فقه العبادات على المذهب الحنبلي

الباب الثامن (صلاة المسافر)

(1/292)


الفصل الأول

(1/292)


قصْرُ الصلاة
تعريفه: قصر الصلاة هو أن يصلي المكلف الظهر والعصر والعشاء ركعتين ركعتين.
حكمه: رخصة للمسافر سفراً طويلاً. والرخصة يجوز تركها لكن القصر أفضل، لأن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه داوموا عليه وعابوا من تركه.
أما الملاح الذي أهله في السفينة، وحاجة بيته معه، ولا بيت له غيرها، وليس له نية المقام في بلد، فلا يقصر لأنه غير ظاعن عن بلده ومنزله فأشبه المقيم في البلد.
دليله: من القرآن قوله تعالى: (وإذا ضربتم (1) في الأرض فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا) (2) .
ومن السنة: عن يعلى بن أمية قال: (قلت لعمر بن الخطاب: ليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا فقد أمن الناس. فقال: عجبت مما عجبت منه فسألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك فقال: [ص:293] صدقة تصدق الله بها عليكم فاقبلوا صدقته) (3) . وروى يحيى بن أبي إسحق قال: سمعت أنساً يقول: (خرجنا مع النبي صلى الله عليه وسلم من المدينة إلى مكة، فكان يصلي ركعتين ركعتين، حتى رجعنا إلى المدينة ... ) (4) . وقد أجمعت الأمة على مشروعية القصر.
__________
(1) ضربتم: سافرتم براً أو بحراً.
(2) النساء: 101.
(3) مسلم: ج-1/ كتاب صلاة المسافرين وقصرها باب 1/686.
(4) البخاري: ج-1/ تقصير الصلاة باب 1/1031.

(1/292)


شروط جواز القصر:
-
1ً- أن يكون السفر طويلاً أي مسافة أربعة برد (1) ، أي مسير يوم وليلة بسير الإِبل المحملة بالأثقال، سيراً معتاداً سواء كان السفر براً أم بحراً، والعبرة للمسافة لا لمسيرة السفر، فإن شك بمقدار المسافة لم يبح له القصر لأن الأصل للإِتمام فلا يزول بالشك.
-
2ً- أن ينوي السفر الطويل في بدئه، فلو قصر ثم بدا له الإِقامة، أو رجع كانت صلاته صحيحة، أما من خرج طالباً لآبق أو هائماً على وجهه فلا يباح له القصر ولو سافر شهراً، لأن نية السفر الطويل لم توجد في البدء. وكذا لا تعتبر نية التابع إلا إذا وافقت نية المتبوع، فلو خرج مكرهاً كالأسير يُقصَدُ به بلدٌ بعينه فله القصر لأنه تابع لمن يقصد مسافة القصر.
-
3ً- أن يكون السفر مباحاً (ومن باب أولى أن يكون السفر واجباً كالحج والجهاد وقضاء الدين، أو مسنوناً كزيارة الرحم) للتجارة أو النزهة. فلو كان السفر حراماً كأن سافر لسرقة مال، أو لقطع طريق، أو تجارة في الخمر أو نحو ذلك، فلا يقصر، وإذا قصر لم تنعقد صلاته ولا يترخص بشيء من رخص السفر، لأنه لا يجوز تعليق الرخص بالعاصي. أما إن عصى في سفر مباح أو واجب أو مندوب فلا يمنع القصر. [ص:294]
-
4ً- شروعه في السفر بخروجه من بيوت قريته أو بلدته، لأن الله تعالى قال: {وإذا ضربتم فيالأرض فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة} ولا يكون ضارباً في الأرض حتى يخرج. ويجوز له القصر بين حيطان البساتين لأنها ليست من حيطان البلد ولا تبنى للسكنى. وإن خرب بعض البلد فصار فضاء فهو كالصحراء وإن كانت حيطانه قائمة، أما إذا اتصل بالبيوت الخربة بيوت عامرة فلا يقصر إلا إذا فارقهما معاً، ولا يقصر إذا اتصل بالخراب بساتين يسكنها أصحاب للرياضة في الصيف مثلاً إلا إذا جاوز تلك البساتين. أما إن كان من سكان الخيام أو القصور أو البساتين فلا يقصر حتى يفارق خيامه أو المكان تنسب إليه البساتين أو القصور عرفاً. أما المسافر بحراً فيعتبر شروعه في السفر بركوبه الباخرة وشروعها في الحركة.
__________
(1) أي 16/ فرسخ وتساوي 48 ميل أو 81 كيلو متر تقريباً..

(1/293)


شروط صحة القصر:
-
1ً- أن ينوي القصر مع نية الإِحرام، فإن شك في نية القصر لزمه الإِتمام لأنه الأصل. فلو نوى الإِتمام في ابتداء الصلاة، أو أثنائها، أو ما يلزمه الإِتمام كالإِقامة، أو قلب نيته إلى سفر قصير أو معصية، لزمه إتمام الصلاة ولزم من خلفه متابعته.
-
2ً- أن يعتقد جواز القصر، فلو قصر وهو معتقد التحريم (تحريم القصر) فصلاته فاسدة، لأنه فعل ما يعتقد تحريمه.
-
3ً- أن لا تكون الصلاة وجبت في الحضر، فلو ترك صلاة حضر وقضاها في السفر لم يجز له قصرها. ومن سافر بعد دخول وقت الصلاة ولم يصلِّها وصلاها في السفر ولم يجز له قصرها. وإن نسي صلاة سفر فذكرها في الحضر أتمها ولم يقصر فيها، أما إن ذكرها في سفر آخر فيقصرها.
-
4ً- أن لا يأتم المسافر الذي يقصر الصلاة بمقيم ولا بمسافر يتم، فإن ائتم بمقيم لزمه الإِتمام سواء أئتم به في الصلاة كلها أو جزئها، لأن ابن عمر رضي الله عنهما سئل عن (المسافر يدرك ركعتين من صلاة القوم يعني المقيمين أتجزيه الركعتان [ص:295] أو يصلي بصلاتهم قال: فضحك وقال: يصلي بصلاتهم) (1) ولو أدرك المسافر من الجمعة أقل من ركعة لزمه إتمامها أربعة لائتمامه بمقيم. ومن ائتم بمقيم ففسدت صلاته لم يجز له قصرها بعد ذلك، لأنها تعنيت عليه تامة لائتمامه بمقيم.
ومن أحرم مع من يظنه مقيماً أو يشك في إقامته لزمه الإِتمام ولو قصر إمامه اعتباراً بالنية، وإن غلب على ظنه أنه مسافر فله أن ينوي القصر ويتبع إمامه فيقصر بقصره ويتم بإتمامه.
وإن أمّ المسافر مقيماً لزم المقيم الإتمام، ويستحب للإِمام أن يقول لهم: أتموا فإنا قوم سفر، لما روى عمران بن الحصين رضي الله عنه قال: (غزوت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وشهدت معه الفتح فأقام بمكة ثماني عشرة ليلة لا يصلي إلا ركعتين ويقول: يا أهل البلد، صلَّوا أربعاً فإنا قوم سُفر) (2) . وإن أتم الإِمام (المسافر) صحت الصلاة، أما إن نسي المسافر فقام إلى ثالثة فله أن يجلس ولا يلزمه الإِتمام لأن الموجب للاتمام نيته.
__________
(1) البيهقي: ج-3 /ص 157.
(2) أبو داود: ج-2 / كتاب الصلاة باب 279/1229.

(1/294)


ما يمنع القصر:
-1- نية الإقامة في بلد المقصد أكثر من إحدى وعشرين صلاة، ولو في مكان غير صالح للإِقامة، ولو لحاجة علم أنها لا تنقضي إلا في مدة أكثر من إحدى وعشرين صلاة، لأن النبي صلى الله عليه وسلم أقام بمكة فصلى بهم إحدى وعشرين صلاة يقصر فيها، وذلك أنه قدم لصبح رابعة (الرابع من ذي الحجة) فأقام إلى يوم التروية فصلى الصبح ثم خرج. فمن أقام مثل إقامته قصر، ومن زاد أتم، ذكره الإِمام أحمد رضي الله عنه.
ومن قصد رِستافاً (1) يتنقل فيه لا ينوي الإِقامة في موضع واحد فله القصر، عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: (خرجنا مع النبي صلى الله عليه وسلم فجعل يقصر حتى [ص:296] قدمنا مكة فأقام بها عشرة أيام يقصر حتى رجع وذلك في حجة الوداع) (2) وهذا يعني أنه حسب خروجه إلى منى وعرفة وبعده من العشرة.
ومن كان في مكة مقيماً فخرج إلى عرفة عازماً على أنه إذا رجع إلى مكة لا يقيم فيها فله القصر من حين خروجه.
-2- مرورو المسافر على بلد فيها زوجة له أو ماشية، لأن ذلك يروى عن عثمان وابن عباس رضي الله عنهما.
-3- مرورو المسافر بوطنه ولو لم يرد الإِقامة فيه.
-4- رجوع المسافر من الطريق إلى بلده، لحاجة بدت، أو لعدوله عن السفر، إن لم يقطع مسافة القصر بعد، ولا يعيد الصلاة التي صلاها قصراً. أما إن كان قطع مسافة القصر فيقصر في عودته إلى أن يعود إلى بلده.
-5- عودة المسافر إلى المكان الذي يباح له القصر عنده حين ابتدأ سفره سواء كان ذلك المكان وطناً له أو لا. [ص:297]
__________
(1) الرستاق: القرى.
(2) الدرامي: ج-1/ص 355.

(1/295)


الفصل الثاني

(1/297)


جمع الصلاة
تعريف: الجمع هو أن يجمع المصلي بين الظهر والعصر تقديماً في وقت الظهر أو يجمع بينهما تأخيراً في وقت العصر، وبين المغرب والعشاء تقديماً في وقت المغرب أو تأخيراً في وقت العشاء.
حكمه:
-
1ً- مباح في الأسباب الواردة فيما بعد. وتركه أفضل.
-
2ً- سنة بين الظهر والعصر تقديماً بعرفة، وبين تامغرب والعشاء وتأخيراً بمزدلفة.
أسباب جواز الجمع:
-
1ً- السفر: روى أنس رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه: كان (إذا عجل عليه السفر، يؤخر الظهر إلى أول وقت العصر. فيجمع بينهما. ويؤخر المغرب حتى يجمع بينها وبين العشاء، حين يغيب الشفق) (1) . وشروط جواز الجمع في السفر هي نفس شروط جواز القصر، أي كل من جاز له القصر في حله وترحاله جازله الجمع.
-
2ً-المطر الذي يبل الثياب وتلحق المشقة بالخروج فيه ومثله الثلج (2) ، عن ابن عباس رضي الله عنهما (أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى بالمدينة سبعاً وثمانياً: الظهر [ص:298] والعصر، والمغرب والعشاء. فقال أيوب: لعله في ليلة مطيرة؟ قال: عسى) (3) ، ويجوز الجمع في المطر حتى ولو كان المصلي منفرداً أو مقيماً في المسجد أو كان في المسجد أو كان في طريقه ظلال، لأن العذر عام لا يعتبر حقيقة المشقة كالسفر، وقد روي أن النبي. صلى الله عليه وسلم جمع في المطر وليس بين حجرته والمسجد شيء.
-
3ً- المرض: عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: (جمع رسول الله صلى الله عليه وسلم بين الظهر والعصر والمغرب والعشاء بالمدينة في غير خوف ولا مطر) (4) ، وقد أجمعنا على أن الجمع لا يجوز بغير عذر فلم يبق إلا المرض، فهذا دليل جواز الجمع في المرض، لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر سهلة بنت سهيل وحمنة بنت جحش بالجمع بين الصلاتين لأجل الاستحاضة وهي نوع من المرض.
__________
(1) مسلم: ج-1/ كتاب صلاة المسافرين وقصرها باب 5/48.
(2) أما الجمع في الوحل والريح الشديدة في الليلة المظلمة ففيه وجهان: الجواز وعدمه.
(3) البخاري: ج-1/ كتاب مواقيت الصلاة باب 11/518.
(4) مسلم: ج-1/ صلاة المسافرين باب 6/54.

(1/297)


شروط صحة الجمع:
-1- الترتيب، أي البداءة بالأولى.
-2- صحة الأولى، فإن ذكر أنه نسي من الأولى ركناً أعادهما أداءً إن اتسع الوقت وإلا فقضاء مرتباً، وإن بان أنه نسي ركناً من الثانية أعادها فقط.
ويشترط لجمع التقديم شروط أخرى هي:
-
1ً- أن ينوي الجمع عند الإحرام بالأولى.
-
2ً- أن لا يفصل بينهما إلا فصلاً يسيراً بحسب العرف، كوضوء خفيف وإقامة. ولا يضر الكلام اليسير. أما إن فصل بينهما بسنة راتبه فلا يصح.
-
3ً- وجود العذر المبيح للجمع (مطر وما شابهه، أو مرض وما شابهه) عند افتتاح الأولى وانتهائها وابتداء الثانية، أي إذا انقطع العذر أثناء الأولى ثم عاد، [ص:299] أو انقطع العذر قبل انتهاء الثانية، فالجمع صحيح. أما الذي يجمع بالسفر بالسفر فيشترط أن يدوم سفره من إحرام الأولى إلى انتهاء الثانية، فلو نوى الإقامة، أو وصل إلى بلد المقصد، أو وصل إلى وطنه قبل الانتهاء من الثانية. انقطع السفر وبطلت الصلاة، وقيل: يكفي استمرار السفر إلى الإِحرام بالثانية قياساً على الجمع بالأعذار.
-
4ً- إن كان السبب هو المطر أو الثلج أو البرد فلا يصح الجمع إلا بين المغرب والعشاء (العشاءين) ، لأن المشقة في المطر إنما تعظم في الليل لظلمته فلا يقاس عليه غيره.
ويشترط لجمع التأخير شروط أخرى هي:
-
1ً- أن ينوي الجمع في وقت الصلاة الأولى إلى أن يبقى من الوقت ما يسعها، فإن نوى بعد ذلك حرم تأخير النية، وإن خرج وقت الأولى ولم ينوِ لم يصح الجمع وعليه القضاء.
-
2ً- أن يستمر العذر إلى دخول وقت الثانية. ولا يشترط استمرار العذر في وقت الثانية، لأنهما صارتا واجبتين في ذمته فلا بد من فعلهما، ولا مانع من التطوع بينهما بخلاف جمع التقديم.
أفضلية التقدم أو التأخير:
المصلي مخير بينهما، أيهما الأسهل عليه فعله، لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقدم إذا ارتحل بعد دخول الوقت، ويؤخر إذا ارتحل قبله طلباً للأسهل، عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا ارتحل قبل أن تزيغ الشمس، أخر الظهر إلى وقت العصر، ثم نزل فجمع بينهما. فإن زاغت الشمس قبل أن يرتحل، صلى الظهر ثم ركب) (1) .
وكذلك يفع المريض. وإن كان الجمع عند المصلي واحداً فالأفضل التأخير، إلا الجمع في المطر فلا تحصل الفائدة إلا بتقديم العشاء إلى المغرب وهو الأولى. [ص:300]
__________
(1) مسلم: كتاب صلاة المسافرين باب 5/46.

(1/298)