شرح الزركشي على مختصر الخرقي

[باب ذكر الإحرام]
[سنن وآداب الإحرام]
«باب ذكر الإحرام»
قال: ومن أراد الحج - وقد دخل أشهر الحج - فإذا بلغ الميقات فالاختيار [له] أن يغتسل.
ش: الاختيار لمن أراد الإحرام أن يغتسل.
1462 - لما روي عن خارجة بن زيد عن أبيه، «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تجرد لإهلاله واغتسل» . رواه الترمذي وقال: حسن غريب.
1463 - وثبت «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أمر أسماء بنت عميس لما نفست أن تغتسل وتهل» .

(3/69)


1464 - وكذلك أمر عائشة لما حاضت.
1465 -[وفي الموطأ عن نافع، أن عبد الله بن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - كان يغتسل لإحرامه] قبل أن يحرم، ولدخوله مكة، ولوقوفه عشية بعرفة.
فإن لم يجد ماء سن له التيمم عند القاضي، لأنه قائم مقامه، فشرع كالغسل الواجب، ولم يسن له التيمم عند أبي محمد، لأنه غسل مسنون، أشبه غسل الجمعة، ولفوات المقصود منه وهو التنظيف.

(3/70)


وقد أشعر كلام الخرقي بأن المطلوب أن لا يحرم الإنسان بالحج إلا من الميقات المكاني، وفي الميقات الزماني، أما الأول فقد تقدم، وأما الثاني فلا ريب فيه، بحيث لو أحرم قبل ذلك كره، قياسا على الميقات المكاني وخروجا من الخلاف، فإن بعض العلماء لا يصحح إحرامه بالحج قبل أشهره، وهو رواية عن أحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ -، ويحتمله كلام الخرقي، لظاهر قول الله تعالى {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ} [البقرة: 197] أي وقت الحج أشهر معلومات، وإذا كان هذا وقته فلا يجوز تقديم شيء منه عليه كوقت الصلاة.
1466 - «وعن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: من السنة أن لا يحرم بالحج إلا في أشهر الحج» . رواه البخاري. أي الطريقة والشريعة، هذا هو الظاهر (والمذهب) المنصوص المختار للأصحاب صحة الحج قبلها، قياسا على الميقات المكاني، ولإطلاق قَوْله تَعَالَى {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ} [البقرة: 189] ظاهره أن جميع الأهلة مواقيت الحج، وتحمل

(3/71)


الآية الكريمة السابقة على ما عدا الإحرام من أفعال الحج، أو يقال: الإحرام مستصحب، فيكتفى بالجزء الواقع فيها، فما خرج شيء من أفعال الحج عنها، والسنة في قول ابن عباس يحتمل أنها المقابلة للواجب.
1467 - كما في قول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «إن الله فرض صيام رمضان، وسننت أنا قيامه» . وعلى الرواية الأولى - ولعلها أظهر - إذا أحرم بالحج صح عمرة، لصحة الإحرام بها في كل السنة، ومجرد الإحرام يقتضي أفعالها، وهو الطواف والسعي والحلق، وما زاد على ذلك مختص بالحج، وإذا بطل الخصوص بقي العموم فهو كما لو أحرم بالصلاة قبل وقتها، لكن يقال على هذا بأن اقتضاء الإحرام لأفعالها لا يقتضي أنه إذا بطل الحج أنه تحصل له

(3/72)


عمرة، إذ العمرة نسك آخر، فهو كالعصر إذا نقلها للظهر لا تصح ظهرا، غايته أن يقال: يتحلل بعمل عمرة.
وقد يبنى الخلاف في انعقاد الحج قبل أشهره على الخلاف في الإحرام، هل هو شرط أو ركن؟ فإن قلنا إنه شرط، صح، كالوضوء يصح قبل الوقت، وإن قلنا ركن لم يصح، إذ ركن العبادة لا يصح في غير وقتها، وقد يقال: على القول بالشرطية لا يصح أيضا، لأن بالإحرام دخل في الحج، فيلزم إيقاع جزء من العبادة في غير وقتها، والانفصال عن هذا جميعه بأنا لا نسلم أن هذه الأشهر هي الوقت له، بل جميع السنة وقت له، والله تعالى أعلم.
وقد عرفت من هنا أن تقييد الخرقي مريد الحج بهذا الحكم لتخرج العمرة، فإنها تفعل في كل السنة.
1468 - قال ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «عمرة في رمضان تعدل حجة» متفق عليه.
1469 - وعنه «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اعتمر أربعا، إحداهن في رجب» . رواه الترمذي وصححه.

(3/73)


1470 - وعن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أن «النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اعتمر عمرتين، عمرة في ذي القعدة، وعمرة في شوال» . رواه أبو داود، والله أعلم.

قال: ويلبس ثوبين نظيفين.
ش: أي والاختيار [للمحرم] أن يلبس ثوبين [أي] نوعين من الثياب، وهما الإزار والرداء.
1471 - لما روي عن ابن عمر في حديث له عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال «وليحرم أحدكم في إزار ورداء، ونعلين، فإن لم يجد نعلين فليلبس الخفين، وليقطعهما أسفل [من] الكعبين» ، رواه أحمد، وقال ابن المنذر: ثبت ذلك عن رسول الله

(3/74)


- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، (والمستحب) أن يكونا نظيفين، جديدين أو غسيلين، إذ يستحب له تنظيف بدنه، فكذلك ثيابه، والأولى أن يكونا أبيضين.
1472 - لقوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «خير ثيابكم البياض» ، والله أعلم.

قال: ويتطيب.
1473 - ش: لما «روت عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قالت: طيبت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بيدي هاتين لإحرامه حين أحرم، ولحله حين أحل، قبل أن يطوف، وبسطت يديها، وفي رواية: بطيب فيه مسك. وفي أخرى: في حجة الوداع للحل والإحرام. وفي أخرى: بأطيب ما أجد، حتى أجد وبيص المسك في رأسه [ولحيته] » . وفي أخرى: «قال محمد بن المنتشر: سألت

(3/75)


عبد الله بن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - عن الرجل يتطيب ثم يصبح محرما. فقال: ما أحب أن أصبح محرما أنضح طيبا، لأن أطلي بقطران، أحب [إلي من] أن أفعل ذلك. [فدخلت على عائشة، فأخبرتها أن ابن عمر قال: ما أحب أن أصبح محرما أنضح طيبا، لأن أطلي بقطران، أحب [إلي من] أن أفعل ذلك] . فقالت عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: أنا طيبت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عند إحرامه، ثم طاف في نسائه، ثم أصبح محرما - زاد في رواية -: ينضح طيبا» متفق عليه.
1474 - ورئي ابن عباس محرما وعلى رأسه مثل الرب من الغالية.
1475 - وقال مسلم بن صبيح: رأيت [ابن] الزبير وهو محرم، وفي رأسه ولحيته من الطيب ما لو [كان] لرجل اتخذ منه رأس مال.
وكلام الخرقي يشمل ما له جرم، وما لا جرم له، وصرح به غيره.

(3/76)


1476 - وفي سنن أبي داود «عن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قالت: كنا نخرج مع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلى مكة، فنضمد جباهنا بالسك المطيب عند الإحرام، فإذا عرقت إحدانا سال على وجهها، فيراه النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فلا ينهانها.»
ويشمل أيضا الطيب في البدن والثياب، وكذلك كلام كثير من الأصحاب، إذ التنظيف مقصود فيهما، وقال أبو محمد في الكافي والمغني: يستحب في بدنه لا في ثوبه. وهو الذي أورده ابن حمدان مذهبا، لأن في بعض روايات حديث عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: «طيبت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لحله وطيبته لإحرامه، طيبا لا يشبه طيبكم هذا» . تعني ليس له بقاء، رواه النسائي. وفي الثوب يبقى.
1477 - وحديث يعلى بن أمية - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «أن رجلا أتى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وهو بالجعرانة، قد أهل بعمرة، وهو مصفر لحيته ورأسه، وعليه جبة، فقال: يا رسول الله أحرمت بعمرة وأنا كما ترى؟ فقال

(3/77)


«انزع عنك الجبة، واغسل عنك الصفرة» . متفق عليه، ورواه أبو داود وقال «اغسل عنك أثر الخلوق - أو قال -: أثر الصفرة» محمول [على] أنه كان زعفرانا.
1478 - والنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى أن يتزعفر الرجل، وإذا نهى عن ذلك في غير الإحرام ففيه أحذر، ثم حديث عائشة متأخر، لأنه في حجة الوداع، في السنة العاشرة، وهذا الحديث بالجعرانة سنة ثمان، والعمل بالمتأخر أولى، ودعوى اختصاصه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بالتطيب لهذا الحديث، مردود «بقول عائشة المتقدم: كنا نخرج مع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -[إلى مكة] فنضمد جباهنا» . الحديث. ثم هو في مقام البيان، وقد قال «خذوا عني مناسككم» فكيف لا يبين الخصوصية.
(تنبيه) : اللام في «لحله» لام الوقت، أي لوقت حله، كما في قَوْله تَعَالَى {أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ} [الإسراء: 78]

(3/78)


و «وبيص الطيب» بريقه ولمعانه، يقال: وبص الشيء يبص وبيصا، وبص يبص بصيصا، و «ينضح» يفوح، وأصله الرشح، فشبه كثرة ما يفوح من طيبه بالرشح، والرواية - بالحاء المهملة -، وجاء في بعض نسخ مسلم: «ينضخ» - بخاء معجمة -، فقيل: هما سيان في المعنى، وقيل: بل النضخ - بالمعجمة - أكثر من النضخ بالمهملة، وقيل غير ذلك. و «نضمد» يقال: ضمدت الجرح. إذا جعلت عليه الدواء، وضمدته بالزعفران ونحوه إذا لطخته.
و «السك» نوع من الطيب، و «الجعرانة» في الحل بين الطائف ومكة، وهي إلى مكة أقرب، وتخفف وتشدد، والتخفيف أكثر، قال المنذري: [وهو الذي قيده] المتقنون والله أعلم.

قال: فإن حضر وقت صلاة مكتوبة صلاها، وإلا صلى ركعتين.
ش: المستحب أن يحرم عقب صلاة، إما فريضة أو نافلة.
1479 - لما روي عن أنس بن مالك: «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلى الظهر بالبيداء ثم ركب وصعد جبل البيداء، وأهل بالحج والعمرة حين صلى الظهر» . رواه النسائي.

(3/79)


1480 - وفي حديث ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: «خرج رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حاجا، فلما صلى في مسجده بذي الحليفة ركعتيه، أوجب في مجلسه» . والله أعلم.

[أنواع النسك]
قال: فإن أراد التمتع - وهو اختيار أبي عبد الله - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - فيقول: اللهم إني أريد العمرة.
ش: الأنساك ثلاثة، التمتع، والإفراد، والقران، ولا خلاف بين الأئمة والحمد لله في جواز كل منها.
1481 -[وقد شهد لذلك «قول عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: خرجنا مع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: «من أراد أن يهل بحج وعمرة فليفعل] ، ومن أراد أن يهل بحج فليهل، ومن أراد أن يهل بعمرة فليهل» قالت: وأهل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بالحج، وأهل به ناس معه، وأهل معه ناس بالعمرة والحج، وأهل ناس بالعمرة، وكنت فيمن أهل بعمرة» . متفق عليه.
واختلف الأئمة في الأولى - منها -[والأفضل] فذهب إمامنا - رَحِمَهُ اللَّهُ - في نفر كثير من الصحابة وغيرهم إلى أن التمتع

(3/80)


أفضل، وذهب أبو حنيفة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وجماعة إلى أن القران أفضل، وذهب مالك ونفر من الصحابة وغيرهم، وهو ظاهر مذهب الشافعي إلى أن الإفراد أفضل.
واختلفوا في إحرام رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فادعى كل أنه أحرم كمختاره، واختلافهم لاختلاف الأحاديث، فقد تقدم عن – عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أنه أهل بالحج، وفي رواية عنها: أنه أفرد الحج.
1482 - وكذا في مسلم وغيره عن ابن عمر، «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أحرم بالحج مفردا» .
1483 - «وروى أنس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه سمع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يلبي بالحج والعمرة جميعا. وفي رواية: سمعت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول «لبيك حجا وعمرة» » .
1484 - وعن جابر «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: قرن الحج والعمرة» . رواه الترمذي، والنسائي.

(3/81)


1485 - «وعن ابن عمر أنه قرن الحج والعمرة، وقال: هكذا رأيت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يفعله» . رواه النسائي.
1486 - وجاء في رواية في الصحيح أنه أدخل الحج على العمرة، وأنه طاف لهما طوافا واحدا وقال: كذلك فعل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
1487 - وعن علي نحو ذلك.
1488 - «وعن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: سمعت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وهو بوادي العقيق يقول «أتاني الليلة آت [من ربي] فقال: صل في هذا

(3/82)


الوادي المبارك وقل: عمرة في حجة» رواه أحمد، والبخاري، وأبو داود، وفي رواية: وقل عمرة وحجة» .
1489 - «وقال عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - للصبي بن معبد - لما أخبره أنه أهل بهما -: هديت لسنة نبيك» ، رواه النسائي وغيره.
1490 - «وقال سراقة بن مالك - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: سمعت النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول «دخلت العمرة في الحج إلى يوم القيامة» قال: وقرن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في حجة الوداع» . رواه أحمد، انتهى.
1491 - وروى ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قال: «تمتع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وأبو بكر، وعمر، وعثمان، وأول من نهى [عنها] معاوية» . رواه الترمذي، والنسائي.

(3/83)


1492 - «وعن سعد بن أبي وقاص - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: لقد تمتعنا مع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -» -. رواه مسلم وفي رواية النسائي وغيره: صنعناها مع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بأمره، وصنعها هو - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
1493 - «وعن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - سمعت عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يقول: والله لا أنهاكم عن المتعة، فإنها لفي كتاب الله، ولقد فعلها رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -[يعني العمرة في الحج» . رواه النسائي.
1494 - وسأل رجل ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - عن التمتع بالعمرة إلى الحج، فقال ابن عمر: أرأيت إن كان أبي نهى عنها، وصنعها رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -] أأمر أبي نتبع أم أمر رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؟ فقال الرجل: بل أمر رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. [فقال: لقد صنعها رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -] رواه الترمذي.

(3/84)


1495 - وفي الصحيحين في رواية «عن عمران بن حصين: تمتع نبي الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وتمتعنا معه.»
1496 - وفي الصحيحين أيضا عن ابن عمر: «تمتع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في حجة الوداع بالعمرة إلى الحج» ، وروي غير ذلك.
وقيل: إنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أحرم مطلقا، بدليل حديث عمر المتقدم، والمحققون على أنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان نسكه قرانا، والظاهر أنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أحرم بعمرة، ثم أدخل عليها الحج، كما تقدم في الصحيح عن ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أنه فعل ذلك، وأنه أخبر أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فعله.
1497 - وعن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قال: «أهل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بعمرة، وأهل أصحابه بالحج» . رواه مسلم، وأبو داود، والنسائي.
1498 - وفي الصحيحين من «حديث حفصة أنها قالت: يا رسول الله: ما شأن الناس حلوا، ولم تحل أنت من عمرتك؟ قال «إني لبدت رأسي، وقلدت هديي، فلا أحل حتى أنحر» » أي والله أعلم من عمرتك التي ابتدأت بها الإحرام.

(3/85)


وبهذا يحصل - وبالله التوفيق - الجمع بين الأحاديث، فمن أخبر أنه أفرد الحج فلأنه أحرم به مفردا، حيث أدخله على العمرة، ومن أخبر أنه قرن فلأن نسكه كان قرانا فأخبر بما آل إليه الحال، ومن أخبر أنه تمتع فلأنه لم يفرد الحج [بسفرة] ، والعمرة بسفرة، بل جمع بينهما في نسك واحد، فقول الراوي: تمتع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بالعمرة إلى الحج. أي [تمتع] بالعمرة موصلا بها إلى الحج، وعلى هذا فالآية الكريمة، وهي قَوْله تَعَالَى: {فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ} [البقرة: 196] قد يقال: إنه يشمل القران والتمتع.
وإنما اختار إمامنا - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - المتعة ليس - والله أعلم - لأن إحرام النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان تمتعا، ولكن لأمره أصحابه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بفسخ الحج إلى العمرة، وقد ثبت ذلك عنه ثبوتا لا ريب فيه، وسيأتي طرف منه - إن شاء الله تعالى -، ولم يكن - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لينقلهم إلى المفضول ويترك الأفضل، وإنما منعه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من الفسخ سوق الهدي، كما صرح به - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
1499 - ففي حديث عائشة في رواية لأبي داود أنه قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من شاء أن يهل بحج فليهل، ومن شاء أن يهل بعمرة فليهل، ولولا أني أهديت لأهللت بعمرة» .

(3/86)


1500 - وعنها أيضا أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال « «لو استقبلت من أمري ما استدبرت لما سقت الهدي» رواه أبو داود، والبخاري بنحوه.
1501 - وفي حديث جابر لما أمر أصحابه بجعل نسكهم عمرة قال «إني لو استقبلت من أمري ما استدبرت [ما أهديت، ولولا أن معي الهدي لأحللت» متفق عليه.
1502 - وفي حديث أنس «لو استقبلت من أمري] ما استدبرت لجعلتها عمرة، ولكن سقت الهدي، وقرنت بين الحج والعمرة» رواه أحمد فأخبر - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أنه إنما منعه من الإحرام بالعمرة سوق الهدي، وأنه لولا سوقه لفسخ إحرامه إلى العمرة، وتأسف على ذلك، ولم يكن ليندم إلا على الأفضل والأولى، ثم إن التمتع مذكور في كتاب الله تعالى، بخلاف غيره، ويجتمع له العمرة والحج في أشهر الحج، مع كمالهما وكمال أفعالهما، مع سهولة، وزيادة نسك، [وهو الدم] يرشح هذا حديث أبي أيوب المتقدم. «ليستمتع أحدكم بحله ما استطاع، فإنه لا يدري ما يعرض له في إحرامه» وأيضا فإن عمرة التمتع تجزئ بلا خلاف،

(3/87)


بخلاف عمرة القران، والعمرة من التنعيم بعد الحج، فإن فيهما خلافا.
ثم من العلماء من أوجب التمتع.
1503 - كما يحكى عن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - وهو قول الظاهرية، بخلاف النسكين الآخرين، فإنه لا يعلم قائل بوجوبهما.
1504 - وما يحكى عن عمر , وعثمان من نهيهما عن ذلك، فقد خالفهما غيرهما.

(3/88)


1505 - قال سعيد بن المسيب: اجتمع عثمان وعلي بعسفان، فكان عثمان ينهى عن المتعة أو العمرة، فقال له علي: ما تريد إلى أمر فعله رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تنهى الناس عنه؟ فقال [له عثمان] : دعنا عنك. قال: إني لا أستطيع أن أدعك. فلما رأى ذلك أهل بهما جميعا. متفق عليه وقد تقدم الإشارة من ابن عمر إلى الإنكار على أبيه.
1506 - مع أن في الصحيحين في حديث لأبي موسى أنه كان يفتي بالمتعة في زمن أبي بكر، وشطرا من خلافة عمر، وأنه قيل له: اتئد في فتياك، إنك لا تدري ما يحدث أمير المؤمنين في شأن النسك [وأنه جاء إلى عمر فقال: ما هذا الذي بلغني أنك أحدثت في شأن النسك] فقال عمر: إن نأخذ بكتاب الله فإن الله يقول: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} [البقرة: 196] وإن نأخذ بسنة رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقد قال «خذوا عني مناسككم» «فإن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم يحل حتى نحر الهدي» . وفي رواية لمسلم: قد علمت أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قد فعله وأصحابه، ولكن كرهت أن يظلوا

(3/89)


معرسين بهن في الأراك، ثم يروحون إلى الحج تقطر رءوسهم.
فهذا في الحقيقة ليس بمخالفة، فإن عثمان لم يبين [حجة] ، بل أذعن لذلك، وعمر بين عذره في ذلك، وهو الأمر بإتمام الحج والعمرة، ومراده في ذلك والله أعلم أن يأتي بكل من النسكين في سفرة، كما روي عنه أنه يحرم بهما من دويرة أهله، ولا نزاع بين أهل العلم أن هذا الصورة أفضل بلا نزاع، واعتذر أيضا بأن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم يحل حتى نحر الهدي، وقد بين الرسول - عَلَيْهِ السَّلَامُ - المانع له من الحل، واعتذر أيضا بأنه [كره] أن يظلوا معرسين إلى آخره.
1507 - وقد ذكر ذلك لرسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فقالوا: كيف ننطلق إلى منى ومذاكيرنا تقطر منيا؟ فغضب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ودخل على عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - فقالت: من أغضبك أغضبه الله؟ قال: «كيف لا أغضب وأنا آمر بالأمر فلا أتبع» رواه أحمد، وابن ماجه انتهى.

(3/90)


وعن أحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - رواية أخرى - واختارها أبو العباس فيما أظن - أنه إن ساق الهدي فالقران أفضل، لأنه الذي اختاره الله لنبيه، وأمره به، كما تقدم في حديث عمر، ولقوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «لولا أن معي الهدي لأحللت بعمرة» .
وقد أطلنا الكلام في هذه المسألة، وهي تحتمل أكثر من هذا، وحالنا وحال الكتاب يقتضي الاقتصار على هذا وبالله التوفيق.
إذا تقرر هذا فصفة التمتع [أن يحرم] بالعمرة [في أشهر الحج] ثم يحج من عامه، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} [البقرة: 196] أي تمتع [بالعمرة] موصلا بها إلى الحج، وقد أشار [إلى هذا]

(3/91)


الشيخان أبو البركات، وأبو محمد في المغني، عند [ذكر] شروط وجوب الدم على المتمتع، قال: حقيقة التمتع ... وذكر ما قلناه، ولا يغرنك ما وقع في كلام أبي محمد وغيره من أن التمتع أن يحرم بالعمرة في أشهر الحج، ويفرغ منها، ثم يحرم بالحج [من مكة] إلى آخره، فإن هذا التمتع الموجب للدم [ومن] هنا قلنا: إن تمتع حاضري المسجد الحرام صحيح على المذهب، وقال ابن أبي موسى: لا متعة لهم. ويحكى ذلك رواية، وقد تعرض أبو محمد لها فقال: نقل عن أحمد: ليس على أهل مكة متعة، ومعناه ليس عليهم دم متعة، لأن المتعة له لا عليه، انتهى.
(قلت) : وقد يقال: إن هذا من الإمام بناء على أن العمرة لا تجب عليهم، فلا متعة عليهم، أي الحج كافيهم، لعدم وجوب العمرة [عليهم] فلا حاجة لهم إلى المتعة.
وقول الخرقي: يقول: اللهم إني أريد العمرة. أراد به الاستحباب، وإلا فالمشترط قصد ذلك، والله أعلم.

[الاشتراط في الإحرام]
قال: ويشترط فيقول: إن حبسني حابس فمحلي حيث حبستني، فإن حبس حل من الموضع الذي حبس فيه، ولا شيء عليه.
ش: الاشتراط عندنا في الإحرام جائز بل مستحب.
1508 - لما روى ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - «أن ضباعة بنت الزبير بن عبد المطلب أتت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقالت: يا رسول الله إني [أريد] الحج أشترط؟ قال: «نعم» قالت: كيف أقول؟ قال: «قولي: لبيك اللهم لبيك، ومحلي [من الأرض]

(3/92)


حيث حبستني» رواه الجماعة إلا البخاري، وهذا لفظ أبي داود. وفي رواية للنسائي: «فإن [لك] على ربك ما استثنيت» .
1509 - وهو للشيخين من رواية عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -.
1510 - ورواه أحمد عن عكرمة، «عن ضباعة قالت: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أحرمي وقولي: إن محلي حيث حبستني، فإن حبست أو مرضت فقد حللت من ذلك، بشرطك على ربك عز وجل» وصفته كما في الحديث وما في معناه، لأن المعنى هو المقصود.
1511 - وعن ابن مسعود أنه كان يقول: اللهم إني أريد العمرة إن تيسرت لي، وإلا فلا حرج علي. ويفيد هذا الشرط شيئين:

(3/93)


(أحدهما) : [أنه متى حبس بمرض، أو ذهاب نفقة، ونحوهما فإنه يحل، على ظاهر كلام الخرقي، وصاحب التلخيص فيه، وأبي البركات، وهو ظاهر الحديث، وقال القاضي في الجامع، وأبو الخطاب في الهداية، وأبو محمد: إن له التحلل. فإذا لا بد من قصده.
(الثاني) : أنه متى حل بذلك أو بعذر ونحوه فلا شيء عليه من دم، ولا غيره.
(تنبيهان) : (أحدهما) : هل يكفي قصده للاشتراط تبعية للإحرام، أو لا بد من التلفظ، كالاشتراط في الوقت ونحوه؟ فيه احتمالان.
(الثاني) : «محلي» - بكسر الحاء وفتحها -، وهو موضع الحلول، والله أعلم.

قال: وإن أراد الإفراد قال: اللهم إني أريد الحج. ويشترط.
ش: الإفراد أن يحرم بالحج مفردا [قاله أبو محمد] .
وقال بعض الأصحاب أن لا يأتي في أشهر الحج بغيره. وهو أجود. ويشترط فيه كالعمرة، والله أعلم.

قال: وإن أراد القران قال: اللهم إني أريد العمرة والحج. ويشترط.

(3/94)


ش: القران أن يحرم بالعمرة والحج معا، أو يحرم بالعمرة ثم يدخل عليها الحج، قبل فعل ركنها الأعظم وهو الطواف.
1512 - وفي الصحيحين عن ابن عمر، أنه أدخل الحج على العمرة عام حجة الحرورية. وذكر الحديث وقال: هكذا صنع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
1513 - وكذلك [في الصحيح» عن جابر أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أمر عائشة بذلك. وسيأتي إن شاء الله تعالى. ولو أدخل العمرة على الحج لم يصح، لعدم الأثر في ذلك، ولأنه لم يستفد به فائدة، بخلاف ما تقدم.
وظاهر كلام الخرقي أنه يستحب أن ينطق بما أحرم به من عمرة، أو حج، أو هما، وهو المشهور. وعن أبي الخطاب: لا يستحب ذكر ما أحرم به، والله أعلم.

[التلبية في الحج]
قال: فإذا استوى على راحلته لبى.
ش: ظاهر كلام الخرقي أنه لا يلبي إلا إذا استوت به راحلته.
1514 - وذلك لما «روى ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قال: بيداؤكم هذه التي تكذبون على رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فيها، ما أهل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلا من عند الشجرة، حين قام به بعيره» .
وفي رواية:

(3/95)


رأيت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يركب راحلته بذي الحليفة، ثم يهل حين تستوي به قائمة. متفق عليه.
والمشهور في المذهب أن الأولى أن يلبي حين يحرم.
1515 - لما روى سعيد بن جبير قال: قلت لعبد الله بن عباس: يا أبا العباس عجبت لاختلاف أصحاب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في إهلال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حين أوجب. فقال: إني لأعلم الناس بذلك إنها إنما كانت من رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حجة واحدة، فمن هناك اختلفوا، خرج رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حاجا، فلما صلى بمسجده بذي الحليفة ركعتيه أوجب في مجلسه، فأهل بالحج حين فرغ من ركعتيه، فسمع ذلك منه أقوام فحفظت عنه، ثم ركب فلما استقلت به ناقته أهل، وأدرك ذلك منه أقوام، وذلك أن الناس إنما كانوا يأتون أرسالا، فسمعوه حين استقلت به ناقته يهل فقالوا: إنما أهل حين استقلت به ناقته، ثم مضى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فلما علا على شرف البيداء أهل، وأدرك ذلك منه أقوام فقالوا: إنما أهل حين علا على شرف البيداء، وايم الله لقد أوجب في مصلاه، وأهل حين استوت به ناقته، وأهل حين علا على شرف البيداء. رواه أبو داود، وقال المنذري: وفي إسناده خصيف بن عبد الرحمن الحراني وهو ضعيف.

(3/96)


(تنبيه) : «البيداء» البرية، والمراد في الحديث موضع مخصوص بين مكة والمدينة. و «الإهلال» رفع الصوت بالتلبية، وكل شيء ارتفع صوته فقد استهل، وبه سمي الهلال، لأن الناس يرفعون أصواتهم بالإخبار عنه، «أوجب» إذا باشر مقدمات الحج من [الإحرام] والتلبية. و «أرسالا» أي متتابعين، قوما بعد قوم، و «استقلت به راحلته» أي نهضت به حاملة له، والله أعلم.

قال: فيقول: لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك.
ش: لما ذكر أنه يلبي [ذكر] صفة التلبية، وهذه تلبية رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
1516 - ففي الصحيحين وغيرهما عن عبد الله بن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - «أن تلبية رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لبيك اللهم لبيك، [لبيك] لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك» » قال: وكان عبد الله بن عمر يزيد في تلبيته: لبيك

(3/97)


لبيك، لبيك وسعديك، والخير بيديك، والرغباء إليك والعمل.

(تنبيه) : لبيك» لفظ يجاب به الداعي، وهو في تلبية الحج إجابة لدعاء الله تعالى الناس إلى الحج في قَوْله تَعَالَى: {وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ} [الحج: 27] الآية ومعنى هذه التثنية فيه، أي مرة بعد مرة، وهو من: ألب بالمكان. إذا أقام به، كأنه قال: إقامة على إجابتك بعد إقامة. وقيل: من قولهم: أنا ملب بين يديك. أي خاضع، وقيل غير ذلك، «وسعديك» المساعدة الطاعة أي مساعدة بعد مساعدة، قال الجرمي: ولم يسمع سعديك مفردا. و «الرغباء والرغبى» - بالفتح مع المد، والضم مع القصر -، والمعنى هنا الطلب والمسألة.
«وإن الحمد» - بالفتح، وبالكسر ورجحه بعضهم -، قال ثعلب: من قال بالكسر فقد عم، ومن قال بالفتح فقد خص، والله أعلم.

قال: ثم لا يزال يلبي إذا علا نشزا، أو هبط واديا، وإذا التقت الرفاق، وإذا غطى رأسه ناسيا، وفي دبر الصلوات المكتوبة.
ش: أما فيما عدا تغطية الرأس:

(3/98)


1517 - فلما يروى عن جابر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: «كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يلبي في حجته إذا لقي ركبا، أو علا أكمة، أو هبط واديا، وفي أدبار الصلوات المكتوبة، وفي آخر الليل» .
1518 - وعن إبراهيم: كانوا يستحبون. وذكر نحوه، إلا أنه أبدل آخر الليل: فإذا استوت به راحلته. وأما في تغطية الرأس، وما في معناه من فعل محظور ناسيا، فليبادر لما هو عليه، والإقلاع عما صدر عنه، والله أعلم.

قال: والمرأة أيضا يستحب لها أن تغتسل عند الإحرام، وإن كانت حائضا أو نفساء، لأن «النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أمر أسماء بنت عميس وهي نفساء أن تغتسل عند الإحرام» .
ش: قياسا على الرجل، والحائض والنفساء كغيرهما، بل قال أبو محمد: إنه في حقهما آكد، لورود السنة فيهما.
1519 - ففي حديث جابر الصحيح: أتينا ذا الحليفة، فولدت أسماء

(3/99)


بنت عميس محمد بن أبي بكر، فأرسلت إلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كيف أصنع؟ فقال: «اغتسلي، واستثفري بثوب، وأحرمي» .
1520 - وفي حديثه الصحيح أيضا « [في قصة عائشة» أنها لما حاضت، وكانت قد أحرمت بعمرة قال لها: هذا أمر كتبه الله على بنات آدم، فاغتسلي ثم أهلي بالحج» ففعلت.
1521 - وعن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «النفساء والحائض إذا أتتا على الميقات، يغتسلان، ويحرمان، ويقضيان المناسك كلها غير الطواف بالبيت» رواه أبو داود، والترمذي. ولأن المقصود من غسل الإحرام، التنظيف، وهما أجدر بذلك، وهذا يؤيد أن غسل الجنابة يصح من الحائض، وأن التيمم لا مدخل له في غسل الإحرام.
(تنبيه) : «استثفري» استثفرت المرأة الحائض إذا شدت على فرجها خرقة، وعطفت طرفيها إلى شيء مشدود في وسطها، من مقدمها ومؤخرها، مأخوذ من «ثفر الدابة» وهو ما يكون تحت ذنبها، والله أعلم.

(3/100)


قال: ومن أحرم وعليه قميص خلعه ولم يشقه.
ش: لما تقدم من حديث يعلى بن أمية، والخالع غير لابس، والله أعلم.

[أشهر الحج]
قال: وأشهر الحج شوال، وذو القعدة، وعشر من ذي الحجة. والله أعلم.
1522 - ش: قال ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: أشهر الحج شوال، وذو القعدة، وعشر من ذي الحجة. رواه البخاري.
1523 - وللدارقطني مثله عن ابن عباس، وابن مسعود، وابن الزبير.
1524 - وعن ابن عمر أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «وقف يوم النحر بين الجمرات في الحجة التي حج فقال: «أي يوم هذا؟» قالوا: يوم النحر. قال: «هذا يوم الحج الأكبر» رواه البخاري،

(3/101)


وأبو داود، ونزل بعض الشهر منزلة كله، كما يقال: رأيتك سنة كذا. وإنما رآه في ساعة منها. انتهى.
وفائدة ذلك عندنا وعند الحنفية اليمين، وعند الشافعي عدم صحة

(3/102)


الإحرام في غيرها، وعند مالك وجوب الدم بتأخير طواف الزيارة عنها، قال القاضي: جميع ذلك، والله أعلم.