منار
السبيل في شرح الدليل كتاب الصيام
مدخل
...
كتاب الصيام
صوم رمضان أحد أركان الإسلام ومبانيه لحديث
ابن عمر: "بني الإسلام على خمس" وقد سبق.
افترض في السنة الثانية من الهجرة، فصام رسول
الله صلى الله عليه وسلم، تسع رمضانات
إجماعاً.
[يجب صوم رمضان بروية هلاله على جميع الناس]
لقوله تعالى: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ
الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} 1 قوله صلى الله عليه
وسلم: "صوموا لرؤيته، وأفطروا لرؤيته" متفق
عليه وبإكمال شعبان. قال في الشرح: لا نعلم
فيه خلافاً.
[وعلى من حال دونهم، ودون مطلعه غيم، أو قتر
ليلة الثلاثين من شعبان، احتياطاً بنية رمضان]
لقوله في حديث ابن عمر "فإن غم عليكم فاقدروا
له" متفق عليه. يعني ضيقوا له العدة. من قوله:
{وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ} 2 أي ضيق
عليه. وتضيق العدة له: أن يحسب شعبان تسعة
وعشرين يوماً. وكان ابن عمر، إذا حال دون
مطلعه غيم أو قتر، أصبح صائماً وهو راوي
الحديث، وعمله به تفسير له. وهو قول عمر
وابنه، وعمرو بن العاص، وأبي هريرة، وأنس
ومعاوية، وعائشة وأسماء، ابنتي أبي بكر
الصديق، رضي الله
ـــــــ
1 البقرة من الآية/185.
2 الطلاق من الآية/7.
(1/216)
عنهم. وعنه
رواية ثانية لا يجب. قال الشيخ تقي الدين: هذا
مذهب أحمد المنصوص الصريح عنه، ولا أصل للوجوب
في كلامه، ولا كلام أحد من أصحابه، فعليها
يباح صومه، اختاره الشيخ تقي الدين، و ابن
القيم في الهدي. وما نقل عن الصحابة إنما يدل
على الاستحباب، لا على الوجوب، لعدم أمرهم به.
وإنما نقل عنهم الفعل. وقول بعضهم: لأن أصوم
يوماً من شعبان أحب إلي من أن أفطر يوماً من
رمضان. وعنه رواية ثالثة: الناس تبع الإمام،
لقوله صلى الله عليه وسلم "صومكم يوم تصومون،
وأضحاكم يوم تضحون" رواه أبو داود.
[ويجزئ إن ظهر منه] أي من رمضان: بأن تثبت
رؤيته بموضع آخر، لأن صومه قد وقع بنية رمضان
لمستند شرعي أشبه الصوم للرؤية. قال الأ ثرم:
قلت لأحمد، فيعتد به ؟ قال: كان ابن عمر يعتد
به فإذا أصبح عازماً على الصوم اعتد به
ويجزئه.
[وتصلى التراويح] احتياطاً للقيام، لقوله صلى
الله عليه وسلم: "من قام رمضان إيماناً
واحتساباً غفر لة ما تقدم من ذنبه" ولا يتحقق
قيامه كله إلا بذلك.
[ولا تثبت بقية الأحكام: كوقوع الطلاق،
والعتق، وحلول الأجل] المعلق بدخوله، عملاً
بالأصل. خولف في الصوم احتياطاً للعبادة.
[وتثبت رؤية هلاله بخبر مسلم مكلف عدل ولو
عبداً أو أنثى] نص عليه وفاقاً للشافعي، وحكاه
الترمذي عن أكثر العلماء، قاله في الفروع،
لحديث ابن عباس قال: جاء أعرابي إلى النبي صلى
الله عليه وسلم، فقال: رأيت الهلال. قال:
"أتشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً
(1/217)
عبده ورسوله" ؟
قال: نعم. قال يا بلال: "أذن في الناس
فليصوموا غداً" رواه أبو داود، والترمذي،
والنسائي، وعن ابن عمر قال: تراءى الناس
الهلال، فأخبرت النبي صلى الله عليه وسلم، أني
رأيته، فصام وأمر الناس بصيامه رواه أبو داود.
وتثبت بقية الأحكام تبعاً للصيام.
[ولا يقبل في بقية الشهور إلا رجلان عدلان]
لحديث عبد الرحمن بن زيد بن الخطاب، فيه: "فإن
شهد شاهدان مسلمان فصوموا، وأفطروا" رواه أحمد
والنسائي، ولم يقل مسلمان، وإن صاموا بشهادة
واحد ثلاثين يوماً، فلم يروا الهلال، لم
يفطروا، لقوله عليه السلام: "صوموا لرؤيته..."
الحديث.
(1/218)
فصل في شروط
وجوب الصوم
[وشرط وجوب الصوم أربعة أشياء: الإسلام،
والبلوغ، والعقل] فلا يجب على كافر ولا صغير
ولا مجنون، لحديث: "رفع القلم عن ثلاثة" .
[والقدرة عليه. فمن عجز عنه لكبر، أو مرض
لايرجى زواله أفطر، وأطعم عن كل يوم مسكيناً
مدبر، أو نصف صاع من غيره] لقول ابن عباس في
قوله تعالى: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ
فِدْيَةٌ} 1 ليست بمنسوخة هي للكبير الذي لا
يستطيع الصوم رواه البخاري، "والحامل، والمرضع
إذا خافتا على أولادهما أفطرتا، وأطعمتا" رواه
أبو داود.
[وشروط صحته ستة: الإسلام] فلا يصح من كافر.
[وانقطاع دم الحيض، والنفاس] لما تقدم في
بابه.
ـــــــ
1 البقرة من الآية/184.
(1/218)
[الرابع:
التمييز، فيجب على ولي المميز المطيق للصوم
أمره به، وضربه، عليه ليعتاده] قياساً على
الصلاة.
[الخامس: العقل] لأن الصوم، الإمساك مع النية
لحديث: "يدع طعامه وشرابه من أجلي" فأضاف
الترك إليه، وهو لا يضاف إلى المجنون، والمغمى
عليه.
[لكن لو نوى ليلاً ثم جن، أو أغمي عليه جميع
النهار، فأفاق منه قليلاً] صح صومه لوجود
الإمساك فيه. قال في الشرح: ولا نعلم خلافاً
في وجوب القضاء على المغمى عليه - أي جميع
النهار - لأنه مكلف، بخلاف المجنون. ومن نام
جميع النهار صح صومه، لأن النوم عادة، ولا
يزول به الإحساس بالكلية.
[السادس: النية من الليل لكل يوم واجب] لحديث
حفصة أن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: "من
لم يبيت الصيام من الليل فلا صيام له" رواه
أبو داود.
[فمن خطر بقلبه ليلاً أنه صائم فقد نوى] لأن
النية محلها القلب.
[وكذا الأكل، والشرب بنية الصوم] قال الشيخ
تقي الدين: هو حين يتعشى عشاء من يريد الصوم،
ولهذا يفرق بين عشاء ليلة العيد، وعشاء ليالي
رمضان.
[ولا يضر إن أتى بعد النية بمناف للصوم] لأن
الله تعالى أباح الأكل إلى آخر الليل، فلو
بطلت به فات محلها.
[أو قال إن شاء الله غير متردد] كما لا يفسد
الإيمان بقوله: أنا مؤمن إن شاء الله.
(1/219)
[وكذا لو قال
ليلة الثلاثين من رمضان: إن كان غداً من رمضان
ففرض وإلا فمفطر] فبان من رمضان أجزاءه، لأنه
بنى على أصل لم يثبت زواله: وهو بقاء الشهر.
[ويضر إن قاله في أوله] لعدم جزمه بالنية.
[وفرضه الامساك عن المفطرات من طلوع الفجر
الثاني إلى غروب الشمس] لقوله تعالى: {...
وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ
لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ
الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا
الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ...} 1
وقال صلى الله عليه وسلم: "لا يمنعنكم من
سحوركم أذان بلال، ولا الفجر المستطيل، ولكن
الفجر المستطير في الافق" حديث حسن. وعن عمر
مرفوعاً: "إذا أقبل الليل من ها هنا، وأدبر
النًهار من ها هنا، وغربت الشمس، أفطر الصائم"
متفق عليه.
[وسننه ستة: تعجيل الفطر، وتأخير السحور]
لحديث أبي ذر عن النبي صلى الله عليه وسلم،
قال: "لا تزال أمتي بخير ما أخروا السحور،
وعجلوا الفطر" رواه أحمد.
[والزيادة في أعمال الخير] من القراءة والذكر
والصدقة وغيرها.
[وقوله جهراً إذا شتم: إني صائم] لحديث أبي
هريرة مرفوعاً "إذا كان يوم صوم أحدكم فلا
يرفث يومئذ ولا يصخب، فإن شاتمه أحد، أو قاتله
فليقل: إني امرؤ صائم" متفق عليه. وقال المجد:
إن كان في غير رمضان أسره مخافة الرياء.
واختار الشيخ تقي الدين الجهر مطلقاً، لأن
القول المطلق باللسان.
ـــــــ
1 البقرة من الآية/187.
(1/220)
[وقوله عند
فطره: اللهم لك صمت، وعلى رزقك أفطرت، سبحانك
وبحمدك. اللهم تقبل مني إنك أنت السميع
العليم] لحديث ابن العباس، وأنس كان النبي صلى
الله عليه وسلم، إذا أفطر قال: "اللهم لك
صمنا، وعلى رزقك أفطرنا، اللهم تقبل منا، إنك
أنت السميع العليم" وعن ابن عمر مرفوعاً: كان
إذا أفطر قال: "ذهب الظمأ وابتلت العروق، ووجب
الأجر إن شاء الله" رواهن الدارقطني وفي
الخبر: "إن للصائم عند فطره دعوةً لا ترد" .
[وفطره على رطب، فإن عدم فتمر، فإن عدم فماء]
لحديث أنس كان رسول الله صلى الله عليه وسلم،
يفطر على رطبات قبل أن يصلي، فإن لم يكن فعلى
تمرات، فإن لم تكن تمرات حسا حسوات من ماء
رواه أبو داود والترمذي، وقال: حسن غريب.
(1/221)
فصل: يحرم على من لاعذر له الفطر
...
فصل يحرم على من لا عذر له الفطر
[ويحرم على من لا عذر له الفطر برمضان] لأنه
ترك فريضة من غير عذر، وعليه إمساك بقية يومه
الذي أفطر فيه، لأنه أمر به جميع النهار،
فمخالفته في بعضه لا يبيح المخالفة في الباقي،
وعليه القضاء، لقوله صلى الله عليه وسلم: "ومن
استقاء فليقض" .
[ويجب الفطر على الحائض والنفساء] للحديث
الصحيح: "أليس إذا حاضت لم تصل ولم تصم؟" .
[وعلى من يحتاجه لإنقاذ معصوم من مهلكة] كغرق
ونحوه، لأنه يمكنه تدارك الصوم بالقضاء، بخلاف
الغريق ونحوه.
[ويسن لمسافر يباح له القصر] لحديث "ليس من
البر الصيام في
(1/221)
السفر" متفق
عليه. ورواه النسائي، وزاد: "عليكم برخصة الله
التي رخص لكم فاقبلوها" . وإن صام أجزأه نص
عليه، لحديث: هي رخصة من الله، فمن أخذ بها
فحسن، ومن أحب أن يصوم فلا جناح عليه رواه
مسلم والنسائي، وعن حمزة بن عمرو الأسلمي أنه
قال للنبي صلى الله عليه وسلم: أصوم في السفر؟
قال: "إن شئت فصم، وإن شئت فأفطر" متفق عليه.
[ولمريض يخاف الضرر] لقوله تعالى: {فَمَنْ
كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ
فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} الآية1.
[ويباح لحاضر سافر في أثناء النهار] لحديث أبي
بصرة الغفاري أنه ركب سفينة من الفسطاط في شهر
رمضان فدفع، ثم قرب غداءه، فلم يجاوز البيوت
حتى دعا بالسفرة، ثم قال: اقترب، قيل: ألست
ترى البيوت؟ قال: أترغب عن سنة محمد صلى الله
عليه وسلم؟ فأكل رواه أبو داود. وحديث أنس
حسنه الترمذي. إذا فارق بيوت قريته العامرة
لما تقدم، ولأنه قبله لا يسمى مسافراً.
والأفضل عدم الفطر تغليباً لحكم الحضر،
وخروجاً من الخلاف.
[ولحامل، ومرضع خافتا على أنفسهما] فيفطران
ويقضيان لا غير. قال في الشرح: لا نعلم فيه
خلافاً.
[أو على الولد. لكن لو أفطرتا خوفاً على الولد
فقط، لزم وليه إطعام مسكين لكل يوم] لقوله
تعالى: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ
فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ} 1 . قال ابن عباس
كانت رخصة للشيخ الكبير والمرأة
ـــــــ
1 البقرة من الآية/184 وقد سبق ذكرها.
(1/222)
الكبيرة، وهما
يطيقان الصيام أن يفطرا، ويطعما مكان كل يوم
مسكيناً والحبلى والمرضع، إذا خافتا على
أولادهما أفطرتا، وأطعمتا رواه أبو داود. ويجب
عليهما القضاء، لأنهما يطيقانه. قال الإمام
أحمد: أذهب إلى حديث أبي هريرة، ولا أقول بقول
ابن عمر، وابن عباس في منع القضاء ذكره في
الشرح.
[وإن أسلم الكافر، أو طهرت الحائض، أو برئ
المريض، أو قدم المسافر، أو بلغ الصغير، أو
عقل المجنون في أثناء النهار، وهم مفطرون،
لزمهم الإمساك والقضاء] لذلك اليوم، لأنهم لم
يصوموه، ولكن أمسكوا عن مفسدات الصوم لحرمة
الوقت، ولزوال المبيح للفطر.
[وليس لمن جاز له الفطر برمضان أن يصوم غيره
فيه] أي في رمضان لأنه لا يسع غير ما فرض فيه،
ولا يصلح لسواه.
(1/223)
فصل في
المفطرات
[ وهي اثنا عشر: 1 - خروج دم الحيض، والنفاس]
لما سبق.
[2- الموت] لحديث "إذا مات ابن آدم انقطع عمله
إلا من ثلاث"
[3- الردة] لقوله تعالى: {لَئِنْ أَشْرَكْتَ
لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ...} الآية 1.
[4- العزم على الفطر] نص عليه. قال في الفروع:
وفاقاً للشافعي، ومالك، لقطعه النية المشترطة
في جميعه في الفرض. قال في الكافي: فإذا قطعها
في أثنائه خلا ذلك الجزء عن النية، فيفسد الكل
لفساد الشرط.
[5- التردد فيه] لأنه لم يجزم بالنية. ونقل
الأ ثرم: لا يجزئه
ـــــــ
1 الزمر من الآية/65.
(1/223)
من الواجب حتى
يكون عازماً على الصوم يومه كله. قاله في
الفروع.
[6- القيء عمداً] قال ابن المنذر: أجمعوا على
إبطال صوم من استقاء عامداً، ولحديث أبي هريرة
مرفوعاً: "من ذرعه القيء فليس عليه قضاء ومن
استقاء عمداً فليقض" رواه أبو داود، والترمذي.
[7- الإحتقان من الدبر] نص عليه.
[8- بلع النخامة إذا وصلت إلى الفم] لعدم
المشقة بالتحرز منها، بخلاف البصاق، ولأنها من
غير الفم أشبه بالقيء. وعنه: لا تفطر لأنها
معتادة في الفم أشبه بالريق. قاله في الكافي.
[9 - الحجامة خاصة، حاجماً كان أو محجوماً] نص
عليه. وهو قول علي وابن عباس، وأبي هريرة،
وعائشة، رضي الله عنهم، وبه قال إسحاق، و ابن
المنذر، وابن خزيمة، قاله في الشرح لحديث:
"أفطر الحاجم والمحجوم" رواه عن النبي صلى
الله عليه وسلم، أحد عشر نفساً قال أحمد: حديث
ثوبان وشداد صحيحان. وقال نحوه علي بن
المديني. وحديث ابن عباس - أن النبي صلى الله
عليه وسلم، احتجم وهو صائم رواه البخاري -
منسوخ، لأن ابن عباس راويه كان يعد الحجام
والمحاجم قبل مغيب الشمس، فاذا غابت احتجم
كذلك رواه الجوزجاني.
[10- إنزال المني بتكرار النظر] لأنه إنزال عن
فعل في الصوم يتلذذ به، أمكن التحرز عنه، أشبه
الإنزال باللمس. قاله في الكافي.
[ لا بنظرة ولا بالتفكر] لأنه لا يمكن التحرز
منه. قاله في الكافي.
[ الاحتلام] لأنه ليس بسبب من جهته ولا
باختياره، فلا يفسد الصوم بلا نزاع.
(1/224)
[ ولا بالمذي]
أي لايفسد الصوم بالمذي من تكرار النظر لأنه
ليس بمباشرة.
[11- خروج المني أوالمذي بتقبيل أو لمس
أواستمناء أو مباشرة دون الفرج] لأنه إنزال عن
مباشرة، أشبه الجماع وأما المذي، فلتخلل
الشهوة له وخروجه بالمباشرة، أشبه المني، وحجة
ذلك إيماء حديث عائشة رضي الله عنها كان رسول
الله صلى الله عليه وسلم، يقبل وهو صائم
ويباشر وهو صائم ولكنه كان أملككم لإربه.1
رواه الجماعة إلا النسائي.
[12 - كل ما وصل إلى الجوف أو الحلق أو
الدماغ، من مائع وغيره فيفطر إن قطر في أذنه
ما وصل إلى دماغه، أو داوى الجائفة، فوصل إلى
جوفه، أو اكتحل بما علم وصوله إلى حلقه] 2
لقوله صلى الله عليه وسلم للقيط بن صبرة
"وبالغ في الاستنشاق، إلا أن تكون صائماً"
وهذا يدل على أنه يفسد الصوم إذا بالغ فيه
بحيث يدخل إلى خياشيمه أو دماغه، وقيس عليه ما
وصل إلى جوفه أو دماغه. وروى أبو داود،
والبخاري في تاريخه، عن النبي صلى الله عليه
وسلم، أنه أمر بالإثمد المروح عند النوم،
وقال: ليتقه الصائم وإن شك في وصوله إلى حلقه
لكونه يسيراً، ولم يجد طعمه لم يفطر. نص عليه.
[ أو مضغ علكاً، أو ذاق طعاماً ووجد الطعم
بحلقه] فإن لم يجده بحلقه لم يضره، لقول ابن
عباس: لا بأس أن يذوق الخل الشئ يريد
ـــــــ
1 قال ابن الأثير: أكثر المحدثين يروونه بفتح
الهمزة والراء، يعنون الحاجة، وبعضهم يرويه
بكسر الهمزة وسكون الراء، وله تأويلان.
أحدهما: أنه الحاجة، والثاني: أرادت به العضو،
وعنت به الذكر خاصة.
2 الجائفة: الطعنة التي تنفذ إلى الجوف، وهو
هنا البطن والدماغ.
(1/225)
شراءه. حكاه
عنه أحمد، والبخاري، وكان الحسن يمضغ الجوز
لابن ابنه، وهو صائم. ونقل عن أحمد كراهة مضغ
العلك. ورخصت فيه عائًشة، رضي الله عنها. قاله
في الشرح.
[ أو بلع ريقه بعد أن وصل إلى ما بين شفتيه]
أو بلع ريق غيره أفطر، لأنه بلعه من غير فمه،
أشبه ما لو بلع ماء. قاله في الكافي.
[ ولا يفطر إن فعل شيئاً من المفطرات ناسياً
أو مكرهاً] نص عليه. وبه قال علي، وابن عمر،
لحديث أبي هريرة مرفوعاً: "من نسي وهو صائم،
فأكل أو شرب فليتم صومه، فإنما أطعمه الله
وسقاه" رواه الجماعة إلا النسائي. فنص على
الأكل والشرب. وقسنا الباقي، وقيس المكروه على
من ذرعه القيء. قال معناه في الكافي.
[ ولا إن دخل الغبار حلقه، أو الذباب بغير
قصده ولا إن جمع ريقه فابتلعه] لأنه لم يمكن
التحرز منه. ولا يدخل تحت الوسع، ولا يكلف
الله نفساً إلا وسعها، قال في الشرح: لا يفسد
صومه، لا نعلم فيه خلافاً.
(1/226)
فصل: في من جامع نهار رمضان
...
فصل في من جامع في نهار رمضان
[ ومن جامع نهار رمضان في قبل أو دبر، ولو
لميت أو بهيمة، في حالة يلزمه فيها الإمساك،
مكرهاً كان أو ناسياً لزمه القضاء والكفارة]
لحديث أبي هريرة أن رجلاً قال: يا رسول الله،
وقعت على امرأتي وأنا صائم، فقال رسول الله
صلى الله عليه وسلم: "هل تجد رقبةً تعتقها؟"
قال: لا، قال: "فهل تستطيع أن تصوم شهرين
متتابعين؟" قال: لا، قال: "فهل تجد إطعام ستين
مسكيناً؟" قال: لا، فسكت، فبينا نحن على ذلك،
أتي النبي صلى الله عليه وسلم، بعرق تمر،
فقال: "أين السائل؟ خذ
(1/226)
هذا تصدق به" ،
فقال الرجل: على أفقر مني يا رسول الله ؟!
فوالله ما بين لابتيها - يريد الحرتين - أفقر
من أهل بيتي، فضحك النبي صلى الله عليه وسلم
حتى بدت أنيابه، ثم قال: "أطعمه أهلك" . متفق
عليه. وقال صلى الله عليه وسلم، للمجامع "صم
يوماً مكانه" رواه أبو داود. ويلزمان المكره
والناسي، لأنه صلى الله عليه وسلم، لم يستفصل
المواقع عن حاله.
[ وكذا من جومع، إن طاوع] في وجوب القضاء
والكفارة، لهتك صوم رمضان بالجماع طوعاً،
فأشبهت الرجل، ولأن تمكينها منه كفعل الرجل في
حد الزنى، وهو يدرأ بالشبهة، ففي الكفارة
أولى، وعنه لا تلزمها لأنه صلى الله عليه
وسلم، لم يأمر امرأة المواقع بكفارة.
[ غير جاهل وناس] فلا كفارة عليها، رواية
واحدة. قاله في الكافي لحديث "عفي لأمتي عن
الخطأ والنسيان" رواه النسائي.
[ والكفارة عتق رقبة مؤمنة، فإن لم يجد فصيام
شهرين متتابعين، فإن لم يستطع فإطعام ستين
مسكيناً، فإن لم يجد سقطت عنه، بخلاف غيرها من
الكفارات] للحديث السابق.
[ ولا كفارة في رمضان بغير الجماع والإنزال
بالمساحقة] من مجبوب أو امرأة قياساً على
الجماع، لفساد الصوم، وهتك حرمة رمضان.
(1/227)
فصل في القضاء
[ومن فاته رمضان قضى عدد أيامه] لقوله تعالى:
{فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} 1
ـــــــ
1 البقرة من الآية/184.
(1/227)
[ ويسن القضاء
على الفور] متتابعاً نص عليه. قال في الشرح:
ولا نعلم في استحباب التتابع خلافاً، وحكي
وجوبه عن الشعبي والنخعي انتهى. ولا بأس أن
يفرق، قاله البخاري عن ابن عباس. وعن ابن عمر
مرفوعاً: "قضاء رمضان، إن شاء فرق وإن شاء
تابع" رواه الدارقطني.
[ إلا إذا بقي من شعبان بقدر ماعليه، فيجب]
التتابع لضيق الوقت لقول عائشة: "لقد كان يكون
علي الصيام من رمضان، فما أقضيه حتى يجئ
شعبان" متفق عليه. فإن أخره لغير عذر حتى
أدركه رمضان آخر فعليه مع القضاء إطعام مسكين
لكل يوم. يروى ذلك عن ابن عباس وابن عمر وأبي
هريرة، ولم يرو عن غيرهم خلافهم. قاله في
الشرح.
[ ولا يصح ابتداء تطوع من عليه قضاء رمضان] نص
عليه.
[ فإن نوى صوماً واجباً، أو قضاء ثم قلبه
نفلاً صح] كالصلاة.
[ ويسن صوم التطوع، وأفضله يوم ويوم] لحديث
عبد الله بن عمرو. قال: قال رسول الله صلى
الله عليه وسلم: "أحب الصيام إلى الله تعالى
صيام داود. كان يصوم يوماً، ويفطر يوماً" متفق
عليه.
[ ويسن صوم أيام البيض: وهي ثلاثة عشر، وأربعة
عشر، وخمسة عشر] لقول أبي هريرة أوصاني خليلي
صلى الله عليه وسلم، بثلاث: "صيام ثلاثة أيام
من كل شهر وركعتي الضحى، وأن أوتر قبل أن
أنام" متفق عليه. وعن أبي ذر قال: قال رسول
الله صلى الله عليه وسلم: "يا أبا ذر، إذا صمت
من الشهر ثلاثة أيام فصم ثلاث عشرة، وأربع
عشرة، وخمس عشرة" حسنه الترمذي.
(1/228)
[ وصوم الخميس
والإثنين] لأنه صلى الله عليه وسلم، كان
يصومهما فسئل عن ذلك، فقال: "إن الأعمال تعرض
يوم الإثنين والخميس" رواه أبو داود، وفي لفظ:
"وأحب أن يعرض عملي وأنا صائم" .
[ وستة من شوال] لحديث أبي أيوب مرفوعاً: " من
صام رمضان، وأتبعه ستاً من شوال، فكأنما صام
الدهر" رواه مسلم وأبو داود. قال أحمد: هو من
ثلاثة أوجه عن النبي صلى الله عليه وسلم.
[ وسن صوم المحرم] لحديث أبي هريرة مرفوعاً:
"أفضل الصيام بعد رمضان شهر الله المحرم" رواه
مسلم.
[ وآكده عاشوراء وهو كفارة سنة] لحديث أبي
قتادة عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه قال
في صيام يوم عاشوراء: "إني أحتسب على الله أن
يكفر السنة التي بعده" رواه مسلم.
[ وصوم عشر ذي الحجة] لحديث ابن عباس مرفوعاً:
"ما من أيام العمل الصالح فيهن أحب إلى الله،
من هذه الأيام العشر" رواه البخاري. وعن حفصة
قالت: أربع لم يكن يدعهن رسول الله صلى الله
عليه وسلم: صيام عاشوراء، والعشر، وثلاث أيام
من كل شهر، والركعتين قبل الغداة رواه أحمد
والنسائي.
[ وآكدها يوم عرفة، وهو كفارة سنتين] لحديث
أبي قتادة مرفوعاً: "صوم يوم عرفة يكفر سنتين،
ماضية ومستقبلةً، وصوم عاشوراء يكفر سنةً
ماضيةً" رواه الجماعة، إلا البخاري والترمذي.
ويليه في الآكدية يوم التروية: وهو ثامن ذي
الحجة، لحديث: "صوم يوم التروية كفارة سنة"
الحديث، رواه أبو الشيخ في الثواب وابن النجار
عن ابن عباس مرفوعاً.
(1/229)
[وكره إفراد
رجب] بالصوم، لما روى أحمد عن خرشة بن الحر،
قال: رأيت عمر يضرب أكف المترجبين حتى يضعوها
في الطعام، ويقول: كلوا، فإنما هو شهر كانت
تعظمه الجاهلية وبإسناده عن ابن عمر أنه كان
إذا رأى الناس، وما يعدونه لرجب، كرهه وقال:
صوموا منه وأفطروا.
[والجمعة والسبت بالصوم] لحديث أبي هريرة
مرفوعاً: "لا يصومن أحدكم يوم الجمعة إلا أن
يصوم يوماً قبله أو يوماً بعده" متفق عليه.
وحديث: "لا تصوموا يوم السبت إلا فيما افترض
عليكم" حسنه الترمذي. واختار الشيخ تقي الدين:
أنه لايكره صوم يوم السبت مفرداً، وأن الحديث
شاذ أو منسوخ.
[وكره صوم يوم الشك] تطوعاً لقول عمار من صام
اليوم الذي يشك فيه فقد عصى أبا القاسم صلى
الله عليه وسلم رواه أبو داود والترمذي.
[وهو الثلاثون من شعبان إذا لم يكن غيم أو
قتر] عند أصحابنا.
[ويحرم صوم العيدين] إجماعاً لحديث أبي هريرة
مرفوعاً: نهي عن صوم يومين: يوم الفطر، ويوم
الأضحى متفق عليه.
[وأيام التشريق] لحديث: "وأيام منىً أيام أكل
وشرب" رواه مسلم مختصراً، إلا للمتمتع إذا لم
يجد الهدي، لحديث ابن عمر وعائشة لم يرخص في
أيام التشريق أن يصمن، إلا لمن لم يجد الهدي
رواه البخاري.
[ومن دخل في تطوع لم يجب إتمامه] لحديث عائشة
قلت: يا رسول الله، أهديت لنا هدية، أوجاءنا
رزق، وقد خبأت لك شيئاً، قال: "ما هو؟" قلت:
حيس، قال: "هاتيه" ، فجئت به فأكل، ثم قال:
"قد
(1/230)
كنت أصبحت
صائماً" 1 رواه مسلم. وكره خروجه منه بلا عذر
خروجاً من الخلاف، ولقوله تعالى: {وَلا
تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ} 2
[وفي فرض يجب] إتمامه. ولا يجوز له الخروج بلا
خلاف. قاله في الشرح، لأنه يتعين بدخوله فيه،
فصار كالمتعين، والخروج من عهدة الواجد متعين،
وإنما دخلت التوسعة في وقته رفقاً، فإن بطل
فعليه إعادته.
[مالم يقلبه نفلاً] فيثبت له حكم النفل.
ـــــــ
1 الحيس: هو الطعام المتخذ من التمر والأقط
والسمن.
2 محمد من الآية/33.
(1/231)
|