مختصر
الإنصاف والشرح الكبير كتاب الشركة
الشركة ثابتة بالكتاب والسنة والإجماع، لقوله {وَإِنَّ
كَثِيراً مِنَ الْخُلَطَاءِ} الآية، 1 ومن السنة قول زيد:
"كنت أنا والبراء شريكين، فاشترينا فضة بنقد ونسيئة ...
إلخ". وهي على خمسة أضرب: شركة العنان، وشركة المضاربة،
وشركة الوجوه، وشركة الأبدان، وشركة المفاوضة. قال أحمد
يشارك اليهودي والنصراني، ولكن لا يخلو اليهودي ولا
النصراني بالمال دونه، لأنه يعمل بالربا. وكره الشافعي
مشاركتهم، لأنه مروي عن ابن عباس، ولأن مالهم ليس بطيب.
ولنا: ما روى الخلال بإسناده عن عطاء: "نهى رسول الله صلى
الله عليه وسلم عن مشاركة اليهودي والنصراني، إلا أن يكون
الشراء والبيع بيد المسلم"، وقول ابن عباس محمول على هذا،
فإنه علله به في رواية أبي حمزة. وقولهم: أموالهم غير
طيبة، فإنه صلى الله عليه وسلم قد عاملهم، وما باعوه من
الخمر والخنزير قبل مشاركة المسلم فثمنه حلال لاعتقادهم
حله، ولهذا قال عمر: "ولّوهم بيعها وخذوا أثمانها".
وشركة (العنان) أن يشتركا بماليهما ليعملا فيه، وهي جائزة
بالإجماع. ولا تصح إلا بشرطين:
أن يكون رأس المال دراهم أو دنانير، ولا تصح بالعروض،
وعنه:
__________
1 سورة ص آية: 24.
(1/555)
تصح ويجعل قيمتها وقت العقد رأس المال. وهل
تصح بالفلوس والمغشوش؟ على وجهين.
الثاني: أن يشترطا لكل منهما جزءاً من الربح مشاعاً
معلوماً كالنصف، سواء شرطا لكل واحد منهما قدر ماله من
الربح أو أقل أو أكثر؛ وبه قال أبو حنيفة. وقال مالك
والشافعي: لا بد من الربح والخسران على قدر المالين، فإن
شرطا لأحدهما في الشركة والمضاربة دراهم معلومة أو ربح أحد
الثوبين لم يصح، حكاه ابن المنذر إجماعاً، إذا جعل أحدهما
أو كلاهما لنفسه دراهم معلومة، وما يشتريه كل واحد منهما
بعد عقد الشركة فهو بينهما، فأما ما يشتريه لنفسه فهو له
والقول قوله لأنه أعلم بنيته. وإن تقاسما الدين في الذمة
لم يصح، وعنه: يجوز فلا يرجع من توى ماله على من لم يتو.
وإن أقر بمال لم يقبل على شريكه، لأنه إنما أذن له في
التجارة، وقال القاضي: يقبل إقراره على مال الشركة. وعلى
كل واحد أن يتولى ما جرت العادة به من إحراز المال ونحوه.
فإن استأجر أحدهما فالأجرة عليه. وما جرت العادة أن يستنيب
فيه كحمل المتاع فمن مال القراض، فإن فعله ليأخذ الأجرة
فهل له ذلك؟ على وجهين.
والشروط فيها ضربان:
(صحيح) : مثل أن يشترط أن لا يتجر إلا في نوع أو بلد، أو
لا يبيع إلا بنقد، أو لا يسافر بالمال.
(وفاسد) : مثل ما يعود بجهالة الربح أو ضمان المال، أو أن
عليه من الوضيعة أكثر من قدر ماله، فما نافى مقتضى العقد
مثل أن لا يعزله أو يوليه ما يختار من السلع ونحو ذلك،
لأنها تفوت المقصود من المضاربة وهو الربح، أو يمتنع الفسخ
الجائز، وما عاد بجهالة الربح مثل أن يشترط جزءاً من
(1/556)
الربح مجهولاً، أو ربح أحد الكبشين، أو
دراهم معلومة، فهذه شروط فاسدة، لأنها تفضي إلى جهل حق كل
واحد منهما من الربح، أو إلى فواته بالكلية. وما ليس من
مصلحة العقد ولا مقتضاه، مثل أن يشترط المضاربة في مال
آخر، أو يأخذه قرضاً أو بضاعة، أو ضمان المال، فما عاد
بجهالة الربح فسدت المضاربة، وما عداه من الشروط الفاسدة
فأظهر الروايتين أن العقد صحيح.
الثاني: (المضاربة) ، وهي مجمع على جوازها، ومن شرطها:
تقدير نصيب العامل، فلو قال: خذه مضاربة فالربح كله لرب
المال، وللعامل أجرة مثله، وقال الحسن والأوزاعي: الربح
بينهما نصفين.
قال ابن المنذر: أجمع كل من نحفظ عنه: أنه لا يجوز أن يجعل
الرجل ديْناً له على رجل مضاربة. وقال بعض أصحابنا: يحتمل
أن يصح. وإن أخرج مالاً ليعمل فيه وآخر والربح بينهما صح،
نص عليه. ومذهب مالك والشافعي: أنه إذا شرط على رب المال
أن يعمل معه لم يصح، وقاله الأوزاعي وابن المنذر، وقال: لا
تصح المضاربة حتى يسلم المال إلى العامل ويخلي بينه وبينه.
وإن اشترك مالان ببدن صاحب أحدهما، فهذا شركة ومضاربة، وهو
صحيح، وقال مالك: لا يجوز.
"وإذا تعدى المضارب ضمن"، في قول الأكثر، روي عن أبي هريرة
وحكيم بن حزام ومالك والشافعي وأصحاب الرأي. وروي عن علي:
"لا ضمان على شريكه في الربح". وروي عن الحسن والزهري. وإن
اشترى ما لم يؤذن له فيه فربح، فالربح لرب المال، نص عليه؛
وبه قال أبو قلابة. وعنه: يتصدقان به، وهو قول النخعي.
وقال مالك: الربح على ما شرطا. وليس لرب المال أن يشتري من
مال المضاربة شيئاً لنفسه، وعنه: يجوز. وإن اشترى المضارب
(1/557)
ولم يظهر ربح صح، وقال أبو ثور: البيع باطل
لأنه شريك. ولنا: أنه إنما يكون شريكاً إذا ظهر الربح.
وليس للمضارب نفقة إلا أن يشترط، وقال مالك وإسحاق: ينفق
من المال بالمعروف إذا شخص به عن البلد. فإن أذن له في
التسري صح. فإن اشترى جارية ملكها وصار ثمنها قرضاً، نص
عليه. وليس للمضارب ربح حتى يستوفي رأس المال ويسلمه إلى
ربه. وفي ملك العامل نصيبه من الربح قبل القسمة، روايتان.
وإن تلف بعض رأس المال قبل التصرف فيه، انفسخت فيه
المضاربة. وإذا ظهر الربح، لم يكن له أخذ شيء إلا بإذن رب
المال، لا نعلم فيه خلافاً. وإن مات المضارب ولم يعلم مال
المضاربة، فهو ديْن في تركته، وكذلك الوديعة. وقال
الشافعي: ليس على المضارب شيء. وإذا كان لرجلين ديْن إما
عقد أو ميراث أو غيره، فقبض أحدهما منه شيئاً، فللآخر
مشاركته؛ وعنه: أن لأحدهما أخذ حقه دون صاحبه، وهو قول أبي
العالية وأبي قلابة وأبي عبيد.
الثالث: (شركة الوجوه) ، وهو أن يشترك اثنان فيما يشتريان
بجاههما، من غير أن يكون لهما رأس مال. قال أحمد في رجلين
اشتركا بغير رؤوس أموال: هو جائز. وبه قال الثوري وابن
المنذر، وقال أبو حنيفة: لا يصح حتى يذكر الوقت أو المال
أو صنفاً من الثياب. وقال مالك والشافعي: يشترط ذكر شرائط
الوكالة. وهما في التصرفات كشريكي العنان فيما يجب لها
وعليهما وغير ذلك.
الرابع: (شركة الأبدان) ، وهي أن يشتركا فيما يكسبان
بأبدانهما أو فيما
(1/558)
يكسبان من المباح، كالحشيش؛ فهذا جائز، نص
عليه فقال: لا بأس أن يشترك القوم بأبدانهم وليس معهم مال؛
قد "أشرك النبي صلى الله عليه وسلم بين سعد وابن مسعود
وعمار، فجاء سعد بأسيرين، ولم يجيئا بشيء". 1 وقال أبو
حنيفة: تصح في الصناعة لا في اكتساب المباح. وقال الشافعي:
شركة الأبدان كلها فاسدة. ولنا: ما تقدم. فإن قيل: المغانم
بين الغانمين، فكيف اختص هؤلاء بالشركة؟ وقال بعض
الشافعية: "مغانم بدر لرسول الله دفعها إلى من شاء"، قلنا:
غنائم بدر لمن أخذها قبل أن يشرك الله بينهم، ولهذا قال
صلى الله عليه وسلم: "من أخذ شيئاً فهو له"، 2 والله
سبحانه إنما جعلها لنبيه بعد أن غنموا واختلفوا فيها. ويصح
مع اختلاف الصنائع، في أحد الوجهين. والربح في شركة
الأبدان على ما اتفقوا عليه، فإن مرض أحدهما فالكسب
بينهما، فإن طالبه الصحيح أن يقيم مقامه لزمه. وإن دفع
دابته إلى من يعمل عليها وما رزق الله فهو بينهما على ما
شرطا صح، وكرهه الحسن، وقال الشافعي وابن المنذر: لا يصح،
والربح كله لرب الدابة، وللعامل أجرة مثله. وقال أحمد فيمن
يعطي فرسه على النصف من الغنيمة: أرجو أن لا يكون به بأس،
وبه قال الأوزاعي. وقال أحمد: لا بأس بالثوب يدفع بالثلث
والربع، قيل: يعطيه بالثلث والربع ودرهم أو درهمين؟ قال:
أكرهه، لأنه لا يعرف الثلث. وإذا لم يكن معه شيء نراه
جائزاً، لإعطائه خيبر على الشطر.
الخامس: شركة المفاوضة، وهي أن يدخلا في الشركة الأكساب
النادرة كوجدان لقطة أو ركاز، أو ما يحصل لهما من ميراث،
أو ما يلزم أحدهما
__________
1 النسائي: الأيمان والنذور (3937) , وأبو داود: البيوع
(3388) , وابن ماجة: التجارات (2288) .
2 أحمد (1/178) .
(1/559)
من أرش جناية، فهي فاسدة؛ وأجازها الثوري
والأوزاعي.
ومن هنا إلى آخر الباب: من "الإنصاف":
وإن تقاسما في الذمة لم يصح، وعنه: يصح، اختاره الشيخ،
وقال: ولو في ذمة واحدة. وقال: إذا تكافأت الذمم، فقياس
المذهب من الحوالة على مليء وجوبه. وإذا قبض أحد الشريكين
من مال بينهما بسبب واحد كإرث - قال الشيخ: أو ضريبة سبب
استحقاقها واحد - فلشريكه الأخذ من الغريم ومن الآخذ،
واختار الشيخ أن الآخذ لو أخرجه من يده برهن أو قضاء دين
أو تلف في يده، أنه يضمنه. وإذا فسد العقد، فأوجب الشيخ
فيه نصيب المثل، فيجب من الربح جزء جرت العادة بمثله.
وقال: الربح الحاصل من مال لم يأذن مالكه في التجارة به،
قيل: للمالك، وقيل: للعامل، وقيل يتصدقان به، وقيل: بينهما
على قدر النفعين بحسب معرفة أهل الخبرة، وهو أصحها، إلا أن
يتجر به على غير وجه العدوان، مثل أن يعتقد أنه ماله، فهنا
يقتسمان الربح بلا ريب. وقال في موضع آخر: إن كان عالماً
بأنه مال الغير، فهنا يتوجه قول من لا يعطيه شيئاً. فإذا
تاب، أبيح له بالقسمة، وإن لم يتب ففي حله نظر. وكذلك إذا
غصب شيئاً كفرس فكسب به، يجعل الكسب بين الغاصب ومالك
الدابة على قدر نفعهما، بأن تقوّم منفعة الراكب ومنفعة
الدابة ثم يقسم الصيد بينهما. وأما إذا كسب العبد، فالواجب
أن يعطي المالك أكثر الأمرين من كسبه أو قيمة نفقته.
انتهى. وليس للمضارب أن يضارب لآخر إذا كان فيه ضرر على
الأول، فإن فعل رد نصيبه من الربح في شركة الأول. واختار
الشيخ أن رب المضاربة الأولى لا يستحق من ربح المضاربة
الثانية شيئاً. وقال: ليس للمضارب نفقة إلا بشرط أو عادة،
وهل يملك العامل حصته من الربح قبل
(1/560)
القسمة؟ على روايتين. وعنه رواية ثالثة:
يملكها بالمحاسبة، والتنضيض، والفسخ قبل القسمة، والقبض،
اختاره الشيخ. وقال: لو مات وصي وجهل بقاء مال موليه، فهو
في تركته. واختار أن له دفع دابته ونخله لمن يقوم به بجزء
من نمائه. واختار صحة أخذ الماشية ليقوم عليها بجزء من
درها ونسلها وصوفها. وقال: تصح شركة الشهود، وللشاهد أن
يقيم مقامه إن كان على عمل في الذمة، وإن كان الجعل على
شهادته بعينه، ففيه وجهان، قال: والأصح جوازه. قال:
وللحاكم إكراههم، لأن له نظراً في العدالة وغيرها. وقال:
إن اشتركوا على أن كل ما حصله واحد منهم بينهم، بحيث إذا
شهد أحدهم وكتب شاركه الآخر وإن لم يعمل، فهي شركة
الأبدان، تجوز حيث تجوز الوكالة؛ وأما حيث لا تجوز، ففيه
وجهان كشركة الدلالين. ونص أحمد على جوازها. وقال الشيخ:
تسليم الأموال إليهم مع العلم بالشركة إذْن لهم. قال: إن
باع كل واحد منهم ما أخذ ولم يعط غيره واشتركا في الكسب،
جاز لئلا تقع منازعة.
(1/561)
باب المساقاة
"تجوز في كل شجر له ثمر مأكول ببعض ثمرته"، هذا قول
الخلفاء الراشدين. وقال داود: لا تجوز إلا في النخل، وقال
الشافعي: لا تجوز إلا فيه وفي الكرم. وفي سائر الشجر
قولان. وقال أبو حنيفة: لا تجوز بحال، لأنها إجارة بثمرة
لم تخلق أو مجهولة. ولنا: الخبر، والإجماع، فلا يعوّل على
ما خالفهما. فإن قيل: راوي الخبر ابن عمر، وقد رجع إلى
حديث رافع، قلنا: لا يجوز حمل حديث رافع ولا حديث ابن عمر
على ذلك، لأنه صلى الله عليه وسلم لم يزل يعامل أهل خيبر،
ثم الخلفاء بعده ثم من بعدهم، ولو صح خبر رافع لحمل على ما
يوافق السنة؛ فروى البخاري فيه: "كنا نكري الأرض بالناحية
منها". 1 وفسر بغير هذا من أنواع الفساد، وهو مضطرب جداً.
قال أحمد: يروى عن رافع في هذا ضروب، كأنه يريد أن اختلاف
الروايات عنه توهن حديثه. وأنكره زيد بن ثابت عليه. ورجوع
ابن عمر يحتمل أنه عن شيء من المعاملات التي فسرها رافع،
وأما غير ابن عمر فأنكر على رافع ولم يقبل حديثه، وحمله
على أنه غلط في روايته. وأما تخصيصه بالنخل أو به وبالكرم،
فخالف قوله: "عامل أهل خيبر بشطر ما يخرج منها من زرع أو
ثمر"، 2 وهذا عام في كل ثمر. وهل يصح على ثمرة موجودة؟ على
روايتين: إحداهما: يجوز. ولو دفع أرضه إلى من يغرسها على
أن الشجر بينهما لم يجز، ويحتمل
__________
1 البخاري: المزارعة (2327) .
2 البخاري: المزارعة (2329) والمغازي (4248) , ومسلم:
المساقاة (1551) , والترمذي: الأحكام (1383) , والنسائي:
الأيمان والنذور (3929) , وأبو داود: البيوع (3408) , وابن
ماجة: الأحكام (2467) , وأحمد (2/17) , والدارمي: البيوع
(2614) .
(1/562)
الجواز بناء على المزارعة. فإن شرط الأرض
والشجر بينهما لم يصح، لا نعلم فيه مخالفاًً. وتصح على
البعل كالسقي، لا نعلم فيه مخالفاًً، لأن الحاجة تدعو إلى
المعاملة فيه، كدعائها إلى المعاملة في غيره. وهي عقد
جائز، سئل أحمد عن: إكار يخرج من غير أن يخرجه صاحب
الضيعة؟ فلم يمنعه، وقيل لازم، وهو قول أكثر الفقهاء.
ويلزم العامل ما فيه صلاح الثمرة، وعلى رب المال ما فيه
حفظ الأصل. فإن شرط على أحدهما شيء مما يلزم الآخر، فقيل:
لا يجوز، وهو مذهب الشافعي، وعن أحمد ما يدل على صحة ذلك.
ولا يجوز أن يجعل له فضل دراهم زائداً على ما له من
الثمرة، بغير خلاف. وإذا ساقاه أو زارعه فعامل العامل غيره
لم يجز، وأجازه مالك، إذا جاء برجل أمين. فأما من استأجر
أرضاً فله أن يزارع غيره فيها، والأجرة على المستأجر دون
المزارع كما ذكرنا في الخراج، ولا نعلم فيه خلافاً عند من
أجاز المساقاة والمزارعة. وإن شرط: إن سقى سيحاً فله
الربع، وإن سقى بكلفة فله النصف، أو إن زرعها شعيراً فله
الربع، وحنطة النصف، لم يصح، وقيل: يصح. وإن قال: ما
زرعتها من شيء فلي نصفه، صح، لحديث خيبر. وإن قال: لك
الخمسان إن كان عليك خسارة، وإلا فالربع، لم يصح، نص عليه
وقال: هذا شرطان في شرط، وكرِهه.
وتجوز المزارعة بجزء معلوم للعامل، في قول أكثر أهل العلم،
وكرهها مالك، وأجازها الشافعي في الأرض بين النخل إذا كان
بياض الأرض أقل، فإن كان أكثر فعلى وجهين. ومنعها في الأرض
البيضاء، لحديث رافع
(1/563)
وجابر. وإن زارعه أرضاً فيها شجرات يسيرة،
لم يجز أن يشترط العامل ثمرتها، وأجازه مالك إذا كان الشجر
بقدر الثلث أو أقل. وإن شرط أن يأخذ رب الأرض مثل بذرة
ويقتسما الباقي لم يصح، وكذلك لو شرط لأحدهما زرع ناحية
معينة، أو ما على الجداول منفرداً ومع نصيبه، فهو فاسد
إجماعاً، لصحة الخبر في النهي. وعن أحمد: إذا شرط الجذاذ
على العامل فجائز، لأنه عليه، وإلا فعلى رب المال حصة ما
يصير إليه؛ فجعل الجذاذ عليهما، وأجاز اشتراطه على العامل.
وقال محمد بن الحسن: تفسد بشرطه على العامل. ولنا: "أنه
صلى الله عليه وسلم دفع خبير إلى يهود على أن يعملوها من
أموالهم". 1 وإن زارع رجلاً أو آجره أرضه فزرعها، فسقط من
الحب شيء فنبت، فهو لصاحب الأرض، وقال الشافعي: لصاحب
الأرض. ولنا: أنه أسقط حقه منه بحكم العرف، وزال ملكه عنه،
ولهذا أبيح التقاطه، لا نعلم فيه خلافاً. وتجوز إجارة
الأرض بالذهب والفضة والعروض غير المطعوم، في قول عامة أهل
العلم. وروي عن الحسن: الكراهة، لحديث رافع. ولنا: قول
رافع: "إنما نهي عنها ببعض ما يخرج منها، أما بالذهب
والفضة فلا بأس"، ولمسلم: "أما بشيء معلوم مضمون، فلا بأس"
2.
وأما إجارتها بطعام، فثلاثة أقسام:
أحدها: بطعام معلوم غير الخارج منها، فأجازه الأكثر، ومنع
منه مالك. وعن أحمد: ربما تهيبته، لما في حديث رافع: "لا
يكريها بطعام مسمى" رواه أبو داود.
الثاني: إجارتها بطعام معلوم من جنس ما يخرج منها، ففيه
روايتان:
__________
1 البخاري: المزارعة (2331) , والترمذي: الأحكام (1383) ,
والنسائي: الأيمان والنذور (3872) , وأبو داود: البيوع
(3409) , وابن ماجة: الأحكام (2467) , وأحمد (2/17, 2/22)
.
2 مسلم: البيوع (1547) , والنسائي: الأيمان والنذور (3899)
.
(1/564)
إحداهما: المنع، لأنه ذريعة إلى المزارعة
عليها بشيء معلوم من الخارج منها.
الثالث: إجارتها بجزء مشاع بما يخرج منها، فالمنصوص عنه:
جوازه، وقال الشافعي: لا يصح.
ومن هنا إلى آخر الباب: من "الإنصاف ":
لو صح فيما تقدم إجارة أو مزارعة فلم يزرع، نظر إلى معدل
المغل فيجب القسط المسمى فيه، وإن فسدت وسميت إجارة فأجرة
المثل، واختار الشيخ قسط المثل. واختار جواز المساقاة على
شجر يغرسه ويعمل عليه بجزء معلوم من الشجر، أو بجزء من
الشجر والثمر كالمزارعة، وقال: ولو كان مغروساً، ولو كان
ناظر وقف، وإنه لا يجوز للناظر بعده بيع نصيب الوقف من
الشجر بلا حاجة. وللحاكم الحكم بلزومها في محل النزاع فقط.
ولو كان الاشتراك في الغراس والأرض فسد، وجهاً واحداً.
وقال الشيخ: قياس المذهب: صحة ما سقط من الحب وقت الحصاد
إن نبت فلرب الأرض، وفي الرعاية: هو لرب الأرض مالكاً
ومستأجراً أو مستعيراً. وكذا نص أحمد فيمن باع قصيلاً فحصد
وبقي يسير فصار سنبلاً، فهو لرب الأرض.
والمساقاة عقد جائز، وقيل: لازم، اختاره الشيخ. وأفتى فيمن
زارع رجلاً على مزرعة بستان ثم أجرها، هل تبطل المزارعة؟
فقال: إن زارعه مزارعة لازمة لم تبطل، وإن لم تكن لازمة
أعطى الفلاح أجرة عمله. وأفتى فيمن زرع أرضاً بوراً فهل له
إذا خرج منها فلاحة؟ أنه إن كان له في الأرض فلاحة لم
ينتفع بها، فله قيمتها على من انتفع بها. فإن انتفع بها
المالك وأخذ عوضاً عنها من المستأجر، فضمانها عليه، وإن
أخذ الأجرة عن الأرض
(1/565)
وحدها فضمان الفلاحة على المستأجر المنتفع
بها. ونص أحمد فيمن استأجر أرضاً مفلوحة وشرط عليه أن
يردها مفلوحة كما أخذها، أنه له أن يردها كما شرط. وقال
الشيخ: السياج على المالك، وكذا تسميد الأرض بالزبل إذا
احتاجت إليه، ولكن تفريقه فيها على العامل. وقال: المزارعة
أحل من الإجارة لاشتراكهما في المغنم والمغرم. وإن كان
فيها شجر فزارعه الأرض وساقاه على الشجر صح، وإن جمع
بينهما في عقد واحد فكجمع بين بيع وإجارة. قال الشيخ: سواء
صحت أو لا، فما ذهب من الشجر ذهب ما يقابله من العوض.
ولا تجوز إجارة أرض وشجر لحملها، حكاه أبو عبيد إجماعاً،
وجوزه ابن عقيل تبعاً للأرض ولو كان الشجر أكثر، اختاره
الشيخ. بل جوز إجارة الشجر مفرداً ويقوم عليها المستأجر
كأرض لزرع، بخلاف بيع السنين، فإن تلفت الثمرة فلا أجرة،
وإن نقصت عن العادة فالفسخ أو الأرش، لعدم المنفعة
المقصودة بالعقد كجائحة. واختار أنه لا يشترط كون البذر من
رب الأرض، وجوز أخذ البذر أو بعضه بطريق القرض، وقال: يلزم
من اعتبر البذر من رب الأرض، وإلا فقوله فاسد. وقال أيضاً:
يجوز كالمضاربة، وكاقتسامهما الباقي بعد الكلف. وقال: يتبع
الكلف السلطانية العرف ما لم يكن شرطاً، واشترط عمل الآخر
حتى يثمر ببعضه. قال: وما طلب من قرية من وظائف سلطانية
ونحوها، فعلى قدر الأموال، وإن وضعت على الزرع فعلى ربه،
أو على العقار فعلى ربه، ما لم يشرطه على مستأجر. وإن وضع
مطلقاً، رجع إلى العادة. والله أعلم.
(1/566)
باب الإجارة
الإجارة جائزة بالكتاب والسنة والإجماع، أما الكتاب، فقوله
تعالى: {فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ
أُجُورَهُنَّ} ، 1 وقول تعالى: {يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ
إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الأَمِينُ
قَالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ
هَاتَيْنِ عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي} الآية، 2 وقال تعالى:
{لَوْ شِئْتَ لَتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْراً} . 3 ولابن
ماجة مرفوعاً: "إن موسى عليه السلام أجّر نفسه ثماني حجج
أو عشراً، على عفة فرجه وطعام بطنه"، 4 وفي الصحيح: "أنه
استأجر رجلاً من بني الديل"، 5 وفيه: "ثلاثة أنا خصمهم:
رجل أعطى بي ثم غدر، ورجل باع حراً فأكل ثمنه، ورجل استأجر
أجيراً فاستوفى منه ولم يؤته أجره " 6.
وهي عقد على المنافع، تنعقد بلفظ الإجارة والكراء، وما في
معناهما. ولا تصح إلا بشروط ثلاثة:
أحدها: معرفة المنفعة، مثل بناء الحائط يذكر طوله وعرضه.
قال ابن المنذر: أجمع كل من نحفظ عنه: أن إجارة المنازل
والدواب جائزة. ويجوز الاستئجار للخدمة كل شهر بشيء معلوم.
قال أحمد: أجير المشاهرة
__________
1 سورة الطلاق آية: 6.
2 سورة القصص آية: 26-27.
3 سورة الكهف آية: 77.
4 ابن ماجة: الأحكام (2444) .
5 البخاري: الإجارة (2263) .
6 البخاري: البيوع (2227) , وابن ماجة: الأحكام (2442) ,
وأحمد (2/357) .
(1/567)
يشهد الأعياد والجمعة وإن لم يشترط. قيل
له: فيتطوع بالركعتين؟ قال: ما لم يضر بصاحبه. قال ابن
المبارك: يصلي الأجير ركعتين من السنّة، وقال ابن المنذر:
ليس له منعه منها. وإذا استأجر أرضاً احتاج إلى ذكر ما
تكترى له من غراس أو بناء أو زرع.
الثاني: معرفة الأجرة، لا نعلم فيه خلافاً، فإن علمت
بالمشاهدة دون القدر كالصبرة جاز. واختلفت الرواية عن
أحمد: فيمن استأجر أجيراً بطعامه وكسوته، أو جعل له أجراً،
وشرط طعامه وكسوته، فعنه: يجوز، وهو مذهب مالك وإسحاق.
وروي عن أبي بكر وعمر وأبي موسى "أنهم استأجروا الأجراء
لإطعامهم وكسوتهم". وعنه: يجوز في الظئر دون غيرها، وهو
مذهب أبي حنيفة لأنه مجهول. وجاز في الظئر، لقوله تعالى:
{وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ} الآية. 1 وعنه:
لا يجوز في الظئر ولا غيرها، وبه قال الشافعي وابن المنذر،
لأنه يختلف اختلافاً كثيراً متبايناً. ولو استأجر دابة
بعلفها لم يجز لأنه مجهول، وعن أحمد: أنه يجوز. وقال: لا
بأس أن يحصد الزرع ويصرم النخل بالسدس، وهو أحب إلي من
المقاطعة. ويستحب أن يعطي عند الفطام عبداً أو وليدة إذا
كان موسراً، لحديث حجاج الأسلمي: "قلت: يا رسول الله، ما
يذهب عني مذمّة الرضاع؟ قال: الغرة، العبد أو الأمة". 2
صححه الترمذي. والمذمة بكسر الذال من الذِمام، وبفتحها من
الذَّم. قيل: خص الرقبة بالمجازاة، لأن فعلها من الحضانة
والرضاعة سبب حياة الولد، فاستحب جعل الجزاء هيئتها رقبة
لتناسب ما بين النعمة والشكر، ولهذا جعل الله المرضعة
أماً، فقال تعالى: {وَأُمَّهَاتُكُمُ اللاَّتِي} ، 3
__________
1 سورة البقرة آية: 233.
2 الترمذي: الرضاع (1153) , والنسائي: النكاح (3329) ,
وأبو داود: النكاح (2064) , وأحمد (3/450) , والدارمي:
النكاح (2254) .
3 سورة النساء آية: 23.
(1/568)
وقال: "لا يجزي ولد والده إلا أن يجده
مملوكاً فيعتقه". 1 وإذا دفع ثوبه إلى خياط أو قصار من غير
عقد ولا شرط فلهما الأجر، وقال أصحاب الشافعي: لا أجر
لهما. ولنا: أن العرف الجاري يقوم مقام القول، كنقد البلد،
ودخول الحمام، وركوب السفينة. وقال أحمد: لا بأس أن يكتري
بطعام موصوف، وكرهه الثوري. وتجوز إجارة الحلي بأجرة من
جنسه، وقيل: لا، وعن أحمد في إجارة الحلي: ما أدري ما هو.
وقال مالك في إجارة الحلي والثياب: هو من المشتبهات.
ولو استأجر راعياً لغنم بدرّها ونسلها وصوفها أو بعضه لم
يصح، نص عليه، لأنه مجهول. وسئل عن: الرجل يدفع البقرة
بعلفها، والولد بينهما؟ قال: أكرهه، ولا أعلم فيه
مخالفاًًً؛ فإن قيل: جوزتم دفع الدابة إلى من يعمل عليها
بنصف مغلها، قلنا: ذلك تشبيهاً بالمضاربة. وذكر صاحب
المحرر رواية أخرى: أنه يجوز. وإن قال: إن خطت هذا الثوب
اليوم فلك درهم، وإن خطته غداً فنصف درهم، فهل يصح؟ على
روايتين. ونقل عبد الله فيمن اكترى دابة فقال: إن رددتها
اليوم فكراها خمسة، وإن رددتها غداً فكراها عشرة: لا بأس،
وظاهر رواية الجماعة: الفساد، على قياس بيعتين في بيعة،
وقياس حديث عليّ: صحته، وسنذكره. ونص أحمد على أنه لا يجوز
أن يكتري لمدة غزاته، وهذا قول أكثر أهل العلم، وقال مالك:
قد عرف وجه ذلك، وأرجو أن يكون خفيفاً. وإن سمى لكل يوم
شيئاً معلوماً جاز، وقال الشافعي: لا يصح، لأن مدة الإجارة
مجهولة. ولنا: "أن علياً أجّر نفسه كل دلو بتمرة، وكذلك
__________
1 مسلم: العتق (1510) , والترمذي: البر والصلة (1906) ,
وأبو داود: الأدب (5137) , وابن ماجة: الأدب (3659) ,
وأحمد (2/230, 2/263, 2/376, 2/445) .
(1/569)
الأنصاري فلم ينكره النبي صلى الله عليه
وسلم". قال علي: "كنت أدلي الدلو بتمرة وأشترطها جَلْدة.
واشترط الأنصاري أن لا يأخذ حدرة ولا بارزة ولا حشفة ولا
يأخذ إلا جلدة. فاستقى بنحو من صاعين فجاء به إلى النبي
صلى الله عليه وسلم". رواهما ابن ماجة.
الثالث: أن تكون المنفعة مباحة، فلا تجوز على الزمر
والغناء، ولا إجارة دار لتجعل كنيسة، أو لبيع الخمر
والقمار. والاستئجار لكنس الكنيف جائز، إلا أنه يكره له
أكل أجرته كأجرة الحجام. وروى سعيد بن منصور: "أن رجلاً حج
وأتى ابن عباس فقال: إني رجل أكنس، فما ترى في مكسبي؟ قال:
أي شيء تكنس؟ قال العذرة. قال: فمنه حججت ومنه تزوجت؟ قال:
نعم. قال: أنت خبيث، وحجك خبيث، وما تزوجت خبيث". ولا يجوز
استئجار شمع ليتجمل به ويردّه، ولا طعام ليتجمل به على
مائدته ثم يردّه، لأن فيه سفهاً، وأخذه من أكل المال
بالباطل.
والإجارة على ضربين:
أحدهما: إجارة عين، فيجوز إجارة كل عين يمكن استيفاء
المنفعة المباحة منها مع بقائها، كالأرض والدار والعبد.
ويجوز استئجار كتاب ليقرأ فيه، إلا المصحف، في أحد
الوجهين. والذي يحرم بيعه تحرم إجارته، إلا الحر والوقف
وأم الولد.
ويجوز استئجار دار يتخذها مسجداً يصلى فيه. وبه قال
الشافعي ومالك، وقال أبو حنيفة: لا يجوز. ويجوز استئجار
امرأته لرضاع ولده، وحكي عن الشافعي: لا يجوز، لأنه قد
استحق حبسها والاستمتاع بها بعوض، فلا يجوز أن يلزمه عوض
آخر لذلك.
(1/570)
ولا تصح إلا بشروط خمسة:
أحدها: أن يعقد على نفع العين دون أجزائها، فلا يجوز
استئجار الشمع ليشعله، ولا حيوان ليأخذ لبنه إلا في الظئر
ونقع البئر. ولا يجوز استئجار الفحل للضرب، وجوزه الحسن.
ولنا: "أنه صلى الله عليه وسلم نهى عن عسب الفحل" 1.
الثاني: معرفة العين برؤية أو صفة، في أحد الوجهين. وفي
الآخر: يصح، وللمستأجر خيار الرؤية. وكره أحمد كراء
الحمام، لأنه يدخله من يكشف عورته، وقال ابن المنذر: أجمع
كل من نحفظ عنه: أن كراء الحمام جائز، إذا حدده وذكر جميع
آلته شهوراً مسماة.
الثالث: القدرة على التسليم، فلا يصح إجارة الآبق ولا
المغصوب من غير غاصبه أو قادر على أخذه، ولا إجارة المشاع
مفرداً لغير شريكه، وعنه: ما يدل على الجواز. ولا تجوز
إجارة المسلم للذمي لخدمته، وإن كان في عمل شيء جاز بغير
خلاف، لحديث علي.
الرابع: اشتمال العين على المنفعة، فلا يجوز إجارة أرض لا
تنبت للزرع.
الخامس: كون المنفعة مملوكة للمؤجر أو مأذونا له فيها،
ويحتمل أن يجوز، ويقف على إجازة المالك. وللمستأجر أن يؤجر
العين إذا قبضها، وعنه: لا يجوز، لنهيه عن ربح ما لم يضمن،
والمنافع لم تدخل في ضمانه؛ والأول أصح، لأن قبض العين قام
مقام قبض المنافع بدليل جواز التصرف فيها كبيع الثمرة على
الشجر. ولا يجوز إلا لمن يقوم مقامه أو دونه في الضرر،
فأما إجارتها قبل قبضها، فيجوز من غير المؤجر، في أحد
الوجهين. والثاني: لا يجوز، وهو
__________
1 البخاري: الإجارة (2284) , والترمذي: البيوع (1273) ,
والنسائي: البيوع (4671) , وأبو داود: البيوع (3429) ,
وأحمد (2/14) .
(1/571)
قول أبي حنيفة. وأما إجارتها للمؤجر قبل
القبض، فإن قلنا: لا يجوز من غيره، فهنا فيه وجهان:
أحدهما: يجوز، لأن القبض لا يتعذر عليه، وأصلها بيع الطعام
قبل قبضه، هل يصح من بائعه؟ على روايتين. ويجوز إجارتها من
المؤجر بعد قبضها، وقال أبو حنيفة: لا يجوز. وتجوز إجارتها
بمثل الأجرة وزيادة، وعنه: لا تجوز الزيادة. وعنه: إن جدد
فيها عمارة جازت الزيادة، و"نهى صلى الله عليه وسلم عن ربح
ما لم يضمن". 1 ولنا: أن المنافع قد دخلت في ضمانه من وجه،
لأنها لو فاتت من غير استيفائه كانت من ضمانه. والقياس على
بيع الطعام قبل قبضه لا يصح، فإنه لا يجوز وإن لم يربح
فيه. وسئل أحمد عن: الرجل يتقبل عملاً فيقبله بأقل، أيجوز
له الفضل؟ قال: ما أدري، هي مسألة فيها بعض الشيء. قلت:
أليس إذا قطع الخياط الثوب أو غيره إذا عمل في العمل
شيئاً؟ قال: إذا عمل فهو أسهل. فإن مات المؤجر لم تنفسخ،
في أحد الوجهين. والثاني: تنفسخ فيما بقي، لأنا تبينا أنه
أجر ملكه وملك غيره، بخلاف الطلق، فإن الوارث لا يرث إلا
ما خلفه. وإن أجر الولي اليتيم أو ماله مدة فبلغ في
أثنائها، فليس له الفسخ، ويحتمل أن تبطل فيما بعد البلوغ،
لزوال الولاية. وإن مات الولي أو عزل وانتقلت الولاية إلى
غيره، لم يبطل عقده، كما لو مات ناظر الوقف أو عزل.
وإجارة العين على قسمين:
أحدهما: أن تكون على مدة، كإجارة الدار شهراً، والعبد
للخدمة مدة معلومة؛ ويسمى الأجير فيها: الأجير الخاص، لأن
المستأجر يختص بمنفعة في مدة الإجارة. ولا تتقدر أكثر مدة
الإجارة، بل يجوز إجارتها مدة يغلب على الظن بقاء العين
فيها وإن طالت، هذا قول عامة أهل العلم، غير أن
__________
1 الترمذي: البيوع (1234) , وأبو داود: البيوع (3504) ,
وابن ماجة: التجارات (2188) , وأحمد (2/174, 2/205) ,
والدارمي: البيوع (2560) .
(1/572)
بعضهم حكى عن الشافعي: لا تجوز أكثر من
سنة. ولنا: قوله تعالى: {عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ
حِجَجٍ} . 1 ولا يشترط أن تلي العقد، وقال الشافعي: يشترط،
إلا أن يستأجرها من هي في إجارته، ففيه قولان.
الثاني: عقد على منفعة في الذمة مضبوطة بصفات السلَم،
كخياطة ثوب، ويسمى الأجير فيها: الأجير المشترك، مثل
الخياط الذي يتقبل الخياطة لجماعة فتكون منفعته مشتركة.
ولا تجوز على عمل يختص أن يكون فاعله من أهل القربة، كالحج
والأذان ونحوهما. وكره إسحاق تعليم القرآن بأجر، قال عبد
الله بن شقيق: هذه الرغفان التي يأخذها المعلمون من السحت؛
وعنه: يصح، وأجازه مالك والشافعي. فأما الأخذ على الرقية
فإن أحمد اختار جوازه، لأنها نوع مداواة، وقوله صلى الله
عليه وسلم: "أحق ما أخذتم عليه أجراً: كتاب الله" 2 يعني
به: الجعل في الرقية. وأما جعل تعليم القرآن صداقاً، فعنه:
فيه اختلاف، وليس في الخبر تصريح بأن التعليم صداق، بل
يحتمل أنه زوجه بغير صداق إكراماً له، كما زوج أبا طلحة أم
سليم على إسلامه. فإن أُعطي المعلم شيئاً من غير شرط جاز،
قال أحمد: لا يطلب ولا يشارط، فإن أُعطي شيئاً أخذه، وقال:
أكره أجر المعلم إذا شرط. فأما ما لا يختص أن يكون فاعله
من أهل القربة ومعناه كونه مسلماً، كتعليم الخط والحساب
وبناء المساجد، فيجوز أخذ الأجر عليه. فأما ما لا يتعدى
نفعه من العبادات المحضة، كالصيام والصلاة، فلا يجوز أخذ
الأجرة عليه، بغير خلاف. فإن استأجر من يحجمه صح، ويكره
للحجام أكل أجرته، ويطعمه الرقيق والبهائم، وقوله: "أطعمه
__________
1 سورة القصص آية: 27.
2 البخاري: الطب (5737) .
(1/573)
رقيقك" دليل على إباحته؛ وتسميته خبيثاً لا
يلزم منه التحريم، فقد سمى الثوم والبصل خبيثين. وللمستأجر
استيفاء المنفعة بنفسه وبمثله، ولا تجوز بمن هو أكثر ضرراً
منه ولا بمن يخاف ضرره.
والإجارة عقد لازم، وبه قال مالك والشافعي، فلا تنفسخ بموت
أحدهما، وقال الثوري وأصحاب الرأي: تنفسخ. ولا تنفسخ بعذر
لأحدهما مثل أن يكتري للحج فتضيع نفقته، وقال أبو حنيفة
وأصحابه: يجوز للمكتري فسخها لعذر، مثل أن يكتري جملاً
ليحج عليه فيمرض، فلا يتمكن من الخروج أو تضيع نفقته.
ولا ضمان على الأجير الخاص.
قال أحمد فيمن أمر غلامه يكيل لرجل فسقط المكيال من يده
فانكسر: لا ضمان عليه، قيل: أليس بمنزلة القصار؟ قال: لا،
القصار مشترك. وهذا مذهب مالك وأبي حنيفة وظاهر مذهب
الشافعي، وله قول آخر: أن جميع الأجراء يضمنون. وروى في
مسنده عن علي: "أنه كان يضمن الأجراء ويقول: لا يصلح الناس
إلا هذا". "والأجير المشترك يضمن ما جنت يده، كالحائك إذا
أفسد حياكته، والطباخ والخباز والحمال يضمن ما سقط من حمله
عن دابته، أو تلف من عثرته"؛ روي ذلك عن عمر وعلي وشريح
والحسن، وهو قول أبي حنيفة ومالك وأحد قولي الشافعي. وقال
في الآخر: لا يضمن ما لم يتعدَّ، قال الربيع: هذا مذهب
الشافعي وإن لم يبح به، روي عن عطاء وطاووس. ولنا: ما روى
جعفر بن محمد عن أبيه عن علي "أنه كان يضمن الصباغ
والصواغ، وقال: لا يصلح الناس إلا على ذلك".
واختلفت الرواية عن أحمد في الأجير المشترك إذا تلفت العين
من
(1/574)
حرزه أو بغير فعله بغير تفريط، فروي عنه:
لا يضمن. وعنه: إذا جنت يده أو ضاع من بين متاعه ضمنه، وإن
كان عدواً أو غرقاً فلا ضمان؛ والصحيح الأول، وهذه الرواية
تحتمل إنما وجب الضمان إذا تلف من بين متاعه خاصة، لأنه
متهم. وقال مالك: يضمن بكل حال، لحديث: "على اليد ما أخذت
حتى تؤديه". 1 والعين المستأجرة أمانة، إن تلفت بغير تفريط
لم تضمن. قال أحمد فيمن يكري الخيمة إلى مكة فتسرق من
المكتري: أرجو أن لا يضمن، وكيف يضمن إذا ذهب؟ ولا نعلم في
هذا خلافاً. فإن شرط المؤجر الضمان، فالشرط فاسد. وروى
الأثرم عن ابن عمر قال: "لا يصلح الكري بالضمان". وعن
فقهاء المدينة أنهم قالوا: لا يكرى بضمان، إلا أنه من شرط
على المكتري أن لا ينزل بطن واد، أو لا يسير به ليلاً، مع
أشباه هذه الشروط، فتعدى ذلك فتلف، فهو ضامن.
وإذا ضرب المستأجر الدابة بقدر العادة أو الرائض لم يضمن،
وكذلك المعلم إذا ضرب الصبي للتأديب، وبهذا في الدابة قال
مالك والشافعي وإسحاق. وقال الثوري وأبو حنيفة: يضمن، لأنه
تلف بجنايته فضمن كغيره. وكذلك قال الشافعي في المعلم يضرب
الصبي، لأنه يمكنه تأديبه بغير الضرب. وإذا اختلفا في قدر
الأجرة فقال: أجرتنيها سنة بدينار، فقال: بل بدينارين،
تحالفا؛ ويبدأ بيمين المؤجر، نص عليه. وقال أبو ثور: القول
قول المستأجر، لأنه منكر للزيادة. وإن اختلفا في المدة،
فقال: أجرتكها سنة، فقال: بل سنتين، فالقول قول المالك،
لأنه منكر للزيادة. وتجب الأجرة بنفس العقد، إلا أن يتفقا
على تأخيرها؛ وبه قال الشافعي. وقال مالك: لا يستحق
المطالبة بها إلا يوماً بيوم، إلا أن يشترط تعجيلها. وإذا
__________
1 الترمذي: البيوع (1266) , وأبو داود: البيوع (3561) ,
وابن ماجة: الأحكام (2400) , وأحمد (5/8, 5/13) ,
والدارمي: البيوع (2596) .
(1/575)
انقضت الإجارة وفي الأرض غراس أو نبات، لم
يشترط قلعه عند انقضاء الأجل؛ فللمالك أخذه بالقيمة وتركه
بالأجرة، أو قلعه وضمان نقصه، وبه قال الشافعي. وقال مالك:
عليه القلع من غير ضمان، لأن تقدير المدة يقتضي التفريغ
عند انقضائها. ولنا: قوله: "ليس لعِرق ظالم حق" 1 مفهومه:
أن غير الظالم له حق. وإذا تسلم العين بالأجرة الفاسدة،
فعليه أجرة المثل سكن أو لم يسكن، وهو قول الشافعي. وقال
أبو حنيفة: لا شيء له، لأنه عقد فاسد على منافع لم
يستوفها. وإن استوفى المنفعة فعليه أجرة المثل، وبه قال
مالك والشافعي. وقال أبو حنيفة: يجب أقل الأمرين من المسمى
وأجر المثل، بناء منه على أن المنافع لا تضمن إلا بالعقد.
ومن هنا إلى آخر الباب: من "الإنصاف":
وأما بلفظ البيع، فقال الشيخ في قاعدة له في تقرير القياس:
التحقيق أن المتعاقدين إن عرفا المقصود انعقدت بأي لفظ
كان، وهذا علم في جميع العقود، فإن الشرع لم يحد حداً
لألفاظها؛ وكذا قال في إعلام الموقعين: لو أجره الأرض
وأطلق، فقال الشيخ: يعم، أو قال: انتفع بها بما شئت، فله
زرع وغرس وبناء. ويستحب أن يعطى عند الفطام عبداً أو
وليدة، قال الشيخ: لعله في المتبرعة بالرضاع، وليس عليها
إلا وضع الحلمة في فمه وحمله ووضعه في حجرها، قال في
الهدي: الله يعلم والعقلاء قاطبة أن الأمر ليس كذلك، وأن
وضع الطفل في حجرها ليس مقصوداً أصلاً، ولا ورد عليه عقد
الإجارة لا عرفًا ولا شرعاً. ولو أرضعت الطفل وهو في مهده
استحقت الأجرة، ولو كان المقصود
__________
1 الترمذي: الأحكام (1378) , وأبو داود: الخراج والإمارة
والفيء (3073) .
(1/576)
إلقام الثدي لاستؤجر له كل من لها ثدي ولو
بلا لبن، فهذا هو القياس الفاسد حقاً والفقه البارد،
والمقصود إنما هو اللبن. ولا يستأجر الدابة بعلفها، وعنه:
يصح، اختاره الشيخ. وقال: لو أنزى الفحل على فرسه فنقص ضمن
نقصه، ويجوز استئجار امرأته لرضاع ولده، وعند الشيخ: لا
أجرة لها مطلقاً.
ولا تجوز إجارة الشمع ليشعله، قال الشيخ: ليس هذا إجارة،
بل إذن في الإتلاف، وهو سائغ، كقوله: " من لقي متاعه"،
واختار جواز إجارة قناة ماء مدة، وماء فائض ير له راياه،
وإجارة حيوان لأجل لبنه قام به هو أو ربه، فإن قام عليها
المستأجر فكاستئجار الشجر، وإن علفها ربها وأخذ المشتري
لبناً مقدراً فبيع محض. وإن أخذ اللبن مطلقاً فبيع أيضاً،
وليس هذا بغرر. ولأنه يحدث شيئاً فشيئاً فهو بالمنافع
أشبه، فإلحاقه بها أولى، ولأن المستوفى بعقد الإجارة على
زرع الأرض هو عين من الأعيان، وهو ما يحدثه من الحب بسقيه
وعمله، وكذا مستأجر الشاة للبنها مقصوده ما يحدثه الله من
لبنها بعلفها، فلا فرق. والآفات التي تعرض للزرع أكثر من
آفات اللبن، ولأن الأصل في العقود الجواز وكظئر.
وتجوز إجارة الوقف، فإن مات المؤجر لم تنفسخ، وقيل: تنفسخ،
قال الشيخ: هذا أصح. وقال ابن رجب: هو الصحيح، لأن الطبقة
الثانية تستحق العين بمنافعها تلقياً عن الواقف بانقراض
الطبقه الأولى. ومحل الخلاف: إذا كان المؤجر هو الموقوف
عليه بأصل الاستحقاق، فإن كان
(1/577)
هو الناظر العام أو من شرطه له وكان
أجنبياً، لم تنفسخ بموته، قولاً واحداً، قاله الشيخ. فإن
شرطه للموقوف عليه، أو أتى بلفظ يدل على ذلك، فقال الشيخ:
الأشبه أنه لا ينفسح، قولاً واحداً. فعلى الأول: يستحق
البطن الثاني حصته من الأجرة من تركة المؤجر إن قبضها.
وعلى الثاني: يرجع المستأجر على ورثة المؤجر. وقال الشيخ:
إن قبضها المؤجر ففي تركته، فإن لم يكن تركة فأفتى بعض
أصحابنا بأنه إذا كان الموقوف عليه هو الناظر فمات، فللبطن
الثاني فسخها والرجوع بالأجرة على من هو في يده؛ قال:
والذي يتوجه أنه لا يجوز سلف الأجرة للموقوف عليه، لأنه لا
يستحق المنفعة المستقبلة ولا الأجرة عليها، فالتسليف لهم
قبض ما لا يستحقونه، بخلاف المالك. وعلى هذا، فللبطن
الثاني أن يطالبوا المستأجر بالأجرة، لأنه لم يكن له
التسليف، ولهم أن يطالبوا الناظر. وقال: يجوز إجازة
الإقطاع كالوقف، ولم يزل يؤجر من زمن الصحابة إلى الآن،
وما علمت أحداً قال: إنها لا تجوز، حتى حدث في زمننا.
قال: وليس لوكيل مطلق إجارة مدة طويلة، بل العرف كسنتين
ونحوهما، قلت: الصواب: الجواز إن رأى مصلحة، والذي يظهر أن
الشيخ لا يمنع ذلك. وفي الفائق: عدم صحة إجارة المشغول
بملك غير المستأجر، وقال شيخنا: يجوز في أحد القولين، وهو
المختار. وقال الشيخ أيضاً فيمن استأجر أرضاً من جندي
وغرسها قصباً، ثم انتقل الإقطاع عن الجندي: إن الجندي
الثاني لا يلزمه حكم الإجارة الأولى، وأنه إن شاء أجرها
لمن له القصب، وإن شاء لغيره. قال: ويجوز للمؤجر إجارة
العين المؤجرة من غير المستأجر في مدة الإجارة، ويقوم
المستأجر الثاني مقام المالك في استيفاء الأجر. وغلط بعض
الفقهاء فأفتى
(1/578)
بفسادها، ظاناً أنه كبيع المبيع، وأنه تصرف
فيما لا يملك؛ وليس كذلك، بل تصرف فيما استحقه على
المستأجر. وإن أجره في أثناء شهر سنة، استوفى شهراً بالعدد
وسائرها بالأهلة، وعنه: يستوفي الجميع بالعدد. وعند الشيخ:
إلى مثل تلك الساعة، وقال: يعتبر الشهر الأول بحساب تمامه
ونقصانه.
الضرب الثاني: عقد على منفعة في الذمة، ويلزمه الشروع فيه
عقب العقد، كخياطة ثوب، وبناء دار، وحمل إلى موضع معيّن.
فلو ترك ما يلزمه، قال الشيخ: بلا عذر فتلف، ضمنه. ولا تصح
على عمل يختص فاعله أن يكون من أهل القربة، وعنه: يصح،
وقيل: يصح للحاجة، اختاره الشيخ. وقال: لا يصح الاستئجار
على القراءة وإهدائها إلى الميت، لأنه لم ينقل عن أحد من
الأئمة، وقد قال العلماء: إن القارئ لأجل المال لا ثواب
له، فأي شيء يهدي إلى الميت؟ وإنما تنازعوا في الاستئجار
على التعليم. والمستحب أن يأخذ الحاج ليحج، لا أن يحج
ليأخذ، ومثله كل رزق أخذ على عمل صالح، يفرق بين من يقصد
الدين فقط، والدنيا وسيلة، وعكسه؛ والأشبه أن عكسه ليس له
في الآخرة من خلاق. ولو أجر أرضاً بلا ماء صح، فإن أطلق
صح، إن علم المستأجر بحالها. وإن ظن تحصيل الماء وأطلق لم
يصح. وإن ظن وجوده بالأمطار أو زيادة الأنهار صح. ومتى زرع
فغرق أو تلف أو لم ينبت، فلا خيار له وتلزمه الأجرة. وإن
تعذر زرعها لغرقها، فله الخيار؛ وكذا له الخيار لقلة ماء
قبل زرعها أو بعده، أو عابت بغرق يعيب به بعض الزرع.
واختار الشيخ: أو برد أو فأر أو عذر، قال: فإن أمضى العقد
فله الأرش كعيب الأعيان، وإن فسخ فعليه القسط قبل القبض،
ثم أجرة المثل إلى
(1/579)
كماله. قال: وما لم يروَ من الأرض فلا أجرة
له، اتفاقاً، وإن قال في الإجارة: مقيلاً ومراحاً أو أطلق،
لأنه لم يرد على عقد كأرض البرية. قوله: وإن وجد العين
معيبة أو حدث بها عيب فله الفسخ، وقيل: يملك الإمساك مع
الأرش، وهو من المفردات؛ قال الشيخ: إن لم نقل بالأرش،
فورود ضعفه على أصل أحمد بيّن.
ولا ضمان على طبيب إذا عُرف منه الحذق، بشرط إذن المكلف أو
الولي، وإلا ضمن. واختار في الهدي عدم الضمان، قال: لأنه
محسن لو أجلها فمات المستأجر لم تحل الأجرة، وإن قلنا
بحلول الدين بالموت، لأن حلها مع تأخير استيفائه المنفعة
ظلم، قاله الشيخ. وقال: ليس لناظر الوقف تعجيلها كلها إلا
لحاجة، ولو شرطه لم يجز، لأن الموقوف عليه يأخذ ما لا
يستحقه الآن، كما يفرقون في الأرض المحتكرة إذا بيعت
وورثت، فإن الحكر من الانتقال يلزم المشتري والوارث، وليس
لهم أخذه من البائع، وتركه في الصحيح من قولهم. وقال: من
احتكر أرضاً بنى فيها مسجداً أو بناء وقفه عليه، متى فرغت
المدة وانهدم البناء زال حكم الوقف، وما زال البناء
قائماً، فعليه أجر المثل، كوقف علو ربع أو دار مسجداً، فإن
وقف علو ذلك لا يسقط حق ملاك السفل، كذا وقف البناء لا
يسقط حق ملاك الأرض، قلت: وهو الصواب، ولا يسع الناس إلا
ذلك.
(1/580)
باب السبق
تجوز المسابقة على الدواب والأقدام والخيل والسفن
والمزاريق وسائر الحيوانات، بالسنة والإجماع. أما السنة،
فحديث ابن عمر وغيره. وأجمعوا على جواز المسابقة في
الجملة. فأما المسابقة بغير عوض فتجوز مطلقاً من غير تقييد
بشيء معيّن، كالمسابقة على الأقدام والسفن والطيور والبغال
والحمير. وتجوز المصارعة ورفع الحجارة ليعرف الأشد وغير
هذا، "لمسابقته عائشة، ومسابقة سلمة رجل من الأنصار بين
يديه صلى الله عليه وسلم. وصارع صلى الله عليه وسلم ركانة.
ومرَّ بقوم يرفعون حجراً ليعوفوا الأشد، فلم ينكر عليهم".
ولا يجوز بعوض إلا في الخيل والإبل والسهام.
السبْق بسكون الباء: المسابقة، وبفتحها المخرج في
المسابقة. واختصت هذه الثلاثة بتجويز العوض فيها، لأنها من
آلات الحرب المأمور بتعلمها وإحكامها والتفوّق فيها، وفي
المسابقة بها مع العوض مبالغة في الإحكام لها؛ وقد ورد
الشرع بالأمر بها والترغيب فيه، قال الله تعالى:
{وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ}
الآية. 1 ولمسلم: "ألا إن القوة الرمي، ألا إن القوة
الرمي". 2 وقال أهل العراق: يجوز العوض في المسابقة على
الأقدام والمصارعة، لورود الأثر بهما. ولأصحاب الشافعي
وجهان، ولهم في المسابقة بالطيور والسفن وجهان. ولنا:
قوله: "إلا في نصل أو حافر" 3 ويحتمل
__________
1 سورة الأنفال آية: 60.
2 مسلم: الإمارة (1917) , والترمذي: تفسير القرآن (3083) ,
وأبو داود: الجهاد (2514) , وابن ماجة: الجهاد (2813) ,
وأحمد (4/156) , والدارمي: الجهاد (2404) .
3 الترمذي: الجهاد (1700) , وأبو داود: الجهاد (2574) ,
وابن ماجة: الجهاد (2878) , وأحمد (2/256, 2/358, 2/474) .
(1/581)
أنه أراد نفي الجعل، ويحتمل نفي المسابقة
بعوض؛ فإنه يتعين حمله على أحد الأمرين، للإجماع على
جوازها بغير عوض في غير الثلاثة. وقال أصحاب الشافعي: تجوز
المسابقة بكل ما له نصل من المزاريق، وفي الرمح والسيف
وجهان، وفي الفيل والبغال والحمير وجهان، ولأن للمزاريق
والرماح والسيوف نصلاً وللفيل خف.
ولا يصح إلا بشروط خمسة:
(أحدها) : تعيين المركوب والرماة، لأن المقصد معرفة جوهر
الدابتين ومعرفة حذق الرماة. ولا يشترط تعيين القوس ولا
السهام في المناضلة، ولا تعيين الراكب، لأن المقصود عَدْو
الفرس. ويجوز عقد النضال على اثنين وعلى جماعة، لقوله:
"ارموا، وأنا معكم كلكم"، 1 وكذلك في الخيل، وقد ثبت: "أنه
صلى الله عليه وسلم سابق بين الخيل المضمرة وبين التي لم
تضمر" 2.
(الثاني) : أن يكون القوسان والمركوبان من نوع واحد، فلا
تجوز بين عربي وهجين، ولا بين قوس عربية وفارسية. ويحتمل
الجواز. فإن كانا من جنسين كالفرس والبعير لم يجز، فإن
كانا من نوعين كالعربي والهجين والبختي والعرابي فوجهان.
ولا بأس بالرمي بالقوس الفارسية، ونص على جواز المسابقة
بها، وقال أبو بكر: يكره. ولنا: انعقاد الإجماع على الرمي
بها. وحكى أحمد أن قوماً استدلوا على القسي الفارسية
بقوله: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ
قُوَّةٍ} 3 لدخوله في عموم الآية.
(الثالث) : تحديد المسافة والغاية ومدى الرمي بما جرت به
العادة، وقد قيل: "ما رمى في أربعمائة ذراع إلا عقبة بن
عامر الجهني".
__________
1 البخاري: أحاديث الأنبياء (3373) , وأحمد (4/50) .
2 البخاري: الجهاد والسير (2869) , ومسلم: الإمارة (1870)
, والترمذي: الجهاد (1699) , والنسائي: الخيل (3584) ,
وأبو داود: الجهاد (2575) , وأحمد (2/11, 2/55) , ومالك:
الجهاد (1017) , والدارمي: الجهاد (2429) .
3 سورة الأنفال آية: 60.
(1/582)
(الرابع) : كون العوض معلوماً، ويجوز حالاً
ومؤجلاً.
(الخامس) : الخروج عن شبه القمار، بأن لا يخرج جميعهم، فإن
أخرج كل منهما لم يجز، وهو قمار. فإن كان الجعل من الإمام
أو أحد غيرهما أو أحدهما، على أن من سبق أخذه جاز، وبهذا
قال أبو حنيفة والشافعي. وقال مالك: لا يجوز من غير
الإمام، لأنه مما يحتاج إليه للجهاد، فاختص به الإمام. فإن
كان منهما، اشترط كونه من أحدهما، فيقول: إن سبقتني فلك
عشرة، وإن سبقتك فلا شيء عليك، جاز. وحكي عن مالك: لا
يجوز، لأنه قمار. ولنا: أن أحدهما يختص به كما لو أخرجه
الإمام، والقمار لا يخلو كل واحد منهما من أن يغرم أو
يغنم، وهنا لا خطر على أحدهما، فإن جاءا معاً فلا شيء
لهما. فإن سبق المخرج أحرز سبقه ولا شيء له على صاحبه،
لأنه لو أخذ كان قماراً، وإن سبق الآخر أحرز سبق المخرِج.
وإن أخرجا معاً لم يجز، إلا أن يُدخلا بينهما محلِّلاً
تكافئ فرسه فرسيهما أو بعيره بعيريهما أو رميه رميهما، فإن
سبقهما أحرز سبقيهما، وإن سبقاه أحرزا سبقهماَ ولم يأخذا
منه شيئاً، وإن سبق أحدهما أحرز السبقين، وإن سبق معه
المحلل فسبق الآخر بينهما.
السّبَق بفتح الباء: الجعل، ويسمى: الخطر والندب والقرع
والرهن. ويقال: سبق إذا أخذ وإذا أعطى، وهو من الأضداد.
وقوله: إلا أن يدخلا ... إلخ، وبه قال ابن المسيب والزهري،
وحكي عن مالك: لا أحبه. وعن جابر بن زيد أنه قيل له: إن
الصحابة لا يرون به بأساً، فقال: هم أعف من ذلك. ولنا:
قوله: "من أدخل فرساً ... إلخ"، فجعله قماراً إذا أمن أن
يسبق، لأنه لا يخلو كل واحد منهما من أن يغرم أو يغنم،
وإذا لم يأمن لم يكن قماراً، لأن كل
(1/583)
واحد منهما يجوز أن يخلو عن ذلك. وإذا كان
المخرج غيرهما، فقال: أيكم سبق فله عشرة، جاز. وإن قال:
وأيكم صلى فله ذلك، لم يصح، لأنه لا فائدة في طلب السبق.
فإن قال: ومن صلى فله خمسة، صح، والصلوان هما العظمان
النابتان من جانبي الذنب. وفي الأثر عن علي: "سبق أبو بكر،
وصلى عمر، وخبطتنا فتنه". والسبق في الخيل بالرؤوس إذا
تماثلت الأعناق، وفي مختلفي العنق والإبل بالكتف.
ولا يجوز أن يجنب مع فرسه فرساً يحرضه على العَدْو، ولا
يصيح به وقت سياقه، لقوله: "لا جلب ولا جنب"، 1 والجنب: أن
يجنب المسابق إلى فرسه فرساً لا راكب عليه تحرض التي تحته
على العدْو، والجلب: أن يتبع الرجل ويركض خلفه ويجلب عليه
ويصيح وراءه، هكذا فسره مالك. وعن أبي عبيد مثله، وحكي
عنه: أن الجلب: أن يحشر الساعي أهل الماشية ليصدقهم، لا
يفعل ليأتهم على مياههم.
والمناضلة: المسابقة في الرمي بالسهام، ويشترط لها أربعة
شروط 2.
(أحدها) : أن تكون على من يحسن الرمي، ويشترط استواؤهما في
عدد الرشق والإصابة وصفتها وسائر أحوال الرمي. فإن جعلا
رشق أحدهما أزيد من الآخر، أو أن يرمي أحدهما من بعد،
وأشباهه مما يفوت المساواة، لم يصح.
(الثاني) : معرفة عدد الرشق وعدد الإصابة. الرِّشق بكسر
الراء: عدد الرمي، وبفتحها: الرمي.
__________
1 الترمذي: النكاح (1123) , والنسائي: النكاح (3335) ,
وأبو داود: الجهاد (2581) , وأحمد (4/429, 4/443) .
2 كذا في المطبوعة والخطبة, ولم يذكر فها إلا ثلاثة،
وبالرجوع إلى الأصل وجد كذلك.
(1/584)
(الثالث) : معرفة الرمي هل هو مفاضلة أو
مبادرة. المفاضلة على ثلاثة أضرب:
أحدها: يسمى المبادرة، وهي أن يقول: من سبق إلى خمس إصابات
من عشرين رمية فهو السابق.
الثاني: المفاضلة، وهي أن يقول: أينا فضل صاحبه بإصابة أو
إصابتين أو ثلاث من عشرين فقد سبق.
الثالث: أن يقولا: أينا أصاب خمساً من عشرين فهو سابق.
والسنة: أن يكون لهما غرضان يرميان أحدهما، ثم يمضيان إليه
فيأخذان السهام يرميان الآخر، لأن هذا فعل الصحابة. قال
إبراهيم التيمي: "رأيت حذيفة يشتد بين الهدفين، وعن ابن
عمر مثله".
والهدف: ما ينصب الغرض عليه، إما تراب مجموع أو حائط.
ويروى: "أن الصحابة يشتدون بين الأغراض يضحك بعضهم إلى
بعض، فإذا جاء الليل كانوا رهباناً". ويكره للأمين والشهود
مدح أحدهما إذا أصاب وعيبه إذا أخطأ.
ومن هنا إلى آخر الباب: من "الإنصاف":
في كراهة لعب غير معين على عدد وجهان، قلت: الأولى
الكراهة، إلا أن يكون له فيه قصد حسن. وقال الشيخ: يجوز ما
قد يكون فيه منفعة بلا مضرة، وقال: كل فعل أفضى إلى محرم
كثير حرمه الشارع إذا لم يكن فيه مصلحة راجحة. قال: وما
ألهى وشغل عما أمر الله به فهو منهي عنه، وإن لم يحرم جنسه
كبيع ونحوه.
ولا يجوز بعوض إلا في الخيل والإبل والسهام، وذكر ابن
البنا وجهاً يجوز بعوض، في الطير المعدة لأخبار الأعداء.
و"قد صارع النبي صلى الله
(1/585)
عليه وسلم ركانة على شاة، فصرعه. ثم عاد
مراراً فصرعه. فأسلم، فردّ عليه غنمه". 1 رواه أبو داود في
مراسيله، وهذا وغيره مع الكفار من جنس الجهاد، فهو في معنى
الثلاثة فإن جنسها جها؛، وهي مذمومة إذا أريد بها الفخر
والظلم. والصراع والسبق بالأقدام ونحوها طاعة، إذا قصد بها
الإسلام، وأخذ العوض عليه أخذ بالحق. والمغالبة الجائزة
تحل بالعوض، إذا كانت مما يعين على الدِّين، كما في مراهنة
أبي بكر، اختار هذا كله الشيخ. قال في الفروع: ظاهره جواز
المراهنة بعوض في باب العلم لقيام الدِّين بالجهاد والعلم.
قوله: فإن أخرجا معاً لم يجز، إلا أن يدخلا محلِّلاً، وقال
الشيخ: يجوز من غير محلل، وهو أولى وأقرب إلى العدل من كون
السبق من أحدهما، وأبلغ في تحصيل مقصود كل منهما، وهو بيان
عجز الآخر. وإن الميسر والقمار منه لم يحرم لمجرد
المخاطرة، بل لأنه أكل للمال بالباطل، أو للمخاطرة
المتضمنه له. وقال: يصح شرط السبق للأستاذ، وكشراء قوس
وكراء الحانوت وإطعامه للجماعة، لأنه مما يعين على الرمي.
__________
1 الترمذي: اللباس (1784) , وأبو داود: اللباس (4078) .
(1/586)
باب العارية
الأصل فيها: الكتاب والسنة والإجماع. أما الكتاب، فقوله
تعالى: {وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ} ، 1 روي عن ابن عباس
وابن مسعود قال: "العواري". وفسرها ابن مسعود قال: "القِدر
والميزان والدلو". وهي غير واجبة في قول الأكثر. وقيل:
واجبة، للآية، ولحديث أبي هريرة: "قيل: يا رسول الله، وما
حقها؟ قال: إعارة دلوها، وإطراق فحلها، ومنحة لبنها يوم
وردها". 2 ولنا: قوله: "هل عليَّ غيرها؟ قال: لا. إلا أن
تطوَّع". 3 و "الآية فسرها ابن عمر والحسن بالزكاة"، وقال
عكرمة: إذا جمع ثلاثتها فله الويل: إذا سها وراءى ومنع
الماعون. ولا يجوز إعارة العبد المسلم لكافر.
وللمعير الرجوع متى شاء ما لم يأذن له في شيء يستضير
المستعير برجوعه. وقال مالك: إن كانت مؤقته فليس له الرجوع
قبل الوقت، وإلا لزمه مدة ينتفع بها في مثلها. وإن أعاره
أرضاً للزرع لم يرجع إلى الحصاد، أو جداراً وليضع عليه
خشبة لم يرجع ما دام عليه. وإن حمل السيل بذراً إلى أرضه،
فهو لصاحبه ولا يجبر على قلعه. وقال أصحاب الشافعي: يجبر
في أحد الوجهين، كما لو انتشرت أغصان شجرته في هواء ملك
جاره، ويحتمل أن لصاحب الأرض أخذه بقيمته كزرع الغاصب.
و"العارية مضمونة بقيمتها يوم التلف، وإن شرط نفي ضمانها".
روي عن ابن عباس وأبي هريرة، وهو قول
__________
1 سورة الماعون آية: 7.
2 مسلم: الزكاة (988) , والنسائي: الزكاة (2454) , وأحمد
(3/321) , والدارمي: الزكاة (1616) .
3 البخاري: الإيمان (46) , ومسلم: الإيمان (11) ,
والنسائي: الصلاة (458) والصيام (2090) والإيمان وشرائعه
(5028) , وأبو داود: الصلاة (391) , ومالك: النداء للصلاة
(425) , والدارمي: الصلاة (1578) .
(1/587)
الشافعي وإسحاق. وقال الحسن والشعبي ومالك
وأبو حنيفة: لا تضمن إلا بالتعدي. وإن شرط نفي الضمان لم
يسقط، وقيل: يسقط، أومأ إليه أحمد، وبه قال قتادة
والعنبري. وليس له أن يعير. وقال مالك: إذا لم يعمل بها
إلا الذي كان يعمل الذي أعارها، فلا ضمان عليه، وعلى
المستعير مؤنة الرد لقوله: " على اليد ما أخذت حتى
تؤدّيه". 1 وإن قال: أجرتك، فقال: بل أعرتني، عقيب العقد،
فالقول قول الراكب، لأن الأصل عدم عقد الإجارة؛ فإن كان
بعد مضي مدة لها أجرة، فالقول قول المالك فيما مضى دون ما
بقي. وقال الشافعي: القول قول الراكب، لأنهما اتفقا على
تلف المنافع على ملك الراكب، وادعى المالك العوض. وإن
اختلفا بعد تلف الدابة، فالقول قول المالك، لأن الأصل فيما
يقبضه الإنسان من مال غيره الضمان، لقوله: " على اليد ما
أخذت حتى تردّه" 2.
ومن هنا إلى آخر الباب: من "الإنصاف":
قيل: تجب العارية مع غناء المالك، اختاره الشيخ، واختار
أنها لا تضمن إلا بالشرط. ومؤنة العارية على المعير، وقيل:
على المستعير، ومال إليه الشيخ.
__________
1 الترمذي: البيوع (1266) , وأبو داود: البيوع (3561) ,
وابن ماجة: الأحكام (2400) , وأحمد (5/8, 5/13) ,
والدارمي: البيوع (2596) .
2 الترمذي: البيوع (1266) , وأبو داود: البيوع (3561) ,
وابن ماجة: الأحكام (2400) , وأحمد (5/8) , والدارمي:
البيوع (2596) .
(1/588)
باب الغصب
وهو محرم بالكتاب والسنة والإجماع. أما الكتاب، فقوله
تعالى: {لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ
بِالْبَاطِلِ} . 1 وأما السنة، ففي قوله صلى الله عليه
وسلم: "فإن دماءكم وأموالكم عليكم حرام". 2 وأجمعوا على
تحريمه في الجملة، وإنما اختلفوا في فروع منه نذكرها:
يضمن العقار بالغصب، وبه قال مالك والشافعي. وقال أبو
حنيفة: لا يتصور غصبه، ولا يضمنه بالغصب. فإن أتلفه ضمنه،
لأنه لا يوجد فيه النقل. ولنا: قوله: "من أخذ شبراً من
الأرض، طُوِّقه يوم القيامة"، 3 وفي لفظ: "من غصب شبراً".
وإن غصب أرضاً وزرعها ثم ردّها، فعليه الأجرة. وإن أدركها
ربها والزرع قائم، خيِّر بين تركه بأجرة مثله وبين أخذه
بعوض؛ وهل ذلك قيمته أو نفقته؟ على روايتين؛ وهذا قول أبي
عبيد، وقال أكثر الفقهاء: يملك إجبار الغاصب على قلعه،
لقوله: "ليس لعِرق ظالم حق". 4 ولنا: قوله: "من زرع في أرض
قوم بغير إذنهم، فليس له من الزرع شيء، وله نفقته". 5 حسنه
الترمذي. وحديثهم ورد في الغرس، وحديثنا في الزرع، فيجمع
بين الحديثين. وأحمد ذهب إلى هذا استحساناً، فإن القياس:
أن الزرع لصاحب البذر؛ قال أحمد: هذا شيء لا يوافق القياس،
أستحسن أن تدفع إليه نفقته، للأثر. وإن غصب شجراً فأثمر،
فالثمر لصاحب الشجر، بغير خلاف نعلمه،
__________
1 سورة النساء آية: 29.
2 أحمد (3/313) .
3 البخاري: المظالم والغصب (2453) , ومسلم: المساقاة
(1612) , وأحمد (6/259) .
4 الترمذي: الأحكام (1378) , وأبو داود: الخراج والإمارة
والفيء (3073) .
5 الترمذي: الأحكام (1366) , وأبو داود: البيوع (3403) ,
وابن ماجة: الأحكام (2466) , وأحمد (3/465, 4/141) .
(1/589)
ويرد الثمر إن كان باقياً، وبدله إن تلف.
وإن غرس أو بنى في أرض غيره بغير إذنه، فطلب صاحب الأرض
قلع ذلك، لزمه؛ لا نعلم فيه خلافاً، لقوله: "ليس لعِرق
ظالم حق". 1 فإن أراد صاحب الأرض أخذه بغير عوض فليس له.
وإن طلبه بالقيمة وأبى مالكه، فله ذلك لأنه ملكه فملك
نقله.
وإذا غصب أرضاً، فحكمها في دخول غيره إليها حكمها قبل
الغصب. فإن كانت محوطة كالدار، لم يجز دخولها إلا بإذن.
قال أحمد في الضيعة تصير غيضة فيها سمك: لا يصيد فيها أحد
إلا بإذنهم. وإن كانت صحراء جاز الدخول فيها ورعي حشيشها،
قال أحمد: لا بأس برعي الكلإ في الأرض المغصوبة. وإن غصب
ثوباً فقصره أو شاة فذبحها، رد ذلك بزيادته وأرش نقصه.
وقال أبو حنيفة في هذه المسائل: ينقطع حق صاحبها عنها، لأن
الغاصب لا يجوز له التصرف فيها إلا بالصدقة، إلا أن يدفع
قيمتها فيملكها، لقوله في الشاة: "أطعموها الأسارى" 2.
ويضمن زوائد الغصب كالولد والثمرة، وبه قال الشافعي. وقال
مالك وأبو حنيفة: لا يضمن زوائد الغصب، إلا أن يطالب بها
فيمتنع من أدائها، لأنها غير مغصوبة.
وإن وطئ الجارية، فعليه الحد والمهر وأرش البكارة، وإن
كانت مطاوعة. وقال الشافعي: لا مهر للمطاوعة، للنهي عن مهر
البغي.
قال أحمد في رجل يجد سرقته عند إنسان بعينها: هو ملكه
يأخذه، أذهب إلى حديث سمرة، رفعه: "من وجد متاعه عند رجل،
فهو أحق به، ويتبع المبتاع من باعه". 3 رواه هشيم عن موسى
بن السائب عن قتادة عن سمرة، وموسى بن السائب ثقة.
وإن تلف المغصوب، ضمنه بمثله إن كان مكيلاً أو موزوناً،
قال ابن عبد البر: كل مطعوم من مأكول أو مشروب مجمع على
أنه يجب على مستهلكه مثله، لا قيمته، وإن لم يكن مثلياً
ضمنه بقيمته، لقوله:
__________
1 الترمذي: الأحكام (1378) , وأبو داود: الخراج والإمارة
والفيء (3073) .
2 أبو داود: البيوع (3332) , وأحمد (5/293) .
3 أبو داود: البيوع (3531) , وأحمد (5/10) .
(1/590)
" من أعتق شركاً له في عبد، قوّم عليه
قيمته العدل". وحكي عن العنبري: يجب في كل شيء مثله، لحديث
القصعة لما كسرتها إحدى نسائه، صححه الترمذي. ولنا: حديث
العتق، وهذا محمول على أنه جوزه بالتراضي. فإن كان للمغصوب
أجرة فعلى الغاصب أجرة مثله مدة مقامه في يده، استوفى
المنافع أو تركها. وقال أبو حنيفة: لا يضمن المنافع، وهو
الذي نصره أصحاب مالك، واحتج بعضهم بقوله: "الخراج
بالضمان"، 1 وهذا في البيع لا يدخل فيه الغاصب، لأنه لا
يجوز له الانتفاع به إجماعاً.
ومن في يده غصوب لا يعرف أربابها، تصدق بها عنهم بشرط
الضمان. وإن ربط دابة في طريق ضيق ضمن ما جنت، فإن كان
واسعاً ضمن، في إحدى الروايتين. والثانية: لا يضمن. وإن
اقتنى كلباً عقوراً فعقر أو خرق ثوباً ضمن، إلا إن دخل
منزله بغير إذنه. وإن اقتنى سنوراً يأكل فراخ الناس ضمن ما
أتلفه، وقيل في الكلب العقور: لا يضمن، لقوله: "العجماء
جبار". 2 وإن أجج في ملكه ناراً أو سقى أرضه فسرى إلى ملك
غيره فأتلف، ضمن إذا أسرف أو فرط، وإلا فلا. وإذا حفر
بئراً لنفسه في الطريق، ضمن ما تلف بها سواء حفرها بإذن
الإمام أو لا. وإن حفرها في سابلة لنفع المسلمين لم يضمن.
وإن مال حائطه فلم يهدمه حتى أتلف شيئاً لم يضمن، ونحوه
قول الحسن والنخعي، وقيل: يضمن، وهو قول ابن أبي ليلى
وإسحاق. فإن طولب بنقضه فلم يفعل، فقد توقف أحمد، ومذهب
مالك: يضمن. وقال أبو حنيفة: القياس: ألا يضمن. وما أتلفته
البهيمة فلا ضمان على صاحبها، إلا أن تكون في يد إنسان،
كالراكب والسائق والقائد، فيضمن ما جنت يدها أو فمها دون
رجلها، لحديث: "العجماء جبار"، 3 أي: هدر. وقال مالك: لا
ضمان على الراكب والسائق،
__________
1 الترمذي: البيوع (1285) , والنسائي: البيوع (4490) ,
وأبو داود: البيوع (3508) , وابن ماجة: التجارات (2243) .
2 البخاري: الزكاة (1499) , ومسلم: الحدود (1710) ,
والترمذي: الزكاة (642) والأحكام (1377) , والنسائي:
الزكاة (2495) , وأبو داود: الديات (4593) , وابن ماجة:
الديات (2673) , وأحمد (2/228, 2/239, 2/254, 2/274,
2/284, 2/319, 2/382, 2/386, 2/406, 2/415, 2/454، 2/456،
2/467، 2/475، 2/482، 2/493، 2/495، 2/499، 2/501) ،
ومالك: العقول (1622) , والدارمي: الزكاة (1668) والديات
(2377, 2378) .
3 البخاري: الزكاة (1499) , ومسلم: الحدود (1710) ,
والترمذي: الزكاة (642) والأحكام (1377) , والنسائي:
الزكاة (2495) , وأبو داود: الديات (4593) , وابن ماجة:
الديات (2673) , وأحمد (2/228, 2/239, 2/254, 2/274,
2/284, 2/319, 2/382, 2/386, 2/406, 2/415, 2/454، 2/456،
2/467، 2/475، 2/482، 2/493، 2/495، 2/499، 2/501) ،
ومالك: العقول (1622) , والدارمي: الزكاة (1668) والديات
(2377, 2378) .
(1/591)
والقائد أيضاً، للحديث. ولنا: قوله: "الرجل
جبار"، 1 ففيه دليل على الضمان في غيرها. وحديثهم محمول
على من لا يد له عليها. وقال شريح والشافعي: يضمن ما جنت
برجلها أيضاً. ولنا: قوله "الرجل جبار". ويضمن ما أفسدت من
الشجر والزرع ليلاً لا نهاراً، وقال أبو حنيفة: لا ضمان،
لقوله: "العجماء جبار". 2 ولنا: حديث ناقة البراء، قال ابن
عبد البر: إن كان مرسلاً فهو مشهور، حدث به الأئمة الثقات
وتلقاه فقهاء الحجاز بالقبول. فإن أتلفت غير الزرع والشجر
لم يضمن ليلاً كان أو نهاراً. وحكي عن شريح أنه قضى في شاة
وقعت في غزل حائك ليلاً، بالضمان، وقرأ: {إِذْ نَفَشَتْ
فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ} ، 3 قال: والنفش لا يكون إلا
بالليل. وعن الثوري: يضمن وإن كان نهاراً، لتفريطه
بإرسالها. ولنا: قوله: "العجماء جبار"، وأما الآية،
فالنفش: الرعي بالليل، وهذا في الحرث الذي تدعوها نفسها
إلى أكله، فلا يقاس غيره عليه. وإن صال عليه آدمي أو غيره
فقتله دفعاً، لم يضمنه. فإن كانت بهيمة ولم يمكنه دفعها
إلا بقتلها، جاز له قتلها إجماعاً، ولا يضمنها. وقال أبو
حنيفة: يضمنها. وإن كسر مزماراً أو طنبوراً لم يضمن، وقال
أبو حنيفة: يضمن.
ومن هنا إلى آخر الباب: من "الإنصاف":
قال الشيخ: من زرع بلا إذن شريكه، والعادة بأن من زرع فيها
له نصيب معلوم ولربها نصيب، قسم ما زرعه في نصيب شريكه
كذلك. ولو طلب أحدهما من الآخر أن يزرع معه أو يهايئه فيها
فأبى، فللأول الزرع في قدر حقه بلا أجرة، كدار بينهما فيها
بيتان سكن أحدهما عند امتناعه مما يلزمه.
__________
1 أبو داود: الديات (4592) .
2 البخاري: الزكاة (1499) , ومسلم: الحدود (1710) ,
والترمذي: الزكاة (642) والأحكام (1377) , والنسائي:
الزكاة (2495) , وأبو داود: الديات (4593) , وابن ماجة:
الديات (2673) , وأحمد (2/228, 2/239, 2/254, 2/274,
2/284, 2/319, 2/382, 2/386, 2/406, 2/415, 2/454، 2/456،
2/467، 2/475، 2/482، 2/493، 2/495، 2/499، 2/501) ،
ومالك: العقول (1622) , والدارمي: الزكاة (1668) والديات
(2377, 2378) .
3 سورة الأنبياء آية: 29.
(1/592)
انتهى. قلت: وهذا الصواب، ولا يسع الناس
غيره. وقال الشيخ: يتوجه فيمن غصب فرساً وكسب عليه مالاً،
أن يجعل بين الغاصب ومالك الدابة على قدر نفعهما، بأن
تقوَّم منفعة الراكب ومنفعة الفرس، ثم يقسم بينهما. واختار
الشيخ: إن نقصت العين لتغير الأسعار ضمن. قوله: وإن وطئ
الجارية فعليه الحد والمهر، وعنه: لا يلزمه مهر للثيب،
اختاره الشيخ، ولم يوجب عليه سوى أرش البكارة. وقال: لو
باع عقاراً ثم خرج مستحقاً، فإن كان المشتري عالماً ضمن
المنفعة سواء انتفع بها أو لم ينتفع، وإن لم يعلم فقرار
الضمان على البائع الظالم. وإن انتزع المبيد من يد المشتري
فأخذت منه الأجرة وهو معروف، رجع بذلك على البائع الغارّ.
انتهى. وإن تلفت عند المشتري فعليه قيمتها للمغصوب منه،
ولا يرجع على الغاصب بالقيمة، لكن يأخذ منه ثمنها، ويأخذ
أيضاً نفقته وعمله من البائع الغار، قاله الشيخ.
واختار في الثوب والعصا والقصعة ونحوها: يضمنها بالمثل
مراعياً للقيمة. قوله: ولا قصاص في المال، مثل شق ثوبه،
واختار الشيخ أنه مخير. وأفتى في الغاصب إذا تاب أن يأخذ
من الغصب لنفسه إذا تصدق به. واختار أنه يصرف في المصالح،
وقاله في وديعة وغيرها، وقال: قاله العلماء، وأنه مذهبنا
ومذهب أبي حنيفة. ومالك قال: ومن تصرف فيه لولاية شرعية لم
يضمن. وقال: ليس لصاحبه إذا عرف رد المعاوضة، لثبوت
الولاية عليها شرعاً للحاجة، كمن مات ولا ولي له ولا حاكم.
وقال فيمن اشترى مال مسلم من التتر، إن لم يعرف صاحبه صرف
في المصالح، وأعطي مشتريه ما اشتراه به، لأنه لم
(1/593)
يصل لها إلا بنفقته، وإن لم يقصد ذلك. كما
رجحه فيمن اتجر بمال غيره وربح. وقال من لم يسدَّ بئره
سداً يمنع من الضرر، ضمن ما تلف بها. وقال: من أمر إنساناً
بإمساك دابة ضارية ولم يعلمه، ضمنه. وقال: إذا جنى ولد
الدابة، يضمن إن فرط، نحو أن يعرفه شموساً، وإلا فلا.
قوله: ولا يضمن ما أفسدت نهاراً، وقيل: إن أرسلها بقرب ما
تتلفه عادة ضمن، وذكر رواية. قلت: وهو الصواب. وفي
الانتصار: البهيمة الصائلة يلزم مالكها وغيره إتلافها. ومن
وجب قتله لم يضمن كمرتد. وصحح ابن القيم في الطرق الحكمية:
أنه إن أرسل طائراً فأفسد أو لقط حباً، ضمن. وقال في
الهدي: يجوز تحريق أماكن المعاصي وهدمها، كما "حرق النبي
صلى الله عليه وسلم مسجد الضرار". قوله: وإن غصب غزلاً
فنسجه، إلى قوله: رده بزيادته وأرش نقصه. وعنه: يكون
شريكاً بالزيادة، اختاره الشيخ. وعنه: يملكه وعليه قيمته
قيل تغييره، وعنه: يخير المالك بين العين والقيمة.
(1/594)
باب الشفعة
الشفعة ثابتة بالسنة والإجماع؛ أما السنة، فحديث جابر متفق
عليه. وقال ابن المنذر: أجمعوا على إثبات الشفعة للشريك
الذي لم يقاسم فيما بيع من أرض أو دار أو حائط. والشفعة
على خلاف الأصل، إذ هي انتزاع ملك المشتري بغير رضاه،
فأثبتها الشرع لمصلحة راجحة.
ولا تثبت إلا بشروط أربعة:
أحدها: أن يكون الملك مشاعاً. "فأما الجار، فلا شفعة له"،
وبه قال عثمان وابن المسيب ومالك والشافعي. وقال الثوري
وأصحاب الرأي: الشفعة بالشركة، ثم بالشركة في الطريق، ثم
بالجوار، لحديث: "الجار أحق بصقبه". 1 ولنا: قوله: "الشفعة
فيما لم يقسم.. . إلخ" 2.
الثاني: أن يكون المبيع أرضاً لأنها تبقى، وأما غيرها
فقسمان: أحدهما: فيه الشفعة، تبعاً للأرض، وهو البناء
والغراس يباع مع الأرض، لا نعلم فيه خلافاً. والثاني: ما
لا شفعة فيه تبعاً ولا مفرداً، وهو الزرع والثمرة الظاهرة،
فإنها لا تؤخذ مع الأصل، وبه قال الشافعي. وقال مالك: يؤخذ
ذلك مع أصوله. فإن كان فيه ثمرة غير ظاهرة كالطلع الذي لم
يؤبر دخل، لأنه تبع. وأما ما بيع مفرداً من الأرض، فلا
شفعة فيه، سواء كان مما ينقل كالثياب والحجارة، أو لا
كالبناء والغراس؛ وبه قال الشافعي. واختلف
__________
1 البخاري: الحيل (6977) , والنسائي: البيوع (4702) , وأبو
داود: البيوع (3516) , وابن ماجة: الأحكام (2495) , وأحمد
(6/390) .
2 ابن ماجة: الأحكام (2497) .
(1/595)
عن عطاء ومالك فقالا مرة: الشفعة في كل شيء
حتى الثوب. وعن أحمد: إنها واجبة فيما لا يقسم كالسيف.
وعنه: تجب في البناء والغراس وإن بيع مفرداً، وهو قول مالك
للعموم.
الثالث: أن يكون المبيع مما يمكن قسمته، فأما ما لا يمكن
ففيه روايتان.
الرابع: أن يكون الشقص منتقلاً بعوض، فأما المنتقل بغير
عوض كالهبة والوصية والإرث فلا شفعة فيه، في قول عامة أهل
العلم. وحكي عن مالك في المنتقل بهبة أو صدقة: أن فيه
الشفعة ويأخذه بقيمته. فإن كان الشقص مَهراً أو عوض خلع
فلا شفعة، اختاره ابن المنذر. وقيل: تجب، وبه قال مالك
والشافعي: قال مالك بالقيمة، وقال الشافعي بمهر المرأة 1.
وحق الشفعة على الفور، إن طالب بها ساعة يعلم بها، وإلا
بطلت. وعنه: أنها على التراخي ما لم يوجد منه ما يدل على
الرضى، وهو قول مالك. ولنا: قوله: "الشفعة كنشط العقال". 2
وإن قيدت ثبتت، وإن تركت فاللوّم على من تركها.
وإن ظهر أن الثمن أكثر مما وقع به العقد فترك الشفيع
الشفعة، لم تسقط، وكذلك إن أظهر أن المبيع سهام قليلة
فبانت كثيرة، أو أظهر أن الثمن دنانير فبان دراهم أو عكسه؛
وبه قال الشافعي. وقال أبو حنيفة: إن كان قيمتها سواء سقطت
الشفعة، فإن أظهر أنه اشترى بثمن فبان أكثر، أو بثمن فبان
أنه اشتري به بعضه، فإن أخبر بالبيع فلم يطالب سقطت، إلا
إن كان ممن لا يعمل بقوله كالفاسق. فإن قال للمشتري: بعني
ما اشتريت، أو صالحني، بطلت. وإن أسقطت قبل البيع لم تسقط،
وعنه: بلى. قيل له: ما معنى: "من كان بينه وبين أخيه ربعة
فأراد بيعها، فليعرضها عليه" 3؟ قال: ما هو
__________
1 من أول الباب إلى هنا: مختصر من المغنى.
2 ابن ماجة: الأحكام (2500) .
3 مسلم: المساقاة (1608) , والترمذي: البيوع (1312) ,
والنسائي: البيوع (4646, 4701) , وأبو داود: البيوع (3513)
, وأحمد (3/382) .
(1/596)
ببعيد، إلا أن يكون له شفعة، وهذا قول
الثوري وأبي عبيد. قال ابن المنذر: احتجوا بقوله: "وإن شاء
ترك "، ومحال إلا أن يكون لتركه معنى، ولأن مفهوم قوله:
"فإن باع ولم يؤذنه فهو أحق به"، 1 أنه إذا آذنه لا حق له.
وإذا بيع في شركة الصغير شقص، فله الشفعة، في قول عامة
الفقهاء. فإذا كبر فله الأخذ، عفا عنها الولي أو لا، وسواء
كان الحظ في الأخذ أو الترك. وقال ابن حامد: إن تركها
الولي لحظ الصبي، أو لكونه ليس له ما يأخذها به، سقطت؛ وهو
ظاهر مذهب الشافعي. وقال أبو حنيفة: تسقط بعفو الولي عنها
في الحالين، يعني: سواء كان له الحظ أو لا. وقال ابن أبي
ليلى: لا شفعة للصبي، وروي عن النخعي.
[الرابع] : 2 أن يأخذ جميع المبيع، فإن طلب أخذ البعض
سقطت. وقال أبو يوسف: لا تسقط. فإن كانا شفيعين فهي بينهما
على قدر ملكيهما. وعنه: على عدد الرؤوس. فإن تركها بعضهم
فليس للباقي إلا أخذ الجميع، حكاه ابن المنذر إجماعاً. وإن
كان المشتري شريكاً فهي بينه وبين الآخر، وللآخر بقدر
نصيبه، وبه قال الشافعي. وحكي عن الحسن والشعبي: لا شفعة
للآخر، لأنها لدفع ضرر الداخل. وإذا اشترى اثنان حق واحد،
فللشفيع أخذ حق أحدهما، وبه قال مالك والشافعي. وإن تصرف
المشتري في المبيع قبل الطلب بوقف أو هبة سقطت، نص عليه.
وقال مالك والشافعي وأصحاب الرأي: للشفيع فسخ ذلك وأخذه
بالثمن.
وإن مات بطلت شفعته، إلا أن يموت بعد طلبها فهي لورثته،
قال أحمد: الموت يبطل به ثلاثة أشياء: الشفعة، والحد إذا
مات المقذوف، والخيار إذا مات الذي اشترطه. وقال مالك
والشافعي: تورث، ويأخذه الشفيع بالثمن، لقوله في حديث
جابر: "هو أحق به بالثمن". 3 رواه الجوزجاني. ولا يأخذ
__________
1 مسلم: المساقاة (1608) , والنسائي: البيوع (4701) , وأبو
داود: البيوع (3513) , والدارمي: البيوع (2628) .
2 هذا هو ابتداء الشرط الرابع في الأصل.
3 أحمد (3/310) .
(1/597)
بها من لا يقدر عليه ولو أحضر رهناً أو
ضميناً، لأن على المشتري ضرراً في تأخير الثمن، قال أحمد:
ينتظر الشفيع يوماً أو يومين بقدر ما يرى الحاكم، فإن كان
أكثر فلا؛ وهذا قول مالك. وإن كان مؤجلاً أخذ بأجل إن كان
ملياً، وإلا أقام كفيلاً ملياً، وبه قال مالك. وقال
الثوري: لا يأخذه إلا بالنقد حالاً. فإن كان الثمن عرضاً
أعطاه مثله كالحبوب والأدهان. وإن كان مما لا مثل له
كالثياب والحيوان، أخذ بقيمة العرض، في قول أكثر أهل
العلم. وحكي عن الحسن وسوار: لا شفعة.
ومن هنا إلى آخر الباب: من "الإنصاف":
اختار الشيخ أنها تجب بالشركة في مصالح عقار، قال الحارثي:
هذا الذي يتعين المصير إليه. ثم ذكر أدلته، قال: وفيه جمع
بين الأخبار. قوله: ولا شفعة فيما لا تجب قسمته، كالحمام
الصغير والبئر، وما ليس بعقار كالشجر والحيوان، وعنه: في
ذلك الشفعة، اختاره الشيخ. واختار سقوطها إن أسقطها قبل
البيع. وإن ترك الولي شفعة للصبي فيها حظ، لم تسقط. وإن
تركها لعدم الحظ، سقطت؛ اختاره الشيخ. ولا تسقط رهنه
الشفعة، وإن سقطت بالوقف والهبة. قال في الفائق: خص القاضي
النص بالوقف ولم يجعل غيره مسقطاً، اختاره شيخنا.
(1/598)
باب الوديعة
الأصل فيها: الكتاب والسنة والإجماع، قال تعالى: {إِنَّ
اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى
أَهْلِهَا} ، 1 وقوله: {فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ
أَمَانَتَهُ} ، 2 وقوله صلى الله عليه وسلم: "أدّ الأمانة
إلى من ائتمنك". 3 وأجمعوا على جواز الإيداع والاستيداع.
وقبولها مستحب لمن يعلم من نفسه الأمانة، لأن فيه قضاء
حاجة أخيه. وهي أمانة لا ضمان عليه إلا أن يتعدى، وعنه: إن
ذهبت من بين ماله ضمنها، "لأن عمر ضمن أنسا وديعة ذهبت من
بين ماله"، والأول أصح، وكلام عمر محمول على التفريط. فإن
شرط عليه الضمان لم يضمن، وكذلك كل ما كان أصله الأمانة
كالمضاربة، ومال المشاركة، والرهن، والوكالة، وبه قال
الثوري وإسحاق وابن المنذر. ويلزمه حفظها في حرز مثلها.
فإن عيّن صاحبها حرزاً، فجعلها في دونه، ضمن. وإن دفعها
إلى زوجته أو عبده لم يضمن. وإن دفعها إلى أجنبي أو حاكم
ضمن. وإن أخذ درهماً ثم رده فضاع الكل ضمن. وقال مالك: لا
ضمان عليه إذا رده أو مثله. قال ابن المنذر: أجمع كل من
نحفظ عنه: أن المودع إذا أخذها، ثم ذكر أنها ضاعت، أن
القول قوله. وقال أكثرهم: مع يمينه. وإن ادعى ردها فالقول
قوله مع يمينه، وبه قال الشافعي. وقال مالك: إن دفعها إليه
ببينة لم
__________
1 سورة النساء آية: 58.
2 سورة البقرة آية: 283.
3 الترمذي: البيوع (1264) , وأبو داود: البيوع (3535) ,
والدارمي: البيوع (2597) .
(1/599)
يقبل قوله في الرد إلا ببينة. وإن قال:
دفعتها إلى فلان بأمرك، فالقول قوله. وقال مالك: القول قول
المالك، لأن الأصل عدم الإذن. وإن جحدها ثم أقرّ أو ثبتت
ببينة، ثم ادعى التلف، لم يقبل وعليه ضمانها؛ وبه قال مالك
والشافعي، وإن قال: ما لك عندي شيء، قبل قوله في الرد
والتلف. وإن مات وثبت أن عنده وديعة لم توجد، فهي ديْن
عليه، وبه قال مالك والشافعي وأبو حنيفة. فإن كان عليه دين
فهما سواء إن وفت، وإلا اقتسما بالحصص.
ومن هنا إلى آخر الباب: من "الإنصاف":
إذا أنفق على الدابة بغير إذن ربها بنية الرجوع رجع، قاله
في الفائق، قلت: وهو الصواب. وإن دفعها إلى أجنبي بغير عذر
ضمن، فإن كان الثاني عالماً بالحال ضمن، وإلا لم يضمن،
وليس للمالك مطالبة الأجنبي، اختاره الشيخ.
(1/600)
باب احياء الموت
...
باب إحياء الموات
ما فيه آثار الملك ولا يعلم لها مالك، ففيه روايتان، وما
ملك بشراء أو عطية لم يملك بالإحياء، بغير خلاف. قال ابن
عبد البر: جميعهم على أن ما عرف بملك مالك غير منقطع، أنه
لا يجوز إحياؤه لأحد غير أربابه. وإن ملك بالإحياء ثم ترك
حتى عاد مواتاً، فلا يملك؛ وقال مالك: يملك، لعموم الحديث.
ولنا: أن في الرواية الأخرى: "من أحيا أرضاً ميتة ليست
لأحد"، 1 وقوله في غير حق مسلم، ثم هو مخصوص بما ملك بشراء
أو عطية، فيقاس هذا عليه. وإن وجد فيه آثار ملك قديم
جاهلي، كآثار الروم ومساكن ثمود، ملك بالإحياء. وروى سعيد
من مراسيل طاووس: "عاديّ الأرض لله ولرسوله ثم هي لكم
بعد". قال أبو عبيد: عاديّ الأرض: التي بها ساكن في آباد
الدهر فانقرضوا، نسبهم إلى عاد، لأنهم مع تقدمهم ذوو قوة
وآثار كثيرة، فنسب كل أثر قديم إليهم. والرواية الثانية:
لا يملك، لأنه إما لمسلم أو ذمي أو لبيت مال. وما جرى عليه
الملك في الإسلام لمسلم أو ذمي غير معيّن، فعنه: لا يملك
بالإحياء، وعنه: أنها تملك؛ وهو مذهب مالك، لعموم الأخبار.
ولا يفتقر إلى إذن الإمام، وبه قال الشافعي. ولو أحيا مسلم
مواتاً في أرض كفار صولحوا عليها، لم يملكه، ويحتمل أن
يملكها، لعموم الخبر. وروي عن أحمد: ليس في السواد موات،
يعني: سواد العراق. ويحتمل أنه قال: لكونه كله معموراً في
زمن عمر، حتى بلغنا أن رجلاً من الكفار
__________
1 أحمد (3/326) , والدارمي: البيوع (2607) .
(1/601)
سأل أن يعطى خربة فلم يجدوها، فقال: أردت
أن أعلمكم كيف أخذتموها منا. وإذا لم يكن فيها موات حين
ملكها المسلمون لم يصر ما دثر من أملاك المسلمين مواتاً،
على إحدى الروايتين. وما قرب من العامر وتعلق بمصالحه، لم
يملك بالإحياء، وإن لم يتعلق بمصالحه فعلى روايتين. وقال
الشافعي: يملك ولو تعلق بمصالحه. وقال الليث: لا يملك ولو
لم يتعلق بمصالحه.
ولا تملك المعادن الظاهرة، كالملح والكحل، بالإحياء؛ وليس
للإمام إقطاعه، ولا نعلم فيه مخالفاًً. وأما التي لا يوصل
إليها إلا بالمؤنة، وهي المعادن الباطنة كالذهب والفضة
والحديد، فإن كانت ظاهرة لم تملك بالإحياء، وإن حفرها
إنسان وأظهرها لم تملك بذلك. ويحتمل أن تملك، وهو قول
الشافعي. وليس للإمام إقطاعها. والصحيح: جوازه، "لأنه صلى
الله عليه وسلم أقطع بلال بن الحارث معادن القبيلة".
ويلزمه بذل ما فضل من مائه لبهائم غيره. وهل يلزمه بذله
لزرع غيره؟ على روايتين. قال أحمد: الإحياء أن يحوط عليها
حائطاً، أو يحفر فيها بئراً أو نهراً، لحديث سمرة: "من
أحاط حائطاً على أرض، فهو له". 1 رواه أبو داود. وإن حفر
بئراً عادية، وهي القديمة، ملك حريمها خمسين ذراعاً، وإن
لم تكن عادية فخمسة وعشرون ذراعاً، نص عليه. ولا بد أن
تكون البئر فيها ماء، فإن لم يصل إليه فهو كالمتحجر.
والبئر العادية: التي انطمست وذهب ماؤها، فجدد حفرها
وانقطع ماؤها واستخرجه. وأما البئر التي ينتفع بها
المسلمون فليس لأحد احتجارها، لأنها بمنزلة المعادن
الظاهرة. وهكذا العيون النابعة، ليس لأحد أن يختص بها.
ولو حفر رجل بئراً للمسلمين أو ينتفع بها مدة إقامته ثم
يتركها، لم يملكها وكان له الانتفاع بها. فإذا تركها كانت
للمسلمين كلهم، كالمعادن الظاهرة، وهو أحق
__________
1 أبو داود: الخراج والإمارة والفيء (3077) , وأحمد (5/12,
5/21) .
(1/602)
بها ما دام عندها. وإذا كان لإنسان شجرة في
موات، فله حريمها قدر ما تمتد إليه أغصانها حواليها.
و"في النخلة مدّ جريدها"، لحديث أبي سعيد. وإن غرس شجرة في
موات فهي له وحريمها. وإن سبق إلى شجر فسقاه وأصلحه فهو
له، لحديث: "من سبق إلى ما لم يسبق إليه مسلم، فهو أحق
به".
ومن كانت له بئر فحفر أخرى قريباً منها يتسرب إليها ماؤها،
فليس له ذلك سواء حفر في ملكه أو في موات، ووافق الشافعي
في الموات وقال: في ملكه له ذلك كتعلية داره. وهكذا الخلاف
في كل ما يحدثه الجار مما يضر بجاره، مثل أن يجعل داره
مدبغة أو حماماً يضر بعقار جاره. وقال الشافعي: له ذلك
كله. ولنا: قوله: "لا ضرر ولا ضرار". 1 ولو كان الذي حصل
منه الضرر سابقاً لم يلزمه إزالة الضرر، بغير خلاف نعلمه،
لأنه لم يحدث ضرراً. ومن تحجر مواتاً لم يملكه وكان أحق به
ووارثه بعده ومن ينتقل إليه، وليس له بيعه، وقيل: له ذلك،
لحديث: "من سبق إلى ما لم يسبق إليه مسلم، فهو أحق به".
فإن لم يُتم إحياءه قيل له: أحيه أو اتركه، فإن أحياه غيره
ملكه بالإحياء، لعموم الحديث في الإحياء، وقيل: لا، لقوله:
"في غير حق مسلم". وروى سعيد أن عمر قال: "من كانت له أرض
- يعني: من تحجر أرضاً - فعطلها ثلاث سنين فجاء قوم
فعمروها فهم أحق بها". وهذا يدل على أن من عمرها قبل ثلاث
سنين لا يملكها.
وللإمام إقطاع موات لم يحيه ولا يملكه به، بل بمنزلة
المتحجر، ولا يقطع إلا ما قدر على إحيائه، لأن إقطاعه
أكثرَ ضرر على المسلمين. فإن فعل فتبين عجزه عن إحيائه،
استرجعه "كما استرجع عمر من بلال بن الحارث ما عجز عن
عمارته مما أقطعه النبي صلى الله عليه وسلم".
__________
1 ابن ماجة: الأحكام (2340) .
(1/603)
وإن كان الماء في نهر غير مملوك، فإن كان
عظيماً كالنيل والفرات الذي لا يستضر أحد بالسقي منه، فلكل
أحد أن يسقي كيف شاء. وإن كان صغيراً يزدحم الناس فيه
ويتشاحون في مائه، أو سيلاً يتشاح فيه أهل الأرض، فيبدأ
بمن في أوله فيسقي ويحبس الماء حتى يبلغ الكعب، ثم يرسل
إلى الذي يليه فيصنع كذلك، إلى أن تنتهي الأرض، ولا نعلم
فيه مخالفاًً، لحديث الزبير والأنصاري.
والنهر المملوك قسمان:
أحدهما: أن يكون الماء مباح الأصل، مثل أن يحفر إنسان
نهراً صغيراً يتصل بنهر كبير مباح، فما لم يتصل الحفر لا
يملكه وإنما هو تحجر، فإذا اتصل الحفر ملكه، لأن الملك
بالإحياء أن تنتهي العمارة إلى قصدها، بحيث يتكرر الانتفاع
بها على صورتها، سواء أجرى الماء أو لا. فإن كان لجماعة
فهو بينهم على حسب العمل والنفقة.
والثاني: أن يكون منبع الماء مملوكاً مثل أن يشترك جماعة
في استنباط عين وإجرائها، فإنهم يملكونها، لأن ذلك إحياء
لها. وعلى كل حال، فلكل أحد أن يسقي من الماء الجاري لشربه
ووضوئه وغسل ثيابه وأشباه ذلك، مما لا يؤثر فيه، من غير
إذن إذا لم يدخل إلى محوط، ولا يحلّ لصاحبه المنع، لحديث:
"ثلاثة لا ينظر الله إليهم". 1 رواه البخاري.
وللإمام أن يحمي أرضاً من الموات لدواب المسلمين، ما لم
يضيق عليهم، وقال الشافعي في أحد قوليه: ليس له ذلك،
لقوله: "لا حمى إلا لله ولرسوله". 2 ولنا: "أن عمر وعثمان
حميا"، واشتهر فلم ينكر، فكان إجماعاً.
__________
1 البخاري: المساقاة (2358) , ومسلم: الإيمان (108) ,
والترمذي: السير (1595) , والنسائي: البيوع (4462) , وأبو
داود: البيوع (3474) , وابن ماجة: التجارات (2207) والجهاد
(2870) , وأحمد (2/253, 2/480) .
2 البخاري: المساقاة (2370) , وأبو داود: الخراج والإمارة
والفيء (3083) , وأحمد (4/38, 4/71, 4/73) .
(1/604)
ومن هنا إلى آخر الباب: من "الإنصاف":
إذا كان الموات لم يجر عليه ملك لأحد، ولا فيه أثر عمارة،
ملك بالإحياء بلا خلاف، وإن علم له مالك بشراء أو عطية
والمالك موجود هو أو أحد من ورثته، لم يملك بالإحياء بلا
خلاف. وإن ملك بالإحياء ثم ترك حتى دثر وعاد مواتاً، فلا
يملك به أيضاً. وإن لم يعلم له مالك، فهو أربعة أقسام:
أحدها: ما أثر الملك فيه غير جاهلي، كالقرى الخربة التي
درست آثارها، ففي ملكها بالإحياء روايتان. وإذا لم يملك
بالإحياء كان للإمام إقطاعه.
الثاني: ما أثر الملك فيه جاهلي قديم، كديار ثمود، فلم
يذكر المصنف وغيره خلافاً في جواز إحيائه.
الثالث: ما لا أثر فيه جاهلي قريب، والصحيح أنه يملك
بالإحياء.
الرابع: ما تردد في جريان الملك عليه، وفيه روايتان.
ولو ملكها من له حرمة ولم يعلم، لم تملك بالإحياء لأنها
فيء، وعنه: تملك، قال في الفائق: في أظهر الروايات.
وموات أرض العنوة كغيره، وهو المذهب، وعنه: لا تملك
بالإحياء، لكن تقر بيده بالخراج، وقيل: لا موات في أرض
السواد.
ولو اختلفوا في الطريق وقت الإحياء، جعلت سبعة أذرع،
للخبر؛ ولا تغير بعد وضعها وإن زادت على سبعة، لأنها
للمسلمين، نص عليه. وذكر ابن بطة أن الخبر ورد في أرباب
ملك مشترك أرادوا قسمته، واختلفوا في قدر حاجتهم، خلاف ما
ذكر الجوزجاني عن قول أحمد: لا بأس ببناء مسجد في طريق
واسع إذا لم يضر بالطريق، قال: مراده: ما وقت النبي صلى
الله عليه وسلم من السبع الأذرع.
(1/605)
وقال الشيخ فيمن نزل عن وظيفة الإمامة: لا
يتعين المنزول له، ويولِّي من له الولاية من يستحق التولية
شرعاً.
ولو ترك دابته بفلاة ليأسه منها، ملكها آخذها، نص عليه؛
وهو من المفردات. وما حماه النبي صلى الله عليه وسلم فليس
لأحد نقضه، وما حماه غيره فعلى وجهين. قال في الفروع:
ويتوجه في نقض الإطلاقات الخلاف، ونقل حرب: القطائع جائز،
وأنكر شديداً قول مالك: لا بأس بقطائع الأمراء، وقال: يزعم
أنه لا بأس بقطائعهم، وقال: قطائع الشام والجزيرة من
المكروهة كانت لبني أمية فأخذها هؤلاء، وقال: ما أدري ما
هذه القطائع يخرجونها ممن شاؤوا؟ قال أبو بكر: لأنه لا
يملكها من أقطعها، فكيف تخرج منه؟
(1/606)
باب الجعالة
وهي أن يبذل جعلاً على رد آبق أو ضالة أو بناء حائط أو
خياطة ثوب، ولا نعلم فيها مخالفاًً، لقوله: {ولمن جاء به
حمل بعير} ، 1 وحديث الرقية، لأن الحاجة تدعو إليه، لأن
العمل قد يكون مجهولاً كردّ الضالة، فلا تجوز الإجارة عليه
فدعت الحاجة إلى العوض مع جهالة العمل، وهي أن يقول: مَن
ردّ عبدي أو بنى لي هذا الحائط فله كذا، فإذا قاله صح وكان
لكل منهما الرجوع قبل العمل. فمن فعله بعد أن بلغه الجعل
استحقه، لما ذكرنا من الآية والحديث، وإن فعله جماعة فهو
بينهم.
فإن قال: من ردّ عبدي من موضع كذا فله دينار، فرده إنسان
من نصف الطريق استحق النصف. وإذا التقط لقطة قبل بلوغ
الجعل لم يستحق شيئاً ولو بعد الجعل. ومن عمل لغيره عملاً
بغير جعل، غير رد الآبق، فلا شيء له، لا نعلم فيه خلافا؛
"فأما رد الآبق فإنه يستحق الجعل بردّه وإن لم يشرطه"، روي
عن عمر وعلي وابن مسعود. وعن أحمد: لا أدري، قد تكلم الناس
فيه. لم يكن عندي فيه حديث صحيح. وقال الشافعي: لا يستحق
شيئاً.
ويجوز أخذ الآبق لمن وجده، لا نعلم فيه خلافاً، لأنه لا
يؤمن لحوقه بدار الحرب.
__________
1 سورة يوسف آية: 72.
(1/607)
باب اللقطة
وهي على ثلاثة أقسام:
أحدها: ما لا تتبعه الهمة، كالعصا والسوط، فيملك بلا
تعريف، لحديث جابر. ولا نعلم خلافاً بين أهل العلم في
إباحة أخذ اليسير والانتفاع به، وقال مالك لا يجب تعريف ما
لا يقطع بة السارق. وروي عن علي: "أنه وجد ديناراً فتصرّف
فيه"، وعن سلمى بنت كعب قالت: "وجدت خاتماً من ذهب في طريق
مكة، فسألت عائشة فقالت: تمتعي به"، و"رخص رسول الله صلى
الله عليه وسلم في الحبل" في حديث جابر، وقد تكون قيمته
دراهم. وليس عن أحمد تحديد اليسير. وقال: ما كان مثل
الثمرة والكسرة والخرقة وما لا خطر له، فلا بأس.
ولنا على إبطال التحديد: حديث زيد بن خالد في كل لقطة،
وحديث عليّ ضعيف، قال أبو داود: طرقه مضطربة، ثم هو مخالف
لمذهبهم، ولسائر المذاهب. والذي رخص رسول الله صلى الله
عليه وسلم في التقاطه لم يذكر فيه ضماناً، ولا يجوز تأخير
البيان عن وقت الحاجة.
الثاني: الضوالّ التي تمتنع من صغار السباع، كالإبل والبقر
والخيل والبغال، فلا يجوز التقاطه. وقال مالك والليث في
ضالة الإبل: من وجدها في القرى عرّفها، ولا يقربها في
الصحراء. وقال الزهري: "من وجد بدنة فليعرّفها، فإن لم يجد
صاحبها فلينحرها قبل أن تنقضي الأيام الثلاثة. والبقر
كالإبل"،
(1/608)
نص عليه. وحكي عن مالك: البقرة كالشاة.
ولنا: خبر جرير، فـ"إنه طرد البقرة". فأما الحمر فجعلها
أصحابنا من هذا، والأوْلى إلحاقها بالشاة، لقوله: "معها
سقاؤها وحذاؤها"، 1 يريد شدة صبرها عن الماء لكثرة ما توعي
في بطنها منه، وقوله في الغنم: "إنها معرضة للذئب". فإن
أخذ ما لا يجوز التقاطه ضمنه، فإن رده إلى موضعه لم يبرأ،
وقال مالك: يبرأ "لأن عمر قال: أرسله في الموضع الذي أصبته
فيه".
فإن دفعها إلى نائب الإمام زال عنه الضمان. وللإمام أو
نائبه أخذ الضالة ليحفظها لصاحبها، "لأن عمر حمى النقيع
لخيل المجاهدين والضوال ".
ولا يلزمه تعريفها، "لأن عمر لم يكن يعرّفها". وإن أخذها
غير الإمام أو نائبه ليحفظها ضمنها. ولأصحاب الشافعي وجه:
أن له أخذها لحفظها. فإن وجدها في موضع يخاف عليها به،
كأرض مسبعة أو قريبة من دار الحرب أو في موضع يستحل أهله
أكل أموال المسلمين، فالأولى جواز أخذها للحفظ؛ وإن رأى
الإمام المصلحة في بيعها باعها.
ومن ترك دابة بمهلكة فأخذها إنسان ملكها، وقال مالك: هي
لمالكها، ويغرم ما أنفق عليها. وقال الشافعي هي لمالكها
ولا يغرم.
الثالث: سائر الأموال، كالأثمان والمتاع والغنم، فيجوز
التقاطها لمن يقصد تعريفها، ويملكها بعده. وقال الليث: لا
يقربها إلا أن يحرزها لصاحبها، لقوله: "لا يؤوي الضالة إلا
ضال" 2 ولنا: قوله: "هي لك أو لأخيك أو للذئب"، 3 ولأنه
يخشى عليه التلف، أشبه غير الحيوان، وحديثنا أخص من
حديثهم، ولو قدر التعارض فهو أصح.
ولا فرق بين المصر والمهلكة. وقال مالك في الشاة توجد في
الصحراء: اذبحها وكلها، وفي المصر: ضمّها حتى يجدها
__________
1 البخاري: العلم (91) , ومسلم: اللقطة (1722) , وأبو
داود: اللقطة (1704) , وأحمد (4/115) , ومالك: الأقضية
(1482) .
2 أبو داود: اللقطة (1720) , وابن ماجة: الأحكام (2503) ,
وأحمد (4/360, 4/362) .
3 البخاري: العلم (91) , ومسلم: اللقطة (1722) , وأبو
داود: اللقطة (1704) , وابن ماجة: الأحكام (2504) , وأحمد
(4/115) , ومالك: الأقضية (1482) .
(1/609)
صاحبها، لقوله: "هي لك أو لأخيك أو للذئب"،
1 ولا يكون الذئب في المصر. ولنا: أنه أمر بأخذها ولم
يفرّق، وكونها للذئب في الصحراء لا يمنع كونها لغيره في
المصر. ومتى عرّفها حولاّ ملكها، وعنه: لا. ولنا: قوله:
"هي لك" إضافة إليه بلام التمليك، ولأن التقاطها مباح،
فملكت بالتعريف؛ حكاه ابن المنذر إجماعاً. ومن أمن نفسه
وقوي على تعريفها فله أخذها، والأفضل تركها، قاله أحمد.
وقال الشافعي: إن وجدها بمضيعة وأمن نفسه، فالأفضل أخذها،
وعنه: يجب، لقوله: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ
بَعْضُهُمْ {أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} 2.
وقال مالك: إن كان شيئاً له بال، يأخذه أحب إليّ. ولنا:
قول ابن عمر وابن عباس، ولم يعرف لهما مخالف في الصحابة.
ومن وجد لقطة في دار الحرب وكان في جيش، فقال أحمد:
يعرّفها سنة ثم يطرحها في المغنم، لأنه وصل إليها بقوة
الجيش.
وملتقط الشاة ومثلها مما يباح أكله يخّير بين ثلاثة أشياء:
أحدها: أكلها في الحال، قال ابن عبد البر: أجمعوا على أن
ضالة الغنم في الموضع المخوف عليها له أكلها، لأنه سوَّى
بينه وبين الذئب. فإن جاء صاحبها غرمها. وقال مالك: كُلْها
ولا غرم ولا تعريف، لقوله: "هي لك". قال ابن عبد البر لم
يوافق مالكاً أحد من العلماء على قوله، وقوله صلى الله
عليه وسلم: "ردّ على أخيك ضالته" دليل على أنها على ملك
صاحبها، وقوله: "هي لك" لا يمنع الغرم، فقد أذن في لقطة
الذهب بعد التعريف في أكلها، وقال هي كسائر مالك، ثم
أجمعنا على وجوب الغرم.
__________
1 البخاري: العلم (91) , ومسلم: اللقطة (1722) , وأبو
داود: اللقطة (1704) , وابن ماجة: الأحكام (2504) , وأحمد
(4/115) , ومالك: الأقضية (1482) .
2 سورة التوبة آية: 71.
(1/610)
الثاني: تركها والإنفاق عليها من ماله، فإن
كان بنيّة الرجوع رجع به، وقيل: لا يرجع.
الثالث: بيعها وحفظ ثمنها، ولم يذكر أصحابنا تعريفاً في
هذه المواضع، وهو قول مالك. ولنا: أنها لقطة لها خطر، فوجب
تعريفها.
وما يخشى فساده، فإن كان مما لا يمكن تجفيفه كالفاكهة
والخضروات فهو مخير بين أكله وبيعه وحفظ ثمنه؛ فإن أكلَه
ثبتت القيمة في ذمته.
وفي التعريف فصول ستة: في وجوبه، وقدره، وزمانه، ومكانه،
ومن يتولاه، وكيفيته.
أما وجوبه: فواجب على كل ملتقط، وقال الشافعي: لا يجب على
من أراد حفظها لصاحبها. ولنا: أنه أمر به ولم يفرّق.
وقدره: "سنة"، روي عن عمر وغيره، وعن عمر: "ثلاثة أشهر"،
وعنه: "ثلاثة أعوام"، لحديث أبيّ. وقال إسحاق: ما دون
الدينار يعرّفه جمعة. ولنا: حديث زيد بن خالد، فـ"إنه أمره
بعام واحد"، وحديث أبيّ قال الراوي: "لا أدري ثلاثة أعوام
أم عام واحد"، قال أبو داود: شك الراوي.
وزمانه: النهار دون الليل، في اليوم الذي وجدها والأسبوع،
ولا يجب بعده متوالياً.
ومكانه: الأسواق وأبواب المساجد ومجامع الناس، و"أمر عمر
واجدها بتعريفها على باب المسجد".
والكيفية: يذكر جنسها لا غير، فيقول: من ضاع له ذهب أو فضة
أو دنانير أو ثياب، ولا يصفها. ويعرّفها بنفسه أو يستنيب،
فإن وجد متبرعاً وإلا استأجر، والأجرة عليه. وقال مالك: إن
أعطى منها شيئاً لمن عرّفها لا يغرم.
وإذا أخره عن الحول الأول أثم، لقوله: "لا تكتم ولا تغيب".
1 ويسقط بتأخيره عن الحول الأول، في المنصوص عن أحمد، لأن
حكمة التعريف لا تحصل بعده. فإن تركه في بعض الحول عرّف
بقيته، لقوله:
__________
1 أحمد (5/80) , والدارمي: البيوع (2602) .
(1/611)
"إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم". 1
"فإذا عرّفها حولاً فلم تعرف، ملَكها، غنياً كان أو
فقيراً". روي عن عمر وغيره، وبه قال الشافعي. وقال مالك:
يتصدق بها، فإذا جاء صاحبها خيّر بين الأجر والغرم، لحديث
أبي هريرة، ولقوله: في حديث عياض: "وإلا فهي مال الله
يؤتيه من يشاء"، 2 وما يضاف إلى الله إنما يتملك بالصدقة.
ونقل عن أحمد مثله، وأنكره الخلال. ولنا: قوله:
"فاستنفقها"، وقوله: "وإلا فهي كسائر مالك". 3 وحديثهم عن
أبي هريرة لا يثبت، ولا نقل في كتاب يعتمد عليه، ودعواهم
إنما يضاف إلى الله، ما قالوه لا دليل عليه.
ولا أعلم بين أكثر أهل العلم فرقاً بين الأثمان والعروض،
وقال أكثر أصحابنا: لا تملك العروض بالتعريف، واختلفوا هل
يعرّفها أبداً أو يتصدق بها. ولنا: عموم الأحاديث في
اللقطة. وقولهم: روي ذلك عن ابن مسعود، قيل: إن صح فقد روي
عن عمر وابنه خلافه.
والمشهور عن أحمد: "أن لقطة الحرم والحل سواء". وروي عن
ابن عمر وابن عباس، وبه قال مالك، وعن أحمد: أنها لا تلتقط
للتملك بل للحفظ، ويعرّفها أبداً حتى يأتي صاحبها، وهو قول
أبي عبيد. وعن الشافعي كالمذهبين، لقوله: "لا تحلّ ساقطتها
إلا لمنشد". 4 ووجه الأولى: عموم الأحاديث، ويحتمل أن
قوله: "إلا لمنشد" أي: لمن عرّفها عاماً، وتخصيصها به
لتأكيدها، كقوله: " ضالة المؤمن حرق النار"، 5 وضالة الذمي
مقيسة عليها.
ويستحب أن يشهد عليها حين يجدها، لحديث عياض، ولا يجب،
لأنه لم يأمر به زيد أو أبي بن كعب.
ومن هنا إلى آخر الباب: من "الإنصاف ":
لو وجد لقطة في طريق غير مأتي، فهي لقطة، واختار الشيخ أنه
كالركاز.
__________
1 البخاري: الاعتصام بالكتاب والسنة (7288) , ومسلم: الحج
(1337) , والنسائي: مناسك الحج (2619) , وابن ماجة:
المقدمة (2) , وأحمد (2/247, 2/258, 2/313, 2/355, 2/428,
2/447, 2/456, 2/467, 2/482, 2/495, 2/508, 2/517) .
2 أبو داود: اللقطة (1709) , وابن ماجة: الأحكام (2505) ,
وأحمد (4/161, 4/266) .
3 البخاري: في اللقطة (2426, 2437) , ومسلم: اللقطة (1723)
, والترمذي: الأحكام (1374) , وأبو داود: اللقطة (1701) ,
وابن ماجة: الأحكام (2506) , وأحمد (5/126) .
4 البخاري: في اللقطة (2434) , ومسلم: الحج (1355) , وأبو
داود: المناسك (2017) , وأحمد (2/238) .
5 الترمذي: الأشربة (1880) .
(1/612)
|