المبدع
شرح المقنع ط عالم الكتب كتاب الجهاد
كتاب الجهاد
...
كتاب الجهاد:
وهو فرض كفاية
ـــــــ
كتاب الجهاد
وهو مصدر: جاهد جهادا ومجاهدة ومجاهد اسم فاعل
من أجهد: في قتل عدوه حسب الطاقة والوسع.
وشرعا: عبارة عن قتل الكفار خاصة والأصل فيه
قبل الإجماع قوله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ
الْقِتَالُ} [البقرة: 216] {انْفِرُوا
خِفَافاً وَثِقَالاً وَجَاهِدُوا
بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ
اللَّهِ} [التوبة: 41]. والسنة: قوله صلى الله
عليه وسلم: "من مات ولم يغز ولم يحدث نفسه
بالغزو مات على شعبة من النفاق " رواه مسلم،
وغيره من الأحاديث الصحيحة.
"وهو فرض كفاية" في قول جمهور العلماء لقوله
تعالى: {لا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ
الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ}
الآية [النساء: 95] فدل على أن القاعد بلا ضرر
غير آثم مع جهاد غيره ولقوله تعالى: {وَمَا
كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً}
[التوبة: 122] ومعناه أنه إذا قام به من يكفي
سقط عن الكل فيجعل فعل البعض كافيا في السقوط
وإن لم يقم به من يكفي أثم الكل كفرض الأعيان
فيشتركان في كونه مخاطبا ويفترقان فيما ذكرنا.
وقال سعيد بن المسيب: فرض عين لعموم الآيات
والقاعدون كانوا حراسا للمدينة وهو نوع جهاد.
وجوابه ما قلناه مع أنه كان رسول الله صلى
الله عليه وسلم يبعث إلى النواحي ويقيم هو
وأصحابه وعليه تحمل الأوامر المطلقة والفرض في
ذلك موقوف على غلبة الظن فإذا غلب على الظن أن
الغير يقوم به كجند لهم ديوان وفيهم كفاية أو
قوم أعدوا أنفسهم لذلك وفيهم منعة سقط عن
الباقين.
(3/226)
ولا يجب إلا
على ذكر حر مكلف مستطيع وهو الصحيح الواجد
لزاده
ـــــــ
فرع: إذا قام بفرض الكفاية طائفة بعد أخرى فهل
توصف الثانية بالفرضية فيه وجهان وكلام ابن
عقيل يقتضي أن فرضيته محل وفاق وكلام أحمد
محتمل
"ولا يجب إلا على ذكر" لما روته عائشة رضي
الله عنها قالت قلت يا رسول الله هل على
النساء جهاد؟ قال: "جهاد لا قتال فيه: الحج
والعمرة" رواه البخاري ولأن المرأة ليست من
أهل القتال لضعفها وخوفها ولذلك لا يسهم لها
والخنثى المشكل كهي لأنه لا يعلم حاله فلا يجب
مع الشك في شرطه.
"حر"، لأنه صلى الله عليه وسلم كان يبايع الحر
على الإسلام والجهاد والعبد على الإسلام دون
الجهاد ولأنه عبادة تتعلق بقطع مسافة فلم تجب
على العبد وفرض الكفاية لا يلزم رقيقا وظاهره
ولو مبعضا ومكاتبا رعاية لحق السيد وسواء أذن
له سيده أم لا.
"مكلف"، لأن الصبي والمجنون لا يتأتى منهما
والكافر غير مأمون على الجهاد.
"مستطيع بنفسه"، لأن غير المستطيع عاجز والعجز
ينفي الوجوب ثم فسره بقوله: "وهو الصحيح في
بدنه" من المرض والعمى والعرج لقوله تعالى:
{لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلا عَلَى
الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى الْمَرِيضِ
حَرَجٌ} [الفتح: 17]، ولأن هذه الأعذار تمنعه
من الجهاد ففي العمى ظاهر وأما العرج فالمانع
منه الفاحش الذي يمنع المشي الجيد والركوب فإن
كان يسيرا لا يمنعه المشي فصرح في "الشرح"
بأنه لا يمنع الوجوب وذكره في "المذهب" قولا،
وفي "البلغة": يلزم أعرج يسيرا وكذا حكم المرض
لكن إن كان خفيفا كوجع الضرس والصداع فلا
كالعور وعنه يلزم عاجزا ببدنه في ماله اختاره
الآجري والشيخ تقي الدين كحج معضوب وأولى.
"الواجد لزاده" أي القادر على النفقة لقوله
تعالى: {لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلا عَلَى
الْمَرْضَى وَلا عَلَى الَّذِينَ لا يَجِدُونَ
مَا يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُوا
لِلَّهِ وَرَسُولِهِ} [التوبة: 91]، ولأنه لا
يمكن إلا بآلة فاعتبرت القدرة عليها وسواء وجد
ذلك أو ببذل من الإمام قاله المجد.
(3/227)
وما يحمله إذا
كان بعيدا وأقل ما يفعل مرة في كل عام إلا أن
تدعو حاجة إلى تأخيره ومن حضر الصف من أهل فرض
الجهاد أو حصر العدو بلده تعين عليه.
ـــــــ
"وما يحمله إذا كان بعيدا" أي: يعتبر مع البعد
وهو مسافة القصر مركوب لقوله تعالى:
{الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ
لِتَحْمِلَهُمْ} الآية [التوبة: 92]، فدل على
أنه لا يعتبر ذلك مع قرب المسافة وإنما
المشترط أن يجد الزاد ونفقة عياله في مدة
غيبته وسلاح يقاتل به فاضلا عن قضاء دينه
وأجرة مسكنه على ما مر في الحج.
"وأقل ما يفعل مرة في كل عام"، لأن الجزية تجب
على أهل الذمة مرة في العام وهي بدل عن النصرة
فكذا مبدلها فإن مست الحاجة إلى أكثر من مرة
وجب قاله الأصحاب. "إلا أن تدعو حاجة إلى
تأخيره" كضعف المسلمين من عدد أو عدة أو ينتظر
الإمام عددا يستعين بهم أو يكون في الطريق
إليهم مانع أو رجاء إسلامهم فيجوز تأخيره في
رواية لأنه صلى الله عليه وسلم صالح قريشا عشر
سنين وأخر قتالهم حتى نقضوا العهد وأخر قتال
قبائل العرب بغير هدنة وظاهره بهدنة وبغيرها
والمذهب أنه لا يؤخر مع القوة والاستظهار
لمصلحة رجاء إسلام العدو وهذا رواية ذكرها في
"المحرر" و"الفروع". ولا يعتبر امن الطريق فإن
وضعه على الخوف.
"ومن حضر الصف من أهل فرض الجهاد أو حصر العدو
بلده تعين عليه" وكذا في "الكافي" و"البلغة".
فالحاصل: أنه يصير فرض عين في هذين الموضعين
أحدهما إذا التقى الزحفان وتقابل الصفان لقوله
تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا
إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا} الآية
[الأنفال: 45] الثاني: إذا نزل الكفار ببلد
تعين على أهله قتالهم ودفعهم كحاضري الصف
ولعموم قوله تعالى: {انْفِرُوا خِفَافاً
وَثِقَالاً} الآية [التوبة: 41] زاد في
"الوجيز" و"الفروع": ثالثا، وهو: إذا استنفره
من له استنفاره تعين عليه لقوله تعالى:
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ
إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ
اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ}
[التوبة: 38] وعن ابن عباس مرفوعا: "وإذا
استنفرتم فانفروا" متفق عليه. ولو كان عبدا.
(3/228)
أفضل ما يتطوع
به الجهاد وغزو البحر أفضل من غزو البر.
ـــــــ
واستثنى في "البلغة" من الموضعين السابقين إلا
لأحد رجلين من تدعو الحاجة إلى تخلفه لحفظ
الأهل والمال والمكان والآخر من يمنعه الإمام
من الخروج ومحل ما ذكره المؤلف ما لم يحدث له
مرض أو عمى ونحوهما فإنه يجوز له الانصراف
لأنه لا يمكنه القتال ذكره في "المغني"
و"الشرح".
فرع: إذا نودي بالصلاة والنفير صلى ثم نفر مع
البعد ومع قرب العدو ينفر ويصلي راكبا أفضل
ولا ينفر في خطية الجمعة ولا بعد إقامة نص على
ذلك.
"وأفضل ما يتطوع به الجهاد" قال أحمد لا أعلم
شيئا بعد الفرائض أفضل من الجهاد والأحاديث
متضافرة في ذلك فمنها حديث ابن مسعود وحديث
أبي هريرة وروى ابن مسعود قال قيل يا رسول
الله أي الناس أفضل؟ قال: "مؤمن مجاهد في سبيل
الله بنفسه وماله" متفق عليه.
"وغزو البحر أفضل من غزو البر"، لحديث أم حرام
أن النبي صلى الله عليه وسلم نام عندها ثم
استيقظ وهو يضحك فقلت ما يضحكك يا رسول الله؟
قال: "ناس من أمتي عرضوا علي غزاة في سبيل
الله يركبون ثبج هذا البحر ملوكا على الأسرة"
أو: "مثل الملوك على الأسرة" متفق عليه، من
حديث أنس.
وعن أبي أمامة الباهلي مرفوعا: "شهيد البحر
مثل شهيدي البر والمائد في البحر كالمتشحط في
دمه في البر وإن الله تعالى وكل ملك الموت
بقبض الأرواح إلا شهداء البحر فإن الله تعالى
يتولى قبض أرواحهم وشهيد البر يغفر له كل شيء
إلا الدين وشهيد البحر يغفر له كل شيء والدين"
رواه ابن ماجه بإسناد ضعيف ولأنه أعظم خطرا
ومشقة لكونه بين خطر العدو والغرق إلا مع
أصحابه فكان أفضل من غيره.
تنبيه: تكفر الشهادة كل الذنوب غير الدين قال
الشيخ تقي الدين وغير مظالم العباد وقال
الآجري بعد أن ذكر خبر أبي أمامة هذا في حق من
تهاون بقضائه أما إذا لم يمكنه قضاؤه وكان
أنفقه في وجهه فإن الله يقضيه عنه مات أو قتل
وكذا
(3/229)
ويغزو مع كل بر
وفاجر ويقاتل كل قوم من يليهم من العدو وتمام
الرباط أربعون يوما وهو لزوم الثغر للجهاد ولا
يستحب نقل أهله إليه.
ـــــــ
الأعمال الصغار فقط قال الشيخ تقي الدين وكذا
حج لأن الصلاة ورمضان أعظم منه ونقل المروذي
بر الوالدين يكفر الصغائر.
"ويغزو مع كل بر وفاجر"، لما روى أبو هريرة
مرفوعا: "الجهاد واجب عليكم مع كل أمير برا
كان أو فاجرا" رواه أبو داود، ولأن تركه مع
الفاجر يفضي إلى قطعه وظهور الكفار على
المسلمين واستئصالهم وإعلاء كلمة الكفر وشرطه
أن يحفظ المسلمين لا مخذل ونحوه وفي الصحيح
مرفوعا: "إن الله يؤيد هذا الدين بالرجل
الفاجر". ويقدم القوي منهما. نص عليه.
"ويقاتل كل قوم من يليهم من العدو" أي: يتعين
جهاد المجاور نص عليه لقوله تعالى: {قَاتِلُوا
الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ}
الآية [التوبة: 123]، ولأن الأقرب أعظم ضررا
إلا لحاجة مثل كون الأبعد أخوف والأقرب مهادنا
ومع التساوي فجهاد أهل الكتاب أفضل لأنهم
يقاتلون على دين قاله ابن المبارك واستبعده
أحمد وحمل على أنه كان متبرعا بالجهاد
والكفاية حاصلة بغيره.
"وتمام الرباط أربعون يوما" قاله أحمد وروي عن
ابن عمر وأبي هريرة لما روى أبو الشيخ
الأصبهاني مرفوعا: " تمام الرباط أربعون يوما"
، وعن أبي هريرة مرفوعا: "من رابط أربعين يوما
فقد استكمل الرباط" رواه سعيد. وإن زاد فله
أجره وأما أقله فقال المجد والآجري ساعة ونص
أحمد على استحبابه وقال أيضا يوم رباط وليلة
رباط وهو أفضل من المقام بمكة ذكره الشيخ تقي
الدين إجماعا والصلاة بها أفضل نص عليه وقال
إذا اختلف في شيء فانظر ما عليه أهل الثغر فإن
الحق معهم وهل الجهاد أفضل من الرباط أم لا؟
فيه وجهان.
"وهو لزوم الثغر" وكل مكان يخاف أهله من العدو
مأخوذ من رباط الخيل "للجهاد" وأفضله أشده
خوفا لأنهم أحوج ومقامهم به أنفع. "ولا يستحب
نقل أهله" أي: الأبناء والذرية "إليه"، لأنه
مخوف ولا يؤمن من ظفر العدو بمن فيه
(3/230)
وقال رسول الله
صلى الله عليه وسلم: "رباط يوم في سبيل الله
خير من ألف يوم فيما سواه من المنازل". وتجب
الهجرة على من يعجز عن إظهار دينه في دار
الحرب.
ـــــــ
واستيلاؤهم على الأهل فتحصل به مفسدة عظيمة،
"وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "رباط
يوم في سبيل الله خير من ألف يوم فيما سواه من
المنازل" رواه أحمد و أبو داود والنسائي من
حديث عثمان رضي الله عنه ولأحمد عنه مرفوعا:
"جزء من ليلة في سبيل الله أفضل من ألفه ليلة
يقام ليلها ويصام نهارها".
تنبيه: تقدم أن أفضل الرباط المقام بأشد
الثغور خوفا قيل لأحمد أين أحب إليك أن ينزل
الرجل بأهله قال مدينة تكون معقلا للمسلمين
كأنطاكية والرملة ودمشق وقال أحمد رضي الله
عنه الشام أرض المحشر ودمشق موضع يجتمع إليه
الناس إذا غلبت الروم قلت له فالأحاديث: "إن
الله تعالى تكفل لي بالشام" فقال: ما أكثر ما
جاء فيه قيل له إن هذا في الثغور فأنكره،
وقال: "لا يزال أهل المغرب ظاهرين على الحق"
هم أهل الشام. ويسمى الشام مغربا باعتبار
العراق كما يسمى العراق مشرقا وفيه حديث مالك
بن عامر عن معاذ رواه البخاري وعن أبي الدرداء
مرفوعا قال: "فسطاط المسلمين يوم الملحمة إلى
جانب مدينة يقال لها دمشق من خير مدائن الشام"
رواه أبو داود.
"وتجب الهجرة على من يعجز عن إظهار دينه في
دار الحرب" وهي ما يغلب فيها حكم الكفر لقوله
تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ
الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ} الآيات
[النساء: 97]، ولقوله صلى الله عليه وسلم "
أنا برئ من كل مسلم يقيم بين أظهر المشركين"
قالوا: يا رسول الله ولم قال: "لا تراءى
ناراهما" رواه أبو داود والترمذي ومعناه لا
يكون بموضع يرى نارهم ويرون ناره إذا أوقدت
ولأن القيام بأمر الدين واجب على القادر
والهجرة من ضرورة الواجب وتتمته وما لا يتم
الواجب إلا به فهو واجب وشرطه أن يطيق ذلك صرح
به في "المغني" و"الفروع"، لقوله تعالى:
{إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ} الآية [النساء:
98]، وألحق بعضهم بدار الحرب دار البغاة
والبدعة كرفض واعتزال لا فرق بين الرجال
والنساء ولو في العدة بلا راحلة ولا محرم وفي
"عيون المسائل": إن أمنت على نفسها
(3/231)
وتستحب لمن قدر
عليه ولا يجاهد من عليه دين لا وفاء له ولا من
أحد أبويه مسلم
ـــــــ
من الفتنة في دينها لم تهاجر إلا بمحرم كالحج
ومعناه في "منتهى الغاية" وزاد: إن أمكنها
إظهار دينها وفي كلام المؤلف إشعار ببقاء حكم
الهجرة وهو قول الجماهير إذ حكمها مستمر إلى
يوم القيامة للأحاديث الواردة فيه وأما قوله:
"لا هجرة بعد الفتح"، "وقد انقطعت الهجرة" أي:
لا هجرة من مكة بعد فتحها لأن الهجرة إليه لا
منه.
"وتستحب لمن قدر عليه" أي: على إظهار دينه
ليتمكن من جهادهم ويكثر المسلمين ويعينهم
ويتخلص من تكثير عدوهم والاختلاط بهم وقضية
نعيم شاهدة بذلك وذكر أبو الفرج تجب وأطلق في
"المستوعب": لا يسن لامرأة بلا رفقة من صلى
لزمته الهجرة وأما العاجز عنها فلا توصف
باستحباب قاله في "المغني" و"الشرح".
فرع: لا تجب الهجرة من بين أهل المعاصي لكن
روي عن سعيد بن جبير عن ابن عباس في قوله
تعالى: {إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ} [العنكبوت:
56]: أن المعنى: إذا عمل بالمعاصي في أرض
فأخرجوا منها قاله عطاء ويرده ظاهر قوله صلى
الله عليه وسلم: "من رأى منكم منكرا فليغيره
بيده" الحديث.
"ولا يجاهد من عليه دين" لآدمي لا وفاء له
وظاهره لا فرق بين الدين الحال والمؤجل لأن
الجهاد يقصد منه الشهادة وبها تفوت النفس
فيفوت الحق بفواتها وفي "الرعاية" وجه: لا
يستأذن مع تأجيله لأنه له لا يتوجه إليه الطلب
إلا بعد حلوله وظاهره أنه إذا كان له وفاء فله
أن يجاهد بغير إذن نص عليه لأن عبد الله بن
حرام والد جابر خرج إلى أحد وعليه ديون كثيرة
فاستشهد وقضى عنه ابنه مع علمه صلى الله عليه
وسلم من غير نكير وفي معناه إقامة الكفيل أو
توثقه برهن لعدم ضياع حق الغريم بتقدير قتله.
"ولا من أحد أبويه مسلم" في قول أكثر العلماء
لما روى عبد الله بن عمرو بن
(3/232)
إلا بإذن غريمه
وأبيه إلا أن يتعين عليه الجهاد فإنه لا طاعة
لهما في ترك فريضة.
ـــــــ
العاص قال جاء رجل إلى رسول الله صلى الله
عليه وسلم فقال يا رسول الله أجاهد فقال: "لك
أبوان؟" قال نعم قال: "ففيهما فجاهد". وروى
البخاري معناه من حديث ابن عمر وروى أبو داود
عن أبي سعيد أن رجلا هاجر مع النبي صلى الله
عليه وسلم قال: "لك أبوان؟" قال نعم قال:
"ارجع فاستأذنهما، فإن أذنا لك فجاهد وإلا
فبرهما". ولأن برهما فرض عين والجهاد فرض
كفاية والأول مقدم.
وظاهره: لا تشترط حرية الآذن وهو وجه وظاهر
"الخرقي" و"المذهب": اشتراطه ولا فرق بين الأب
والأم قال أحمد فيمن له أم أتظن سرورها فإذا
أذنت من غير أن يكون في قلبها وإلا فلا تغز
وعلم منه أنهما إذا كانا كافرين أنه لا اعتبار
لإذنهما كالمجونين ولأن أبا بكر وغيره كانوا
يجاهدون بدون إذن آبائهم ويخرج منه الجد
والجدة قاله الأصحاب وليس فيه نص صريح إلا في
التبعية وفي "الفروع": ويتوجه احتمال في الجد
لأب فلو أذنا له فيه وشرطا عليه عدم القتال
وحضره تعين عليه القتال وسقط حكم الشرط.
"إلا بإذن غريمه" كرضاه بإسقاط حقه ويتوجه لو
استناب بمن يقضي دينه من مال حاضر. "وأبيه" خص
الأب وحده فيحتمل أنه لم يذكر الأم اكتفاء
بذكر الأب ويحتمل اختصاصه به وهو كلام الأكثر.
"إلا أن يتعين عليه الجهاد" فإنه يصير فرض عين
وتركه معصية لكن يستحب للمدين أن لا يتعرض
لمظان القتل من المبارزة والوقوف في أول
المقاتلة لأن فيه تغريرا بفوات الحق قاله في
"الشرح".
"فإنه لا طاعة لهما في ترك فريضة"، لأن الجهاد
عبادة متعينة فلم يعتبر إذن أحد كفروض
الأعيان.
وأما السفر لطلب العلم فقال أحمد: يجب عليه أن
يطلب من العلم ما يقوم به دينه قيل له فكل
العلم يقوم به دينه قال الفرض الذي يجب عليه
في نفسه صلاته وصيامه ونحو ذلك وهذا خاصة
يطلبه بلا إذن وفي "الرعاية": من لزمه
(3/233)
ولا يحل
للمسلمين الفرار من ضعفهم إلا متحرفين إلى
القتال أو متحيزين إلى فئة وإن زاد الكفار
فلهم الفرار
ـــــــ
التعلم وقيل أو كان فرض كفاية وقيل أو نفلا
ولا يحصل ببلده فله السفر لطلبه بلا إذن أبويه
"ولا يحل للمسلمين" ولو ظنوا التلف "الفرار"،
لقوله تعالى: {إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ
كَفَرُوا زَحْفاً فَلا تُوَلُّوهُمُ
الْأَدْبَارَ} [الأنفال: 15]، ولأنه صلى الله
عليه وسلم عد الفرار من الكبائر وشرطه أن لا
يزيد عدد الكفار على مثلي المسلمين وهو المراد
بقوله: "من ضعفهم"، لقوله تعالى: {فَإِنْ
يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا
مِائَتَيْنِ} [الأنفال: 66]. قال ابن عباس: من
فر من اثنين فقد فر ومن فر من ثلاثة فما فر.
وفي "المنتخب": لا يلزم ثبات واحد لاثنين.
وكلام الأكثر بخلافه. ونقل الأثرم وأبو طالب:
"إلا متحرفين إلى قتال أو متحيزين إلى فئة"،
لقوله تعالى: {وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ
دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفاً لِقِتَالٍ أَوْ
مُتَحَيِّزاً إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ
بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ} [الأنفال: 16] ومعنى
التحرف للقتال: أن ينحاز إلى موضع يكون القتال
فيه أمكن كمن كان في وجه الشمس والريح أو في
مكان ينكشف فيه فينحرف واحدة ونحو ذلك مما جرت
به عادة أهل الحرب قال عمر: "يا سارية الجبل"
فانحازوا إليه وانتصروا على عدوهم ومعنى
التحيز إلى فئة هو أن يصير إلى قوم من
المسلمين ليكون معهم فيقوى بهم على العدو
وظاهره ولو بعدت المسافة كخراسان والحجاز
لحديث ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم
قال: "إني فئة لكم" وكانوا بمكان بعيد منه
وقال عمر أنا فئة لكل مسلم وكان بالمدينة
وجيوشه بالشام والعراق وخراسان رواهما سعيد.
"وإن زاد الكفار" على مثليهم "فلهم الفرار"
قال ابن عباس لما نزلت: {إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ
عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ}
[الأنفال: 65] شق ذلك على المسلمين حين فرض
الله عليهم أن لا يفر واحد من عشرة ثم جاء
التخفيف فقال: {الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ
عَنْكُمْ} الآية [الأنفال: 66] فلما خف الله
عنهم من العدد نقص من الصبر بقدر ما خفف من
العدد رواه أبو داود وظاهره أنه
(3/234)
إلا أن يغلب
على ظنهم الظفر وإن ألقي في مركبهم نار فعلوا
ما يرون السلامة فيه وإن شكوا فعلوا ما شاؤوا
من المقام أو إلقاء نفوسهم في الماء وعنه
يلزمهم المقام
ـــــــ
يجوز لهم الفرار من أدنى زيادة وهو أولى مع ظن
التلف بتركه وأطلق ابن عقيل استحباب الثبات
للزائد لما في ذلك من المصلحة.
"إلا أن يغلب على ظنهم" أي: ظن المسلمين
"الظفر" فيلزمهم المقام ولا يحل لهم الفرار
لينالوا درجة الشهداء المقبلين على القتال
محتسبين فيكونوا أفضل من المولين وما ذكره
المؤلف وهو قول في المذهب والأشهر أن ذلك هو
الأولى وليس بواجب صرح به في "المغني"
و"الشرح". وحمل ابن المنجا كلامه هنا على
الأولى جمعا بين نقله وموافقة الأصحاب وكأنه
لم يقف على الخلاف فيه.
وظاهره أنه إذا غلب على ظنهم الهلاك فالأولى
الثبات والقتال وعنه لزوما قال أحمد ما يعجبني
أن يستأسر وقال فليقاتل أحب إلي إلا لأمر شديد
وقال عمار من استأسر برئت منه الذمة فلهذا قال
الآجري يأثم ولأنه قول أحمد وإن استأسروا جاز
قاله في "البلغة".
تنبيه: إذا نزل العدو ببلد فلأهله التحصن منهم
وإن كانوا أكثر من نصفهم ليلحقهم مدد وقوة ولا
يكون توليا ولا فرارا.
"وإن ألقي في مركبهم نار واشتعل بهم، فعلوا ما
يرون السلامة فيه"، لأن حفظ الروح واجب وغلبة
الظن كاليقين في أكثر الأحكام فهنا كذلك. "وإن
شكوا فعلوا ما شاؤوا من المقام أو إلقاء
نفوسهم في الماء" هذا هو المذهب لأنهم ابتلوا
بأمرين ولا مزية لأحدهما على الآخر وكظن
السلامة في المقام والوقوع في الماء ظنا
متساويا لكن قال أحمد كيف يصنع قال الأوزاعي
هما مرتبتان فاختر أيسرهما.
"وعنه: يلزمهم المقام" نصرهما القاضي أصحابه
لأنهم إذا ألقوا أنفسهم في الماء كان موتهم
بفعلهم وإن أقاموا فموتهم بفعل غيرهم وعنه
يحرم ذكرها ابن عقيل
(3/235)
فصل:
ويجوز تبييت الكفار ورميهم بالمنجنيق وقطع
المياه عنهم وهدم حصونهم ولا يجوز إحراق نحل
ولا تفريقه،
ـــــــ
وصححها وصحح في "النهاية" الأولى، قال لأنهم
ملجؤون إلى الإلقاء فلا ينسب إليهم الفعل بوجه
ولعل الله يخلصهم.
فصل
"ويجوز تبييت الكفار"، لما روى الصعب بن جثامة
قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يسأل
عن ديار المشركين يبيتون فيصيبون من نسائهم
وذراريهم فقال: "هم منهم" متفق عليه. ومعنى
تبيتهم كبسهم ليلا وقتلهم وهو غارون وظاهره
ولو قتل من لا يجوز قتله إذا لم يقصده.
"ورميهم بالمنجنيق" نص عليه لأنه صلى الله
عليه وسلم نصب المنجنيق على أهل الطائف رواه
الترمذي مرسلا ونصبه عمرو بن العاص على
الإسكندرية ولأن الرمي به معتاد كالسهام
وظاهره مع الحاجة وعدمها وفي "المغني": هو
ظاهر كلام الإمام.
"وقطع المياه عنهم" وكذا السابلة "وهدم
حصونهم" وفي "المحرر" و"الوجيز" و"الفروع":
هدم عامرهم وهو أعم لأن القصد إضعافهم
وإرهابهم ليجيبوا داعي الله وقيل فيه روايتان
قال أحمد لا يعجبني يلقى في نهرهم سم لعله
يشرب منه مسلم.
"ولا يجوز إحراق نحل" بالمهملة "ولا تغريقه"
في قول عامة العلماء لما روى مكحول أن النبي
صلى الله عليه وسلم أوصى أبا هريرة بأشياء
قال: "إذا غزوت فلا تحرق نحلا ولا تغرقه" ،
وروى مالك أن أبا بكر قال ليزيد بن أبي سفيان
نحوه ولأن قتله فساد فيدخل في عموم قوله
تعالى: { وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي
الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا} الآية [البقرة:
205] ولأنه حيوان ذو روح فلا يجوز إهلاكه
لغيظهم كنسائهم.
ومقتضاه أنه يجوز أخذ العسل لأنه مباح وفي أخذ
كل شهده بحيث لا يترك
(3/236)
ولا عقر دابة
ولا شاة إلا لأكل يحتاج إليه وفي إحراق شجرهم
وزرعهم وقطعه روايتان: إحداهما: يجوز
ـــــــ
للنحل شيء روايتان. "ولا عقر دابة ولا شاة إلا
لأكل يحتاج إليه" أما عقر دوابهم لغير الأكل،
فلا يخلو:
إما أن يكون في الحرب أو في غيرها فإن كان في
الأول فلا خلاف في جوازه لأن الحاجة تدعو إلى
ذلك إذ قتل بهائمهم مما يتوصل به إلى قتلهم
وهزيمتهم وهو المطلوب وإن كان الثاني لم يجز
لنهيه صلى الله عليه وسلم عن قتل الحيوان صبرا
واختار في "المغني" جواز ذلك أو مما يستعين به
على الكفار في القتال كالخيل وذكره في
"المستوعب" بشرط عجز المسلمين عن سياقه وأخذه
لأنه يحرم إيصاله إلى الكفار للبيع فتركه لهم
بلا عوض أولى بالتحريم وعكسه أشهر وفي
"البلغة": يجوز قتل ما قاتلوا عليه في تلك
الحال.
وأما عقرها للأكل فإن لم يكن بد من ذلك فيباح
بغير خلاف لأن الحاجة تبيح مال المعصوم فغيره
أولى وإن لم تكن الحاجة داعية إلى ذلك فإن كان
الحيوان لا يراد إلا للأكل كالدجاج وسائر
الطير فحكمه كالطعام في قول الجميع.
وإن كان مما يحتاج إليه في القتال كالخيل لم
يبح ذبحه للأكل في قول الجميع لكن قال المؤلف
أختار عقرها لغير الأكل بشرطه وإن ذلك كالبقر
والغنم لم يبح في قول الجماعة وقال القاضي
ظاهر كلام أحمد إباحته حاجة كالطعام واستثنى
في "المغني" من قول الخرقي إذا أذن الإمام في
ذلك وصرح به في "الشرح".
فرع: إذا تعذر حمل متاع فترك ولم يشتر فللإمام
أخذه لنفسه وإحراقه نص عليهما وإلا حرم إذا
جاز اغتنامه حرم إتلافه وإلا جاز إتلاف غير
الحيوان وإذا قال الأمير عند العجز عن نقله من
أخذ شيئا فهو له أخذه وكذا إن لم يقل في أكثر
الروايات ويجب إتلاف كتبهم المبدلة ذكره في
"البلغة".
"وفي إحراق شجرهم وزرعهم وقطعه روايتان:
إحداهما: يجوز" قدمه في
(3/237)
إن لم يضر
بالمسلمين والأخرى لا يجوز إلا أن لا يقدر
عليهم إلا به أو يكونوا يفعلونه بنا وكذلك
رميهم بالنار وفتح الماء ليغرقهم.
ـــــــ
"المحرر" و"الفروع" وجزم به في "الوجيز"، قال
الزركشي: وهو أظهر لقوله تعالى : {مَا
قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا
قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا} الآية [الحشر:
5]، ولما روى ابن عمر أن النبي صلى الله عليه
وسلم حرق نخل بني النضير وقطع وهي البويرة
فانزل الله تعالى الآية وفيه يقول حسان بن
ثابت:
وهان على سراة بني لؤي
... حريق بالبويرة مستطير
متفق عليه.
"إن لم يضر بالمسلمين" وكذا في "المحرر"
و"الفروع" وزاد ولا نفع فدل على أن ما يتضرر
المسلمون بقطعه لكونه ينتفعون به ببقائه
لعلوفهم أو يستظلون به أو يأكلون من ثمره لم
يجز لما فيه من الإضرار بالمسلمين وهو منفي
شرعا.
"والأخرى: لا يجوز" لحديث أبي بكر وغيره ولأن
فيه إتلافا محضا فلم يجز كعقر الحيوان. "إلا
أن لا يقدر عليهم إلا به" كالذي يقرب من
حصونهم ويمنع من قتالهم ويستترون به من
المسلمين وزاد في "المغني" و"الشرح": أو يحتاج
إلى قطعه لتوسعة الطريق أو يمكن من قتال أو سد
شق أو ستارة منجنيق. "أو يكونوا يفعلونه بنا"
فنفعله بهم. قال أحمد: لأنهم يكافؤون على
فعلهم وهذا مما لا خلاف فيه ذكره في "المغني"
و"الشرح".
"وكذلك رميهم بالنار، وفتح الماء ليغرقهم" أي:
فيه روايتان إحداهما يجوز جزم به في "الوجيز"،
لأن القصد مكافأتهم وإقامة كلمة الحق فإذا كان
ذلك وسيلة إليه جاز كالقتل لكنه إن قدر عليهم
بغيره لم يجز تحريقهم بالنار بغير خلاف وعند
العجز يجوز في قول أكثر العلماء وكذلك القول
في فتح الثقوب لتغريقهم.
والثانية: المنع: أما النار فلا يعذب بها إلا
الله تعالى وأما الماء فلأن الإتلاف به يعم
النساء والذرية مع أن عنه وجها لكن لو لم يقدر
عليهم إلا به أو كانوا يفعلونه بنا جاز
(3/238)
وإذا ظفر بهم
لم يقتل صبي ولا امرأة ولا راهب ولا شيخ فان
ولا زمن ولا أعمى.
ـــــــ
"وإذا ظفر بهم لم يقتل صبي" لم يبلغ بغير خلاف
لما روى ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم
نهى عن قتل النساء والصبيان متفق عليه ولأنه
يصير رقيقا بنفس السبي ففي قتله إتلاف المال
فإن شك في بلوغه عول على شعر عانته قاله في
"البلغة".
"ولا امرأة"، لما ذكرنا والخنثى كهي "ولا
راهب" في صومعته قال جماعة ولا يخالط الناس
لقول عمر ستمرون على قوم في صوامع لهم احتبسوا
أنفسهم فيها فدعوهم حتى يميتهم الله على
ضلالتهم.
"ولا شيخ فان"، فإنه روي عن ابن عباس في قوله:
{وَلا تَعْتَدُوا} لا تقتلوا النساء الكبير
وجوزه ابن المنذر لأمره صلى الله عليه وسلم به
قال ابن المنذر لا أعرف حجة في ترك قتل الشيوخ
يستثنى بها عموم قوله: {فَاقْتُلُوا
الْمُشْرِكِينَ} [التوبة: 5]، ولأنه كافر لا
نفع فيه، فيقتل كالشاب.
وجوابه: أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن
قتله رواه أبو داود ولأنه ليس من أهل القتال
أشبه المرأة ويحمل ما روي عن قتل المقاتلة
الذين فيهم قوة مع أنه عام وخبرنا خاص بالهرم
فيقدم.
"ولا زمن ولا أعمى" كالشيخ الفاني لاشتراكهم
في عدم النكاية زاد في "المغني" "والشرح":
وعبد وفلاح وفي "الإرشاد": وحبر. لا رأي لهم
فمن كان من هؤلاء ذا رأي وخصه في "الشرح"
بالرجال وفيه شيء جاز لأن دريد بن الصمة قتل
يوم حنين وهو شيخ لا قتال منه لأجل استعانتهم
برأيه فلم ينكر صلى الله عليه وسلم قتله ولأن
الرأي من أعظم المعونة على الحرب وربما كان
أبلغ في القتال قال المتنبي:
الرأي قبل شجاعة الشجعان
...
هو أول وهي المحل الثاني.
فإذا هما اجتمعا لنفس حرة ... بلغت من العلياء
كل مكان.
(3/239)
إلا أن يقاتلوا
فإن تترسوا بهم جاز رميهم ويقصد المقاتلة وإن
تترسوا بالمسلمين لم يجز رميهم إلا أن يخاف
على المسلمين فيرميهم ويقصد الكفار.
ـــــــ
"إلا أن يقاتلوا" فيجوز قتلهم بغير خلاف لأن
النبي صلى الله عليه وسلم قتل يوم قريظة امرأة
ألقت رحى على محمود بن سلمة وروي عن ابن عباس
أن النبي صلى الله عليه وسلم مر على امرأة
مقتولة يوم الخندق فقال "من قتل هذه؟" فقال
رجل أنا نازعتني قائم سيفي فسكت ولأنه لو لم
يجز لأدى إلى تلف قاتله زاد في "الفروع" وغيره
أو يحرضوا عليه وذكر في "المغني" و"الشرح": أن
المرأة إذا انكشفت للمسلمين وشتمتهم رميت قصدا
وظاهر نص الإمام والأصحاب خلافه ويتوجه أن حكم
غيرها ممن منعنا قتله كهي.
"فإن تترسوا بهم" أي: بمن لا يجوز قتله "جاز
رميهم"، لأنه صلى الله عليه وسلم رماهم
بالمنجنيق وفيهم النساء والصبيان ولأن كف
المسلمين عنهم حينئذ يفضي إلى تعطيل الجهاد
وسواء كانت الحرب قائمة أو لا.
"ويقصد المقاتلة"، لأنه هو المقصود.
"وإن تترسوا بالمسلمين لم يجز رميهم" كأن تكون
قائمة أو لإمكان القدرة عليهم بدونه أو للأمن
من شرهم.
"إلا أن يخاف على المسلمين" مثل كون الحرب
قائمة أو لم يقدر عليهم إلا بالرمي "فيرميهم"
نص عليه للضرورة.
"ويقصد الكفار" بالرمي، لأنهم هم المقصود
بالذات فلو لم يخف على المسلمين لكن لا يقدر
عليهم إلا بالرمي فظاهر كلامه هذا لا يجوز
رميهم وقاله الأوزاعي والليث لقوله تعالى:
{وَلَوْلا رِجَالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِسَاءٌ
مُؤْمِنَاتٌ} الآية [الفتح: 25]، قال الليث:
ترك فتح حصن يقدر على فتحه أفضل من قتل مسلم
بغير حق وجوزه القاضي حال قيام الحرب لأن تركه
يفضي إلى تعطيل الجهاد فعلى هذا لو قتل مسلما
فعليه الكفارة وفي وجوب الدية على العاقلة
روايتان وفي "عيون المسائل": يجب الرمي ويكفر
ولا دية.
(3/240)
ومن أسر أسيرا
لم يجز له قتله حتى يأتي به الإمام إلا أن
يمتنع من الميسر معه ولا يمكنه إكراهه ويخير
الأمير في الأسرى بين القتل والاسترقاق
ـــــــ
فرع: إذا نازل المسلمون العدو فقالوا ارحلوا
عنا وإلا قتلنا أسراكم قال أحمد فيرحلوا عنهم.
"ومن أسر أسيرا لم يجز له قتله" على الأصح،
"حتى يأت به الإمام" فيرى فيه رأيه لأن الخيرة
في أمر الأسير إليه والثانية يجوز كما لو قتله
"إلا أن يمتنع من المسير معه" فله إكراهه
بالضرب وغيره فإن لم يمكنه وهو المراد بقوله:
"ولا يمكنه إكراهه" فإنه حينئذ له قتله فإن
امتنع من الانقياد معه لجرح أو مرض فله قتله.
وعن الوقف في المريض فيه وجهان أصحهما الجواز
لأن تركه حيا ضرر على المسلمين ونقل أبو طالب
لا يخليه ولا يقتله ويحرم قتل أسير غيره ولا
شيء عليه نص عليه واختار الآجري جواز قتله
لمصلحة كقتل بلال أمية بن خلف أسير عبد الرحمن
بن عوف وأعانه عليه الأنصار.
فعلى المذهب: لو خالف وفعل فإن كان المقتول
رجلا فلا شيء عليه فإن كان امرأة أو صبيا
عاقبه الأمير وغرم ثمنه غنيمة لأنه صار رقيقا
بنفس السبي
"ويخير الأمير في الأسرى بين القتل"، لعموم
قوله تعالى: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ}،
ولأنه صلى الله عليه وسلم قتل رجال قريظة وهم
بين الستمائة والسبعمائة وقتل يوم بدر عقبة
ابن أبي معيط والنضر بن الحارث وفيه تقول
أخته:
ما كان ضرك لو مننت وربما ... من الفتى وهو
المغيظ المحنق.
فقال صلى الله عليه وسلم: "لو سمعته ما
قتلته".
"والاسترقاق"، لقول أبي هريرة لا أزال أحب بني
تميم بعد ثلاث سمعتهن من رسول الله صلى الله
عليه وسلم يقول: "هم أشد أمتي على الدجال"
وجاءت صدقاتهم فقال النبي صلى الله عليه وسلم:
"هذه صدقات قومنا" قال: وكانت سبية عند عائشة
فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "اعتقيها،
فإنها من ولد إسماعيل" متفق عليه ولأنه يجوز
إقرارهم على كفرهم بالجزية فبالرق أولى لأنه
أبلغ في صغارهم.
(3/241)
والمن والفداء
بمسلم أو مال وعنه لا يجوز بمال
ـــــــ
فرع: لا يبطل الاسترقاق حقا لمسلم قاله ابن
عقيل وفي "الانتصار": لا يسقط حق قود له وعليه
وفي سقوط دين في ذمته لضعفها برقه كذمة مريض
احتمالان.
وفي "البلغة": يتبع به بعد عتقه إلا أن يغنم
بعد إرقاقه فيقضي منه دينه فيكون رقه كموته
وعليه يخرج حلوله برقه وإن غنما معا فهما
للغانم ودينه في ذمته.
"والمن"، لقوله تعالى: {فَإِمَّا مَنّاً
بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً} [محمد: 4]، ولما روى
أنس أن ثمانين رجلا من أهل مكة هبطوا على
النبي صلى الله عليه وسلم من جبال التنعيم عند
صلاة الفجر ليقتلوهم فأخذهم النبي صلى الله
عليه وسلم فأعتقهم فانزل الله تعالى : {
وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ
وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ} الآية [الفتح: 24]،
رواه مسلم وعن جبير بن مطعم أن النبي صلى الله
عليه وسلم قال في أسارى بدر: "لو كان المطعم
بن عدي حيا ثم كلمني في هؤلاء النتنى لتركتهم
له" رواه البخاري. وقد صح أنه صلى الله عليه
وسلم من على أبي عروة الشاعر وعلى أبي العاص
بن الربيع وعلى ثمامة ابن أثال.
والثانية: لا يجوز المن بغير عوض لأنه لا
مصلحة فيه.
"والفداء"، للآية ولما روى عمران بن حصين أن
النبي صلى الله عليه وسلم فدى رجلين من أصحابه
برجل من المشركين من بني عقيل رواه أحمد
والترمذي وصححه وهو جائز "بمسلم" بلا نزاع
لحديث عمران وغيره "أو بمال" في ظاهر المذهب
لأنه صلى الله عليه وسلم فادى أهل بدر بالمال
بلا ريب.
"وعنه: لا يجوز بالمال"، وحكاه أبو الخطاب في
"الهداية" وجها، لأن الله تعالى نبه على ذلك
وأنزل:
{مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ
أَسْرَى} إلى قوله: { عَذَابٌ عَظِيمٌ}
[الأنفال: 68] ولأنه لا يجوز بيعهم السلاح لما
فيه من تقويتهم على المسلمين فبيع أنفسهم أولى
وهذا التخيير إنما هو في المقاتلة الأحرار
ذكره الأصحاب فإن كانوا أرقاء فيخير الإمام
بين قتلهم وتركهم غنيمة كالبهائم وأما النساء
والذرية فيصيرون أرقاء بنفس السبي لنهيه صلى
الله عليه وسلم عن قتلهم وكان يسترقهم إذا
سباهم.
(3/242)
إلا غير
الكتابي ففي استرقاقه روايتان ولا يجوز أن
يختار إلا الأصلح للمسلمين.
ـــــــ
ومن يحرم قتله كالزمن والشيخ الفاني والأعمى
ففي "المغني" و"الشرح": أنه لا يجوز سبيهم
لتحريم قتلهم وعدم النفع في اقتنائهم لكن صرح
في "المغني": يجوز استرقاق الشيخ والزمن ونقله
ابن المنجا عن بعض الأصحاب فقال كل من لا يقتل
كأعمى وغيره يرق بنفس السبي وتوسط المجد فجعل
من فيه نفع من هؤلاء حكمه حكم النساء والصبيان
قال الزركشي وهو أعدل الأقوال إذ الزمن يمكن
أن يكون ناطورا والأعمى ينفخ في كير الحداد
إلا أن يراد به النفع المطلق.
تنبيه: إذا أسلم الكافر قبل أسره لخوف أو غيره
فلا تخيير لأنه لا يد له عليه وظاهر كلامهم
أنه كمسلم أصلي في قود ودية لكن لا قود مع
شبهة التأويل وفي الدية الخلاف كباغ.
والتخيير السابق ثابت في أهل الكتاب ومن يقر
بالجزية فأما غيره فقال فيه "إلا غير الكتابي
ففي استرقاقه روايتان" كذا في "المحرر"
و"الفروع".
إحداهما: يجوز وإليها ميل المؤلف وهي ظاهر
"الوجيز" كغيرهم.
والثانية: لا اختارها الشريف وابن عقيل وصححها
في "البلغة". قال الخرقي: لا يقبل منهم إلا
الإسلام أو السيف وفي "الواضح": يدل هذا على
مفادات ومن لأنه كافر لا يقر بالجزية فلم
يسترق كالمرتد والمؤلف تبع أبا الخطاب في
حكاية الخلاف في غير أهل الكتاب والمجد جعل
مناط الحكم فيمن لا يقر بالجزية فعلى قوله
نصارى بني تغلب يجري فيهم الخلاف لعدم أخذها
منهم وظاهر ما سبق أن الكافر إذا كان مولى
مسلم لا يجوز استرقاقه لأن في استرقاقه تفويت
ولاء المسلم المعصوم بخلاف ولده الحربي لبقاء
نسبه والمذهب الأول كما لو كان عليه ولاء لذمي
لا يجوز قتله فجاز استرقاقه كغيره.
"ولا يجوز أن يختار إلا الأصلح للمسلمين"، لأن
هذا تخيير مصلحة واجتهاد لا تشهي فمتى رأى
مصلحة في خصلة لزمه فعلها وفي "الروضة": يندب.
ولأنه يتصرف لهم على سبيل النظر لهم فلم يجز
ترك ما فيه الأصلح كولي اليتيم.
(3/243)
فإن أسلموا
رقوا في الحال ومن سبي من أطفالهم منفردا أو
مع أحد أبويه فهو مسلم وإن سبي مع أبويه فهو
على دينهما.
ـــــــ
ولأن المصلحة تختلف باختلاف الأسرى فالقوي
قتله أصلح ولا يمثل به وعنه بلى إن فعلوه.
والضعيف الذي له مال فداؤه أصلح ومن له رأي
حسن يرجى إسلامه فالمن عليه أصلح ومن ينتفع
بخدمته فاسترقاقه أصلح وإن تردد نظره فقتله
أولى واختار الشيخ تقي الدين للإمام عمل
المصلحة في مال وغيره لفعل النبي صلى الله
عليه وسلم بأهل مكة
فرع: من استرق أو فودي بمال كان للغانمين بغير
خلاف نعلمه.
"فإن أسلموا رقوا في الحال" نص عليه وحرم قتله
لقوله صلى الله عليه وسلم: "لا يحل دم امرئ
مسلم إلا بإحدى ثلاث" وهذا مسلم. ولأنه أسير
يحرم قتله فصار رقيقا كالمرأة وقيل يحرم قتله
ويتخير فيه بين الخصال الثلاث جزم به في
"الكافي"، وصححه في "الشرح"، لأنه إذا جاز ذلك
حال كفرهم ففي حال إسلامهم أولى وعلى الأول
يزول حكم التخيير ولا يجوز رده إلى الكفار
وزاد في "المغني" و"الشرح": إلا أن تمنعه
عشيرة ونحوها.
"ومن سبي من أطفالهم" ولو مميزا "منفردا أو مع
أحد أبويه فهو مسلم"، لأن التبعية انقطعت
فيصير تابعا لسابيه في دينه وعنه كافر كما لو
سبي مع أبويه أو مع أحد المسلمين على الأصح
لما روى أبو هريرة مرفوعا: "ما من مولود يولد
إلى على الفطرة فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو
يمجسانه" متفق عليه. فجعل التبعية لأبويه،
فإذا لم يكن كذلك انقطعت التبعية ووجب بقاؤه
على حكم الفطرة وعنه يتبع أبويه قاله أبو
الخطاب لأنه يتبعه في النسب فكذا في الدين
وعنه يتبع المسبي معه منهما اختاره الآجري
"وإن سبي مع أبويه فهو على دينهما" على الأصح
لأن التبعية باقية وعنه لا لأنه خرج من دارهما
إلى دار الإسلام فتبع سابيه المسلم.
(3/244)
ولا ينفسخ
النكاح باسترقاق الزوجين وإن سبيت المرأة
وحدها انفسخ نكاحها وحلت لسابيها وهل يجوز بيع
من استرق منهم للمشركين على روايتين.
ـــــــ
فرع: يتبع الطفل سابيا ذميا كمسلم وقيل إن سبي
مفردا فمسلم ونقل عبد الله والفضل يتبع مالكا
مسلما كسبي اختاره الشيخ تقي الدين.
"ولا ينفسخ النكاح باسترقاق الزوجين" وبسبيهما
معا لأن الاسترقاق معنى لا يمنع ابتداء النكاح
فلم يقطع استدامته كالعتق وعنه ينفسخ لقوله
تعالى: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ
إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} [النساء:
24]، والمراد بالمحصنات المزوجات، {إِلَّا مَا
مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ}: بالسبي وهذا إذا
تعدد سابيها قاله المؤلف وظاهره لا فرق بين أن
يسبيها رجل أو رجلان وهو ظاهر كلام الأصحاب.
"وإن سبيت المرأة وحدها انفسخ نكاحها" بغير
خلاف علمناه قاله في "الشرح". وعنه لا ينفسخ
قدمها في "التبصرة"، كزوجة ذمي وعلى الأول
"وحلت لسابيها"، للآية ولما روى أبو سعيد
الخدري قال أصبنا سبايا يوم أوطاس ولهن أزواج
في قومهن فذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم
فنزلت: { وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ}
الآية [النساء: 24] رواه الترمذي وحسنه وظاهره
أن الزوج إذا سبي منفردا أنه لا ينفسخ نكاحه
لأنه لا نص عليه فيه ولا يقتضيه القياس وقال
أبو الخطاب إذا سبي أحد الزوجين انفسخ النكاح
ولم يفرق.
"وهل يجوز بيع من استرق منهم للمشركين على
روايتين":
أظهرهما لا يصح قال أحمد ليس لأهل الذمة أن
يشتروا مما سبى المسلمون لأنه يروي أن عمر كتب
ينهى أمراء الأمصار عن ذلك ولأن فيه تفويتا
للإسلام فلا يجوز ردهم إلى الكفر كما لو
أسلموا.
والثانية: يجوز لأنه صلى الله عليه وسلم باع
سبي بني قريظة لأهل الحرب ولأنه لا يمنع من
إثبات يده عليه فلا يمنع من ابتدائه كالمسلم
وعنه يجوز في البالغ دون الصغار.
(3/245)
ولا يفرق في
البيع بين ذوي رحم محرم إلا بعد البلوغ في
إحدى الروايتين وإذا حصر الإمام حصنا لزمه
مصابرته إذا رأى المصلحة فيه
ـــــــ
وعنه: يجوز في غير النساء وكذا الخلاف
بمفاداته بمال.
"ولا يفرق في البيع" ولا في القسمة "بين ذوي
رحم محرم" قبل البلوغ: أما في الوالدة وولدها
فلحديث أبي أيوب رضي الله عنه "من فرق بين
والدة وولدها فرق الله بينه وبين أحبابه يوم
القيامة" رواه الترمذي وقال حسن غريب وظاهره
ولو رضيت الأم نص عليه لأنها قد ترضى بما فيه
ضررها ثم يتغير قلبها فتندم وحكم الأب مع ولده
كالأم والجد والجدة كهما لقيامهما في استحقاق
الميراث والنفقة والحضانة فقاما مقامهما في
تحريم التفريق.
وكذا يحرم بين الإخوة لحديث علي رواه الترمذي
وحسنه وعموم كلامه يقتضي تحريم التفريق بين كل
ذي رحم محرم كالعمة وابن أخيها جزم به في
"الوجيز" وقاله الأكثر قال في "الشرح":
والأولى جواز التفريق لأن الأصل حل البيع
والتفريق ولا يصح إلحاقهم بمن سبق. "إلا بعد
البلوغ في إحدى الروايتين" هي ظاهر "الوجيز"
وغيره لما روى عبادة بن الصامت أن النبي صلى
لله عليه وسلم قال: "لا يفرق بين الوالدة
وولدها" قيل: إلى متى؟ قال: "حتى يبلغ الغلام
وتحيض الجارية". ولأن الأحرار يتفرقون
بالتزويج بعد البلوغ فالعبيد أولى. والثانية:
المنع لعموم ما ذكرنا وهو ظاهر "الخرقي" في
الولد لأن الوالدة تتضرر بمفارقة ولدها ولهذا
حرم عليه الجهاد إلا بإذنهما وعلى المنع
فيستثنى التفريق بالعتق وافتداء الأسرى وسيأتي
في البيع إذا ملك أختين.
"وإذا حصر الإمام حصنا، لزم مصابرته" مهما
أمكن "إذا رأى المصلحة فيها"، لأن عليه فعل ما
فيه مصلحة للمسلمين وظاهره أنه إذا رأى
المصلحة في الانصراف جاز صرح به في "المغني"
وغيره، لانصرافه صلى الله عليه وسلم عن حصن
الطائف قبل فتحه وبه يزول اللزوم وبالإسلام
ويبذل المال على الموادعة سواء أعطوه جملة أو
جعلوه خراجا يؤخذ منهم كل عام وبالفتح
وبالنزول على الحكم الشرعي وبالهدنة بشرطها.
(3/246)
فإن أسلموا أو
من أسلم منهم أحرز دمه وماله و أولاده الصغار
وإن سألوه الموادعة بمال أو غيره جاز إن كانت
المصلحة فيه وإن نزلوا على حكم حاكم جاز إذا
كان حرا مسلما بالغا عاقلا من أهل الاجتهاد،
ـــــــ
"فإن أسلموا" أي أهل الحصن "أو من أسلم منهم"
فكمسلم قبل القدرة عليه "أحرز دمه وماله"،
لقوله صلى الله عليه وسلم: "أمرت أن أقاتل
الناس..." الخبر والمراد بالمال حيث كان
ومنفعة إجارة لأنها مال "وأولاده الصغار"،
لأنهم تبع لهم في الإسلام ولو كانوا في دار
الحرب وحمل امرأته مع كونه حرا مسلما والمجنون
كصغير وظاهره أنه لا يعصم أولاده الكبار لأنهم
لا يتبعونه ولا زوجته كذلك.
"وإن سألوه الموادعة" وهي المصالحة والمسالمة
"بمال أو غيره جاز إن كانت المصلحة فيه"، لأن
الغرض إعلاء كلمة الإسلام وصغار الكفرة وهو
حاصل بالموادعة فيجب كالمن عليهم وشرط بعض
أصحابنا في عقدها بغير مال عجز المسلمين
واستضرارهم بالمقام ليكون ذلك عذرا في
الانصراف.
"وإن نزلوا على حكم حاكم جاز"، لأنه صلى الله
عليه وسلم لما حاصر بني قريظة نزلوا على حكم
سعد بن معاذ فأجابهم إلى ذلك متفق عليه من
حديث أبي سعيد وقد علم أنهم إذا نزلوا لزمه أن
ينزلهم وخير كأسرى.
والكلام في مقامين في صفة الحاكم فقال: "إذا
كان حرا مسلما بالغا عاقلا من أهل الاجتهاد"،
لأنه حاكم أشبه ولاية القضاء وظاهره انه لا
يشترط فيه أن يكون بصيرا صرح به في "البلغة"
و"الوجيز"، بخلاف القضاء ليعرف المدعي من
المدعى عليه والشاهد من المشهود عليه ولا
مجتهدا في جميع الأحكام التي لا تعلق لها في
الجهاد وصرح به في "المحرر" و"الفروع" وغيرهما
وترك قيد الذكورية والعدالة لوضوحهما.
تنبيه" لو نزلوا على حكم رجلين فأكثر جاز
والحكم ما اجتمعوا عليه فلو جعلوا الحكم على
رجل يعينه الإمام صح فإن نزلوا على حكم رجل
منهم أو جعلوا التعيين إليهم لم يجز لأنهم
ربما اختاروا غير الأصلح ذكره في الشرح وغيره.
(3/247)
ولا يحكم إلا
بما فيه الأحظ للمسلمين من القتل والسبي
والفداء فإن حكم بالمن لزم قبوله في أحد
الوجهين وإن حكم بقتل أو سبي فأسلموا عصموا
دماءهم وفي استرقاقهم وجهان.
ـــــــ
الثاني في صفة الحكم فقال: "ولا يحكم إلا بما
فيه الأحظ للمسلمين"، لأنه نائب الإمام فقام
مقامه في اختيار الأحظ في الأسرى وحينئذ يلزمه
ذلك وحكمه لازم "من القتل والسبي"، لأن سعدا
حكم في بني قريظة بقتلهم وسبى ذراريهم فقال
النبي صلى الله عليه وسلم: "لقد حكمت بحكم
الله من فوق سبعة أرقعة". "والفداء". لما سبق
في الإمام وظاهره ولو حكم عليهم بإعطاء الجزية
لم يلزم حكمه لأن عقد الذمة عقد معاوضة واشترط
فيه التراضي وكذلك لا يملك الإمام إجبار
الأسير على إعطاء الجزية.
"فإن حكم بالمن لزمه قبوله في أحد الوجهين"
قاله القاضي وقدمه في "المحرر" وجزم به في
"الوجيز"، لأنه نائب الإمام فكان له المن كهو
وظاهره ولو أباه الإمام.
والثاني: المنع قاله أبو الخطاب لأنه لاحظ فيه
ومحله إذا لم يره الإمام قاله في "الكافي"
و"المحرر" و"الخلاصة". وقيل: في المقاتلة دون
النساء والذرية لأنهما غنيمة فليس للحاكم
تركها مجانا. وفي "الكافي" و"البلغة": لو حكم
بأسر لم يجز للإمام أن يمن بإطلاقهم إلا برضى
الغانمين.
"وإن حكم بقتل أو سبي فأسلموا" بعد الحكم
"عصموا دماءهم"، لأن قتل المسلم حرام وظاهره
أنهم لا يعصمون أموالهم لأنها صارت للمسلمين
قبل إسلامهم وكذا سبيهم قاله في "المحرر".
"وفي استرقاقهم وجهان" كذا في "البلغة" وفي
"الكافي" و"المحرر". وغيرهما: روايتان إحداهما
لا يجوز قدمه في "الشرح"، لأنهم أسلموا قبل
استرقاقهم
والثانية: يجوز ذكره أبو الخطاب احتمالا لأنهم
أسلموا بعد القدرة عليهم ووجوب قتلهم كالأسير
إذا أسلم بعد اختيار الأمام قتله فعلى هذا
يكون المال
(3/248)
ـــــــ
على ما حكم فيه فإن حكم بأنه للمسلمين كان
غنيمة لأنهم أخذوه بالقهر.
تنبيه: ليس للإمام تغيير ما حكم به الحاكم مما
ينفذ حكمه فيه فلا يقتل من حكم برقه لأنه أشد
من الرق وفيه إتلاف الغنيمة بغير رضى الغانمين
ولا رق من حكم بقتله لأنه قد يدخل الضر على
المسلمين ببقائهم ولا رق ولا قتل من حكم
بفدائه لأنهما أشد من الفداء لأنه نقض للحكم
بعد لزومه وله المن إلا أنه أخف مما حكم به
الحاكم فإذا رآه الإمام جاز لأنه أتم نظرا
وكالابتداء وقبول الفداء ممن حكم بقتله أو رقه
لأنه نقض للحكم برضى المحكوم عليه ولأنه حقه
فإذا رضي بشركه جاز ذكره المجد وغيره.
(3/249)
باب ما يلزم
الإمام والجيش
يلزم الإمام عند مسير الجيش تعاهد الخيل
والرجال فما لا يصلح للحرب يمنعه من الدخول،
ـــــــ
باب ما يلزم
الإمام والجيش
يلزم كل واحد إخلاص النية لله تعالى في
الطاعات ويجتهد في ذلك ويستحب أن يدعو سرا
بحضور قلب قال أبو داود باب ما يدعى عند
اللقاء ثم روى بإسناد جيد عن أنس قال كان رسول
الله صلى الله عليه وسلم إذا غزا قال: "اللهم
أنت عضدي ونصيري بك أحول وبك أصول وبك أقاتل".
وكان جماعة منهم الشيخ تقي الدين يقوله عند
قصد مجلس علم.
"يلزم الإمام" وقيل: يستحب "عند مسير الجيش
تعاهد الخيل والرجال" لأن ذلك من مصالح الجيش
فلزمه فعله كبقية المصالح فيختار من الرجال ما
فيه غنى ومنفعة للحرب ومناصحة ومن الخيل ما
فيه قوة وصبر على الحرب ويمكن الانتفاع به في
الركوب وحمل الأثقال.
"فما لا يصلح للحرب" كالفرس إذا كان حطما وهو
الكسير أو قحما وهو الكبير أو ضرعا وهو الصغير
أو هزيلا وكالرجل إذا كان زمنا أو أشل أو
مريضا "يمنعه من الدخول"، لئلا ينقطع في دار
الحرب ولأنه يكون كلا على الجيش ومضيقا
(3/249)
ويمنع المخذل
والمرجف والنساء إلا طاعنة في السن لسقي الماء
ومعالجة الجرحى ولا يستعين بمشرك.
ـــــــ
عليهم وربما كان سببا للهزيمة.
"ويمنع المحذل" وهو الذي يفند الناس عن الغزو
ويزهدهم في الخروج إليه "والمرجف" وهو الذي
يحدث بقوة الكفار وضعفنا لقوله تعالى:
{وَلَكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ
فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ
الْقَاعِدِينَ لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ} الآية
[التوبة: 46، 47].
وكذا يمنع مكاتب بإخبارنا ورام بيننا بالفتن
ومعروف بنفاق وزندقة لأن هؤلاء مضرة على
المسلمين فلزم الإمام منعهم إزالة للضرر وظاهر
كلامهم ولو دعت الضرورة إليهم في الأصح وكذا
يمنع صبي وعبارة "المغني" و"الكافي" و"البلغة"
طفل. وفي "الشرح": يجوز أن يأذن لمن اشتد من
الصبيان لأن فيهم منفعة ومعونة
"والنساء" للافتتان بهن مع أنهن لسن من أهل
القتال لاستيلاء الخوف والجبن عليهن ولأنه لا
يؤمن ظفر العدو بهن فيحلون منهن ما حرم الله
تعالى واستثنى بعضهم امرأة أمير الجيش لفعله
صلى الله عليه وسلم. "إلا طاعنة في السن" أي:
عجوزا "لسقي الماء ومعالجة الجرحى" أي:
للمصلحة لقول الربيع بنت معوذ كنا نغزو مع
النبي صلى الله عليه وسلم نستقي الماء ونخدمهم
ونرد الجرحى والقتلى إلى المدينة رواه
البخاري.
وعن أنس معناه رواه مسلم لأن الرجال يشتغلون
بالحرب عن ذلك فيكون معونة للمسلمين وتوفيرا
للمقاتلة ونهي النساء عن ذلك للتحريم كما هو
ظاهر "الخرقي" و"المحرر"، وصرح في "المغني"
و"الشرح" بالكراهة.
"ولا يستعين بمشرك" لما روت عائشة أن النبي
صلى الله عليه وسلم خرج إلى بدر فتبعه رجل من
المشركين فقال له "تؤمن بالله ورسوله؟" قال لا
قال: "فارجع فلن استعين بمشرك" متفق عليه ولأن
الكافر لا يؤمن مكره وغائلته لخبث طويته
والحرب تقتضي المناصحة والكافر ليس من أهلها.
(3/250)
إلا عند الحاجة
إليه ويرفق بهم في المسير ويعد لهم الزاد
ويقوي نفوسهم بما يخيل إليهم من أسباب النصر،
ـــــــ
"إلا عند الحاجة إليه" كذا ذكره جماعة لما روى
الزهري أن النبي صلى الله عليه وسلم استعان
بناس من المشركين في حربه رواه سعيد ويروى
أيضا أن صفوان بن أمية شهد حنينا مع النبي صلى
الله عليه وسلم وبهذا حصل التوفيق بين الأدلة
وقدم في "المحرر" و"الفروع": أنه لا يستعان
بهم إلا لضرورة مثل كون الكفار أكثر عددا
ويخاف منهم.
وعنه: يجوز مع حسن رأي في المسلين جزم به في
"الشرح". وزاد آخرون وقوته بهم بالعدد وفي
"الواضح": روايتان: الجواز وعدمه بلا ضرورة
وبناهما على الإسهام له ورده في "الفروع"،
واختار أنه يكره الاستعانة بهم إلا للضرورة
وأطلق أبو الحسن وغيره أن الرواية لا تختلف
أنه لا يستعان بهم ولا يعاونون وأخذ القاضي من
تحريم الاستعانة تحريمها في العمالة والكتابة
قال الشيخ تقي الدين من تولى منهم ديوانا
للمسلمين انتقض عهده وفي "الرعاية": يكره إلا
لضرورة.
فرع: تحرم الاستعانة بأهل الأهواء في شيء من
أمور المسلمين لأنهم أعظم ضررا لكونهم دعاة
بخلاف اليهود والنصارى نص على ذلك.
"ويرفق بهم في المسير" فيسير بهم سير أضعفهم
لقوله صلى الله عليه وسلم: "أمير القوم
أقطفهم" أي: أقلهم سيرا ولئلا ينقطع منهم أحد
عليهم فإن دعت الحاجة إلى الجد فيه جاز نقل
ابن منصور أكره السير الشديد إلا لأمر يحدث
لأنه صلى الله عليه وسلم جد حين بلغه قول عبد
الله بن أبي: {لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ
مِنْهَا الْأَذَلَّ} [المنافقون: 8] ليشغل
الناس عن الخوض فيه.
"ويعد لهم الزاد"، لأنه لابد لهم منه وبه
قوامهم وربما طال سفرهم فيهلكون حيث لا زاد
لهم.
"ويقوي نفوسهم بما يخيل إليهم من أسباب النصر"
فيقول أنتم أكثر عددا وأشد أبدانا وأقوى قلوبا
ونحو ذلك لأنه مما تستعين به النفوس على
المصابرة ويبعثها على القتال لطمعها في العدو.
(3/251)
ويعرف عليهم
العرفاء ويعقد لهم الألوية ويجعل لكل طائفة
شعارا يتداعون به عند الحرب ويتخير لهم
المنازل ويتبع مكامنها فيحفظها ويبث العيون
على العدو حتى لا يخفى عليه أمرهم
ـــــــ
"ويعرف عليهم العرفاء"، لأنه صلى الله عليه
وسلم عرف عام خيبر على كل عشرة عريفا ولأنه
ينظر في حالهم ويتفقدهم وهو أقرب أيضا لجمعهم
وقد ورد: "العرافة حق"، لأن فيها مصلحة الناس
وأما قوله: "العرفاء في النار" فتحذير للتعرض
للرياسة لما فيه من الفتنة ولأنه إذا لم يقم
بحقها استحق العقوبة.
"ويعقد لهم الألوية" وهي المطارف البيض وقال
صاحب "المطالع": اللواء راية لا يحملها إلا
صاحب جيش العرب أو صاحب دعوة الجيش وهي أعلام
مربعة لقوله صلى الله عليه وسلم للعباس حين
أسلم أبو سفيان: "احتبسه على الوادي حتى تمر
به جنود الله فيراها" قال: فحسبته حيث أمرني
رسول الله صلى الله عليه وسلم ومرت به القبائل
على راياتها ولأن الملائكة إذا نزلت بالنصر
نزلت مسومة بها نقله حنبل.
وظاهره أنها تكون بأي لون شاء وصرح به في
"المحرر"، لاختلاف الروايات وفي "الفروع":
يستحب ألوية بيض وفي "الشرح" كـ"المحرر"، وزاد
يغاير ألوانها ليعرف كل قوم رايتهم.
"ويجعل لكل طائفة شعارا يتداعون به عند الحرب"
لما روى سلمة قال غزونا مع أبي بكر زمن رسول
الله صلى الله عليه وسلم وكان شعارنا: "أمت
أمت". رواه أحمد وقد ورد أيضا "حم لا ينصرون".
ولأن الإنسان ربما احتاج إلى نصرة صاحبه وربما
يهتدي بها إذا ضل قاله في "الشرح"، أو لئلا
يقع بعضهم على بعض.
"وليتخير لهم المنازل" أي: أصلحها كالخصبة
لأنها أرفق بهم وهو من مصلحتهم "ويتتبع
مكامنها" وهي جمع مكمن وهو المكان الذي يختفي
به العدو "فيحفظها" ليأمن هجوم العدو عليهم،
"ويبث العيون على العدو"، لأنه صلى الله عليه
وسلم بعث الزبير يوم الأحزاب وحذيفة بن اليمان
في غزاة الخندق و دحية الكلبي في أخرى وقد
أشار المؤلف إلى العلة بقوله: "حتى لا يخفي
عليه أمرهم" فيتحرز منهم ويتمكن من الفرصة
فيهم.
(3/252)
ويمنع جيشه من
الفساد والمعاصي ويعد ذا الصبر بالأجر والنفل
ويشاور ذوي الرأي ويصف جيشه ويجعل في كل جنبة
كفؤا ولا يميل مع قريبه وذي مذهبه على غيره
ويجوز له أن يبذل جعلا لمن يدله على طريق أو
قلعة أو ماء،
ـــــــ
"ويمنع جيشه من الفساد والمعاصي"، لأن فعلها
سبب الخذلان وتركها داع للنصر وسبب الظفر وكذا
يمنعهم من التجارة المانعة لهم من القتال
"ويعد ذا الصبر بالأجر والنفل"، لأن ذلك وسيلة
إلى بذل جهده وزيادة صبره. "ويشاور ذوي
الرأي"، لقوله تعالى: {وَشَاوِرْهُمْ فِي
الْأَمْرِ} [آل عمران: 159]، وكان صلى الله
عليه وسلم أكثر الناس مشاورة لأصحابه ولأن في
ذلك تطييبا لقلوبهم ولأن فيها اجتماع الرأي في
تحصيل المصلحة ويخفي من أمره ما أمكن إخفاؤه
لئلا يعلم به العدو وقد كان صلى الله عليه
وسلم إذا أراد غزوة ورى بغيرها.
"ويصف جيشه"، لقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ
يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ
صَفّاً} [الصف: 4] قال الواقدي: كان النبي صلى
الله عليه وسلم يسوي الصفوف يوم بدر ولأن فيه
ربط الجيش بعضه ببعض وسد الثغور فيصيرون
كالشيء الواحد ويتراصون لقوله: {كَأَنَّهُمْ
بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ} [الصف: 4].
"ويجعل في كل جنبة كفأ"، لما روى أبو هريرة
قال كنت مع النبي صلى الله عليه وسلم فجعل
خالدا على إحدى الجنبتين والزبير على الأخرى
وأبا عبيدة على الساقة ولأنه أحوط للحرب وأبلغ
في إرهاب العدو.
"ولا يميل مع قريبه وذي مذهبه على غيره"، لئلا
ينكسر قلب من يميل عنه فيخذله عند الحاجة
ولأنه يفسد القلوب ويشتت الكلمة.
فرع: إذا وجد رجل آخر أصيب فرسه ومعه فضل
استحب له حمله ولا يجب نص عليه فإن خاف تلفه
فقال القاضي يجب كما يلزمه بدل فضل طعامه
للمضطر إليه وتخليصه من عدو ذكره في "الشرح".
"ويجوز له" أي: للإمام أو نائبه "أن يبذل جعلا
لمن يدله على طريق أو قلعة" يفتحها "أو ماء"
في مفازة أو مال يأخذه أو ثغرة يدخل منها لأنه
صلى الله عليه وسلم وأبا بكر
(3/253)
ويجب أن يكون
معلوما إلا أن يكون من مال الكفار فيجوز أن
يكون مجهولا فإن جعل له جارية منهم فإن ماتت
قبل الفتح فلا شيء له وإن أسلمت قبل الفتح فله
قيمتها وإن أسلمت بعد الفتح أو قبله سلمت إليه
إلا أن يكون كافرا فله قيمتها وإن فتحت صلحا
ولم يشترطوا الجارية فله قيمتها.
ـــــــ
استأجرا في الهجرة من يدلهم على الطريق ولأنه
من المصالح أشبه أجرة الوكيل.
ويستحق الجعل بفعل ما جعل فيه سواء له كان
مسلما أو كافرا من الجيش أو غيره بشرط أن لا
يجاوز ثلث الغنيمة بعد الخمس نص عليه وله
إعطاء دال ولو بغير شرط.
"ويجب أن يكون معلوما" إذا كان من مال
المسلمين لأنه جعل فوجب أن يكون معلوما كالجعل
في المسابقة ورد الضالة "إلا أن يكون من مال
الكفار فيجوز أن يكون مجهولا"، لأنه صلى الله
عليه وسلم جعل للسرية الثلث والربع مما غنموا
وسلب المقتول وهو مجهول لأن الغنيمة كلها
مجهولة ولأنه مما تدعو إليه الحاجة.
"فإن جعل له جارية منهم" نحو أن يشترط بنت
فلان من أهل القلعة لم يستحق شيئا حتى تفتح
القلعة فإن فتحت عنوة سلمت إليه. "فإن ماتت
قبل الفتح" أو بعده، "فلا شيء له"، لأن حقه
متعلق بعين فيسقط بتلفه من غير تفريط
كالوديعة. "وإن أسلمت قبل الفتح" وهي حرة "فله
قيمتها"، لأنها عصمت نفسها بإسلامها فتعذر
دفعها إليه. "وإن أسلمت بعد الفتح" أو قبله
وهي أمة "سلمت إليه" إذا كان مسلما لأنه أمكن
الوفاء بما شرط فكان واجبا لأن الإسلام بعد
الأسر فكانت رقيقة "إلا أن يكون" المشترط
"كافرا فله قيمتها" لأن الكافر لا يجوز أن
يبتدئ الملك على مسلم ثم إن أسلم ففي أخذها
احتمالان.
"فإن فتحت صلحا ولم يشترطوا الجارية فله
قيمتها" أي: إن رضي بها لأن رد عينها متعذر
لكونها دخلت تحت الصلح وحينئذ تعين رد قيمتها
لأنها بدلها.
(3/254)
فإن أبى إلا
الجارية وامتنعوا من بذلها فسخ الصلح ويحتمل
أن لا يكون له إلا قيمتها وله أن ينفل في
البداءة الربع بعد الخمس وفي الرجعة الثلث
بعده.
ـــــــ
وظاهره أنه لو شرط في الصلح تسليم عينها لزم
لما فيه من الوفاء بالشرط.
"فإن أبى إلا الجارية وامتنعوا من بذلها، فسخ
الصلح"، لأنه قد تعذر إمضاؤه لأن حق صاحب
الجعل سابق ولا يمكن الجمع بينهما فعلى هذا
لصاحب القلعة أن يحصلها مثل ما كانت من غير
زيادة وظاهر ما نقله ابن هانئ أنها له لسبق
حقه ولرب الحصن القيمة.
"ويحتمل ألا يكون له إلا قيمتها" ويمضي الصلح
حكاه في "المحرر" قولا وصححه لأنه تعذر
تسليمها مع بقائها فبقيت القيمة كما لو أسلمت
قبل الفتح وإن بذلوها مجانا أو بالقيمة لوازم
أخذها ودفعها إليه قاله الأصحاب لأنه أمكن
إيصال حقه إليه ضرورة وقال المجد وعندي يختص
ذلك بالأمة فأما حرة الأصل فلا يحل أخذها
ودفعها إليه بجعل لأن الأمة مال ويأخذها كما
لو شرطها دابة أو متاعا فأما حرة الأصل فهي
غير مملوكة لأن الصلح جرى عليها فلا تملك
كالذمية ولم يجز تسليمها كالمسلمة وفيه نظر
لأن الجارية لولا عقد الصلح جرى عليها لكانت
أمة وجاز تسليمها له فإذا رضي أهل الحصن
بإخراجها من الصلح وتسلميها إليه فتكون غنيمة
للمسلمين وتصير رقيقة.
فرع: حيث أوجبنا القيمة ولم يحصل شيء من
الغنيمة أعطي من بيت المال لأنه من المصالح.
"وله أن ينفل" النفل الزيادة على السهم
المستحق ومنه نفل الصلاة "في البداءة" أي
ابتداء دخول دار الحرب "الربع" فأقل "بعد
الخمس، وفي الرجعة الثلث" فأقل "بعده"، لما
روى حبيب بن سلمة الفهري قال شهدت النبي صلى
الله عليه وسلم نفل الربع في البداءة والثلث
في الرجعة رواه أبو داود وعن عبادة بن الصامت
مرفوعا نحوه رواه الترمذي وقال حسن غريب وإنما
يزيد في الرجعة على
(3/255)
وذلك إذا دخل
الجيش بعث سرية تغير وإذا رجع بعث أخرى فما
أتت به أخرج خمسه وأعطى السرية ما جعل لها
وقسم الباقي بين السرية والجيش معا
فصل:
ويلزم الجيش طاعة الأمير.
ـــــــ
البداءة لمشقة الرجعة لأن الجيش في البداءة
ردء عن السرية بخلاف الرجعة وقال أحمد لأنهم
يشتاقون إلى أهليهم فهذا أكثر مشقة.
وظاهره أن ذلك مفوض إلى رأيه فإن شاء فعله وإن
شاء تركه وإنه يجوز بلا شرط وهو ظاهر وعنه لا
يجوز إلا به جزم به في "المغني"، وقدمه في
"الفروع".
"وذلك إذا دخل الجيش بعث سرية تغير وإذا رجع
بعث أخرى فما أتت به أخرج خمسه"، لقوله تعالى:
{وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ
فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ} الآية [الأنفال:
41]، ولما روى حبيب بن سلمة الفهري فيخمس
كالجيش. "وأعطى السرية ما جعل لها" ولا يجوز
أن ينفل أكثر من الثلث بعد الخمس نص عليه.
"وقسم الباقي بين السرية والجيش معا"، لأن
الجيش يشارك سراياه فيما غنمت ونص أحمد في
السرية إذا نفلت أنها ترد على من معها قاله
الخرقي إذ بقوتهم صار إليه.
فصل:
"ويلزم الجيش طاعة الأمير" لقوله تعالى:
{أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ
وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ} [النساء: 59]
ولقوله صلى الله عليه وسلم: "من أطاعني فقد
أطاع الله ومن أطاع أميري فقد أطاعني ومن
عصاني فقد عصى الله، ومن عصى أميري فقد عصاني"
رواه النسائي فلو أمرهم بالصلاة جماعة وقت
لقاء العدو فأبوا عصوا قال الآجري لا نعلم فيه
خلافا قال أحمد لو قال من عنده من رقيق الروم
فليأت به السبي ينبغي أن ينتهوا إلى ما أمرهم
قال ابن مسعود الخلاف شر ذكره ابن عبد البر
وقال كان
(3/256)
والنصح له
والصبر معه ولا يجوز لأحد أن يعتلف ولا يحتطب
ولا يبارز ولا يخرج من العسكر ولا يحدث حدثا
إلا بإذنه فإن دعا كافر إلى البراز استحب لمن
يعلم من نفسه القوة والشجاعة مبارزته بإذن
الأمير.
ـــــــ
يقال: لا خير مع الخلاف ولا شر مع الائتلاف
ونقل المروذي إذا خالفوه تشعث أمرهم فلو قال
سيروا وقت كذا دفعوا معه نص عليه وقال الساقة
يضاعف لهم الأجر إنما يخرج فيهم أهل قوة
وثبات.
"والنصح له" لأن نصحه نصح المسلمين ولأنه يدفع
عنهم فإذا نصحوه كثر دفعه وفي الأثر: "إن الله
يزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن" ومعناه: يكف.
"والصبر معه"، لقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا} [آل
عمران: 200]، ولأنه من النصر والظفر.
"ولا يجوز لأحد أن يتعلف" وهو تحصيل العلف
للدواب "ولا يحتطب" وهو تحصيل الحطب "ولا
يبارز" علجا، ولا يخرج من العسكر ولا يحدث
حدثا إلا بإذنه"، لأن الأمير أعرف بحال الناس
وحال العدو ومكامنهم وقوتهم فإذا خرج إنسان أو
بارز بغير إذنه لم يأمن أن يصادفه كمين للعدو
فيأخذوه أو يرحل المسلمون ويتركوه فيهلك أو
يكون ضعيفا لا يقوى على المبارزة فيظفر به
العدو فتنكسر قلوب المسلمين بخلاف ما إذا أذن
فإنها لا تكون إلا مع انتفاء المفاسد وقد ورد
في النص ما يدل عليه فقال تعالى: {إِنَّمَا
الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ
وَرَسُولِهِ وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى
أَمْرٍ جَامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى
يَسْتَأْذِنُوهُ} [النور: 62] لكن نص إذا كان
موضعا مخوفا لا ينبغي أن يأذن لهم.
وظاهره: أن المبادرة بغير إذنه حرام وفي
"المغني" و"الشرح": الكراهة وحكاه الخطابي عن
أحمد وغيره ومحله ما لم يفجأهم العدو قاله في
"الوجيز".
"فإن دعا كافر" وفي "البلغة": مطلقا "إلى
البراز" بكسر الباء عبارة عن مخاصمة العدو
وبفتحها اسم للفضاء الواسع "استحب لمن يعلم من
نفسه القوة والشجاعة مبارزته بإذن الأمير"،
لمبارزة الصحابة في زمن النبي صلى الله عليه
وسلم ومن
(3/257)
فإن شرط الكافر
أن لا يقاتله غير الخارج إليه فله شرطه فإن
انهزم المسلم أو أثخن بالجراح جاز الدفع عنه
وإن قتله المسلم فله سلبه وكل من قتل قتيلا
فله سلبه
ـــــــ
بعده قال قيس بن عبادة سمعت أبا ذر يقسم قسما
في قوله تعالى: {هَذَانِ خَصْمَانِ
اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ} [الحج: 19]: أنها
نزلت في الذين بارزوا يوم بدر حمزة وعلي
وعبيدة بن الحارث وعتبة وشيبة بن ربيعة
والوليد بن عتبة متفق عليه قال علي نزلت هذه
الآية في مبارزتنا يوم بدر رواه البخاري وكان
ذلك بإذنه صلى الله عليه وسلم.
وبارز البراء بن مالك مرزبان الدارة فقتله
وأخذ سلبه فبلغ ثلاثين ألفا ولأن في الإجابة
إليها إظهارا لقوة المسلمين وجلدهم على الحرب
وظاهره إذا لم يثق من نفسه فيكره لما فيه من
كسر قلوب المسلمين بقتله ظاهرا ولو طلبها
الشجاع ابتداء فاحتمالان في "الفصول".
"فإن شرط الكافر أن لا يقاتله غير الخارج
إليه" أو كان هو العادة "فله شرطه"، لقوله صلى
الله عليه وسلم: " المسلمون على شروطهم"
والعادة بمنزلة الشرط ويجوز رميه وقتله قبل
المبارزة لأنه كافر لا عهد له ولا أمان فأبيح
قتله كغيره إلا أن تكون العادة جارية بينهم أن
من خرج يطلب المبارزة لا يتعرض له فيعمل بها.
"فإن انهزم المسلم" تاركا للقتال "أو أثخن
بالجراح، جاز" لكل مسلم "الدفع عنه" ويقتل
الكافر لأن المسلم إذا صار إلى هذه الحال فقد
انقضى قتاله والأمان زال بزوال القتال لأن
حمزة وعليا أعانا عبيدة في قتل شيبة حين أثخن
عبيدة وإن أعان الكفار صاحبهم فعلى المسلمين
أن يعينوا صاحبهم ويقاتلوا من أعان عليه إلا
المبارزة لأنه ليس بسبب من جهته.
فائدة: كره أحمد التلثم في القتال وعلى أنفه
وله لبس علامة كريش نعام وعنه يستحب للشجاع
ويكره لغيره جزم به في "الفصول".
"وإن قتله المسلم، فله سلبه" بغير خلاف نعلمه
لأن القاتل له سلب المقتول "وكل من قتل قتيلا،
فله سلبه"، لما روى أنس وسمرة أن النبي صلى
الله عليه وسلم قال: "من قتل
(3/258)
غير مخموس. إذا
قتله حال الحرب منهمكا على القتال
ـــــــ
قتيلا فله سلبه" فقتل أبو طلحة يومئذ عشرين
رجلا وأخذ أسلابهم رواه أبو داود وظاهره أن
السلب لكل قاتل سواء كان يستحق سهما أو رضخا
كالصبي والمرأة والمشرك وهو وجه وخصه في
"الوجيز" بالقاتل المسلم.
والثاني: لا لأن السهم آكد منه للإجماع عليه
وهو لا يستحقه فالسلب أولى وفي "الإرشاد": أن
من بارز بغير إذن الإمام فلا يستحق السلب وقطع
في "المغني" و"الشرح" بأن العبد إذا بارز بغير
إذن السيد لا يستحق السلب لأنه عاص وكذا كل
عاص كمن دخل بغير إذن الأمير.
وعنه: فيمن دخل بغير إذنه أنه يؤخذ منه الخمس
وباقيه له كالغنيمة ويخرج في العبد مثله وفيه
شيء وأنه يفرق بينهما بأن تعلق الحق بالغنيمة
آكد للإجماع بخلاف السلب فإن بعضهم جعله
كالنفل لا يستحق إلا بالشرط أما لو كان القاتل
ممن لا حق له في الغنيمة كالمرجف فلا حق له في
السلب لأنه ليس من أهل الجهاد.
"غير مخموس"، لما روى عوف بن مالك وخالد بن
الوليد أن النبي صلى الله عليه وسلم قضى في
السلب للقاتل ولم يخمس السلب رواه أبو داود
ولم ينقل عنه أنه احتسب من خمس الخمس ولأن
سببه لا يفتقر إلى اجتهاد الإمام فلم يكن من
خمس الخمس كسهم الفارس "إذا قتله حال الحرب"
فلو قتله بعد انقضائها فلا سلب له لأن عبد
الله بن مسعود وقف على أبي جهل وقضى النبي صلى
الله عليه وسلم بسلبه لمعاذ بن عمرو بن الجموح
لأنه أثبته.
فإن كانت الحرب قائمة فانهزم أحدهم فقتله
إنسان فله سلبه لأنها كر وفر ولأن سلمة بن
الأكوع قتل طليعة الكفار وهو منهزم فقضى النبي
صلى الله عليه وسلم بسلبه له أجمع رواه أبو
داود.
ولو أثخنه بالجراح استحق سلبه لأنه في حكم
المقتول "منهمكا على القتال" أي: مقبلا في
القتال فإن كان منهزما فلا سلب له نص عليه
لأنه لم يغرر بنفسه في
(3/259)
غير مثخن وغرر
بنفسه في قتله وعنه لا يستحق إلا من شرط له
فإن قطع أربعته وقتله آخر فسلبه للقاطع.
ـــــــ
قتله. وفي "الترغيب" و"البلغة": إلا متحرفا
لقتال أو متحيزا إلى فئة.
قال أحمد: إنما سمعنا له سلبه في المبارزة
وإذا التقى الزحفان.
وظاهره: لو كان المقتول صبيا أو امرأة وقطع به
في "المغني" و"الشرح" لجواز قتلهم إذا وفي
الآخر لا يستحق سلبه سدا للذريعة وأطلقها في
"المحرر".
أما إذا لم يكن من المقاتلة كالشيخ الفاني
والصبي ونحوه ممن نهي عن قتله لم يستحق قاتله
سلبه بغير خلاف.
"غير مثخن" أي لا بد أن يكون المقتول فيه منعة
فلو كان مثخنا بالجراح وقتله آخر فلا يستحق
سلبه لما تقدم من حديث ابن مسعود ولعدم
التغرير.
"وغرر بنفسه في قتله" أي بان يقتله حال
المبارزة والحرب قائمة فلو رماه بسهم من جانب
أو أغرى به كلبا عقورا فقتل فلا سلب ويكون
غنيمة وظاهره أن كل واحد منهما شرط وقوى
الزركشي أن كلها ترجع إلى التغرير وأن القاتل
يستحق السلب قال ذلك الإمام أو لم يقله وصرح
به الخرقي وهو قول أكثر العلماء ونص عليه
لعموم الأدلة.
"وعنه: لا يستحقه إلا من شرط له" اختارها أبو
بكر في "الانتصار" و"الطريق الأقرب"، وأخذها
القاضي من قول أحمد ليس له ذلك إلا أن يناله
بإذن الإمام وفيه نظر فإن عوفا قال لخالد أما
تعلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قضى بالسلب
للقاتل قال بلى رواه مسلم فدل على أن هذا من
قضايا النبي صلى الله عليه وسلم العامة
المشهورة وأنه حكم مستمر لكل قاتل.
"فإن قطع أربعته وقتله آخر فسلبه للقاطع"
وحده، لأن النبي صلى الله عليه وسلم أعطى معاذ
بن عمرو بن الجموح سلب أبي جهل ولم يعطه ابن
مسعود مع أنه تمم قتله لأن القاطع هو الذي كفي
المسلمين شره.
(3/260)
وإن قتله اثنان
فسلبه غنيمة وقال القاضي هو لهما وإن أسره
فقتله الإمام فسلبه غنيمة وقال القاضي هو لمن
أسره وإن قطع يده ورجله وقتله آخر فسلبه غنيمة
وقيل هو للقاتل
ـــــــ
"وإن قتله اثنان فسلبه غنيمة" في ظاهر كلامه
لأنه صلى الله عليه وسلم لم يشرك بين اثنين في
سلب ولأنه إنما يستحق بالتغرير في قتله ولا
يحصل بالاشتراك فوجب كونه غنيمة كما لو قتله
جماعة.
"وقال القاضي" والآجري: "هو لهما" أي: يشتركان
في سلبه لعموم من قتل قتيلا فله سلبه ولأنهما
اشتركا في السبب فيشتركان في السلب فلو اشتركا
في ضربه وكان أحدهما أبلغ في قتله من الآخر
فله سلبه.
"وإن أسره فقتله الإمام" أو غيره "فسلبه
غنيمة"، لأن الذي أسره لم يقتله والغير لم
يغرر بنفسه في قتله وكذا لو استحياه الإمام
فرقيته إن رق وفداؤه إن فدي غنيمة لأنه قد أسر
المسلمون يوم بدر أسرى فقتل النبي صلى الله
عليه وسلم منهم واستبقى ولم ينقل أنه أعطى
أحدا ممن أسرهم سلبا ولا فداء.
"وقال القاضي: هو لمن أسره"، لأن الأسر أصعب
من القتل فإذا استحق السلب به كان تنبيها على
استحقاقه بالأسر.
"وإن قطع يده ورجله وقتله آخر فسلبه غنيمة"
على المذهب لأنه لم ينفرد أحدهما بقتله ولم
يستحقه القاتل لأنه مثخن بالجراح. "وقيل: هو
للقاتل"، لعموم الخبر وقيل هو للقاطع لأنه
عطله كقتله فلو قطع يديه أو رجليه فالحكم على
ما سبق ذكره في "الشرح" وغيره.
فرع: إذا قطع منه يدا أو رجلا ثم قتله آخر
فسلبه للقاتل كما لو عانقه فقتله أو كان
الكافر مقبلا على مسلم فقتله آخر من ورائه
وقيل غنيمة لعدم الانفراد بقتله.
تنبيه: لا تقبل دعوى القتل إلا ببينة وقال
الأوزاعي يعطى السلب لمن قال أنا
(3/261)
والسلب: ما كان
عليه من ثياب وحلي وسلاح والدابة بآلتها وعنه
أن الدابة ليست من السلب ونفقته وخيمته ورحله
غنيمة.
ـــــــ
قتلته بغير بينة لأنه عليه السلام قبل قول أبي
قتادة وجوابه الخبر الآخر وبأن خصمه أقر له،
فاكتفى بقوله.
وقال جماعة من أهل الحديث: يقبل شاهد ويمين
كغيره من الأموال وحكى في "الشرح" احتمالا:
يقبل فيه شاهد بغير يمين لأنه عليه السلام قبل
قول الذي شهد لأبي قتادة من غير يمين وجوابه
أن الشارع اعتبر البينة وإطلاقها ينصرف إلى
شاهدين وكقتل العمد.
"والسلب: ما كان عليه من ثياب" وعمامة وقلنسوة
ودرع "وحلي" كسوار ومنطقة ذهب وران وتاج
"وسلاح" كسيف ورمح وقوس ولت ونحوها لأنه
يستعين بها في حربه فهو أولى بالأخذ من
الثياب.
وعنه في السيف: لا أدري.
"والدابة بآلتها" أي: من السلب لحديث عوف بن
مالك رواه الأثرم ولأن الدابة يستعان بها في
الحرب كالسلاح وآلتها كلجام وسرج ولو كثرت
قيمته لأنه تابع لها وظاهره أن ما كان محمولا
عليها من دراهم ونحوه، لا يدخل.
"وعنه: أن الدابة ليست من السلب" اختارها أبو
بكر لأن السلب ما كان على بدنه وهي ليست كذلك
وذكر أحمد خبر عمرو بن معدي كرب فأخذ سواريه
ومنطقته ولم يذكر الدابة فعلى هذا هي وما
عليها غنيمة وعلى المذهب شرطه أن يكون قاتل
عليها راكبا فلو صد عنها ثم قتله بعد نزوله
عنها فهي من السلب فإن كانت في منزله أو مع
غيره فلا كسلاحه الذي ليس معه وإن كان ممسكا
بعنانها فالخلاف.
"ونفقته" على الأصح، "وخيمته ورحله" وجنيبه
الذي في يده "غنيمة"، لأن ذلك ليس من الملبوس
ولا مما يستعان به في الحرب أشبه بقية أموال
الكفار.
(3/262)
فصل:
ولا يجوز الغزو إلا بإذن الأمير إلا أن يفجأهم
عدو يخافون كلبه فإن دخل قوم لا منعة لهم دار
الحرب بغير إذنه فغنموا فغنيمتهم فيء وعنه هي
لهم بعد الخمس.
ـــــــ
لكن يشكل عليه الجنيب وجوابه أنه لا يمكنه
ركوبهما معا ألحق في التبصرة حلية الدابة بذلك
وفيه شيء.
فصل:
يجوز سلب القتلى وتركهم عراة وكرهه الثوري
وغيره لما فيه من كشف عوراتهم ويكره نقل
رؤوسهم من بلد إلى آخر والمثلة بقتلاهم ويكره
رميها بمنجنيق نص عليه و أول من حملت إليه
الرؤوس عبد الله بن الزبير قال أحمد ولا ينبغي
أن يعذبوه وعنه إن مثلوا مثل بهم ذكره أبو بكر
قال الشيخ تقي الدين المثلة حق لهم فلهم فعلها
للاستيفاء وأخذ الثأر ولهم تركها والصبر أفضل.
"ولا يجوز الغزو إلا بإذن الأمير"، لأنه أعرف
بالحرب وأمره موكول إليه ولأنه إذا لم تجز
المبارزة إلا بإذنه فالغزو أولى. "إلا أن
يفجأهم" أي يطلع عليهم بغتة "عدو يخافون كلبه"
بفتح الكاف واللام أي شره وأذاه لأن الحاجة
تدعو إليه لما في التأخير من الضرر وحينئذ لا
يجوز التخلف إلا من يحتاج إلى تخلفه لحفظ
المكان والأهل والمال ومن لا قوة له على
الخروج ومن يمنعه الإمام.
"فإن دخل قوم لا منعة لهم" هو بفتح الأحرف
الثلاثة وقد تسكن النون والمراد بها القوة
والدفع "دار الحرب بغير إذنه" أي إذن المعتبر
إذنه وهو إمام المتغلب "فغنموا فغنيمتهم فيء"
على المذهب لأنهم عصاة بفعلهم وافتئاتهم على
الإمام لطلب الغنيمة فناسب حرمانهم كقتل
المورث.
"وعنه: هي لهم بعد الخمس" وهي قول أكثر
العلماء واختارها القاضي
(3/263)
وعنه: هي لهم
لا خمس فيها ومن أخذ من دار الحرب طعاما أو
علفا فله أكله وعلف دابته بغير إذن.
ـــــــ
وأصحابه. وفي "المغني" و"الشرح": هي الأولى،
لعموم قوله تعالى: {كَمْ مِنْ فِئَةٍ
قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً}
[البقرة: 249]. "وعنه: هي لهم لا خمس فيها"،
لأنه اكتساب مباح من غير جهاد أشبه الاحتطاب
أو يقال أخذوه لا بقوة أشبه ما لو سرقوه.
فرع: حكم الواحد ولو عبدا إذا دخل الحرب وغنم
الخلاف وكذا ما سرق منها أو اختلس ذكره في
"البلغة"، ومعناه في "الروضة".
"ومن أخذ من دار الحرب طعاما أو علفا" لا
غيرها من ثياب وحنوط، "فله أكله وعلف دابته"
أو دوابه "بغير إذن" في قول جماعة العلماء لما
روى ابن عمر قال كنا نصيب في مغازينا العسل
والعنب فنأكله ولا نرفعه رواه البخاري وعنه أن
جيشا غنموا في زمان رسول الله صلى الله عليه
وسلم طعاما وعسلا فلم يؤخذ منهم الخمس رواه
أبو داود ولأن الحاجة تدعو إليه إذ الحمل فيه
مشقة فأبيح توسعة على الناس.
وله إطعام سبي اشتراه بخلاف فهد وكلب صيد لأن
هذا يراد للتفرج ولا حاجة إليه في الغزو.
ومحل ذلك كما ذكره الشيخان ما لم يحزه الأمام
ويوكل به من يحفظه فلا يجوز إلا لضرورة نص
عليه لأنها صارت غنيمة للمسلمين وتم ملكهم
عليها واختاره القاضي في "المجرد" ما داموا في
أرض الحرب لأن الغنيمة لا يتم الملك عليها إلا
بإحرازها في دار الإسلام.
تنبيهات:
الأول: حكم السكر والمعاجين ونحوها كالطعام
وفي العقاقير وجهان.
الثاني: يدخل في كلامه الدهن لأنه طعام كالبر
وله لحاجة دهن بدنه ودابته وشرب شراب ونقل أبو
داود دهنه بزيت للتزين لا يعجبني.
(3/264)
وليس له بيعه
فإن باعه رد ثمنه في المغنم وإن فضل معه منه
شيء فأدخله البلد رده في الغنيمة إلا أن يكون
يسيرا فله أكله في إحدى الروايتين.
ـــــــ
الثالث: ليس له غسل ثوبه بالصابون لأنه ليس
بطعام فإن فعل رد قيمته في المغنم.
"وليس له بيعه"، لأنه لم ينقل لعدم الحاجة
إليه بخلاف المأكل. "فإن باعه رد ثمنه في
المغنم" قاله أكثر الأصحاب لما روى سعيد أن
صاحب جيش الشام كتب إليه عمر من باع منهم شيئا
بذهب أو فضة ففيه خمس الله وسهام المسلمين
وظاهره أن البيع صحيح لأن المنع منه إنما كان
لأجل حق الغانمين وفي رد الثمن تحصيل لذلك
ولأن له فيه حقا فصح بيعه كما لو تحجر مواتا
وفرق القاضي والمؤلف في "الكافي": إن باعه
لغير غاز فهو باطل كبيعه الغنيمة بغير إذن
فيرد المبيع إن كان باقيا أو قيمته أو ثمنه إن
كان تالفا وإن باعه لغاز فلا يخلو إما أن
يبيعه بما يباح له الانتفاع به أو بغيره فإن
كان الأول فليس بيعا في الحقيقة إنما دفع إليه
مباحا وأخذ بمثله ويبقى أحق به لثبوت يده عليه
ولا يمن عليه ويتعين رده إليه وظاهر المتن أنه
لا يلزمه سوى رد الثمن فقط وعنه يلزمه أيضا
قيمة أكله.
"وإن فضل معه منه شيء فأدخله البلد" ولم يقيده
به الأكثر "رده في الغنيمة" أي: إذا كان كثيرا
لأنه إنما أبيح له ما يحتاج إليه فما بقي
تبينا أنه أخذ أكثر مما يحتاجه فيبقى على أصل
التحريم "إلا أن يكون يسيرا فله أكله في إحدى
الروايتين" نص عليه في رواية أبي طالب في
الطبخة والطبختين من اللحم والعليفة
والعليفتين من الشعير لا بأس به لأن اليسير
مما تجري فيه المسامحة قال الأوزاعي أدركت
الناس يقدمون بالقديد فيهديه بعضهم لبعض ولا
ينكره أحد.
والثانية: يجب رده نص عليه في رواية ابن
إبراهيم واختارها الخلال وصاحبه،
(3/265)
ومن أخذ سلاحا
فله أن يقاتل به حتى تنقضي الحرب ثم يرده وليس
له ركوب الفرس في إحدى الروايتين.
ـــــــ
والقاضي و أبو الخطاب في "خلافهما"، وقدمها في
"المحرر" و"الفروع"، لقوله عليه السلام: "أدوا
الخيط والمخيط" ، ولأنه من الغنيمة ولم يقسم
فلم يبح في دار الإسلام كالكبير.
"ومن أخذ سلاحا لهم فله أن يقاتل به حتى تنقضي
الحرب"، لقول ابن مسعود انتهيت إلى أبي جهل
فوقع سيفه من يده فأخذته فضربته به حتى برد
رواه الأثرم ولأن الحاجة إليه أعظم من الطعام
وضرر استعماله أقل من ضرر أكل الطعام لعدم
زوال عينه بالاستعمال "ثم يرده بعد الحرب"
لزوال الحاجة.
"وليس له ركوب الفرس" في الجهاد "في إحدى
الروايتين" جزم بها في "الوجيز"، ورجحها ابن
المنجا لما روى رويفع بن ثابت الأنصاري مرفوعا
قال "من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يركب
دابة من فيء المسلمين حتى إذا أعجفها ردها ومن
كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يلبس ثوبا من
فيء المسلمين حتى إذا أخلقه رده" رواه سعيد.
ولأنها تتعرض للعطب غالبا وقيمته كبيرة بخلاف
السلاح والثانية يجوز قدمها في "المحرر"،
كالسلاح ونقل المروذي لا بأس أن يركب الدابة
من الفيء ولا يعجفها وفي "الفروع": وفي قتاله
بفرس وثوب روايتان ونقل إبراهيم بن الحارث لا
يركبه إلا لضرورة أو خوف على نفسه.
(3/266)
باب قسمة
الغنائم
ـــــــ
باب قسمة الغنائم
الغنائم: جمع غنيمة ويرادفها المغنم يقال غنم
فلان الغنيمة يغنمها واشتقاقها من الغنم
وأصلها الربح والفضل.
والأصل فيها: قوله تعالى: {وَاعْلَمُوا
أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ
لِلَّهِ خُمُسَهُ}
(3/266)
الغنيمة: كل
مال أخذ من المشركين قهرا بالقتال وإن أخذ
منهم مال مسلم فأدركه صاحبه قبل قسمه فهو أحق
به وإن أدركه مقسوما فهو أحق به بثمنه.
ـــــــ
[الأنفال: 41] وقوله: {فَكُلُوا مِمَّا
غَنِمْتُمْ حَلالاً طَيِّباً} [الأنفال: 69]
وقد اشتهر وصح أنه عليه السلام قسم الغنائم
ولم تكن تحل لمن مضى وكانت في أول الإسلام
خاصة لرسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله:
{يَسْأَلونَكَ عَنِ الْأَنْفَالِ} الآية
[الأنفال: 1] ثم صارت أربعة أخماسها للغانمين،
وخمسها لغيرهم.
"الغنيمة: كل مال أخذ من المشركين قهرا
بالقتال" قوله: "كل مال" يدخل فيه ما يتمول
كالصليب ويكسر ويقتل الخنزير قاله أحمد ونقل
أبو داود يصب الخمر ولا يكسر الإناء وأما
الكلب فلا يدخل في الغنيمة ويخص الإمام به من
شاء قوله: "من المشركين" أي: المحاربين وقوله:
"قهرا بالقتال" هذا فصل يخرج به الفيء.
"وإن أخذ منهم مال مسلم" بأن أخذ الكفار مال
مسلم ثم أخذ المسلمون ذلك منهم قهرا "فأدركه
صاحبه" وهو المسلم "قبل قسمه، فهو أحق به"
بغير شيء في قول عامة العلماء لما روى ابن عمر
أن غلاما له أبق إلى العدو فظهر عليه المسلمون
فرده النبي صلى الله عليه وسلم إليه وذهب فرس
له فأخذه المسلمون فرده عليه خالد بن الوليد
بعد النبي صلى الله عليه وسلم رواه البخاري
وقال الزهري وعمرو بن دينار لا يرد إليه وهو
للجيش لأن الكفار ملكوه باستيلائهم فصار غنيمة
كسائر أموالهم وجوابه ما تقدم وكذا حكم ما إذا
أخذ مال معاهد وقلنا يملكون أموالنا فإن كان
أم ولد لزم السيد أخذها لكن بعد القسمة بالثمن
ويخير في الباقي.
"وإن أدركه" صاحبه "مقسوما، فهو أحق به بثمنه"
جزم به في "الوجيز" وغيره لما روى ابن عباس أن
رجلا وجد بعيرا له وكان المشركون أصابوه فقال
له النبي صلى الله عليه وسلم: "إن أصبته قبل
القسمة فهو لك. وإن أصبته بعد ما قسم أخذته
بالقيمة" . وإنما امتنع أخذه له بغير شيء لئلا
يفضي إلى حرمان أخذه من الغنيمة ولو لم يأخذه
لأدى إلى ضياع حقه فالرجوع في عين ماله بثمنه
جمع بين الحقين.
(3/267)
وعنه لا حق له
فيه وإن أخذه منهم بعض الرعية بثمن فصاحبه أحق
به بثمنه وإن أخذ بغير عوض فهو أحق به بغير
شيء.
ـــــــ
"وعنه: لا حق له فيه" نص عليه في رواية أبي
داود وضعف الأول وقال هو عن مجاهد لما روى ابن
عمر مرفوعا: "إن أدركه بعد ما قسم فليس له فيه
شيء" وكتب عمر إلى السائب: "أيما رجل أصاب
رقيقه أو متاعه بعينه فهو أحق به وإن أصابه في
أيدي التجار أي بعدما قسم فلا سبيل إليه"، وعن
سلمان بن ربيعة نحوه رواهما سعيد.
وكما لو وجده في أيدي المستولي عليه وقد جاءنا
بأمان أو أسلم.
ولم يقل أحد: إنه لصاحبه بعد القسمة بغير شيء
لمخالفة الإجماع فإن أهل العصر إذا أجمعوا على
قولين في حكم لم يجز إحداث ثالث قاله في
"الشرح". وفيه شيء فإنهم صرحوا بأن صاحبه إذا
وجد فهو أحق به ولو بعد القسمة إذا قلنا إنهم
لا يملكونها.
"وإن أخذه منهم بعض الرعية بثمن فصاحبه أحق به
بثمنه" كما لو أخذه واحد من المغنم بحقه
والثمن ها هنا كالقيمة هناك.
"وإن أخذ بغير عوض" كهبة أو سرقة ونحوها، "فهو
أحق به بغير شيء"، لما روى عمران بن حصين أن
قوما أغاروا على سرح النبي صلى الله عليه وسلم
فأخذوا ناقته وجارية من الأنصار فأقامت عندهم
أياما ثم خرجت فركبت الناقة ونذرت إن نجاها
الله عليها لتنحرنها فلما قدمت المدينة أخذ
النبي صلى الله عليه وسلم ناقته فأخبرت النبي
صلى الله عليه وسلم بنذرها فقال: "سبحان الله
بئسما جزيتها لا وفاء لنذر في معصية الله
تعالى ولا فيما لا يملك العبد" رواه مسلم.
ولأنه لم يحصل في يده بعوض أشبه ما لو أدركه
من الغنيمة قبل القسمة.
وقال القاضي: ما حصل في يده بهبة أو شراء فهو
كما لو وجده صاحبه بعد القسمة على الخلاف وجزم
به في الكافي فلو تصرف فيه أحد منهم صح تصرفه.
(3/268)
ويملك الكفار
أموال المسلمين بالقهر ذكره القاضي وقال أبو
الخطاب ظاهر كلام أحمد أنهم لا يملكونها.
ـــــــ
"ويملك الكفار أموال المسلمين بالقهر ذكره
القاضي" جزم به في "الوجيز"، وقدمه في
"الفروع"، لأن الاستيلاء سبب يملك به المسلم
مال الكافر فكذا عكسه كالبيع ولا يملكه بعضهم
من بعض وسواء اعتقدوا تحريمه أولا ذكره في
"الانتصار". ومحله في غير حبس ووقف قاله في
"المحرر" و"الفروع"، لعدم تصور الملك فيهما
فلم يملكا بالاستيلاء كالحر وفي أم الولد
روايتان الأصح ثم ابن عقيل أنها كوقف.
وعنه: يملكونه إن حازوه بدارهم نص عليه فيما
بلغ به قبرس رد إلى أصحابه ليس غنيمة ولا يؤكل
منه لأنهم لم يحوزوه إلى بلادهم ولا إلى أرض
هم أغلب عليها والأول أولى لأن ما كان سببا
للملك أثبته حيث وجده كالبيع ونحوه.
"وقال أبو الخطاب ظاهر كلام أحمد أنهم لا
يملكونها" حيث قال إذا أدركه صاحبه قبل القسمة
فهو أحق به واختاره الآجري و أبو محمد الجوزي
ونصره ابن شهاب وغيره، لقوله تعالى: {وَلَنْ
يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى
الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً} [النساء: 141]
ولأنهم لا يملكون رقيقا برضانا بالبيع فهذا
أولى وكأخذ مستأمن له بدارنا بعقد فاسد أو
غصب.
واستدل له بحديث القصواء قال ابن المنجا: ولا
دلالة فيه لأن غايته أنه عليه السلام أخذ
ناقته والمسلم له أخذ ذلك سواء قبل تملك
الكفار أموال المسلمين أو لا ولأنه مقسومة ولا
مشتراة.
فعلى هذا: لصاحبه أخذه بغير شيء وإن كان
مقسوما وفي العدو إذا أسلم ولو أحرزه بدارهم
وإن جهل ربه وقف كاللقطة.
وفي "التبصرة": أنه أحق بما لم يملكوه بعد
القسمة بثمنه لئلا ينتقض حكم القاسم.
تذنيب: لا يملك الكفار ذميا كالحر المسلم
ويلزم فداؤه ويرجع المشتري في
(3/269)
وما أخذ من دار
الحرب من ركاز أو مباح له قيمة فهو غنيمة.
ـــــــ
المنصوص بثمنه بنية الرجوع.
وفي "المحرر": ما لم ينو التبرع. فإن اختلفا
في قدر ثمنه فوجهان واختار الآجري لا يرجع إلا
أن يكون عادة الأسرى وأهل الثغر ذلك فيشتريهم
ليخلصهم ويأخذ ما وزن لا زيادة فإنه يرجع.
فوائد: منها: إذا استولوا على مال مسلم ثم عاد
بعد حول أو أحوال فعلى الأول لا زكاة لما مضى
قولا واحدا وعلى الثاني فيه روايتان بناء على
المال المغصوب ونحوه.
ومنها: إذا كان لمسلم أختان أمتان وأبقت
إحداها إلى دار الحرب واستولوا عليها فله وطء
الثانية على الأول لأن ملكه قد زال عن أختها
وقياس قول أبي الخطاب لا يجوز حتى تحرم الآبقة
بعتق أو نحوه.
ومنها: إذا أعتق المسلم عبده الذي استولى عليه
الكفار لم يصح على الأولى بخلاف الثانية.
ومنها: إذا سبى الكفار أمة مزوجة لمسلم فإن
قلنا يملكونها فالقياس أنه ينفسخ النكاح لأنهم
يملكون رقبتها ومنافعها فيدخل فيه منفعه بضعها
فينفسخ نكاح الكافرة المسبية ومنع أبو الخطاب
من انفساخ النكاح بالسبي مطلقا فأما الحرة فلا
ينفسخ نكاحها بالسبي لعدم ملكهم لها به فلا
يملكون بضعها.
ومنها: أنهم يملكون ما أبق أو شرد إليهم وعلى
الثاني لصاحبه أخذه مجانا.
"وما أخذ من دار الحرب من ركاز أو مباح له
قيمة فهو غنيمة"، لأنه مال حصل الاستيلاء عليه
قهرا فكان غنيمة كسائر أموالهم.
ومحله: ما إذا قدر على الركاز بجماعة المسلمين
لأنه حصل بقوتهم بخلاف ما إذا قدر عليه بنفسه
فهو له بعد الخمس صرح به في "المغني"
و"الشرح". وقوله: مباح له قيمة في أرض الحرب
كالصيود والخشب فإن احتاج إلى أكله والانتفاع
به،
(3/270)
ويملك الغنيمة
بالاستيلاء عليها في دارالحرب
ـــــــ
فله ذلك كطعامهم ولا يرده فإن كان المباح لا
قيمة له في أرضهم كالمسن والأقلام فله أخذه
وهو أحق به وإن صار له قيمة بعد ذلك.
فرع: إذا وجد لقطة في دارهم فإن كانت للمسلمين
فهو كما لو وجدها في دار الإسلام وإن كانت
للمشركين فهي غنيمة وإن احتمل الأمربن عرفها
حولا في بلد المسلمين ثم جعلها في الغنيمة نص
عليه.
"ويملك الغنيمة بالاستيلاء عليها في دار
الحرب"، لأنها مال مباح فملكت بالاستيلاء
عليها كسائر المباحات يؤيده أنه لا ينفذ عتقهم
في رقيقهم الذي حصلوا في الغنيمة ولا يصح
تصرفهم فيه ولأنه لو أسلم عبد الحربي ولحق
بجيش المسلمين صار حرا.
وفي "الانتصار" و"عيون المسائل": باستيلاء تام
لا في فور الهزيمة للبس الأمر هل هو حيلة أو
ضعف وفي "البلغة" كذلك وأنه ظاهر كلامه.
والمنصوص عن أحمد وعليه أكثر الأصحاب أن مجرد
الاستيلاء وإزالة أيدي الكفار عنها كاف وقال
القاضي في "خلافه": لا يملك بدون اختيار
التمليك وتردد في الملك قبل القسمة هل هو باق
للكفار أو أنه انقطع؟ وله فوائد:
منها: جريانه في حول الزكاة فإن كانت الغنيمة
أجناسا لم ينعقد عليها حول بدون الغنيمة وإن
كانت جنسا واحدا فوجهان.
ومنها: لو اعتق أحد الغانمين رقيقا من المغنم
بعد ثبوت رقه أو كان فيهم من يعتق عليه بالملك
عتق إن كان بقدر حقه وإن كان دونه فكمن أعتق
شقصا في عبد.
ومنها: لو أسقط الغانم حقه منها قبل القسمة
فبعضهم بناه على الخلاف فإن قلنا تملكوها لم
يسقط وإلا سقط.
وجزم جماعة منهم صاحب "الترغيب" و"المحرر":
أنه يسقط مطلقا لضعف
(3/271)
ويجوز قسمها
فيها وهي لمن شهد الوقعة من أهل القتال قاتل
أو لم يقاتل من تجار العسكر وأجرائهم الذين
يستعدون للقتال.
ـــــــ
الملك. زاد في "الفروع": ولو مفلسا وفي سفيه
وجهان ويرد على من بقي وإن أسقط الكل حقهم
صارت فيئا.
ومنها: لو شهد أحد الغانمين بشيء من المغنم
قبل القسمة فإن قلنا ملكوه لم تقبل وإلا قبلت
ذكره القاضي وقال الشيخ تقي الدين في قبولها
نظر وإن قلنا لم يملكوا لأنها شهادة تجر نفعا.
"ويجوز قسمها فيها" في المنصوص وهو قول أكثر
العلماء لما روى أبو إسحاق قال قلت للأوزاعي
هل قسم رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئا من
الغنائم في المدينة قال لا أعلمه وقسم عليه
السلام غنائم بني المصطلق على مياههم وغنائم
حنين بأوطاس ولأنهم تملكوها بالاستيلاء فجاز
قسمها فيها لأن الاستيلاء التام هو إحرازها
بدار الإسلام.
فرع: إذا وكل الأمير في شراء شيء منها لنفسه
فإن جهل وكيله صح وإلا حرم نص عليه واحتج أن
عمر رد ما اشتراه ابن عمر في قصة جلولاء
للمحاباة.
"وهي لمن شهد لوقعة"، لما روى الشافعي: ثنا
الثقة عن يحيي بن سعيد القطان عن شعبة عن قيس
بن مسلم عن طارق بن شهاب أن عمر قال الغنيمة
لمن شهد الوقعة قال الخطيب قال علي بن الحسين
العكلي الرجل الذي لم يسمه الشافعي أحمد بن
حنبل ورواه سعيد بن منصور أيضا.
"من أهل القتال" حتى من منع منه لريبة أو منعه
الأب ومن بعثه الأمير لمصلحة كرسول وجاسوس ومن
خلفه الأمير في بلاد العدو ولو لمرض وغزا ولم
يمر بهم فرجعوا نص عليه.
"قاتل أو لم يقاتل من تجار العسكر" ويدخل فيه
الخياط والخباز والبيطار ونحوهم "وأجرائهم
الذين يستعدون للقتال" ومعهم السلاح ولأنه ردء
للمقاتل باستعداده أشبه المقاتل وظاهره أنهم
إذا لم يكونوا مستعدين للقتال أنه لا يسهم
(3/272)
فأما المريض
العاجز عن القتال والمخذل والمرجف والفرس
الضعيف العجيف فلا حق له وإذا لحق مدد أو هرب
أسير فأدركوا الحرب قبل تقضيها أسهم لهم وإن
جاؤوا بعد إحراز الغنيمة فلا شيء لهم.
ـــــــ
لهم إذ لا نفع في حضورهم كالمخذل.
وعلم منه أنه يسهم لأمير الخدمة على الأصح
وقيده القاضي وغيره إذا قصد الجهاد وحمل المجد
إسهام النبي صلى الله عليه وسلم لسلمة وكان
أجيرا لطلحة رواه مسلم على أجير قصد مع الخدمة
الجهاد.
وفي "الموجز": هل يسهم لتجار عسكر وأهل سوقه
ومستأجر مع جندي كركابي وسائس أم يرضخ فيه
روايتان.
"فأما المريض العاجز عن القتال" أي: لا حق له
فيها لأنه ليس من أهل الجهاد كالعبد وظاهره أن
المرض إذا لم يمنع من القتال كالحمى والصداع
أنه لا يسقط سهمه لأنه من أهل الجهاد ويعين
برأيه وتكثيره ودعائه.
"والمخذل والمرجف" ولو قاتلا لأن ضررهما أكثر
من نفعهما "والفرس الضعيف العجيف فلا حق له"،
لأنه لا نفع فيه وظاهره ولو شهد عليه الوقعة
ولأن الإمام يملك منعه فلم يسهم له كالمخذل
وفيه وجه يسهم له كالمريض والفرق واضح وحكم
الكافر والعبد إذا لم يؤذن لهما ومنهي عن
حضوره كذلك والأصح أو بلا إذنه ولا يرضخ لهم
لأنهم عصاة وكذا من هرب من اثنين ذكره في
"الروضة" بخلاف غريم.
"وإذا لحق مدد" هو ما أمددت به قوما في الحرب
"أو هرب أسير" أو أسلم كافر أو بلغ صبي أو عتق
عبد "فأدركوا الحرب قبل تقضيها أسهم لهم"،
لقول عمر ولأنهم شاركوا الغانمين في السبب
فشاركوهم في الاستحقاق كما لو كان ذلك قبل
الحرب وكذا إذا صار رجل فارسا وعكسه وظاهره
أنه يسهم لهم وإن لم يقاتلوا.
"وإن جاؤوا بعد إحراز الغنيمة فلا شيء لهم"
قال الخرقي: لأن به يحصل تمام
(3/273)
وإذا أراد
القسمة بدأ بالأسلاب فدفعها إلى أهلها ثم اخرج
أجرة الذين جمعوا الغنيمة وحملوها وحفظوها ثم
يخمس الباقي فيقسم خمسه على خمسة أسهم:
ـــــــ
الاستيلاء وقال القاضي يملك الغنيمة بانقضاء
الحرب وإن لم يحرز وجزم به في "المحرر"، وقدمه
في "الفروع"، لما روى أبو هريرة أن أبان بن
سعيد بن العاص وأصحابه قدموا على النبي صلى
الله عليه وسلم بخيبر بعد أن فتحها فقال أبان
اقسم لنا يا رسول الله فقال: "اجلس يا أبان"
ولم يقسم له رسول الله صلى الله عليه وسلم
رواه أبو داود ولأنهم لم يشهدوا الوقعة كما لو
أدركوا قبل القسمة فلو لحقهم عدو وقاتل المدد
معهم حتى سلموا الغنيمة فلا شيء لهم لأنهم
إنما قاتلوا عن أصحابها لأن الغنيمة في أيديهم
وحازوها نقله الميموني.
"وإذا أراد القسمة بدأ بالأسلاب فدفعها إلى
أهلها"، لأن القاتل يستحقها غير مخموسة فإن
كان فيها مال لمسلم أو ذمي دفع إليه لأن صاحبه
متعين "ثم أخرج" من الباقي "أجرة الذين جمعوا
الغنيمة وحملوها وحفظوها" قاله جماعة لأنه من
مصلحة الغنيمة وإعطاء جعل من دله على مصلحة
كطريق ونحوه.
"ثم يخمس الباقي" هذه طريقة الأكثر لأنه استحق
بحضور الوقعة أشبه سهام الغانمين وقيل يقدم
الرضخ عليه. "فيقسم خمسه على خمسة أسهم" نص
عليه لقوله تعالى: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا
غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ
خُمُسَهُ} الآية [الأنفال: 41] ومقتضاها: أن
يقسم على ستة أسهم.
وجوابه: أن سهم الله تعالى ورسوله كالشيء
الواحد لقوله تعالى: {وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ
أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ} [التوبة: 62] وأن
الجهة جهة مصلحة "سهم لله تعالى" وذكر اسمه
للتبرك لأن الدنيا والآخرة له "ولرسوله صلى
الله عليه وسلم يصرف مصرف الفيء"، لقوله عليه
السلام: "ليس لي من الفيء إلا الخمس وهو مردود
عليكم" رواه سعيد ولا يكون مردودا علينا إلا
إذا صرف في مصالحنا.
وفي "الانتصار": هو لمن يلي الخلافة بعده
وقاله طائفة من العلماء لما روى أبو
(3/274)
سهم لله تعالى
ولرسوله صلى الله عليه وسلم يصرف مصرف الفيء
وسهم لذوي القربى وهم بنو هاشم وبنو المطلب
ـــــــ
الطفيل قال: جاءت فاطمة إلى أبي بكر تطلب
ميراثها من النبي صلى الله عليه وسلم قال فقال
أبو بكر سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول:
"إن الله إذا أطعم نبيا طعمة فهي للذي يقوم من
بعده" وإني رأيت أن أرده على المسلمين رواه
أبو داود.
وعنه: يصرف في أهل الديوان لأنه عليه السلام
استحقه لحصول النصرة فيكون لمن يقوم مقامه
فيها وعنه يصرف في الخيل والسلاح روي عن أبي
بكر وعمر.
وعنه: سقط بموته عليه السلام ويرد على
الأنصباء الباقية من الخمس لأنهم شركاؤه وقيل
يرد على الغانمين كالتركة إذا أخرج منها وصية
ثم بطلت فإنها ترد إلى التركة.
والصحيح أنه باق يصرف في مصالح المسلمين وكان
عليه السلام يصنع بهذا السهم ما شاء ذكره في
"المغني".
فائدة: كان له عليه السلام من المغنم الصفي
وهو شيء يختاره منها قبل القسمة كجارية وعبد
وثوب وسيف ونحوه وانقطع ذلك بموته بغير خلاف
نعلمه إلا أبا ثور فإنه زعم أنه باق للأئمة
بعده ويجعله مجعل سهمه عليه السلام.
"وسهم لذوي القربى"، للآية ولأنه عليه السلام
جعل سهمهم في بني هاشم وبني المطلب رواه أبو
داود بإسناد صحيح وهو ثابت بعد موته عليه
السلام لم ينقطع لأنه لم يأت ناسخ ولا مغير.
"وهم بنو هاشم وبنو المطلب" ابنا عبد مناف لما
روى جبير بن مطعم قال قسم النبي صلى الله عليه
وسلم سهم ذوي القربى بين بني هاشم وبني المطلب
وقال: "إنما بنو هاشم وبنو المطلب شيء واحد"
وفي رواية: "لم يفارقوا في جاهلية ولا إسلام"
رواه أحمد والبخاري بمعناه فرعى لهم نصرتهم
وموافقتهم لبني هاشم.
(3/275)
حيث كانوا
للذكر مثل حظ الأنثيين غنيهم وفقيرهم فيه سواء
وسهم لليتامى الفقراء وسهم للمساكين،
ـــــــ
ولا يستحق من كانت أمه منهم و أبوه من غيرهم
لأنه عليه السلام لم يدفع إلى أقارب أمه من
بني زهرة ولا إلى بني عماته كالزبير.
ويفرق عليهم "حيث كانوا"، لأنه مستحق بالقرابة
فوجب كونه لهم حيث كانوا حسب الإمكان كالتركة.
"للذكر مثل حظ الأنثيين" هذا رواية عن أحمد
وهي اختيار الخرقي وجزم بها في "الوجيز" لأنه
مال استحق بقرابة الأب ففضل فيه الذكر على
الأنثى كالميراث.
وعنه: يساوي بينهما قاله طائفة من العلماء
لأنهم أعطوا باسم القرابة فاستووا فيه كما لو
وقف على قرابة فلان وأطلق في "المحرر"
و"الفروع" الخلاف. ويسوي بين الصغير والكبير
بلا خلاف.
"غنيهم وفقيرهم فيه سواء"، لأنه عليه السلام
لم يخص فقراء قرابته بل أعطى الغني كالعباس
وغيره مع أن شرط الفقر ينافي ظاهر الآية ولأنه
يؤخذ بالقرابة فاستويا فيه كالميراث وقال أبو
إسحاق بن شاقلا يختص بفقرائهم كبقية السهام.
قال في "الشرح": ولعل النبي صلى الله عليه
وسلم منع عثمان وجبيرا لما سألاه سهمهما
بيسارهما وانتفاء فقرهما فإن لم يأخذوه صرف في
الكراع والسلاح لفعل أبي بكر وعمر وظاهره لا
شيء لمواليهم وصرح به في "المحرر" و"الفروع"،
لأنهم ليسوا منهم.
"وسهم لليتامى" وهم من لا أب له ولم يبلغ
الحلم لقوله: "لا يتم بعد احتلام" "الفقراء"
هذا هو الأشهر لأن اسم اليتم في العرف للرحمة
ومن أعطي لذلك اعتبرت فيه الحاجة بخلاف
القرابة مع أن المؤلف قال لا أعلم هذا نصا عن
أحمد وقيل والغني أيضا لعموم الآية.
"وسهم للمساكين" وهم أهل الحاجة ويدخل فيهم
الفقراء لأنهما صنف واحد في غير الزكاة.
(3/276)
وسهم لأبناء
السبيل من المسلمين ثم يعطي النفل بعد ذلك
ويرضخ لمن لا سهم له وهم العبيد والنساء
ـــــــ
"وسهم لأبناء السبيل من المسلمين" قيد في الكل
لأن الخمس عطية من الله فلم يكن لكافر فيها حق
كالزكاة ويعطى هؤلاء بما تقدم في الزكاة وفي
الواضح يعطى كل واحد خمسين درهما أو خمسة
دنانير.
وظاهره: أنه يعم بسهام من ذكر جميع البلاد
فيبعث الإمام عماله في الأقاليم وصحح في
"المغني" أنه لا يجب التعميم لأنه متعذر فعلى
هذا يفرقه كل سلطان فيما أمكن من بلاده وفي
"الانتصار": يكفي واحد من الأصناف الثلاثة
وذوي القربى إن لم يمكنه واختار الشيخ تقي
الدين إعطاء الإمام من شاء منهم للمصلحة كزكاة
وأن الخمس والفيء واحد يصرف في المصالح.
"ثم يعطي النفل" وهو الزيادة على السهم
للمصلحة لأنه حق ينفرد به بعض الغانمين فقدم
على القسمة كالأسلاب "بعد ذلك" أي: بعد الخمس
لما روى معن بن زائدة مرفوعا: "لا نفل إلا بعد
الخمس" رواه أبو داود. ولأنه مال استحق
بالتحريض على القتال فكان من أربعة أخماس
الغنيمة.
"ويرضخ لمن لا سهم له"، لأنه استحق بحضور
الوقعة فكان بعد الخمس كسهام الغانمين وفيه
وجه أنه من أصل الغنيمة لأنه استحق للمعاونة
في تحصيل الغنيمة أشبه أجرة الحمل وقيل من سهم
المصالح "وهم العبيد" لما روى عمير مولى آبي
اللحم قال شهدت خيبر مع سادتي فكلموا رسول
الله صلى الله عليه وسلم في فأخبر أني مملوك
فأمر لي بشيء من المتاع رواه أحمد واحتج به
ولأنهم ليسوا من أهل وجوب القتال كالصبي.
فرع: المدبر والمكاتب كالقن ومن بعضه حر
فبحسابه.
"والنساء"، لما روى ابن عباس قال كان النبي
صلى الله عليه وسلم يغزو بالنساء فيداوين
الجرحى ولم يضرب لهن بسهم رواه مسلم وما روي
أنه أسهم للمرأة فيحتمل أن الراوي سمى الرضخ
سهما ويحتمل أنه أسهم لها في شيء خاص
(3/277)
والصبيان وفي
الكافر روايتان إحداهما يرضخ له والأخرى يسهم
له ولا يبلغ بالرضخ للراجل سهم راجل ولا
للفارس سهم فارس فإن تغير حالهم قبل تقضى
الحرب أسهم لهم وإذا غزا العبد على فرس لسيده
قسم للفرس ورضخ للعبد
ـــــــ
لا مطلقا والخنثى كامرأة ويحتمل أن يقسم له
نصف سهم ونصف رضخ كالميراث قاله في "المغني"
و"الشرح".
"والصبيان" لما روى سعيد بن المسيب قال يحذون
من الغنيمة إذا حضروا الغزو والمراد إذا كان
مميزا جزم به في "المحرر"، وقدمه في "الفروع"،
ولأنه ليس من أهل القتال كالعبد وقيل مراهقا.
"وفي الكافر روايتان إحداهما يرضخ له"، قدمها
في "المحرر"، وجزم بها في "الوجيز"، لأنه ليس
من أهل الجهاد فرضخ له كالعبد. "والأخرى: يسهم
له" كمسلم اختارها الخلال والخرقي والقاضي
وقدمها في "الفروع"، ونصرها في "المغني"
و"الشرح".
"ولا يبلغ بالرضخ للراجل سهم راجل ولا للفارس
سهم فارس"، لأن السهم أكمل من الرضخ فلم يبلغ
به إليه كما لا يبلغ بالتعزير الحد ولا
بالحكومة دية العضو ويقسم الإمام الرضخ على ما
يراه من المصلحة من تفضيل وتسوية ولا تجب
التسوية فيه كأهل السهمان لأن السهم منصوص
موكول إلى الجهاد فلم يختلف كالحدود بخلاف
الرضخ.
"فإن تغير حالهم قبل تقضي الحرب" بأن بلغ
الصبي أو عتق العبد أو أسلم الكافر "أسهم
لهم"، لقول عمر، ولأنهم شهدوا الوقعة وهم من
أهل القتال فأسهم لهم كغيرهم.
"وإن غزا العبد على فرس لسيده قسم للفرس"
سهمان، كفرس الحر لأنه فرس حضر الوقعة وقوتل
عليه فأسهم له كما لو كان السيد راكبه وهذا إن
لم يكن مع سيده فرسان.
"ورضخ للعبد" نص عليه وهما لمالكهما ويعايا
بها فيقال: يستحق السهم
(3/278)
ثم يقسم باقي
الغنيمة للراجل سهم وللفارس ثلاثة أسهم سهم له
وسهمان لفرسه إلا أن يكون فرسه هجينا أو
برذونا فيكون له سهم.
ـــــــ
والرضخ وإن لم يحضر القتال فظاهره أن الصبي
إذا غزا على فرس أو المرأة أو الكافر وقلنا لا
سهم له لم يسهم للفرس بل يرضخ له ولفرسه ما لا
يبلغ سهم الفارس بخلاف المخذل والمرجف إذا غزا
على فرس فلا شيء له ولا لفرسه.
"ثم يقسم باقي الغنيمة"، لأنه يقال لما جعل
لنفسه الخمس فهم منه أن أربعة الأخماس
للغانمين لأنه أضافها إليهم كقوله تعالى:
{وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ}
[النساء: 11] فهم منه أن الباقي للأب.
وينبغي أن تقدم أربعة الأخماس على قسم الخمس
لأنهم حاضروه ولأن رجوع الغانمين إلى أوطانهم
يقف على الغنيمة وأهل الخمس في أوطانهم.
"للراجل سهم" بغير خلاف ولأنه لا يحتاج إلى ما
يحتاج إليه الفارس من الكلفة.
"وللفارس ثلاثة أسهم سهم له وسهمان لفرسه" في
قول جماعة من العلماء لما روى ابن عمر أن
النبي صلى الله عليه وسلم أسهم يوم خيبر
للفارس ثلاثة أسهم سهمان لفرسه وسهم له متفق
عليه وقال خالد الحذاء لا يختلف فيه عن النبي
صلى الله عليه وسلم أنه أسهم للفرس سهمين
ولصاحبه سهما وللراجل سهما.
"إلا أن تكون فرسه هجينا" وهو ما أبو ه عربي
وأمه غير عربية وعكسه المقرف "أو برذونا"
ويسمى العتيق قاله في "الفروع"، وهو ما أبواه
نبطيان عكس العربي "فيكون له سهم" قال الخلال
تواترت الرواية عن أبي عبد الله بذلك واختاره
الأكثر لما روى مكحول أن النبي صلى الله عليه
وسلم أعطى الفرس العربي سهمين وأعطى للهجين
سهما رواه سعيد وأبو داود في "المراسيل". وروي
موصولا عن مكحول عن زياد بن جارية عن حبيب بن
سلمة مرفوعا قال عبد الحق والمرسل أصح ولأن
نفع العراب وأثره في الحرب أفضل فيكون سهمه
أرجح كتفاضل من يرضخ له.
(3/279)
وعنه: له سهمان
كالعربي ولا يسهم لأكثر من فرسين ولا يسهم
لغير الخيل وقال الخرقي من غزا على بعير لا
يقدر على غيره قسم له ولبعيره سهمان.
ـــــــ
"وعنه له سهمان، كالعربي" اختاره الخلال لأنه
عليه السلام أسهم للفرس سهمين ولصاحبه سهما
وهو عام في كل فرس ولأنه حيوان ذو سهم فاستوى
فيه العربي وغيره كالآدمي.
وعنه: إن أدركت إدراك العراب أسهم لها كالعربي
وإلا فلا اختاره الآجري وعنه لا يسهم لها
حكاها القاضي وقاله مالك بن عبد الله الخثعمي
لأنه لا عمل لها على العراب أشبهت البغال
والأول أصح لأنها وإن دخلت في مسمى الخيل فهي
تتفاضل في أنفسها فكذا في سهمانها.
وقوله: "أسهم للفرس سهمين" قضية عين لا عموم
لها مع أنه يحتمل أنه كان ليس فيها برذون وهو
الظاهر لقلتها عند العرب.
"ولا يسهم لأكثر من فرسين" نص عليه لما روى
الأوزاعي أن النبي صلى الله عليه وسلم كان
يسهم للخيل وكان لا يسهم للرجل فوق فرسين وإن
كان معه عشرة أفراس ولأن به حاجة إلى الثاني
بخلاف الثالث فإنه مستغنى عنه وفي "التبصرة":
يسهم لثلاثة
"ولا يسهم لغير الخيل" من البغال والفيل
ونحوها لأن غير الخيل لا يلحق بها في التأثير
في الحرب ولا تصلح للكر والفر فلم يلحق بها في
السهم.
"وقال الخرقي من غزا على بعير لا يقدر على
غيره قسم له ولبعيره سهمان" نقله الميموني
واختاره ابن البنا وظاهره أنه لا يسهم للبعير
مع إمكان الغزو على فرس ولكن نص في رواية مهنا
أنه يسهم للبعير مطلقا واختاره القاضي وأكثر
أصحابه لقوله تعالى: {وَمَا أَفَاءَ اللَّهُ
عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَا أَوْجَفْتُمْ
عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلا رِكَابٍ} [الحشر:
6]، ولأنه حيوان سابق عليه بعوض فجاز أن يسهم
له كالخيل فعلى هذا يسهم له سهم واحد وهو قول
الجمهور لأنه لا يساوي
(3/280)
ومن دخل دار
الحرب راجلا ثم ملك فرسا أو استعاره أو
استأجره وشهد به الوقعة فله سهم فارس وإن دخل
فارسا فنفق فرسه أو شرد حتى تقضى الحرب فله
سهم راجل ومن غصب فرسا فقاتل عليه
ـــــــ
الخيل قطعا فاقتضى أن ينقص عنها.
وظاهر كلام بعضهم أنه يسهم له كفرس وبه قطع في
"الأحكام السلطانية"، وشرطه أن يكون مما يمكن
القتال عليه فإن كان ثقيلا لا يصلح إلا للحمل
لم يستحق شيئا وفي "الأحكام السلطانية": للفيل
سهم الهجين على اختلاف الرواية في قدره وغلطه
الزركشي والصحيح الأول وحكاه ابن المنذر
إجماعا لأنه لم ينقل أن النبي صلى الله عليه
وسلم أسهم لغير الخيل مع أنه كان في غزوة بدر
سبعون بعيرا ولم تخل غزوة منها ولو أسهم لها
لنقل.
فرع: إذا غزوا على فرس لهما هذا عقبة وهذا
عقبة والسهم لهما فلا بأس نص عليه ولو غزا على
فرس حبيس استحق سهمه.
"ومن دخل دار الحرب راجلا ثم ملك فرسا أو
استعاره أو استأجره وشهد به الوقعة فله سهم
فارس"، لأن العبرة باستحقاق سهم الفرس أن يشهد
به الوقعة لا حالة دخول دار الحرب ولأن الفرس
حيوان يسهم له فاعتبر وجوده حالة القتال
كالآدمي ولقول عمر وظاهره أنه لا يشترط ملك
الفرس بل يكفي في ذلك ملك منفعتها لأن السهم
لنفع الفرس لا لذاتها بدليل أنه لا يسهم
للضعيف والزمن ونحوه وسهم الفرس في الإجارة
للمستأجر بغير خلاف نعلمه لأنه مستحق لنفعه
استحقاقا لازما أشبه المالك وكذا هو للمستعير.
وعنه: هو لمالكه لأنه من نمائه أشبه ولده فإن
كان المستأجر والمستعير ممن لا يسهم له إما
لكونه لا شيء له كالمخذل أو ممن يرضخ له
كالصبي فحكمه حكم فرسه ذكره في "المغني"
و"الشرح".
"وإن دخل فارسا فنفق فرسه" أي: مات ولا يقال
ذلك لغيرها "أو شرد حتى تقضى الحرب فله سهم
راجل" كما ذكرنا. "ومن غصب فرسا فقاتل عليه،
(3/281)
فسهم الفرس
لمالكه وإذا قال الإمام من أخذ شيئا فهو له أو
فضل بعض الغانمين على بعض لم يجز في إحدى
الروايتين ويجوز في الأخرى ومن استؤجر للجهاد
ممن لا يلزمه من العبيد والكفار فليس له إلا
الأجرة.
ـــــــ
فسهم الفرس لمالكه" نص عليه لأن استحقاق سهم
الفرس مرتب على نفعه وهو لمالكه فإن كان
الغاصب ممن لا سهم له إما مطلقا كالمرجف أو
يرضخ له كالعبد احتمل أن يكون حكم الفرس حكمه
لأن الفرس يتبع الفارس في حكمه فيتبعه إذا كان
مغصوبا واحتمل أن يكون سهم الفرس لمالكه لأن
الجناية من راكبه فيختص المنع به ذكره في
"الشرح".
"وإذا قال الإمام من أخذ شيئا فهو له أو فضل
بعض الغانمين على بعض لم يجز في إحدى
الروايتين" جزم به في "الوجيز"، وصححه ابن
المنجا في الأولى لأنه عليه السلام والخلفاء
من بعده كانوا يقسمون الغنائم ولأن ذلك يفضي
إلى اشتغالهم بالنهب عن القتال وظفر العدو بهم
ولأن الغزاة اشتركوا في الغنيمة على سبيل
التسوية فيجب كسائر الشركاء وحينئذ لا يستحقه
من أخذه.
"ويجوز في الأخرى": أما أولا فلقوله عليه
السلام في بدر "من أخذ شيئا فهو له". ورد بأن
قضية بدر لما اختلفوا فيها نسخت بقوله تعالى:
{يَسْأَلونَكَ عَنِ الْأَنْفَالِ} [الأنفال:
1] الآية. وأما ثانيا وهي الأصح إذا كان
التفضيل لمعنى فيه فلأنه يجوز للإمام أن ينفل
ويعطي السلب فجاز له التفضيل قياسا عليهما.
"ومن استؤجر للجهاد ممن لا يلزمه من العبيد
والكفار، فليس له إلا الأجرة" وهو قول القاضي
لأن غزوه بعوض فكأنه واقع من غيره فلا يستحق
غير ما ذكر.
وظاهره صحة إجارتهم وهو رواية لأنه لا يتعين
عليهم بحضورهم لأنهم ليسوا من أهله فصحت كغيره
من العمل.
والأشهر أنها لا تصح كالصلاة ومقتضاه أن من
يلزمه كالرجل الحر لا يصح استئجاره عليه كالحج
ونص في رواية جماعة على صحتها مطلقا وهو قول
الخرقي لما روى جبير بن نفير مرفوعا قال: "مثل
الذين يغزون من أمتي ويأخذون
(3/282)
ومن مات بعد
انقضاء الحرب فسهمه لوارثه ويشارك الجيش
سراياه فيما غنمت ويشاركونه فيما غنم.
ـــــــ
الجعل يتقوون به على عدوهم مثل أم موسى ترضع
ولدها وتأخذ أجره" رواه سعيد.
ولأنه لا يختص فاعله أن يكون من أهل القرب
بدليل صحته من الكافر فصح الاستئجار عليه
كبناء المسجد.
ومقتضى اختيار الشيخين صحة الاستئجار وإن لزمه
إلا أن يتعين عليه فلا يصح وعليه حمل المؤلف
كلام الخرقي فإن قلنا لا يصح فهي كالمعدومة
فيستحق الأجير السهم وإن قلنا بصحتها فهل يسهم
له وفيه روايتان إحداهما وهي اختيار الخرقي لا
سهم له لقوله عليه السلام لأجير يعلى بن أمية
ما أجد له في غزوته هذه في الدنيا والآخرة إلا
دنانيره التي سمى رواه أبو داود والثانية وهي
اختيار الخلال وصاحبه أنه يسهم له لأنه حضر
الوقعة وهو من أهل القتال فيسهم له كغيره.
تنبيه: إذا استؤجر بعد أن غنموا على حفظها فله
الأجرة مع سهمه ولا يركب منها دابة إلا بشرط
ومثله الغزاة الذين يدفع إليهم من الفيء أي
لهم السهم لأن ذلك حق جعله الله لهم لا أنه
عوض عن الغزو فكذا من يعطي له من صدقة لأنه
يعطاه معونة لا عوضا أو دفع إليه ما يعينه به
فلزمه الثواب.
"ومن مات" أو ذهب "بعد انقضاء الحرب فسهمه
لوارثه" على المذهب، لأن الغنيمة ملكت
بالاستيلاء عليها فكان سهمه لوارثه لقوله عليه
السلام: "من ترك حقا فلورثته" وتقدم قول إنها
لا تملك إلا بالحيازة فلو مات قبلها فلا شيء
له لأنه مات قبل ثبوت ملك المسلمين وظاهر ما
سبق أنه إذا حصل التغيير قبل تقضي الحرب أنه
لا شيء له وهو كذلك بغير خلاف في المذهب.
"ويشارك الجيش سراياه فيما غنمت ويشاركونه
فيما غنم" أيهما غنم شارك الآخر نص عليه وهو
قول أكثر العلماء لأنه عليه السلام لما غزا
هوازن بعث سرية من الجيش قبل أوطاس فغنمت
فشارك بينها وبين الجيش.
(3/283)
وإذا قسمت
الغنيمة في أرض الحرب فتبايعوها ثم غلب عليها
العدو فهي من مال المشتري في إحدى الروايتين
اختارها الخلال وصاحبه والأخرى من مال البائع
اختارها الخرقي ومن وطئ جارية من المغنم ممن
له فيها حق أو لولده أدب ولم يبلغ به الحد
وعليه مهرها
ـــــــ
ولأن الجميع جيش واحد وكل منهما ردء لصاحبه
فلم يختص بعضهم بالغنيمة كأحد جانبي الجيش
وهذه الشركة بعد النفل فلو كان الأمير مقيما
ببلد الإسلام وبعث سرية أو جيشا انفردت
بغنيمتها لانفرادها بالغزو والمقيم ببلد
الإسلام ليس بمجاهد.
"وإذا قسمت الغنيمة في أرض الحرب فتبايعوها ثم
غلب عليها العدو فهي من مال المشتري في إحدى
الروايتين" نقله الجماعة "اختارها الخلال
وصاحبه" وجزم بها في "الوجيز"، وهي الأصح لأنه
مال مقبوض أبيح لمشتريه التصرف فيه فكان من
ضمانه كما لو اشتراه وأحرزه بدار الإسلام.
"والأخرى من مال البائع اختارها الخرقي"، لأنه
لم يكمل قبضه لكونه في خطر قهر العدو كالثمرة
المبيعة على رؤوس النخل إذا بلغت قبل الجذاذ
فعليها ينفسخ البيع ويرد الثمن إلى المشتري من
الغنيمة إن باعه الإمام أو من مال البائع.
وإن كان الثمن لم يؤخذ من المشتري سقط عنه
ومحله إذا لم يفرط المشتري فإن كان لتفريط حصل
منه كخروجه من العسكر ونحوه فضمانه عليه كما
لو أتلفه وعلم منه أن لكل واحد من الغانمين
بيع ما حصل له بعد القسمة والتصرف فيه كيف شاء
لأن ملكه ثابت فيه على المنصوص. وفي "البلغة"
رواية: لا تصح قسمتها وأما الأمير فيجوز له
البيع قبل القسمة للغانمين ولغيرهم إذا رأى
المصلحة فيه لأن الولاية ثابتة له عليها.
"ومن وطئ جارية من المغنم ممن له فيها حق أو
لولده أدب"، لأنه وطء حرام لكونه في ملك مشترك
"ولم يبلغ به الحد"، لأن له في الغنيمة ملكا
أو شبهة ملك فيدرأ عنه الحد للشبهة "وعليه
مهرها"، لأنها ليست مملوكة له أشبه
(3/284)
إلا أن تلد منه
فيكون عليه قيمتها وتصير أم ولد له والولد حر
ثابت النسب ومن أعتق منهم عبدا عتق عليه قدر
حقه وقوم عليه باقيه إن كان موسرا وكذلك إن
كان فيهم من يعتق عليه وكذلك إن كان فيهم من
يعتق عليه.
ـــــــ
وطء أمة الغير وحينئذ فيطرح في المغنم وقال
القاضي يسقط عنه من المهر قدر حصته كالجارية
المشتركة ورد بأنه لما كان مقدار حقه يعسر
العلم به ولا ضرر عليه بوضع المهر من الغنيمة
فيعود إليه حقه لم يعتبر الإسقاط. "إلا أن تلد
منه فيكون عليه قيمتها"، لأنه فوتها على
الغانمين فلزمه قيمتها كما لو أتلفها وحينئذ
تطرح في الغنيمة فإن كان معسرا كانت في ذمته
وقال القاضي يحتسب قدر حصته من الغنيمة وتصير
أم ولد وباقيها رقيق للغانمين لأنه إنما ثبت
بالسراية إلى ملك غيره فلم يسر في حق المعسر
كالإعتاق.
ورد: بأنه استيلاد صير بعضها أم ولد كذلك
كاستيلاد جارية ابنه وهو أقوى من العتق لكونه
فعلا وينفذ من المجنون.
وظاهره: أنه لا يلزمه قيمة الولد لأنه ملكها
حين علقت فلم يثبت للغانمين فيه ملك وعنه
يلزمه قيمته حين وضعه تطرح في الغنيمة لأنه
فوت رقه أشبه ولد المغرور وقال القاضي إذا صار
نصفها أم ولد يكون الولد كله حرا وعليه قيمة
نصفه.
"وتصير أم ولد له في الحال"، لأنه وطء يلحق به
النسب لشبهة الملك كجارية ابنه. "والولد
الحر"، لأنه من وطء في ملك أو شبهة "ثابت
النسب"، لأنه وطء سقط فيه الحد لشبهة الملك
فيلحق فيه النسب وظاهره أنه لا مهر عليه حينئذ
في رواية وهو مبني على أن المهر هل يجب بمجرد
الإيلاج أو بالنزع وهو تمامه لأنه إنما تم وهي
ملك له قاله الزركشي.
"ومن أعتق منهم عبدا وعتق عليه قدر حقه وقوم
عليه باقيه إن كان موسرا وكذلك إن كان فيهم من
يعتق عليه" وجملته: أن الغانم إذا أعتق رقيقا
من المغنم أو كان فيهم من يعتق عليه وعتق كله
لأن ملكه ثبت عليه في شركة الغانمين
باستيلائهم
(3/285)
والغال من
الغنيمة يحرق رحله كله
ـــــــ
عليه، أشبه المملوك بالإرث فيعتق جميعه إن كان
حقه منها لا ينقص أو بقدر حقه إن نقص.
ثم الزائد على حقه إن كان موسرا عتق عليه
وضمنه وإلا بقي رقيقا بحاله، على المنصوص.
وقال القاضي وابن أبي موسى: لا يعتق لأن ملكه
لا يتعين فيه لجواز أن يحصل له بالقسمة غيره.
وفي "المحرر": وعندي إن كانت جنسا واحدا
فكالمنصوص وإن كانت أجناسا فكقول القاضي لأن
المعتق في الجنس الواحد يصير كالحر المشاع وفي
الأجناس لم يتعين حقه في شيء بعيد وفيه نظر
لأنها قبل القسمة حق كل واحد من الغانمين مشاع
في كل جنس فالعتق يصادفه فيعتق عليه والباقي
بالسراية. وفي "البلغة": فيمن يعتق عليه
روايات الثالثة موقوف إن تعين سهمه في الرقيق
عتق وإلا فلا.
وظاهره: لا فرق في المعتق أن يكون رجلا أو
امرأة أو صبيا وصرح في "المغني" و"الشرح" بأن
الغانم إذا أعتق رجلا منها لا يعتق لأنه لا
يصير رقيقا بنفس السبي كالنساء والصبيان.
"والغال من الغنيمة" وهو من كتم ما غنمه أو
بعضه فيجب أن "يحرق رحله كله" قاله الحسن
وجماعة، لما روى عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده
أن النبي صلى الله عليه وسلم وأبا بكر وعمر
حرقوا متاع الغال رواه أبو داود ولحديث عمر بن
الخطاب أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بذلك
رواه سعيد والأثرم واختار جماعة أن ذلك من باب
التعزير لا الحد الواجب فيجتهد الإمام بحسب
المصلحة قال في "الفروع": وهو أظهر.
فعلى ما ذكره: يختص التحريق بالمتاع الذي غل
وهو معه فلو استحدث متاعا أو رجع إلى بلده وله
فيه متاع لم يحرق وكما لو انتقل عنه ببيع أو
هبة في الأشهر وهذا إذا كان حيا حرا مكلفا
ملتزما جزم به صاحب "الوجيز" والآدمي
البغداديان ولو أنثى أو ذميا.
(3/286)
إلا السلاح
والمصحف والحيوان وما أخذ من الفدية أو أهداه
الكفار لأمير الجيش أو بعض قواده فهو غنيمة.
ـــــــ
وظاهره أنه لا ينفي نص عليه بل يضرب للخبر وفي
السارق لا يحرق متاعه وقيل بلى جزم به في
"التبصرة".
"إلا السلاح"، لأنه يحتاج إليه في القتال
"والمصحف"، لحرمته وشمل الجلد والكيس وما هو
تابع له وقيل يباع ويتصدق بثمنه لقول سالم:
بعه وتصدق بثمنه والأصح وكتب العلم لأنه ليس
القصد الإضرار به في دينه بل في بعض دنياه
"والحيوان" لنهيه عليه السلام أن يعذب بالنار
إلا ربها وعدم دخوله في مسمى المتاع المأمور
بإحراقه وكذا آلتها نص عليه لأنه يحتاج إليها
وكذا نفقته لأنه لا يحرق عادة وكسهمه وثيابه
التي عليه لئلا يترك عريانا وقيل ساتر عورته
جزم به في "الوجيز".
وظاهره: أنه لا يحرق سهمه لعدم ذكره في أكثر
الروايات وعنه بلى اختاره الآجري ولم يستثن
إلا المصحف والدابة وأنه قول أحمد.
فرع: ما أبقت النار من حديد ونحوه فهو له فإذا
تاب قبل القسمة رد ما أخذه في الغنيمة وبعدها
يعطي الإمام خمسه ويتصدق بالباقي وقال الشافعي
لا أعرف للصدقة وجها قال الآجري يأتي به
الإمام فيقسمه في مصالح المسلمين ومن ستر على
الغال وأخذ ما أهدي له منها أو باعه إمام أو
حاباه فهو غال.
"وما أخذ من الفدية" أي: من فدية الأسارى فهو
غنيمة بغير خلاف نعلمه لأنه عليه السلام قسم
فداء أسارى بدر بين الغانمين ولأنه مال حصل
بقوة الجيش أشبه السلاح "أو أهداه الكفار" أو
واحد منهم "لأمير الجيش أو بعض قواده" جمع
قائد، وهو نائبه "فهو غنيمة" أي للجيش نص عليه
لأنه فعل ذلك خوفا من الجيش فيكون غنيمة كما
لو أخذه بغيرها.
وشرطه: أن يكون ذلك في دار الحرب وعنه هو
للمهدى له وقيل فيء لأنه
(3/287)
ـــــــ
مال لم يوجف عليه بخيل ولا ركاب فلو كانت
بدارنا فهي لمن أهديت إليه لأنه عليه السلام
قبل هدية المقوقس واختص بها وقيل فيء واقتضى
ذلك أن الهدية لأحد الرعية في دارهم يختص بها
كما لو أهدي إليه إلى دار الإسلام وقال القاضي
هو غنيمة. وفي "الشرح" احتمال: إن كان بينهما
مهاداة قبل ذلك فهي له وإلا فهي للمسلمين
كهدية القاضي والله أعلم.
(3/288)
باب حكم الأرضين المغنومة
وهي على ثلاثة أضرب: أحدها: ما فتح عنوة وهي
ما أجلى عنها أهلها بالسيف فيخير الإمام بين
قسمها ووقفها على المسلمين،
ـــــــ
باب حكم الأرضين المغنومة.
"وهي على ثلاثة أضرب: أحدها: ما فتح عنوة" أي:
قهرا وغلبة وهو عنا يعنو إذا ذل وخضع وشرعا:
"هي ما أجلي عنها أهلها بالسيف" وهو نوعان
أحدهما ما استأنف المسلمون فتحه عنوة "فيخير
الإمام بين قسمها" على الغانمين كالمنقول
"ووقفها على المسلمين" أي: على جميعهم لأن كلا
ورد فيه خبر فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم
قسم نصف خيبر ووقف نصفها لنوائبه رواه أبو
داود من حديث سهل بن أبي حثمة ووقف عمر الشام
ومصر والعراق وسائر ما فتحه وأقره الصحابة ومن
بعدهم على ذلك.
وعن عمر قال: أما والذي نفسي بيده، لولا أن
أترك آخر الناس ببانا لا شيء لهم ما فتحت علي
قرية إلا قسمتها كما قسم رسول الله صلى الله
عليه وسلم خيبر ولكني أتركها خزانة لهم
يقتسمونها رواه البخاري فيلزم الإمام فعل
الأصلح كالتخيير في الأسارى فإن قسمها لم يحتج
إلى لفظ ولم يضرب عليها خراجا لأنها ملك
أربابها وتصير أرض عشر وإن وقفها اعتبر بلفظه
به.
وفي "المغني" و"الشرح": لا يحتاج إلى النطق به
بل لو تركها للمسلمين صار كالقسمة.
(3/288)
ويضرب عليها
خراجا مستمرا يؤخذ ممن هي في يده يكون أجره
لها وعنه: تصير وقفا بنفس الاستيلاء. وعنه:
تقسم بين الغانمين. الثاني: ما جلا عنها أهلها
خوفا، فتصير وقفا بنفس الظهور عليها.
ـــــــ
"و" حينئذ "يضرب عليها خراجا مستمرا يؤخذ" في
كل عام لقول عمر "ممن هي في يده يكون أجره
لها" أي: ممن تقر معه من مسلم أو ذمي كالأجرة
ولا يسقط خراجها بإسلام أربابها ولا بانتقالها
إلى مسلم لأنه بمنزلة أجرتها وفي "المجرد": أو
يملكها لأهلها أو غيرهم بخراج فدل كلامهم أنه
لو ملكها بغير خراج كما فعل النبي صلى الله
عليه وسلم في ملكه لم يجز وقاله أبو عبيد
لأنها مسجد لجماعة المسلمين وهي مناخ من سبق
بخلاف بقية البلدان.
"وعنه: تصير وقفا بنفس الاستيلاء"، لما روى
أبو عبيد في "كتاب الأموال" عن الماجشون قال
بلال لعمر بن الخطاب في القرى التي افتتحوها
عنوة اقسمها بيننا وخذ خمسها ففال عمر لا
ولكني أحبسها فتجري عليهم وعلى المسلمين فقال
بلال وأصحابه اقسمها فقال عمر اللهم اكفني
بلالا وذويه فما حال الحول وفيهم عين تطرف".
قال القاضي: ولم ينقل عن النبي صلى الله عليه
وسلم ولا أحد من الخلفاء أنه قسم أرضا أخذت
عنوة إلا خيبر ولأنه أنفع للمسلمين وتكون أرض
عشر.
"وعنه: تقسم بين الغانمين"، لأنه عليه السلام
فعله وفعله أولى من فعل غيره يؤيده عموم قوله
تعالى: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ
شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ} الآية
[الأنفال: 41] فأضاف الغنيمة إليهم من غير
تعيين جنس المال فدل على التسوية بالمنقول.
تنبيه: ما فعله الإمام من وقف وقسمة فليس لأحد
نقضه ذكره في "المغني" و"الشرح". ويأتي حكم
البيع.
"الثاني: ما جلا عنها خوفا" وفزعا منا "فتصير
وقفا بنفس الظهور عليها"، لأنها
(3/289)
وعنه: حكمها
حكم العنوة الثالث: ما صولحوا عليه وهو ضربان
أحدهما أن يصالحهم على أن الأرض لنا ونقرها
معهم بالخراج فهذه تصير وقفا أيضا الثاني أن
نصالحهم على أنها لهم ولنا الخراج عليها فهذه
ملك لهم خراجها كالجزية إن أسلموا سقط عنهم
وإن انتقلت إلى مسلم فلا خراج عليه،
ـــــــ
ليست غنيمة فتقسم فيكون حكمها حكم الفيء أي
للمسلمين كلهم. "وعنه: حكمها حكم العنوة"،
لأنه مال ظهر عليه المسلمون بقوتهم فلا يكون
وقفا بنفس الاستيلاء كالمنقول فعلى هذه
الرواية تجري فيها الروايات السابقة قاله ابن
المنجا لكن لا تصير وقفا إلا بوقف الإمام لها
صرح به الجماعة لأن الوقف لا يثبت بنفسه فعلى
هذا حكمها قبل وقف الإمام كالمنقول يجوز بيعها
والمعاوضة بها وعلى الأولى يمتنع.
"الثالث: ما صولحوا عليه وهو ضربان أحدهما أن
يصالحهم على أن الأرض لنا ونقرها معهم بالخراج
فهذه تصير وقفا أيضا"، لأنه عليه السلام فتح
خيبر وصالح أهلها أن يعمروا أرضها ولهم نصف
ثمرتها فكانت للمسلمين دونهم قاله في "الشرح"،
وهو شبيه بفعل عمر في أرض السواد فيكون حكم
هذه كالتي قبلها وهل تصير وقفا بنفس الصلح أم
بوقف الإمام مع الفوائد وهما دارا إسلام يجب
على ساكنهما من أهل الذمة الجزية ونحوها.
"الثاني: أن نصالحهم على أنها لهم، ولنا
الخراج عليها" فهو صلح صحيح لا مفسدة فيه فهذه
ملك لهم أي لأربابها وتصير دار عهد "خراجها
كالجزية" التي تؤخذ على رؤوسهم ما دامت
بأيديهم "إن أسلموا سقط عنهم"، لأن الخراج
الذي ضرب عليها إنما كان لأجل كفرهم فيسقط
بالإسلام كالجزية وتبقى الأرض ملكا لهم بغير
خراج يتصرفون فيها كيف شاءوا.
"وإن انتقلت إلى مسلم، فلا خراج عليه"، لأنه
قصد بوضعه الصغار فوجب سقوطه بالإسلام كالجزية
فإن صارت لذمي فوجهان: أحدهما، وهو ظاهر
كلامهم لا يسقط لأنه بالشراء رضي بدخوله فيما
دخل عليه البائع فكأنه
(3/290)
ويقرون فيها
بغير جزية لأنهم في غير دار الإسلام بخلاف
التي قبلها والمرجع في الخراج والجزية إلى
اجتهاد الإمام في الزيادة والنقصان على قدر
الطاقة وعنه يرجع إلى ما ضربه عمر رضي الله
عنه لا يزاد ولا ينقص وعنه تجوز الزيادة دون
النقص.
ـــــــ
التزمه. والثاني: يسقط لعدم التزامه به.
وعنه: لا يسقط خراجها بإسلام ولا غيره لأنه حق
على رقبة الأرض فهو كالخراج الذي ضربه عمر
وكذا في "الترغيب"، وذكر فيما صالحناهم على
أنه لنا ونقره معهم بخراج لا يسقط خراجه
بإسلام وعنه بلى كجزية.
"ويقرون فيها" أي: في الأرض التي صولحوا على
أنها لهم "بغير جزية، لأنهم في غير دار
الإسلام بخلاف التي قبلها" أي: لا يقرون في
الأرض التي صولحوا على أنها لنا إلا بجزية لأن
الدار دار إسلام فلا بد فيها من التزام
الجزية.
"والمرجع في الخراج والجزية إلى اجتهاد الإمام
في الزيادة والنقصان" قال الخلال: رواه
الجماعة وعليه مشايخنا لأنه مصروف في المصالح
فكان مفوضا إلى اجتهاد الإمام "على قدر
الطاقة" فيضرب على كل أرض وإنسان ما يطيقه
ويحتمله لأن ذلك يختلف.
"وعنه: يرجع إلى ما ضربه عمر رضي الله عنه لا
يزاد ولا ينقص"، لأن اجتهاد عمر أولى من قول
غيره كيف ولم ينكره أحد من الصحابة مع شهرته
فكان كالإجماع.
"وعنه: تجوز الزيادة" في الخراج "دون النقص"،
لما روى عمرو بن ميمون أنه سمع عمر يقول
لحذيفة وعثمان بن حنيف لعلكما حملتما الأرض ما
لا تطيق فقال عثمان والله لو زدت عليهم
لأجهدتهم فدل على إباحة الزيادة ما لم يجهدهم
ولأنه ناظر في مصالح المسلمين كافة فجاز فيه
دون النقصان.
وعنه: جوازها في الخراج دون الجزية اختارها
الخرقي والقاضي وقال: نقله الجماعة وصححه في
المحرر لأن الخراج في معنى الأجرة بخلاف
الجزية فإن
(3/291)
قال أحمد وأبو
عبيد: أصح وأعلا حديث في حديث عمرو بن ميمون
يعني أن عمر وضع على كل جريب درهما وقفيزا
وقدر القفيز ثمانية أرطال بالمكي فيكون ستة
عشر رطلا بالعراقي والجريب عشر قصبات في عشر
قصبات،
ـــــــ
المقصود منها الإذلال فهي في معنى العقوبة فلم
تتغير كالحدود.
وعنه: جوازها فيهما إلا جزية أهل اليمن لا
يخرج عن الدينار فيها اختاره أبو بكر لأنه
عليه السلام قررها عليهم كذلك.
"قال أحمد و أبو عبيد" القاسم بن سلام: "أصح
وأعلا حديث في أرض السواد حديث عمرو بن ميمون
يعني أن عمر وضع على كل جريب درهما و قفيزا"
أي: على جريب الزرع درهما وقفيزا من طعامه
وعلى جريب النخل ثمانية دراهم وعلى جريب الكرم
عشرة دراهم وعلى جريب الرطبة ستة دراهم هذا هو
الذي وظفه عمر في أصح الروايات عنه وروى عنه
أبو عبيد أنه بعث عثمان بن حنيف لمساحة أرض
السواد فضرب على جريب الزيتون اثني عشر درهما
وعلى جريب الكرم عشرة دراهم وعلى جريب النخل
ثمانية دراهم وعلى جريب الرطبة ستة دراهم وعلى
جريب الحنطة أربعة دراهم وعلى جريب الشعير
درهمين والروايات مختلفة في ذلك فالأخذ
بالأعلى والأصح أولى.
"وقدر القفيز: ثمانية أرطال بالمكي" نص عليه
واختاره القاضي لأن الرطل العراقي لم يكن
وإنما كان المكي وهو رطلان، "فيكون ستة عشر
رطلا بالعراقي". وقال أبو بكر قد قيل قدره
ثلاثون رطلا. وقدم في "المحرر" أن القفيز
ثمانية أرطال صاع عمر فغيره الحجاج نص عليه
وذلك ثمانية أرطال بالعراقي لأنه هو القفيز
الذي كان معروفا بالعراق وهو المسمى بالقفيز
الحجاجي وينبغي أن يكون من جنس ما تخرجه الأرض
حنطة أو شعيرا ذكره في "الكافي" و"الشرح".
"والجريب: عشر قصبات في عشر قصبات" أي: مائة
قصبة مكسرة ومعنى الكسر ضرب أحد العددين في
الآخر فيصير أحدهما كسرا للآخر والقصبة: هي
(3/292)
والقصبة ستة
أذرع وهو ذراع وسط وقبضة وإبهام قائمة وما لا
يناله الماء مما لا يمكن زرعه فلا خراج عليه
فإن أمكن زرعه عاما بعد عام وجب نصب خراجه في
كل عام والخراج على المالك دون المستأجر،
ـــــــ
المقدار المعلوم الذي يمسح به المزارع كالذراع
للبز واختير القصب على غيره لأنه لا يطول ولا
يقصر وهو أخف من الخشب.
"والقصبة ستة أذرع" بالذراع العمرية أي بذراع
عمر وهو ذراع وسط والمعروف بالذراع الهاشمية
سماه المنصور به، "وهو ذراع وسط" أي: بيد
الرجل المتوسط الطول "وقبضة وإبهام قائمة" وهو
معروف بين الناس.
"وما لا يناله الماء" أي: ماء السقي "مما لا
يمكن زرعه فلا خراج عليه"، لأن الخراج أجرة
الأرض وما لا منفعة فيه لا أجر له.
وعنه: يجب على ما أمكن رزعه بماء السماء لأن
المطر يربي زرعها في العادة قال ابن عقيل وكذا
إذا أمكن سقيها بالدواليب وإن أمكن إحياؤه فلم
يفعل وقيل أو زرع ما لا ماء له فروايتان وفي
"الواضح": روايتان فيما لا ينتفع به مطلقا
والمذهب أن الخراج لا يجب إلا على ما يسقى،
وإن لم يزرع "فإن أمكن رزعه عاما بعد عام وجب
نصفه خراجه في كل عام"، لأن نفع الأرض على
النصف فكذا الخراج في مقابلة النفع وهو معنى
كلامه في "المحرر": ما زرع عاما وأريح آخر
عادة. وفي "الترغيب" كـ"المحرر" وفيه: يؤخذ
خراج ما لم يزرع عن أقل ما يزرع وإن البياض
بين النخل ليس فيه إلا خراجها فإن ظلم في
خراجه لم يحتسبه من العشر لأنه ظلم وعنه بلى
لأن الآخذ لهما واحد اختاره أبو بكر.
فرع: إذا يبس الكرم بجراد أو غيره سقط من
الخراج حسبما تعطل من النفع وإذا لم يمكن
النفع به ببيع أو إجارة أو غيرها لم تجز
المطالبة ذكره الشيخ تقي الدين.
"والخراج" يجب "على المالك دون المستأجر"،
لأنه على الرقبة وهي للمالك كفطرة العبد.
(3/293)
وهو كالدين
يحبس به الموسر وينظر به المعسر ومن عجز عن
عمارة أرضه أجبر على إجارتها أو رفع يده عنها
ويجوز له أن يرشو العامل ويهدي له ليدفع عنه
الظلم في خراجه ولا يجوز ذلك ليدع له منه شيئا
وإن رأى الإمام المصلحة في إسقاط الخراج عن
إنسان جاز.
ـــــــ
وعنه: على المستأجر كالعشر "وهو كالدين" قال
أحمد: يؤديه ثم يزكي ما بقي يحبس به الموسر
لأنه حق عليه أشبه أجرة الساكن "وينظر به
المعسر"، للنص، "ومن عجز عن عمارة أرضه أجبر
على إجارتها أو رفع يده عنها" فيدفعها إلى من
يعمرها ويقوم بخراجها لأن الأرض للمسلمين فلا
يجوز تعطيلها عليهم ولأن كل واحد منهما محصل
للغرض فلا معنى للتعيين وعلم منه أنه إذا كانت
في يده أرض خراجية فهو أحق بها بالخراج
كالمستأجر وتنقل إلى وارثه كذلك فلو آثر بها
أحدا صار الباني أحق بها.
وظاهره: أنه لا خراج على المساكن وجزم به أكثر
الأصحاب وإنما يجب على المزارع وإنما كان أحمد
يمسح داره ويخرج عنها لأن أرض بغداد حين فتحت
كانت مزارع.
تنبيه: إذا كان بأرض الخراج يوم وقفها شجر
فثمره المستقبل لمن يقر في يده وفيه عشر
الزكاة كالمتجدد فيها وقيل هو للمساكين بلا
عشر جزم به في "الترغيب". ولعله مبني على أن
الشجر لا يتبع الأرض في البيع وكذا هنا فيبقى
ملك المسلمين بلا عشر لأنه لا يجب على بيت
المال.
"ويجوز له" أي: لصاحب الأرض "أن يرشو العامل
ويهدي له ليدفع عنه الظلم في خراجه"، لأنه
يتوصل بذلك إلى كف اليد العادية عنه فالرشوة
ما أعطاه بعد طلبه والهدية ابتداء قاله في
"الترغيب". "ولا يجوز له ذلك ليدع له منه
شيئا"، لما فيه من إبطال الحق فحرم على الآخذ
والمعطي كرشوة الحاكم.
"وإن رأى الإمام المصلحة في إسقاط الخراج عن
إنسان جاز"، لأنه يتصرف بالمصلحة أشبه المن
على العدو. وفي "المحرر" و"الفروع": للإمام
وضعه عمن له دفعه
(3/294)
ـــــــ
إليه وظاهره أن غير الإمام ليس له ذلك قال
أحمد لا يدع خراجا ولو تركه أمير المؤمنين كان
هذا فأما من دونه فلا.
فرع: مصرف الخراج كفيء وما تركه من العشر أو
تركه الخارص تصدق بقدره.
(3/295)
باب القيء
...
باب الفيء
وهو ما أخذ من مال المشركين بغير قتال كالجزية
والخراج والعشر وما تركوه فزعا وخمس خمس
الغنيمة ومال من مات لا وارث له فيصرف في
المصالح،
ـــــــ
باب الفيء
أصله من الرجوع يقال فاء الظل إذا رجع نحو
المشرق وسمي المال الحاصل على ما يذكره فيئا
لأنه رجع من المشركين إليهم والأصل فيه قوله
تعالى: { وَمَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى
رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَا أَوْجَفْتُمْ
عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلا رِكَابٍ} الآيتين
[الحشر: 6]
"وهو ما أخذ من مال المشركين بغير قتال" يحترز
به عن الغنيمة "كالجزية والخراج والعشر وما
تركوه فزعا" من المسلمين "وخمس خمس الغنيمة
ومال من مات لا وارث له" من أهل الذمة ويلحق
به المرتد إذا هلك "فيصرف في المصالح" أي:
مصالح المسلمين للآيتين ولهذا لما قرأ عمر:
{لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ} الآية
[الحشر: 8] قال: هذه استوعبت المسلمين وقال
أيضا ما من أحد من المسلمين إلا له في هذا
المال نصيب إلا العبيد وذكر أحمد الفيء فقال
فيه حق لكل المسلمين وهو بين الغني والفقير
ولأن المصالح نفعها عام والحاجة داعية إلى
فعلها تحصيلا لها.
واختار أبو حكيم والشيخ تقي الدين لا حق فيه
لرافضة وذكره في "الهدي" عن مالك وأحمد وقيل
يختص بالمقاتلة لأنه كان لرسول الله صلى الله
عليه وسلم في حياته لحصول النصرة فلما مات
صارت بالجند ومن يحتاج إليه المسلمون.
(3/295)
ويبدأ بالأهم
فالأهم من سد الثغور وكفاية أهلها وما يحتاج
إليه من يدفع عن المسلمين ثم الأهم فالأهم من
سد البثوق وكري الأنهار وعمل القناطر وأرزاق
القضاة وغير ذلك ولا يخمس وقال الخرقي يخمس
فيصرف خمسه إلى أهل الخمس وباقيه للمصالح.
ـــــــ
"ويبدأ بالأهم فالأهم" من المصالح العامة لأهل
الدار التي بها حفظ المسلمين وأمنهم من العدو
"من سد الثغور" بأهل القوة من الرجال والسلاح
"وكفاية أهلها" أي القيام بكفايتهم "وما يحتاج
إليه" من غير أهل الثغور "من يدفع عن
المسلمين"، لأن الحاجة داعية إلى ذلك ودفع
الكفار هو المقصود فلذلك قدم على غيره "ثم
الأهم فالأهم من سد البثوق" جمع بثق وهو
المكان المنفتح في جانبي النهر "وكري الأنهار"
أي: تعزيلها "وعمل القناطر" وهي الجسور
"وأرزاق القضاة" العلماء "وغير ذلك" كالفقهاء
والأئمة والمؤذنين ونحوهم مما للمسلمين فيه
نفع ولأن ذلك من المصالح العامة أشبه الأول.
"ولا يخمس" في ظاهر المذهب وقاله الأكثر لأن
الله تعالى أضافه إلى أهل الخمس كما أضاف خمس
الغنيمة فإيجاب الخمس فيه لأهله دون باقيه منع
لما جعله الله تعالى لهم بغير دليل ولو أريد
الخمس منه لذكره الله تعالى كما ذكره في خمس
الغنيمة فلما لم يذكره ظهر إرادة الاستيعاب.
"وقال الخرقي: يخمس" هذا رواية واختاره أبو
محمد يوسف الجوزي لقوله تعالى: {مَا أَفَاءَ
اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ} الآية [الحشر: 7]،
لأنها اقتضت أن يكون جميعه هؤلاء الأصناف ولا
شك أنهم أهل الخمس والآية السابقة وما ورد عن
عمر وغيره يدل على اشتراك جميع المسلمين فيه
فوجب الجمع بينهما للتناقض والتعارض وفي إيجاب
الخمس فيه جمع بين الأدلة فإن خمسه لمن ذكر
وسائره لجميع المسلمين ولأنه مال مظهور عليه
فوجب تخميسه كالغنيمة.
"فيصرف خمسه إلى أهل الخمس وباقيه للمصالح"،
لما ذكرنا لكن قال القاضي لم أجد لما قال
الخرقي نصا فأحكيه وإنما نص على أنه غير مخموس
(3/296)
وإن فضل منه
فضل قسم بين المسلمين ويبدأ بالمهاجرين ثم
الأنصار ثم سائر المسلمين. وهل يفاضل بينهم
على روايتين.
ـــــــ
قال ابن المنذر: ولا يحفظ عن أحد قبل الشافعي
واختاره الآجري لأن النبي صلى الله عليه وسلم
قسمه خمسة وعشرين سهما فله أربعة أخماس ثم خمس
الخمس أحد وعشرون سهما في المصالح وبقية خمس
الخمس لأهل الخمس وذكر ابن الجوزي في "مسند
عمر": كان ما لم يوجف عليه ملكا لرسول الله
صلى الله عليه وسلم خاصة واختاره أبو بكر.
"وإن فضل منه فضل قسم بين المسلمين"، للآية
ولأنه مال فضل عن حاجتهم فقسم بينهم لذلك
وظاهره أن الغني كالفقير على المذهب لأنه مال
استحقوه بمعنى مشترك فاستووا فيه كالميراث
وعنه يقدم المحتاج قال الشيخ تقي الدين هي أصح
عنه لقوله تعالى: {لِلْفُقَرَاءِ}، ولأن
المصلحة في حقه أعظم منها في حق غيره لأنه لا
يتمكن من حفظ نفسه من العدو بالعدة ولا بالهرب
لفقره بخلاف الغني ويستثنى منه العبيد فإنه لا
شيء لهم منه نص عليه لأنه مال فلا حظ لهم فيه
كالبهائم وأعطى الصديق العبيد ذكره الخطابي.
فرع: ليس لولاة الفيء أن يستأثروا منه فوق
الحاجة كالإقطاع يصرفونه فيما لا حاجة إليه أو
إلى من يهوونه ذكره الشيخ تقي الدين.
"و" يستحب أن "يبدأ بالمهاجرين" جمع مهاجر اسم
فاعل من هاجر بمعنى هجر ثم غلب على الخروج من
أرض إلى أخرى وتطلق الهجرة بأن يترك الرجل
أهله وماله وينقطع بنفسه إلى مهاجره ولا يرجع
من ذلك بشيء وهجرة الأعراب وهو أن يدع البادية
ويغزو مع المسلمين وهي دون الأول في الأجر
والمراد هنا أولاد المهاجرين الذين هجروا
أوطانهم وخرجوا إلى رسول الله صلى الله عليه
وسلم وهم جماعة مخصوصون "ثم الأنصار" وهم
الحيان الأوس والخزرج وقدموا على غيرهم
لسابقتهم وآثارهم الجميلة "ثم سائر المسلمين"،
ليحصل التعميم بالدفع وصرح في الشرح بأن العرب
تقدم على العجم والموالي.
"وهل يفاضل بينهم" بالسابقة؟ "على روايتين"
كذا في "المحرر" و"الفروع":
(3/297)
ومن مات بعد
حلول وقت العطاء دفع إلى ورثته حقه ومن مات من
أجناد المسلمين دفع إلى امرأته و أولاده
الصغار كفايتهم فإذا بلغ ذكورهم فاختاروا أن
يكونوا في المقاتلة فرض لهم وإن لم يختاروا
تركوا.
ـــــــ
إحداهما: يسوي بينهم وجزم بها في "الوجيز"،
وهي مذهب أبي بكر علي رضي الله عنهما لأن
الغنائم تقسم بين من حضر بالسوية فكذا الفيء
لكن أبو بكر أعطى العبيد ومنعهم علي والثانية
يجوز التفاضل بينهم وهي مذهب عمر وعثمان رضي
الله عنهما قال عمر لا أجعل من قاتل على
الإسلام كمن قوتل عليه ولأنه عليه السلام قسم
النفل بين أهله متفاضلا على قدر غنائمهم وهذا
معناه بكذا في "المغني" و"الشرح" أن ذلك مفوض
إلى اجتهاد الإمام بحسب المصلحة وقد فرض عمر
لكل واحد من المهاجرين من أهل بدر خمسة آلاف
ومن الأنصار أربعة آلاف والعطاء الواجب لا
يكون إلا لبالغ عاقل حر بصير صحيح يطيق القتال
فإن حدث به مرجو الزوال كزمانة ونحوها فلا حق
له في الأصح.
"ومن مات بعد حلول وقت العطاء دفع إلى ورثته
حقه"، لأنه مات بعد الاستحقاق وانتقل حقه إلى
ورثته كسائر الموروثات.
"ومن مات من أجناد المسلمين دفع إلى امرأته و
أولاده الصغار كفايتهم"، لما فيه من تطييب
قلوب المجاهدين لأنهم إذا علموا أن عيالهم
يكفون المؤونة بعد موتهم توفروا على الجهاد
بخلاف عكسه فإن تزوجت المرأة أو واحدة من
البنات سقط فرضها لأنها خرجت عن عيال الميت.
"فإذا بلغ ذكورهم" وكانوا أهلا للقتال
"فاختاروا أن يكونوا في المقابلة فرض لهم"،
لأنهم أهل لذلك ففرض لهم كآبائهم وفي "الأحكام
السلطانية": مع الحاجة إليهم. "وإن لم يختاروا
تركوا"، لأن البالغ لا يجبر على خلاف مراده
إلا لواجب عليه ولا شك أن دخولهم في ديوان
المقاتلة ليس بواجب.
تنبيه: بيت المال ملك للمسلمين فيضمنه متلفه
ويحرم التصرف فيه إلا بإذن الإمام ذكره في
"عيون المسائل" و"الانتصار" وذكر القاضي وابنه
أن المالك غير
(3/298)
ـــــــ
معين وفي "المغني" كالأول. وللإمام تعيين
مصارفه وترتيبها فافتقر إلى إذنه.
(3/299)
باب الأمان
يصح أمان المسلم المكلف ذكرا كان أو أنثى حرا
أو عبدا مطلقا أو أسيرا.
ـــــــ
باب الأمان
الأمان: ضد الخوف وهو مصدر أمن أمنا وأمانا
والأصل فيه قوله تعالى: {فَأَجِرْهُ حَتَّى
يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ} [التوبة: 6]، وقوله
عليه السلام: "ذمة المسلمين واحدة يسعى بها
أدناهم" متفق عليه من حديث علي وإذا أعطوا
الأمان حرم قتلهم وأخذ مالهم والتعرض إليهم.
"يصح أمان المسلم المكلف" أي: البالغ العاقل
فلا يصح من كافر وإن كان ذميا للخبر ولأنه
متهم على الإسلام وأهله فلم يصح منه كالحربي
ولا من طفل ومجنون لأن كلامه غير معتبر فلا
يثبت به حكم ومن زال عقله بنوم أو سكر أو
إغماء هو كالمجنون لأنه لا يعرف المصلحة من
غيرها. "ذكرا كان أو أنثى" نص عليه، ولقوله
عليه السلام: "قد أجرنا من أجرت يا أم هانئ"
رواه البخاري وأجارت زينب بنت رسول الله صلى
الله عليه وسلم أبا العاص بن الربيع فأجاره
النبي صلى الله عليه وسلم. "حرا" اتفاقا "أو
عبدا" في قول أكثر العلماء لقول عمر العبد
المسلم رجل من المسلمين يجوز أمانه رواه سعيد
ولقوله عليه السلام: "يسعى بها أدناهم". فإن
كان كذلك فصح أمانه بالحديث وإن كان غيره أدنى
منه فيصح من باب أولى.
ولأنه مسلم مكلف فصح منه كالحر "مطلقا" سواء
كان مأذونا له في القتال أو لا، "أو أسيرا" نص
على ذلك وللعموم وبعضهم شرط فيه أن يكون
مختارا ولا حاجة إليه لأن المسلم الحر المطلق
لو أكره على اختلفا لم يصح فلا حاجة لاختصاص
الأسير به.
(3/299)
وفي أمان الصبي
المميز روايتان ويصح أمان الإمام لجميع
المشركين وأمان الأمير لمن جعل بإزائه وأمان
أحد الرعية للواحد والعشرة والقافلة ومن قال
لكافر أنت آمن.
ـــــــ
"وفي أمان الصبي المميز روايتان": إحداهما: لا
يصح لعدم تكليفه كالمجنون والثانية تصح وهي
المذهب قال أبو بكر رواية واحدة وحمل الأول
على غير المميز لعموم الخبر ولأنه عاقل فصح
منه كالبالغ بخلاف المجنون وظاهره أنه يصح
منجزا ومعلقا بشرط.
ومن شرط صحته أن يكون مختارا ولم يصرح به
للعلم به وعدم الضرر علينا وأن لا تزيد مدته
على عشر سنين قاله في "الترغيب". وفي جواز
إقامتهم بدارنا هذه المدة بلا جزية وجهان وشرط
في "عيون المسائل" لصحته معرفة المصلحة فيه
وذكر جماعة الإجماع في المرأة بدون هذا الشرط.
"ويصح أمان الإمام لجميع المشركين"، لأن
ولايته عامة، "وأمان الأمير لمن جعل بإزائه"
أي: بحذائه لأن له الولاية عليهم فقط فدل على
أنه كآحاد المسلمين في حق غيرهم، "وأمان أحد
الرعية" قال الجوهري الرعية العامة "للواحد
والعشرة والقافلة"، كذا ذكره معظمهم لعموم
الخبر فقيل لقافلة صغيرة وحصن صغير وجزم به في
"الشرح"، لأن عمر أجاز أمان العبد لأهل الحصن.
فعلى هذا لا يصح لأهل بلدة كبيرة لا رستاق
وجمع كبير لأنه يفضي إلى تعطيل الجهاد
والافتئات على الإمام وأطلق في "الروضة": كحصن
أو بلد وأنه يستحب أن لا يجار على الأمير إلا
بإذنه وقيل لمائة.
فرع: يصح أمان غير الإمام للأسير بعد
الاستيلاء عليه فيعصمه من القتل نص عليه لقصة
زينب في أمانها لزوجها وقال القاضي في
"المجرد": لا يصح إلا من الإمام لأن أمر
الأسير إليه فلا يجوز الافتئات عليه.
"ومن قال لكافر: أنت آمن"، فقد أمنه لقوله
عليه السلام يوم فتح مكة "من دخل دار أبي
سفيان، فهو آمن" كقوله: لا خوف عليك ولا تذهل
وكما لو
(3/300)
أو: لا بأس
عليك أو أجرتك أو قف أو ألق سلاحك أو مترس فقد
أمنه ومن جاء بمشرك فادعى أنه أمنه فأنكره
فالقول قوله
ـــــــ
أمن يده أو بعضه، "أو: لا بأس عليك"، لأن عمر
لما قال للهرمزان لا بأس عليك قالت له الصحابة
قد أمنته لا سبيل لك عليه رواه سعيد. "أو:
أجرتك" لقوله عليه السلام: "قد أجرنا من أجرت
يا أم هانئ" "أو: قف" كـ:قم، "أو: ألق سلاحك"
لأن الكافر يعتقده أمانا أشبه ما لو سلم عليه
"أو: مترس" ومعناه لا تخف وهو بفتح الميم
والتاء وسكون الراء وآخره سين مهملة ويجوز
سكون التاء وفتح الراء وهي كلمة أعجمية "فقد
أمنه"، لقول ابن مسعود: إن الله يعلم كل لسان
فمن كان منكم أعجميا فقال مترس فقد أمنه
والإشارة كالقول.
قال عمر: لو أن أحدكم أشار بأصبعه إلى السماء
إلى مشرك فنزل إليه فقتله لقتلته رواه سعيد
وقال أحمد إذا أشير إليه بشيء غير الأمان فظنه
أمانا فهو أمان وكل شيء يرى العلج أنه أمان
فهو أمان وقال إذا اشتراه ليقتله فلا يقتله
لأنه إذا اشتراه فقد أمنه.
فإن قلت: كيف يصح الأمان بالإشارة مع القدرة
على النطق بخلاف البيع والطلاق قلت تغليبا
لحقن الدم مع أن الحاجة داعية إلى الإشارة لأن
الغالب فيهم عدم فهم كلام المسلمين، كالعكس.
وشرط انعقاد الأمان أن لا يرده الكافر لأنه
إيجاب حق فلم يصح مع الرد كالبيع وإن قبله ثم
رده انتقض لأنه حق له فسقط بإسقاطه كالرق.
فرع: يقبل قول عدل إني أمنته في الأصح
كإخبارهما أنهما أمناه لأنهما غير مهتمين
كالمرضعة على فعلها وإذا أمنه سرى إلى ما معه
من أهل ومال إلا أن يقول أمنتك نفسك فقط.
"ومن جاء بمشرك فادعى أنه أمنه فأنكره، فالقول
قوله" أي: قول المنكر المسلم هذا هو المجزوم
به لأن الأصل إباحة دم الحربي وعدم الأمان.
"وعنه: قول الأسير" اختاره أبو بكر، لأن صدقه
محتمل فيكون قوله شبهة في حقن
(3/301)
وعنه: قول
الأسير وعنه قول من يدل الحال على صدقه ومن
أعطي أمانا ليفتح حصنا ففتحه واشتبه علينا حرم
قتلهم واسترقاقهم وقال أبو بكر يخرج واحد
بالقرعة ويسترق الباقون.
ـــــــ
دمه. "وعنه: قول من يدل الحال على صدقه"، لأن
ظاهر الحال قرينة تدل على الصدق فعلى هذا إن
كان الكافر ذا قوة ومعه سلاحه فالظاهر صدقة
وإن كان ضعيفا مسلوبا سلاحه فالظاهر كذبه فلا
يلتفت إليه لأنه قد تنازع الحكم أصلان:
أحدها: مخالفة الأصل للدعوى الموجبة.
والثاني: احتمال الصدق في الدعوى المانعة فوجب
الترجيح بالقرينة قال في "الفروع": ويتوجه
مثله أعلاج استقبلوا سرية دخلت بلد الروم
فقالوا جئنا مستأمنين قال في رواية أبي داود
إن استدل عليهم بشيء قلت إن هم وقفوا فلم
يبرحوا ولم يجردوا سلاحا فرأى لهم الأمان.
فرع: إذا طلب الكافر الأمان ليسمع كلام الله
ويعرف شرائع الإسلام لزم إجابته ثم يرد إلى
مأمنه بغير خلاف نعلمه للنص قال الأوزاعي هي
إلى يوم القيامة.
"ومن أعطي أمانا ليفتح حصنا ففتحه" أو أسلم
واحد منهم "واشتبه علينا، حرم قتلهم"، نص عليه
لأن كل واحد منهم يحتمل صدقه واشتبه المباح
بالمحرم فيما لا ضرورة إليه فوجب تغليب
التحريم كما لو اشتبه زان محصن بمعصومين.
"واسترقاقهم"، لأن استرقاق من لا يحل استرقاقه
محرم.
وعلم منه أن المسلمين إذا حاصروا حصنا فطلب
واحد منهم الأمان ليفتحه لهم جاز أن يعطوه
أمانا لقول الأشعث بن قيس. "وقال أبو بكر"
وصاحب "التبصرة": "يخرج واحد بالقرعة"، لأن
الحق واحد منهم غير معين ويخرج صاحب الأمان
بها، "ويسترق الباقون"، كما لو أعتق عبدا من
عبيده ثم أشكل بخلاف القتل فإنه يدرأ بها
بالشبهة قال في "الفروع": ويتوجه مثله. لو نسي
أو
(3/302)
ويجوز عقد
الأمان للرسول والمستأمن ويقيمون مدة الهدنة
بغير جزية وقال أبو الخطاب لا يقيمون سنة إلا
بجزية ومن دخل دار الإسلام بغير أمان فادعى
أنه رسول أو تاجر ومعه متاع يبيعه قبل منه.
ـــــــ
اشتبه من لزمه قود فلا قود وفي الدية بقرعة
الخلاف.
"ويجوز عقد الأمان للرسول والمستأمن"، لأنه
عليه السلام كان يؤمن رسل المشركين ولما جاءه
رسل مسيلمة قال: "لولا أن الرسل لا تقتل
لقتلتكم" ، ولأن الحاجة داعية إلى ذلك إذ لو
قتل لفاتت مصلحة المراسلة وظاهره جواز عقد
الأمان لكل منها مطلقا ومقيدا بمدة قصيرة
وطويلة بخلاف الهدنة فإنها لا تجوز إلا مقيدة
لأن في جوازها مطلقا تركا للجهاد.
"ويقيمون مدة الهدنة" أي: الأمان "بغير جزية"،
نص عليه وقاله القاضي وجزم به في "الوجيز"،
لأنه كافر أبيح له الإقامة في دارنا من غير
التزام جزية فلم يلزمه كالنساء. "وقال أبو
الخطاب: لا يقيمون سنة إلا بجزية"، واختاره
الشيخ تقي الدين لقوله تعالى: {حَتَّى
يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ} [التوبة: 29]
وأجيب بأن معناه أي يلتزمونها ولم يرد حقيقة
الإعطاء ولأنها تخصصت بما دون الحول اتفاقا
فيقاس على المحل المخصوص.
"ومن دخل دار الإسلام بغير أمان فادعى أنه
رسول أو تاجر ومعه متاع يبيعه قبل منه" لأن ما
ادعاه ممكن فيكون شبهة في درء القتل ولأنه
يتعذر إقامة البينة على ذلك وفيه دلالة على
أنه لا يتعرض إليه وصرح به الأصحاب أما الرسول
فلما سبق وأما التاجر فلأنه إذا جاء بماله ولا
سلاح معه دل على قصده الأمان ولم يشترط المؤلف
هنا أن تكون العادة جارية به والمذهب اشترطه
لأن العادة جارية مجرى الشرط فإذا انتفت ودخل
بغير أمان وجب بقاؤه على ما كان عليه من عدم
العصمة وظاهره أنه إذا لم يكن معه تجارة لا
يقبل منه إذا قال جئت مستأمنا لأنه غير صادق.
(3/303)
وإن كان جاسوسا
خير الإمام فيه كالأسير وإن كان ممن ضل
الطريق، أو حملته الريح في مركب إلينا فهو لمن
أخذه وعنه يكون فيئا للمسلمين.
وإذا أودع المستأمن ماله مسلما أو أقرضه إياه
ثم عاد إلى دار الحرب بقي الأمان في ماله،
ـــــــ
"وإن كان جاسوسا" وهو صاحب سر الشر وعكسه
الناموس "خير الإمام فيه، كالأسير" وهو قول
الأوزاعي لأنه كافر قصد نكاية المسلمين فخير
الإمام فيه بعد القدرة عليه. "وإن كان ممن ضل
الطريق أو حملته الريح في مركب إلينا فهو لمن
أخذه" على المذهب، لأنه مباح ظهر عليه بغير
قتال في دار الإسلام فكان لآخذه كالصيد وكذا
لو شرد إلينا دابة من دوابهم أو أبق رقيق.
وظاهره أنه لآخذه غير مخموس، وصرح به في
"المحرر". "وعنه: يكون فيئا للمسلمين"، لأنه
مال مشرك ظهر عليه بغير قتال أشبه ما لو تركوه
فزعا وعنه إن دخل قرية وأخذوه فهو لأهلها لأنه
إنما تمكن بأخذه بقوتهم.
تنبيه: يحرم دخوله إلينا بلا إذن وعنه يجوز
رسولا وتاجرا اختاره أبو بكر وفي "الترغيب":
دخوله لسفارة أو لسماع قرآن أمن بلا عقد لا
لتجارة على الأصح فيها بلا عادة فإذا دخل
إلينا بأمان فجار انتقض أمانه لأن ذلك غدر ولا
يصلح في ديننا ولو دخل دار الحرب رسول أو تاجر
بأمانهم فخيانتهم محرمة عليه وإن لم يذكر لأن
المعنى يدل.
"وإذا أودع المستأمن ماله مسلما أو أقرضه إياه
ثم عاد إلى دار الحرب" مقيما أو نقض ذمي عهده
ولحق بدار الحرب أو لم يلحق "بقي الأمان في
ماله" هذا هو المشهور لأنه لما دخل دار
الإسلام بأمان ثبت لماله فإذا بطل في نفسه
بدخوله إليها بقي في ماله الذي لم يدخل
الاختصاص المبطل بنفسه لا يقال إذا بطل في
المتبوع فالتابع كذلك لأنه لم يثبت فيه تبعا
وإنما ثبت فيهما جميعا فإذا بطل في إحداهما
بقي الآخر ولو سلم فيجوز بقاء حكم التبع وإن
(3/304)
ويبعث إليه إن
طلبه فإن مات فهو لوارثه فإن لم يكن له وارث
فهو فيء وإن أسر الكفار مسلما فأطلقوه بشرط أن
يقيم عندهم مدة لزمه الوفاء لهم.
ـــــــ
زال في المتبوع لأن أم الولد ثبت لولدها حكم
الاستيلاد تبعا لها ويبقى حكمه له بعد موتها.
وقيل ينتقض فيه ويصير فيئا قدمه في "المحرر"،
لأنه مال حربي قدر عليه بغير حرب فيكون فيئا
كمال من لا وارث له منهم وظاهر كلام أحمد أنه
ينتقض في مال الذمي دون الحربي وصححه في
"المحرر"، لأن الأمان ثبت في مال الحربي
بدخوله معه فالأمان ثابت فيه على وجه الأصالة
كما لو بعثه مع وكيل أو مضارب بخلاف مال الذمي
فإنه يثبت له تبعا لأنه مكتسب بعد عقد ذمة
وقولنا: "مقيما" يخرج به ما لو خرج إليها
لتجارة أو رسالة فإن أمانه باق لأنه لم يخرج
به عن نية الإقامة بدار الإسلام.
"و" على الأول "يبعث إليه إن طلبه" لأنه ملكه
فلو تصرف فيه صح. "فإن مات" بدار الحرب، "فهو
لوارثه"، لأن الأمان لم يبطل فيه وينتقل إليه
على صفته من تأجيل ورهن فكذا هنا. "فإن لم يكن
له وارث، فهو فيء"، لأنه مال كافر لا مستحق له
فصار فيئا كما لو مات في دارنا وذكر القاضي
أنه إذا كان له وارث في دار الإسلام لم يرثه
لاختلاف الدارين فلو لم يمت حتى أسر واسترق
فقيل يصير فيئا اختاره المجد والأشهر أنه يوقف
فإن عتق أخذه لأنه مال لمالك لم يوجد فيه سبب
الانتقال فيتوقف حتى يتحقق السبب وإن مات قنا
ففيء لأن الرقيق لا يورث وقيل لوارثه لأن
بموته على الرق تبينا بطلان ملكه من حين
استرقاقه فيكون لورثته.
"وإن أسر الكفار مسلما فأطلقوه بشرط أن يقيم
عندهم مدة" أو أبدا قاله في "المحرر"
و"الفروع" "لزمه الوفاء لهم" نص عليه لقوله
تعالى: {وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا
عَاهَدْتُمْ} [النحل: 91]، ولقوله عليه
السلام: "المسلمون على شروطهم". فعليه ليس له
أن يهرب وقيل بلى.
(3/305)
وإن لم يشرطوا
شيئا أو شرطوا كونه رقيقا فله أن يقتل ويسرق
ويهرب وإن أطلقوه بشرط أن يبعث إليهم مالا وإن
عجز عنه عاد إليهم لزمه الوفاء لهم إلا أن
يكون امرأة فلا ترجع إليهم وقال الخرقي لا
يرجع الرجل أيضا.
ـــــــ
"وإن" أطلقوه و"لم يشرطوا شيئا أو شرطوا كونه
رقيقا" ولم يؤمنوه "له أن يقتل ويسرق ويهرب"
نص عليه لأنه لم يصدر منه ما يثبت به الأمان
لأن الإطلاق من الوثاق لا يكون أمانا ومع الرق
ينتفي الأمان لكن قال أحمد إذا أطلقوه فقد
أمنوه فلو أحلفوه مكرها لم ينعقد وفي "الشرح":
احتمال لا يلزمه الإقامة فإن أطلقوه وأمنوه
فله الهرب لا الخيانة ويرد ما أخذ منهم لأنهم
صاروا بأمانة في أمان منه فإذا خالف فهو غادر.
"وإن أطلقوه بشرط أن يبعث إليهم مالا"
باختياره لزمه إنفاذ المال إليهم إذا قدر عليه
لأنه عاهدهم على أداء مال فلزمه الوفاء به
كثمن البيع. "وإن عجز عنه عاد إليهم لزمه
الوفاء لهم" نص عليهما ولأن في الوفاء مصلحة
للأسارى وفي الغدر مفسدة في حقهم لكونهم لا
يأمنون بعده والحاجة داعية إليه "إلا أن يكون
امرأة فلا يرجع إليهم" لقوله تعالى: {فَلا
تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ} [الممتحنة:
10]، ولأن في رجوعها تسليطا لهم على وطئها
حراما.
"وقال الخرقي: لا يرجع الرجل أيضا"، وهو رواية
عن أحمد وقاله الحسن والنخعي والثوري لأن
الرجوع إليهم والبقاء في أيديهم معصية فلم
يلزم بالشرط كالمرأة وكما لو شرط قتل مسلم
والأول المذهب لأنه عليه السلام لما عاهد
قريشا على رد من جاء مسلما فرد أبا جندل إلى
أبيه سهيل ولم يأت أحد من الرجال في تلك المدة
إلا رد ه فإن تعارض فداء عالم وجاهل بدئ
بالجاهل للخوف عليه وقيل بالعالم لشرفه
وحاجتنا إليه وكثرة الضرر بفتنته ولو جاء
العلج بأسير على أن يفادى بنفسه فلم يجد قال
أحمد يفديه المسلمون إن لم يفد من بيت المال
ولا يرد.
مسألة: إذا اشتراه مسلم بإذنه لزمه ما اشتراه
به لأنه كنائبه في شراء نفسه.
(3/306)
ـــــــ
وكذا إن كان بغير إذنه والمراد ما لم ينو
التبرع فلو اختلفا في قدر الثمن قدم قول
الأسير بالأصل ويجب فداء أسارى المسلمين مع
الإمكان لقوله: "وفكوا العاني". وكذا شراء
أسرى أهل الذمة وقاله الخرقي لأنا قد التزمنا
حفظهم بأخذ جزيتهم فلزمنا الدفع من ورائهم
وقال القاضي لا يجب إلا إذا استعان بهم الإمام
في قتالهم فيبدأ بفداء أسارى المسلمين قبلهم
لحرمتهم.
(3/307)
باب الهدنة
ولا يصح عقد الهدنة والذمة إلا من الإمام أو
نائبه.
ـــــــ
باب الهدنة
وأصلها: السكون وشرعا هي عقد إمام أو نائبه
على ترك القتال مدة معلومة لازمة ويسمى مهادنة
وموادعة ومعاهدة ومسالمة والأصل فيها قوله
تعالى: { بَرَاءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ}
[التوبة: 1] {وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ
فَاجْنَحْ لَهَا} [الأنفال: 61] والسنة ما روى
مروان بن الحكم والمسور بن مخرمة أن النبي صلى
الله عليه وسلم صالح قريشا على وضع القتال عشر
سنين والمعنى لأنه قد يكون بالمسلمين ضعف
فيهادنهم حتى يقووا.
"ولا يصح عقد الهدنة والذمة إلا من الإمام"،
لفعله عليه السلام أو نائبه لأنه نائب عنه
ومنزل منزلته وهو يتعلق بنظر واجتهاد وليس
غيرهما محلا لذلك لعدم ولايتهم ولو جوز ذلك
للآحاد لزم تعطيل الجهاد وفي "الترغيب": لآحاد
الولاة عقده مع أهل قرية فعلى الأول لو هادنهم
غير الإمام أو نائبه لم يصح فلو دخل بعضهم
بهذا الصلح دار الإسلام كان آمنا لاعتقاده ولا
يقر في دار الإسلام بل يرد إلى دار الحرب ولو
مات الإمام أو نائبه بعد العقد أو عزل لم
ينتقض عهده وعلى الثاني يلزمه إمضاؤه لئلا
ينقض الاجتهاد بالاجتهاد ويستمر ما لم ينقضه
الكفار بقتال أو غيره.
(3/307)
فمتى رأى
المصلحة في عقد الهدنة جاز له عقدها مدة
معلومة وإن طالت وعنه لا يجوز في أكثر من عشر
سنين فإن زاد على العشر بطل في الزيادة وفي
العشر روايتان.
ـــــــ
"فمتى رأى المصلحة في عقد الهدنة" إما لضعف
المسلمين عن القتال وإما بإعطاء مال منا ضرورة
لأنه مصلحة للمسلمين ليتقوا به على عهودهم
"جاز له عقدها"، لأنه عليه السلام هادن قريشا
"مدة معلومة وإن طالت"، لأن ما وجب تقديره وجب
أن يكون معلوما كخيار الشرط وفيه وجه كالخيار
إذ لا محذور فيه وظاهره أنه يجوز في الطويلة
كالقصيرة على المذهب لأنها تجوز في أقل من عشر
فجازت في أكثر منها كمدة الإجارة ولأنه إنما
جاز عقدها للمصلحة فحيث وجدت جازت تحصيلا
للمصلحة.
"وعنه: لا يجوز في أكثر من عشر سنين" قال
القاضي هو ظاهر كلام أحمد واختاره أبو بكر
لقوله تعالى: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ}
الآية [التوبة: 5] خص منه العشر لفعله عليه
السلام فيبقى ما عداه على مقتضى العموم. "فإن
زاد على العشر بطل في الزيادة"، لأنه ممنوع
منها، "وفي العشر روايتان" مبنيتان على تفريق
الصفقة والأصح عدم البطلان وظاهره أنه إذا
عقدها مجانا مع قوة المسلمين واستظهارهم لا
يجوز لعدم المصلحة إلا أن يكون لمصلحة رجاء
إسلامهم فيجوز في رواية لأنه عليه السلام صالح
أهل الحديبية على غير مال بل لمصلحة ترك
قتالهم في الحرم تعظيما لشعائر الله والثانية
المنع لأنه ترك للقتال من غير حاجة ولا بدل.
وفي "الإرشاد" و"المبهج" و"المحرر": على
المنع: يجوز أربعة أشهر لقوله تعالى:
{فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ
أَشْهُرٍ} [التوبة: 2] وفيما فوقها ودون الحول
وجهان فأما الحول فلا يجوز قال بعضهم وجها
واحدا.
تنبيه: لا يجوز عقدها بمال منا إلا لضرورة
شديدة مثل أن يحاط بطائفة من المسلمين وفي
"الفنون": لضعفنا مع المصلحة وقال أبو يعلى
الصغير لحاجة وكذا قاله أبو يعلى في "الخلاف":
في المؤلفة واحتج لعزمه عليه السلام على بذل
شطر نخل المدينة.
(3/308)
وإن هادنهم
مطلقا لم يصح وإن شرط شرطا فاسدا كنقضها متى
شاء أو رد النساء إليهم أو صداقهن أو سلاحهم
ـــــــ
"وإن هادنهم مطلقا، لم يصح"، لأن إطلاق ذلك
يقتضي التأبيد وذلك يفضي إلى ترك الجهاد
بالكلية وهو غير جائز.
"وإن شرط شرطا فاسدا، كنقضها متى شاء"، لأنه
ينافي مقتضى العقد إذ هو عقد مؤقت فكان تعليقه
على المشيئة باطلا كالإجارة وكذا إن قال
هادنتكم ما شئنا أو شاء فلان لم يصح في الأصح
لقوله: "نقركم ما أقركم الله". واختار الشيخ
تقي الدين صحته وهي جائزة ويعمل بالمصلحة وأخذ
صاحب "الهدي" من قوله: "نقركم ما أقركم الله"
جواز إجلاء أهل الذمة من دار الإسلام إذا
استغنى عنهم وقد أجلاهم عمر وهو قول ابن جرير.
"أو رد النساء" المسلمات "إليهم"، لقوله
تعالى: {فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى
الْكُفَّارِ} [الممتحنة: 10] ولقوله عليه
السلام: "إن الله قد منع الصلح في النساء" ،
ولأنه لا يؤمن أن تفتن في دينها ولا يمكنها أن
تغزو وكذا شرط رد صبي مسلم عاقل لأنه بمنزلتها
في ضعف العقل والعجز عن التخلص والهرب بخلاف
الكفل الذي لا يصح إسلامه فيجوز شرط ردنا.
"أو صداقهن" على الأصح لأن بضع المرأة لا يدخل
في الأمان والثانية يصح لقوله تعالى:
{وَآتُوهُمْ مَا أَنْفَقُوا} [الممتحنة: 10]،
ولأنه عليه السلام رد المهر وأجيب بأنه شرط رد
النساء وكان شرطا صحيحا ثم نسخ فوجب رد البدل
لصحة الشرط بخلاف حكم من بعهده فإن رد النساء
نسخ فلم يبقى صحيحا ونصر في "المبهج" الأولى
كما لو لم يشترط وفي لزوم مسلم تزوجها رد
مهرها الذي كان دفعه إليها زوج كافر إليه
روايتان وقدم في "الانتصار" رد المهر مطلقا إن
جاء بعد العدة وإلا ردت إليه ثم ادعى نسخه وأن
نص أحمد لا يرده.
"أو" رد "سلاحهم" وكذا إعطاؤهم شيئا من سلاحنا
أو من آلات الحرب،
(3/309)
أو إدخالهم
الحرم بطل الشرط وفي العقد وجهان وإن شرط رد
من جاء من الرجال مسلما جاز ولا يمنعهم أخذه
ولا يجبره على ذلك وله أن يأمره بقتالهم
والفرار منهم وعلى الإمام حماية من هادنه من
المسلمين دون غيرهم
ـــــــ
"أو إدخالهم الحرم"، لقوله تعالى: {إِنَّمَا
الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا
الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ
هَذَا} [التوبة: 28] "بطل الشرط" في الكل.
"وفي العقد وجهان" مبنيان على الشروط الفاسدة
في البيع. لكن في "المغني" و"الشرح": إذا شرط
أن لكل واحد نقضها متى شاء فإنه ينبغي أن لا
يصح وجها واحدا لأن طائفة الكفار يبنون على
هذا الشرط فلا يحصل إلا من الجهتين فيفوت معنى
الهدنة.
"وإن شرط" هذا شروع في الشرط الصحيح وقدم
الفاسد عليها لأنها أقرب إلى العدم "رد من جاء
من الرجال مسلما، جاز"، لأنه عليه السلام فعل
ذلك وظاهره وإن لم يكن له عشيرة تحميه ومحله
عند الحاجة صرح به الجماعة فأما مع استظهار
المسلمين وقوتهم فلا. "ولا يمنعهم أخذه"، لأن
أبا بصير جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم في
صلح الحديبية فجاءوا في طلبه فقال له النبي
صلى الله عليه وسلم: "إنا لا يصلح في ديننا
الغدر وقد علمت ما عاهدناهم عليه ولعل الله أن
يجعل لك فرجا ومخرجا" فرجع مع الرجلين فقتل
أحدهما ورجع فلم يلمه النبي صلى الله عليه
وسلم. "ولا يجبره على ذلك"، لأنه عليه السلام
لم يجبر أبا بصير ولأن في إجباره على المضي
معهم إجبارا له على ما لا يجوز "وله أن يأمره"
سرا "بقتالهم والفرار منهم"، لأنه رجوع إلى
باطل فكان له الأمر بعدمه كالمرأة إذا سمعت
طلاقها وفي "الترغيب": يعرض له أن لا يرجع.
"وعلى الإمام حماية من هادنه من المسلمين"،
لأنه أمنه ممن هو في قبضته وتحت يده وكذا
يلزمه حماية أهل الذمة من أهل الذمة صرح به
أكثر الأصحاب وتركه المؤلف لظهوره لأنه إذا
وجبت حمايتهم من المسلمين فلأن يجب من أهل
الذمة بطريق الأولى فعلى هذا لو أتلف من
المسلمين أو من أهل الذمة عليهم شيئا فعليه
ضمانه. "دون غيرهم" أي: ليس عليهم حمايتهم من
أهل الحرب ولا حماية بعضهم بعضا لأن الهدنة
التزام الكف عنهم فقط.
(3/310)
وإن سباهم كفار
آخرون لم يجز لنا شراؤهم وإن خاف نقض العهد
منهم نبذ إليهم عهدهم.
ـــــــ
"وإن سباهم كفار آخرون" بأن أغاروا عليهم أو
سبى بعضهم بعضا "لم يجز لنا شراؤهم" في الأصح
لأن الأمان يقتضي رفع الأذى عنهم وفي
استرقاقهم أذى لهم بالإذلال بالرق فلم يجز
كسبهم والواحد كالكل.
وظاهره: أنه لا يلزم الإمام استنقاذهم وذكر
الشيخ تقي الدين رواية منصوصة لنا شراؤهم من
سابيهم وذكره في "الشرح" احتمالا، لأنه لا يجب
عليه الدفع عنهم فلا يحرم استرقاقهم بخلاف أهل
الذمة وينبني عليهما لو ظهر المسلمون على
الذين أسروهم وأخذوا مالهم واستنفذوا ذلك منهم
لم يلزمه رد على الثاني لا الأول ويجوز لنا
شراء ولدهم وأهلهم منه إذا باعه كحربي وعنه
يحرم كذمة ولأنهم في أمان منا وكما لو سبى
بعضهم بعضا فباعه منا بخلاف ما إذا سبى بعضهم
ولد بعض وباعه فإنه يصح.
"وإن خاف نقض العهد منهم نبذ إليهم عهدهم"
بخلاف أهل الذمة فيقول لهم قد نبذت عهدكم
وعدتم حربا لقوله تعالى: {وَإِمَّا تَخَافَنَّ
مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ
عَلَى سَوَاءٍ} [الأنفال: 85] يعني: أعلمهم
بنقض العهد حتى تصير أنت وهم سواء في العلم
ويجب إعلامهم قبل الإغارة وفي "الترغيب": إن
صدر منهم خيانة فإن علموا أنها خيانة أغظناهم
وإلا فوجهان فلو نقضه وفي دارنا منهم أحد وجب
رده إلى مأمنه لأنهم دخلوا بأمان وإن كان
عليهم حق استوفي وينتقض عهد نساء وذرية تبعا
لهم وفي جواز قتل رهائنهم بقتلهم رهائننا
روايتان.
(3/311)
باب عقد الذمة
ـــــــ
باب عقد الذمة
قال أبو عبيد: الذمة: الأمان، لقوله صلى الله
عليه وسلم: "يسعى بذمتهم أدناهم". والذمة:
الضمان والعهد من أذمه يذمه إذا جعل له عهدا
ومعنى عقد الذمة: إقرار
(3/311)
لا يجوز عقدها
إلا لأهل الكتاب وهم اليهود والنصارى ومن
يوافقهم في التدين بالتوراة والإنجيل كالسامرة
والفرنج
ـــــــ
بعض الكفار على كفره بشرط بذل الجزية والتزام
أحكام الملة.
"لا يجوز عقدها إلا" من الإمام أو نائبه في
الأشهر وحينئذ يجب عقدها إذا اجتمعت شروطها ما
لم يخف غائلة منهم.
وصفة عقدها: أقررتكم بجزية أو يبذلونها فيقول
أقررتكم على ذلك والجزية مال يؤخذ منهم على
وجه الصغار كل عام بدلا عن قتلهم وإقامتهم
بدارنا.
"لأهل الكتاب، وهم اليهود" واحدهم يهودي حذفوا
ياء النسبة في الجمع كزنج وزنجي وفي تسميتهم
بذلك لأنهم هادوا عن عبادة العجل أي تابوا أو
لأنهم مالوا عن دين الإسلام أو أنهم يهودون
عند قراءة التوراة أي يتحركون أو لنسبهم إلى
يهوذا بن يعقوب بالمعجمة ثم عربت بالمهملة.
"والنصارى" واحدهم نصراني والأنثى نصرانية
نسبة إلى قرية بالشام يقال لها نصران وناصرة.
"ومن يوافقهم في التدين بالتوراة والإنجيل
كالسامرة" وهي قبيلة من بني إسرائيل نسب إليهم
السامري ويقال لهم في زمننا سمرة بوزن سحرة
وهم طائفة من اليهود يتشددون في دينهم
ويخالفونهم في بعض الفروع.
"والفرنج" وهم الروم ويقال لهم بنو الأصفر
والأشبه أنها مولدة نسبة إلى فرنجة بفتح أوله
وثانيه وسكون ثالثه وهي جزيرة من جزائر البحر
والنسبة إليها فرنجي ثم حذفت.
والأصل فيه قوله تعالى: {قَاتِلُوا الَّذِينَ
لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} إلى قوله: {حَتَّى
يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ
صَاغِرُونَ} [التوبة: 29] وقول المغيرة بن
شعبة لعامل كسرى أمرنا النبي صلى الله عليه
وسلم أن نقاتلكم حتى تعبدوا الله وحده أو
تؤدوا الجزية رواه أحمد والبخاري والإجماع على
قبول الجزية ممن بذلها من أهل الكتاب، ومن
(3/312)
ومن له شبهة
كتاب كالمجوس وعنه يجوز عقدها لجميع الكفار
إلا عبدة الأوثان من العرب فأما الصابئ فينظر
فيه فإن انتسب إلى أحد الكتابين فهو من أهله
وإلا فلا
ـــــــ
يلحق بهم وإقرارهم بذلك في دار الإسلام.
"ومن له شبهة كتاب، كالمجوس" لأن عمر لم
يأخذها منهم حتى شهد عنده عبد الرحمن بن عوف
أن النبي صلى الله عليه وسلم أخذها من مجوس
هجر رواه البخاري وفي رواية أنه عليه السلام
قال: "سنوا بهم سنة أهل الكتاب" رواه الشافعي.
وإنما قيل لهم شبهة كتاب لأنه روي أنه كان لهم
كتاب فرفع فصار لهم بذلك شبهة أوجبت حقن
دمائهم وأخذ الجزية منهم ولم ينتهض في إباحة
نسائهم وحل ذبائحهم.
"وعنه: يجوز عقدها لجميع الكفار إلا عبدة
الأوثان من العرب"، لما روى الزهري أن النبي
صلى الله عليه وسلم صالح عبدة الأوثان على
الجزية إلا من كان من العرب.
وفي "الفنون": لم أجد أصحابنا ذكروا أن الوثني
يقر بجزية ثم ذكر أنه وجد رواية بخط أبي سعد
البرداني أن عبدة الأوثان يقرون بجزية فيعطي
هذا أنهم يقرون بجزية على عمل أصنام يعبدونها
في بيوتهم ولم يسمع بذلك في سيرة من سير السلف
وبعدها.
واختار الشيخ تقي الدين أخذها من الكل ومقتضى
ما ذكره أن عبدة الأوثان من العرب لا تقبل
منهم لكونهم من رهط النبي صلى الله عليه وسلم
وشرفوا به فلا يقرون دينه وغيرهم يقر بالجزية
لأنه يرق بالاسترقاق كالمجوس.
"فأما الصابئ فينظر فيه فإن انتسب إلى أحد
الكتابين فهو من أهله" وقاله جمع لأنه قد صار
مشاركا لأهله في ذلك الكتاب وإن سموا باسم آخر
لأن الموافقة في الدين توجب الموافقة في الحكم
والمذهب أنهم جنس من النصارى وروي عن أحمد أنه
قال إنهم يسبتون وهو قول عمر وقال مجاهد هم
بين اليهود والنصارى.
"وإلا فلا" أي: إن لم ينسب إلى ذلك فليس من
أهل الكتاب لأنه روي أنهم
(3/313)
ومن تهود أو
تنصر بعد بعث نبينا محمد صلى الله عليه وسلم
أو ولد بين أبوين لا تقبل الجزية من أحدهما
فعلى وجهين ولا تؤخذ الجزية من نصارى بني تغلب
ـــــــ
يقولون إن الفلك حي ناطق وإن الكواكب السبعة
آلهة وحينئذ فهم كعبدة الأوثان.
"ومن تهود أو تنصر" أو تمجس "بعد بعث نبينا
محمد صلى الله عليه وسلم" فالمذهب أنه يقر
عليه ويكون كالأصلي في قبول الجزية لأنه عليه
السلام كان يقبلها منهم من غير سؤال ولو اختلف
الحكم لسأل عنه، ولو وقع لنقل.
وعنه: لا تقبل منه إلا الإسلام أو القتل لأنه
بتركه الدين الأول هو مقر ببطلانه فلا يقر على
دين باطل غيره.
وعنه: يقر على غير المجوسية لأن التمجس لم يرد
به نص فيبقى على الأصل وعلم منه أن الانتقال
إليها قبل البعثة يكون من أهلها لأن الإسلام
أتى وهو على أصل الدين.
وفي "المذهب" و"الترغيب" و"المستوعب" وذكره
أبو الخطاب قبل البعثة بعد التبديل كبعد
البعثة وقدم في "التبصرة": ولو قبل التبديل.
"أو ولد بين أبو ين لا تقبل الجزية من أحدهما"
كولد الوثني من كتابية "فعلى وجهين":
أصحهما: أنها تقبل منه الجزية إذا اختار دين
الآخر لعموم النص فيهم ولأنه اختار أفضل
الدينين وأقلهما كفرا.
والثاني: لا يقبل منه سوى الإسلام لأنه تعارض
فيه القبول وعدمه فرجع إلى الأصل ومحل ذلك إذا
اختار من تقبل منه الجزية.
"ولا تؤخذ الجزية من نصارى بني تغلب" بن وائل
من العرب من ولد ربيعة بن نزار فإنهم انتقلوا
في الجاهلية إلى النصرانية فدعاهم عمر إلى بذل
الجزية فأبوا وقالوا نحن عرب خذ منا كما يأخذ
بعضكم من بعض باسم الصدقة فقال عمر:
(3/314)
وتؤخذ الزكاة
من أموالهم مثلي ما تؤخذ من المسلمين ويؤخذ
ذلك من نسائهم وصبيانهم ومجانينهم ومصرفه مصرف
الجزية وقال الخرقي مصرف الزكاة
ـــــــ
لا آخذ من مشرك صدقة فلحق بعضهم بالروم فقال
النعمان بن زرعة يا أمير المؤمنين إن القوم
لهم بأس وشدة وهم عرب يأنفون من الجزية فلا
تعن عليك عدوك بهم وخذ منهم الجزية باسم
الصدقة فبعث عمر في طلبهم فردهم.
"وتؤخذ الزكاة من أموالهم مثلي ما تؤخذ من
المسلمين"، لأن تمام حديث عمر أنه ضعف عليهم
من الإبل في كل خمس شاتان وفي كل ثلاثين بقرة
تبيعان وفي كل عشرين دينارا دينار وفي مئتي
درهم عشرة دراهم وفيما سقت السماء الخمس وفيما
سقي بنضح أو دولاب العشر واستقر ذلك من قوله
ولم ينكر فكان كالإجماع وفي عبارته تسامح
والأولى أن يقال وتؤخذ عوض الجزية منهم مثلا
زكاة المسلمين.
"ويؤخذ ذلك من نسائهم وصبيانهم ومجانينهم"
وكذا مكافيفهم وشيوخهم لأن اعتبارها بالأنفس
سقط وانتقل إلى الأموال بتقريرهم فيؤخذ من كل
مال زكوي سواء كان صاحبه من أهل الجزية أو لم
يكن ولأن نساءهم وصبيانهم صينوا عن السبي بهذا
الصلح ودخلوا في حكمه فجاز أن يدخلوا في
الواجب به كالرجال العقلاء.
فعلى هذا: من كان فقيرا أو له مال غير زكوي
فلا شيء عليه كما لا يجب على أهل الزكاة من
المسلمين وحينئذ يتقيد بالنصاب.
"ومصرفه مصرف الجزية" في الأشهر لأنه مأخوذ من
مشرك فكان جزية وغايته أنه جزية مسماة بالصدقة
ولذلك قال عمر هؤلاء حمقى رضوا بالمعنى و أبوا
الاسم.
"وقال الخرقي: مصرف الزكاة" هذا رواية
واختارها جمع لأنه مسمى بالصدقة فكان مصرفه
مصرفها. والأول أقيس لأن المعنى أخص من الاسم،
ولو
(3/315)
ولا يؤخذ ذلك
من كتابي غيرهم وقال القاضي تؤخذ من نصارى
العرب ويهودهم ولا جزية على صبي ولا امرأة
ـــــــ
كان صدقة على الحقيقة لجاز دفعها إلى فقراء من
أخذت منهم كصدقة المسلمين.
"ولا يؤخذ ذلك من كتابي غيرهم" نص عليه لقوله
تعالى: {مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ
حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ} [التوبة: 29]
ولقوله عليه السلام لمعاذ لما بعثه إلى اليمن:
"خذ من كل حالم دينارا" وهم عرب، قال الزهري
أول من أعطى الجزية أهل نجران وكانوا نصارى
وأخذها من أكيدر دومة وهو عربي وحكمها ثابت في
كل كتابي عربيا كان أو غيره إلا ما خص به بنو
تغلب لمصالحة عمر إياهم فيبقى ما عداهم على
مقتضى العموم ولا يصح قياس غيرهم عليهم لأوجه.
"وقال القاضي: تؤخذ من نصارى العرب ويهودهم"،
لأنهم من العرب أشبهوا بني تغلب وذكر هو و أبو
الخطاب أن حكم من تنصر من تنوخ وتهود من كنانة
وتمجس من تميم حكم بني تغلب سواء وقيل لا
واختارها المؤلف وحكاه نص أحمد.
فرع: للإمام مصالحة مثلهم من العرب إذا خشي
ضرره بقوة شوكة وأباها إلا باسم الصدقة مضعفة
نص عليه.
"ولا جزية على صبي"، لأن مثلهم ممتنع لأنهم
ليسوا من أهل القتال لقوله تعالى:
{قَاتِلُوا...} [التوبة: 29] والمقاتلة إنما
تكون من اثنين وكتب عمر إلى أمراء الأجناد أن
اضربوا الجزية ولا تضربوها على النساء
والصبيان رواه سعيد.
"ولا امرأة" لما ذكرنا فإن بذلتها أخبرت بأنها
لا يجب عليها فإن تبرعت بها قبلت وتكون هبة
تلزم بالقبض فإن شرطته على نفسها ثم رجعت فلها
ذلك فإن بذلتها لدخول دارنا مكثت بغير شيء لكن
يشترط أن تلتزم أحكام الإسلام وتعقد لها
الذمة.
وفي الخنثى المشكل وجهان جزم في "الشرح" بأنها
تجب لأنه لا يعلم كونه رجلا فإن بان رجلا
فللمستقبل ويتوجه وللماضي.
(3/316)
ولا مجنون ولا
زمن ولا أعمى ولا عبد ولا فقير يعجز عنها و من
بلغ أو أفاق أو استغنى فهو من أهلها
ـــــــ
"ولا مجنون"، لأنه في معنى الصبي، "ولا زمن
ولا أعمى" ولا شيخ فان ولا من هو في معناهم
كمن به داء لا يستطيع القتال معه ولا يرجى
زواله لأن الجزية لحقن الدم وهؤلاء دماؤهم
محقونة بدونها، كالنساء.
"ولا عبد"، لقوله عليه السلام: "لا جزية على
عبد" وعن ابن عمر مثله ولأنه مال فلم تجب عليه
كسائر الحيوانات ولا فرق بين أن يكون لمسلم
لأن إيجابها عليه يؤدي إلى إيجابها على المسلم
لكونه يؤدي عنه أو لكافر نص عليه وهو قول أكثر
العلماء وعنه تلزمه وتسقط بإسلام أحدهما
وظاهره ولو كان مكاتبا قال أحمد المكاتب عبد.
فرع: إذا أعتق العبد لزمته الجزية لما يستقبل
سواء كان معتقه مسلما أو كافرا وعنه يقر بغير
جزية وضعفها الخلال وعنه لا جزية عليه إن كان
معتقه مسلما لولايته عليه كالرق فإن كان معتقا
بعضه فيلزمه بقدر جزيته كالإرث في قياس
المذهب.
"ولا فقير"، لقوله تعالى: {لا يُكَلِّفُ
اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة:
286]، ولأنها مال يجب بحلول الحول فلم يلزم
الفقير كالزكاة يعجز عنها لأن الجزية خراج
الرؤوس وإنما يؤخذ الخراج بقدر الغلة وإذا لم
يكن له غلة لم يجب كالأرض التي لا تنبت شيئا
وظاهره أنه لو كان لا يعجز عنها وجبت لأنه في
حكم الأغنياء وفي الفقير العاجز عنها احتمال
بالوجوب كالفقير المعتمل على الأصح.
تنبيه: لا تلزم راهبا بصومعة ولم يقيده في
"المحرر" و"الوجيز" بها. وفيه وجه تجب لأن عمر
بن عبد العزيز فرضها على الرهبان على كل راهب
دينارا قال الشيخ تقي الدين لا يبقى في يده من
المال إلا بلغته وفي اتجاره أو زراعته وهو
مخالط لهم فيلزمه إجماعا.
"ومن بلغ أو أفاق أو استغنى" أو عتق، "فهو من
أهلها" أي: من أهل الجزية
(3/317)
بالعقد الأول
تؤخذ منه في آخر الحول بقدر ما أدرك ومن كان
يجن ويفيق لفقت إفاقته فإذا بلغت حولا أخذت
منه ويحتمل أن تؤخذ منه في آخر كل حول بقدر
إفاقته منه وتقسم الجزية بينهم فيجعل على
الغني ثمانية وأربعون درهما وعلى المتوسط
أربعة وعشرون وعلى الفقير أثنا عشر
ـــــــ
"بالعقد الأول" ولا يحتاج إلى استئناف عقد له
لأنه لم ينقل تجديده لمن ذكره لكون أن العقد
يقع مع سادتهم فيدخل فيه سائرهم وقال القاضي
يخير بين التزام العقد وبين أن يرد إلى مأمنه
فيجاب إلى ما يختار فعلى الأول: "تؤخذ منه في
آخر الحول"، لأن الجزية للسنة "بقدر ما أدرك"،
فعليه: إن صار أهلا من أول السنة أخذت منه في
آخره وإن كان في نصفه فنصفها على هذا الحساب
ولا يترك حتى يتم حولا من حين وجد سببه لأنه
يحتاج إلى إفراده بحول وضبط كل إنسان ويتعذر.
"ومن كان يجن ويفيق لفقت إفاقته"، لأنه أمكن
من غير مشقة "فإذا بلغت" إفاقته "حولا، أخذت
منه" لأن حوله لا يكمل إلا حينئذ.
"ويحتمل" هذا قول في المذهب "أن تؤخذ منه في
آخر كل حول بقدر إفاقته منه"، لأنها تؤخذ في
كل حول فوجب الأخذ بحسابه كالمعتق بعضه وقيل
يعتبر الغالب لأن الأكثر له حكم الكل وقيل
فيمن لا ينضبط أمره خاصة لأن مراعاة ذلك غير
ممكن.
"وتقسم الجزية بينهم" أي بين أهل الكتاب ومن
في معناهم "فيجعل على الغني ثمانية وأربعون
درهما" وهي أربعة دنانير "وعلى المتوسط أربعة
وعشرون" وهي ديناران "وعلى الفقير اثنا عشر"
وهي دينار لفعل عمر ذلك بمحضر من الصحابة ولم
ينكر وكان كالإجماع.
ويجاب عن قوله عليه السلام لمعاذ: "خذ من كل
حالم دينارا": بأن الفقر كان في أهل اليمن
أغلب ولذلك قيل لمجاهد ما شأن أهل الشام عليهم
أربعة دنانير وأهل اليمن عليهم دينار؟ قال:
جعل ذلك من أجل اليسار وبأن الجزية يرجع فيها
إلى اجتهاد الإمام وليس التقدير واجبا لأنها
وجبت صغارا وعقوبة، واختلفت
(3/318)
والغني منهم من
عده الناس غنيا في ظاهر المذهب ومتى بذلوا
الواجب عليهم لزم قبوله وحرم قتالهم ومن أسلم
بعد الحول سقطت عنه الجزية وإن مات أخذت من
تركته وقال القاضي تسقط
ـــــــ
باختلافهم وليست عوضا عن سكنى الدار وإلا
لوجبت على النساء ومن في معناهن.
فرع: يجوز أخذ القيمة نص عليه لقوله عليه
السلام: "أو عدله معافر"، ولتغليب حق الآدمي
فيها ويجوز أخذ ثمن الخمر والخنزير منهم لأنه
من أموالهم التي نقرهم على اقتنائهم كثيابهم.
"والغني منهم: من عده الناس غنيا في ظاهر
المذهب"، لأن المقادير توقيفية ولا توقيف هنا
فوجب رده إلى العرف كالقبض والحرز وقيل من ملك
نصابا وحكي رواية فهو غني كالمسلم وعنه من ملك
عشره آلاف دينار فهو غني.
"ومتى بذلوا الواجب عليهم لزم قبوله"، لقوله
عليه السلام لمعاذ: "ادعهم إلى الجزية فإن
أجابوك فاقبل بهم، وكف عنهم"، "وحرم قتالهم"،
لأن الله تعالى جعل إعطاء الجزية غاية لقتالهم
ويحرم التعرض إليهم بأخذ المال.
"ومن أسلم بعد الحول، سقطت عنه الجزية"، لعموم
قوله تعالى: {قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ
يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ}
[الأنفال: 38] وقوله عليه السلام: "الإسلام
يجب ما قبله" ، وعن ابن عباس مرفوعا: "ليس على
المسلم جزية" رواه أبو داود والترمذي.
ولأنها عقوبة سببها الكفر فسقطت بالإسلام وفي
"الإيضاح": لا تسقط به كسائر الديون وظاهره
أنه إذا أسلم قبل الوجوب لا تؤخذ منه بطريق
الأولى وقيل تجب بقسطه.
"وإن مات أخذت من تركته" على المذهب لأنها دين
فلم يسقط به كدين الآدمي وكما لو طرأ مانع في
الأصح. "وقال القاضي: تسقط"، لأنها عقوبة
(3/319)
وإن اجتمعت
عليه جزية سنين استوفيت كلها وتؤخذ الجزية في
آخر الحول ويمتهنون عند أخذها ويطال قيامهم
وتجر أيديهم ويجوز أن يشترط عليهم ضيافة من
يمر بهم من المسلمين وتبين أيام الضيافة وقدر
الطعام و الإدام والعلف وعدد من يضاف
ـــــــ
فسقطت به كالحد وجوابه بأنه إنما سقط الحد
لفوات محله بالموت وتعذر استيفائه.
"وإن اجتمعت عليه جزية سنين استوفيت كلها" ولم
يتداخل، كدين الآدمي ولأنها حق مال يجب في آخر
كل حول فلم يتداخل كالدية.
"وتؤخذ الجزية في آخر الحول"، لأنها مال يتكرر
بتكرر الحول فلم تؤخذ قبله كالزكاة ولا يصح
شرط تعجيله ولا يقتضيه الإطلاق قال الأصحاب
لأنا لا نأمن نقض أمانة فيسقط حقه من العوض
وعند أبي الخطاب يصح ويقتضيه الإطلاق.
"ويمتهنون عند أخذها" منهم "ويطال قيامهم وتجر
أيديهم"، لقوله تعالى: { حَتَّى يُعْطُوا
الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ}
[التوبة: 29] وظاهره أن هذه الصفة مستحقة فلا
يقبل إرسالها لزوال الصغار كما لا يجوز
تفرقتها بنفسه ولا يصح ضمانها وقيل مستحبة
فتنعكس الأحكام قال في "الشرح": وقيل الصغار
التزام الجزية وجريان أحكامنا عليهم وظاهره
أنهم لا يعذبون في أخذها ولا يشتط عليهم صرح
به في "الشرح" وغيره.
"ويجوز أن يشترط عليهم ضيافة من يمر بهم من
المسلمين"، لما روي أنه عليه السلام ضرب على
نصارى أيله ثلاثمائة دينار وكانوا ثلاثمائة
نفس وأن يضيفوا من مر بهم من المسلمين وعن عمر
أنه قضى عليهم ضيافة ثلاثة أيام وعلف دوابهم
وما يصلحهم ولأن في هذا ضربا من المصلحة.
"وتبين أيام الضيافة وقدر الطعام والإدام
والعلف وعدد من يضاف" كذا في "المحرر" وقاله
القاضي واقتصر في "الوجيز" على الأول ين لأن
الضيافة حق وجب فعله فوجب بيانه كالجزية.
(3/320)
ولا تجب من غير
شرط وقيل تجب فإذا تولى إمام فعرف قدر جزيتهم
وما شرط عليهم أقرهم عليه وإن لم يعرف رجع إلى
قولهم فإن بان له كذبهم رجع عليهم
ـــــــ
فلو شرط الضيافة وأطلق جاز ذكره في "الكافي"
و"الشرح"، لأن عمر لم يقدر ذلك وقال أطعموهم
مما تأكلون وقال أبو بكر الواجب يوم وليلة
كالمسلمين ولا يكلفون إلا من طعامهم وإدامهم
لكن قال القاضي لا يلزمهم الشعير مع الإطلاق
والظاهر بلى للخيل لأن العادة جارية به فهو
كالخبز للرجل.
مسألة: تقسم الضيافة بينهم على قدر جزيتهم فإن
جعل الضيافة مكان الجزية جاز ويشترط أن يبلغ
قدرها أصل الجزية إذا قلنا هي مقدرة لئلا ينقص
خراجه عن أقلها.
"ولا تجب" الضيافة "من غير شرط" ذكره القاضي
لأنها أداء مال فلا يلزمهم بغير رضاهم كالجزية
وقيل تجب بغير شرط لوجوبها على المسلمين
كالكافر فعلى هذا تجب ليوم وليلة صرح به في
"المحرر". وإن شرطها عليهم فامتنعوا من قبولها
لم تعقد لهم الذمة فلو قبلوا وامتنع البعض من
القيام بالواجب أجبر عليه كما لو امتنع الجميع
فإن لم يمكن إلا بالقتال قوتلوا فإن قاتلوا
انتقض عهدهم.
"فإذا تولى إمام فعرف قدر جزيتهم وما شرط
عليهم أقرهم عليه"، لأن الخلفاء أقروهم على
ذلك ولم يجددوا لمن كان في زمنهم عقدا ولأنه
عقد لازم كالإجارة وعقد بالاجتهاد فلا ينقض
قوله "فعرف": إما بمباشرته من قبل أو قامت به
بينة أو ظهر واعتبر في "المستوعب" ثبوته.
"وإن لم يعرف" ذلك "رجع إلى قولهم" في وجه
لأنه لا يمكن معرفته إلا من جهتهم والظاهر
صدقهم فإن اتهمهم فله تحليفهم لزوال التهمة.
"فإن بان" أو ظهر "له كذبهم" ببينة أو إقرار
"رجع عليهم" بالنقص، لوجوبه عليهم بالعقد
الأول فكان للإمام المتجدد أخذه كالأول.
(3/321)
وعند أبي
الخطاب أنه يستأنف العقد معهم وإذا عقد الذمة
كتب أسماءهم وأسماء آبائهم وحلاهم ودينهم وجعل
لكل طائفة عريفا يكشف حال من بلغ أو استغنى أو
أسلم أو سافر أو نقض العهد أو خرق شيئا من
أحكام الذمة
ـــــــ
"وعند أبي الخطاب: أنه يستأنف العقد معهم"،
لأنه لا سبيل إلى معرفته إلا من جهتهم وليسوا
بمأمونين ولا من جهة غيرهم لعدم العلم به فوجب
استئناف العقد باجتهاده كما لو لم يكن عقد
سابق وأطلق الخلاف في "المحرر" و"الفروع".
"وإذا عقد الذمة كتب أسماءهم وأسماء آبائهم"
فيقول: فلان ابن فلان "وحلاهم" جمع حلية
والمراد بها الحلية التي لا تختلف من طول وقصر
وسمرة وبياض أدعج العين أقنى الأنف مقرون
الحاجبين ونحوها "ودينهم" أي يهوديا أو
نصرانيا أو مجوسيا "وجعل لكل طائفة عريفا" وهو
القيم بأمور القبيلة أو الجماعة "يكشف حال من
بلغ"، لأن الجزية تجدد به "أو استغنى أو
أسلم"، لأنها تسقط به "أو سافر" لتعذر أخذها
مع السفر أو نقض العهد أي الذمة المعقودة له
أو خرق شيئا من أحكام الذمة ليفعل فيه الإمام
ما يجب فعله والحاجة داعية إلى معرفة ذلك كله.
خاتمة: ليس للإمام تغيير عقد الذمة لأنه عقد
مؤبد وقد عقده عمر معهم كذلك واختار ابن عقيل
جوازه لاختلاف المصلحة باختلاف الأزمنة وجعله
جماعة كتغيير خراج وجزية وكلام المؤلف يقتضي
الفرق وسبق ما يدل عليه.
فائدة: من أخذت منه الجزية كتبت له براءة
لتكون حجة له إذا احتاج إليها.
(3/322)
باب أحكام
الذمة
ـــــــ
باب أحكام الذمة
وأحكامهم: ما يجب عليهم أو يجب لهم بعد عقد
الذمة مما يقتضيه عقدها لهم.
(3/322)
يلزم الإمام أن
يأخذهم بأحكام المسلمين في ضمان النفس والمال
والعرض وإقامة الحدود عليهم فيما دون ما
يعتقدون حله ويلزمهم التميز عن المسلمين في
شعورهم بحذف مقادم رؤوسهم وترك الفراق وكناهم
فلا يتكنون بكنى المسلمين كأبي القاسم وأبي
عبد الله
ـــــــ
"يلزم الإمام أن يأخذهم بأحكام المسلمين في
ضمان النفس" فلو قتل أو قطع طرفا أخذ به
كالمسلم "والمال" فلو أتلف مالا لغيره ضمنه
"والعرض" وسيأتي لأن الإسلام نسخ كل حكم
يخالفه "و" يلزمه "إقامة الحدود عليهم فيما
يعتقدون تحريمه" كالسرقة والقذف، لما في
الصحيح عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه
وسلم أتي برجل وامرأة من اليهود زنيا فرجمهما.
ولأنه محرم في دينهم وقد التزموا حكم الإسلام
فثبت في حقهم كالمسلم وعنه إن شاء لم يقم حد
زنى بعضهم من بعض اختاره ابن حامد ومثله قطع
سرقة بعضهم من بعض.
"دون ما يعتقدون حله" كشرب الخمر وأكل الخنزير
ونكاح ذوات المحارم للمجوس لأنهم يقرون عليه
لأنه يقال أقرهم على ذلك بإعطاء الجزية ولأنهم
يقرون على كفرهم وهو أعظم إثما من ذلك فلأن
يقروا على ما ذكرنا بالطريق الأولى إلا أنهم
يمنعون من إظهاره بين المسلمين لأنهم يتأذون
به.
"ويلزمهم التميز عن المسلمين" في أمور منها:
"في شعورهم بحذف مقادم رؤوسهم وترك الفراق"
أي: يحلقون مقادم رؤوسهم ولا يفرقون شعر الرأس
فرقتين كما يفعله الأشراف "وكناهم فلا يتكنون
بكنى المسلمين كأبي القاسم"، فإنها كنية النبي
صلى الله عليه وسلم، "وأبي عبد الله"، فإنها
كنية كثير من علماء المسلمين وأئمتهم وكذا ما
في معناهما كأبي بكر وأبي الحسن مما هو في
الغالب في المسلمين ودل على أنهم لا يمنعون من
التكني مطلقا قال أحمد لطبيب نصراني يا أبا
إسحاق واحتج بفعل النبي صلى الله عليه وسلم
وفعل عمر ونقل أبو طالب لا بأس به لأن النبي
صلى الله عليه وسلم قال لأسقف نجران: "يا أبا
الحارث أسلم تسلم" وعمر قال: يا أبا حسان. وفي
"الفروع": يتوجه احتمال يجوز للمصلحة.
(3/323)
وركوبهم بترك
الركوب على السروج وركوبهم عرضا على الأكف
ولباسهم فيلبسون ثوبا يخالف ثيابهم كالعسلي
والأدكن وشد الخرق في قلانسهم وعمائمهم ويؤمر
النصارى بشد الزنار فوق ثيابهم ويجعل في
رقابهم خواتيم الرصاص أو جلجل يدخل معهم
الحمام
ـــــــ
وقاله بعض العلماء ويحمل ما روي عليه.
فرع: يمنعون من اللقب كعز الدين ونحوه قاله
الشيخ تقي الدين.
"وركوبهم" فلا يركبون الخيل لأنها عز وهي من
آله الحرب و أفضل المراكب ولهم ركوب غيرها.
"بترك الركوب على السروج" وظاهره: ولو على
حمار "وركوبهم عرضا" رجلاه إلى جانب وظهره إلى
آخر "على الأكف" جمع إكاف وهي البرادع لما روى
الخلال أن عمر أمرهم بذلك وظاهره قربت المسافة
أو بعدت "لباسهم فيلبسون ثوبا يخالف" سائر
"ثيابهم كالعسلي" لليهود "والأدكن" هو لباس
يضرب لونه إلى السواد كالفاختي للنصارى "وشد
الخرق في قلانسهم وعمائمهم" وتكون الخرقة
مخالفة لهما ليتميز مع الثوب المخالف.
"ويؤمر النصارى بشد الزنار فوق ثيابهم"، لأنهم
إذا شدوه من داخل لم ير فلم يكن له فائدة لكن
المرأة تشده فوق ثيابها تحت الإزار لأنه لو شد
فوقه لم يثبت وغيارها في الخفين باختلاف
لونهما فإن أبوا الغيار لم يجبروا ونغيره نحن.
"ويجعل في رقابهم خواتيم الرصاص أو جلجل" وهو
الجرس الصغير "يدخل معهم الحمام"، ليحصل الفرق
وظاهره جواز دخولها الحمام مع المسلمات
وسيأتي.
واقتضى ذلك أن لهم لبس الطيالسة وهو المذهب
لأنهم لا يمنعون من فاخر الثياب والتمييز حصل
بالغيار والزنار وعنه المنع اختاره أبو الخطاب
لأن المقصود ليس ما فيه الذلة والانكسار لا
ضده.
أصل: يلزم تمييز قبورهم المسلمين تمييزا ظاهرا
كالحياة و أولى ذكره الشيخ تقي
(3/324)
ولا يجوز
تصديرهم في المجالس ولا بداءتهم بالسلام وإن
سلم أحدهم قيل له وعليكم وفي تهنئتهم وتعزيتهم
وعيادتهم روايتان
ـــــــ
الدين.
"ولا يجوز تصديرهم في المجالس" لأن فيه تعظيما
لهم وفي معناه القيام لهم "ولا بداءتهم
بالسلام"، لما روى أبو هريرة مرفوعا: "لا
تبدؤوا اليهود ولا النصارى بالسلام وإذا
لقيتموهم في طريق فاضطروهم إلى أضيقها" متفق
عليه. وقد عزاه في "الشرحين" إلى الترمذي فقط
وفي الحاجة احتمال ومثله كيف أنت أو كيف أصبحت
أو كيف حالك نص عليه وجوزه الشيخ تقي الدين
ويتوجه بالنية كما قال له إبراهيم الحربي نقول
له أكرمك الله قال نعم يعني بالإسلام فإن سلم
ثم علم أنه ذمي استحب قوله له رد علي سلامي.
"وإن سلم أحدهم قيل له وعليكم"، لما روى أنس
مرفوعا: "إذا سلم عليكم أهل الكتاب فقولوا:
وعليكم" متفق عليه ولأحمد بغير واو وهو مخير
بين إثباتها وحذفها واختلف الأصحاب في الأولى.
وعند الشيخ تقي الدين ترد تحيته وأنه يجوز
أهلا وسهلا فإن عطس لم يشمته وقال القاضي يكره
وهو ظاهر كلام أحمد وابن عقيل فإن شمته كافر
أجابه.
"وفي" جواز "تهنئتهم وتعزيتهم وعيادتهم
روايتان" كذا في "المحرر"، والأشهر وجزم به في
"الوجيز"، وقدمه في "الفروع": أنه يحرم لأن
ذلك يحصل الموالاة وتثبت المودة وهو منهي عنه
للنص ولما فيه من التعظيم.
والثانية: الجواز لما روى أنس أن النبي صلى
الله عليه وسلم عاد يهوديا وعرض عليه الإسلام
فأسلم فخرج وهو يقول: "الحمد لله الذي أنقذه
من النار" رواه البخاري. ولأنه من مكارم
الأخلاق.
والثالثة: يجوز لمصلحة راجحة كرجاء إسلامه
اختاره الشيخ تقي الدين.
(3/325)
ويمنعون تعلية
البنيان على المسلمين وفي مساواتهم وجهان وإن
ملكوا دارا عالية من مسلم لم يجب نقضها
ـــــــ
ومعناه اختيار الآجرى وأنه قول العلماء يعاد
ويعرض عليه الإسلام وعلى الجواز يدعى له
بالبقاء وكثرة المال والولد زاد جماعة قاصدا
كثرة الجزية لأنه لا يجوز أن يقصد تكثير أعداء
المسلمين.
فائدة: كره أحمد الدعاء لكل أحد بالبقاء ونحوه
لأنه شيء فرغ منه واختاره الشيخ تقي الدين
ويستعمله ابن عقيل وغيره وذكره بعض أصحابنا
هنا وقد صح أنه عليه السلام دعا لأنس بطول
العمر وقد روى أحمد وغيره من حديث ثوبان: "لا
يرد القدر إلا الدعاء ولا يزيد في العمر إلا
البر" إسناده ثقات.
"ويمنعون تعلية البنيان على المسلمين"، لأن
الإسلام يعلو ولا يعلى عليه ولأن فيه ترفعا
عليهم فمنعوا منه كالتصدير في المجالس والمنع
منه إنما هو على المجاور له لأن الضرر يلحق به
سواء لاصقه أو لا وظاهره ولو رضي الجار لأنه
حق لله تعالى زاد ابن الزاغوني يدوم على دوام
الأوقات ورضاه يسقط حق من يأتي بعده قال الشيخ
تقي الدين ولو كان البناء لمسلم وذمي لأن ما
لا يتم اجتناب المحرم إلا باجتنابه محرم فلو
كانت داره في طرف البلد حيث لا جار أو كان لهم
محلة مفردة فلا معنى للمطاولة ولا يمنع من
التعلية قاله في "البلغة" وغيرها.
"وفي مساواتهم وجهان"، كذا في "المحرر"
و"الفروع":
أحدهما: يجوز جزم به في "الوجيز"، لأنه لا
يفضي إلى علو الكفر ولا إلى اطلاعهم إلى
عوراتنا.
والثاني: المنع لأنه لا يجوز مس أو اتهم
للمسلمين في اللباس فكذا في البنيان.
"وإن ملكوا دارا عالية من مسلم" بشراء أو غيره
"لم يجب نقضها" لأنهم ملكوها بهذه الصفة ولم
يعل شيئا وفيه وجه لقوله: "ولا يطلع عليهم في
منازلهم". وظاهره أنها إذا ملكت من كافر أنه
يجب نقضها لما ذكرنا فلو كان للذمي دار عالية
فملك المسلم دارا إلى جانبها أو بنى المسلم
إلى جنب داره دارا دونها لم
(3/326)
ويمنعون من
إحداث الكنائس والبيع ولا يمنعون رم شعثها
ـــــــ
يلزمه هدمها في الأصح.
فرع: إذا انهدمت العالية لم تعد عالية جزم به
في "الوجيز"، زاد في "المحرر" و"الفروع": إلا
إذا قلنا تعاد البيعة لأنه ليس بإحداث
والمنهدم منها ظلما كهدمه بنفسه ذكره القاضي
وقيل تعاد واختاره المجد قال في "الفروع": وهو
أولى فلو سقط هذا البناء الذي تجب إزالته على
شيء أتلفه فيتوجه الضمان وأنه مقتضى ما ذكروه.
"ويمنعون من إحداث الكنائس" واحدها كنيسة وهى
معبد النصارى "والبيع" قال الجوهري: هي
للنصارى فهما حينئذ يترادفان وقيل الكنائس
لليهود والبيع للنصارى فهما متباينان وهو
الأصل أي يمنعون من إحداثهما في دار الإسلام
إجماعا لحديث عبد الرحمن بن غنم ولقول ابن
عباس أيما مصر مصرته العرب فليس لهم أن يبنوا
فيه بيعة رواه أحمد واحتج به زاد في "المحرر"
و"الفروع": إلا فيما شرطوه فيما فتح صلحا على
أنه لنا نص عليه لأنه فعل استحقوه بالشرط فجاز
لهم فعله كسائر الشروط.
وبالجملة: فأمصار المسلمين ثلاثة:
أحدها: ما مصره المسلمون كالبصرة وبغداد وواسط
فلا يجوز إحداث شيء من ذلك ولو صولحوا عليه.
الثاني: ما فتحه المسلمون عنوة فكذلك لأنها
صارت للمسلمين وفي وجوب هدم الموجود وجهان
والمجزوم به ثم الأكثر إقرارهم عليها وهما في
"الترغيب": إن لم يقر به أحد بجزية وإلا لم
تلزم.
الثالث: ما فتحوه صلحا وهو نوعان أحدها أن
يصالحهم على أن الأرض لهم ولنا الخراج عنها
فلهم إحداث ما شاءوا والثاني أن نصالحهم على
أن الدار للمسلمين فالحكم فيها على ما يقع
عليه الصلح.
"ولا يمنعون رم شعثها"، لأنهم يقرون على
بقائها والمنع في ذلك يفضى إلى
(3/327)
وفي بناء ما
استهدم منها روايتان ويمنعون إظهار المنكر
وضرب الناقوس والجهر بكتابهم وإن صولحوا في
بلادهم على إعطاء الجزية لم يمنعوا شيئا من
ذلك ويمنعون دخول الحرم
ـــــــ
خرابها بالكلية، إذ البناء لا مقام له على
الدوام فجرى مجرى هدمها أشبه تطيين أسطحتها.
"وفي بناء ما استهدم منها روايتان": إحداهما
المنع لأنه بناء كنيسة في دار الإسلام فمنعوا
منه كابتداء بنائها والثانية تجوز لأنه كرم
الشعث وقدم في "المحرر" جواز رم شعثها دون
بنائها وهو ظاهر "الوجيز" و"الفروع". وعنه
منعهما اختاره الأكثر قاله ابن هبيرة كمنع
الزيادة قال الشيخ تقي الدين ولو في الكيفية
لا أعلى ولا أوسع اتفاقا وقيل إن جاز بناؤها
جاز بناء بيعه منهدمة ببلد فتحناه والمذهب أن
الإمام إذا فتح بلدا فيه بيعه خراب لم يجز
بناؤها لأنه إحداث لها في حكم الإسلام.
"ويمنعون" وجوبا "إظهار المنكر" كالخمر
والخنزير فإن فعلوا أتلفناهما نص عليه وإظهار
عيد وصليب ونكاح محرم "وضرب الناقوس" ونص أحمد
أنهم لا يضربون بناقوس ومراده إظهاره لأن في
الشروط أن لا نضرب بنواقيسنا إلا ضربا خفيا في
جوف كنائسنا. "والجهر بكتابهم" أي: بالتوراة
والإنجيل وظاهرة ولو في الكنائس وكذا رفع
أصواتهم على موتاهم وقال الشيخ تقي الدين
ومثله إظهار أكل في رمضان لما فيه من المفاسد
وظهر أنه ليس لهم إظهار شيء من شعائر دينهم في
دار الإسلام لا وقت الاستسقاء ولا لقاء الملوك
ذلك وقاله الشيخ تقي الدين.
"وإن صولحوا في بلادهم على إعطاء" الجزية أو
"الخراج لم يمنعوا شيئا من ذلك"، لأن بلدهم
ليس ببلد إسلام لعدم ملك المسلمين فلا يمنعون
من إظهار دينهم فيه كمنازلهم بخلاف أهل الذمة
فإنهم في دار الإسلام فمنعوا منه. "ويمنعون
دخول الحرم" نص عليه لقوله تعالى: {يَا
أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا
الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا
الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ
هَذَا} [التوبة: 28] والمراد: حرم مكة بدليل
قوله تعالى: {وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً} يريد:
ضررا بتأخير الجلب عن
(3/328)
فإن قدم رسول
لا بد له من لقاء الإمام خرج إليه ولم يأذن له
فإن دخل عزر وهدد فإن مرض بالحرم أو مات أخرج
وإن دفن نبش إلا أن يكون قد بلي ويمنعون من
الإقامة بالحجاز كالمدينة.
ـــــــ
الحرم، دون المسجد يؤيده قوله تعالى:
{سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ
لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ}
[الأسراء: 1] أي: من الحرم لأنه أسري به من
بيت أم هانئ لا من نفس المسجد وإنما منع منه
دون الحجاز لأنه أفضل أماكن العبادات للمسلمين
وأعظمها لأنه محل النسك فوجب أن يمتنع منه من
لا يؤمن به وظاهرة مطلقا أي سواء أذن له أو لا
لإقامة أو غيرها وقيل يجوز لضرورة وقيل لهم
دخوله أو ما إليه في رواية الأثرم كحرم
المدينة في الأشهر قال في "الفروع": ويتوجه
احتمال يمنع من المسجد الحرام لا الحرم لظاهر
الآية وعلى الأول إذا أراد دخوله ليسلم فيه أو
لتجارة معه لبيعها منع منه.
"فإن قدم رسول لا بد له من لقاء الإمام خرج
إليه"، لأن الكافر ممنوع من دخول الحرم فتعين
ذلك لأجل الاجتماع "ولم يأذن له في دخوله"،
لأن الإمام ليس له أن يأذن في الممنوع منه وإن
لم يكن بد من لقائه بعث إليه من يسمع كلامه،
"فان دخل عزر" لهتكه الحرم بدخوله ومحله ما
إذا كان عالما بالمنع فان كان جاهلا، "وهدد"
وأخرج. "فان مرض بالحرم أو مات أخرج"، لأنه لم
يجز إقراره في حياته ففي مرضه ومماته أولى لأن
حرمة الحرم أعظم منه "وإن دفن نبش"، لأنه
وسيلة إلى إخراج الميت الكافر من الحرم أشبه
ما لو لم يدفن، "إلا أن يكون قد بلي"، لأنه مع
ذلك يتعذر نقله لأن جيفته حصلت بأرض الحجاز
فترك للمشقة ولم يستثن في "الترغيب".
فرع: إذا صالحهم الإمام بعوض على الدخول إليه
لم يصح فإن استوفاه أو بعضه ملكه وقيل يرده
عليهم لأن ما استوفوه لا قيمة له والعقد لم
يوجب العوض لبطلانه.
"ويمنعون من الإقامة بالحجاز" قيل: هو ما بين
اليمامة والعروض وبين اليمن ونجد وسمي به لأنه
حجز بين تهامة ونجد "كالمدينة" وقيل: نصفها
تهامي ونصفها
(3/329)
واليمامة وخيبر
فإن دخلوا لتجارة لم يقيموا في موضع واحد أكثر
من أربعة أيام وإن مرض لم يخرج حتى يبرأ وإن
مات دفن به لا يمنعون من تيماء وفيد ونحوهما
وهل لهم دخول المساجد بإذن مسلم على روايتين
ـــــــ
حجازي "واليمامة" وسمي العروض وكان اسمها حجرا
فسميت اليمامة باسم امرأة وقال ابن الأثير
اليمامة الصقع المعروف شرقي الحجاز وهذا يقتضي
أن لا يكون من الحجاز وفيه تكلف "وخيبر" شرقي
المدينة لما روى أبو عبيدة بن الجراح أن آخر
ما تكلم به النبي صلى الله عليه وسلم قال:
"أخرجوا اليهود من الحجاز" رواه أحمد قال عمر
سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "لأخرجن
اليهود والنصارى من جزيرة العرب فلا أترك فيها
إلا مسلما" رواه الترمذي وقال: حسن صحيح
والمراد الحجاز بدليل أنه ليس أحد من الخلفاء
أخرج أحدا من اليمن وتيماء قال أحمد جزيرة
العرب المدينة وما والاها وكذا الينبع وفدك
ومخاليفها معروف باليمن تسمى بها القرى
المجتمعة كالرستاق في غيرها وقال الشيخ تقي
الدين تبوك ونحوها وما دون المنحنى وهو عقبة
الصوان من الشام كمعان ولهم دخوله والأصح بإذن
إمام لتجارة.
"فإن دخلوا لتجارة لم يقيموا في موضع واحد
أكثر من أربعة أيام" قاله القاضي لأن الزائد
على الأربعة حد يتم به المسافر فصار كالمقيم
والمذهب أنهم لا يقيمون فوق ثلاثة أيام لأن
عمر أذن لمن دخل تاجرا إقامة ثلاثة أيام فدل
على المنع في الزائد فإن كان له دين حال أجبر
غريمه على وفائه فإن تعذر جازت الإقامة لذلك
فإن كان مؤجلا، لم يمكن ويوكل.
"وإن مرض، لم يخرج حتى يبرأ"، لأن على المريض
فهو يقيم ضرورة وان مات دفن به لأنه موضع حاجة
وفيه وجه كالحرم.
"ولا يمنعون من تيماء وفيد" بفتح الفاء وياء
مثناة بعدها دال وهى من بلاد طيء "ونحوهما"،
لما مر أن أحدا من الخلفاء لم يخرج أحدا من
ذلك.
"وهل لهم دخول المساجد" أي: مساجد الحل "بإذن
مسلم؟ على روايتين":
(3/330)
فصل
وإن اتجر ذمي بلده ثم عاد فعليه نصف العشر
ـــــــ
إحداهما وهى المذهب المنع لأن عليا بصر بمجوسى
وهو على المنبر في المسجد فنزل وضربه وأخرجه
وهو قول عمر ولأن حدث الجنابة والحيض يمنع
فالشرك أولى والثانية يجوز بإذن مسلم صححها في
"الكافي" و"الشرح"، وجزم به في "الوجيز"، لما
روى أحمد بإسناد جيد عن الحسن عن عثمان بن أبى
العاص أن وفد ثقيف قدموا على النبي صلى الله
عليه وسلم فأنزلهم المسجد قبل إسلامهم ليكون
أرق لقلوبهم وكاستئجاره لبنائه ولا سيما
لمصلحة وظاهر كلام القاضي يجوز ليسمعوا الذكر
فترق قلوبهم ويرجى إسلامهم وقال أبو المعالي
إن شرط المنع في عقد ذمتهم منعوا وإن كان جنبا
فوجهان فلو قصدوها بأكل ونوم منعوا ذكره في
"الأحكام السلطانية". وقد روى ما يدل على
التفرقة بين الكتابي وغيره.
تذنيب: يجوز عمارة كل مسجد وكسوته وإشعاله
بمال كل كافر وأن يبنيه بيده ذكره في
"الرعاية" وغيرها، وهو ظاهر كلامهم في وقفه
عليه ووصيته له فتكون على هذا العمارة في
الآية دخوله وجلوسه فيه يدل عليه خبر أبي سعيد
مرفوعا: "إذا رأيتم الرجل يعتاد المسجد
فاشهدوا له بالإيمان"، فإن الله تعالى يقول:
{إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ} الآية
[التوبة: 18] رواه أحمد وغيره وفي "الفنون":
واردة على سبب وهي عمارة المسجد الحرام فظاهره
المنع فيه فقط لشرفه وذكر ابن الجوزي في
"تفسيره" أنه يمنع من بنائه وإصلاحه ولم يخص
مسجدا بل أطلق وقاله طائفة من العلماء.
فصل
"وإن اتجر ذمي إلى غيره بلده" لبيع أو شراء
"ثم عاد، فعليه" في تجارته "نصف العشر" على
المذهب لما روى أنس قال أمرني عمر أن آخذ من ا
لمسلم ربع العشر ومن أهل الذمة نصف العشر رواه
أحمد وروى أبو عبيد أن عمر بعث عثمان بن حنيف
إلى الكوفة فجعل على أهل الذمة في أموالهم
التي يختلفون فيها في كل
(3/331)
وإن اتجر حربي
إلينا أخذ منه العشر ولا يؤخذ من أقل من عشرة
دنانير
ـــــــ
عشرين درهما, درهما وهذا كان بالعراق واشتهر
وعمل به ولم ينكر فكان كالإجماع وعنه يلزمهم
العشر جزم به في "الواضع" وظاهره ولو كانت
امرأة وهو أحد الوجهين قدمه في "المحرر"، لأنه
حق واجب فاستويا فيه كالزكاة وقال القاضي لا
عشر عليها لأنها محقونة الدم لها المقام في
دار الإسلام بغير جزية فلم يعشر تجارتها
كالمسلم إلا أن تكون تجارتها بالحجاز فتعشر
كالرجل ورده المؤلف بأن هذا لا يعرف عن أحمد
ولا يقتضيه مذهبه وعنه يلزم التغلبي جزم به في
"الترغيب"، وتؤخد منه ضعف ما تؤخذ من أهل
الذمة وقدم في "المحرر": لا شيء عليه لأن نصف
العشر وجب في أموالهم بالشرط فلا تؤخذ مرة
أخرى كسائر أهل الذمة وظاهره أنه لا شيء عليه
في غير مال التجارة فلو مر بالعاشر منهم منتقل
معه أمواله وسائمته فلا شيء عليه نص إلا أن
تكون الماشية للتجارة فتؤخذ منها.
"وإن اتجر حربي إلينا أخذ منه العشر"، لأن عمر
أخذ من أهل الحرب العشر واشتهر ولم ينكر وعمل
به الخلفاء بعده وقيل نصفه وكذا حكم المستأمن
إذا اتجر إلى بلد الإسلام. "ولا يؤخذ منه أقل
من عشرة دنانير" نص عليه وهو اختيار المعظم
لأنه مال يجب فيه حق بالشرع فاعتبر له النصاب
كزكاة الزرع ثم بين مقداره وهو عشرة لأن ذلك
مال يبلغ واجبه نصف دينار فوجب كالعشر في حق
المسلم وعنه نصابه عشرون دينارا لأن الزكاة لا
تجب في أقل منها فلم يجب على الذمي شيء
كاليسير وقيل يؤخذ منه وإن قل ونقل صالح
العشرين الذمي والعشرة للحربي لأنه:
أولا: أقل مال له نصف عشر صحيح،
وثانيا: أقل مال له عشر صحيح فوجب أن لا ينقص
عنهما كالجزية وقال أبو الحسين يعتبر للذمي
عشرة وللحربي خمسة.
فرع: يمنع الدين أخذه كالزكاة إن ثبت ببينة
وفي تصديقه بجارية مر بها
(3/332)
فصل في نقض
العهد
وإذا امتنع الذمي من بذل الجزية أو التزام
ـــــــ
فصل في نقض العهد
"وإذا امتنع الذمي من بذل الجزية" أو الصغار
قاله الشيخ تقي الدين "أو التزام
(3/332)
|