مختصر الإنصاف والشرح الكبير

كتاب الصيام
يجب الصوم بإحدى ثلاثة:
الأول: رؤية الهلال، إجماعاً.
الثاني: كمال شعبان ثلاثين، لا نعلم فيه خلافاً. ويستحب ترائي الهلال ليلة الثلاثين من شعبان، وفي الترمذي: "احصوا هلال شعبان لرمضان".
الثالث: أن يحول دون منظره غيم أو قتر، فيجب صومه، وعنه: لا يجب، ولا يجزئه عن رمضان إن صامه؛ وهو قول أبي حنيفة ومالك والشافعي. وعنه: الناس تبع للإمام، فإذا رؤي نهاراً قبل الزوال أو بعده، فهو لليلة المقبلة. وقال الثوري وأبو يوسف: إن رؤي قبل الزوال، فهو للماضية، لقوله: " صوموا لرؤيته، وأفطروا لرؤيته"، 1 وقد رأوه فيجب الصوم والفطر. ولنا: قول عمر وابنه وغيرهما من الصحابة، والخبر محمول على ما إذا رئي عشية، بدليل ما لو رئي بعد الزوال. ثم إن الخبر إنما يقتضي الصوم والفطر من الغد، بدليل ما لو رئي عشية. وعنه: إن كان في أول رمضان، فهو للماضية؛ فعليها، يلزم قضاء ذلك اليوم وإمساك بقيته.
فإذا رآه أهل بلد لزم الناس كلهم الصوم. وعن عكرمة: لأهل كل بلد رؤيتهم، وهو مذهب إسحاق، لحديث كريب عن ابن عباس، رواه مسلم. ولنا: قوله {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} ، 2 وقد ثبت أن هذا منه في سائر الأحكام - من وقوع الطلاق
__________
1 البخاري: الصوم (1909) , ومسلم: الصيام (1081) , والترمذي: الصوم (684) , والنسائي: الصيام (2117, 2118) , وأحمد (2/497) , والدارمي: الصوم (1685) .
2 سورة البقرة آية: 185.

(1/254)


والعتاق وغير ذلك -، فوجب صيامه بالنص والإجماع. وحديث كريب دل على أنهم لا يفطرون بقول كريب، ونحن نقول به.
ويقبل في هلال رمضان قول عدل، وفي سائر الشهور عدلان. وعن عثمان: "لا يقبل إلا شهادة اثنين"، وهو مذهب مالك، لحديث عبد الرحمن بن الخطاب. ولنا: حديث ابن عباس، وحديثهم إنما يدل بمفهومه، وإن صاموا بشهادة اثنين ثلاثين فلم يروه، أفطروا، لحديث عبد الرحمن بن زيد. وإن صاموا بشهادة واحد، فعلى وجهين: أحدهما لا يفطرون، لحديث عبد الرحمن.
ومن رأى هلال رمضان فردت شهادته لزمه الصوم، وقاله مالك والشافعي. وقال إسحاق: لا يصوم. وإن رأى هلال شوال وحده، لم يفطر؛ روي عن مالك والليث. وقال الشافعي: يحل له أن يأكل بحيث لا يراه أحد. وإن قامت البينة بالرؤية، لزمهم الإمساك والقضاء. وقال عطاء: لا يجب الإمساك. قال ابن عبد البر: لا نعلم أحداً قاله غير عطاء. وإن طهرت حائض أو نفساء، أو قدم المسافر مفطراً، لزمهم القضاء؛ وفي الإمساك روايتان.
و"من عجز عن الصوم لكِبر أو مرض لا يرجى برؤه أفطر، وأطعم عن كل يوم مسكيناً"، وهذا قول علي وابن عباس وغيرهما. وقال مالك: لا يجب عليه شيء. ولنا: الآية، قال ابن عباس في تفسيرها: "نزلت رخصة للشيخ الكبير".
وقال أبو عبيد وأبو مجلز: لا يفطر من سافر بعد دخول الشهر، لقوله تعالى: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} . 1 ولنا: "أنه صلى الله عليه وسلم خرج عام الفتح في رمضان، فصام حتى بلغ الكديد. ثم أفطر، وأفطر الناس معه". 2 متفق
__________
1 سورة البقرة آية: 185.
2 البخاري: الصوم (1944) , ومسلم: الصيام (1113) , وأحمد (1/348) , والدارمي: الصوم (1708) .

(1/255)


عليه.
ومن نوى الصوم في سفره فله الفطر، وقال الشافعي: إن صح حديث الكديد، لم أر به بأساً. وقال مالك: إن أفطر، فعليه القضاء والكفارة.
وإن نوى الحاضر صوم يوم، ثم سافر في أثنائه فله الفطر. وقال مالك والشافعي وأصحاب الرأي: لا يفطر. ولنا: حديث أبي بصرة الغفاري، رواه أبو داود. وقال الحسن: يفطر في بيته إن شاء، لما روى محمد بن كعب قال: "أتيت أنس بن مالك في رمضان وهو يريد السفر، وقد رحلت له راحلته، فدعا بطعام فأكل، فقلت له: سنّة؟ فقال: سنّة. ثم ركب". حسنه الترمذي؛ ويحتمل أنه كان نزل خارجاً منه، فأتاه ابن كعب في ذلك المنزل. قال ابن عبد البر: قول الحسن شاذ، ويروى عنه خلافه.
والحامل والمرضع إذا خافتا على أنفسهما، أفطرتا وقضتا لا غير، لا نعلم فيه خلافاً. وإن خافتا على ولديهما، أفطرتا وأطعمتا. وقال الليث: الكفارة على المرضع، لأنه يمكنها أن تسترضع لولدها.
وقال النخعي وأبو حنيفة: لا كفارة عليها. ولنا: قوله تعالى: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ} ، 1"وهما داخلتان في عموم الآية". وروي عن ابن عمر وابن عباس، ولا مخالف لهما من الصحابة. ويجب عليهما القضاء، وقال ابن عمر وابن عباس: "لا قضاء عليهما لأن الآية تناولتهما". ولنا: أنهما يطيقان. قال أحمد: أذهب إلى حديث أبي هريرة، يعني: ولا أقول بقول ابن عمر وابن عباس في منع القضاء. ولا نعلم خلافاً في وجوب القضاء على المغمى عليه، فأما المجنون فلا يقضي، وقال مالك: يقضي.
ولا يصح صومٌ واجب إلا أن ينويه من الليل، وهو مذهب مالك والشافعي، وقال أبو حنيفة: يجزى صيام رمضان، وكل صوم بنية من النهار، لأنه صلى الله
__________
1 سورة البقرة آية: 184.

(1/256)


عليه وسلم أرسل غداة عاشوراء إلى قرى الأنصار التي حول المدينة: "من كان أصبح صائماً فليتم صومه، ومن كان أصبح مفطراً فليصم بقية يومه، ومن لم يكن أكل فليصم"، 1 وكان واجباً. ولنا: حديث حفصة، مرفوعاً: "من لم يبيِّت الصيام من الليل، فلا صيام له". 2 رواه أبو داود والترمذي والنسائي.
وأما يوم عاشوراء، فإنما سمي الإمساك صياماً تجوزاً، كما في البخاري: "من كان أكل، فليصمْ بقية يومه". 3 والإمساك بعد الأكل ليس بصيام شرعي، ولو ثبت أنه صيام عاشوراء، فوجوبه تجدد في أثناء النهار.
ويصح صوم النفل بنية من النهار، بعد الزوال وقبله. وقال مالك: لا يجزئ إلا بنية من الليل، لحديث حفصة. ولنا: حديث عائشة عند مسلم، وحديثهم نخصه به، ولو تعارضا قدم حديثنا لأنه أصح. والمشهور من قولي الشافعي: أن النية لا تجزئ بعد الزوال، فإن فعل قبل النية ما يفطره لم يجز الصيام، بغير خلاف نعلمه.
ومن هنا إلى آخر الباب: من "الإنصاف":
وإن حال دون منظره غيم أو قتر وجب صومه، وعنه: لا يجب. قال الشيخ: هذا مذهب أحمد المنصوص الصريح عنه، فلا أصل للوجوب في كلامه ولا كلام أحد من الصحابة؛ فعليها، يباح صومه، اختاره الشيخ. قوله: إذا رآه أهل بلد ... إلخ، إذا كانت المطالع متفقة لزمهم الصوم، قال الشيخ: تختلف المطالع باتفاق أهل المعرفة، فإن اتفقت لزمهم الصوم وإلا فلا. واختار أن من رآه فرُدت شهادته، لا يلزمه الصوم ولا الأحكام المعلقة بالهلال من طلاق وغيره. وإن رأى هلال شوال وحده، لم يفطر. قال الشيخ: النزاع مبني على أصل، وهو أن الهلال هل هو اسم لما يطلع في السماء وإن لم يشتهر ولم
__________
1 البخاري: الصوم (1960) , ومسلم: الصيام (1136) .
2 الترمذي: الصوم (730) , والنسائي: الصيام (2334) , وأبو داود: الصوم (2454) , وأحمد (6/287) , والدارمي: الصوم (1698) .
3 البخاري: الصوم (2007) , ومسلم: الصيام (1135) , والنسائي: الصيام (2321) , وأحمد (4/47, 4/48) , والدارمي: الصوم (1761) .

(1/257)


يظهر، أو أنه لا يسمى هلالاً إلا بالاشتهار والظهور، كما يدل عليه الكتاب والسنة والاعتبار.
وإن قامت البينة في أثناء النهار، لزم الإمساك والقضاء، وقال الشيخ: يمسك ولا يقضي، وأنه لو لم يعلم بالرؤية إلا بعد الغروب لم يلزمه القضاء. وإن أسلم كافر أو أفاق مجنون أو بلغ صبي فكذلك، وعنه: لا يجب الإمساك ولا القضاء، واختار الشيخ: يجب الإمساك دون القضاء. وقال: لو تبرع إنسان بالصوم عمن لا يطيقه لكِبر ونحوه أو عن ميت، وهما معسران، توجه جوازه، لأنه أقرب إلى المماثلة من المال. واختار الفطر للتقوّي على الجهاد، وفعله هو وأمر به لما نزل العدوّ دمشق، وقال: يباح للمسافر الفطر ولو كان السفر قصيراً.
قوله: ولا يصح صوم واجب إلا أن ينويه من الليل، معيناً من رمضان أو قضائه أو نذره أو كفارته، وعنه: لا يجب تعيين النية لرمضان، ولا يصح بنية مقيدة بنذر أو غيره، لأنه ناو تركه، اختاره الشيخ إن كان جاهلاً، ومن كان عالماً فلا.
وإن نوى: إن كان غداً من رمضان ففرض وإلا فنفل، لم يجزئه، وعنه: يجزئه، اختاره الشيخ. قال في الروضة: الأكل والشرب بنية الصوم نية، وكذا قال الشيخ.

(1/258)


باب ما يفسد الصوم ويوجب الكفارة
أجمعوا على أن الإفطار بالأكل والشرب لما يُتغذى به، فأما ما لا يتغذى به فيفطر، في قول عامة أهل العلم. وقال الحسن بن صالح: لا يفطر فيما ليس بطعام ولا شراب. وحكي عن أبي طلحة: "أنه كان يأكل البرد في الصوم". وقال مالك: لا يفطر بالسعوط إلا أن يصل إلى حلقه، واختلف عنه في الحقنة. وإن وجد طعم الكحل في حلقه، أو علم وصوله إليه، فطّره وإلا فلا. وقال الشافعي: لا يفطر الكحل.
قال ابن المنذر: أجمعوا على إبطال صوم من استقاء عامداً، وقليل القيء وكثيره سواء، وعنه: لا يفطر إلا بملء الفم؛ والأول أولى، لظاهر حديث أبي هريرة، حسنه الترمذي.
وإن قبّل أو لمس فأمنى أو أمذى أفطر، لإيماء الخبر إليه، يعني: قولها: "كان أملككم لإربه". وقال الشافعي: لا يفطر بالمذي، أو كرر النظر فأنزل، يعني: يفطر، وقال الشافعي وابن المنذر: لا يفطر.
والحجامة يفطر بها الحاجم والمحجوم، وبه قال إسحاق وابن المنذر وابن خزيمة. وقال مالك: لا يفطر، (وإنما) يفطر بما ذكرنا إذا فعله ذاكراً لصومه. وروي عن عليّ: "لا شيء على من أَكل ناسياً"، وهو قول أبي هريرة وابن عمر، وقال مالك: يفطر.
وإذا دخل حلقه غبار أو ذباب من غير قصد، أو رش عليه الماء فيدخل

(1/259)


مسامعه أو حلقه، أو يلقى في ماء فيصل إلى جوفه، فلا يفسد صومه، لا نعلم فيه خلافاً.
ومن أكل معتقداً أنه ليل فبان نهاراً، فعليه القضاء، هذا قول أكثر أهل العلم، وحكي عن عروة ومجاهد والحسن وإسحاق: لا قضاء عليه.
وإذا جامع في نهار رمضان، فعليه القضاء والكفارة، وعنه: لا كفارة مع الإكراه أو النسيان. وقال الشافعي: لا يجب القضاء مع الكفارة. ولنا: أنه صلى الله عليه وسلم قال للمُجامع: "وصم يوماً مكانه". 1 رواه أبو داود. وإن جامع فيما دون الفرج أفطر، بغير خلاف علمناه، وفي الكفارة روايتان.
وإن قبّل أو لمس فأنزل فسد صومه، وفي الكفارة روايتان.
والكفارة: عتق رقبة، فمن لم يجد فصيام شهرين متتابعين، فمن لم يستطع فإطعام ستين مسكيناً، وعنه: على التخيير، لما روى مالك وابن جريج عن الزهري في الحديث: "أمره أن يكفِّر بعتق رقبة، أو صيام شهرين متتابعين، أو إطعام ستين مسكيناً". ووجه الأولى: الحديث الصحيح، رواه يونس ومعمر والأوزاعي والليث وموسى بن عقبة وعبيد الله بن عمير وعراك بن مالك وغيرهم، عن الزهري بلفظ الترتيب؛ والأخذ به أولى، لأن أصحاب الزهري اتفقوا عليه، سوى مالك وابن جريج، ولأن الترتيب زيادة، ولأن حديثنا لفظه صلى الله عليه وسلم، وحديثهم لفظ الراوي، ويحتمل أنه رواه بأوْ لاعتقاده أن معنى اللفظين سواء.
ومن هنا إلى آخر الباب: من "الإنصاف":
اختار الشيخ عدم الإفطار بمداواة جائفة ومأمومة وبحقنة. وقال ابن أبي موسى: الاكتحال بما يجد طعمه كصبر يفطر، ولا يفطر الإثمد غير المطيب
__________
1 البخاري: الصوم (1936, 1937) والهبة وفضلها والتحريض عليها (2600) وكفارات الأيمان (6710, 6711) , ومسلم: الصيام (1111) , والترمذي: الصوم (724) , وابن ماجة: الصيام (1671) , وأحمد (2/208, 2/241) , والدارمي: الصوم (1716) .

(1/260)


إذا كان يسيراً، واختار الشيخ: لا يفطر بذلك كله.
قوله: أو قبّل أو لمس فأمنى ... إلخ، ووجه في الفروع احتمالا بأنه لا يفطر، ومال إليه ورد ما احتج به المصنف والمجد. وإذا قبّل أو لمس فأمذى، فسد صومه، وقيل: لا يفطر، اختاره الشيخ. واختار أن الحاجم إن مص القارورة أفطر وإلا فلا، ويفطر المحجوم عنده إن خرج الدم وإلا فلا، وأنه لا يفطر الفاصد، وأن المشروط يفطر الشارط، وأنه يفطر بإخراج دمه برعاف أو غيره.
واختار أنه لا قضاء على من أكل أو جامع معتقداً أنه ليل فبان نهاراً. وإن جامع فيما دون الفرج فأنزل أفطر، ووجه في الفروع احتمالاً: لا يفطر إذا باشر دون الفرج، ومال إليه. واختار الشيخ أنه لا يفطر إذا أمذى بالمباشرة. واختار أن المجامع إذا طلع عليه الفجر فنزع في الحال، أنه لا قضاء عليه ولا كفارة، ولو كفّر عنه غيره بإذنه فله أخذها، وقيل: وبدون إذنه.
وذكر ابن أبي موسى: هل يجوز له أكلها أم كان خاصا بذلك الرجل الأعرابي؟ على روايتين، وحكم أكله من الكفارات بتكفير غيره عنه حكم كفارة رمضان، وعنه: جواز أكله مخصوص بكفارة رمضان، ولو ملكه ما يكفّر به، وقلنا: له أخذه هناك، فله أكله، وإلا أخرجه عن نفسه، وقيل: هل له أكله أو يلزمه التكفير به؟ على روايتين.

(1/261)


باب ما يكره ويستحب، وحكم القضاء
يكره للصائم أن يجمع ريقه فيبتلعه، وإذا بلع ريق غيره أفطر؛ فإن قيل: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبّل عائشة وهو صائم، ويمص لسانها"، قيل: قال أبو داود: ليس إسناده صحيحاً، ويجوز أن يقبلها في الصوم، ويمص لسانها في غيره.
وإذا ابتلع النخامة، فنقل حنبل: يفطر، ونقل المروذي: لا يفطر. قال أحمد: أحب إلي أن يجتنب ذوق الطعام، فإن فعل لم يضره، لقول ابن عباس: "لا بأس بذوق الطعام والخل، والشيء يريد شراءه"، والحسن كان يمضغ الجوز لابن ابنه وهو صائم. والمنقول عن أحمد: كراهة مضغ العلك. "ورخصت فيه عائشة".
وتكره القبلة إلا لمن لا تحرك شهوته. و"إن شُتم استحب أن يقول: "إني صائم""، للحديث.
ويستحب تعجيل الإفطار وتأخير السحور، ولا نعلم خلافاً في استحباب السحور.
ويستحب أن يفطر على رطبات، فإن لم يكن فعلى تمرات، فإن لم يكن فعلى الماء. ولا نعلم خلافاً في استحباب التتابع في قضاء صوم رمضان، وحكي وجوبه عن النخعي والشعبي. وإذا تأخر القضاء حتى أدركه رمضان آخر، فليس عليه إلا القضاء، لعموم الآية. و"إن كان لغير عذر، فعليه مع القضاء إطعام مسكين لكل يوم"، يروى عن ابن عباس وابن عمر، وقال الحسن:

(1/262)


لا فدية عليه. ولنا: أنه قول مَن سمّينا من الصحابة، ولم يرو عن غيرهم خلافهم.
ومن مات وعليه صيام قبل إمكان الصيام، إما لضيق وقت أو مرض أو سفر، فلا شيء عليه، في قول أكثر أهل العلم. و"إن أخّره لغير عذر مع إمكان القضاء فمات، أطعم عنه لكل يوم مسكيناً"؛ وهذا قول أكثر أهل العلم، روي ذلك عن عائشة وابن عباس، وبه قال مالك والأوزاعي والثوري والشافعي. وقال أبو ثور: يصام عنه، وهو قول الشافعي، لحديث: "من مات وعليه صيام، صام عنه وليّه". 1 ولنا: أنه قول ابن عمر وابن عباس وعائشة، وهي راوية الحديث، والحديث في النذر.
واختلفت الرواية في جواز التطوع بالصوم ممن عليه صوم فرض، وفي كراهة القضاء في عشر ذي الحجة، ومن مات وعليه صوم منذور أو حج أو اعتكاف فعله عنه وليه، وإن كان صلاة منذورة فعلى روايتين. وقال مالك والثوري: يطعم عنه وليه. ولنا: الأحاديث وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم أحق بالاتباع، وفيها غنى عن كل قول. ولا يختص بالولي، بل كل من قضى عنه أو صام عنه أجزأه.
ومن هنا إلى آخر الباب: من "الإنصاف":
قوله: فإن شُتم استحب أن يقول: "إني صائم"، يحتمل أن يقوله مع نفسه، ويحتمل أن يكون جهراً، اختاره الشيخ. ومن فطر صائماً، فله مثل أجره، قال الشيخ: المراد إشباعه.
واختار أن من أفطر متعمداً بلا عذر لا يقضي، وكذلك الصلاة، وقال: وليس في الأدلة ما يخالف هذا. وقال في المستوعب: يصح أن يفعل عنه كل ما عليه من نذر طاعة، إلا الصلاة فعلى روايتين. وقال المجد: قصة سعد تدل على أن كل نذر يقضى، وترجم عليه في المنتقى: يقضى كل المنذورات عن الميت، ولا كفارة مع الصوم عنه أو الإطعام. واختار الشيخ أن الصوم بدل مجزئ بلا كفارة.
__________
1 البخاري: الصوم (1952) , ومسلم: الصيام (1147) , وأبو داود: الصوم (2400) والأيمان والنذور (3311) , وأحمد (6/69) .

(1/263)


باب صوم التطوع
أفضله: صيام داود. ويستحب صيام أيام البيض من كل شهر، وصوم الاثنين والخميس، وصيام ثلاثة من كل شهر، لا نعلم في استحبابه خلافاً، وصوم ستة أيام من شوال مستحب، وكرهه مالك. قال أحمد: "هو من ثلاثة أوجه عن النبي صلى الله عليه وسلم"، ولا فرق بين كونها متتابعة أو متفرقة، وصيام يوم عاشوراء كفارة سنة، ويوم عرفة كفارة سنتين، ولا يستحب لمن كان بعرفة.
ويستحب صيام عشر ذي الحجة. وأفضل الصيام بعد رمضان: شهر الله المحرم. ويكره إفراد رجب، قال أحمد: لا يصومه متوالياً بل يفطر فيه، ولا يشبهه برمضان.
ويكره إفراد الجمعة والسبت ويوم الشك ويوم النيروز والمهرجان، إلا أن يوافق عادة، قال أحمد: أما صيام يوم السبت يفرد، فقد جاء فيه حديث الصماء. والوصال مكروه في قول أكثر أهل العلم، وظاهر قول الشافعي: أنه حرام. ولنا: أن النهي رفقاً بهم، ولهذا لم يفهم منه الصحابة التحريم. وفي البخاري "لا تواصلوا، فأيكم أراد أن يواصل، فليواصل إلى السحر". 1 وقال أبو الخطاب: إنما يكره صوم الدهر إذا دخل فيه العيدان وأيام التشريق، لأن أحمد قال: إذا أفطر يومَي العيد وأيام التشريق، رجوت أن لا يكون به بأس، وهو قول الشافعي، لأن جماعة من الصحابة كانوا يسردون الصوم. قال شيخنا: إنما كره صوم الدهر لما فيه من المشقة، وشبه التبتل المنهي عنه، وفي حديث عبد الله بن عمر:
__________
1 البخاري: الصوم (1967) , وأبو داود: الصوم (2361) , وأحمد (3/8, 3/57, 3/87, 3/96) , والدارمي: الصوم (1705) .

(1/264)


"وإنك إذا فعلت ذلك، هجمت له عينك ... إلخ"، 1 ولو لم يفطر في العيدين وأيام التشريق، فقد فعل مكروهاً، وإن أفطر فيها.
ويكره استقبال رمضان باليوم واليومين، ويدل الحديث بمفهومه على جواز التقديم بأكثر من يومين، وفي حديث أبي هريرة: "إذا كان النصف من شعبان، فأمسكوا ... إلخ"؛ 2 فيحمل الأول على الجواز، وهذا على نفي الفضيلة، جمعاً بينهما. ولا يجوز صيام العيدين وأيام التشريق.
ومن شرع في صلاة أو صوم تطوعاً استحب له إتمامه، ولا يلزمه. وعنه: إذا أجمع على الصيام فأوجبه على نفسه، فأفطر من غير عذر، أعاد ذلك اليوم. وقال النخعي ومالك: يلزم بالشروع فيه، فإن خرج قضى، لحديث عائشة، وفيه: "اقضيا يوماً مكانه". 3 ولنا: حديث عائشة عند مسلم، وخبرهم، قال أبو داود: لا يثبت، وضعفه الجوزجاني وغيره. وعن أحمد ما يدل على أن الصلاة تلزم بالشروع، ومال الجوزجاني إلى هذا وقال: الصلاة ذات إحرام وإحلال، فلزمت بالشروع كالحج.
وأكثرُ أصحابنا على "أنها لا تلزم"، وهو قول ابن عباس؛ فإن دخل في صوم واجب لم يجز له الخروج، بلا خلاف.
وتطلب ليلة القدر في العشر الأواخر من رمضان، وليالي الوتر آكد، وأرجاها ليلة سبع وعشرين. قال أبيّ بن كعب وابن عباس: "هي ليلة سبع وعشرين".
ومن هنا إلى آخر الباب: من "الإنصاف":
إذا أفطر أيام النهي، جاز صوم الدهر ولم يكره، ورواية الأثرم: يكره، قال الشيخ: الصواب قول من جعله تركاً للأوْلى أو كرها، وإن فرق ست شوال جاز، اختاره الشيخ.
__________
1 البخاري: أحاديث الأنبياء (3419) .
2 الترمذي: الصوم (738) , وأبو داود: الصوم (2337) , وابن ماجة: الصيام (1651) , وأحمد (2/442) , والدارمي: الصوم (1740) .
3 الترمذي: الصوم (735) , وأبو داود: الصوم (2457) , وأحمد (6/263) , ومالك: الصيام (682) .

(1/265)


(تنبيه) : عدم استحباب صوم يوم عرفة لمن بعرفة ليتقوى على الدعاء، وعن الشيخ: لأنه يوم عيد. وقال: لا يكره إفراد العاشر من المحرم بالصيام، واختار أنه كان واجباً ثم نسخ. وحكى في إفراد رجب بالصوم وجهين. وقال: لا يجوز صوم يوم الجمعة. واختار أنه لا يكره صوم يوم السبت مفرداً، وأن الحديث شاذ أو منسوخ، وقال: لا يجوز تخصيص أعياد الكفار بالصوم. وذكر ابن عبد البر الإجماع على أنه إذا دخل في الاعتكاف وقد نواه مدة، لزمته يقضيها، ورد المصنف والمجد كلامه في دعوى الإجماع. قال الشيخ: الوتر باعتبار الماضي، فطلب ليلة القدر ليلة إحدى وعشرين وثلاث وعشرين ... إلخ؛ ويكون باعتبار الباقي، لقوله: "في تاسعة تبقى" الحديث. فإذا كان الشهر ثلاثين، تكون تلك ليالي الإشفاع: فليلة الثانية والعشرين: تاسعة تبقى، وليلة أربع: سابعة تبقى، كما فسره أبو سعيد الخدري. وإن كان الشهر تسعة وعشرين، كان التاريخ بالباقي، كالتاريخ بالماضي.
وقال الشيخ: ليلة الإسراء في حقه صلى الله عليه وسلم أفضل من ليلة القدر. وقال: يوم الجمعة أفضل أيام الأسبوع، ويوم النحر أفضل أيام العام. والله أعلم.

(1/266)