تعليقات ابن عثيمين على الكافي لابن قدامة

كتاب الحج
القارئ: قال الموفق أبو محمدٍ رحمه الله تعالى في كتاب الكافي كتاب الحج: الحج من أركان الإسلام وفروضه لقول الله تعالى (وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً) ولما روينا فيما مضى وروى مسلم عن أبي هريرة قال: خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال (يا أيها الناس إن الله قد فرض عليكم الحج فحجوا فقال رجلٌ أكل عامٍ يا رسول الله فسكت حتى قالها ثلاثاً فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لو قلت نعم لوجبت ولما استطعتم ثم قال ذروني ما تركتكم).
الشيخ: يقول رحمه الله الحج من أركان الإسلام وهذا بالإجماع لحديث ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال (بُني الإسلام على خمس شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وحج بيت الله الحرام).
وفُرض في السنة التاسعة من الهجرة ولم يحج النبي صلى الله عليه وسلم تلك السنة لسببين:
السبب الأول: أنه كان عام الوفود يفد المسلمون إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في المدينة فكان بقاؤه في المدينة أنفع للمسلمين والإسلام.


والسبب الثاني: أنه في ذلك العام كان المشركون مشاركين للمسلمين في الحج وفيهم من يطوف البيت عرياناً ولهذا نادى أبو بكر في العام التاسع ألا يحج بعد العام مشرك ولا يطوف بالبيت عريان فأراد الله تعالى أن يخلص حجة نبيه للمسلمين خاصة وعلى أكمل ما يكون من الزينة بدون عري ولا تهتك.
والحج اشترط الله تعالى فيه الاستطاعة (مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً)، والاستطاعة شرطٌ في جميع أركان الإسلام لكنه خص الحج لأنه أكبر مشقةً من غيره إذ فيه الأسفار والنفقات والأتعاب البدنية والنفسية لأن السفر قطعة من العذاب أما الصلاة فليس فيها سفر والصيام ليس فيه سفر والزكاة كذلك، ولهذا اشترط الله تعالى الاستطاعة مع أنها شرطٌ في جميع العبادات لكنه ذكرها في الحج لأنه أكبر مشقةً من غيره، ثم إن من نعمة الله أن الحج لا يجب إلا مرة واحدة في العمر بنص الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لو قلت نعم لوجبت ولما استطعتم)
إذا قال قائل إذا كنا لا نستطيع لم يجب علينا الحج وإن كان مكرراً كل عام؟ نقول لما استطعتم باعتبار المجموع لا باعتبار كل فرد لنفرض أن المسلمين كلهم يستطيعون الوصول إلى مكة لكن هل يستطيعون أن يؤدوا الحج وهم مليار مسلم؟ لا ولهذا لا يقال إن قوله (لما استطعتم) ليس لها فائدة لأن أصل وجوب الحج لا يجب إلا على المستطيع بل نقول لها فائدة لأن الإنسان باعتبار الشخص الواحد قد يكون مستطيعاً لكن باعتبار اجتماع الناس في هذا المكان لا يستطاع فلهذا قال (لما استطعتم) ثم قال (ذروني ما تركتكم) إذن الحج لا يجب إلا مرة فما زاد فهو تطوع إلا بالنذر، فالنذر أمرٌ عارض يلزم الإنسان به نفسه فإذا نذر الحج صار واجباً عليه لقول النبي صلى الله عليه وسلم (من نذر أن يطيع الله فليطعه).
القارئ: وتجب العمرة على من يجب عليه الحج، لقول الله تعالى (وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ).


الشيخ: وجه الاستدلال بهذه الآية خفي لأن الآية كما ترون إنما هي في إيجاب الإتمام لمن شرع فيهما لكن يقال إذا تساويا في وجوب الإتمام بعد الشروع فهما متساويان أيضاً في ابتداء الإحرام هذا وجه الدلالة وإلا لو أن أحداً نازع وقال هذه الآية في وجوب الإتمام لا في الوجوب الابتدائي قلنا إذا وجب الإتمام فهذا دليل على أنهما يشتركان في وجوب الابتداء والمسألة فيها خلاف أعني مسألة وجوب العمرة.
القارئ: ولما روى الضبي بن معبد قال (أتيت عمر فقلت إني أسلمت يا أمير المؤمنين وإني وجدت الحج والعمرة مكتوبين علي فأهللت بهما فقال: هديت لسنة نبيك) رواه النسائي.
الشيخ: وجه ذلك أن عمر رضي الله عنه جعلهما من سنة النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم وأقرّه على قوله (مكتوبان علي).
والعمرة اختلف فيها العلماء على ثلاثة أقوال القول الأول أنها فرض واجب على كل أحد ولكن فرضيتها دون فرض الحج والثاني أنها سنة لكل أحد، والثالث واجبة على الآفاقي غير واجبة على أهل مكة، بل إنها غير مشروعة لأهل مكة أصلاً فالأقوال ثلاثة والأقرب والله أعلم أنها واجبة على الجميع وأنها فرضٌ لكن فرضيتها دون فرضية الحج لأنها ليست من أركان الإسلام بخلاف الحج.


القارئ: ويجب ذلك في العمر مرة لحديث أبي هريرة، ولا يجوز لأحدٍ دخول مكة بغير إحرام لما روي عن ابن عباس أنه قال (لا يدخل مكة إلا محرم إلا الحطابين)، إلا أن يكون دخوله لقتالٍ مباح (لأن النبي صلى الله عليه وسلم دخل مكة يوم الفتح وعلى رأسه المغفر) متفقٌ عليه. ودخل أصحابه غير محرمين، أو من يتكرر دخوله كالحطّاب والحشّاش والصيّاد فلهم الدخول بغير إحرام لحديث ابن عباس فإنه استثنى الحطابين وقسنا عليهم من هو في معناهم ولأن في إيجاب الإحرام عليهم حرجاً فينتفي بقوله تعالى (مَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ) فإن دخل من يجب عليه الإحرام بغير إحرام فلا قضاء عليه لأنه لو وجب قضاؤه للزمه الدخول للقضاء قضاءً فلا يتناهى فسقط لذلك.
الشيخ: والصحيح أنه لا يجب في العمر إلا مرة وأنه يجوز دخول مكة لمن أدى الفريضة بلا إحرام ولا دليل على وجوب الإحرام لمن دخل مكة وقد أدى الفرض فالصواب أن الإنسان إذا أدى الفريضة مرة في حجٍ أو عمرة فالباقي تطوع إن شاء أحرم وإن شاء فلا وبناء على هذا القول تسقط التفريعات التي ذكر من استثناء الحطابين والحشاشين وما أشبه ذلك.

فصلٌ
القارئ: ولا يجب الحج والعمرة إلا بشروطٍ خمسة الإسلام والبلوغ والعقل لما تقدّم والحرية والاستطاعة لقول الله تعالى (مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً) فيدل هذا على أنه لا يجب على غير مستطيع والعبد غير مستطيع لأنه لا مال له ومنافعه مستحقة فهذا أعظم عذراً من الفقير.


الشيخ: قوله رحمه الله الإسلام هذا ظاهر والبلوغ ظاهر أنه شرطٌ للوجوب والعقل كذلك فهؤلاء الثلاثة لا يجب عليهم الحج وأما الحرية ففي النفس من هذا شيء وذلك لأن الرقيق إذا أذن له سيده فما المانع من أن نقول إن الحج واجبٌ عليه لدخوله في عموم قوله تعالى (مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً) وهذا مستطيع فلو قال له سيده اصحبنا في الحج سنحج وصحبه فهل نقول إن هذا يسقط عنه الحج لأنه رقيق؟ المذهب نعم نقول إن شاء ذهب معه ورجع بدون إحرام وبدون حج لكن في النفس من هذا شيء والأقرب أنه مستطيع وهو داخلٌ في عموم الناس المذكور في قول الله تعالى (وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً) أما غير المستطيع كالمريض ونحوه فالأمر ظاهر أنه لا حج عليه.
القارئ: وهذه الشروط تنقسم لثلاثة أقسام قسمٌ يشترط للصحة وهو الإسلام والعقل فلا يصح من كافرٍ ولا مجنون لما ذكرنا في الصوم وقسمٌ يشترط للإجزاء وهو البلوغ والحرية لما روى ابن عباسٍ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أيما صبيٍ حج ثم بلغ فعليه حجةٌ أخرى وأيما عبدٍ حج ثم عتق فعليه حجةٌ أخرى) رواه الشافعي والطياليسي في مسنديهما ولأنه فعل العبادة وهو من غير أهل الوجوب فلم يجزئه إذا صار من أهل الوجوب كالصبي يصلي ثم يبلغ في الوقت وإن وجد البلوغ أو العتق في الوقوف بعرفة أو قبله أجزأهما عن حجة الإسلام لأنهما أتيا بالنسك حال الكمال فأجزأهما كما لو وجد ذلك قبل الإحرام وإن وجد بعد الوقوف في وقته فرجعا فوقفا في الوقت أجزأهما أيضاً لذلك وإن فاتهما ذلك لم يجزئهما لفوات ركن الحج قبل الكمال.
الشيخ: هذان الشرطان شرطان للإجزاء وهما البلوغ والحرية فلو حج الصبي أو حج الرقيق فالحج صحيح لكن لا يجزئ عنهم فيجب على الصبي إذا بلغ أن يحج ويجب على الرقيق إذا عتق أن يحج ولكن الصحيح أنه بالنسبة للرقيق ليس بشرط وأنه إذا حجّ في رقه فحجه مجزئ.


القارئ: الثالث شرطٌ للوجوب حسب وهو الاستطاعة فلو تكلف العاجز الحج أجزأه ووقع موقعه لأنه إنما سقط عنه رفقاً به فإذا تحمله أجزأه كما لو تحمل المريض الصلاة قائما لكن إن كان بالحج كلاً على الناس لمسألته إياهم وتثقيله عليهم كُره له لأنه يضر بالناس بالتزام ما لا يلزمه وإن لم يكن كلاً على أحد لقوته على المشي والتكسب بصناعة أو معاونة من ينفق عليه فهو مستحبٌ له لقوله تعالى (يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ) ولأنه التزامٌ للطاعة من غير مضرةٍ لأحد فاستحب كقيام الليل.
الشيخ: والصواب أنه إذا كان يمكنه أن يحج ولو على قدميه لكن دون أن يكون كلاً على الناس فإنه واجب عليه لأنه مستطيع وكما استدل المؤلف رحمه الله بالآية (يَأْتُوكَ رِجَالاً) فإذا كان هذا الرجل قوياً جلداً يستطيع أن يذهب مع الناس ويخدمهم وربما يعطونه أجرة فإنه يلزمه وما الذي يسقطه والآية عامة (مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً) بماله وبدنه.

فصلٌ


القارئ: والاستطاعة في حق البعيد الزاد والراحلة لما روى ابن عمر قال (جاء رجلٌ إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله: ما يوجب الحج؟ قال: الزاد والراحلة) قال الترمذي هذا حديثٌ حسن، ولأنها عبادة تتعلق بقطع مسافةٍ بعيدةٍ فاشترط لوجوبها الزاد والراحلة كالجهاد، والزاد هو ما يحتاج إليه من مأكول ومشروبٍ وكسوةٍ لذهابه ورجوعه، فإن وجد ذلك لذهابه دون رجوعه لم يلزمه الحج لأن عليه في غربته ضرراً ومشقةً وغيبةً عن أهله ومعاشه وإن وجد ما يكفيه لذهابه ورجوعه بثمن مثله في الغلاء والرخص أو بزيادةٍ لا تجحف بماله لزمه وتعتبر القدرة على الماء وعلف البهائم في منازل الطريق على ما جرت به العادة ولا يكلف حمل ذلك من بلده لما فيه من المشقة التي لا يمكن تحملها ويعتبر قدرته على أوعية الزاد والماء لأنه لا يستغني عنها، ويشترط وجدان راحلةٍ تصلح لمثله بشراء أو كراء وما يحتاج إليه من آلتها الصالحة لمثله من محملٍ أو زاملةٍ أو قتب على ما جرت به عادة مثله وما لا يتخوف الوقوع منه ويكون ذلك فاضلاً عما يحتاج إليه لقضاء دينٍ حالٍ ومؤجل ونفقة عياله إلى أن يعود وما يحتاجون إليه من مسكنٍ وخادم لأن هذا واجبٌ عليه يتعلق به حق آدمي فكان أولى بالتقديم كنفقة نفسه وإن احتاج إلى النكاح لخوف العنت قٌدم لأنه واجبٌ لدفع الضرر عن نفسه فأشبه النفقة وإن لم يخف وجب الحج لأنه تطوعٌ فلم يسقط به حج الواجب.


الشيخ: دل كلام المؤلف رحمه الله أنه لا بد أن يكون ما يستطيع به الحج فاضلاً عن نفقته وديونه وقوله حالة أو مؤجلة فيها نظر أما الحال فنعم لأنه يجب عليه قضاؤه فوراً وأما المؤجل فينظر إذا كان يغلب على ظنه أنه عند حلول أجله سوف يوفي فهذا قادر ومن ذلك ما يوجد الآن على كثير من الناس في صندوق التنمية العقارية تجد الإنسان مثلاً عنده بيت بناه من القرض والقرض يحل منه في كل سنة جزءٌ يسير يستطيع وفاءه إذا حل فهل نقول هذا لا يجب عليه الحج مع أنه الآن في يده ما يستطيع به الحج؟ فالمهم أن الحال كما قال المؤلف رحمه الله مقدَّم على الحج لا شك في هذا وأما المؤجل ففيه تفصيل إذا كان الإنسان يعرف من نفسه أنه قادر على وفائه عند حلول أجله وعنده الآن مال يستطيع أن يحج به فإنه يجب عليه الحج لدخوله في عموم قوله (مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً) وإن كان لا يثق من نفسه الوفاء فإنه يبقي هذه الدراهم حتى يأتي موعد الوفاء فيوفي بها.
القارئ: ومن له عقارٌ يحتاج إليه للسكنى أو إلى أجرته لنفقته أو نفقة عياله أو بضاعةٍ يختل ربحها المحتاج إليه لذلك أو آلاتٌ لصناعته المحتاج إليها أو كتب من العلم يحتاج إليها لم يلزمه صرفه في الحج لأنه لا يستغني عنه أشبه النفقة ومن كان ذلك فاضلاً عن حاجته كمن له بكتابٍ نسختان أو له دارٌ فاضلة أو مسكنٌ واسعٌ يكفيه بعضه فعليه صرف ذلك في الحج ومن لم يكن له مالٌ فبذل له ولده أو غيره مالاً يحج به لم يلزمه قبوله.


الشيخ: أما غير الولد فنعم لا يلزمه قبوله لكن لو قبل فلا بأس يعني لو أن صديقاً له أعطاه مالاً يحج به وقبله وحج به فلا حرج وأما إذا بذله ولده فالصحيح أنه يلزمه قبوله ويحج به لأن الولد من الكسب كما جاء في الحديث (إن أولادكم من كسبكم) ولأن الولد لا منَّة له على أبيه فيما يعطيه فانتفى الضرر فالصواب أنه إذا بذله ولده وجب عليه الحج لكن العكس لو بذله الوالد قال يا بُني خذ هذه نفقة الحج حج بها مع زملائك فهل يلزمه؟ الظاهر أنه يلزمه أيضاً لدخوله في قوله (مَنِ اسْتَطَاعَ) ولأنه لا منَّة في ذلك فالحاصل أنه إذا بذل له النفقة من لا منّة له عليه فقد استطاع وأما من يخشى أن يمن عليه ولو في المستقبل فإنه غير مستطيع.
القارئ: وإن بذل له أن يحج عنه أو يحمله لم يلزمه قبوله لأن عليه فيه منّة ومشقة فلم يلزمه قبوله كما لو كان الباذل أجنبياً.
الشيخ: العبارة فيها قلق.

فصلٌ
القارئ: فأما المكي ومن بينه وبين مكة دون مسافة القصر فلا يشترط في حقه راحلة ومتى قدر على الحج ماشياً لزمه لأنه يمكنه ذلك من غير مشقةٍ شديدة.
الشيخ: في كلامه نظر حتى المكي ومن بينه وبين مكة دون المسافة إذا كان لا يستطيع أن يمشي فلا بد من راحلة فلو أن المؤلف رحمه الله جعل المسألة على إطلاقها في كتاب الله وفي سنة رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم لكفى فيقال متى استطاع الإنسان بنفسه أو براحلة أن يحج وجب عليه ومتى لم يستطع لا بهذا ولا بهذا لم يجب وهذا كما أنه في الحج كله فكذلك أيضاً في أجزاء الحج فمن عجز أن يطوف ماشياً طاف راكباً ولهذا لما قالت إحدى أمهات المؤمنين للنبي عليه الصلاة والسلام عند طواف الوداع إنها مريضة قال (طوفي من وراء الناس وأنت راكبة) فأذن لها بالركوب لعجزها عن المشي فعلى هذا من كان من أهل مكة أو بينه بين مكة دون المسافة ولا يستطيع المشي فإنه لا بد أن يكون قادراً على راحلة.


القارئ: وإن عجز عن المشي وأمكنه الحبو لم يلزمه لأن مشقته في المسافة القريبة أكثر من السير في المسافة البعيدة.
الشيخ: صحيح.

فصلٌ
القارئ: واختلفت الرواية في ثلاثة أشياء.
الشيخ: الرواية أي عن الإمام أحمد رحمه الله، فإن قال قائل قد يشكل على طالب العلم ما يرد عن الإمام أحمد من أقوالٍ متعددة في مسألة واحدة فيقال إن تعدد الأقوال عنه رحمه الله في مسألة واحدة يدل على ورعه وعلى سعة علمه وأنه رحمه الله يقول بحسب ما ينتهي إليه وقد أحسن من انتهى إلى ما سمع فيسمع شيئاً ويقول به ثم يسمع شيئاً آخر يكون راجحاً عنده فيقول به قد يكون له في المسألة الواحدة خمس روايات على الأحكام الخمسة وهي مسألة واحدة وأكثر ما سمعت وما يحضرني الآن هو قوله في هلال رمضان إذا كان هناك غيم أو قتر فعنه في ذلك خمس روايات على الأحكام الخمسة وعنه أن الناس تبعٌ للإمام يصومون بصومه ويفطرون بفطره وفي قولٍ سابع في المذهب العمل بعادةٍ غالبة يعني مثلاً إذا مضى شهران كاملة فالثالث ناقص أو بالعكس.
القارئ: واختلفت الرواية في ثلاثة أشياء وهي إمكان المسير وهو أن تكمل الشرائط فيه وفي الوقت سعةٌ يتمكن من السير لأدائه وتخلية الطريق وهو أن لا يكون في الطريق مانعٌ من خوفٍ ولا غيره والمحرم للمرأة.
الشيخ: هذه ثلاثة أشياء الأول إمكان السير أو المسير، والثاني الطريق أن لا يكون فيه موانع أو عوائق والثالث محرم المرأة، هل هذه شرطٌ للوجوب أو للأداء؟ وينبني عليها ما سيذكره رحمه الله.
القارئ: فروي أنها من شرائط الوجوب لا يجب الحج بدونها لأنه لا يستطاع فعله بدونها فكانت شرطاً للوجوب كالزاد والراحلة وعنه أنها شروطٌ للزوم الأداء دون الوجوب لأنها أعذارٌ تمنع نفس الأداء فقط فلم تمنع الوجوب كالمرض وإذا قلنا هي من شرائط الوجوب فمات قبل تحققها فلا شيء عليه كالفقير وإن قلنا هي من شرائط لزوم السعي فقط فاجتمعت فيه الشرائط الخمس حُجَ عنه كالمريض.


الشيخ: هذا ما يترتب على القول بأنها شرطٌ للوجوب أو في لزوم الأداء فإذا ماتت المرأة وهي غنية وقادرة على الحج بنفسها ولكن لم تجد محرماً ثم ماتت فهل يحج عنها من مالها ويكون الحج ديناً في مالها أو لا؟ إن قلنا إن وجود المحرم شرطٌ للوجوب فإنه لا يحج عنها لأن الحج لم يجب عليها، وإن قلنا إنه شرطٌ للزوم الأداء وجب أن يحج عنها لأن الأداء في حقها الآن تعذر لأنها ماتت فيحج عنها وهذه المسألة ليست هينة ولا يقال إذن نحج عنها فالأمر سهل، لأنه قد يكون خلفها من الورثة من هو قاصر إما مجنون أو صغير أو ما أشبه ذلك فلا يمكن أن نأخذ من تركتها شيئاً إذا قلنا إن هذا شرطٌ للوجوب هذا ما يترتب على هذه المسألة.
كذلك أيضاً لو أن الإنسان أغناه الله تعالى قبل الحج بخمسة أيام ولا يدرك الوصول إلى مكة إلا بعشرين يوماً ثم مات هل يقضى عنه أو لا؟ على القول بأنه شرطٌ للوجوب لا يقضى عنه لأنه لم يجب عليه، وعلى القول بأنه شرطٌ للزوم الأداء يقضى عنه.
والذي يظهر لي والله أعلم أنها شرطٌ للوجوب وذلك لأنه لا يستطيع إما حساً وإما شرعاً وإما وقتاً أما شرعاً فمثل المحرم للمرأة، وأما وقتاً فكما لو تمت شروط الوجوب في زمنٍ لا يتمكن فيه من الوصول إلى مكة، وأما حساً فكما لو كان في الطريق ما يعوقه ويمنعه من الوصول إلى مكة فالصواب أنها شرطٌ للوجوب.


القارئ: وإمكان السير معتبرٌ بما جرت به العادة فلو أمكنه السير بأن يحمل على نفسه ما لم تجري به عادةٌ لم يلزمه لأن فيه مشقةً وتغريراً وتخلية الطريق عبارةٌ عن عدم الموانع فيها بعيدةً كانت أو قريبة، براً أو بحراً الغالب السلامة فيه فإن لم يكن الغالب السلامة لم يلزمه كالبر إذا كان فيه مانع فإن كان الطريق آمناً لكنه يحتاج إلى خفارةٍ كثيرةٍ لم يلزمه الأداء لأنه كالزيادة على ثمن المثل في شراء الزاد وإن كانت يسيرة فقال ابن حامد يلزمه لأنها غرامةٌ ممكنة يقف الحج على بذلها فلزمته كثمن الزاد. وقال القاضي لا يلزمه لأنها رشوةٌ في الواجب فلم تلزمه كسائر الواجبات.
الشيخ: الخفارة هي ما يؤخذ على الإنسان لحمايته وكان في الأول القبائل منتشرة في الطرق ومن القبائل قومٌ قطاع طريق إذا مر المسافر أخذوا ماله ويأتي أحدٌ من هذه القبيلة ويقول للراكب أنا أحميك منها بشرط أن تعطيني كذا وكذا، فإذا مر بالقبيلة وعدوا عليه صاح الخفير وقال دونكم أنا فلان بن فلان فإذا عرفوا أنه منهم تركوا المسافر وهذه تسمى خفارة لأنها تعطى للخفير الذي يمنع من العدوان على هذا الرجل، فهل الخفارة مانعة من الوجوب؟ ذكر المؤلف رحمه الله أنه إذا كانت كثيرة فإنها تمنع الوجوب وإذا كانت يسيرة ففيها قولان قول ابن حامد وقول القاضي والصواب أنها لا تمنع الوجوب إذا كان قادراً عليها لأنها من نفقات السفر فإذا كان قادراً عليها فإنها لا تمنع وجوب الحج قليلةً كانت أو كثيرة. وقول القاضي رحمه الله لأنها رشوة في الواجب فيقال ليست هذه رشوة لكنها دفع ظلمٍ عن نفسه، والرشوة التي ورد النهي عنها ما قصد بها إبطال الحق أو إحقاق الباطل وأما ما قُصد به دفع الظلم فهذا ليس برشوة بل هو حرامٌ على الآخذ جائزٌ للمعطي فتعليل القاضي رحمه الله عليل.
السائل: ما حكم الخفارة؟


الشيخ: الخفارة حرام إلا إذا كان متيقناً أنه سيعدى عليه فإذا تيقنا ذلك وقال أنا أحميك فهذه مثل الأجرة.
السائل: لو أن المرأة بذلت مالاً لمحرمها ليحج بها فأبى فهل يكون آثماً؟
الشيخ: لا يكون آثماً لكن لو فُرض أن المحرم لم يؤد الفريضة وقالت أنا أعطيك مالاً تكون لي محرماً وتحج فهل يلزمه أن يحج الآن لأنه قادر أو لا يلزمه؟ يحتمل أن يلزمه ذلك لأنه الآن قادر ولا منّة لأحدٍ عليه وهو يأخذ أجرة كالجمَّال.
فصلٌ
القارئ: فأما السلامة وكونه على حالٍ يمكنه الثبوت على الراحلة فهو شرطٌ للزوم الأداء خاصة فإن عدم ذلك لمرضٍ لا يرجى برؤه أو كبر أقام من يحج عنه ويعتمر لما روى أبو رزينٍ أنه أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: (يا رسول الله إن أبي شيخٌ كبيرٌ لا يستطيع الحجَّ ولا العمرة ولا الظعن قال: حج عن أبيك واعتمر) وهو حديثٌ حسن.
الشيخ: في هذا الحديث دليل على وجوب العمرة لأنه قال لا يستطيع الحج ولا العمرة قال حج عن أبيك واعتمر وقد ثبت أن القول الراجح وجوب العمرة لكن وجوبها أقل تأكداً من وجوب الحج.
القارئ: فإن برئ بعد أن حج عنه فلا حج عليه لأنه أتى بما أمر به فخرج عن عهدته كما لو لم يبرأ.
الشيخ: هذا فيه فائدة عظيمة وهو أن الإنسان إذا أبرأ ذمته من العبادة سقطت ولها صور منها هذه المسألة، إذا أقام من يحج عنه ويعتمر بناءً على أن مرضه لا يرجى برؤه فحج عنه ثم شفاه الله فإنه لا يلزمه الحج مرةً ثانية لأن ذمته برئت ومثل ذلك المريض الذي قيل له إن المرض لا يرجى زواله فأطعم عن الصيام ثم شفاه الله وعافاه وصام من السنة الثانية فلا يلزمه قضاء السنة التي سبقت لأن ذمته برئت.


القارئ: وإن كان مرضه يرجى زواله لم يجز أن يستنيب لأنه يرجو القدرة فلم تكن له الاستنابة كالصحيح الفقير فإن استناب ثم مات لم يجزئه ووجب الحج عنه لأنه حُج عنه وهو غير ميئوس منه فلم يجزئه الحج كما لو برئ، وهل يجوز لمن يمكنه الحج بنفسه أن يستنيب في حج التطوع فيهما روايتان إحداهما يجوز لأنها حجةٌ لا يلزمه أداؤها فجاز له الاستنابة فيها كالمعضوب والثانية لا يجوز لأنها عبادةٌ لا تجوز الاستنابة في فرضها فلم تجز في نفلها كالصلاة.
الشيخ: وهذا أقرب من حيث مراعاة التعبد لله فهذا رجل قادر على أن يحج بنفسه فأعطى من يحج عنه فيقال كيف يصح هذا وهل العبادة سلعة تباع وتشترى؟ لا، العبادة تعبّد لله عز وجل بتعظيمه ومحبته والتقرب إليه فإما أن تفعلها بنفسك وإما أن لا تنيب غيرك وهذا القول أقرب إلى الصواب لأنه كما لا يجوز للإنسان أن يقول لإنسان توضأ عني صلِّ عني كذلك لا يقول تطوع، فإذا قال قائل هذا رجلٌ ثري ويحب أن يشارك الناس في الحج ولكنه لا يريد أن يحج بنفسه نقول يعطي من ماله من يريد الحج وهو إذا أعان حاجاً فقد حج كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في الغازي أن من أعانه فقد غزا فنقول يا أخي هذه الدراهم التي تريد أن تبذلها لإنسان ليقوم عنك بالحج أعطها هؤلاء الفقراء الذين لم يؤدوا فريضة الحج وهو أفضل لك.

فصلٌ
القارئ: ومن كملت الشرائط في حقه لزمه الحج على الفور ولم يجز له تأخيره لما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال (من أراد الحج فليتعجل فإنه قد يمرض المريض وتضل الضالة وتعرض الحاجة) رواه ابن ماجة، وعن عليٍ رضي الله عنه قال (قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من ملك زاداً وراحلةً تبلّغه إلى بيت الله ولم يحج فلا عليه أن يموت يهودياً أو نصرانياً) رواه الترمذي ولأنه أحد أركان الإسلام فلم يجز تأخيره إلى غير وقت كالصيام.


الشيخ: هذا الفصل خلاصته أنه يجب على من تمت الشروط بحقه أن يبادر بالحج وأتى المؤلف بأدلةٍ فيها ضعف، أثر علي والأثر الآخر أظنه عن ابن عباس لكنه أيضاًَ فيه ضعف، وقد اختلف العلماء في هذه المسألة هل يجب الحج على الفور إذا تمت الشروط أو لا؟ الصحيح أنه واجب على الفور وأنه لا يجوز التأخير لعموم الأدلة الدالة على وجوب فعل المأمور فوراً ولأنه قد تعرض عوارض تمنعه من الحج.

فصلٌ
القارئ: وحج الصبي صحيح لما روى ابن عباسٍ قال (رفعت امرأة صبياً فقالت يا رسول الله: ألهذا حج؟ قال: نعم ولك أجر) رواه مسلم، والكلام فيه في أربعة أمور أحدها في إحرامه إن كان مميزاً أحرم بإذن وليه ولا يصح بغير إذنه لأنه عقدٌ يؤدي إلى لزوم مالٍ فلم ينعقد منه بنفسه كالبيع وإن كان غير مميزٍ أحرم عنه وليه الذي يلي ماله ومعنى إحرامه عنه عقده الإحرام له فيصير الصبي بذلك محرماً دون الولي كما يعقد له النكاح فلذلك صح أن يحرم عنه الولي محلاً كان أو محرماً ممن حج عن نفسه وممن لم يحج فإن أحرمت عنه أمه صح في ظاهر كلام أحمد لأنه قال يحرم عنه أبواه وهو ظاهر حديث ابن عباس وقال القاضي: لا يصح لعدم ولايتها على ماله وفي سائر عصباته وجهان بناءً على القول في الأم فأما الأجنبي فلا يصح إحرامه عنه وجهاً واحداً.
الشيخ: حج الصبي صحيح ودليله واضح صريح حديث ابن عباسٍ رضي الله عنهما (أن امرأةً رفعت صبياً إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: ألهذا حج؟ فقال: نعم ولك أجر).


وأما الإحرام فإن كان مميزاً أحرم بنفسه والمميز من بلغ سبع سنوات وقيل من يفهم الخطاب ويرد الجواب وإن لم يبلغ سبع سنوات، وإذا لم يفهم الخطاب ولم يرد الجواب فليس بمميز ولو بلغ ثمانية سنوات وهذا هو الصحيح لكن الغالب أن السبعة يكون بها التمييز ولهذا قال النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم: (مروا أبناءكم بالصلاة لسبع) فإذا كان مميزاً أحرم بنفسه فيقول له وليه أحرم بعمرة أو بحج وإن كان غير مميز عقد له وليه الإحرام.
من الولي؟ الولي هو الذي يلي ماله وهو الأب أو وصيه أو الحاكم وقيل الولي من يتولى أمره من أبٍ أو أمٍ أو عمٍ أو خالٍ أو غير ذلك فإذا أعطي الصبي خاله يسافر به معه إلى مكة فهذا وليه وهذا القول هو الراجح لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال للمرأة التي قالت: ألهذا حج؟ قال: (نعم ولك أجر) فكل من يتولاه في هذه السفرة فهو وليه فيحرم عنه أي ينوي أن هذا الصبي صار محرماً لا أن ينوي أنه هو أحرم عن الصبي لأن هذا لا يستقيم لكن ينوي أن هذا الصبي دخل في الإحرام وإذا فعل ذلك انعقد إحرام الصبي.
القارئ: الثاني أن ما قدر الصبي على فعله كالوقوف بعرفة ومزدلفة فعليه فعله وما لا يمكنه فعله كالرمي فعله الولي عنه، لما روى جابرٌ رضي الله عنه قال (كنا إذا حججنا مع النبي صلى الله عليه وسلم لبينا عن الصبيان ورمينا عنهم) رواه ابن ماجة وإن أمكنه المشي وإلا طيف به محمولاً فقد روى الأثرم عن أبي أسحاق أنَّ أبا بكرٍ الصديق رضي الله عنه طاف بابن الزبير في خرقة ولا يرمي عن الصبي إلا من أسقط فرض الرمي عن نفسه.
الشيخ: وظاهر كلام المؤلف رحمه الله أنَّ الصبي إذا أحرم يلزمه حكم الإحرام فيفعل كل ما يقدر عليه من واجبات الحج كالوقوف بعرفة ومزدلفة والمبيت في منى وما يعجز عنه يقوم به الولي كالرمي وما لا يمكن فعله بنفسه ولكن بحمله يحمل كالطواف والسعي فعلى هذا تكون الأفعال ثلاثة:
الأول ما يفعله بنفسه كالوقوف.


والثاني ما يفعله محمولاً كالطواف والسعي.
والثالث ما يفعل عنه كالرمي.
وقال أبوحنيفة وأصحابه لا يلزمه أحكام النسك بالتزامها وله أن يرفض الإحرام ويتخلص قال في الفروع وهذا متوجه لأنه ليس أهلاً للالتزام وعلى هذا فيجوز رفض الإحرام ولا يلزم بشيء فإذا عنّ للصبي وهو محرم أن يتخلّص وقال والله ما أنا بجالس بإزار ورداء أريد الثياب فعلى مذهب أبي حنيفة وما اختاره صاحب الفروع نقول لابأس نخلع ثياب الإحرام ونلبسه ثيابه وكذلك لو تضايق من الطواف هذا في الحقيقة قولٌ قوي لأن الصبي ليس أهلاً للالتزام والدليل على هذا أن العلماء رحمهم الله قالوا إنه لا يصح نذر الصبي لأنه ليس أهلاً للالتزام فلو نذر الصبي الذي دون البلوغ أن يصلي ركعتين لم يلزمه أن يصلي لأنه ليس أهلاً لذلك، وهذا هو الذي نفتي به أي أن الصبي لا يلزم بإكمال النسك ولا يترتب على فعله المحظور شيءٌ أبداً لأنه غير مكلف وليس أهلاً للالتزام وهو الذي في أوقاتنا هذه لا يسع الناس العمل إلا به لأنهم يحرمون بهم من الميقات يريدون الخير والأجر ولكن تؤذيهم الصبيان فإذا قلنا بهذا القول صار فيه سعةًُ للناس.
القارئ: الثالث أنَّ ما فعله من محظورات الإحرام إن كان مما يفرق بين عمده وسهوه فلا فدية فيه لأن عمد الصبي خطأ وإن كان مما يستوي عمده وسهوه كجزاء الصيد ونحوه ففيه الفدية وفي محلها روايتان إحداهما تجب في مال الصبي لأنه واجبٌ بجنايته فلزمه كجنايته على آدمي والثانية تجب على وليه لأنه أدخله في ذلك وغرَّر بماله.


الشيخ: الثالث جناية الصبي في الإحرام إن كان مما يفرق بين عمده وخطئه وسهوه وذكره فإنه لا شيء عليه مثل لبس المخيط، والطِيْب وأما إذا كان مما لا يفرق كجزاء الصيد فإنه تلزمه الفدية ولكن الصحيح أنه لا يفرق في محظورات الإحرام هذا التفريق وأن جميع محظورات الإحرام إذا فعلها الإنسان جاهلاً أو ناسياً أو مكرهاً فلا شيء عليه أعلاها الجماع في الحج قبل التحلل الأول وأدناها الطِيْب وشبهه فالصواب أن جميع المحظورات لا فرق بينها إذا فُعلت جهلاً أو نسياناً أو إكراهاً لم يترتب على فعلها شيءٌ إطلاقاً لا فدية ولا فساد نسك ولا غيرها، لعموم الأدلة (رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا) ولقوله تعالى في الصيد (وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّداً) فمفهومه أن غير المتعمد لا شيء عليه وهو الصواب وبناءً على ذلك نقول لا شيء على الصبي في فعل محظورات الإحرام كلها لأنه لا قصد له وليس أهلاً للالتزام.
القارئ: وإن وطئ الصبي أفسد حجه ووجبت الفدية ويمضي في فاسده وعليه القضاء إذا بلغ وهل يجزئه القضاء عن حجة الإٍسلام ينظر فإن كانت لو صحت أجزأت وهو أن يبلغ في وقوفها أو قبلها أجزأ القضاء أيضاً وإلا فلا.
الشيخ: وعلى القول الذي رجحناه إذا وطئ فلا شيء عليه لكن على كل حال هذا قريب من الفرض صبي ذو سبع سنين أو ثمان سنين يطأ في حج لكن فرض المسائل تمرين للذهن.
القارئ: الرابع أن ما يلزمه من النفقة بقدر نفقة الحضر فهو في ماله لأن الولي لم يكلّفه ذلك وما زاد ففي محله روايتان كالفدية سواء.


الشيخ: هذا صحيح ما زاد عن نفقة الحضر فإنه يكلف الصبي زيادة لكن إذا قيل إذا كان لا يمكن أن يبقى الصبي في الحضر وأن سفره مع وليه أمر ضروري فينبغي أن يقال تجب النفقة على كل حال في مال الصبي لأن السفر به من مصلحته وضرورته فلو كان عند الإنسان يتيمٌ لأخيه وأراد الحج بأهله فهنا لا يمكن أن يبقى اليتيم في البيت وحده لا بد من سفره به فإذا زادت النفقة على نفقة الحضر بأن كان نفقته بالحضر الشهر خمسمائة ريال وفي سفر الحج تكلف ألف وخمسمائة هذه الألف أتكون على عمه؟ أو في ماله؟ الصحيح أنها تكون في ماله لأن سفره به من ضرورته ومصلحته، أما إذا لم يكن هناك ضرورة ولا مصلحة ولكن استصحبه لأن الولد صاح لما رأى أولاد وليه سيسافرون وقال نأخذه معنا فهنا ما قاله المؤلف وجيه أنَّ ما زاد على نفقة الحضر فهو في مال الولي.
مسألة: الجراد في الحرم يجب أن يمنع الولي الصبي من صيده لكن في غير الحرم إذا قلنا بأن الصبي لا يلزم بمقتضيات الإحرام فلا يلزمه.
إذا صاد الصبي في الحرم فإن كان الصبي ليس له اختيار فلا شيء عليه وإن كان له اختيار فيقال إنه يلزم بفدية الصيد لإمكان منعه وقد يقال لا لأن هذا الصبي ليس من أهل الوجوب هذا على القول الذي رجحناه أما على المذهب فيجب على كل حال.

فصلٌ في حج العبد
القارئ: وهو صحيحٌ لأنه من أهل العبادات فصح حجه كالحر والكلام فيه في أربعة أمور:


أحدها أنه إن أحرم صح إحرامه بإذن سيده وبغير إذنه لأنها عبادةٌ بدنية فصحت منه بغير إذن سيده كالصلاة فإن أحرم بإذن سيده لم يجز تحليله لأنها عبادةٌ تلزم بالشروع فلم يملك تحليله إذا شرع بإذنه كقضاء رمضان وإن أحرم بغير إذنه فقال أبو بكر لا يملك تحليله لذلك وقال ابن حامد له تحليله وهو أصح لأن حق السيد فيه ثابتٌ لازم فلم يملك العبد إبطاله بما لا يلزمه كالاعتكاف فإن أذن له ثم رجع قبل إحرامه فهو كمن لم يأذن فإن لم يعلم العبد رجوعه حتى أحرم ففيه وجهان بناءً على الوكيل هل ينعزل بالعزل قبل علمه به على روايتين.
الشيخ: حج العبد صحيح لأنه من أهل العبادات وسبق أن القول الراجح في حج العبد أنه مجزئ:
أولاً إذا أحرم بإذن سيده هذا واضح أن إحرامه صحيح وليس بآثم، وإن أحرم بغير إذنه فهذا له صور:
الصورة الأولى أن يمنعه من الإحرامٍ، فإذا استأذنه أن يحج قال لا تحج فحج فهنا إحرامه غير صحيح لأن سيده منعه.
الثاني أن يأذن له كأن يستأذن أن يحج فيقول نعم حج فهذا يصح إحرامه ولا إشكال فيه.
الثالث أن لا نعلم هل أذن أو لا؟ فهذا محل الخلاف الذي ذكره المؤلف رحمه الله هل يصح إحرامه أو لا؟ والصحيح أنه يصح لكن لسيده تحليله ومعنى تحليله أن يقول أبطل النسك وتحلل منه ولكن هل الأولى أن يبقيه أو يحلله؟ الأولى أن يبقيه لا شك لأنه سيلحقه حرج إذا حلله.


وإذا أذن له ثم رجع فإن علم العبد برجوعه قبل أن يحرم فإحرامه غير صحيح وإن لم يعلم حتى أحرم فهل له تحليله أم لا وهو مبنيٌ على القول بعزل الوكيل هل ينعزل قبل علمه بالعزل أو لا ينعزل إلا بعد علمه؟ الصحيح أنه لا ينعزل إلا بعد علمه لأن تصرفه مبنيٌ على أصل والأصل بقاء ماكان على ماكان مثاله في الوكيل وكلتك أن تبيع هذا البيت وبقي البيت معك على أنك ستبيعه ثم إني عزلتك وبعد أن عزلتك وأثبت ذلك بشهود بعته أنت قبل أن تعلم بعزلي إياك فهل يصح البيع؟ الصحيح أنه يصح البيع إذا ثبت أن هذا الوكيل لم يعلم وقيل لا يصح البيع بناءً على أنه ينعزل قبل العلم بالعزل والله أعلم.
القارئ: الثاني إذا نذر العبد الحج انعقد نذره لأنه مكلف فانعقد نذره كالحر فإن كان بإذن سيده لم يملك منعه من الوفاء به لأنه أذن في التزامه وإن كان بغير إذنه فله منعه ذكره ابن حامد وقال القاضي لا يجوز لأن تجويز ذلك يفضي إلى تمكينه من التسبب في إبطال حق سيده ومتى عتق فعليه الوفاء به ولا يفعله إلا بعد حجة الإسلام.
الشيخ: لكن كيف يتصوّر أن يأذن السيد لعبده في النذر؟ يتصوّر إذا قال مثلاً العبد لسيده أنا أريد أن أجعل نذراً على نجاحي في كذا فقال لله عليّ نذر إن نجحت أن أحج وقد أذن له سيده في ذلك مع أن النذر مكروه وبعض العلماء حرمه لأن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم (نهى عنه) وقال (إنه لا يأتي بخير) وقال (إنه لا يرد شيئاً) وقال (إنه لا يقدم شيئاً ولا يؤخره) كل هذا ثابتٌ في الصحيح وصدق الرسول عليه الصلاة والسلام أن الله تعالى إذا أراد قضاءً قضاه سواءً نذرت أم لم تنذر لكن هذا النذر يستخرج الله به منك لأنك بخيل أو يستخرج الله به عبادة لأنك لا تفعل العبادات ولهذا ما أكثر الذين يندمون إذا نذروا ثم يأتون إلى أبواب العلماء فيقولون خلصونا.


القارئ: الثالث أن ما جنى العبد مما يوجب الفدية فعليه فديته بالصيام فقط لأنه كالمعسر وأدنى منه فإن ملّكه السيد هدياً وأذن له في الفدية به وقلنا إنه يملك فعليه الفدية به وإلا ففرضه الصيام وإن تمتع أو قرن بإذن سيده فهدي التمتع والقران عليه لأن النسك له فكانت الفدية عليه كالزوجة إذا فعلته بإذن زوجها وقال القاضي هو على سيده لأنه بإذنه.
الشيخ: ولكن إذا قلنا إنه عليه وهو لا يملك فإنه يعدل إلى الصيام لقوله تعالى (فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ) والفدية كما قال ما فيها إلا الصيام لكن إذا ملّكه سيده فالصحيح أنه يجب عليه أن يفديه بالمال.
القارئ: الرابع أن العبد إذا وطئ أفسد حجه وعليه المضي في فاسده ويصوم مكان البدنة ثم إن كان الإحرام مأذوناً فيه لم يكن لسيده تحليله منه وإن لم يكن مأذوناً فيه فله تحليله لأن هذا الإحرام هو الذي كان صحيحاً فحكمه في ذلك حكمه.

فصلٌ في حج المرأة
القارئ: في حج المرأة ثلاثة أمور أحدها أنه لا يحل لها السفر إليه بغير محرم لما روى أبو هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (لا يحل لامرأةٍ تؤمن بالله واليوم الآخر أن تسافر مسيرة يوم إلا ومعها ذو محرم) متفقٌ عليه.


الشيخ: ليت المؤلف رحمه الله أتى بحديث عبد الله بن عباس رضي الله عنهما (أنه سمع النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم يخطب يقول: لا تسافر امرأةٌ إلا مع ذي محرم) بدون قيد لأنه أعم، فإن قال قائل (لا تسافر امرأةٌ إلا مع ذي محرم) مطلق وحديث أبي هريرة الذي معنا مقيد بمسيرة يوم؟ فالجواب على هذا أن التقييدات الواردة في ذلك مختلفة فدل هذا على أن القيد في كل واحدٍ منها ليس مقصوداً وأن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر ذلك إما بناءً على الغالب وإما بناءً على سؤال السائل أو ما أشبه ذلك فالمهم أنه لما اختلفت القيود تعارضت فتساقطت فوجب الأخذ بالمطلق وهو أن كل ما يسمى سفراً فإن المرأة لا يحل لها أن تسافر إلا مع ذي محرم وهذا القول هو الراجح، أما إذا قلنا (مسيرة يوم إلا ومعها ذو محرم) فهل نقيد اليوم بالزمن؟ أو بالمسافة التي تكون في اليوم في ذلك الوقت في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم؟ إن قلنا بالأول صار يمكن أن تسافر لأمريكا بدون محرم من المملكة لأنها تقطعه في يوم بل في أقل وإذا قلنا بالثاني وهو المراد مسيرة يوم بحسب السير في عهد الرسول عليه الصلاة والسلام صار هذا دليلاً على مسألة مهمة وهي أن السفر شرعاً لا يتقيد بيومين كما هو المعروف عند أكثر العلماء أن السفر الذي تقصر فيه الصلاة ويحل فيه الفطر ويمسح فيه ثلاثة أيام في الخف هو ما بلغ يومين فإن هذا الحديث يدل على أن مسيرة يوم تعتبر سفراً وهذا القول هو الراجح أن السفر معتبرٌ بما يعد سفراً عند الناس.
القارئ: والمحرم زوجها أو من تحرم عليه على التأبيد بنسب أو بسببٍ مباح كأبيها أو أخيها من نسبٍ أو رضاع.


الشيخ: قوله من تحرم عليه على التأبيد احترازاً ممن تحرم عليه إلى أمد فإنه ليس محرماً لها كالمعتدة، أما أخت الزوجة وعمتها وخالتها فليست حراماً عليه والمحرم هو الجمع فالله عز وجل لما قال (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ) قال (وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْن) ولم يقل وأخوات نسائكم قال (وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْن) ولهذا من قال إن أخت الزوجة حرام على الزوج فهو خلاف عبارة القرآن بل المحرم الجمع، إذن مثال المحرم إلى أمد المعتدة (وَلا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكَاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ).
قوله بنسب أي بقرابة وهم الأصول والفروع وفروع الأب الأدنى وإن نزلوا وفروع الأب الأعلى دون من نزل منهم فإن فروع الأب الأدنى هم الإخوان والأخوات وإن نزلوا أما فروع الأب الأعلى فهم الأعمام أعمامك أعمام أبيك أعمام جدك هؤلاء هم المحرمون أما من نزل منهم فلا ولهذا أبناء العم وأبناء الخال ليسوا من المحارم هذا الضابط فيمن يحرم من النسب وقوله أو سببٍ مباح السبب المباح الرضاع والمصاهرة فالرضاع بيّن النبي عليه الصلاة والسلام من يحرم فيه فقال (يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب)، المصاهرة تتعلق بأربعة هم أصول الزوج وفروعه، وأصول الزوجة وفروعها دون حواشي الزوج ودون حواشي الزوجة.
أصول الزوج وفروعه حرامٌ على الزوجة نفسها فقط فلا يجوز للمرأة أن تتزوج بأحدٍ منهم كأبي زوجها أو ابن زوجها ويثبت التحريم بمجرد العقد.


أصول الزوجة وفروعها حرام على الزوج خاصة لكن فروعها يشترط فيهم الدخول بالمرأة أي الجماع فلو عقد على امرأةٍ ثم طلقها قبل الدخول صارت أمها محرماً له وبنتها غير محرم لأنه لم يدخل بها إذن أصول الزوج وفروعه وأصول الزوجة يثبت فيهم التحريم بمجرد العقد أما فروعها فلا يثبت إلا بالدخول، وقوله أو سببٍ مباح احترازاً من السبب المحرم مثل الملاعنة فإنها حرامٌ على الملاعن على التأبيد لكن سبب التحريم محرم وهو رمي الزوجة بالزنا وكذلك بنت المزني بها على القول بأنها حرام لكن الصحيح أن بنت المزني بها وأم المزني بها ليست حراماً على الزاني إذا تاب لأن أم المزني بها ليست من أمهات نسائنا وبنتها ليست من ربائب نسائنا ومن ألحق السفاح بالنكاح فقد أبعد، وأبعد منه مَن ألحق اللواط بالنكاح وقال أم الملوط به حرامٌ على اللائط وكذلك بنته حرامٌ على اللائط وهذه أقوال كلها ضعيفة لا شك لأنها حرام فلا تثبت شيئاً.
القارئ: كأبيها وأخيها من نسبٍ أو رضاع وربيبها ورابها وأما عبدها فليس بمحرمٍ لها لأنها تحل له إذا عتق وليس بمأمون عليها ومن حرمت عليه بسببٍ محرمٍ كالزنا أو وطء الشبهة فليس بمحرم لأن تحريم ذلك بسببٍ غير مشروع فأشبه التحريم باللعان ونفقة المحرم عليها لأنه من سبيلها فكان عليها نفقته كالراحلة ولا يلزمه الخروج معها إلا أن يشاء لأنه تكلفٌ شديد لم يلزمه لأجل غيره كالحج عن الغير.
الشيخ: هذا هو الصحيح أنه لا يلزمه أن يسافر معها أي المحرم حتى لو بذلت النفقة لأننا لو قلنا بالوجوب للزم تأثيمه إذا تخلف فيكون ممن وزر وزر أخرى فالصحيح أنه لا يجب.
القارئ: وإن مات المحرم في الطريق مضت إن كانت قد تباعدت وإن كانت قريبةً رجعت وإن حجت امرأةٌ بغير محرمٍ أساءت وأجزأها حجها كما لو تكلف رجلٌ مسألة الناس وحج.


الشيخ: هذا هو الأقرب أنها إذا حجت بلا محرم فهي آثمة وحجها صحيح ولكن هل تترخص برخص السفر؟ لا تقصر الصلاة ولا تفطر في رمضان ربما تكون بلادها بعيدة وتسافر من قبل رمضان وكذلك أيضاً لا تمسح على الخفين ثلاثة أيام لأن هذا سفر محرم وقد سبق أن بعض العلماء يقول إن السفر تستباح به الرخص وإن كان محرماً وسبق ذكر الخلاف فيه.
القارئ: الثاني أنه ليس للرجل منع زوجته من حج الفرض لأنه واجبٌ بأصل الشرع فأشبه صوم رمضان ويستحب لها استئذانه جمعاً بين الحقين وله منعها من حج التطوع لأن حقه ثابتٌ في استمتاعها فلم تملك إبطاله بما لا يلزمها كالعبد.
الشيخ: هذا القياس غريب هنالك دليل أوضح من هذا وأبين وهو أن النبي صلى الله عليه وسلم قال (لا يحل لامرأةٍ تؤمن بالله واليوم الآخر أن تصوم وزوجها شاهد إلا بإذنه) وأيهما أشد منعاً من الاستمتاع الصوم أو السفر للحج؟ لا شك أنه السفر للحج فلو أن المؤلف استدل بهذا الحديث لكان أولى من هذا القياس الذي قد ينازع فيه فالحاصل أنه لا يحل لها أن تتطوع بعمرةٍ أو حج إلا بإذن زوجها أما إذا وجب عليها الحج فريضة فإنها تحج ولو أبى الزوج لأنه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق.
القارئ: فإن أحرمت به فحكمها حكم العبد على ما فصّل فيه. الثالث أنها ليس لها الخروج للحج في عدة الوفاة لأنها واجبةٌ في المنزل تفوت فقدمت على الحج الذي لا يفوت فإن مات زوجها في الطريق بعد تباعدها مضت في سفرها لأنه لا بد من سفر فالسفر الذي يحصل به الحج أولى وإن كانت قريبةً رجعت لتقضي العدة في منزلها.
مسألة: الحج بالخادمات لاشك أنَّ سفرها معهم ومصاحبتها لهم أسلم لها من أن تبقى في البيت وحدها أو أن تعطى أحداً من الجيران أو الأقارب فلذلك نحن نفتي بأنها تذهب معهم للعمرة والحج إذا لم يبق أحدٌ في البيت.

فصلٌ


القارئ: ومن وجب عليه الحج فمات قبل فعله وجب الحج عنه لما روى ابن عباسٍ رضي الله عنهما (أن امرأةً سألت النبي صلى الله عليه وسلم عن أبيها مات ولم يحج قال: حجي عن أبيك) رواه النسائي ولأنه حقٌ مستقرٌ تدخله النيابة فلم يسقط بالموت كالدَيْن ويحج عنه من رأس ماله لأنه واجبٌ فكان من رأس المال كالدَيْن.
الشيخ: قوله من رأس ماله يعني لا من الثلث أو غيره مما أوصى به، فإذا أوصى الميت بثلثه مثلاً ثم مات وعليه حج فإنه يؤخذ الحج من رأس المال أولاً ثم تقسم التركة على الوصية والورثة بعد أخذ ما يجب.

فصلٌ
القارئ: ويستناب عنه وعن المعضوب من حيث وجب عليهما إما من بلدهما أو الموضع الذي أيسرا فيه ولا يجزئ الحج عنهما من الميقات لأن الحج واجبٌ عليه من بلده فوجب أن تكون النيابة عنه منه لأن النائب يقوم مقامه فيما وجب عليه فيؤدي من حيث وجب.
الشيخ: هذا ما ذهب إليه المؤلف والصواب أنه يجوز أن يحج عنه من حيث وجب أو من دون ذلك مما يلي مكة أو من مكة لأن السعي ليس واجباً لذاته ولكنه واجبٌ لغيره بدليل أن الإنسان لو ذهب إلى مكة لتجارة ثم عند الميقات نوى الحج هل نقول ارجع إلى بلدك وأنشأ السفر من بلدك للحج؟ أو نقول أحرم من الميقات؟ الثاني أي أحرم من الميقات فدل هذا على أن السعي من البلد إلى الميقات أو إلى مكة ليس مقصوداً إلى ذاته فلو مات الإنسان مثلاً في باكستان وقد وجب علي الحج ووجدنا شخصاً يمكن أن يحج عنه من الميقات من ذي الحليفة فعلى ما مشى عليه المؤلف نقول لا بد أن يحج عنه من باكستان وعلى القول الراجح يحج عنه من الميقات فإذا كان النائب يأتي بما وجب في الحج كالإحرام من الميقات مثلاً فإنه يكفي ويدل لهذا ما ذكرناه من أن الإنسان لو سافر إلى مكة لا يريد الحج ثم بدا له أن يحج فإنا لا نقول له ارجع إلى بلدك وأنشئ السفر منه.


القارئ: وإن خرج للحج فمات في الطريق استنيب عنه من حيث انتهى إليه لأنه أسقط عنه ما ساره وإن مات بعد فعل بعض المناسك فعل عنه ما بقي لأن ما جاز أن ينوب عنه في جميعه جاز في بعضه كالزكاة.
الشيخ: إن مات في أثناء الطريق أقمنا عنه من يحج من حيث مات ولنا على القول الراجح أن نقيم من يحج عنه من الميقات.
وإن مات في أثناء الحج يقول المؤلف رحمه الله إنه يقضى عنه ما بقي والصواب أنه لا يقضى عنه ما بقي ودليل ذلك حديث عبد الله بن عباس (أن رجلاً وقصته ناقته وهو واقفٌ بعرفة فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم فقال اغسلوه بماء وسدر وكفنوه في ثوبيه ولا تحطنوه ولا تخمروا رأسه فإنه يبعث يوم القيامة ملبياً) وإذا قلنا يقضى عنه تحلل من إحرامه بتحلل النائب وحينئذٍ لا يبعث يوم القيامة ملبياً فالصواب بلا شك أنه إذا مات في أثناء النسك فإنه لا يقضى عنه ما بقي بل يفعل به كما أمر النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم حتى إننا لا ننشئ له كفناً جديداً بل نكفنه في الإزار والرداء الذي كان محرماً فيه كالشهيد إذا قتل فإنه يدفن في ثيابه التي قتل فيها.
وقوله رحمه الله ما جاز أن ينوب عنه في جميعه جاز في بعضه هذه غير صحيحة أليس يجوز أن ينوب الإنسان في الصيام عن الميت؟ بلى هل يجوز أن يصوم شخص إلى الظهر والثاني يصوم من الظهر إلى العصر؟ لا فهذا القياس غير صحيح، وأما الزكاة فلأنها حقٌ مالي كل درهم منها منفردٌ عن الآخر.
القارئ: وسواءٌ كان إحرامه لنفسه أو عن غيره فإن لم يخلّف الميت تركةً تفي بالحج عنه من بلده حج عنه من حيث تبلغ نصّ عليه أحمد في الوصية بالحج لقول النبي صلى الله عليه وسلم (إذا أمرتكم بأمرٍ فأتوا منه ما استطعتم) ولأنه قدر على أداء الواجب على القصور فلزمه كمن قدر على الصلاة قاعدا وذكر القاضي أنه لا يحج عنه لأنه لا يمكن أداء الحج على الكمال والأول أولى.


الشيخ: لا شك أن الأول أولى للآية وللقياس على الصلاة لمن عجز عن القيام أن يصلي قاعداً.
السائل: من ملك المال وهو قادر ثم مات هل يحج عنه؟
الشيخ: المذهب يقضى عنه لكن ابن القيم رحمه الله قال في الحج والزكاة إذا علمنا أن الرجل تعمّد الترك فإنه لا يقضى عنه لأن ذلك لا ينفعه وقال إن هذا هو الذي تقتضيه القواعد الشرعية وما قاله هو الصحيح أننا إذا علمنا أن الإنسان ترك هذا قصداً وتهاوناً فإننا لا نقضيه عنه أعني الحج إلا على قول من يقول إنه لا يجب على الفور فإنه يقضى عنه وأما الزكاة فما قاله ابن القيم وجيه لكن قد يقال إن الزكاة تعلّق بها حق آخر وهم أهل الزكاة فيجب على الورثة أن يخرجوها لهم لأنه إذا كان الميت فرّط فيها فإن الزكاة حقٌ لغيره فتخرج.
مسألة: إذا مات الإنسان في حجة الإسلام فإنه لا يجب القضاء عنه بإنشاء حجة أخرى.

فصلٌ
القارئ: فإن اجتمع على الميت مع الحج دَيْن آدمي احتمل تقديم الدَيْن لتأكده بحاجة الآدمي إليه وغنى الله عن حقه واحتمل أن يتحاصا لأن النبي صلى الله عليه وسلم لما سئل عن الحج عمن عليه الحج. قال: أرأيت لو كان على أخيك دَيْنٌ أكنت قاضيه؟ قال: نعم قال: فاقض فالله أحق بالوفاء) رواه النسائي، فعلى هذا يؤخذ ما يخص الحج فيصنع به ما صنع بتركة من لم يخلّف ما يفي بالحجة الواجبة.


الشيخ: فهمنا أن الميت إذا مات ولم يؤدِّ الواجب في الحج فإنه يحج عنه من التركة، من رأس المال وإذا اجتمع مع واجب الحج واجب دَيْن على آدمي فهل يقدم حق الآدمي لأنه مبنيٌ على المشاحة وحق الله مبنيٌ على التسامح؟ أو يقدّم حق الله لقوله صلى الله عليه وسلم (اقض الله فالله أحق بالوفاء) لأن أحق اسم تفضيل يدل على ترجيحه بالوفاء وأما حق الآدمي فقد قال النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم (من أخذ أموال الناس يريد أداءها أدّى الله عنه) فيؤدي الله عنه أو يتحاصان؟ هذه ثلاثة أقوال وهذا القول الثالث هو أرجحها أنهما يتحاصان ويكون معنى قول الرسول عليه الصلاة والسلام (فالله أحق بالوفاء) أنه إذا جاز قضاء دين الآدمي فجواز قضاء دَيْن الله من باب أولى هذا هو معناه، والرسول عليه الصلاة والسلام لم يذكر له مسألة تعارض أو اجتماع دَيْن الآدمي مع دَيْن الله، فإذا قدرنا أن عليه ألفاً والحج بألف ولم نجد إلا ألفاً نعطي صاحب الدَيْن خمسمائة ونحج بخمسمائة ومعلومٌ أن الخمسمائة لا تفي بالحج من بلده نقول نحج بها من حيث بلغ على المذهب من نصف الطريق أو ثلثي الطريق حسب ما تبلغ.

فصلٌ
القارئ: ويستناب عن الميت وإن لم يأذن لأن النبي صلى الله عليه وسلم لما أمر بالحج عنه ولا إذن له عُلم أن الإذن غير معتبر.
الشيخ: قوله عن الميت وإن لم يأذن هذه العبارة فيها قلق لأن الميت لا يمكن أن يصدر منه إذن ولا عدم إذن وكان التعبير السليم أن يقول وإن لم يوص لكن قد يقال إن الميت يأذن قبل أن يموت مثل أن يحس الإنسان بالموت فيقول لبعض الناس أذنت لك أن تحج عني ثم يموت بعد الحج فعلى كل حال مراد المؤلف رحمه الله بقوله وإن لم يأذن أي إن لم يوص بالحج عنه بعد موته أو يأذن في حياته ثم يتأخر موته.


القارئ: ولا تجوز النيابة عن الحي إلا بإذنه لأنه من أهل الإذن فلم تجز النيابة عنه بغير إذنه كأداء الزكاة وتجوز النيابة عنهما في حج التطوع لأن ما جاز فرضه جاز نفله كالصدقة فأما القادر على الحج بنفسه فلا تجوز له الاستنابة في الفرض لأنه عليه في بدنه فلا ينتقل عنه إلا في موضع الرخصة للحاجة المعلومة وبقي فيما عداه.

فصلٌ
القارئ: ولا يجوز أن ينوب في الحج من لم يسقط فرضه عن نفسه لما روى ابن عباسٍ (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سمع رجلاً يقول: لبيك عن شبرمة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من شبرمة؟ قال: قريبٌ لي. قال: هل حججت قط؟ قال: لا، قال: فاجعل هذه عن نفسك، ثم حج عن شبرمة) رواه داود، ولا يجوز أن يعتمر عن غيره من لم يعتمر عن نفسه قياساً على الحج، ولا يجوز أن يتنفل بهما من لم يسقط فرضهما ولا أن يؤدي النذر فيهما وعليه فرضهما لأن التنفل والنذر أضعف من حج الإسلام فلم يجز تقديهما عليه كالحج عن غيره فإن أحرم عن غيره أو نذره أو نفله قبل فرضه انقلب إحرامه لنفسه عن فرضه وعنه يقع عن غيره ونذره ونفله لقول النبي صلى الله عليه وسلم (إنما لكل امرئ ما نوى) والأول المذهب لحديث ابن عباس في الحج عن غيره ووجود معناه في النذر والنفل.


الشيخ: من عليه فريضة الحج لا يحج عن غيره، ومن عليه فريضة العمرة لا يعتمر عن غيره، فإن خالف فاعتمر عن غيره أو حج عن غيره وهو لم يؤد الفرض مع كونه فرضاً عليه ففيه خلاف فقيل إنه يقع عن نفسه وقيل يقع عمن نواه ثم يؤدي الفريضة بعده، أما من قال إنه يقع عن نفسه فاستدلوا بحديث ابن عباسٍ رضي الله عنهما في قصة شبرمة حيث قال النبي عليه الصلاة والسلام هذه عن نفسك ثم حج عن شبرمة وأما من قال إنه يقع حسب ما نوى قال لقول النبي صلى الله عليه وسلم (إنما الأعمال بالنيات) وهذا الرجل يلبي من أول إحرامه إلى آخر إحرامه يقول لبيك عن فلان فكيف تقع عن نفسه وهو لم ينو وهذا القول أقيس لا سيما أن الألفاظ في حديث شبرمة مختلفة حتى إنه ليكاد المرء أن يحكم عليها بالاضطراب لكثرة الاختلاف فيها وقوله (إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى) نصٌ محكم لا إشكال فيه لكنه يأثم إذا أدّى عن غيره قبل أن يؤدي عن نفسه، أما من لم يكن الحج فرضاً عليه كإنسان فقير استنابه غني في حج فهذا لا بأس أن يحج عن غيره وذلك لأن الحج في حقه ليس واجباً عليه، فإذا حج عن غيره وهو لم يحج عن نفسه عجزاً عن الحج فلا بأس.
مسألة: إذا قلنا إنه يقع عن نفسه فإنه يرد النفقة إلى صاحبها.
القارئ: ولو أمر المعضوب من يحج عنه تطوعاً أو نذراً وعليه حجة الإٍسلام انصرف إليها لأن فعل نائبه كفعله وهكذا إن حج عن ميت نذراً لله أو نفلاً قبل حجة الإسلام وإن استنيب عنهما من يحج النذر والفرض في عامٍ واحد صح لأنه لم يتقدّم النذر على حجة الإسلام وأي النائبين أحرم أولاً وقع عن حجة الإسلام لتحريم تقديم النذر عليها وإن استنابه اثنان فأحرم عنهما لم يقع عن واحدٍ منهما ووقع عن نفسه لأنه يتعذر وقوعه عنهما وليس أحدهما أولى به من الآخر.


الشيخ: مثل ذلك لو حج عن أبيه وأمه حجةً واحدة فقال لبيك عن أبي وأمي فإنه لا ينصرف إلى أبيه وأمه بل يكون له لأن النسك الواحد لا يقع عن اثنين.
القارئ: وإن أحرم عن أحدهما لا بعينه احتمل ذلك أيضاً لذلك واحتمل صحته، لأن الإحرام يصح مبهما فصح عن المجهول وله صرفه إلى من شاء منهما فإن لم يصرفه حتى طاف شوطاً لم يجز عن واحدٍ منهما لأن هذا الفعل لا يلحقه فسخ وليس أحدهما أولى به من الآخر وإن أحرم عن أحدهما وعن نفسه انصرف إلى نفسه لأنه لما تعذر وقوعه عنهما كان هو أولى به.