتق نفسه، كما لو وكل غريماً في إبراء بعض
غرمائه، لم يملك إبراء نفسه. وقال أبو بكر: فيه وجه آخر أنه يجزئه. فإن حنث
وهو عبد، فعتق، فقال الخرقي: لا يجزئه غير الصيام؛ لأنه حين الوجوب لا
يجزئه غيره؛ ولأنه حكم تعلق بالعبد، فلم يتغير بحريته كالحد. ومن جعل للعبد
التكفير بالمال في حال رقه، فهنا أولى. ومن اعتبر أغلظ الأحوال وكان
موسراً، لم يجز له التكفير بغير المال.
فصل:
ومن حلف أيماناً كثيرة على شيء واحد، فحنث، لم يلزمه أكثر من كفارة؛ لأنها
أسباب كفارات من جنس، فتداخلت، كالحدود. وإن حلف يميناً واحدة على أفعال
مختلفة، فحنث في الجميع، أجزأه كفارة واحدة؛ لأنها يمين واحدة، فلم يحنث
بها أكثر من كفارة، كما لو حلف على فعل واحد. وإن حنث بفعل واحد، انحلت
يمينه في الباقي. وإن حلف أيماناً على أفعال فقال: والله لا أكلت، والله لا
شربت، والله لا لبست، ففيه روايتان:
إحداهما: يجزئه عن الجميع كفارة واحدة، اختارها أبو بكر والقاضي؛ لأنها
كفارات من جنس واحد، فتداخلت، كالحدود.
والثانية: يجب في كل يمين كفارة، وهو ظاهر قول الخرقي؛ لأنها أيمان لا يحنث
في إحداهن بالحنث في الأخرى، فوجبت في كل يمين كفارتها، كالمختلفة الكفارة.
قال أبو بكر: المذهب الأول، وقد رجع أحمد عن الرواية الأخرى. ولو حلف على
شيء واحد بيمينين مختلفي الكفارة، كالظهار واليمين بالله، لزمته في كل يمين
كفارتها؛ لأنها أجناس، فلم تتداخل، كالحدود من أجناس.
(4/195)
فصل: ومن حلف بالقرآن، فحنث، فقياس المذهب
أن عليه كفارة واحدة؛ لأن الحلف بصفات الله تعالى وتكرر اليمين بها، لا
يوجب أكثر من كفارة واحدة، فهذا أولى. والمنصوص عنه أن عليه بكل آية كفارة؛
لأن ابن مسعود قال ذلك. قال أحمد: ما أعلم شيئاً يدفعه. ويحتمل أن ذلك ندب
غير واجب؛ لأنه قال: عليه بكل آية كفارة يمين، فإن لم يمكنه، فعليه كفارة
يمين. ورده إلى كفارة واحدة عند العجز، دليل على أن الزائد عليها غير واجب؛
إذ لو وجب، لم يسقط بالعجز، كالواحدة.
[باب جامع الأيمان]
ومبنى الأيمان على النية، فمتى نوى بيمينه ما يحتمله، تعلقت يمينه بما
نواه، دون ما لفظ به، سواء نوى ظاهر اللفظ أو مجازه، مثل أن ينوي موضوع
اللفظ، أو الخاص بالعام، أو العام بالخاص، أو غير ذلك؛ لأن النبي - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «وإنما لكل امرئ ما نوى» فتدخل فيه
الأيمان؛ ولأن كلام الشارع يصرف إلى ما دل الدليل على أنه أراده دون ظاهر
اللفظ، فكلام المتكلم مع اطلاعه على تعين إرادته أولى. فلو حلف ليأكلن
لحماً أو فاكهة، أو ليشربن ماء، أو ليكلمن رجلاً، أو ليدخلن داراً، أو لا
يفعل ذلك، وأراد بيمينه معيناً، تعلقت يمينه به دون غيره، وإن نوى الفعل أو
الترك في وقت بعينه، اختص بما نواه. وإن حلف لا يشرب له الماء من العطش،
يريد قطع منته، تناولت يمينه كل ما يمتن به؛ لأن ذلك للتنبيه على ما هو
أعلى منه، كقول الله تعالى: {وَلا تُظْلَمُونَ فَتِيلا} [النساء: 77] .
يريد: ولا تظلمون شيئاً. وقال الشاعر:
ولا يظلمون الناس حبة خردل
وإن حلف: لا يلبس شيئاً من غزلها، يريد قطع منتها، فباعه وانتفع بثمنه،
حنث، ولا يتعدى الحكم إلى كل ما فيه منة؛ لأن لكونه من غزلها أثراً في
داعية اليمين، فلم يجز حذفه. وإن حلف: لا يأوي معها في دار، ينوي جفاءها،
ولم يكن للدار أثر في القصد، فأوى معها في غيرها، حنث، ولا يحنث بصلتها
بغير الإيواء؛ لأن له أثراً فلا يحذف. وإن قال: إن رأيتك تدخلين الدار،
فأنت طالق، يقصد منعها الدخول بالكلية، حنث بدخولها وإن لم يرها، وإن لم
يرد ذلك، لم يحنث حتى يراها تدخل اتباعاً للفظه. وإن حلف: ليقضينه حقه في
غد، يريد ألا يتجاوزه بالقضاء، فقضاه قبله، لم
(4/196)
يحنث. وإن حلف: لا يبيع ثوبه بمائة. يريد
ألا ينقصه، فباعه بأقل، حنث. وإن حلف: لا يتزوج، حنث بالعقد الصحيح. وإن
حلف: ليتزوجن، بر بذلك، إلا أن يقصد بيمينه غيظ زوجته، أو يكون سبب يمينه
يقتضي ذلك، فلا يبر إلا بتزويج يغيظها. فإن واطأها على التزوج والطلاق قبل
الدخول، ليحل يمينه، أو يتزوج من لا يغيظها تزوجها، لم يبر. وقال أصحابنا
فيمن حلف: ليتزوجن على امرأته، لا يبر حتى يتزوج نظيرتها، ويدخل بها،
والصحيح أن هذا لا يعتبر؛ لأن غيظها يحصل بدونه.
فصل:
وإن تأول الظالم في يمينه، لم ينفعه تأويله، لما روى أبو هريرة قال: قال
رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «يمينك على ما يصدقك به
صاحبك» . رواه مسلم وأبو داود؛ ولأنه لو ساغ له التأويل لبطل المعنى
المبتغى باليمين، وهو تعريف الحالف ليرتدع عن جحوده، خوفاً من عاقبة اليمين
الكاذبة. وإن كان مظلوماً، فله تأويله، نص عليه أحمد في رجل له امرأتان،
اسم كل واحدة فاطمة، فماتت إحداهما: فحلف بطلاق فاطمة ينوي الميتة، إن كان
المستحلف ظالماً، فالنية نية صاحب الطلاق، وإن كان الحالف ظالماً، فالنية
نية الذي أحلفه، لما روى أبو داود بإسناده عن سويد بن حنظلة قال: «خرجنا
نريد رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ومعنا وائل بن حجر،
فأخذه عدو له، فتحرج القوم أن يحلفوا فحلفت: أنه أخي، فخلى سبيله، فأتينا
رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فذكرنا ذلك له، فقال:
أنت كنت أبرهم وأصدقهم، المسلم أخو المسلم» ؛ ولأنه نوى بكلامه ما يحتمله
على وجه لا يبطل حق أحد، فجاز كما لو عنى به الظاهر. وإن لم يكن ظالماً،
ولا مظلوماً، فظاهر كلام أحمد: أن له تأويله كذلك، ولقول النبي - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إن في المعاريض لمندوحة عن الكذب» . وكان
النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يمزح ولا يقول إلا حقاً. وقال
لرجل: «إنا حاملوك على ابن ناقة. فقال الرجل: ما أصنع بولد الناقة؟ فقال:
وهل تلد الإبل إلا النوق» . رواه أبو داود.
وقال بعض أهل العلم: الكلام أوسع من أن يكذب ظريف، يعني: التأويل.
فصل:
ومن لم تكن له نية، وكان ليمينه سبب هيجها، يقتضي معنى أعم من اللفظ، مثل
من امتنت عليه زوجته، فحلف لا يشرب لها الماء من العطش، أو لا يلبس ثوباً
من
(4/197)
غزلها، أو حلف: لا يأوي معها في دار، لسبب
يقتضي جفاءها، فحكمه حكم القاصد كذلك؛ لأن السبب دليل على النية والقصد،
فقام مقامه. وإن كان اللفظ أعم من السبب، كرجل امتنت عليه زوجته ببيتها،
فحلف لا يسكن بيتاً، أو دعاه إنسان إلى غداء، فحلف لا يتغدى، ففيه وجهان:
أحدهما: يحمل اللفظ على عمومه؛ لأن كلام الشارع إذا ورد على سبب خاص، حمل
على عمومه، ولم يختص محل سببه، فكذلك اليمين.
والثاني: يختص بمحل السبب؛ لأن قرينة حاله دالة على إرادة الخاص، أشبه ما
لو نواه؛ ولأننا أقمنا السبب مقام النية في التعميم، فكذلك في التخصيص. ولو
حلف على شيء لسبب فزال، مثل من حلف لا يدخل بلداً، لظلم فيه، فزال، ثم
دخله، فقال القاضي: يحنث. وذكر أن أحمد نص عليه. وإن حلف على زوجته أو
عبده: ألا يخرجها إلا بإذنه، فخرجا عن ملكه، فقال القاضي: تنحل يمينه؛ لأن
قرينة الحال تقتضي تخصيصهما بحالة الملك، فأشبه ما لو صرح به، فيخرج في هذه
المسألة، وفي التي قبلها وجهان، قياساً لكل واحدة منهما على صاحبتها. وإن
حلف لعامل: لا يخرج إلا بإذنه، فعزل، أو حلف: لا يرى منكراً إلا رفعه إلى
القاضي فلان، فعزل، وأشباه هذا، ففيه وجهان كذلك. فإن قلنا: لا تنحل اليمين
بعزله، فرفعه إليه بعد عزله، بر. وإن قلنا: تنحل بذلك، فرأى منكراً في
ولايته وأمكنه رفعه إليه، فلم يرفعه إليه حتى عزل، ثم رفعه إليه، لم يبر.
فصل:
فإن عدم ذلك، تعلقت يمينه بما عينه، فمتى حلف لا أكلت هذا الرطب، أو هذا
العنب، فصار دبساً، أو خلاً، أو ناطفاً، أو: لا أكلت هذا الحمل، فصار
كبشاً، أو: لا أكلت هذا البر، فصار دقيقاً أو خبزاً أو هريسة، أو ما تولد
من المحلوف عليه، فأكل منه، حنث، وإن حلف: لا كلمت هذا الصبي، فصار شيخاً،
فكلمه، أو: لا دخلت هذه الدار، فصارت فضاء، أو مسجداً، أو حماماً، فدخلها،
أو: لا لبست هذا الرداء، فلبسه قميصاً، أو سراويل، أو اعتم به، أو: لا ركبت
هذه السفينة، فنقضت، ثم أعيدت وركبها، أو: لا كلمت زوجة فلان هذه، ولا عبده
هذا، أو: لا دخلت داره هذه، أو: لا كلمت بكراً عند زيد، ولا هنداً زوجته،
أو: لا كلمت زيداً سيد بكر، أو زوج هند، أو زيداً صديق سعد، فزال ملكه
عنهن، وفعل ما حلف عليه، حنث؛ لأن عين المحلوف عليه باقية، فحنث به، كما لو
حلف: لا أكلت هذا الكبش، فذبحه، وأكل من لحمه، ويحتمل أن لا يحنث في هذا
كله. وإن استحالت العين، مثل أن حلف على
(4/198)
هذا البر، فصار زرعاً، أو بيضة، فصارت
فرخاً، أو على خمر، فصار خلاً، لم يحنث؛ لأن الأعيان استحالت، فزال حكم
اليمين، ومتى كانت نية الحالف على شيء مقيد بصفة، تقيدت يمينه بذلك. ومتى
حلف: لا يدخل دار فلان، ولا يكلم عبده ولا زوجته، ولا يركب دابته، وقصد
معيناً، تعلقت اليمين بعينه، سواء بقي لفلان، أو انتفل عنه، ولا تتناول
يمينه غير تلك الدار والعبد والدابة والزوجة؛ لأنه تعين بنيته. وإن لم يعين
حنث بكلام كل عبد وزوجة له، ودخول كل دار مضافة إليه بملك أو إجارة أو
سكنى؛ لأن الدار تضاف إلى ساكنها. قال الله تعالى: {لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ
بُيُوتِهِنَّ} [الطلاق: 1] . يريد: بيوت أزواجهن التي تسكنها. ولا يحنث
بكلام عبد زال عنه ملك فلان، ولا دار. ولو حلف: لا يدخل دار عبد فلان، ولا
يركب دابته، ولا يلبس ثوبه، فركب، أو لبس، أو سكن، أو ركب ما جعل برسمه،
حنث، لما ذكرنا؛ ولأن إضافة الملكية هنا غير متحققة، فتعين صرفها إلى غير
الملكية.
فصل:
وإن عدم التعيين، تعلقت يمينه بما تناوله الاسم، والأسماء ثلاثة أقسام:
أحدها: الأسماء العرفية، وهي أسماء اشتهر في العرف استعمالها في غير
موضوعها، وهي أربعة أنواع:
أحدها: ما صارت الحقيقة فيه مغمورة، لا يعرفها أكثر الناس، كالراوية:
للمزادة، وحقيقتها: البعير الذي يسقى عليه. والغائط والعذرة: للفضلة
المستقذرة. وحقيقة الغائط: المكان المطمئن. والعذرة: فناء الدار. فهذا
تنصرف اليمين عليه إلى الاسم العرفي دون الحقيقي؛ لأنه يعلم أنه لا يريد
غيره، فصار كالمصرح به، ولو حلف: لا يأكل شواء، اختصت يمينه اللحم المشوي،
دون المشوي من البيض وغيره، لاختصاص الشوي باللحم المشوي، دون غيره. وإن
حلف على الدابة، لم تتناول يمينه آدمياً، ولا ما لا يسمى دابة في العرف،
وإن حلف: لا استظل بسقف، لم تتناول يمينه السماء، وإن كان الله تعالى قد
قال: {وَجَعَلْنَا السَّمَاءَ سَقْفًا مَحْفُوظًا} [الأنبياء: 32] . ولو
حلف على السراج، لم يتناول الشمس، لعدم تسميتها عرفاً. وإن اختلف أهل بلدين
في تسمية عين، انصرفت يمين الحالف إلى تسمية أهل بلده؛ لأنه لا يريد غيره،
فأشبه ما لو اختلفت اللغات.
النوع الثاني: ما يزيل الاسم عن الحقيقي، مثل اسم اللحم، يتناول في الحقيقة
(4/199)
لحم السمك. قال الله تعالى: {لِتَأْكُلُوا
مِنْهُ لَحْمًا طَرِيًّا} [النحل: 14] ولا يفهم ذلك عند إطلاق الاسم، فذكر
الخرقي أنه إذا حلف: لا يأكل لحماً، فأكل من لحم السمك، حنث لأن الله تعالى
سماه لحماً؛ ولأنه لحم حيوان، فأشبه لحم الطير. وقال ابن أبي موسى: لا يدخل
إلا أن ينويه؛ لأنه لا يطلق عليه اسم اللحم، أشبه الجراد؛ ولأن الظاهر أن
الحالف لم يرده بيمينه، فأشبه النوع الذي قبله. وإن حلف: لا يدخل بيتاً،
فنص أحمد على أن يمينه تتناول المسجد والحمام؛ لأن الله سمى المساجد
بيوتاً، فقال سبحانه: {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ
وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ} [النور: 36] . وفي الأثر: «بئس البيت الحمام» .
وإذا كان بيتاً في الحقيقة، ويسميه الشارع، حنث بدخوله كغيره، ويحتمل ألا
يحنث؛ لأنه لا يسمى في العرف بيتاً، أشبه النوع الأول. ويدخل في يمينه بيت
الشعر والمدر؛ لأنه بيت حقيقة وعرفاً، ولا تدخل فيه الخيمة؛ لأنها لا تسمى
بيتاً، ولا يدخل الدهليز، ولا الصفة، ولا صحن الدار كذلك. وإن حلف على
الريحان، فقال القاضي. تختص يمينه الريحان الفارسي؛ لأنه المسمى عرفاً.
وقال أبو الخطاب. تتناول كل نبت أو زهر طيب الريح، كالورد، والبنفسج،
والنرجس، والمرزنجوش، ونحوه؛ لأنه يتناول اسم الريحان حقيقة. ولو حلف: لا
يشم ورداً، ولا بنفسجاً، حنث بشمهما، رطبين كانا أو يابسين. فإن شم دهنهما،
لم يحنث عند القاضي؛ لأنه لم يشمهما، ويحنث عند أبي الخطاب؛ لأن الشم إنما
هو للرائحة، وريحهما في دهنهما. وإن حلف: لا يشتريهما، فاشترى دهنهما، لم
يحنث وجهاً واحداً.
النوع الثالث: ما يتناوله الاسم حقيقة وعرفاً، لكن أضاف إليه فعلاً لم تجر
العادة بإضافته إلا إلى بعضه، ففيه وجهان:
أحدهما: يتناول الاسم جميع المسمى، لعموم الاسم فيه.
والثاني: يختص بما جرت العادة بإضافة الفعل إليه؛ لأن هذا قرينة دالة على
اختصاصه بالإرادة، فأشبه ما لو خصه بنيته. فإذا حلف: لا يأكل رأساً، فقال
القاضي: يحنث بأكل رأس كل حيوان من النعم، والطير، والصيد، والحيتان،
والجراد، لعموم الاسم فيه حقيقة وعرفاً، فأشبه ما لو حلف: لا يشرب ماء،
فإنه يحنث بشرب الماء الملح، والماء النجس. ومن حلف: لا يأكل خبزاً، حنث
بأكل خبز الذرة والدخن، وإن لم تجر عادة أهل بلد الحالف بأكله. ولو حلف: لا
يأكل لحماً، تناول يمينه لكل اللحم المحرم. وقال أبو الخطاب: لا يحنث بأكل
رأس لم تجر العادة بأكله منفرداً لأنه
(4/200)
لا ينصرف إليه اللفظ عرفاً فلم يحنث بأكله،
كما لو حلف: لا يأكل شواء، فأكل بيضاً مشوياً، وإن حلف: لا يأكل بيضاً،
فعند القاضي: يحنث بأكل بيض كل حيوان، وعند أبي الخطاب: لا يحنث بأكل بيض
لا يزايل بائضه في حياته، كبيض السمك والجراد.
النوع الرابع: أسماء يقصد بها في الغالب معنى، فإذا أطلقها في اليمين،
تعلقت يمينه بما يحصل ذلك المعنى. فإذا حلف: لا يضربه، فخنقه، أو نتف شعره،
أو عصر ساقه، حنث؛ لأنه يقصد ترك تأليمه. وإن حلف ليضربنه، بر بفعل ذلك؛
لأنه يحصل مقصوده، ويسمى ضرباً. وإن ضربه بعد موته، لم يبر؛ لأنه لا يحصل
مقصوده، وإن حلف: لا وطئت مدينة كذا راكباً، حنث؛ لأن ذلك يراد به
اجتنابها.
فصل:
القسم الثاني: الأسماء الشرعية، وهي التي لها موضوع شرعي، كالوضوء،
والطهارة، والصلاة، والصوم، والزكاة، والحج، والبيع. فتعلق اليمين بالموضوع
الشرعي؛ لأنه الظاهر. وتعلق اليمين بالصحيح منه دون الفاسد؛ لأنه المشروع.
وقال ابن أبي موسى: من حلف لا يتزوج، لم يحنث إلا بتزويج صحيح. ومن حلف لا
يشتري، فاشترى شراء فاسداً، ففيه روايتان. وإن تزوج تزويجاً مختلفاً فيه،
أو اشترى شراء مختلفاً فيه، حنث؛ لأنه يطلق عليه الاسم. وقال أبو الخطاب:
إن باع وقت النداء، أو تزوج بغير ولي، ففيه وجهان. وإن حلف: لا يبيع خمراً
ولا حراً، حنث بفعل ذلك؛ لأنه يتعذر حمل يمينه على عقد صحيح، فيتعين الفاسد
محملاً لها، ويحتمل أن لا يحنث؛ لأنه ليس ببيع في الشرع. وإن حلف: ليصلين
وليصومن، فأقل ذلك صوم يوم، وصلاة ركعتين، كما لو نذر ذلك، وإن حلف: لا
يصلي، ولا يصوم، فكذلك عند أبي الخطاب؛ لأن ما دونه لا يبر به، فلا يحنث
بفعله، كغيره من الأفعال. وقال القاضي: يحنث بابتدائهما؛ لأنه يسمى مصلياً،
وصائماً. ويحتمل أن يخرج هذا على الروايتين فيمن حلف لا يفعل شيئاً، ففعل
بعضه. وإن حلف: لا يبيع، لم يحنث، حتى ينعقد البيع بالإيجاب والقبول. وإن
حلف: لا يهبه. أو لا يعيره، فأوجب ذلك، فلم يقبل الآخر، حنث؛ لأن المقصود
من الهبة فعل الواهب، لعدم العوض فيها، بخلاف البيع. فإن مقصود البائع لا
يتم إلا بالقبول. وإن حلف: لا يتصدق عليه، فوهبه، لم يحنث؛ لأن الصدقة تختص
بوصف زائد، بدليل قول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «هو
عليها صدقة ولنا هدية» .
(4/201)
وإن حلف: لا يهبه، فتصدق عليه تطوعاً، لم
يحنث عند أبي الخطاب كذلك. وقال القاضي: يحنث؛ لأنه تبرع بعين في حياته،
أشبه ما لو أهدى إليه، والصدقة نوع من الهبة فتتناولها يمين الحالف على
الهبة، ولم تدخل الهبة في يمين الحالف على الصدقة، ولا يحنث بالصدقة
الواجبة، وجهاً واحداً؛ لأنه ليس بتبرع.
وإن أهدى إليه، أو أعمره، حنث؛ لأنه هبة. وإن وصى له، لم يحنث؛ لأن الملك
إنما يثبت بعد انحلال اليمين بالموت. وإن أعاره، لم يحنث؛ لأنها لا تسمى
هبة؛ ولأن الهبة تمليك الأعيان. وقال أبو الخطاب: يحنث؛ لأنها هبة المنافع.
وإن حاباه في البيع لم يحنث، لما ذكرنا في العارية. وقال أبو الخطاب: فيه
وجه آخر؛ أنه يحنث؛ لأنه تبرع عليه. وإن وقف عليه، ابتنى على ملك الموقوف
عليه. وإن قلنا: يملك، حنث. وإلا، فلا. وقال أبو الخطاب. يحنث؛ لأنه تبرع
عليه، ويحتمل أن لا يحنث بحال؛ لأنه لا يسمى هبة.
فصل:
القسم الثالث: ما له موضوع لغوي، لم يغلب استعماله في غيره، فتتناوله
يمينه، مثل أن يحلف: لا يأكل لبناً، فيحنث بأكل ما يسمى لبناً، حليباً كان
أو مخيضاً، مائعاً أو جامداً. ولا يحنث بأكل الخبز، والزبد والسمن والأقط
والكشك؛ لأنه لا يسمى لبناً.
وإن حلف على الزبد، لم تتناول يمينه سمناً ولا لبناً لم يظهر زبده. فإن ظهر
زبده تناولته يمينه، وإن حلف على السمن، لم تتناول يمينه زبداً ولا لبناً،
ويحنث بأكل ما حلف عليه مفرداً، وفي طبيخ يظهر طعمه فيه؛ لأنه أكل المحلوف
عليه وغيره، وإن لم يظهر طعمه في الطبيخ لم يحنث بأكله؛ لأنه زال اسمه
وطعمه، فلم يحنث بأكله، كالكشك. وإن حلف لا يأكل حنطة، فأكلها خبزاً، أو
طبيخاً، حنث؛ لأن الحنطة لا تؤكل حباً عادة، فانصرفت يمينه إلى أكلها في
جميع أحوالها، وإن أكل شعيراً فيه حبات حنطة، ففيه وجهان:
أحدهما: يحنث؛ لأنه أكل حنطة، فأشبه ما لو حلف لا يأكل رطباً، فأكل منصفاً.
والثاني: لا يحنث؛ لأنها مستهلكة في الشعير، أشبه السمن في الخبيص.
فصل:
وإن حلف لا يأكل فاكهة، تناولت يمينه كل ثمرة مأكولة تخرج من الشجر،
كالعنب، والزبيب، والرطب، والتمر، والجوز، واللوز؛ لأنه يسمى فاكهة، ولا
تتناول
(4/202)
القثاء، والخيار، والباذنجان؛ لأنها من
الخضر. وفي البطيخ وجهان:
أحدهما: فاكهة؛ لأنه ينضج ويحلو، أشبه العنب.
والثاني: ليس بفاكهة؛ لأنه ثمر بقلة، أشبه القثاء.
فصل:
والإدام: ما يؤكل مع الخبز عادة، سواء كان مما يصطبغ به، كالمرق، واللبن،
والدهن والخل، أو مما لا يصطبغ به، كالشواء، والجبن، والزيتون؛ لأن النبي -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «نعم الإدام الخل» وقال: «اللحم
سيد الإدام في الدنيا والآخرة» . فنص على هذين. وقسنا عليهما سائر ما
ذكرنا؛ لأنه يؤتدم به عادة. وفي التمر وجهان:
أحدهما: هو إدام، لما روى يوسف بن عبد الله بن سلام قال: «رأيت النبي -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وضع تمرة على كسرة وقال: هذه إدام
هذه» . رواه أبو داود.
والثاني: أنه ليس بأدم؛ لأنه فاكهة أشبه الزبيب.
وأما الطعام، فهو: اسم لكل مأكول، ومشروب على سبيل الاختيار. قال الله
تعالى: {كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ إِلا مَا
حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ} [آل عمران: 93] . وقال النبي -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إنما تحرز لهم ضروع مواشيهم
أطعمتهم» .
والحلال والحرام سواء في اليمين. وفي الماء والدواء وجهان:
أحدهما: هو طعام، لقول الله تعالى في النهر: {وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ
فَإِنَّهُ مِنِّي} [البقرة: 249] ؛ ولأنه مشروب، والدواء مأكول ومشروب،
أشبه العسل.
والثاني: ليس بطعام؛ لأنه لا يطلق عليه اسمه، والدواء إنما يؤكل عند
الضرورة. وأما القوت: فما تبقى به البنية، كالخبز، والتمر، والزبيب، واللحم
واللبن؛ لأن كل واحد من هذه يقتاته أهل بلد، ويحتمل ألا يدخل في يمينه ما
لا يقتاته أهل بلده؛ لأن يمينه تنصرف إلى المتعارف عندهم.
فصل:
ومن حلف على اللحم، تناولت يمينه لحم الأنعام والصيد والطير والسباع،
(4/203)
وكل ما يسمى لحماً، ولا تتناول يمينه
الشحم، والألية، والمخ، والدماغ، والكبد، والطحال، والقلب، والرئة،
والكلية، والكرش، والمصران، والقانصة، والكارع؛ لأنه ليس بلحم. ولا ينفرد
عنه باسمه وصفته، فأشبه الجلد، وفي اللسان وجهان:
أحدهما: يدخل؛ لأنه لحم حقيقة.
والثاني: لا يدخل؛ لأنه ينفرد باسمه وصفته، أشبه القلب. وفي لحم الرأس
وجهان:
أحدهما: لا يدخل في يمينه. أومأ إليه أحمد فيمن حلف لا يشتري لحماً، فاشترى
رأساً، أو كارعاً، لا يحنث إلا أن ينوي؛ لأن اسم اللحم، لا ينصرف عند
الإطلاق إليه.
والثاني: يحنث؛ لأنه لحم، وفي المرق وجهان:
أحدهما: لا تتناوله يمينه؛ لأنه لا يسمى لحماً.
والثاني: تتناوله يمينه. اختاره القاضي؛ لأن خاصية اللحم فيه، ولا تخلو من
أجزائه. وفي اللحم الأبيض الذي على الظهر والجنب، وفي تضاعيف اللحم الأحمر،
وجهان:
أحدهما: هو لحم. وهذا قول القاضي، وأبي الخطاب؛ لأنه يسمى لحماً، ويسمى
بائعه لحاماً، ولا يفرد عن اللحم.
والثاني: هو شحم، هذا ظاهر قول الخرقي. واختيار طلحة العاقولي؛ لأنه يشبه
الشحم في لونه وذوبه، ولا يسمى لحماً بمفرده، فعلى هذا يكون هذا، والألية،
وشحم البطن، شحم تتناوله يمين الحالف على الشحم. وعلى قول القاضي: الشحم:
اسم لشحم البطن خاصة، لا يتناوله غيره. ومن حلف لا يأكل شحماً، فأكل لحماً
أحمر وحده، لم يحنث؛ لأنه لا يسمى شحماً، ولا يظهر فيه شحم. وقال الخرقي:
يحنث؛ لأنه لا يخلو من شحم.
فصل:
ومن حلف على العنب، لم تتناول يمينه حصرماً، ولا زبيباً، ولا ما يتولد من
العنب. ومن حلف على الزبيب، لم تتناول يمينه عنباً. ومن حلف لا يأكل رطباً،
فأكل منصفاً، وهو الذي أرطب نصفه، أو أكل القدر الذي أرطب منه، حنث؛ لأنه
أكل رطباً. وإن أكل القدر الذي لم يرطب، لم يحنث ومن حلف لا يكلم شيخاً،
ولا عبداً، ولا يشتري جدياً، ولا يأكل لحماً طرياً، ولا رطباً جنياً، لم
يحنث بغير الموصوف بتلك الصفة؛ لأن يمينه لم تتناول غيره.
(4/204)
فصل:
ومن حلف على الحلي، تناولت يمينه الخواتيم، والأسورة، والخلاخيل وكل ما
يسمى حلياً، وتتناول اللؤلؤ والجواهر في المخنقة، لقول الله تعالى:
{وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا} [النحل: 14] . ولا
تتناول العقيق، والسبج؛ لأنه ليس بحلي، أشبه الودع والخرز. ولا تتناول
السيف المحلى؛ لأن السيف ليس بحلية. والحلية إنما هي للسيف، وفي المنطقة
المحلاة وجهان:
أحدهما: هي كالسيف.
والثاني: تتناولها اليمين؛ لأنها من حلي الرجال. وإن لبس الخاتم في أي
أصابعه كان، حنث؛ لأنه قد لبسه، فأشبه لبسه في الخنصر.
فصل:
والحين عند إطلاقه: اسم لستة أشهر؛ لأن ذلك يروى عن ابن عباس - رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُمَا - وقال عكرمة، وسعيد بن جبير، وأبو عبيد في قول الله
تعالى: {تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ} [إبراهيم: 25] . هو ستة أشهر،
فيحمل مطلق كلام الآدمي على المطلق من كلام الله سبحانه. والحقب: ثمانون
عاماً. قاله ابن عباس في تفسير قول الله تعالى: {لابِثِينَ فِيهَا
أَحْقَابًا} [النبأ: 23] .
وإن حلف لا يكلمه وقتاً، أو دهراً، أو ملياً، أو طويلاً، أو قريباً، تناول
أقل الزمان؛ لأن الاسم تناوله، وكذلك إذا حلف لا يكلمه زمناً، عند أبي
الخطاب؛ لأنه في معنى وقت. وقال ابن أبي موسى: هو ثلاثة أشهر، وقال
العاقولي: هو كالحين. والأول أصح. وقوله: عمراً، كقوله: وقتاً، عند أبي
الخطاب، وعند العاقولي، هو كالحين، ويحتمل أن يحمل على أربعين عاماً، لقول
الله تعالى: {فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُرًا مِنْ قَبْلِهِ} [يونس: 16] .
ويعني: مدة النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قبل بعثه، وكان
أربعين عاماً.
وإن حلف لا يكلمه الدهر، أو الأبد، أو الزمان، تناول الدهر؛ لأن الألف
واللام تستغرق الجميع.
وإن
(4/205)
حلف على أشهر، أو أيام، فهي ثلاثة؛ لأنها
أقل الجمع. وإن حلف على شهور، فكذلك عند أبي الخطاب؛ لأنها جمع. وقال غيره:
هي اثنا عشر، لقول الله تعالى: {إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ
اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا} [التوبة: 36] ولأن هذا جمع كثرة، فلا يحمل على ما
يحمل عليه جمع القلة. وإن حلف لا يأوي معه بيتاً. فدخلا بيتاً، حنث وإن قل
لبثهما، لقول الله تعالى: {إِذْ أَوَيْنَا إِلَى الصَّخْرَةِ} [الكهف: 63]
. قال أحمد: ما كان ذلك إلا ساعة.
فصل:
وإن حلف لا يدخل داراً، فدخلها مختاراً، حنث، راكباً كان أو ماشياً، أو
محمولاً، أو على مأمن بابها، أو من ثقب فيها، أو من فوق جدارها؛ لأنه قد
دخلها. وإن رقى على سطحها، حنث؛ لأنها منها. وكذلك يصح الاعتكاف في سطح
المسجد، ويمنع الجنب اللبث فيه، إلا أن تكون بينة أو قرينة حالة تقتضي
إخراج السطح من اليمين. وإن قال: على حائطها، أو عتبة بابها، ففيه وجهان:
أحدهما: يحنث؛ لأنه دخل في حدها.
والثاني: لا يحنث؛ لأنه لا يسمى داخلاً. وإن تعلق على غصن شجرة منها حتى
صار بين حيطانها، حنث. وإن صار مقابلاً لها، احتمل وجهين. وإن حلف لا يدخل
من بابها، فحول بابها، ودخل من الثاني، حنث؛ لأنه بابها. وإن حلف لا يضع
قدمه فيها، أو لا يطأها، فدخلها راكباً، أو حافياً، أو منتعلاً، حنث لأن
معناه، أن لا يدخلها.
فصل:
وإن حلف على دار ليخرجن منها، اقتضت يمينه الخروج بنفسه، وأهله، وإن حلف
ليخرجن من هذه البلد، اقتضت يمينه الخروج بنفسه؛ لأن الدار يخرج منها
صاحبها كل يوم عادة. وظاهر حاله، إرادة خروج غير المعتاد، بخلاف البلد. وهل
يحنث بالعود إليها؟ فيه روايتان:
إحداهما: يحنث؛ لأن ظاهر حاله قصد هجرانها، ولا يحصل ذلك مع العود.
والثانية: لا يحنث؛ لأن يمينه على الخروج وقد فعله، ولذلك لو حلف لا يخرج
منها، حنث بمجرد الخروج. وحمل اليمين على المقصد مع عدمه وعدم سبب يقتضيه،
لا يصح.
(4/206)
فصل:
وإن حلف على زوجته، أن لا تخرج إلا بإذنه، أو بغير إذنه، أو إلى أن يأذن
لها، أو إلا أن يأذن لها، أو حتى يأذن لها، فخرجت بغير إذنه، حنث وانحلت
يمينه. وإن خرجت بإذنه، لم يحنث، ولم تنحل يمينه؛ لأنها فعلت غير المحلوف
عليه، فأشبه ما لو فعلت غير الخروج. وإن أذن لها، ثم نهاها، فخرجت، حنث؛
لأن إذنه زال، فأشبه من لم يأذن وإن أذن لها من حيث لا تعلم، فخرجت، ففيه
وجهان:
أحدهما: يحنث؛ لأن الإذن الإعلام، ولم يتحقق، قال الله تعالى: {وَأَذَانٌ
مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} [التوبة: 3] أي إعلام. وآذنتكم. أي: أعلمتكم.
والثاني: لا يحنث؛ لأنه قد أذن، وكذلك ينعزل الوكيل بعزله قبل علمه. وإن
حلف ألا تخرجي إلا بإذن زيد، فمات زيد، ثم خرجت، حنث؛ لأنها خرجت قبل إذنه،
وإن حلف ألا تخرج إلى غير الحمام، فخرجت إلى الحمام وغيره، حنث؛ لأنها خرجت
إلى غيره. وإن قال: إن خرجت إلا إلى الحمام، فأنت طالق، فخرجت إليه وإلى
غيره، لم تطلق؛ لأنها خرجت إليه. وإن خرجت إلى الحمام، ثم عدلت إلى غيره،
ففيه وجهان:
أحدهما: لا يحنث؛ لأنها لم تخرج إلى غيره.
والثاني: يحنث؛ لأن قصده في الظاهر صيانتها من غيره ولم يحصل ذلك.
فصل:
ومن حلف: لا يسكن داراً هو ساكنها، وأقام فيها زمناً يمكنه الخروج، حنث،
إلا أن تكون إقامته لنقل متاعه، فلا يحنث، ويكون نقله على ما جرت به العادة
قليلاً. وإن خرج بنفسه دون أهله وماله، مع إمكان نقلهم، حنث؛ لأنه يقال:
فلان ساكن الدار، مع كونه خارجاً منها، إلا أن يريد بخروجه السكنى منفرداً
في غيرها، فلا يحنث، فإن أقام في الدار لإكراه، أو خوف، أو ليل، أو لأنه
يحول بينه وبين الخروج أبواب مغلقة، أو لعدم ما ينقل عليه متاعه، أو منزلاً
ينتقل إليه، أياماً وليالي في طلب النقلة، لم يحنث؛ لأن إقامته لدفع الضرر،
وانتظار السكنى. وإن أقام غير ناو للنقلة، حنث. ولو وهب رحله، أو أعاره، أو
أودعه وخرج بنفسه لا يريد العود، لم يحنث، وإن تردد إلى الدار لنقل متاعه،
أو عيادة مريض، لم يحنث؛ لأنه ليس بسكنى. وإن امتنعت زوجته من الخروج معه،
فخرج وتركها، لم يحنث.
(4/207)
فصل:
وإن حلف لا يساكن فلاناً، فاستدام المساكنة، حنث. وإن سكنا في دارين
متجاورتين، لم يحنث إلا أن ينوي، أو يكون سبب يمينه، يقتضي ذلك. وإن سكنا
في دار واحدة، حنث، سواء سكنا بيتين، أو أحدهما بيتاً والآخر صفة. وإن كانا
متساكنين، فأقاما حتى بنيا بينهما حاجزاً، وقسماها دارين، حنث، فإن خرجا
منها، أو أحدهما، وقسماها دارين ثم سكناها، لم يحنث.
فصل:
وإن حلف لا يأكل شيئاً، فشربه، أو لا يشربه، فأكله، فقال الخرقي. يحنث؛ لأن
هذه اليمين يقصد بها اجتناب الشيء، بدليل قَوْله تَعَالَى: {تَأْكُلُوا
أَمْوَالَهُمْ} [النساء: 2] . يتناول اجتنابها، ونهي الطبيب المريض عن أكل
شيء يمنع تناوله، فحملت اليمين عليه، ونقل منها عن أحمد: لا يحنث؛ لأن
الأفعال أنواع، كالأعيان. فالحالف على نوع، لا يحنث بفعل آخر، كالأعيان.
قال القاضي: إنما الروايتان فيما إذا عين المحلوف عليه. فإن لم يعين، لم
يحنث رواية واحدة. فأما إن حلف لا يطعمه، أولا يذوقه، تناول الأمرين. فإن
حلف لا يأكله، ولا يشربه، فذاقه، لم يحنث. وإن حلف لا يأكل سكراً، فتركه في
فمه حتى ذاب فبلعه، خرج على الروايتين. وإن حلف لا يشرب، فمص قصب السكر، لم
يحنث. نص عليه. وكذلك إن حلف لا يأكله. قاله ابن أبي موسى. ويجيء على قول
الخرقي أنه يحنث. والأكلة بالفتح: المرة من الأكل. والأكلة: اللقمة.
فصل:
وإن حلف لا يكلمه، ثم وصل بيمينه كلاماً، مثل أن يقول: فتحقق ذلك، أو:
فاذهب، أو: فاسمع، حنث ثم؛ لأنه كلمة بعد يمينه. إلا أن ينوي أن لا يكلمه
كلاماً منفصلاً، ويحتمل أن لا يحنث وإن أطلق؛ لأن إتيانه بكلام متصل يدل
على قصده الكلام المنفصل. وإن كلم إنساناً ليسمع المحلوف عليه، حنث، نص
عليه؛ لأن ذلك تكليم له في المعنى. قال الشاعر:
إياك أعني فاسمعي يا جارة
وإن ناداه بحيث يسمع، فلم يسمع، حنث. نص عليه؛ لأنه أراد تكليمه بما لفظ
به. وإن زجره، فقال: تنح، أو اسكت. أو سمعه يتكلم، فقال: على الكاذب لعنة
الله، حنث؛ لأنه كلمه. وإن سلم عليه، أو على جماعة هو فيهم يقصده معهم،
(4/208)
حنث؛ لأنه كلمه. وإن قصدهم دونه، لم يحنث؛
لأن اللفظ العام يصح استعماله في الخصوص. وإن أطلق، حنث؛ لأن العام يحمل
على عمومه ما لم يخصه مخصص. ويحتمل أن لا يحنث؛ لأنه يصلح للبعض، فلا يحنث
بالاحتمال. وإن كاتبه، أو راسله، ففيه روايتان:
إحداهما: يحنث، لقول الله تعالى: {وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ
اللَّهُ إِلا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولا}
[الشورى: 51] . فاستثنى ذلك من التكليم؛ ولأن ظاهر حاله قصد هجرانه، فتحمل
يمينه عليه.
والثانية: لا يحنث؛ لأنه ليس بتكليم، ولهذا صح نفيه، إلا أن ينويه، أو يكون
سبب يمينه يقتضي مقاطعته وجفاءه. وفي الإشارة وجهان. بناء على الرسالة. فإن
ناداه وهو غائب، أو ميت، أو أصم، أو مغمى عليه، لم يحنث؛ لأنه ليس بتكليم
له. وقال أبو بكر: يحنث بتكليم الميت؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - كلمهم. والأول أصح؛ لأنه قد بطلت حواسه، وذهبت نفسه، وتكليم
رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لهم من خصائصه، فلا يقاس
عليه. وإن حلف لا يتكلم، فقرأ، أو سبح، لم يحنث، لقول الله سبحانه: {قَالَ
آيَتُكَ أَلا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ إِلا رَمْزًا وَاذْكُرْ
رَبَّكَ كَثِيرًا وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالإِبْكَارِ} [آل عمران: 41] .
وقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إن الله قد أحدث أن لا
تكلموا في الصلاة» . متفق عليه.
فإن حلف على ترك كلامه أياماً متتابعة، دخلت الليالي التي بين الأيام في
يمينه؛ لأن الله تعالى: جعل آية زكريا ترك الكلام في الأيام، فدخلت الليالي
فيه.
فصل:
فإن حلف على غريمه: لا افترقنا حتى أستوفي حقي منك، فهرب منه، حنث؛ لأن
يمينه تقتضي ألا يحصل بينهما فرقة وقد حصلت. وإن حلف: لا فارقتك، فهرب منه،
لم يحنث؛ لأن اليمين على فعل نفسه، ولم توجد المفارقة إلا من غريمه. وعنه:
يحنث، كما ذكرنا في التي قبلها، وإن فارقه الغريم بإذنه، أو قدر على منعه
من الهرب فلم يفعل، حنث؛ لأن معنى يمينه لألزمنك ولم يلزمه اختياراً، وإن
أحاله ففارقه، حنث؛ لأنه فارقه قبل استيفاء حقه. فإن ظن أنه قد بر خرج على
الروايتين في الجاهل. وإن قضاه عن حقه من غير جنسه، ففارقه، فقال ابن حامد:
لا يحنث؛ لأنه وصل إلى حقه من غريمه. وقال القاضي: إن كان لفظه: لا فارقتك
ولي قبلك حق، لم يحنث؛ لأنه لم يبق له قبله حق. وإن قال: حتى أستوفي حقي
منك، حنث؛ لأن يمينه على نفس
(4/209)
الحق، فإن فلسه الحاكم، وألزمه فراقه، فهو
كالمكره وإن لم يلزمه فراقه، ففارقه، حنث؛ لأنه فارقه اختياراً، وإن أبرأه،
ثم فارقه وكان لفظه: لا فارقتك ولي قبلك حق، لم يحنث. وإن قال: حتى أستوفي
حقي منك، حنث. والفراق: ما عده الناس فراقاً، كالفرقة في البيع، وغيره.
فصل:
ومن حلف ليضربنه عشرة أسواط، فجمعها، وضربه بها ضربة واحدة، لم يبر؛ لأن
السوط أقيم مقام المصدر، تقديره: عشر ضربات بسوط، ولذلك لم يلزمه الضرب
بعشرة أسواط، ولا يبر إلا بضرب يؤلم؛ لأن هذا في العرف يقصد به التأليم،
فانصرفت اليمين إليه، كما لو صرح به. فإن مات المحلوف عليه قبل ضربه، أو
حلف ليشربن ماء، فتبدد، أو مات الحالف بعد إمكان الفعل، حنث؛ لأنه فاته
المحلوف عليه بعد الإمكان، فحنث كما لو حلف ليحجن العام ففاته الحج، وإن
تلف المحلوف عليه قبل الإمكان، حنث لما ذكرنا. ويتخرج ألا يحنث؛ لأنه عجز
بغير فعله. أشبه المكره. وإن حلف ليضربنه في غد. فمات العبد اليوم، ففيه
الوجهان. وإن مات الحالف اليوم، فلا حنث عليه؛ لأنه لم يفته فعله في وقته
إلا بعد خروجه عن أهلية التكليف. وإن ضربه اليوم لم يبر. وقال القاضي: يبر
كما لو حلف ليقضينه حقه غداً، فقضاه اليوم. والأول أصح؛ لأنه لم يفعل
المحلوف في وقته، أشبه ما لو حلف ليصومن يوم الخميس، فصام الأربعاء. ويفارق
قضاء الحق؛ لأنه يراد به ألا يتجاوز الوقت. وإن لم يبين وقت الضرب ولم
ينوه، لم يحنث حتى يموت أحدهما؛ لأنه لا يفوته المحلوف عليه إلا به، بدليل
قَوْله تَعَالَى: {قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ} [سبأ: 3] . وهو
حق وصدق ولم يأت بعد.
فصل:
إذا حلف ليفعلن شيئاً، لم يبر إلا بفعل جميعه. وإن حلف لا يفعله، ففعل
بعضه. ففيه روايتان:
إحداهما: لا يحنث؛ لأنه لا يبر بفعل البعض، فلا يحنث بفعله، كما لو نوى
الجميع.
والثانية: يحنث؛ لأن اليمين على الترك تقتضي المنع من فعله، فاقتضت المنع
من فعل البعض، كالنهي، واليمين على الفعل يقتضي فعل الكل، كالأمر، وإذا حلف
لا يأكل رغيفاً، فأكل بعضه، أو لا يكلم زيداً وعمراً، فكلم أحدهما، أو لا
يدخل داراً،
(4/210)
فأدخل بعض جسده، ففيه الروايتان. وإن حلف
لا يلبس ثوباً اشتراه زيد، أو نسجه، أو خاطه، أو من غزل امرأته، أو لا يدخل
داره، فلبس ثوباً اشتراه زيد وبكر، أو خاطاه، أو نسجاه، أو فيه من غزل
امرأته، أو دخل داراً لهما، ففيه وجهان بناء على الروايتين، وإن حلف لا
يأكل طعاماً اشتراه زيد، فأكل طعاماً اشترياه، حنث؛ لأن زيداً اشترى نصفه
وقد أكله، بخلاف الثوب الذي اشتراه، فإن الاسم لجميعه، ونصفه ليس بثوب،
ونصف الطعام طعام. ولو حلف لا يلبس ثوباً من غزل امرأته، فلبس ثوباً فيه من
غزلها، حنث؛ لأنه لبس من غزلها. ولو اشترى زيد طعاماً فخلطه بطعام آخر،
فأكل الحالف أكثر مما اشتراه الآخر، حنث؛ لأنه أكل مما اشتراه زيد. وإن أكل
بقدره، أو دونه، ففيه وجهان:
أحدهما: يحنث؛ لأنه يستحيل في العادة انفراد ما اشتراه أحدهما مما اشتراه
الآخر، فيحنث ظاهراً.
والأخر: لا يحنث؛ لأنه يحتمل أن يكون المأكول مما اشتراه غيره، فلا يحنث
بالشك. وإن اشترى زيد نصفه مشاعاً، واشترى الآخر باقيه، فأكل منه، حنث؛ لأن
كل جزء فيه من شراء زيد. وإن أكل طعاماً اشتراه زيد لغيره، حنث؛ لأنه فعل
المحلوف عليه. وإن اشتراه زيد، ثم باع نصفه، فأكل منه، حنث أيضاً. ومن نوى
بيمينه الجميع، أو البعض، أو لفظ به، أو دلت القرينة عليه، تقيدت يمينه
بذلك وجهاً واحداً. فلو قال: والله لا أكلت هذا الطعام كله، أو: لا صمت هذا
الشهر جميعه، أو نوى ذلك بقلبه، لم يحنث إلا بفعل الجميع. وإن حلف لا شربت
ماء هذا النهر، ولا أكلت التمر، ولا كلمت الرجال، حنث بفعل البعض رواية
واحدة؛ لأن فعل الجميع ممتنع بغير يمينه. ولو حلف ليفعلن ذلك، بر بفعل
بعضه. وإذا حلف لا يشرب ماء النهر، فغرف منه بإناء، وشرب أو كرع فيه، حنث؛
لأنه شرب منه. وإن شرب من نهر يأخذ منه، ففيه احتمالان:
أحدهما: يحنث؛ لأنه منه، أشبه ما في الإناء.
والثاني: أنه إن زال عنه الاسم، لم يحنث؛ لأنه زال اسمه، فأشبه من حلف لا
يأكل رطباً، فأكل تمراً.
فصل:
وإن حلف لا يفعل شيئين، ففعل أحدهما، ففيه الروايتان.
ويحتمل أن يفرق بين اليمين بالله تعالى، والطلاق؛ لأن اليمين بالطلاق تعليق
على شرط، وما علق على شرط لا يوجد قبل تمامه، وما علق على شرطين لا يوجد
عند أحدهما، ولهذا إذا قال لزوجتيه: إذا حضتما فأنتما طالقتان، فحاضت
إحداهما، لم تطلق واحدة منهما. ولو
(4/211)
قال: إن كلمتك ودخلت دارك فأنت طالق، أو إن كلمتك، فدخلت دارك، أو ثم دخلت
دارك، لم يحنث بفعل أحدهما وجهاً واحداً.
فصل:
ومن حلف لا يفعل شيئاً، فوكل من يفعله حنث؛ لأن الفعل يطلق على الموكل فيه
والآمر به، فيحنث به، كما لو حلف لا يحلق رأسه فأمر من حلقه. |