شرح الزركشي على مختصر الخرقي

 [كتاب الشركة]
الشركة بوزن نعمة، وبوزن سرقة، وحكى بعضهم شركة بوزن ثمرة، وهي: الاجتماع في استحقاق أو تصرف، وهي جائزة بالإجماع، وسند ذلك قوله سبحانه وتعالى: {وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْخُلَطَاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ} [ص: 24] أي من الشركاء.
2070 - وقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «يد الله على الشريكين ما لم يتخاونا» والشركة على ضربين، شركة ملك، وشركة عقود، وهذا المقصود هنا.

[حكم شركة الأبدان]
قال: وشركة الأبدان جائزة.
ش: نص أحمد على ذلك.
2071 - مستدلا «بأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أشرك بين عمار وسعد وابن مسعود» ، فجاء سعد بأسيرين، ولم يجيئا بشيء، ومعنى

(4/124)


شركة الأبدان أن يشتركا فيما يكتسبان بأبدانهما، وكلام الخرقي يشمل [الاشتراك] في المباح، [كالاشتراك] في الاصطياد، والمعادن ونحو ذلك، وكلام أحمد واستدلاله نص فيه، وإطلاق الخرقي يشمل ما لو اختلفت الصنائع، وهو أحد الوجهين، واختيار القاضي، لأن من لزمه عمل شيء لا يعرفه أمكنه القيام به، بأن يستأجر عليه من يفعله، ونحو ذلك (والثاني) - وهو اختيار أبي الخطاب لا يصح، لئلا يلزم الشخص ما لا قدرة له على فعله، والله أعلم.

قال: وإن اشترك بدنان بمال أحدهما، أو بدنان بمال غيرهما، أو بدن ومال، أو مالان وبدن صاحب أحدهما،

(4/125)


أو بدنان بماليهما، تساوى المال أو اختلف، فكل ذلك جائز.
ش: أنواع الشركة الصحيحة أربعة (أحدها) شركة الأبدان وقد تقدمت، (الثاني) : شركة العنان، وهي المذكورة في قوله: أو بدنان بماليهما. أي يشترك رجلان بماليهما، ليعملا فيه بأبدانهما، وهي جائزة بالإجماع، حكاه ابن المنذر. ومأخوذة قيل: من تساوي عناني الفرسين في السير. لأن كلا من الشريكين مساو لصاحبه في المال والتصرف، وقيل: بل من «عن» إذا عرض، فكل واحد منهما عن له أن يشارك صاحبه، وقيل: من عانه إذا عارضه. فكل واحد منهما عارض الآخر بمثل ماله وعمله، (الثالث) : شركة المضاربة، وهي المذكورة في قوله: أن يشترك بدنان بمال أحدهما، أو بدن ومال. والأصل فيها أن يكون من أحدهما المال، ومن الآخر العمل فيه.
2072 - والأصل في جوازها ما روى مالك عن زيد بن أسلم عن أبيه، أن عبد الله وعبيد الله ابني عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - خرجا في جيش إلى العراق، فتسلفا من أبي موسى مالا وابتاعا به متاعا، وقدما به إلى المدينة فباعاه وربحا فيه، فأراد

(4/126)


عمر رأس المال والربح كله، فقالا: لو تلف كان ضمانه علينا، فلم لا يكون ربحه لنا. فقال رجل: يا أمير المؤمنين لو جعلته قراضا؟ قال: قد جعلته. وأخذ منهما نصف الربح، وهذا دليل على جواز القراض.
2073 - وقد روي جوازه أيضا عن عثمان، وعلي، وابن مسعود، وحكيم بن حزام، ولا يعرف لهم مخالف في الصحابة

(4/127)


فكان إجماعا، مع أن ابن المنذر قد حكى ذلك إجماعا، وحكمة الشرع تقتضي جوازها. [إذ الدراهم والدنانير لا تنمي إلا بالتجارة، وقد يملكها من لا يحسن التجارة، ويحسن التجارة من لا يملكها، فالحكمة تقتضي جوازها من الجانبين] ، وهي مأخوذة قيل من الضرب في الأرض، وهو السفر فيها غالبا للتجارة، قال سبحانه: {وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ} [المزمل: 20] وقيل: بل من ضرب كل واحد منهما في الربح وتسمى قراضا، قيل: من القطع، يقال: قرض الفأر الثوب. إذا قطعه، فصاحب المال اقتطع من ماله قطعة وسلمها للعامل، واقتطع له قطعة من الربح. وقيل: بل من المساواة والموازنة، يقال: تقارض الشاعران، إذا وازن كل واحد منهما الآخر بشعره، وهنا من العامل العمل، ومن الآخر المال فتوازنا. انتهى.
وأما إذا اشترك بدنان بمال أحدهما فهذه مضاربة يشترط فيها عمل رب المال، والذي ذكره الخرقي [وهو] منصوص أحمد في رواية أبي الحارث - الجواز لأن من لا مال له

(4/128)


يستحق المشروط له من الربح بعمله في مال غيره، وهذا [هو] حقيقة المضاربة، وذهب ابن حامد، وتلميذه، وتلميذ تلميذه القاضي، وأبو الخطاب، وطائفة إلى أن هذا لا يصح، إذ وضع المضاربة تسليم المال إلى المضارب، ومع اشتراط عمله لا تسليم وعلى هذا في اشتراط عمل غلامه وجهان، (المنع) وهو قول القاضي، إذ يد الغلام كيد السيد (والجواز) إذ هو مال فصح [كما] لو ضم إليه بهيمة يحمل عليها ونحو ذلك.
«الرابع» : شركة الوجوه، وهي أن يشترك اثنان على أن يشتريا بجاههما دينا، وهي جائزة، إذ معناها وكالة كل واحد منهما صاحبه في الشراء والبيع، والكفالة بالثمن، وكل ذلك صحيح، ولأنها مشتملة على مصلحة من غير مضرة، وأخذها أبو محمد من [قول] الخرقي: أو بدنان بمال غيرهما، كيلا يخل بنوع من أنواع الشركة وقال القاضي: مراد الخرقي بهذا أن يدفع واحد ماله إلى اثنين مضاربة، فيكون المضاربان شريكين في ربح بمال غيرهما [لأنهما إذا أخذا المال بجاههما فلا يكونان مشتركين بمال

(4/129)


غيرهما] وهذا الذي قال القاضي هو ظاهر اللفظ، وعلى هذا يكون هذا نوعا من أنواع المضاربة [ويكون] قد ذكر للمضاربة ثلاث صور، وبقي من كلام الخرقي قوله: أو مالان وبدن صاحب أحدهما، وهذا يجمع شركة ومضاربة، فمن حيث إن من كل واحد منهما المال، يشبه شركة العنان، ومن حيث إن أحدهما يعمل في مال صاحبه بجزء من الربح هو مضاربة، ونبه الخرقي - رَحِمَهُ اللَّهُ - بهذا على أنه كما يجوز كل واحد من أنواع الشركة على انفراده، كذلك يجوز اجتماع الجميع والله أعلم.

قال: والربح على ما اصطلحا عليه.
ش: يعني فيما تقدم من أنواع الشركة، أما في المضاربة فإجماع حكاه ابن المنذر، وأما في شركة العنان فاعتمادا على الشرط، ولأن أحدهما قد يكون أبصر بالتجارة من الآخر فيجوز اشتراط زيادة في الربح في مقابلة عمله، كاشتراط الربح في مقابلة عمل المضارب، وكذلك شركة الأبدان لأنهما قد يتفاضلان في العمل، وأما شركة الوجوه فإن قلنا: هي داخلة في كلام الخرقي، اقتضى كلامه أن يكون حكمها كذلك وهذا الذي قطع به أبو البركات.

(4/130)


وقال أبو محمد: إنه قياس المذهب، لأنها شركة فيها عمل، فجاز ما اتفقا عليه كسائر الشركات.
وقال القاضي: الربح بينهما على قدر ملكيهما في المشترى؛ لأن الربح يستحق بالضمان، لوقوع الشركة عليه خاصة، والضمان لا تفاضل فيه.
وأما ما جمع شركة ومضاربة - كأن يشترك مالان وبدن صاحب أحدهما، مثل أن يخرج كل واحد منهما ألفا ليعمل أحدهما فيهما - فلا بد وأن يشترط للعامل أكثر من ربح ماله، كأن يشترط له الثلثان، أو النصف والربع، ونحو ذلك في مسألتنا، ليكون الزائد على ربح ماله مقابلا لعمله في نصيب صاحبه، ولو جعل للعامل في صورتنا دون النصف لم يصح، لأن الربح: [استحقاقه إما بمال أو بعمل، وهذا الجزء الزائد على النصف الذي شرط] لغير العامل ليس في مقابلة مال، ولا عمل، ولو جعلا الربح والحال هذه بينهما نصفين فلا شركة ولا مضاربة، إذ شركة العنان وضعها الشركة في المال والعمل، وقد فات العمل من أحدهما،

(4/131)


والمضاربة وضعها جعل جزء من [الربح في مقابلة عمل] العامل، وقد فات الجعل، ويكون هذا إبضاعا، وهو جائز إن لم يكن عوضا [عن قرض، كأن كان العامل اقترض الألف، وجعل عمله في مال صاحبه عوضا] عن قرضه، فإن ذلك غير جائز، هذا كله إذا اصطلحا على ذكر شيء، فأما إن لم يصطلحا على شيء، فإن في المضاربة يكون الربح لمالك المال، وللعامل أجرة المثل، وفي العنان: يكون الربح على قدر المالين، وفي شركة الوجوه: على قدر ملكي المشتري، وفي شركة الأبدان: يقسم أجرة ما تقبلاه بالسوية، وهل يرجع كل واحد على الآخر بأجرة عمله؟ فيه وجهان، والله أعلم.

(4/132)


قال: والوضيعة على قدر المال.
ش: الوضيعة تختص المال وتتقدر به، بلا خلاف نعلمه، ففي شركة العنان على قدر المالين، وفي شركة الوجوه على قدر ملكي المشتري، وفي المضاربة تختص المال لا تتعداه إلى العامل، والله أعلم.

قال: ولا يجوز أن يجعل لأحد من الشركاء فضل دراهم.
ش: أو يجعل نصيبه كله من الربح دراهم؛ كأن يشترط له ثلث الربح [مثلا] وعشرة دراهم، أو يشترط له مائة درهم، من غير جزء من الربح، وفي كليهما يفسد العقد، وقد حكاه ابن المنذر في القراض إجماعا، والمعنى في ذلك احتمال أن لا يربح غيرها، فيحصل على جميع الربح، وفي ذلك ضرر وغرر بالآخر، والشريعة تأباه، والله أعلم.

[ما يجوز للمضارب وما لا يجوز]
قال: والمضاربة إذا باع بنسيئة بغير أمر ضمن في إحدى الروايتين، والأخرى: لا يضمن.

(4/133)


ش: إذا أذن للمضارب أو لغيره من الشركاء أن يبيع نسيئة أو أمر بذلك أو نهى [عنه] اعتمد الإذن، ومتى خالف ضمن، وإن أطلق له جاز أن يبيع بالحال، وهل يجوز أن يبيع بالنسيئة؟ فيه روايتان:
(الجواز) : واختاره ابن عقيل، إذ ذلك عادة التجار، فكان مأذونا له عرفا.
(والمنع) : إذ التصرف المأذون فيه ما كان على وجه الحظ، ومع النسيئة لا حظ، لما في ذلك من التغرير بالمال، فكأنه منهي عنه عرفا.
فعلى الأول: لا ضمان عليه ما لم يفرط ببيع من لم يوثق به، أو من لم يعرفه.
وعلى الثاني: يلزمه ضمان الثمن.
«قلت» : وينبغي أن يكون حالا، والبيع صحيح على مقتضى كلام الخرقي، وجعله أبو محمد من تصرف الفضولي، فيبطل على الصحيح، والله أعلم.

[المضاربة لأكثر من رجلين]
قال: وإذا ضارب لرجل لم يجز أن يضارب لآخر، إذا كان فيه ضرر على الأول، [فإن فعل وربح رده في شركة الأول] .

(4/134)


ش: إذا ضارب لرجل لم يجز أن يضارب لآخر إذا كان فيه ضرر على الأول، كأن يكون المال الثاني كثيرا، يشغله عن [العمل في] الأول، أو الأول كثير، متى اشتغل بغيره تعطل العمل في بعضه، إذ وضع المضاربة على الحظ والنماء، ومع وجود الضرر لا حظ ولا نماء، فإن خالف وفعل رد ما ربح في المضاربة الثانية في [شركة] الأول، لأن الأول - والحال هذه - يستحق منافعه، فيستحق ما حصل في مقابلتها، وخرج من كلام الخرقي إذا لم يكن على الأول ضرر بالمضاربة، لقلة المال ونحو ذلك، فإن للمضارب المضاربة لآخر، إذ منافعه لم تملك عليه، إنما الذي ملك عليه فعل ما فيه حظ ونحوه، والله أعلم.

قال: وليس للمضارب ربح حتى يستوفي رأس المال.
ش: وضع المضاربة أن ينض مال المضاربة، ثم يقسم الربح، والله أعلم.

[ربح المضارب في سلعة وخسارته في الأخرى]
قال: وإذا اشترى سلعتين فربح في إحداهما وخسر في الأخرى؛ جبرت الوضيعة من الربح.

(4/135)


ش: لأن رأس المال واحد، فلا يستحق المضارب فيه ربحا حتى يستوفي رأس المال، كالتي قبلها، والله أعلم.

قال: وإذا تبين للمضارب أن في يده فضلا، لم يكن له أخذ شيء منه إلا بإذن رب المال.
ش: لأن الربح وقاية لرأس المال، فربما خسر بعد، فتبين أن لا ربح، ولأن رب المال شريكه في الربح، فلا يقاسم نفسه إلا بإذنه، وخرج إذا أذن رب المال لأن الحق لهما، لا يخرج عنهما، نعم: متى خسر المال - والحال هذه - لزم العامل رد أقل الأمرين مما أخذه، أو نصف الخسران، إذا قسما الربح نصفين.
وقوة كلام الخرقي يقتضي أن العامل يملك الربح بنفس الظهور، وهو إحدى الروايتين عن أحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - والمنصوبة في المغني للخلاف، اعتمادا على الشرط، إذ هو صحيح، فوجب العمل بمقتضاه.
«والرواية الأخرى» : لا يملكه إلا بالقسمة، إذ لو ملكه بالظهور لكان ربحه له، وكان شريكا لرب المال به، وكل ذلك ممتنع، والله أعلم.

[اتفاق رب المال والمضارب على أن الربح بينهما والوضيعة عليهما]
قال: وإذا اتفق رب المال والمضارب على أن الربح بينهما والوضيعة عليهما، كان الربح بينهما والوضيعة على المال.

(4/136)


ش: لا إشكال في صحة شرط الربح، ولا في بطلان اشتراط الوضيعة أو بعضها على المضارب، لمنافاة هذا الشرط لمقتضى المضاربة.
ومقتضى كلام الخرقي أن العقد لا يفسد بهذا الشرط، وهو منصوص أحمد والمذهب، لعدم تأثيره في جهالة الربح، وعنه يفسد العقد، لأنه شرط فاسد، أشبه اشتراط فضل دراهم، والله أعلم.

قال: ولا يجوز أن يقال لمن عليه دين ضارب بالدين الذي عليك.
ش: حكى ابن المنذر هذا إجماعا عمن يحفظ عنه من أهل العلم، لأن المال ما دام في يد المدين لا يصير للغريم إلا بقبضه، ولم يوجد القبض هنا، وخرج أبو البركات الصحة من صحة المضاربة بالعروض، لأنه إذا اشترى شيئا للمضاربة، ودفع الدين، فقد وقع الشراء [والدفع بإذن الغريم] ، فيصير كما لو دفع إليه عرضا، وقال: ضارب به، والله أعلم.

قال: وإن كان في يده وديعة جاز له أن يقول: ضارب بها.

(4/137)


ش: لأن الوديعة ملك لصاحبها، فجازت المضاربة عليها، كما لو كانت حاضرة.
ومراد الخرقي - رَحِمَهُ اللَّهُ - بهذه الوديعة: الدراهم والدنانير، إذ غرضه بهذه المسألة بيان أن الوديعة يجوز دفعها لمن هي في يده مضاربة، وقد يقال: إن إطلاقه يشمل ما إذا كانت غير الدراهم والدنانير، فيكون من مذهبه جواز المضاربة على العروض، كالرواية المرجوحة، مع أن المسألة السابقة قد تأتي ذلك. والله سبحانه وتعالى أعلم.

(4/138)