الهداية
على مذهب الإمام أبي عبد الله أحمد بن محمد بن حنبل الشيباني كِتَابُ العَارِيَةِ (1)
العَارِيَةُ (2): هِبَةُ مَنْفَعَةٍ فَلاَ يَمْلِكُ المُسْتَعِيْرُ مِنْهَا
إِلاَّ مَا قَبَضَهُ بِالانْتِفَاعِ، ومَتَى أَرَادَ المُعِيْرُ الرُّجُوعَ
رَجَعَ، ويَجُوزُ إِعَارَةُ كُلِّ المَنَافِعِ إِلاَّ مَنَافِعَ البَضعِ
(3)، ويُكْرَهُ إِعَارَةُ الأَمَةِ الشَّابَّةِ لِغَيْرِ ذِي مَحْرَمٍ (4)
أو امْرَأَةٍ، ويُكْرَهُ اسْتِعَارَةُ أَبَوَيْهِ للخِدْمَةِ (5) ولاَ
بَأْسَ باسْتِعَارَةِ وَلَدِهِ للخِدْمَةِ. ولاَ يَجُوزُ إِعَارَةُ العبد
المُسْلِمِ لِكَافِرٍ وَلاَ الصَّيْدَ لِمُحْرِمٍ، ومَنِ اسْتَعَارَ
أَرْضاً للغِرَاسِ لَمْ (6) يَبنِ فِيْهَا ولَهُ أَنْ يَزْرَعَ فِيْهَا،
فَإِن اسْتَعَارَهَا للبِنَاءِ والزَّرْعِ لَمْ يَغْرِسْ فِيْهَا، فَإِنِ
اسْتَعَارَهَا لِزَرْعِ الحِنْطَةِ جَازَ لَهُ زَرْعَ الشَّعِيْرِ
والبَاقِلاَّءِ ومَا ضَرَرُهُ أَقَلُّ مِنَ الحِنْطَةِ وَلَمْ يَجُزْ لَهُ
زَرْعَ الذِّرَةِ والقُطْنِ ومَا ضَرَرُهُ أَكْبَرُ، فَإِنْ اَعَارَهُ
مُطْلَقاً زَرَعَ مَا شَاءَ، فَإِنْ رَجَعَ
__________
(1) وهي مشتقة من: عار الشيء إذا ذهب وجاء، ومنه قِيلَ للبطال: عيار لتردده
في بطالته، والعرب تقول: أعاره وعاره مِثْل أطاعه وطاعه، والأصل فيها
الكتاب والسنة والإجماع. انظر: المغني والشرح الكبير 5/ 354.
(2) وَقَالَ ابن قدامة: هِيَ إباحة الانتفاع بعين من أعيان المال. المغني
5/ 354.
ومما يجدر التنبيه عليه أن العارية يد آخذة، والوديعة يد معطاءة، فالعارية
مِثْل القرض فجميعاً قابضها ضامن، والفرق بينهما أن العين المُستعارة لا
يجوز استهلاكها، وَلاَ هبتها، وَلاَ تغيرها، وَلاَ التصرف فِيْهَا؛ بخلاف
المعير. انظر: شرح الزركشي 2/ 541.
(3) وسبب التجويز من أبي الخطاب؛ لأن هذِهِ الأعيان ينتفع بِهَا منفعة
مباحة مَعَ بقائها عَلَى الدوام كالدور والعبيد والجواري والدواب والثياب
والحلي للبس والفحل للضراب والكلب للصيد وغير ذَلِكَ؛ لأن النَّبيّ - صلى
الله عليه وسلم - استعار أدراعاً وذكر إعارة دلوها وفحلها، وذكر ابْن
مَسْعُود عارية القدر والميزان، فثبت الحكم فِي هذِهِ الأشياء وما عداها
يقاس عَلَيْهَا إذا كَانَ فِي معناها لأنَّ مَا جاز للمالك استيفاؤه من
المنافع ملك اباحته إِذَا لَمْ يمنع مِنْهُ مانع كالثياب، ويجوز استعارة
الدراهم والدنانير للوزن، فإن استعارها لينفقها = = فَهُوَ قرض وهذا قَوْل
أصحاب الرأي، وَقِيلَ: لا يجوز ذَلِكَ وَلاَ تَكُون العارية في الدنانير،
وَلَيْسَ لَهُ أن يشتري بِهَا شيئاً.
قَالَ ابن قدامة: ولنا أن هَذَا مَعْنَى القرض، فانعقد القرض بِهِ كَمَا
لَوْ صرح بِهِ. فأما منافع البضع فَلاَ تستباح بالبذل وَلاَ بالإباحة
إجماعاً، وإنما يباح بأحد شيئين الزوجية وملك اليمين، قَالَ تَعَالَى:
{وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ * إِلاَّ عَلَى أَزْوَاجِهِمْ
أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ * فَمَنِ
ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ} (المؤمنون: 5 - 7)
ولأن منافع البضع لَوْ أبيعت بالبذل والعارية لَمْ يحرم الزنا لأن الزانية
تبذل نفعها لَهُ والزاني لَهَا. الشرح الكبير 5/ 355 - 356.
(4) لأنه لا يؤمن عَلَيْهَا.
(5) لأنه يكره استخدامها فكره استعارتهما لِذلِكَ.
(6) وردت فِي الأصل ((وَلَمْ)) والصواب مَا أثبتناه. انظر: الهادي 129.
(1/309)
المُعِيْرُ والزَّرْعُ قَائِمٌ وكَانَ
مِمَّا يُحْصَدُ قَصِيْلاً حَصَدَهُ وإِلاَّ لَزِمَ المُعَيَّرَ تَرْكُهُ
إِلَى الحَصَادِ /195 و/ ولَهُ الرُّجُوعُ مِنْ وَقْتِ الرُّجُوعِ، فَإِنْ
أَعَارَهُ للبِنَاءِ والغِرَاسِ مُطْلَقاً جَازَ لَهُ ذَلِكَ مَا لَمْ
يَرْجِعْ (1)، فَإِنْ وَقَّتَ كَانَ لَهُ ذَلِكَ مَا لَمْ يَرْجِعْ أو
يَمْضِ (2) الوَقْتُ، فَإِنْ رَجَعَ فِيْمَا أُذِنَ وكَانَ قَدْ شَرَطَ
عَلَيْهِ القَطْعَ عِنْدَ المُطَالَبَةِ أو انْقضَاء الوَقْتِ لَزِمَهُ
ذَلِكَ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَضْمَنَ لَهُ النَّقْصَ وَلَمْ يُلْزِمِ
المُسْتَعِيْرَ تَسْوِيَةُ الأَرْضِ وإِنْ لَمْ يَشْتَرِطْ عَلَيْهِ
القَلْعَ لَمْ يَلْزَمْهُ القَلْعُ إِلاَّ أَنْ يَدْفَعَ إِلَيْهِ قِيْمَةَ
البِنَاءِ والغِرَاسِ ويَضْمَنَ لَهُ مَا نَقَصَ، فَإِنِ امْتَنَعَ
المُعِيْرُ مِنَ الضَّمَانِ والمُسْتَعِيْرُ مِنَ القَلْعِ، وامْتَنَعَا
مِنَ البَيْعِ لِغَيْرِهِمَا تُرِكَ الأَمْرُ وَاقِفاً (3)، وللمُعِيْرِ
دُخُولُ أَرْضِهِ والتَّصَرُّفُ عَلَى وَجْهٍ لاَ يَضرُ بالبِنَاءِ
والغِرَاسِ، وللمُسْتَعِيْرِ دُخُولُهَا للسَّقْيِ والإِصْلاَحِ وأَخْذِ
الثَّمَنِ، وَلَيْسَ لَهُ دُخُولُهَا للفرجَةِ ونَحْوِهَا. وإِذَا بَنَى
المُسْتَعِيْر بَعْدَ المَنْعِ أو الوَقْتِ، فَعَلَيْهِ القَلْعُ مِنْ
غَيْرِ ضَمَانِ النَّقْصِ لَهُ، وتَسْوِيَةُ الأَرْضِ، وأُجْرَةُ المِثْلِ
لِذلِكَ، ولاَ يَمْنَعُ مَالِك الأَرْضِ مِنْ بَيْعِ أَرْضِهِ ولاَ مَالِكُ
الغِرَاسِ مِنْ بَيْعِ غَرْسِهِ لِمَنْ أَرَادَ (4).
وإِذَا حَمَلَ السَّيْلُ بَذْرَ الرَّجُلِ إلى أَرْضِ آخَرَ فَنَبَتَ
فَالزَّرْعُ لِمَالِكِ البَذْرِ يبقَى حَتَّى يُسْتَحْصَدَ، وَعَلَيْهِ
أُجْرَةُ المِثْلِ إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ قَلْعَهُ، وَقِيلَ: هُوَ لِصَاحِبِ
الأَرْضِ، وَعَلَيْهِ قِيْمَةُ البَذْرِ. وإِذَا أَعَارَهُ حَائِطاً
لِيَضَعَ عَلَيْهِ أَطْرَافَ خَشَبَةٍ لَمْ يَكُنْ للمُعِيْرِ الرُّجُوعُ
عَلَى وَجْهٍ يَضُرُّ بِالمُسْتَعِيْرِ مَا دَامَ الخَشَبُ عَلَى الحَائِطِ
(5)، فَإِنِ انْهَدَمَ الحَائِطُ أو وَقَعَ الخَشَبُ عَنْهُ لَمْ يَكُنْ
لَهُ رَدُّهُ إِلاَّ بِإِذْنٍ مُسْتَأْنَفٍ (6)، فَإنْ أَعَارَهُ أَرْضاً
للدَّفْنِ لَمْ يَكُنْ لَهُ الرُّجُوعُ مَا لَمْ يَبْلَ المَيِّتُ، كَذلِكَ
إِنْ أَعَارَهُ سَفِيْنَةً فَحَمَلَ فِيْهَا مَتَاعَهَ لَمْ يَكُنْ لَهُ
مُطَالَبَتُهُ بِتَفْرِيْغِهَا مَا دَامَتْ في لُجَّةِ البَحْرِ، وكُلُّ
مَنْ جَازَ لَهُ التَّصَرُّفُ في مَالِهِ جَازَ لَهُ إِعَارَتُهُ (7).
__________
(1) انظر: المغني 5/ 366.
(2) في المخطوطة: ((يمضي)).
(3) انظر: المصدر السابق 5/ 366 - 367.
(4) انظر: الشرح الكبير 5/ 363.
(5) قَالَ المرداوي في الإنصاف 6/ 106: هَذَا المذهب وَعَلَيْهِ أكثر
الأصحاب، وفيه احتمال بالرجوع، ويضمن نقصه.
(6) هَذَا المذهب، سَوَاء أعيد الحائط بآلته الأولى أو بغيرها. جزم بِهِ في
الشرح، وشرح ابن منجا، والفروع، والمذهب، والمستوعب، والحاوي، والنظم،
والفائق، والمحرر، وغيرهم. قَالَ الحارثي: قاله المصنف، والقاضي، وابن عقيل
في آخرين من الأصحاب، قَالَ: وقال القاضي، والمصنف في باب الصلح: لَهُ
إعادته إلى الحائط، قَالَ: وَهُوَ الصَّحِيح اللائق بالمذهب؛ لأن البيت
مستمر، فكان الاستحقاق مستمراً. انظر: الإنصاف 6/ 106.
(7) انظر: المغني 5/ 365.
(1/310)
والعَارِيَةُ مَضْمُونَةٌ بِقِيْمَتِهَا يَومَ التَّلَفِ بِكُلِّ حَالٍ
نَصَّ عَلَيْهِ (1). وَقَالَ أبُو حَفْصٍ العُكْبُرِيُّ (2): إِنْ شَرَطَ
نَفْيَ الضَّمَانِ لَمْ يَضْمَنْهَا، وَقَدْ أَوْمَأَ إِلَيْهِ في
رِوَايَةِ ابنِ مَنْصُورٍ، فَإِنْ تَلِفَتْ أَجْزَاؤهَا بالاسْتِعْمَالِ
كَحَمْلِ المِنْشَفَةِ والطَّنْفِسَةِ (3) والقَطِيْفَةِ (4) فَهَلْ
يَضْمَنُهَا عَلَى وَجْهَيْنِ (5). وَلَيْسَ للمُسْتَعِيْرِ أَنْ يُعِيْرَ،
فَإِنْ خَالَفَ وأَعَارَ فَتَلِفَتْ عِنْدَ الثَّانِي فَضَمِنَ لَمْ
يَرْجِعْ عَلَى الأَوَّلِ، وإِذَا دَفَعَ إِلَيْهِ دَابَّةً فَرَكِبَهَا
ثُمَّ اخْتَلَفَا فَقَالَ المَالِكُ: أَجَرْتُكَهَا فَادْفَعْ إِلَيَّ
أُجْرَةَ الرُّكُوبِ، وَقَالَ الرَّاكِبُ: بَلْ أَعَرْتَنِي، فَالقَوْلُ
قَوْلُ المَالِكِ مَعَ يَمِيْنِهِ ولَهُ أُجْرَةُ المِثْلِ، فَإِنْ قَالَ
المَالِكُ: أَعَرْتُكَهَا، وَقَالَ الرَّاكِبُ: بَلْ أَجَرْتَنِي /196 ظ/
فَالقَوْلُ قَوْلُ المَالِكِ، وَكَذَلِكَ إِنْ قَالَ المَالِكُ غَصَبْتَنِي
وَقَالَ الرَّاكِبُ: بَلْ أَعَرْتَنِي فَالقَوْلُ قَوْلُ المَالِكِ،
وَقِيلَ: بَلْ القَوْلُ قَوْل للرَّاكِبِ (6).
وإِذَا اخْتَلَفَ المُعِيْرُ والمُسْتَعِيْرُ في رَدِّ العَارِيَةِ
فَالقَوْلُ قَوْلُ المُعِيْرِ، وعَلَى المُسْتَعِيْرِ مَؤُنَةُ رَدِّ
العَارِيَةِ إِلى مَالِكِهَا، فَإِنْ رَدَّ العَارِيَةَ إِلى مَالِكِهَا، و
(7) رَدَّ الدَّابَّةَ المُسْتَعَارَةَ إلى اسْطَبْلِ المَالِكِ أو إلى
غلامِهِ لَمْ يبرأ مِنَ الضَّمَانِ (8). |