شرح
الزركشي على مختصر الخرقي قال المصنف - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -:
[باب التيمم]
ش: التيمم في اللغة القصد، قال سبحانه وتعالى: {وَلَا آمِّينَ الْبَيْتَ
الْحَرَامَ} [المائدة: 2] أي قاصدين، وقال الشاعر [العذري] :
وما أدري إذا يممت أرضا ... أريد الخير أيهما يليني
أالخير الذي أنا مبتغيه ... أم الشر الذي هو يبتغيني
(1/323)
يقال: يممت فلانا وتيممته وأممته. إذا
قصدته، وقد قرئ بالثلاثة في قَوْله تَعَالَى: {وَلَا تَيَمَّمُوا
الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ} [البقرة: 267] أي لا تقصدوا الخبيث للإنفاق
منه، فقرأ الجمهور (ولا تيمموا) بالفتح، وقرأ عبد الله بن مسعود - رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُ - (ولا تأمموا) وابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -
(ولا تيمموا: بضم التاء. وهو في العرف الشرعي عبارة عن: قصد شيء مخصوص -
وهو التراب الطاهر - على وجه مخصوص - وهو مسح الوجه واليدين - من شخص
مخصوص، وهو العادم للماء، أو من يتضرر باستعماله، وتحقيق ذلك كله له محل
آخر، وقد يطلق ويراد به مسح الوجه واليدين وسمي المقصود بالتيمم تيمما.
وهو جائز بالإجماع، وقد شهد له قوله سبحانه وتعالى: {وَإِنْ كُنْتُمْ
مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ
أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا
طَيِّبًا} [النساء: 43] الآية، وحديث عمار وغيره كما سيأتي إن شاء الله
(1/324)
تعالى، وهو من خصائص هذه الأمة ومما فضلت
به على غيرها، توسعة عليها، وإحسانا إليها.
230 - قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أعطيت خمسا لم يعطهن
نبي قبلي، نصرت بالرعب مسيرة شهر، وجعلت لي الأرض مسجدا وطهورا، فأيما رجل
من أمتي أدركته الصلاة فليصل، وأحلت لي الغنائم، ولم تحل لأحد قبلي، وأعطيت
الشفاعة، وكان النبي يبعث إلى قومه خاصة، وبعثت إلى الناس عامة» [والله
أعلم] .
[التيمم في السفر]
قال: ويتيمم في قصير السفر وطويله.
ش: هذا هو المعروف في المذهب المقطوع به، اعتمادا على شمول الآية المتقدمة
بإطلاقها لحالتي السفر، ثم شرع التيمم يقتضي ذلك، إذ السفر القصير يكثر،
فيكثر عدم الماء فيه، فلو لم يجز التيمم إذا لأفضى إلي حرج ومشقة، وذلك
ينافي أصل مشروعية التيمم، وقد بالغ الأصحاب في ذلك فقالوا: لو خرج من
المصر إلى أرض من أعماله لحاجة: كالحراثة، والاحتطاب، والاحتشاش ونحو ذلك،
ولا يمكنه حمل الماء منه، ولا الرجوع للوضوء إلا بتفويت حاجته، فله التيمم،
ولا إعادة عليه على الأشهر، وقيل: بلى لأنه
(1/325)
كالمقيم، إذ هو في عمل المصر، ومن ثم لو
كانت الأرض التي يخرج إليها من عمل قرية أخرى فلا إعادة عليه.
وقد شمل كلام الخرقي - رَحِمَهُ اللَّهُ - سفر المعصية، وهو المعروف، لأنه
عزيمة لا يجوز تركه، وعليه لا يعيد على المشهور.
ومفهوم كلامه أنه لا يجوز التيمم في الحضر، ولو خاف فوات الصلاة، وهو
المذهب وعن أبي العباس جواز ذلك، ولأحمد [- رَحِمَهُ اللَّهُ -] رواية
بالجواز في الجواز في الجنازة خاصة.
وأنه لا يجوز التيمم في الحضر لعدم الماء، كما إذا حبس في المصر ولم يجد
ماء، أو انقطع الماء عن أهل البلد، ونحو ذلك، وهو إحدى الروايتين، واختيار
الخلال، لظاهر الآية الكريمة فإن ظاهرها اختصاص جواز التيمم بحالة [عدم]
الماء في السفر، وإلا لم يكن للتقييد بالسفر فائدة، [والثانية] : - وهي
المشهورة، وعليها جمهور الأصحاب -: يجب عليه التيمم - والحال هذه -
والصلاة، لعموم قول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في حديث
أبي ذر «إن الصعيد [الطيب] طهور المسلم، وإن لم يجد الماء عشر سنين، فإذا
وجد الماء فليمسه بشرته» ، رواه أحمد والترمذي وصححه، وحديث «أعطيت خمسا لم
يعطهن نبي قبل» وغير ذلك، والتقييد بالسفر في الآية خرج
(1/326)
- والله أعلم - مخرج الغالب، إذ السفر محل
العدم غالبا، وهذا كاختصاص الخلع بحال الخوف، وشهادة الرجل والمرأتين بحالة
تعذر الرجلين، ومثل ذلك لا يكون مفهوم حجة اتفاقا.
فعلى هذا إذا صلى بالتيمم هل يعيد؟ فيه قولان، أشهرهما لا. لفعله المأمور
به، وإذا يخرج عن العهدة لندرة ذلك، ولأبي محمد احتمال بالتفرقة بين عذر
يزول عن قريب، كالضيف إذا أغلق عليه الباب، ونحو ذلك، فهذا يعيد لأنه
بمنزلة المتشاغل بطلب الماء، وبين عذر يمتد، كالحبس، وانقطاع الماء عن
القرية، فهذا لا إعادة عليه، قلت: وهذا التعليل منه إنما يبيح عدم التيمم
والحال هذه، والله أعلم.
[شروط التيمم]
قال: إذا دخل وقت الصلاة، وطلب الماء فأعوزه.
ش: ذكر الخرقي [- رَحِمَهُ اللَّهُ -] لجواز التيمم [في السفر] ثلاثة شروط،
(أحدها) دخول وقت الصلاة، فلا يجوز التيمم لصلاة قبل وقتها، وهذا هو
المشهور، والمختار للأصحاب، لأن الله تعالى أمر بالوضوء أو التيمم عند
إرادة القيام إلى الصلاة، وإنما يكون ذلك بعد دخول الوقت، وظاهر الخطاب:
كلما أراد القيام إلى الصلاة.
(1/327)
231 - خرج الوضوء، لصلاته - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الصلوات الخمس يوم الفتح بوضوء واحد، وبقي التيمم على
مقتضى ظاهرها.
232 - وعن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده قال: قال رسول الله - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «جعلت لي الأرض مسجدا وطهورا، أينما أدركتني
الصلاة تمسحت وصليت» مختصر، رواه أحمد، وللبيهقي في سننه عن أبي أمامة
نحوه، وظاهره تقييد طهورية التراب بحال إدراك الصلاة، وإنما يتحقق ذلك
بدخول الوقت، وأيضا فالتيمم قبل الوقت لا حاجة إليه، فهو كالتيمم مع وجود
الماء، وقد أشار الله سبحانه [وتعالى] إلى اشتراط الحاجة بقوله: {فَلَمْ
تَجِدُوا مَاءً} [النساء: 43] . (وعن أحمد) [- رَحِمَهُ اللَّهُ -] ما يدل
على جواز ذلك، وهو اختيار أبي العباس.
233 - لعموم قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «وجعلت تربتها
طهورا إذا لم نجد الماء» وشمله قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
-: «إن الصعيد الطيب طهور المسلم وإن لم يجد
(1/328)
الماء عشر سنين» ونظرا إلى أنه بدل فيساوي
مبدله، إلا ما خرج بالدليل كالإطعام مع العتق في الكفارة، ونحو ذلك ولقد
تخرج عبد العزيز في حكايته الإجماع على منع التيمم قبل الوقت.
(تنبيه) : وقت المكتوبة المؤداة زوال الشمس، أو غروبها ونحو ذلك، والفائتة
كل وقت، وكذلك المنذورة على المذهب، وصلاة الاستسقاء باجتماع الناس في
الصحراء، والصلاة على الميت بنجاز غسله، وصلاة الكسوف بالكسوف إن أجزنا ذين
في وقت النهي، وإن لم نجزهما فيه
(1/329)
فبذلك مع خروج وقت النهي، وكذلك جميع
التطوعات وقتها وقت جواز فعلها اهـ.
(الشرط الثاني) : طلب الماء، على المشهور المختار من الروايتين لظاهر
الآية، فإنه سبحانه [وتعالى] شرط لجواز التيمم عدم الوجدان، ولا يقال: ما
وجد. إلا بعد الطلب، ولا يرد قوله سبحانه: {فَهَلْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَ
رَبُّكُمْ حَقًّا} [الأعراف: 44] مع انتفاء الطلب منهم.
234 - وكذلك قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من وجد لقطة»
لأن كلامنا في جانب النفي، أما جانب الوجود فسلم أنه [لا] يقتضي الطلب،
(فإن قيل) : فيرد قوله سبحانه: {وَمَا وَجَدْنَا لِأَكْثَرِهِمْ مِنْ
عَهْدٍ} [الأعراف: 102] لاستحالة الطلب على الله سبحانه، (قيل) : الله
سبحانه [وتعالى] طلب منهم الثبات على العهد، أي أمرهم بذلك، فهو سبحانه
يطلب منهم ما قدمه إليهم من العهد، فلذلك قيل: {وَمَا وَجَدْنَا
لِأَكْثَرِهِمْ} [الأعراف: 102] .
ولأنه بدل، شرط له عدم مبدله، فلم يجز إلا بعد طلب المبدل، كالصيام مع
الرقبة في الكفارة، وكالقياس مع النص في الحادثة، يحقق ذلك أن البدل من
شرطه الضرورة، وهي بعد الطلب متحققة حسب الإمكان، أما قبله فمشكوك فيها،
فلا تثبت الرخصة.
(1/330)
(وعن أحمد) - رَحِمَهُ اللَّهُ - رواية
أخرى - واختارها أبو بكر -: يستحب الطلب ولا يجب. اعتمادا على ظاهر الحال،
كالفقير لا يلزمه طلب الرقبة، ومحل الخلاف - وفاقا لأبي البركات، وصاحب
التلخيص - إذا احتمل وجود الماء، ولم يكن ظاهرا، أما مع الجزم بعدم الماء
فلا يجب بلا ريب، ومع ظن وجوده - إما في رحله، أو بأن رأى خضرة، ونحو ذلك
-: يجب بالإجماع.
وصفة الطلب أن يفتش من رحله ما يحتمل أن الماء فيه، ويسعى يمنة ويسرة،
وأماما ووراء، ما العادة أن المسافر يسعى إليه لطلب الماء، والمرعى
والاحتطاب، ونحو ذلك، لا فرسخا ولا ميلا ولا ما يلحقه فيه الغوث على
الأشهر، ويشترط للسعي الأمن على نفسه، وأهله، وماله، لسبب يقتضيه، لا جبنا،
وأمن فوت الوقت، وفوت الرفقة، ولقد أبعد
(1/331)
ابن عبدوس في اشتراط ذلك للقرب دون البعد،
وابن أبي موسى في حكايته وجها بوجوب الإعادة [على المرأة] إذا خافت الفجور
في القصد، فإن رأى خضرة أو موضعا يتساقط عليه الطير قصده، لأن ذلك مظنة
الماء، بالشرط السابق، وكذلك إن كان بقربه مانع من انبساط [النظر]- كجبل
ونحوه - قصده بالشرط السابق، فصعد عليه، وهل يلزمه المشي خلفه؟ على وجهين،
ويسأل رفقته عن مظانه، فإن دله عليه ثقة قصده بالشرط السابق أيضا، (ومحل
الطلب) عند دخول وقت كل صلاة، كما أشار إليه الخرقي بقوله: إذا دخل وقت
الصلاة. فإن طلب قبل الوقت لم يعتد به.
(الشرط الثالث) : إعواز الماء، بأن يطلب الماء فلا يجد، كما نص الله تعالى
عليه بقوله: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً} [المائدة: 6] وحصل الاتفاق عليه، وفي
معنى العادم إذا وجد الماء وتعذر عليه استعماله، لعدم قدرته على النزول
إليه، أو الاستقاء منه، أو غلبة الواردين عليه، أو إحالة سبع ونحو دونه.
ثم الإعواز له حالتان (إحداهما) : ما تقدم، وهو أن يكون عادما للماء، إما
حسا، وإما حكما، (الثانية) : وجد ماء ولكن لا يكفيه لطهره، والمعروف والحال
هذه - حتى قال القاضي في روايتيه: إنه لا خلاف فيه في المذهب - أنه
(1/332)
يلزمه استعماله إن كان جنبا، ثم يتيمم لما
بقي، وكذلك إن كان محدثا، على أشهر الوجهين، أو الروايتين على ما في
الرعاية، (والثاني) : - واختاره ابن أبي موسى، وأبو بكر، مع حكايته له عن
بعض الأصحاب - لا يلزمه استعماله ويتيمم، وعلى هذا في إراقته قبله - قلت:
إن لم يحتج إليه لعطش - روايتان، حكاهما ابن حمدان، ونظيرهما الروايتان في
الطهور المشتبه بنجس، والله أعلم.
قال: والاختيار تأخير التيمم إلى [آخر الوقت] .
ش: هذا إحدى الروايتين، واختيار ابن عبدوس.
235 -[اعتمادا على] ما روي عن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، أنه قال: إذا
أجنب الرجل في السفر: تلوم ما بينه وبين آخر الوقت، فإن لم يجد الماء تيمم
وصلى. رواه الدارقطني والبيهقي، لكنه من رواية الحارث عنه، وهو ضعيف،
واحتياطا للخروج من الخلاف، إذ بعض العلماء - وهو رواية عن إمامنا،
(1/333)
حكاها أبو الحسين - لا يجوز التيمم إلا عند
ضيق الوقت، (والثانية) - وهي المختارة للجمهور - إن رجا وجود الماء فالأفضل
التأخير، إذ طهارة [الماء] في نفسها فريضة، وأول الوقت فضيلة، ولا ريب أن
انتظار الفريضة أولى، وإن علم أن ظن عدمه فالأفضل التقديم، وكذلك إن تردد،
على أحد الوجهين، إذ فضيلة الوقت متيقنة، فلا تترك لأمر مأيوس أو مشكوك
[فيه] والله أعلم.
قال: فإن تيمم في أول الوقت وصلى أجزأه، وإن أصاب الماء في الوقت.
ش: هذا هو المذهب المشهور، وإن تيقن وجود الماء في الوقت، ولا عبرة
بالرواية التي حكاها أبو الحسين.
236 - لما روى عطاء بن يسار، عن أبي سعيد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال:
«خرج رجلان في سفر، فحضرت الصلاة، وليس معهما ماء، فتيمما صعيدا طيبا
فصليا، ثم وجدا الماء في الوقت، فأعاد أحدهما الصلاة والوضوء، ولم يعد
الآخر، ثم أتيا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فذكرا ذلك
له، فقال للذي لم يعد «أصبت السنة، وأجزأتك صلاتك» وقال للآخر: «لك
(1/334)
الأجر مرتين» رواه أبو داود وقال: ذكر أبي
سعيد فيه وهم، وليس بمحفوظ، وهو مرسل، وللنسائي بمعناه.
237 - وعن نافع قال: تيمم ابن عمر على رأس ميل أو ميلين من المدينة، فصلى
العصر، فقدم والشمس مرتفعة، ولم يعد [الصلاة] رواه البيهقي، وللموطأ معناه،
واحتج به أحمد.
238 - وعن ابن أبي الزناد عن أبيه، قال: كل من أدركت من فقهائنا - فذكر
الفقهاء السبعة - كانوا يقولون: من تيمم فصلى، ثم وجد الماء [وهو] في
الوقت، أو [في] غير الوقت، فلا إعادة عليه، ويتوضأ لما يستقبل من الصلوات
ويغتسل،
(1/335)
والتيمم من الجنابة والوضوء سواء. رواه
البيهقي والله أعلم.
[كيفية التيمم]
قال: والتيمم ضربة واحدة.
ش: أي التيمم المشروع، أو الواجب، أو المجزئ ضربة واحدة، لا نزاع عندنا
فيما نعلمه أن الواجب في التيمم ضربة واحدة للوجه والكفين.
239 - لما «روى عمار - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: أجنبت، فلم أصب الماء،
فتمعكت في الصعيد ثم صليت، فذكرت ذلك للنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - فقال: «إنما يكفيك هذا» وضرب النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - بكفيه الأرض، ونفخ فيهما، ثم مسح بها وجهه وكفيه. متفق عليه،
وفي لفظ: لم يجاوز الكوع وفي لفظ للدارقطني «إنما [كان] يكفيك أن تضرب
بكفيك [في] التراب، ثم تنفخ فيهما، ثم تمسح بهما وجهك وكفيك إلى الرسغين» .
(1/336)
240 - وعن عمار أيضا، «أن النبي - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال في التيمم «ضربة للوجه والكفين» رواه
أحمد، والترمذي بمعناه وصححه.
ولقد أنصف الشافعي (- رَحِمَهُ اللَّهُ -) حيث قال في رواية الزعفراني [إن]
ابن عمر تيمم ضربة للوجه، وضربة لليدين إلى المرفقين، وبهذا رأيت أصحابنا
يأخذون، وقد روي فيه شيء عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
لو علمته ثابتا لم أعده، ولم أشك فيه، وقد قال عمار: تيممنا مع [النبي]-
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلى المناكب، وروي عنه الوجه والكفين.
فكأن قوله: تيممنا مع النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلى
المناكب. لم يكن عن أمر الرسول [- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -] ،
فإن ثبت عن عمار، عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الوجه
واليدين، ولم يثبت عنه: [إلى] «المرفقين» فالثابت أولى. اهـ ولا ريب في
ثبوت ذلك عند أهل العلم بهذا الشأن، وأنه أثبت من «إلى المرفقين» بل لم
يثبت في ذلك شيء، قال الإمام أحمد [- رَحِمَهُ اللَّهُ -] :
(1/337)
من قال ضربتين. إنما هو شيء زاده. اهـ.
وهل تسن زيادة على ضربة؟ المنصوص - وهو ظاهر كلام الخرقي، واختيار أبي محمد
وغيره - لا تسن، لما تقدم، إذ قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
«في التيمم: «ضربة للوجه والكفين» ظاهره أن التيمم ليس إلا هذا، وقال
القاضي، والشيرازي، وابن الزاغوني، وأبو البركات: يسن ضربتان، ضربة للوجه،
وأخرى لليدين إلى المرفقين احتياطا، للخروج من الخلاف، إذ بعض [العلماء]
يوجبه، مع أنه قد ورد.
(1/338)
241 - فعن جابر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -
عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «التيمم ضربة للوجه،
وضربة لليدين إلى المرفقين» رواه الدارقطني، وروى أيضا نحوه من حديث ابن
عمر وغيره عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وهي وإن كان في
أسانيدها مقال، لكن ورودها من طرق يفيد ظنا بصحتها، على أن الدارقطني -
فيما أظن - صحح بعضها، ويحمل ما تقدم على الإجزاء، جمعا بين الكل، ولا نزاع
فيما نعلمه أنه لا يسن زيادة على ضربتين إذا حصل الاستيعاب بهما. .
(تنبيه) : الرصغ والرسغ مفصل اليد، والله أعلم.
قال: يضرب بيديه على الصعيد الطيب وهو التراب.
ش: صفة الضربة في التيمم المشروع [أو الواجب] أن
(1/339)
يضرب بيديه على ما أمر الله سبحانه [وتعالى
به] وهو الصعيد الطيب، ثم فسر الصعيد بأنه التراب، وهذا أشهر الروايات عن
أحمد، واختيار عامة أصحابه لظاهر قول الله سبحانه: {فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا
طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ} [المائدة: 6]
فدل على أنه شيء يمسح منه، والصخر ونحوه ليس بشيء يمسح به.
242 - ويؤيد ذلك ما روي عن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أنه قال:
الصعيد تراب الحرث، والطيب الطاهر.
243 - (وعن حذيفة) - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عن النبي - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «جعلت لنا الأرض كلها مسجدا، وجعلت تربتها لنا
طهورا إذا لم نجد الماء» رواه مسلم 8.
244 -[وعن علي]- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أعطيت ما لم يعط أحد من الأنبياء، نصرت بالرعب،
وأعطيت مفاتيح الأرض، [وسميت أحمد] ، وجعل لي التراب
(1/340)
طهورا، وجعلت أمتي خير الأمم» رواه أحمد،
فعم الأرض بحكم المسجدية، وخص ترابها بحكم الطهارة، وذلك يقتضي نفي الحكم
عما عداه، (وقول الخليل) : إن الصعيد وجه الأرض. وكذلك الزجاج، مستدلا
بقوله سبحانه: {فَتُصْبِحَ صَعِيدًا زَلَقًا} [الكهف: 40] وقائلا: بأنه لا
يعلم فيه خلافا بين أهل اللغة. يعارضه قول ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُمَا -، على أن قولهما يرجع إلى التفسير اللغوي، وقول ابن عباس يحمل
على التفسير الشرعي، ويؤيده بيان صاحب الشرع حيث قال: «وترابها لنا طهورا»
(وقول من قال) : إن (منه) لابتداء الغاية، ليكن ابتداء الفعل بالأرض،
وانتهاء المسح بالوجه. مردود بأن ابتداء المسح بإمرار اليد على الوجه [لا]
بالأخذ من الأرض، وقد قال الزمخشري: إن هذا قول متعسف، وإن
(1/341)
الإذعان للحق أحق من المراء، (والثانية) -
أومأ إليها في رواية أبي داود وغيره - يجوز التيمم بالرمل، والأرض السبخة،
لعموم الحديث الصحيح «وجعلت لي الأرض مسجدا وطهورا» .
245 - وقوله في الحديث الآخر: «أيما رجل من أمتي أدركته الصلاة فعنده مسجده
وطهوره» وما تقدم بعض أفراد هذا، وذكر بعض الأفراد لا يخصص، وهذا وإن شمل
كل الأرض لكن قَوْله تَعَالَى: {فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ
مِنْهُ} [المائدة: 6] خصصه بما في معنى التراب من الرمل ونحوه (ويجاب) :
بأن التخصيص بالمفهوم، لا بذكر بعض الأفراد، وهو وإن كان مفهوم اللقب، فهو
حجة عندنا على المذهب (والرواية الثالثة) : يجوز التيمم بكل ما تصاعد على
وجه الأرض من الجص، والنورة، والرمل، ونحو ذلك، عند عدم التراب، حملا للنص
المقيد بالتراب على حال وجدانه، والنص المطلق على حالة العدم، جمعا بينهما.
(1/342)
إذا تقرر هذا (فعلى الأولى) يجوز [التيمم]
بكل تراب، على أي لون كان، بشرط كونه له غبار يعلق باليد، ومن ثم لو ضرب
بيده على لبد أو [على] شجرة، ونحو ذلك، فحصل على يده غبار تراب أجزأه،
وكذلك لو سحق الطين وتيمم به أجزأه، وإن كان مأكولا كالطين الأرمني، نعم:
إن كان بعد طبخه لم يجزه على أشهر الوجهين، فإن خالط ما يتيمم به ما لا
يتيمم به، كالزعفران ونحوه، فهل هو كالماء إذا خالطه الطاهرات، وهو قول
القاضي، وأبي الخطاب وغيرهما: إن غيره منع هنا قولا واحدا، وهو اختيار ابن
عقيل، وأبي البركات، على طريقتين، ومحلهما فيما يعلق باليد كما مثلنا، أما
ما لا يعلق باليد فلا يمنع، لنص
(1/343)
أحمد على جواز التيمم (وعلى الرواية
الثانية) فظاهر كلام أحمد الجواز مطلقا، والقاضي يحمل قوله بالجواز على ما
إذا كان له غبار، وقوله بالمنع على عدم الغبار، فلا خلاف عنده [وعلى]
الثالثة) هل يعيد إذا وجد الماء أو التراب؟ فيه روايتان.
وقول الخرقي: يضرب بيديه. ليست حقيقة الضرب شرطا، بل لو وضع يده على تراب
ناعم أجزأه، إذ القصد إغبار الراحتين، وقد وجد، لكنه قد يحترز بذلك عما إذا
وصل التراب إلى وجهه ويديه بغير ضرب، نحو أن سفت عليه الريح ترابا يعمه،
وله حالتان (إحداهما) إذا نوى بعد حصول التراب عليه، فإنه لا يجزئه،
لانتفاء قصد التراب رأسا، نعم لو مسح وجهه بما حصل على يديه أجزأه،
(الثانية) : نوى وعمد للريح فحصل عليه تراب، فهنا ثلاثة أوجه (الإجزاء) وهو
مختار أبي جعفر، وأبي البركات وصاحب التلخيص، والسامري (وعدمه) ، وهو ظاهر
كلام الخرقي، (والثالث) إن مسح أجزأه، وإلا فلا، والله أعلم.
قال: وينوي به المكتوبة.
ش: لا نزاع عندنا في اشتراط النية في التيمم في الجملة، لقوله
(1/344)
تعالى: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا
لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} [البينة: 5] وقول النبي -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إنما الأعمال بالنيات» «لا عمل إلا
بنية» ونحو ذلك، ثم كيفية النية قد بناه جماعة على أصل، فلنتعرض له وهو: أن
التيمم هل يرفع الحدث أم لا؟ وفيه قولان للعلماء، أشهرهما أنه لا يرفع
الحدث، وهو المختار لأصحابنا، وأحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - نقل عنه الفضل،
وبكر بن محمد أنه يصلي [به] ما لم يحدث، فأخذ من ذلك أبو الخطاب وغيره أنه
يرفع الحدث، ونقل عنه أنه لا يصح التيمم لفريضة قبل وقتها، وأنه يتيمم لوقت
كل صلاة، بل وأنه لا يجمع به بين فرضين، فأخذ من ذلك أنه لا يرفع الحدث.
وبالجملة قد جاء في الباب حديثان مشهوران.
246 -[أحدهما] «حديث عمرو بن العاص قال: احتلمت في ليلة باردة، في غزوة ذات
السلاسل، فأشفقت إن اغتسلت أن أهلك، فتيممت، ثم صليت بأصحابي الصبح، فذكروا
ذلك للنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «يا عمرو صليت بأصحابك
وأنت جنب» ؟ فأخبرته بالذي منعني من الاغتسال، وقلت: إني سمعت الله عز وجل
يقول: {وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ
رَحِيمًا} [النساء: 29]
(1/345)
فضحك رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - ولم يقل شيئا» . رواه أبو داود، وظاهره أنه - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أقره على أن صلى وهو جنب، وإلا لم يبين لهم أنه ليس
بجنب.
247 - (والثاني) : حديث أبي ذر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أن رسول الله -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إن الصعيد الطيب وضوء المسلم
وإن لم يجد الماء عشر سنين، فإذا وجد الماء فليمسه بشرته، فإن ذلك خير»
رواه الترمذي، وأبو داود، والنسائي، وفي رواية «طهور» فدل على أنه عند عدم
الماء طهور بمنزلة [الماء] ، وإذا يعطى حكم الماء، فيرفع الحدث، والحق أنه
لا تعارض بين الحديثين، إذ (في الأول) غايته أنه لم يمنع من إطلاق الحدث
عليه، لأن بزوال البرد، أو بوجود الماء ونحو ذلك يظهر حكم الحدث، ويبطل
التيمم، فدل على أن المانع لم يزل رأسا، (وفي الثاني) جعل التراب طهورا عند
عدم الماء، لأنه يستبيح به ما يستبيح بالماء والحال ما تقدم.
(1/346)
وقد قال أبو العباس: إن ذلك ينبني على
قاعدة أصولية، وهي أن المانع المعارض للمقتضي هل يرفعه أم لا؟ فإن المقتضي
للحدث موجود، وقد عارضه عدم الماء، مع الحاجة إلى الصلاة، وقيام الشارع
التراب مقام الماء، فهل يقال: استبيحت الصلاة والحال هذه، مع قيام السبب
المانع منها وهو الحدث، أو أن السبب والحال هذه لم يبق حاضرا، فكأن لا حدث؟
ونظير ذلك الاختلاف في الميتة عند الضرورة، هل أبيحت مع قيام سبب الحظر،
وهو ما فيها من [خبث] التغذية، أو [أن] عند الضرورة زال المقتضي للحظر، مع
بقاء] قيام السبب وهو التحريم.
وكشف الغطاء من ذلك أنه إن أريد بالسبب الحاضر السبب التام، وهو مجموع ما
يستلزم الحكم من العلة، والشرط، وعدم المانع، فلا ريب في ارتفاع هذا عند
المخمصة، وعند الصلاة بالتيمم، لوجود الحل وإباحة الصلاة، وإن أريد بالسبب
ما يقتضي الحكم وإن توقف على وجود شرط، أو انتفاء مانع، فلا ريب في وجود
هذا هنا، لولا المعارض الراجح، وهو المخمصة، وعدم الماء، فالقائل الأول
التفاته إلى هذا السبب، والقائل الثاني التفاته إلى السبب التام، وإذا
فالفريقان مجمعان على إباحة الصلاة والحال ما
(1/347)
تقدم، وعلى منع الصلاة عند وجود الماء حتى
يتطهر، ومن ثم قال القاضي في تعليقه: الخلاف في عبارته، قال: إذ فائدة
قولنا: إنه لا يرفع الحدث. أنه إذا وجد الماء لزمه استعماله في رفع الحدث،
وهذا اتفاق.
ومن هنا يعرف خطأ ابن حمدان في قوله: وعنه يصلي به ما لم يحدث. وقيل: أو
يجد ماء. فإنه يقتضي أنه على النص يصلي وإن وجد الماء، وهو خلاف الإجماع،
والنصوص الصريحة، والذي أوقعه في ذلك - والله أعلم - أن النص عن أحمد مطلق،
لكن نصوصه المتوافرة بالبطلان بوجود الماء حتى وهو في الصلاة، تقيد ذلك، لا
سيما مع النصوص الصريحة فكيف يظن بأحمد مخالفتها.
وقول أبي البركات: وعنه: يصلي به ما لم يحدث كالماء. وكأن أبا البركات أراد
[أن] على هذه الرواية أشبه الماء، فيعطى حكمه، من جواز التيمم قبل الوقت،
ونحو ذلك، كما صرح به. اهـ وظاهر ما قاله القاضي من أن الخلاف في عبارته،
أنه لم يبن على ذلك فائدة شرعية، وكذا صرح به أبو العباس في قواعده فقال:
ليس بين القولين نزاع شرعي عملي، بل عليهما لم يبق الحدث مانعا مع
(1/348)
وجود طهارة التيمم، فيكون طاهرا قبل الوقت
وبعده وفيه، وبنى البطلان بخروج الوقت، [وكونه لا يجمع به بين فرضين، على
القول بأنه لا يتيمم قبل الوقت] وبين كونه يصلي به ما يشاء، ولا يبطل بخروج
الوقت على القول بجواز التيمم قبل الوقت، والقاضي خرج رواية جواز التيمم
قبل الوقت من قوله: إنه يصلي به ما لم يحدث. فعلى هذا يكون أبو العباس قد
جعل الأصل فرعا، والفرع أصلا، أما أبو الخطاب، وجماعة فقالوا: إنا إذا
قلنا: لا يرفع الحدث. اشترط أن ينوي استباحة الصلاة من الحدث الذي عليه ثم
إذا نوى شيئا استباحه وما دونه، ولا يستبيح ما هو أعلى منه، كما يأتي
بيانه، ولا يجوز إلا بعد الوقت، ويبطل بخروجه، وإن قلنا: يرفع. جاز أن ينوي
رفع الحدث، وإذا نوى فعل الصلاة استباح فرضها، وجاز قبل الوقت، ولم يبطل
بخروجه، كالماء سواء.
إذا تقرر هذا فقول الخرقي: ينوي به المكتوبة. ظاهره - والله أعلم -[أنه]
لحظ ما تقدم، من أن التيمم مبيح لا رافع، فيحصل له إباحة ما نواه، ويدخل
فيه بطريق الضمن ما دونه، ولا شيء أعلى من المكتوبة، فلذلك نص الخرقي
عليها، وقد نص أحمد في رواية البرزاطي في من تيمم
(1/349)
لسجود القرآن، أو للقراءة في المصحف، وصلى
به فريضة أنه يعيد، وعلى هذه القاعدة: لو نوى صلاة الجنازة استباح النافلة،
لا المكتوبة، ولا يستبيح الجنازة بنية النافلة، ويستبيح مس المصحف بنيتهما،
ولا تباح هي بنيتهما، ويستبيح قراءة القرآن واللبث في المسجد، بنية الطواف،
لأنه أعلى منهما، لشبهه بالصلاة، ولا يباح هو بنية أحدهما، ولو [نوى] قراءة
القرآن، لكونه جنبا، أو اللبث في المسجد، أو مس المصحف، فقال أبو محمد: لا
يستبيح غير ما نواه، وقال أبو البركات: إن نوى القراءة، أو اللبث استباح
الآخر، دون ما يقتضي الطهارتين، [من صلاة، ومس مصحف، إذ تيممه هذا كالغسل
وحده، ويستبيح بنية النافلة، ومس المصحف اللبث والقراءة، لأن تيممه والحال
هذه بمنزلة الطهارتين] .
هذا كله على ما هو عندهم المذهب كما تقدم، أما على القول الآخر فالتيمم
كالماء، فتباح الفريضة بنية النافلة، كما نص عليه الخرقي ثم، وتوسط ابن
حامد فقال: يباح الفرض بنية مطلقة، [دون نية النفل] . والله أعلم.
قال: فيمسح بهما وجهه وكفيه.
ش: يمسح بالضربة التي ضربها بيديه وجهه وكفيه، لما تقدم من حديث
(1/350)
عمار، والواجب في مسح الوجه ظاهره مما لا
يشق، فلا يمسح باطن الفم والأنف، ولا باطن الشعور الخفيفة، وظاهر ما في
المستوعب استثناء باطن الفم والأنف فقط، وفي مسح اليدين إلى الرسغين، كما
في الحديث، وكما يقطع السارق، فلو قطع منهما، فهل يجب مسح موضع القطع؟ وهو
المنصوص، ومختار ابن عقيل، وصاحب التلخيص، كما لو بقي من الكف بقية، أو لا
يجب، وهو قول القاضي، بل يستحب، كما لو قطع من فوق الكوع على منصوصه، فيه
قولان.
وقوله: يمسح بهما وجهه. يخرج به ما إذا معك وجهه في التراب، أو أوصله إليه
بخرقة، أو خشبة، وهو أحد الوجهين.
وظاهر كلام الخرقي أنه لا يشترط التسمية، ولا الموالاة، ولا الترتيب، وهو
لم يشترط التسمية في الوضوء الذي فيه النص، فالتيمم الذي هو بدل عن الوضوء
أولى.
وكذلك ظاهر كلامه عدم اشتراط الموالاة ثم، كما سبق، فكذلك هنا، والأصحاب
حكوا في المسألتين روايتين من الروايتين ثم، أما الترتيب فقال: ثم
باشتراطه، وظاهر كلامه هنا عدم الاشتراط، وهو أحد الأقوال، وإن اشترطناه في
الوضوء، نظرا لظواهر الأحاديث، والثاني: يجب حتى في الطهارة الكبرى، لأنه
صفة واحدة، بخلاف الغسل والوضوء، فإن صفتيهما مختلفة، وهو قول أبي الحسين،
والمذهب إعطاء حكم التيمم في ذا المحل حكم الماء، فيجب
(1/351)
الترتيب في الوضوء على المذهب، ولا يجب في
الغسل، [والله أعلم] .
قال: وإن كان ما ضرب بيديه غير طاهر لم يجزئه
ش: قد تقدم أنه يضرب بيديه على الصعيد الطيب، وأشار هنا إلى أن الطيب [هو]
الطاهر، ويروى عن ابن عباس.
248 - وقال ابن المنذر: ثبت أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - قال: «جعلت لي كل أرض طيبة مسجدا وطهورا» فعلى هذا لا يجوز
بأرض نجسة، ولا مقبرة تكرر نبشها، لاختلاط ترابها بصديد الموتى، وإن لم
يتكرر النبش فوجهان، (الأجزاء) ، وبه قطع أبو محمد، واختاره أبو البركات،
نظرا للأصل، (وعدمه) ، لأنه رخصة في الأصل، فلا يستباح مع الشك.
وقول الخرقي: طاهر. يحتمل أن يحترز به عن النجس كما تقدم، فيدخل في عمومه
ما يتيمم به، ويحتمل أن يريد به الطاهر المطلق، كما قال في الماء ثم، فيخرج
المستعمل،
(1/352)
وبالجملة في المستعمل هنا - إن قيل بخروج
الماء عن طهوريته ثم، وأن التيمم لا يرفع الحدث، قولان (أحدهما) : بقاؤه
على ما كان عليه، لأنه لم يرفع حدثا، (والثاني) : خروجه عن الطهورية، وبه
قطع صاحب التلخيص، والسامري، لاستعماله في طهارة أباحته الصلاة ومحل الخلاف
[في] المتناثر عن أعضاء المتيمم، أما ما ضرب بيديه عليه فهو كفضل الوضوء.
بقي: هل خلوة المرأة في التيمم كخلوتها في الوضوء؟ لم أر المسألة منقولة،
والقياس ذلك، لكن المسألة المنع فيها تعبد، فليقتصر على مورد النص ثم، وبعض
العلماء قال: المراد بالطيب هو الحلال. وهذا لا ريب في اشتراطه عنده على
المذهب، كالوضوء بماء مغصوب بل أولى، إلا أن في أخذه من هنا نظرا، نعم
الطيب يطلق ويراد به الحلال، كما في قَوْله تَعَالَى: {أَنْفِقُوا مِنْ
طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ} [البقرة: 267] ونحو ذلك، وبعضهم قال: المراد
بالطيب المنبت. مستندا لقوله سبحانه وتعالى: {وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ
يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ} [الأعراف: 58] وهذا قول من لا يجوز
التيمم بغير التراب، كما هو المشهور من مذهبنا، والله أعلم.
قال: وإن كان به قرح أو مرض مخوف، وأجنب فخشي
(1/353)
على نفسه [إن أصابه] الماء، غسل الصحيح من
جسده، وتيمم لما لم يصبه الماء.
ش: لما انتهى الخرقي [- رَحِمَهُ اللَّهُ -] من الكلام على التيمم لعدم
الماء، طفق يتكلم على التيمم للمرض ونحوه، ولا إشكال في جواز ذلك في
الجملة، وقد دل على ذلك قوله سبحانه [وتعالى] : {وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى
أَوْ عَلَى سَفَرٍ} [المائدة: 6] الآية، وقَوْله تَعَالَى: {وَلَا
تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ} [النساء: 29] وبها استدل أحد فقهاء الصحابة عبد
الله بن عمرو بن العاص، لما تيمم في ليلة باردة، لجنابة أصابته، وأقره
النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على ذلك.
إذا عرف هذا فالمريض ونحوه إذا [كان] حاله ما تقدم، فإنه يغسل الصحيح
ويتيمم للجريح ونحوه، سواء كان المتيمم له [هو] القليل أو بالعكس، لقول
الله سبحانه: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن: 16] وقول
النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه
ما استطعتم» .
249 - «وعن جابر (- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -) قال: خرجنا في سفر، فأصاب
رجلا منا حجر، فشجه في رأسه، ثم احتلم، فقال لأصحابه: هل تجدون لي رخصة؟
قالوا: ما نجد لك
(1/354)
رخصة، وأنت تقدر على الماء. فاغتسل فمات،
فلما قدمنا على النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أخبر بذلك،
فقال: [قتلوه قتلهم الله، ألا سألوا إذا لم يعلموا، إنما شفاء العي السؤال]
، إنما كان يكفيه أن يتيمم، ويعصر أو يعصب - شك موسى - على جرحه خرقة، ثم
يمسح عليها، ويغسل سائر جسده» رواه أبو داود، والدارقطني، وهو نص، لكنه من
رواية الزبير بن خريق قال البيهقي: وليس ممن يحتج به.
250 - وقد روي أيضا نحوه عن عطاء، أنه سمع ابن عباس يخبر «أن رجلا أصابه
جرح في عهد النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثم أصابه احتلام،
فأمر بالاغتسال، فاغتسل فكز فمات، فبلغ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: «قتلوه قتلهم الله، ألم يكن شفاء العي السؤال؟»
قال عطاء: فبلغنا أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال:
«لو غسل جسده، وترك رأسه حيث أصابه الجرح» .
(1/355)
إذا تقرر هذا فشرط جواز التيمم للمرض أو
الجرح أن يخشى على نفسه من إصابة الماء، إذ لا ريب في أن الماء هو الأصل،
والأصل لا يعدل عنه إلا لضرورة، كما في الإطعام مع الصيام، والصيام مع
العتق في الكفارة، وقَوْله تَعَالَى: {وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى
سَفَرٍ} [المائدة: 6] الآية أي - والله أعلم - مرضنا يتضرر معه باستعمال
الماء، وإلا يكون ذكر المرض لغوا.
251 - وقد ثبت أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال:
«الحمى من فيح جهنم، فأطفئوها بالماء» والحمى نوع من المرض، ثم هل الخشية
المشترطة هي تلف النفس، أو العضو، أو يكتفي بخشية الضرر، من زيادة مرض، أو
تباطؤ برء، ونحو ذلك؟ فيه روايتان، المذهب منهما الثاني. وصورة هذه المسألة
إذا
(1/356)
خشي على نفسه من إصابة الماء مسحا وغسلا،
أما إن خشي غسلا لا مسحا فثلاث روايات (إحداهن) - واختارها القاضي - فرضه
التيمم [كما تقدم، إذ الواجب الغسل، وقد تعذر عليه، فوجب الانتقال إلى
التيمم] ، لعجزه عن الواجب، (والثانية) : فرضه المسح، لأنه أقرب إلى المعنى
المأمور به وهو الغسل (والثالثة) : يجمع بين التيمم والمسح، فالتيمم للعجز
عن الغسل، والمسح لقدرته على إيصال الماء إلى العضو في الجملة.
وكلام الخرقي محتمل للقولين الأولين، ومحل الروايات [إذا لم يكن] الجرح
نجسا [أما إن كان نجسا] فإنه قال في التلخيص: لا يمسح ويتيمم. ثم إن كانت
النجاسة معفوا عنها ألغيت، واكتفى بنية الحدث، وإلا نوى الحدث والنجاسة إن
شرطنا فيها النية، وهل يكتفي بتيمم واحد؟ على وجهين، وفي البلغة احتمال أنه
لا يجزئه إلا تيمم واحد، قال: لتحصل الإباحة المنوية.
وقد فهم من كلام الخرقي جواز التيمم للجنب، وهو قول العامة، لما تقدم من
حديث عمار بن ياسر، وعمرو بن العاص، وصاحب الشجة، وأبي ذر.
(1/357)
252 - وعن عمران بن حصين - رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُ -، قال: «رأى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رجلا
معتزلا، لم يصل في القوم، فقال: «يا فلان ما منعك أن تصلي في القوم» ؟
فقال: يا رسول الله أصابتني جنابة ولا ماء. قال: «عليك بالصعيد فإنه يكفيك»
متفق عليه.
واعلم أن الحكم المتقدم لا يختص بالجنابة، بل الوضوء كذلك وإنما نص الخرقي
على الجنابة لينبه على مذهب الخصم.
(تنبيهان) : (أحدهما) : يخير الجنب الجريح ونحوه بين البداءة بالغسل أو
بالتيمم، لوجود سببهما، وعدم اعتبار الترتيب لطهارته، وهذا بخلاف الجنب
الواجد لماء يكفي بعض بدنه، فإنه لا يصح تيممه حتى يستعمل ما وجده، ليتحقق
شرط التيمم وهو العدم، أما الجريح المتوضئ، فعند عامة الأصحاب يلزمه أن لا
ينتقل إلى ما بعده حتى يتيمم للجرح، نظرا للترتيب، وأن يغسل الصحيح، مع
التيمم لكل صلاة إن اعتبرت الموالاة، واختار أبو البركات - وإليه ميل أبي
محمد - سقوط الترتيب والموالاة في ذلك، دفعا
(1/358)
للحرج والمشقة، مع عدم النص في ذلك، وإذا
كان الجرح في أعضاء التيمم أمر التراب عليه. (الثاني) : القرح بفتح القاف
وضمها لغتان بمعنى الجراح وألمها، كالضعف والضعف، وقد قرئ بهما في قوله
سبحانه: {إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ} [آل عمران: 140] ، وقيل: بالفتح
الجراح، وبالضم ألمها، «والعي» قصور الفهم، وشفاء هذا المرض بالسؤال عما
جهله ليعرف، والله أعلم.
[ما يباح به التيمم]
قال: وإذا تيمم صلى الصلاة التي [قد] حضر وقتها، وصلى به فوائت - إن كانت
عليه - والتطوع، إلى أن يدخل وقت الصلاة الأخرى.
ش: هذا هو المذهب المشهور، المعمول به - عند الأصحاب - من الروايات. مع أن
القاضي في التعليق لم يحك [به] نصا، وإنما قال: أطلق أحمد القول في رواية
الجماعة، أبى طالب، والمروذي، وأبي داود، ويوسف بن موسى، أنه يتيمم لكل
صلاة، ومعناه: لوقت كل صلاة. قال: وقد ذكره
(1/359)
الخرقي على هذا. اهـ. (والثانية) أنه يصلي
به ما لم يحدث، نص عليها في رواية الفضل، وبكر بن محمد، (والثالثة) - وهي
المشهورة في نصه - لا يجمع [به] بين فرضين، وقد تقدمت الإشارة إلى توجيه
الخلاف، وأن أبا الخطاب وغيره بنو ذلك على أن التيمم هل يرفع الحدث أم لا؟
وأبا العباس بنى على جواز التيمم قبل الوقت، وعدم جوازه، ونزيد هنا بأن
المنقول عن الصحابة التيمم لكل صلاة.
253 - فعن ابن عمر بإسناد صحيح: يتيمم لكل صلاة، وإن لم يحدث. وعن الحارث،
عن علي قال: يتيمم لكل صلاة. وعن قتادة أن عمرو بن العاص كان يحدث لكل صلاة
تيمما، وكان قتادة يأخذ به، رواهن ابن المنذر والبيهقي في سننه.
254 - وروي أيضا عن ابن عباس أنه قال: لا يصلي بالتيمم إلا صلاة
(1/360)
واحدة ولهذا والله أعلم جاءت غالب نصوص
أحمد على ذلك، تبعا للصحابة.
255 - وقد روى [أيضا] «عن ابن عباس أنه قال: من السنة أن لا يصلي الرجل
بالتيمم إلا صلاة واحدة، ثم يتيمم للأخرى» ، وهذا أقوى في اشتراط التيمم
لكل صلاة، لكنه من رواية الحسن بن عمارة، وهو ضعيف.
256 - مع أن حربا روى بإسناده عن ابن عباس أنه قال: التيمم بمنزلة الوضوء،
يصلي به الصلوات كلها ما لم يحدث، وبالجملة لا تفريع على الرواية الوسطى،
أما على الثالثة فيستبيح إذا تيمم لصلاة [الفرض] الطواف، ومس المصحف،
واللبث في المسجد إن كان جنبا، والوطء إن كانت حائضا، وذكر ابن عقيل أن
الوطء يحتاج إلى تيمم، والتنفل قبل الصلاة وبعدها، [على] مختار القاضي
وغيره، وظاهر كلام أحمد
(1/361)
في رواية علي بن سعيد: أنه لا يستبيح إلا
السنة الراتبة قبل، وحكى أبو الخطاب وجها في الانتصار: أن كل نافلة تحتاج
إلى تيمم، لظاهر قول الصحابة المتقدم، وهو ظاهر نصوص أحمد السابقة، وقد روى
البرزاطي عنه فيما وجد بخط ابن بطة: رجل تيمم في السفر، وصلى على جنازة، ثم
جيء بأخرى فصلى عليها بذلك التيمم، فقال: إن جيء بالأخرى حين سلم من الأولى
صلى عليها بذلك التيمم، وإن كان بينها مقدار ما يمكنه التيمم لم يصل على
الأخرى حتى يعيد التيمم. قال القاضي: وهذا يحتمل وجهين (أحدهما) أن وقت
الأولى إلى تمام فعلها، فإذا جاء بعد ذلك فقد خرج الوقت.
(والثاني) [أن الثانية] إذا جاءت عقب الأولى لحقت المسبقة في التيمم،
لتفاوت الزمن، بخلاف ما إذا تراخت. قلت: وهذا من القاضي يقتضي أن وقت صلاة
الجنازة يخرج بفعلها، وقوة كلام الإمام يقتضي أنه لا يصلي بتيمم واحد
نافلتين، لأنه أطلق، مع أن من الجائز أن صلاة الجنازة نافلة في حقه اهـ.
وعلى المذهب: يصلي الصلاة التي تيمم لها، وما عليه من منذورة وفائتة، ويجمع
بين الصلاتين،
(1/362)
ويتطوع، ويصلي على الجنازة، إلى أن يدخل
وقت التي تليها فيبطل، وهل يبطل الفجر بخروج وقتها، أو بدخول [وقت] التي
تليها؟ فيه وجهان، ظاهر كلام الخرقي الثاني، وقال أبو محمد في المغني: [إن]
المذهب الأول، وحمل كلام الخرقي عليه، وظاهر كلامه نفي الخلاف، ولو كان
تيمم في غير وقت صلاة، كالمتيمم بعد طلوع الشمس يبطل بزوال الشمس، ولو نوى
الجمع بين الصلاتين في وقت الثانية من يباح له، فتيمم في وقت الأولى لها،
أو لفائتة، لم يبطل تيممه بدخول وقت الثانية، لأن الوقتين قد صارا للصلاتين
وقتا واحدا.
(تنبيهان) :
(أحدهما) : ظاهر كلام الأصحاب أن التيمم يبطل بخروج الوقت، ولو كان في
صلاة، وصرح به في المغني، وعن ابن عقيل: لا يبطل وإن كان الوقت شرطا، كما
قلنا في الجمعة، وخرجه السامري على روايتي وجود الماء في الصلاة.
(الثاني) : إذا خرج الوقت ولم يصل الحاضرة التي تيمم لها، فعند أبي
البركات: له قضاؤها، وقضاء
(1/363)
النوافل، والفوائت، ومس المصحف، والطواف،
لاستباحة ذلك، وعند الأصحاب ليس له ذلك، وكذا لو تيمم لنافلة قبل الزوال،
جاز فعلها [عنده دونهم، وعكس هذا لو تيمم لحاضرة، ثم نذر صلاة، لم يجز عنده
فعلها] [بذلك] ، لعدم سبق وجوبها، وظاهر قول الأصحاب الجواز، وملخص الأمر
أن الأصحاب أناطوا الحكم بالوقت، وأبا البركات بما استباحه.
ومما خالف فيه الأصحاب أيضا (لو) تيمم الجنب لقراءة، أو لبث في مسجد، أو
الحائض لوطء، أو استباحوا ذلك بالتيمم لصلاة، لم يبطل تيممهم بدخول وقت
الصلاة عنده، وعندهم يبطل، وأبطله أبو البركات بأن وقت الصلاة لا تعلق له
بذلك والله أعلم.
قال: وإذا خاف العطش حبس الماء وتيمم وصلى، ولا إعادة عليه.
257 - ش: لما روي عن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - في الرجل يكون في
السفر، فتصيبه الجنابة، ومعه الماء القليل، يخاف أن يعطش،
(1/364)
قال: يتيمم ولا يغتسل. رواه الدارقطني،
وروى البيهقي أيضا عنه نحوه.
258 - وعن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قال: إذا كنت مسافرا وأنت
جنب أو محدث، فخفت إن توضأت تموت من العطش، فلا تتوضأ، واحبس لنفسك. رواه
البيهقي في سننه وقال أحمد: عدة من أصحاب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كانوا يتيممون ويحبسون الماء لشفاههم ولأنه يخشى
الضرر على النفس، فأشبه المريض بل أولى، وحكم خشية العطش على رفيقه أو
بهيمة محترمة له أو لرفيقه، حتى كلب صيد - لا خنزير ونحوه - حكم خشية العطش
على نفسه.
(تنبيه) : هل دفع الماء إلى عطشان يخشى تلفه واجب أو
(1/365)
مستحب؟ على وجهين، هذا نقل أبي محمد، وصاحب
التلخيص، وفي الغاية - وهو أصوب - هل حبس الماء لعطش الغير المتوقع واجب أو
مستحب؟ على وجهين، ويقرب من النقل الأول: إذا مات من له ماء، ورفقته عطاش،
فهل ييمموه ويغرموا الثمن للورثة، أو يكون الميت أولى به؟ قال أبو بكر في
التنبيه: على قولين، أظهرهما الأول، والله أعلم.
قال: وإذا نسي الجنابة، وتيمم للحدث لم يجزئه.
ش: وكذلك بالعكس، لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إنما
الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى» وكطهارة الماء بل أولى، لأن ثم
رافع، وهذا مبيح على الأشهر، ومفهوم كلامه أنه لو نواهما أجزأه، وهو كذلك
لما تقدم، وإذا أحدث إذا بطل تيممه عن الحدث دون الجنابة، والله أعلم.
[الحكم لو وجد المتيمم الماء وهو في الصلاة]
قال: وإذا وجد المتيمم الماء وهو في الصلاة خرج فتوضأ، أو اغتسل إن كان
جنبا، واستقبل الصلاة.
ش: إذا وجد المتيمم الماء وهو في الصلاة فإنه يلزمه الخروج منها، على
المشهور المعمول عليه في المذهب، لقوله – - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - لأبي ذر: «إن الصعيد الطيب وضوء المسلم - وفي رواية طهور
المسلم - عشر سنين، ما لم يجد الماء، فإذا وجد الماء فليمسه
(1/366)
بشرته» فجعل طهوريته مقيدة بعدم وجدان
الماء، فإذا وجد الماء فليس بوضوء ولا طهور، ولذلك أوجب عليه استعمال الماء
إذا قدر [عليه] ، ولأن تيممه قد بطل، بدليل أنه لو لم يفرغ من الصلاة حتى
عدم الماء لم يجز له التنفل حتى يجدد التيمم، صرح به ابن عقيل وغيره، وكذا
لو كان في نافلة، ولم ينو عددا، لم يزد على ركعتين، بل ولا على ركعة إن صح
التطوع بها، وأبو محمد يختار عدم البطلان إن لم يقل ببطلان الصلاة برؤية
الماء، وإذا له التنفل بعد، إن عدم الماء قبل كمال الصلاة، ولأنه معنى يبطل
به التيمم خارج الصلاة، وكذلك فيها، كانقطاع دم الاستحاضة.
وعن أحمد [- رَحِمَهُ اللَّهُ -] رواية أخرى نص عليها في رواية الميموني
وغيره: أنه يمضي فيها، حذارا من بطلان العمل المنهي عن إبطاله، واستدل
بعضهم بعموم «لا ينصرف حتى يسمع صوتا أو يجد ريحا» وليس بشيء، لأن معنى
الحديث إذا خيل إليه بشيء فلا ينصرف حتى يسمع صوتا، أو يجد ريحا، فليس في
الحديث تعرض لغير التخييل،
(1/367)
وقد رجع أحمد عن هذه الرواية في رواية
المروذي، فقال: كنت أقول: يمضي في صلاته، ثم تدبرت، فإذا أكثر الأحاديث على
أنه يخرج ويتوضأ. ومن ثم أسقطها ابن أبي [موسى] وطائفة من الأصحاب، ولم
يعتبر ذلك ابن حامد، وطائفة معه، بل أثبتوها رواية، وكذلك القولان في كل
رواية علم رجوع الإمام عنها. اهـ.
(فعلى رواية الميموني) : هل الخروج أفضل، للخروج من الخلاف - وهو رأي أبي
جعفر - أو يمتنع الخروج - وهو ظاهر كلام الإمام - لقوله سبحانه: {وَلَا
تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ} [محمد: 33] ؟ على قولين: (وعلى المذهب) يخرج
ويتطهر، ويستأنف الصلاة كما قال الخرقي، ونص عليه أحمد، وخرج القاضي وطائفة
من الأصحاب منهم المجد في المحرر - البناء من رواية البناء في من سبقه
الحدث، وأبى ذلك أبو محمد، أبو البركات في الشرح، [مفرقين] بأن بوجود الماء
ظهر حكم الحدث السابق على الصلاة، قبل كمال المقصود بالتيمم، فصار كافتتاح
الصلاة مع الحدث، بخلاف من سبقه الحدث في الصلاة، فإنه لم يتقدم ذلك حدث.
(1/368)
وقول الخرقي: وهو في الصلاة. يحترز به عما
إذا وجد الماء بعد الصلاة، فإن صلاته ماضية، وإن أصابه في الوقت، وقد نص
على ذلك فيما تقدم، نعم: هل تستحب له الإعادة والحال هذه؟ فيه وجهان، وفيه
تنبيه على ما إذا وجده قبل الدخول في الصلاة، فإن تيممه يبطل بلا ريب،
لحديث أبي ذر المتقدم، حتى لو وجده ثم عدم من ساعته، فإنه يلزمه استئناف
التيمم.
وقول الخرقي: إذا وجد الماء. ظاهره أنه لا بد من وجود حقيقة الماء، وهو
كذلك، فلو وجد ركبا وغلب على ظنه وجود الماء فيه لم يبطل تيممه، نعم إن
تيقن وجود الماء فيه بطل، وهذا بخلاف ما لو كان خارج الصلاة، فإنه إذا وجد
ركبا] أو نحوه مما يظن معه وجود الماء، فإن تيممه [يبطل على الصحيح] .
وهذا كله إذا كان تيممه لعدم الماء، وهو آمن [من] العطش، أما إن كان لمرض
ونحوه، أو كان عطشان، فإن تيممه] لا يبطل بوجوده ولو داخل الصلاة، والله
أعلم.
قال: وإذا شد الكسير الجبائر، وكان طاهرا، ولم يعد بها موضع الكسر، مسح
عليها كلما أحدث، إلى أن يحلها.
ش: جواز المسح على الجبيرة إجماع في الجملة، وقد دل عليه حديث صاحب الشجة.
(1/369)
259 - وروى البيهقي في سننه، وأحمد في
رواية إسحاق بن إبراهيم، بإسناديهما عن ابن عمر، أنه كان يقول: من كان به
جرح معصوب عليه، توضأ ومسح على العصابة، ويغسل ما حول العصابة، وإن لم يكن
عليه عصابة مسح ما حوله.
260 - وقد روي المسح على الجبائر عن علي، وابن عمر عن النبي - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لكن بأسانيد ضعاف.
261 - ومن ثم قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: «روي حديث عن علي أنه
انكسر إحدى زندي يديه، فأمره النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
أن يمسح على الجبائر ولو عرفت إسناده بالصحة قلت به» . اهـ.
(1/370)
وظاهر كلام الخرقي وجوب المسح عليها، وهو
كذلك، [لما تقدم، وظاهره أيضا أنه لا إعادة عليه مع المسح، وهو كذلك] لظاهر
ما تقدم، ولأنها طهارة عذر، فأسقطت الفرض، كطهارة المستحاضة والتيمم، وقد
حكى ابن أبي موسى، وابن عبدوس، وغيرهما رواية بوجوب الإعادة، لكنهم بنوها
على ما إذا لم يتطهر لها، وقلنا بالاشتراط، والذي يظهر لي عند التحقيق أن
هذا ليس بخلاف كما سيأتي.
وظاهر كلامه [أيضا] الاجتزاء بالمسح، وهو المشهور المقطوع به من الروايتين،
لظاهر ما تقدم عن ابن عمر، ولأنه مسح على حائل، فأجزأ من غير تيمم، كمسح
الخف بل أولى، إذ صاحب الضرورة أحق بالتخفيف، (والثانية) : لا بد من التيمم
مع المسح، لظاهر حديث صاحب الشجة، وقد تقدم تضعيفه، مع أنه يحتمل أن الواو
فيه بمعنى «أو» أي: إنما يكفيه أن يتيمم، أو يعصب على جرحه خرقة ثم يمسح
عليها. ويحتمل أن [التيمم في] الحديث لشد العصابة على طهارة، واقتصر الشارع
على ذكر التيمم، نظر لحال
(1/371)
الشاج، لكن يلزم من هذا الاكتفاء بطهارة
التيمم في شد الجبيرة ونحوها، والأصحاب على عدم الاكتفاء بذلك، بناء منهم
على أن التيمم لا يرفع الحدث، فعلى هذه [الرواية] لا يمسح الجبيرة بالتراب،
فلو استوعبت محل التيمم سقط. اهـ.
واشترط الخرقي - رَحِمَهُ اللَّهُ - لجواز المسح على الجبيرة شرطين
(أحدهما) : أن يشدها وهو طاهر، وهو إحدى الروايتين، واختيار القاضي في
روايتيه، والشريف، وأبي الخطاب في خلافيهما، وابن عبدوس، وابن البنا، لأنه
مسح على حائل، فاشترط له تقدم الطهارة كالخف، ودليل الأصل الإجماع والنص
كما سيأتي، (والثانية) : لا تعتبر الطهارة لها قبل الشد بحال، اختارها
الخلال وصاحبه، وابن عقيل في التذكرة، وصاحب التلخيص فيه، وإليها ميل
الشيخين لما تقدم عن ابن عمر وبه احتج أحمد، ولأن الجبيرة بمنزلة العضو،
بدليل دخولها في الطهارتين، وعدم توقيتها، فهو كجلدة انكشطت، والتحمت على
حدث، وتفارق الخف، إذ الكسر يقع بغتة، ويبادر إلى إصلاحه في الحال عادة،
فلو اشترطت الطهارة والحال هذه لأفضى إلى حرج ومشقة، وهما منفيان شرعا
(فعلى الأولى) حكمها حكم الخف في الطهارة،
(1/372)
فلو غسل موضعها، ثم شدها، ثم كمل طهارته،
لم يجز له المسح، على المذهب من اشتراط كمال الطهارة، ولو شد على غير طهارة
خلع ما لم يضر به، ومع خوف الضرر يتيمم لها كالجرح، وقيل: ويمسحها أيضا
ليخرج من الخلاف، فإن ترك الخلع مع أمن الضرر، أو التيمم مع الضرر أعاد،
وعلى هذا يحمل ما حكاه ابن أبي موسى وغيره من الإعادة إذا اشترطنا الطهارة.
(الشرط الثاني) : أن لا يعدو بها موضع الكسر، أي لا يتجاوز بها [موضع] ذلك،
ومراده - والله أعلم - تجاوزا لم تجر العادة به، فإن الجبيرة إنما توضع على
طرفي الصحيح، لينجبر الكسر، وفي معنى ذلك ما جرت العادة به من التجاوز
لجرح، أو ورم، أو رجاء برء، أو سرعته، وإذا لم يجد إلا عظما كبيرا، أو لم
يجد ما يصغره به، ونحو ذلك، أما إن تجاوز من غير حاجة ولا ضرورة، فهذا الذي
يحمل عليه كلام الخرقي، ومقتضى كلامه أنه لا يجوز له المسح والحال هذه، وهو
كذلك في الجملة، وبيانه بأنه إن لم يخف الضرر إذا لزمه النزع، وإلا يكون
تاركا لغسل ما أمر بغسله من غير ضرر، وفي كلام أبي محمد عن الخلال ما يقتضي
عدم اللزوم وليس بشيء، وإن خاف التلف بالنزع سقط عنه بلا ريب، وكذلك إن خاف
الضرر على المذهب،
(1/373)
وخرج من قول أبي بكر فيمن جبر كسره بعظم
نجس عدم السقوط.
وحيث سقط النزع مسح قدر الحاجة، وتيمم للزائد، ولم يجزئه مسحه على المشهور
من الوجهين، اختاره القاضي وابن عقيل، وأبو محمد وغيرهم، لعدم الحاجة إلى
الزائد.
(والوجه الثاني) : يجزئه المسح على الزائد، اختاره الخلال وأبو البركات،
لأنه قد صارت ضرورة إلى المسح عليه، أشبه موضع الكسر، ولأن المجاوزة إنما
تقع غالبا لسهو أو غفلة، أو دهشة فمنع الرخصة مع ذلك، ومع الخوف من النزع
فيه حرج ومشقة، وتعمد ذلك نادر، فلا يفرد بحكم، (وفي المذهب قول ثالث) :
يجمع في الزائد بين المسح والتيمم.
وقول الخرقي: شد الكسير الجبائر. ذكره على سبيل المثال، إذ لا فرق بين
الكسر والجرح في موضع الجبيرة، نص عليه أحمد، وقصة صاحب الشجة كانت في
الجرح، وفي معنى ذلك لو وضع على جرحه دواء وخاف من نزعه، فإنه يمسح عليه،
وكذا لو ألقم إصبعه مرارة.
(1/374)
262 - كما روى الأثرم والبيهقي بإسناديهما
عن ابن عمر أنه خرجت بإبهامه قرحة، فألقمها مرارة، وكان يتوضأ عليها، أما
لو كان برجله شق، فجعل فيه قارا، وتضرر بنزعه، (فعنه) - واختاره أبو بكر -:
لا يجزئه المسح، ولأنه في معنى الكي المنهي عنه، لأنه لا يستعمل إلا مغليا
بالنار، (وعنه) - واختاره أبو البركات -؛ يجزئه، كالمرارة ونحوها، والكي
المنهي عنه يحمل على ما فيه خطر، أو لم يغلب على الظن نفعه.
263 - لأنه [قد] صح عنه أنه كوى أبي بن كعب، وسعد ابن معاذ - رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُمَا -.
(1/375)
وكلام الخرقي يشمل المسافر وإن كان عاصيا،
وهو كذلك، بخلاف ماسح الخف إذا كان عاصيا بسفره، فإنه يمتنع من المسح في
وجه، وفي المشهور: يلغى حكم السفر، ويمسح مسح مقيم (ويشمل) الحدثين المسح،
لأن مسحها للضرورة، والضرورة توجد معها، بخلاف الخف، (ويشعر) بأن مسحها لا
يتأقت بمدة، وهو كذلك، لأنه مسح للضرورة، فيبقى ببقائها، بخلاف الخف، إذ
مسحه رخصة، وعن ابن حامد: أنها تتوقت كالخف، (وبأنه) لا يشترط سترها لمحل
الفرض، وهو كذلك، إذا لم تكن حاجة، لما تقدم، بخلاف الخف، (وبأن) شدها مختص
بحال الضرورة، وهو كذلك، بخلاف الخف.
وإذا انتهينا إلى ذلك فقد عرفت أنها تفارق الخف فيما تقدم، وتفارقه أيضا في
أنها تستوعب بالمسح كالتيمم، بخلاف الخف، إذ استيعابه يوهنه، ويضعفه،
ويتلفه، فلذلك اجتزئ ببعضه، (وأنها) تجوز من خرق ونحوها، بخلاف الخف
(وأنها) لو كانت من حرير ونحوه صح المسح عليها، على رواية صحة الصلاة في
ذلك، بخلاف [الخف] على المحقق، (وأنها) لا تشترط لها الطهارة رأسا في
رواية، بخلاف الخف (وأنه) لو لبس الخف على طهارة مسح فيها
(1/376)
عليها جاز له أن يمسح عليه، ولو لبسه على طهارة مسح فيها على عمامة (أو
عمامة) على طهارة مسح فيها على الخف، لم يجز المسح على وجه (فهذه عشرة)
أشياء، ومرجعها أو معظمها على أن مسح الجبيرة عزيمة، ومسح الخف ونحوه رخصة،
والله سبحانه أعلم. |