تعليقات ابن عثيمين على الكافي لابن قدامة

باب محظورات الإحرام
القارئ: وهي تسعة أحدها الجماع لقول الله تعالى (فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ فِي الْحَجّ) قال ابن عباس الرفث: الجماع، وتحرم المباشرة فيما دون الفرج لشهوة لأنه محرمٌ للوطء فحرم المباشرة لشهوةٍ كالصيام ويحرم عليه النظر لشهوة لأنه نوع استمتاع فأشبه المباشرة.
الشيخ: قوله باب محظورات الإحرام تكتب بالظاء المشالة لأنها من الحظر وهو المنع ومحظورات الإحرام ممنوعاته وهو من باب إضافة الشيء إلى سببه يعني المحظورات التي سببها الإحرام.
وقوله إنها تسعة إذا قال قائل ما هو الدليل؟ قلنا الدليل على ذلك هو التتبع والاستقراء وهذا شيءٌ معروف عند الفقهاء رحمهم الله فإن قيل لماذا هذا الحصر في المحظورات؟ قلنا لأن السنة جاءت بمثل ذلك فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (ثلاثةٌ لا يكلمهم الله يوم القيامة ولا ينظر إليهم ولا يزكيهم ولهم عذابٌ أليم: المسبل والمنان والمنفق سلعته بالحلف الكاذب) فحصر وعدّد وبيّن وقال صلى الله عليه وسلم (سبعةٌ يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله) وذكر الحديث، وهذا أيضاً حصرٌ فهذا مما جاء أصله في السنة والعلماء رحمهم الله ذكروا ذلك لتقريب العلم لطالب العلم ولا شك أن هذا يقرب لأننا لو قلنا لطالب العلم المبتدئ ابحث أنت في الكتاب والسنة في المحظورات لأمضى أوقاتاً كثيرة وربما لا يستطيع استيعابها فهذا من نعمة الله عز وجل وتيسيره لعباده أن يسر علماء ثقات يذكرون هذه الأشياء ويبينونها للناس.
أولها الجماع وهو أعظمها لما يتبين مما يترتب عليه ودليل ذلك قوله تعالى (فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ فِي الْحَجّ) والرفث فسره ابن عباس رضي الله عنهما وهو من أعلم الأمة بالتفسير بأنه الجماع.


أما مقدماته فقال إنها تحرم أيضاً المباشرة فيما دون الفرج لشهوة لأنه محرّمٌ للوطء لأنه أي الإحرام محرّم للوطء فحرم المباشرة لشهوةٍ كالصيام وكذلك يحرم عليه النظر لشهوة ولو ممن يحل النظر إليها وعلل ذلك بأنه نوع استمتاع وهو أيضاً ذريعة إلى ما فوقه من مباشرة والمباشرة مع كونها استمتاعاً ذريعةً إلى ما فوقها من الجماع.
القارئ: الثاني عقد النكاح لا يجوز للمحرم أن يعقده لنفسه ولا لغيره ولا يجوز عقده لمحرمٍ ولا على محرمة لما روى عثمان بن عفان أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا ينكح المحرم ولا ينكح ولا يخطب) رواه مسلم ولأن الإحرام يحرّم الطيب فحرم النكاح كالعدة.
الشيخ: هذا قياس غريب عندنا دليل عن الرسول عليه الصلاة والسلام وهو أنه نهى أن ينكح المحرم أو ينكح أو يخطب. فحرم كل ذريعةٍ يمكن أن توصل إلى الاستمتاع ثم إن الإنسان إذا نكح وهو محرم أين يكون قلبه؟ عند أهله يتلهى بذلك عن تكميل النسك وينشغل عن ذكر الله عز وجل فلهذا سُد الباب وأيضاً الخِطبة بكسر الخاء حرام يحرم على المحرم أن يخطب امرأة.
القارئ: وإن فعل فالنكاح باطل لأن النهي يقتضي فساد المنهي عنه.
الشيخ: هذه قاعدة مهمة النهي يقتضي فساد المنهي عنه.
القارئ: ولا بأس بالرجعة لأنها إمساكٌ للزوجة بدليل قول الله تعالى (فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ) ولأنها تجوز بغير وليٍ ولا شهود ولا إذنها فلم تحرم كإمساكها بترك الطلاق.
الشيخ: معناه قاس الرجعة التي هي رد الزوجة بعد طلاقها على من لم تطلق وعلى كل حال كما قلت لكم من قبل أن غالب قياساته رحمه الله في هذا الباب كلها من قياس الشبه الضعيف لكن لا بأس بالرجعة لأنها ليست نكاحاً والأصل فيما لم ينه عنه الحلّ ولهذا أخذوا من هذا قاعدة أن الاستدامة أقوى من الابتداء وهذا صحيح والرجعة استدامة والطيب سبق أنه يسن عند الإحرام ولو بقي بعده وتجديد الطيب بعد الإحرام محرم.


القارئ: وعنه لا يحل لأنه عقدٌ لإباحة البضع أشبه النكاح.
الشيخ: هذه الرواية ضعيفة أنها لا تحل مراجعتها في الإحرام والتعليل بأنها عقد غير صحيح أيضاً لأن العقد لا بد أن يكون بين متعاقدين والرجعة ليست كذلك الرجعة من الزوج فقط، يقول راجعت زوجتي سواءٌ رضيت أم لم ترض.
القارئ: ويجوز أن يشهد في النكاح لأن العقد الإيجاب والقبول وليس للشاهد فيهما شيء.
الشيخ: صحيح.
القارئ: وتكره الخطبة للمحرم وخِطبة المحرمة للخبر.
الشيخ: ومقتضى قوله للخبر أن تكون محرمة لأن الحديث واحد (لا ينكح المحرم ولا ينكح ولا يخطب) فكيف نوزعه ونقول النهي في الجملتين الأوليين للتحريم وفي الثالثة للكراهة الصواب أنها حرام فإن قال قائل اشتغال الإنسان بعد عقد النكاح أشد تعلقاً بالمرأة من الخطبة قلنا أيضاً انشغال الإنسان في الخطبة قد يكون أشد لأن الذي عقد استراح لكن الذي خطب دون أن يعلم ماذا كان ربما ينشغل هل أطاعوا هل عصوا، ماذا يريدون وما أشبه ذلك وربما يتردد عليهم فالصواب أن خطبة المحرم حرام.
القارئ: ولا يجب بالتزويج فدية لأنه عقدٌ فسد بالإحرام فأشبه شراء الصيد.
الشيخ: شراء الصيد لم يحرَّم والمحرم قتل الصيد كما في الآية الكريمة لا شراؤه ولا تملكه وأما قوله لا يجب بالتزويج فدية فنحن معه لأنه لم يذكر فيه فدية والأصل براءة الذمة لكن سيأتينا أنهم أوجبوا في لبس المخيط وفي الطيب الفدية وعللوا ذلك بأنه للترفه وأظن أن ترفه الإنسان بعقد النكاح له لا سيما إذا كان شاباً أبلغ من أن يلبس ثوباً وهو عليه إزار ورداء ولذلك هذا الشاب الذي عقد له النكاح على امرأةٍ كان يرغبها ربما يرى أنه يمشى على الهواء وليس على الأرض من شدة الفرح على كل حال نحن معهم في أنها لا تجب الفدية لأن الأصل براءة الذمة ولو أننا طردنا هذا في جميع المحظورات إلا ما جاء النص به لكان هذا جيداً.


القارئ: الثالث قطع الشعر لقول الله تعالى (وَلا تَحْلِقُوا رُؤُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ) نصَّ على حلق الرأس وقسنا عليه سائر شعر البدن لأنه يتنظف ويترفه به فأشبه حلق الرأس وقص الشعر وقطعه ونتفه كحلقه ولا يحرم عليه حلق شعر الحلال لأنه لا يترفه بذلك.
الشيخ: الدليل الآن أخص من المدلول ولا يستدل بالأخص على الأعم والعكس صحيح يعني يستدل بالأعم على الأخص ولهذا قلنا العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب لكن الاستدلال بالأخص على الأعم هذا فيه نظر لكن إذا قيل يقاس هذا على هذا ننظر هل تمت أركان القياس وشروطه فنقبله أم لم تتم فإننا لا نقبله فالمنصوص عليه من الشعر الذي لا يحلق هو الرأس، أما غير الرأس كالشارب والإبط والعانة هل يلحق بالرأس؟ قد يقال لا يصح القياس أولاً أن شعر الرأس ليس مما يطلب إزالته بل قال بعض أهل العلم إن شعر الرأس مما يطلب إبقاؤه بخلاف الشعور الأخرى فإنها مما يطلب إزالتها فربما يكون قد نسي أن يتنظف بحلق هذه الشعور وإزالتها ثم يذكر وهو محرم فيحتاج إلى ذلك وإن كان ليس ضرورة.
ثانياً أن حلق الرأس إنما حرّم لأنه يتعلق به نسك وهو التحلل لأنه لن يتحلل إلا بحلق أو تقصير وأما الشعور الأخرى فلا يتعلق بها التحلل يتحلل الإنسان بدون أن يزيلها ولهذا ذهب أهل الظاهر إلى أن المحرم إنما هو حلق الرأس فقط دون غيره من الشعور بقي أن يقال هل قص الشعر كحلقه؟ الجواب نعم لا شك أن قصه كحلقه وأننا إذا قلنا لا يحرم إلا الحلق فهذه ظاهريةٌ محضة ليس لها حظٌ من النظر وذلك لأن التقصير أيضاً نسك فلا يقصر الإنسان ولا يأتي بهذا النسك قبل أن يحل منه.


القارئ: وإن خرج في عينيه شعرٌ أو استرسل شعر حاجبيه فغطى عينيه فله إزالته ولا فدية عليه لأن الشعر آذاه فكان له دفع أذاه من غير فديةٍ كالصيد، وإن كان الأذى من غير الشعر كالقمل فيه والقروح برأسه أو صداعٍ أو شدة الحر عليه لكثرة شعره فله إزالته وعليه الفدية لما نذكره ولأنه فعل المحرم لدفع ضرر غيره فلزمته الفدية كما لو قتل الصيد لمجاعةٍ بخلاف من آذاه الشعر.
الشيخ: نعم هذا أيضاً صحيح يعني لو نزل في عينيه شعر وقلنا بتحريم إزالة الشعر من غير الرأس ونزل بعينيه فلا بأس أن يزيله لأن ذلك لدفع أذاه كالصائل عليه كما أن الصيد وهو مؤكدٌ تحريمه إذا صال عليك ولم يندفع إلا بالقتل فلك قتله ومثل ذلك لو نزل شعر الحاجب وكان كثيرا يغطي نظره فله أن يقص منه ما يدفع به الأذى عن نفسه وأما إذا أزال الشعر لدفع أذى غيره مثل أن يكون في الرأس قمل يستظل بهذا الشعر وأراد أن يحلق الرأس من أجل أن يذهب القمل فعليه الفدية وهذا نص القرآن قال الله تعالى (فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ بِهِ أَذىً مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ) وحديث كعب ين عجرة يفسر ذلك حيث جيئ به محمولاً إلى رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم يوم الحديبية والقمل يتناثر على وجهه من المرض والوسخ فقال: ما كنت أرى الوجع بلغ بك ما أرى، ثم أمره أن يحلق رأسه ويفدي لأن هنا إنما أتلفنا الشعر لدفع أذى غيره به ومن هنا أخذ ابن رجب رحمه الله قاعدة في قواعد الفقه من أتلف شيئاً لدفع أذاه لم يضمنه وإن أتلفه لدفع أذاه به ضمنه مثال رجل صالت عليه شاة ولم تندفع إلا بالقتل فقتلها لا يضمنها وآخر جاع واضطر إلى ذبح الشاة وهي لغيره وأكلها يضمن فالأولى أتلفها لدفع أذاها والثانية لدفع أذى غيرها أي لدفع أذاه بها.


القدر الذي يوجب الفدية من حلق الشعر فيه خلاف بعض العلماء يقول إن قطع شعرة فعليه إطعام مسكين وإن قطع شعرتين فإطعام مسكينين وإن قطع ثلاث شعرات فدم يعني دم أو إطعام ستة مساكين أو صيام ثلاثة أيام ولكن هذا القول ضعيف لأن قطع ثلاث شعرات ليس حلقاً ولا تقصيراً أيضاً ولهذا يلزم من قال إن الفدية في ثلاث شعرات أن يقول إن ثلاث شعرات تجزئ في التقصير لكن الصحيح خلاف ذلك وأنه لا تلزمه الفدية في مثل هذا بقي علينا إذا حلقه لحاجة ولكنه لم يستوعب الرأس ولم يحلق إلا جزءاً يسيراً منه مثل أن يحلق محلات محل المحاجم فهل عليه فدية؟ المذهب أن عليه فدية لأنه حلق جزءاً من رأسه بيناً واضحاً فعليه فدية وقال شيخ الإسلام لا فدية عليه وهو الصحيح لأن النبي صلى الله عليه وسلم احتجم في رأسه وهو محرم وبالضرورة سيحلق محل المحاجم ولم ينقل أنه فدى والله علق الفدية بحلق الرأس كله (وَلا تَحْلِقُوا رُؤُوسَكُمْ) وعلى هذا فحلق شعر الرأس إن كان جميعه فعليه الفدية وإن كان بعضه لحاجة فهو مباح ولا فدية عليه وإن كان بعضه لغير حاجة فهو حرام ولا فدية عليه وإن كان شعرة أو شعرتين فهذا ليس فيه شيء إطلاقاً هذا هو القول الراجح في هذه المسألة.
القارئ: الرابع تقليم الأظفار يحرم لأنه جزءٌ ينمي ويترفه بإزالته أشبه الشعر وإن انكسر ظفره فله إزالته ولا فدية عليه كالشعر المؤذي وإن قصَّ أكثر مما انكسر فعليه فدية وإن احتاج إلى مداواة قرحة لا يمكنه مداواتها إلا بقص ظفره فعل وعليه الفدية كحالق الرأس دفعاً لأذى قمله.


الشيخ: الرابع تقليم الأظفار الدليل الترفه فهل الترفه مما نيط به الحكم إن كان كذلك قلنا لا تركب سيارةً مكيفة ولا تغتسل بصابون ولا تغسل وسخ ثوبك ولا وسخ بدنك إذ كل هذا ترفه ولا تنزل بخيمة مكيفة ولا تستعمل المروحة باليد لأن كل هذا ترفه ولا تأكل لحم الدجاج لأنه ترفه فيما سبق على كل حال نقول من قال إن العلة هو الترفه يعني ليس عندنا دليل على تحريم قطع شيءٍ من البدن إلا قوله (وَلا تَحْلِقُوا رُؤُوسَكُمْ) وقد علمتم أن التعليل الواضح من ذلك هو أن الشعر يتعلق به التحلل فهو نسك ولهذا قياس الظفر على الشعر أضعف من قياس بقية الشعر على شعر الرأس وليس هناك دليل يدل على تحريم قطع الأظفار للمحرم ولا على وجوب الفدية فيها أيضاً لكن على ما قال الفقهاء أو جمهور الفقهاء يقولون إنه حرام يحرم على المحرم أن يقص أظفاره فإذا فعل فعليه الفدية لكن في الظفر إطعام مسكين والاثنان إطعام مسكينين والثلاثة دم ومع ذلك فالدم هذا دم تخيير بينه وبين إطعام ستة مساكين أو صيام ثلاثة أيام فإن انكسر ظفره وآذاه يقص هذا المنكسر فقط الذي يندفع بقصه الأذى ولا شيء عليه لأنه أتلفه لدفع أذى إن كان فيه قرحة كما قال المؤلف تحتاج إلى قص الظفر فقص الظفر من أجل مداواة هذه القرحة جائز للحاجة إلى ذلك ولكن عليه الفدية وهذا مبنيٌ على أن قص الظفر فيه الفدية أما على القول الثاني فلا فدية الراجح عندي عدم التحريم وعدم وجوبه لكني لا أفتي بذلك خوفاً من تهاون الناس، الناس الآن يحترمون الإحرام احتراماً بالغاً ولو قلنا هذا شيء فيه حلال تهاونوا فيه أكثر والإنسان ينظر إلى ما يترتب على الفتوى من آثار وما دمنا لم نرتكب شططاً في هذا الأمر غاية ما هنالك أن الناس يتجنبون قص الأظفار ولو جاءوا وسئلوا بعد أن قصوا الأظفار لقلنا لا شيء عليهم.


القارئ: الخامس لبس المخيط يحرم عليه لبس كل ما عمل للبدن على قدره أو قدر عضوٍ منه كالقميص والبرنس والسراويل والخف، لما روى ابن عمر رضي الله عنه أن رجلاً قال (يا رسول الله ما يلبس المحرم من الثياب قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا يلبسن القميص ولا العمائم ولا السراويلات ولا البرانس ولا الخفاف إلا أحداً لا يجد نعلين فليلبس الخفين وليقطعهما أسفل من الكعبين ولا يلبس من الثياب شيئاً مسه زعفران أو ورس) متفقٌ عليه.


الشيخ: الخامس لبس المخيط وهذه العبارة لم ترد لا في القرآن ولا في السنة وإنما قيل أول من تكلم بها فقيه التابعين إبراهيم النخعي رحمه الله لكنها ليست في القرآن ولا في السنة ومن أجل العدول عمَّا جاءت به السنة في هذا صار الناس الآن يتساءلون عن الحذاء المخروز ويتساءلون عن الكمر المخروز وما أشبه ذلك ولا يرون بأساً في لبس الفنيلة المنسوجة بدون خياطة لأنها عندهم ليست مخيطة ولو أننا أخذنا بما جاءت به السنة لزال عنا إشكالاتٌ كثيرة وصار أهون من هذا التعميم فيقول رحمه الله لبس المخيط يحرم عليه لبس كل ما عُمل للبدن على قدره كالقميص مثلاً أو قدر عضوٍ منه كالسراويل والكم وما أشبه ذلك ثم ضرب أمثلة فقال كالقميص والبرنس والسراويل والخف وهذه منصوصٌ عليها وبقي عليه واحد وهو العمامة ثم ذكر ما رواه ابن عمر (أن رجلاً قال يا رسول الله ما يلبس المحرم) وهذا السؤال ورد على النبي صلى الله عليه وسلم وهو في المدينة قبل أن يخرج إلى الحج فقال النبي صلى الله عليه وسلم (لا يلبس القميص) والسؤال عن الذي يلبس لا عن الذي لا يلبس فهل في الجواب مخالفة للسؤال؟ لا وذلك لأن اللبس وعدمه نفيٌ وإثبات فإذا نفينا صار الباقي مثبتاً فإذا قيل لا تلبس كذا ولا كذا ولا كذا صار المعنى البس ما سوى ذلك ومن المعلوم أن ما يلبسه المحرم أكثر مما لا يلبسه فلهذا عدل النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم إلى ما يمكن حصره وهو الذي لا يلبس ويكون ما لا يمنع جائزاً وهذا من حسن تعليم الرسول عليه الصلاة والسلام وأنه أعطي مجامع الكلم واختصر له الكلام قال (لا يلبس القميص) عندي القمص جمعاً ولكن المعنى واحد والقميص هو الدرع، والدرع ثيابنا التي علينا الآن هذا القميص والثاني (ولا العمائم) وهو ما يكوَّر على الرأس والثالث (ولا السراويلات) بالجمع وهي ما يلبس في الرجلين ويقطَّع لكل رجلٍ كم (ولا البرانس) البرانس جمع برنس قال العلماء وهي ثيابٌ واسعة لها


أكمام ولها غطاءٌ يتصل بالرأس ويلبسها المغاربة مشهورة عندهم (ولا الخفاف) معروف ما يلبس من الجلد ونحوه على الرجل (إلا أحداً لا يجد نعلين فليلبس الخفين وليقطعهما أسفل من الكعبين) فرخَّص لمن لا يجد النعلين أن يلبس الخفين ولكن يقطعهما أسفل من الكعبين (ولا يلبس من الثياب شيئاً مسه زعفران) والزعفران طيبٌ معروف (ولا الورس) قال العلماء والورس أيضاً حبٌ ينبت في اليمن كثيراً له رائحةٌ طيبة فهو شبيهٌ بالزعفران والمعنى لا يلبس ثوباً مطيباً هذا معنى قوله مسه زعفران أو ورس لكن الرسول صلى الله عليه وسلم أحياناً يعبّر بالمثال حتى يلحق به ما كان مثله، لا يلبس خمسة أشياء القميص، العمائم، السراويل، البرانس، الخفاف هذه لا تلبس لذاتها ولا يلبس ما مسه الزعفران ولا الورس لغيره لا لذاته وعليه فلا يلبس رداء مسه الزعفران أو الورس ولا إزاراً الطاقية ليست عمامة لكننا نقول إنها تمنع من قول الرسول عليه الصلاة والسلام في الذي مات (لا تخمروا رأسه) وهذا تخميرٌ للرأس بلباس.
يجوز أن يلبس إزاراً مخيطاً ليس مفتوحاً يعني فلو أن إنساناً مثلاً خاط إزاره ولبسه فليس بسراويل ولا قميص فيجوز لبسه.
لو استعمل هذه الأشياء على غير اللباس يعني تلفف بالقميص مثلاً يجوزلأن الرسول قال لا يلبس واللفافة ليست لبساً ولهذا نرى أنه ينبغي للإنسان أن يعتمد على النص فهو خيرٌ من تعميمٍ يوجب التخليط وهو قولنا لبس المخيط لأنه أشكل على العامة ثم إنه قد يتناول أشياء لا يحرمها الشرع فنقول إذا أردنا أن نحدد الموضوع حقيقةً لا يلبس هذا الشيء ولا نتعدى الحدود والذي يمنع الخلق أو يرخص لهم هو الله عز وجل أو على لسان رسوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم الساعة ليست من المنصوص ولا في معنى المنصوص كذلك المناظر وسماعة الأذن.


فإن قال قائل لم أمر النبي صلى الله عليه وسلم بقطع الخفين وهل هذا إلا إفسادٌ لهما؟ قلنا حتى تخرج عن صفة الخفين ولهذا قال: أسفل من الكعبين وتكون أشبه بالنعل.
القارئ: وسواءٌ في هذا ما كان من خرقٍ أو جلد مخيط بالإبر أو ملصق بعضه إلى بعض لأنه بمعنى المخيط.
الشيخ: خير من هذا أن نقول لأنه في معنى المنصوص عليه لأنه لا يوجد نص يقول المخيط حرام.
القارئ: والتبان والران كالسراويل لأنه في معناه.
الشيخ: التبان السروال القصير.
القارئ: وإن شق الإزار وجعله ذيلين شدهما على ساقيه لم يجز لأنه كالسراويل وتجب الفدية باللبس لأنه محرمٌ في الإحرام فتعلقت به الفدية كالحلق.
الشيخ: إيجاب الفدية بلبس المخيط بناءً على هذا القياس العليل نرى أنه لا يصح إلا إذا أجمع العلماء على ذلك فالإجماع حجة وإلا فإيجاب الفدية بلبس المخيط فيه نظر ولكن القياس لو أردنا أن نقيس لقلنا لأن هذا فعل ممنوعاً في الإحرام فلزمته الفدية كالحلق وهو قريبٌ مما قال المؤلف لكن نحن نفتي بلزوم الفدية وهي على التخيير كما تعرفون لئلا يتوان الناس ويتهاونوا لأنه لو قيل لهم لا فدية عليكم هان الأمر على الناس.
القارئ: ولا يجوز له عقد ردائه عليه لأن ابن عمر قال: لا تعقد عليك شيئاً ولأنه يصير بالعقد كالمخيط.


الشيخ: هذا فيه نظر والصواب أنه يجوز أن يعقد الرداء وما روي عن ابن عمر رضي الله عنهما فهو على سبيل الاحتياط وابن عمر رضي الله عنه من أشد الصحابة رضي الله عنهم فالصواب أن عقد الرداء جائز لكن نظراً للخلاف ينبغي للإنسان أن لا يفعله إلا عند الحاجة وشبكه بدون عقد نقول كالعقد فيكره على ما ذهب إليه المؤلف وهذا إذا كان الشبك في مشبكٍ واحد أما ما يفعله بعض الناس يشبك الرداء من عند الحنجرة إلى العانة ففي جواز هذا نظر لأن هذا صار كالقميص أما إذا عقده الإنسان ولا سيما عند الحاجة فلا بأس لأن بعض الناس يحتاج إلى عقده مثل أن يكون هو الذي يتولّى الطبخ أو إحضار الشاي أو القهوة أو ما أشبه ذلك.
القارئ: ولا يجوز له أن يزره عليه ولا يخله بشوكةٍ ولا غيرها ولا يغرز طرفيه في إزاره لأنه في معنى عقده وله أن يعقد إزاره لأنه يحتاج إليه لستر العورة ولذلك جاز للمرأة لبس المخيط في إحرامها لكونها عورة وله أن يشد وسطه بعمامةٍ أو حبل ولا يعقده ولكن يدخل بعضه في بعض.
الشيخ: لا شك أن هذا لا دليل عليه يعني كون الإزار له أن يعقده لأنه يحتاج إليه لستر العورة وله أن يشد وسطه بعمامة أو حبل ولا يعقده ولكن يدخل بعضه في بعض هذا لا دليل عليه ولهذا نقول لك أن تشد وسطك بخيط أو عمامة وأن تعقده.
القارئ: وله أن يلبس الهميان الذي فيه نفقته ويدخل السيور بعضها في بعض فإن لم يثبت عقده لقول عائشة أوثق عليك نفقتك رواه سعيد بن منصور بمعناه ولأن هذا مما تدعو الحاجة إلى عقده فجاز كالإزار فأما المنطقة وما لا نفقة فيه فلا يجوز عقده لعدم الحاجة إليه فإن احتاج إلى عقد المنطقة لوجع ظهره فعل وفدى نص عليه لأن هذا نادرٌ فأشبه حلق الشعر لوجع الرأس.
الشيخ: عرفنا أنه لا يشد على وسطه شيئاً إطلاقاً وأنه إن احتاج إلى شد الشيء فإنه يفعله ولكن عليه الفدية وأما ما فيه النفقة فقد دعت الحاجة إلى ذلك فلا بأس بشده مثل الكمر توضع فيه النفقة وما أشبهها.


القارئ: فأما القباء ونحوه فقال الخرقي يطرحه على كتفيه ولا يدخل يديه في كميه لأنه لا يحيط ببدنه أشبه الاتشاح بالقميص وقال القاضي عليه الفدية لأنه لبس المخيط على العادة في لبسه فلزمه الفدية كما لو أدخل يديه في كميه.
الشيخ: والمشلح مثل القباء كان قديماً يأتي لباس يسمونه الزبون له أكمام يلبسه الإنسان ويدخل كميه لكن العباءة أو المشلح أهون منه إذ أنه ليس لليد كمٌ مستطيل وإنما لليد فتحة كما هو معروف أما القباء فله يد لكن على كل حال الصحيح أنه إذا لبسه على الهيئة المعتادة فإنه لا ينبغي لأنه يخرج بذلك عن كون هيئته هيئة محرم.
القارئ: ومن لم يجد إزاراً فله لبس السراويل ولا فدية عليه لما روى ابن عباسٍ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال (من لم يجد إزاراً فليلبس السراويل ومن لم يجد نعلين فليلبس الخفين) متفقٌ عليه ومن عدم الرداء لم يبح له لبس القميص لأنه يمكنه أن يرتدي به على صفته ولا يمكنه أن يأتزر بالسراويل ومتى وجد الإزار لزمه خلع السراويل للخبر.
الشيخ: قال (من لم يجد السراويل) وعلى هذا فإذا لم يجد الإزار عند الإحرام ولبس السراويل ثم وجد الإزار فيجب عليه أن يخلعه.
مسألة: لا يجوز للمحرم أن يشرب قهوة فيها زعفران قد ظهر ريحه أما إذا زال ريحه بالطبخ فلا بأس.
القارئ: ويحرم على المحرم لبس الخفين للخبر فإن لم يجد نعلين لبس الخفين ولا يقطعهما ولا فداء عليه لحديث ابن عباس وعنه لا يلبسهما حتى يقطعهما أسفل من الكعبين فإن فعل افتدى لأن في حديث ابن عمر زيادة والزيادة من الثقة مقبولة.


الشيخ: والصحيح الأول أنه إذا لم يجد النعلين فليبس الخفين ولا يقطعهما وعلى هذا فيكون الأمر بالقطع منسوخاً ووجه النسخ أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم لم يذكر هذا القيد في عرفة وإنما ذكره في المدينة قبل أن يخرج والناس في عرفة أكثر منهم في المدينة وإذا كان يخاطب الأكثر ولم يأمر بالقطع دل هذا على أن الله خفف على العباد ونسخ الأمر بالقطع وإلا فلو كان القطع واجباً لبلغه النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم إلى الأمة في الجمع الأكثر وهو جمع يوم عرفة وهذا القول هو الراجح أنه لا يقطع كما أن في القطع أيضاً إضاعة لماليتهما لكن لو ثبت وجوب القطع لقلنا هذه الإضاعة ليست إضاعة في الواقع لأنها جاءت امتثالاً للأمر وقوله فإن فعل فدى هذا بناءً على أن جميع محظورات الإحرام ما عدا عقد النكاح فيها فدية وقد سبق لنا أن الذي ينبغي أن لا نلزم المسلمين بالفدية إلا فيما دل عليه الدليل.
القارئ: وإن لبس خفاً مقطوعاً مع وجود النعل فعليه الفدية للخبر.
الشيخ: إذا لبس خفاً مقطوعاً مع وجود النعل فهو حرام لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يبح لبس الخف إلا عند عدم النعل وقال بعض العلماء إن له أن يلبس الخف المقطوع يعني الذي ليس له ساق وهو نازل عن الكعبين قالوا لأن النبي صلى الله عليه وسلم أباحه من قبل لأنه كالنعل لما قطع صار كالنعل ولكن الأقرب للفظ الحديث أنه لا يجوز.


القارئ: وليس له لبس الجمجم واللالكة في ظاهر كلام أحمد لأنه في معنى الخف المقطوع، فإن لم يجد النعلين فله لبس ذلك من غير فداءٍ كالخفين قال أحمد لا يلبس نعلاً لها قيد وهو السير المعترض على الزمام ويقطع العقب يعني الشراك قال القاضي إذا كانا عريضين يستران القدم فلا فدية فيه لأن حكمهما أخف من حكم الخف وقد أباح لبسه عند عدم النعل من غير قطع فهاهنا أولى ومن وجد نعلاً لا يمكنه لبسها لبس الخف وافتدى نص عليه لأن إسقاط الفدية مشروطٌ بعدم النعل والقياس أنه لا فدية عليه لأن العجز كالعدم في الانتقال إلى البدل وقد قام مقامه ههنا في الجواز فكذلك في سقوط الفدية.
الشيخ: هذا هو الصحيح لا شك فيه أنه إذا جاز اللبس للعدم جاز اللبس لعدم تمكنه من السير في النعل وليس عليه فدية ولا تحريم.
القارئ: فأما المحرمة فلها لبس المخيط كله إلا النقاب والقفازين والبرقع وشبهه لما روى ابن عمر أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم (نهى النساء في إحرامهن عن القفازين والنقاب وما مس الورس والزعفران من الثياب ولتلبس بعد ما أحبت من ألوان الثياب من معصفرٍ أو خزٍ أو حليٍ أو سراويل أو قميصٍ أو خف) رواه أحمد بإسناده.
الشيخ: هذا صحيح المرأة لا يحرم عليها من اللباس إلا النقاب والقفازان لأن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال (لا تلبس القفازين) وقال (لا تنتقب) وما عدا ذلك من اللباس المباح لها قبل الإحرام فهو مباح لها بعد الإحرام.
القارئ: وروى البخاري منه (لا تنتقب المرأة ولا تلبس القفازين) ولأن إحرام المرأة في وجهها فحرم عليها تغطيته.


الشيخ: قوله لأن إحرام المرأة في وجهها يظنه بعض الناس أنه حديث وليس كذلك ثم على تقدير صحة هذه العبارة إحرام المرأة في وجهها فالمعنى أن المرأة إنما يحرم عليها اللباس المختص بالوجه وهو النقاب وكذلك المختص بالكفين وهو القفازان وأما قوله فحرم عليها تغطيته ففيه نظر والصواب أن الحرام عليها إنما هو لبس النقاب وأما تغطيته فليس حراماً لكن لا شك أن الأفضل إبداؤه أي إبداء الوجه ما لم يمر الرجال قريباً منها فيجب عليها التغطية، وأما تغطية اليدين بغير القفازين فلا بأس وكذلك تغطية الوجه بغير النقاب لا بأس به إلا أن الأفضل أن يبقى الوجه مكشوفاً ما لم يمر من حولها الرجال.
القارئ: وإن احتاجت إلى ستره سدلت على وجهها من فوق رأسها ما يستره لما روت عائشة رضي الله عنها أنها قالت كان الرجال يمرون بنا ونحن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم محرمات فإذا حاذونا سدلت إحدانا جلبابها على رأسها فإذا جاوزونا كشفناه رواه أبو داود، قال القاضي ويكون ما تسدله متجافياً لا يصيب البشرة ولم أجد هذا عن أحمد ولا هو في الحديث والظاهر أنه غير معتبر.
الشيخ: لا شك أن هذا هو الصواب أنه غير معتبر وعلى ما ذهب إليه القاضي يجب أن تلف المرأة على رأسها لفافة بحيث إذا سدلت الخمار يكون الخمار بعيداً عن الوجه وهذا مشقة.

فصل


القارئ: السادس تغطية الرأس لنهي النبي صلى الله عليه وسلم عن لبس العمائم ولقوله في الذي مات محرما (لا تخمروا رأسه فإنه يبعث يوم القيامة ملبيا) ويحرم تغطية بعضه لأن النهي تناول جميعه ولا يجوز أن يعصبه بعصابةٍ ولا سير ولا يجعل عليه شيئاً يلصق به سواءٌ كان فيه دواء أو لا دواء فيه ولا يطينه بطينٍ ولا حناء ولا دواء يستره لأنه نوع تغطية وفيه الفدية لما ذكرنا في اللباس فإن حمل عليه طبقا أو وضع يده عليه فلا بأس لأنه لا يقصد به الستر ولو ترك فيه طيباً قبل إحرامه لم يمنع من استدامته لقول عائشة رضي الله عنها كأني أنظر إلى وبيص الطيب في رأس رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو محرم ولا يمنع من تلبيده بصمغٍ وعسل ليتلبد ويجتمع الشعر فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال (إني لبدت رأسي) وهو محرم متفقٌ عليه.


الشيخ: هذا القطعة من كلام المؤلف رحمه الله فيها تحريم تغطية الرأس للمحرم ودليلها حديث ابن عباس رضي الله عنهما في الذي وقصته ناقته في يوم عرفة فقال النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم (لا تخمروا رأسه) أي لا تغطوه وكذلك تحريم النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم لبس العمامة فإنه يدل على تحريم كل ملبوسٍ على الرأس كالطاقية والغترة ونحوها وأما قوله فإنه لا يعصبه بسيرٍ ونحوه فهذا محل نزاع فإن من العلماء من قال يجوز أن يعصبه بالسير لأن من عصبه بالسير لا يقال إنه غطى رأسه فلا يحرم ودليل ما قاله المؤلف رحمه الله أن المنهي عنه يتناول جميع الأجزاء فإذا قلت مثلاً لا تأكل هذه الخبزة فإنه يشمل كل جزءٍ فيها كلها ممنوعة فإذا قيل لا تغطوا رأسه شمل جميع الرأس فلا يغطى بأي شيء ولا شك أن الأحوط ألا يغطيه لكن إذا دعت الضرورة إلى ذلك فلا بأس يعني إذا دعت الضرورة إلى أن يعصب رأسه لوجعٍ كان به أو شج أو ما أشبهها فلا بأس بهذا وقوله لا يحرم عليه إذا حمل عليه طبقاً أو وضع يده عليه لأنه لا يقصد به الستر ومن ذلك إذا وضع عليه العفش فإنه لا بأس ولكن لو أنه أراد الحمل مع الستر فهل يغلب جانب الحظر ونقول إنه ممنوع أو يقال إنه ما دام يريد بذلك الحمل فلا بأس والستر يكون تبعاً؟ الظاهر الأول لقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم (إنما الأعمال بالنيات) وصورة ذلك أن يقول أنا أستطيع أن أحمل الشنطة على كتفي مثلاً أو الفراش على كتفي لكن أحب أن أغطي رأسي عن الشمس فأحمل على الرأس نقول إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئٍ ما نوى.


يقول أيضاً ولا يمنع من تلبيده بصمغٍ وعسل ليتلبد ويجتمع الشعر يعني لا بأس أن يضع على شعره صمغاً وعسلاً من أجل أن لا ينتفش ويثبت ومن المعلوم أنه إذا فعل ذلك فسوف يكون هذا الصمغ والعسل مانعاً من مباشرة الماء للشعر لكنه لا بأس به ولهذا أبيح المسح على العمامة مع كونه يمنع مباشرة الرأس وخفف في ذلك بالنسبة للرأس دون اليد والوجه والقدم لأن أصل تطهير الرأس مسامحٌ فيه لا يجب فيه إلا المسح وبناءً على ذلك نقول إذا لبدت المرأة رأسها بالحناء فهل لها أن تمسح عليه عند الوضوء أو نقول لا بد أن تزيل الحناء؟ الأول. لا بأس أن تمسح عليه ولو كان فيه حناء يمنع مباشرة الماء.
القارئ: ولا يمنع من تغطية وجهه لأن عثمان وسعداً وعبد الرحمن بن عوفٍ وزيد بن ثابتٍ أجازوه وعنه يمنع منه لأنه في بعض لفظ حديث ابن عباسٍ في الميت المحرم (ولا تخمروا وجهه ولا رأسه) متفقٌ عليه.
الشيخ: ولا شك أن الاحتياط أن لا يغطي الوجه ولكن لو غطاه فلا بأس لأن اللفظ المتفق عليه (ولا تخمروا رأسه) وأما زيادة (ولا وجهه) ففيها خلاف بين الرواة فمن صححها قال إنه يحرم تغطية الوجه ومن لم يصححها قال إنها شاذة والعبرة بما عليه الأكثر وهذا هو المشهور من المذهب أن تغطية المحرم وجهه ليس بحرام لكن الخروج من الخلاف ولا سيما عند الشبه القوية في الدليل أولى.


القارئ: وفي تظليل المحمل روايتان إحاداهما ليس له أن يتظلل به لأن ابن عمر قال إضحَ لمن أحرمت له أي ابرز للشمس ولأنه ستر رأسه بما يقصد به الترفه أشبه تغطيته وتلزمه الفدية لما ذكرنا والثانية له أن يتظلل لأنه ليس بمباشرٍ للرأس أشبه الخيمة وله أن يتظلل بثوبٍ على عود لما روت أم الحصين قالت حججت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حجة الوداع فرأيت أسامة وبلالاً وأحدهما آخذ بخطام ناقة النبي صلى الله عليه وسلم والآخر رافعٌ ثوبه يستره من الحر حتى رمى جمرة العقبة رواه مسلم ولا بأس بالتظلل بالخيمة والسقف والشجر وأشباه ذلك لأنه لا يلازمه أشبه ظل الجبال والحيطان.
الشيخ: إذاً الستر ينقسم على هذا أربعة أقسام مباشر يقصد به الستر، ومباشر لا يقصد به الستر، ومنفصل يقصد به الستر ولكنه ملازم للإنسان، ومنفصل يقصد به الستر لكنه غير ملازم، فالأقسام إذاً أربعة:
الأول ما كان مباشراً يقصد به الستر وهذا حرام لأن هذا تغطيةٌ للرأس وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم (لا تخمروا رأسه).
الثاني مباشر يعني ملاصقاً للرأس لا يقصد به الستر فهذا لا بأس به مثل حمل المتاع على الرأس ونحوه ومن ذلك أيضاً الحناء لأن الذي يحني رأسه لا يقصد به ستره لكنه يقصد مصلحة أخرى.
الثالث غير ملاصق لكنه ملازم كالاستظلال بالمحمل والسيارة والشمسية وما أشبه ذلك فالمذهب أنه حرام وأنه لا يجوز أن يستظل بهذه الأشياء لأنها ملازمةٌ له فالشمسية بيده تسير بسيره والمحمل أو السيارة هو أيضاً يسير بسيرها فهو ملازم لها فيكون بذلك حراماً.


الرابع ما كان غير ملازم كالخيمة والشجرة والجبل والصخرة هذه لا بأس بها بالإجماع لأنه ثبت (أن النبي صلى الله عليه وسلم ضربت له القبة بنمرة وجلس فيها) ولكن الصحيح أن ما ليس بستر فهو حلال ومعلومٌ أن الستر إنما يكون بالملاصق أما غير الملاصق فهو منفصل والرأس بادي وأما قول ابن عمر إضحَ لمن أحرمت له فهذا على سبيل الاستحباب وليس على سبيل الوجوب ثم لو فرض أن ابن عمر رضي الله عنهما يرى وجوب ذلك فإن السنة تدل على عدم ذلك أي على عدم الوجوب وبناءً على هذا يجوز أن يستظل الإنسان بالشمسية وبالسيارة المسقوفة وما أشبه ذلك أما على المشهور من المذهب فلا يجوز حتى السيارة المسقوفة لا يجوز للمحرم أن يركبها إلا إذا كشف السقف فلا بأس.

فصل


القارئ: السابع الطيب يحرم عليه استعماله في بدنه وثيابه لقول النبي صلى الله عليه وسلم في الميت المحرم (ولا تقربوه طيبا) وقوله صلى الله عليه وسلم (لا يلبس من الثياب ما مسه ورسٌ أو زعفران) وتجب به الفدية لما ذكرنا في اللباس ويحرم عليه المبخر بالطيب والمصبوغ به قياساًٍ على المزعفر ولا يجوز أن يأكل طيباً ولا أن يكتحل به ولا يستعق به ولا يحتقن به لأنه استعمالٌ للطيب وإن كان في الطعام طيبٌ يظهر ريحه لم يجز أكله لأنه يأكل طيبا وإن لم يظهر له ريحٌ جاز أكله وإن ظهر لونه لأن المقصود ريحه دون لونه وإن ظهر طعمه فظاهر كلام أحمد المنع منه لأن الطعم لا يكاد ينفك عن الرائحة وإن لبس ثوباً كان مطيبا وانقطع ريحه وكان بحيث إذا رش فيه ماءٌ فاح ريحه فعليه الفدية لأنه مطيب وإلا فلا وإن فرش فوق المطيب ثوبٌ صفيقٌ يمنع الرائحة والمباشرة فلا فدية عليه بالنوم عليه وإن كان الحائل بينهما ثياب بدنه فعليه الفدية لأنه يمنع من استخدام الطيب في ثيابه كما يمنع منه في بدنه والطيب كل ما يتطيب به أو يتخذ منه طيب كالمسك والكافور والعنبر والزعفران والورس والورد والبنفسج والأدهان المطيبة بشيء من ذلك كدهن الورد والبنفسج والخيري والزنبق ونحوها وفي الريحان الفارسي روايتان إحداهما ليس بطيب لأن عثمان بن عفان رضي الله عنه قال في المحرم: يدخل البستان ويشم الريحان ولأنه إذا يبس ذهبت رائحته وأشبه نبت البرية والثانية هو طيب لأنه يتخذ للطيب أشبه الورد وفي سائر النبات الطيب الرائحة الذي لا يتخذ منه طيب كالمرزنجوش والنرجس والبرم وجهان قياساً على الريحان وقال أبو الخطاب في الورد والخيري والبنفسج والياسمين روايتان كالريحان والصحيح أنه طيب لأنه يتخذ منه طيبٌ فهو كالزعفران فأما نبت البرية كالشيح والقيصوم والإذخر والخزامى والفواكه كالإترج والتفاح والسفرجل والحناء فليس بطيب لأنه لا يقصد للطيب ولا يتخذ منه طيب فأشبه العصفر وقد ثبت أن


العصفر ليس بطيب لقول النبي صلى الله عليه وسلم (ولتلبس ما شاءت من ألوان الثياب المعصفر) وكان أزواج النبي صلى الله عليه وسلم يحرمن في المعصفرات.
الشيخ: الطيب هو الذي يستعمل للطيب ويتخذ منه الطيب هذا الضابط وهذه الأنواع التي ذكرها رحمه الله ما هي إلا أمثلة بقي أن يقال هناك أشياء مطيبة هي في نفسها ليست بطيب لكن مطيبة فحكمها حكم ما كان طيباً في نفسه مثل بعض الصابون يكون فيه طيب واضح ليس مجرد نكهة لكن طيب بحيث إن الإنسان إذا غسل به ظهرت ظهر ريحه في يده هذا حكمه حكم الطيب وأما مجرد الرائحة والذي إذا غسل به الإنسان لم يكن له رائحة هذا لا بأس به لأنه من جنس التفاح والنعناع والزهور الطيبة الرائحة.
القارئ: وإن مس المحرم طيباً يعلق بيده فعليه الفدية لأنه طيب يده وإن مس ما لا يعلق بيده كقطع الكافور والعنبر فلا فدية لأنه لم يتطيب.
الشيخ: هذا صحيح وبهذا يجب الحذر من استلام الحجر الأسود لأن بعض الناس نسأل الله لهم الهداية يحسنون ويسيئون بعض الناس يملأ الحجر الأسود طيباً حتى إنه في بعض الأحيان تجده يجري وهذا لا شك أنهم آثمون لأنه سوف يلجؤون المحرمين إلى ترك الاستلام أو يستلمون ثم يتعبون في إزالة هذا الطيب الذي علق بأيديهم فلذلك يجب الحذر أنك إذا قربت من الحجر وشممت رائحة فلا تمسح لئلا يعلق بيدك أما إذا كان لا يعلق فلا بأس مثل قطع الكافور والعود أيضاً وما أشبهها.
القارئ: وإن شمه فعليه الفدية لأنه يستعمل هكذا.
الشيخ: قوله وإن شمه فعليه الفدية في هذا نظر لأن الشم ليس استعمالاً للطيب فهو لم يستعمله في بدنه ولا في ثوبه وإنما شمه شماً وربما يحتاج الإنسان إلى ذلك مثل أن يريد شراء طيب فيحتاج إلى الشم فهل نقول لا تشتر الطيب وأنت محرم أو اشتره بدون شم ففيه نظر.


القارئ: وإن شم العود فلا فدية عليه لأنه لا يستعمل هكذا ولا تقصد رائحته وإن تعمد لشم الطيب مثل أن دخل الكعبة وهي تجمر أو حمل مسكاً ليشم رائحته أو جلس عند العطار لذلك فعليه الفدية لأنه شمه قاصداً له مبتدئاً به في الإحرام فأشبه ما لو باشره وإن لم يقصد ذلك كالجالس عند العطار لحاجةٍ أخرى أو دخل الكعبة ليتبرك بها أو حمل الطيب من غير مسٍ للتجارة فلا يمنع منه لأنه لا يمكن التحرز منه فعفي عنه.
الشيخ: هذه المسائل أيضاً في بعضها نظر ذكرنا أنه إذا شمه فالصحيح أنه لا بأس به وهذا لا يعد استعمالاً كذلك أيضاً إذا جلس عند العطار ليشم رائحة العطر فإذا قلنا إنه ليس بمحظور فله أن يجلس أما إذا جلس عند العطار ليتحدث إليه في أمرٍ من الأمور أو ليشتري منه أشياء أخرى فلا يضره ذلك كذلك إذا دخل الكعبة وهي تجمر وفيها البخور يتطاير دخانه فإننا نقول لا تتعمد ذلك لأنك إذا تعمدت فإن البخور يعلق بالثوب أما إذا دخلها ليصلي فيها كما فعل النبي صلى الله عليه وآله وسلم فلا بأس.
وقول المؤلف رحمه الله ليتبرك بها في هذا نظرٌ ظاهر لأن الكعبة لا يتبرك ببنائها إنما يتبرك بدخولها تعبداً لله واستناناً برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ولهذا قال عمر رضي الله عنه للحجر الأسود حين قبله قال إني لأعلم أنك حجرٌ لا تضر ولا تنفع ولولا أني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبلك ما قبلتك ففي قول المؤلف رحمه الله ليتبرك بها نظرٌ ظاهر ولا يتبرك بشيء من الكعبة إطلاقاً ولولا أن الرسول صلى الله عليه وسلم مس الركن اليماني والحجر الأسود ما مسسناه.

فصل
القارئ: والثامن الصيد حرامٌ صيده وقتله وأذاه لقوله تعالى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ) وقوله (وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُماً).


الشيخ: (لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ) هذا عامٌ في كل صيد حتى صيد البحر لكن قوله تعالى (وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُماً) هذا خصص العموم فصار المحرم هو صيد البر أما صيد البحر فلا بأس به.
القارئ: فإن أخذه لم يملكه لأن ما حرم لحق غيره لم يملكه بالأخذ من غير إذنه كمال لغيره وعليه إرساله في موضعٍ يمتنع فيه فإن تلف في يده ضمنه كمال الآدمي للآدمي وإن كان الصيد لآدميٍ فعليه رده إليه لأنه غصبه منه ويحرم عليه تنفيره لقول النبي صلى الله عليه وسلم في مكة (لا ينفر صيدها) متفقٌ عليه وهذا في معناه فإن نفره فصار إلى شيء فهلك به ضمنه لخبر عمر رضي الله عنه ولأنه هلك بسببٍ من جهته فأشبه من نصب له شركاً فهلك به ويحرم عليه الإعانة على قتله بدلالةٍ بقولٍ أو إشارةٍ أو إعارة آلة لما روى أبو قتادة (أنه كان مع أصحابٍ له محرمين وهو لم يحرم فأبصروا حماراً وحشيا وأنا مشغولٌ أخصف نعلي فلم يؤذنوني به وأحبوا لو أني أبصرته فركبت ونسيت السوط والرمح فقلت لهم ناولوني السوط والرمح قالوا والله لا نعينك عليه -وهذا يدل على اعتقادهم تحريم الإعانة عليه- ولما سألوا النبي صلى الله عليه وسلم قال هل منكم أحدٌ أمره أن يحمل عليها أو أشار إليها قالوا لا قال فكلوا ما بقي من لحمها) متفقٌ عليه ولأن ما حرم قتله حرمت الإعانة عليه كالآدمي.
الشيخ: الحقيقة أن الإنسان بشر لو أتى بآيةٍ من كتاب الله تدل على ما ذكره نصاً وهي (وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الْأِثْمِ وَالْعُدْوَانِ) لكان هذا أولى مما ذكره للاستدلال بالقياس والله عز وجل يقول (وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الْأِثْمِ وَالْعُدْوَانِ) ومن أعان محرماً على قتل صيد فهو أعانه على الإثم والعدوان وكذلك من أعان حلالاً على قتل صيد فإنه قد كان له أثرٌ في قتله فحرم عليه.


القارئ: فإن فعل فقتله حلالٌ فالجزاء على المحرم لأن ذلك يروى عن عليٍ وابن عباسٍ رضي الله عنهما ولأن فعله سبب إتلافه فتعلق به الضمان كتنفيره وإن قتله محرمٌ آخر فالجزاء بينهما وإن كان المدلول رأى الصيد قبل الدلالة فلا شيء فيها لأنها لم تكن سبباً لإتلافه وإن ضحك المحرم عند رؤية الصيد ففطن الحلال فلا شيء فيه لأن في حديث أبي قتادة (فبينا أنا مع أصحابي إذ ضحك بعضهم فنظرت فإذا حمار وحش وفي رواية إذ أبصرت بأصحابي يتراءون شيئاً فنظرت فإذا حمار وحش) ويحرم عليه الأكل مما أشار إليه أو أعان عليه أو كان له أثرٌ في ذبحه مثل أن يعيره سكينا لحديث أبي قتادة ويحرم عليه أكل ما صاده أو صيد لأجله لما روى جابرٌ قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول (صيد البر لكم حلالٌ ما لم يقصيدوه أو يصد لكم) قال الترمذي هذا أحسن حديثٍ في الباب ويباح أكل ما عدا ذلك للحديثين فإن أكل مما منع من أكله مما لزمه ضمانه كالذي صاده أو دل عليه لم يضمنه بالأكل لأنه قد ضمنه بالقتل فلم يضمنه بالأكل كشاة غيره وكذلك إن وجب على غيره ضمانه وإن لم يكن ضمن بالقتل كالذي صاده حلالٌ من أجله ضمنه بالأكل بمثله لحما لأنه إتلاف جزءٍ للصيد حرمه الإحرام فتعلق به الضمان كإتلاف أجزاء الحي وإن ذبح المحرم الصيد حرم على كل أحد لأنه منع من الذبح لحق الله فلم يبح ذبحه كالمجوسي وما حرم عليه لدلالةٍ أو إعارة آلة أو صيد لأجله لم يحرم على الحلال لأنه لا فعل منه فيه.

السائل: إذا دل المحرم حلالاً على الصيد فصاده الحلال؟
الشيخ: الراجح أنه لا جزاء عليه لأنه لم يباشر القتل خلافاً لما مشى عليه المؤلف رحمه الله.

فصلٌ


القارئ: ويحرم عليه شراء الصيد واتهابه لما روى ابن عباس أن الصعب بن جثامة أهدى إلى النبي صلى الله عليه وسلم حماراً وحشيا فرده عليه فلما رأى ما في وجهه قال (إنا لم نرده عليك إلا أنا حرم) متفقٌ عليه ولأنه سببٌ يتملك به الصيد فلم يملكه به المحرم كالاصطياد ومتى ملك الصيد بجهةٍ محرمة حتى حل لم يبح له وعليه إرساله فإن تلف أو أتلفه فعليه فداؤه لأنه تلف بسببٍ كان في إحرامه فضمنه كما لو جرحه فمات بعد حله وإن ذبحه بعد التحلل لم يبح عند القاضي لأنه صيدٌ لزمه ضمانه فلم يبح بذبحه كحال الإحرام وقال أبو الخطاب يباح لأنه ذبحه في حال حله فأبيح كغيره.
الشيخ: الظاهر أن ما قاله أبو الخطاب هو الأرجح لأن إمساكه حرام وإبقاءه في ملكه حرام لكن لما حل صار آثماً بإمساكه وإذا ذبحه فهو حلال فالظاهر أن ما قاله أبو الخطاب أصح.
القارئ: وإن أحرم وفي ملكه صيدٌ لم يزل ملكه عنه لأنه ملكٌ فلا يزول بالإحرام كملك البضع وله بيعه وهبته وإن كان في يده المشاهدة أو قفصٍ أو حبلٍ معه فعليه إرساله فإن لم يفعل فأرسله إنسانٌ فلا ضمان عليه لأنه ترك فعل الواجب فإن تركه حتى تحلل فحكمه حكم ما صاده، وإن مات من يرثه وله صيدٌ ورثه لأن الملك بالإرث يثبت حكماً بغير اختياره ويثبت للصبي والمجنون فأشبه استدامة الملك ويحتمل أن لا يملكه لأنه ابتداء ملكٍ فأشبه الشراء.
الشيخ: والأصح الأول أنه يملكه لأنه كما قال في التعليل يثبت حكماً بغير اختيار.

فصلٌ
القارئ: والصيد المحرم ما جمع ثلاثا أحدهما أن يكون من صيد البر لأن صيد البحر حلال لقوله تعالى (أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ).
الشيخ: قوله رحمه الله (صيد البحر وطعامه) لم يتم الاستدلال بهذه الآية لأنه لا يتم حتى يذكر قوله (وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُماً) فليت المؤلف جاء بهذا.


القارئ: وصيد البحر ما يفرخ فيه ويأوي إليه وأما طير الماء فهو من صيد البر المحرم لأنه يتعيش في البحر ولا يعيش فيه وفي الجراد الجزاء لأن ذلك يروى عن عمر ولأنه لا يعيش إلا في البر فهو كسائر الطير وعنه لا جزاء فيه لأنه يروى عن ابن عباسٍ أنه من صيد البحر ويروى عن النبي صلى الله عليه وسلم من طريقٍ ضعيف.
الشيخ: والصواب الذي لا شك فيه أنه من صيد البر لأنه لا يعيش إلا في البر فما روي عن عمر رضي الله عنه هو الصحيح.
القارئ: الثاني أن يكون وحشيا فأما الأهلي كبهيمة الأنعام والدجاج فليس بمحرم لأنه ليس بصيد ولذلك يباح ذبح الهدايا والأضاحي والاعتبار في ذلك بالأصل لا بالحال فلو تأنس الوحشي كحمار الوحش والغزال والحمام لم يحل وفيه الجزاء ولو توحش الإنسي لم يحرم.
الشيخ: وعلى هذا فالحمام الذي يوجد في مكة يعتبر صيداً لأن أصله وحشي لا يأنس بالآدميين ولا يبقى معهم.
القارئ: الثالث أن يكون مباحا فلا يحرم قتل غيره بالإحرام ولا جزاء فيه لقول النبي صلى الله عليه وسلم (خمسٌ من الدواب ليس على المحرم جناحٌ في قتلهن الحدأة والغراب والعقرب والفأرة والكلب العقور) متفقٌ عليه فثبت إباحة هذه الخمسة بالنص وقسنا عليهن ما في معناهن مما فيه أذى فأما غير المأكول مما لا أذى فيه فيكره قتله ولا جزاء فيه لأن الصيد ما كان مأكولا إلا أن ما تولد بين مأكولٍ وغيره كالسِمع وهو ولد الضبع من الذئب والعسبار ولد الذئبة من الضبع يحرم قتله وفيه الجزاء تغليباً لحرمة القتل كما غلبت فيه حرمة الأكل والمتولد بين أهليٍ ووحشيٍ يحرم قتله وفيه الجزاء تغليباً للتحريم.
الشيخ: ما ذكره من المتولد من مأكولٍ وغيره فهو حرام ولا يحرم قتله لأنه لا يسمى صيداً والله عز وجل إنما حرم علينا الصيد والحرام ليس بصيد فالصواب أنه لا يحرم قتله والغالب أن مثل هذه أيضاً من المؤذيات فتكون داخلةً في الخمس التي أباح النبي صلى الله عليه وسلم قتلها في الحل والحرم.


القارئ: وفي الثعلب الجزاء مع الخلاف في أكله تغليباً للتحريم.
الشيخ: هذا أيضاً ضعيف لأنه إذا كان مختلفاً في أكله فالذي يرى أنه حلال ليس عنده في ذلك شبهة أنه صيد والذي يرى أنه حرام ليس عنده شبهة في أنه ليس بصيد وليس هذا مثل المتولد بين أهلي ووحشي فإن المتولد بين أهليٍ ووحشيٍ يحرم قتله وفيه الجزاء كما قال المؤلف رحمه الله.
والأقرب في الثعلب أنه ذو نابٍ من السباع لكن النيس حلال لأن النيس ليس له ناب من السباع ولا يأكل إلا الجمار والعلف وما أشبهه ومذهب الحنابلة أن النيس حرام لكن لا يوجد دليل على التحريم.
القارئ: وفي القمل روايتان إحداهما لا شيء فيه لتحريم أكله وأذاه فهو كالبراغيث والثانية فيه الجزاء لأنه يترفه بإزالته وأي شيء تصدق به كان خيراً منه قال القاضي وإنما الروايتان فيما ألقاه من شعره وأما ما ألقاه من ظاهر بدنه أو ثوبه فلا شيء فيه روايةً واحدةً لشبهه بالبراغيث.
الشيخ: والصواب أنه لا يحرم وأنه يجوز للمحرم أن يتفلى ويقتل القمل وهذا من باب إزالة المؤذي وليس من باب الترفه ولهذا يتأذى الإنسان بالقمل ويحب أن يزيله عن نفسه فالصواب أنه لا بأس به ولا حرج فيه.
مسألة: الجراد جزاؤه قيمته وقد يكون غالياً وقد يكون رخيصاً يمكن تكون الواحدة بريال ويمكن تكون عشرة بريال فينظر.
الشيخ: غير المأكول حلال لكن غير المأكول منه مؤذٍ ومنه غير مؤذي:
فالمؤذي يسن قتله لقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم (خمسٌ يقتلن ليس على المحرم جناحٌ في قتلهن) وفي لفظٍ (يقتلن في الحل والحرم) يدل على الأمر بقتلهن.


والقسم الثاني غير مؤذي ينقسم إلى قسمين ما نهي عن قتله فينهى عن قتله في الإحرام وغير الإحرام فقد (نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن قتل النملة والنحلة والهدهد والصرد) وما لم ينهَ عن قتله فهو مسكوتٌ عنه فيكون مما عفي عنه لكن بعض العلماء قال ما لم ينهَ عن قتله ولم يؤمر بقتله فإنه لا يقتل لأنه يسبح الله عز وجل وفي قتله تفويتٌ لتسبيح الله سبحانه وتعالى وأيضاً إذا قتله الإنسان قد يعتاد العدوان على ذوات الأرواح فيكون لا يرحم ذوات الأرواح مع أن من لا يرحم لا يرحم ولا شك أن الأولى عدم قتله أما إذا آذى فإن قتله جائز بل إذا كان من طبيعته الأذى فقتله سنة.

فصلٌ
القارئ: وما حرم من الصيد حرم كسر بيضه وفيه الجزاء لما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال (في بيض النعام يصيبه المحرم يضمنه) رواه الدارقطني ولأنه خارجٌ من الصيد يصير منه مثله فهو كالفرخ وإن كسر بيضاً لم يحل له أكله ولا يحرم على حلال لأنه لا يحتاج إلى ذكاة وقال القاضي يحرم على كل أحدٍ قياساً على الصيد.
الشيخ: الصحيح الأول لأن له مالية ولا يشترط له الذكاة لكن بالنسبة للكاسر لا يحل له أكله لأنه يحرم عليه كسره فمنع منه.
القارئ: وإن كسر بيضاً مَذِرَاً فلا شيء عليه لأنه ليس بحيوانٍ ولا يخلق منه حيوان فهو كالأحجار.
الشيخ: المذر الفاسد ويسمى عند العامة عندنا (مارج) أي فاسد.


القارئ: قال أصحابنا إلا بيض النعام فإن لقشره قيمة والأول أولى وإن نقل بيض صيدٍ وجعله تحت آخر فحضنه وأفرخ فلا شيء عليه وكذلك إن كسره فخرج منه فراخٌ فعاشت وإن لم تعش الفراخ أو لم تحضنه أو ترك مع بيضه شيئاً نفر منه الصيد فلم يحضنه ضمنه لأنه أتلفه وإن باض في طريقه أو على فراشه فنقله فلم يحضنه الصيد حتى تلف ففيه وجهان أحدهما يضمنه لأنه أتلفه لمصلحته فأشبه ما لو قتله للمجاعة والثاني لا شيء عليه لأنه ألجأه إلى إتلافه فأشبه ما لو صال عليه صيدٌ فدفعه فقتله وإن افترش الجراد في طريقه فقتله بالمشي عليه ففي الجزاء وجهان كذلك.
الشيخ: الراجح أن البيض إذا كسره فهو حرامٌ عليه ويضمنه كما قال المؤلف ولكن ليس حراماً على غيره ولكنه يضمنه ما لم يخرج منه فرخٌ فيعيش فإن خرج منه فرخٌ وعاش فلا جزاء عليه.
السائل: في بعض السنين في المسجد الحرام كان الجراد كثيراً جداً بحيث لا يمكن أن يمشي أحد إلا ويدوس على جراد لتعذر المشي.
الشيخ: إذا تعذر فلا شيء عليه لكن لا يتقصد دهسه وعليه أن يتقي ما أمكن (فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ).
مسألة: حمار الوحش قال شيخنا عبد الرحمن السعدي _ أنا أروي لكم عنه _ أنه يقول هو الوضيحي وما زلنا نقول به لكن يمكن يسمى المخطط كذلك، على كل حال كلهن حرام لأنهن من الصيد.

فصلٌ
القارئ: وإن احتاج المحرم إلى لبس المخيط أو تغطية رأسه أو الطيب لمرضٍ أو شدة حرٍ فعله وعليه الفدية قياساً على الحلق وإن اضطر إلى الصيد فله أكله وعليه جزاؤه لأنه أتلفه لمصلحته فأشبه ما ذكرناه وإن صال عليه صيد فقتله دفعاً عن نفسه فلا جزاء فيه لأنه حيوانٌ قتله لدفع شره فلم يضمنه كالآدمي وقال أبو بكرٍ عليه الجزاء لأنه قتله لمصلحة نفسه فأشبه ما لو قتله لأكله والأول أصح.
الشيخ: بلا شك أن الأول أصح وقول أبي بكر ضعيف جداً لأنه ما قتله لمصلحة نفسه قتله للدفاع عن نفسه.


القارئ: وإن خلص صيداً من سبعٍ أو شبكةٍ ليرسله فتلف ففيه وجهان أحدهما يضمنه لأنه تلف بفعله فيضمنه كالمخطئ والثاني لا يضمنه لأنه تلف بفعلٍ مباحٍ لمصلحته فلم يضمنه كالآدمي يتلف بمداواة وليه.
الشيخ: ولا شك أنه لا يضمنه لأن هذا التصرف لمصلحة الصيد ثم إن المؤلف رحمه الله وغيره ممن يعلل بهذا التعليل في غفلةٍ عن قوله تعالى (وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّداً فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَم) فإن قوله (متعمداً) تخرج هذه الصورة أي فيما لو خلصه من شيء فمات.
إذا اضطر إلى الصيد يعني جائع ولو لم يأكل لمات يحل له أن يقتله والظاهر أنه يكون حلالاً في هذه الحال ولا يكون ميتة لا يحل له منها إلا ما يسد رمقه وعليه الجزاء لأنه قتله لمصلحة نفسه.

فصلٌ
القارئ: يكره للمحرم حك شعره بأظفاره كي لا ينقطع فإن انقطع به شعره لزمته فدية.
الشيخ: وهذا الذي قاله في حك الشعر لا دليل عليه فلا يكره حتى إن عائشة رضي الله عنها قالت لو لم أستطع حكه بيدي لحككته برجلي.
القارئ: ويكره الكحل بالإثمد غير المطيب لأنه زينة والحاج أشعث أغبر وهو في حق المرأة أشد كراهة لأنها محل الزينة ولا فدية فيه لأن وجوبها من الشارع ولم يرد بها هاهنا.
الشيخ: ما أحسن هذا التعليل أن وجوب الفدية من الشارع ولم يرد الشرع بإيجابه هذه القاعدة لو جعلناها في جميع محظورات الإحرام وقلنا جميع محظورات الإحرام إذا لم يرد الشرع بفدية فيها فالأصل براءة الذمة والقياسات قد تكون قياسات مع الفارق وقد تكون قياسات في مقابلة النص وإذا لم يكن هناك دليل للكحل بالإثمد إلا ما ذكره فلا وجه للكراهة لأنه لم يحرم على المحرم الزينة وإلا لقلنا لا تلبس إحراماً نظيفاً أو جديداً ولا تغتسل والأصل عدم الكراهة إذا لم يكن هناك دليل إلا ما ذكره المؤلف وأنا لا أعلم دليلاً سواه فإنه ليس بمكروه.
القارئ: ويكره لبس الخلخال والتزين بالحلي لذلك وهو مباحٌ لحديث ابن عمر.


الشيخ: وهذا صحيح أن لبس الخلخال والحلي وما أشبه ذلك يؤدي إلى الفتنة وحكمه في الإحرام كحكمه في الحل وعلى هذا فإذا لم يكن محظور ولا فتنة كالمرأة بين النساء فلا بأس.
القارئ: ويكره أن ينظر في المرآة لإصلاح شيء لأنه نوع تزين.
الشيخ: وهذا أيضاً غير صحيح الصواب أنه لا يكره أن ينظر في المرآة وأن التعليل الذي ذكره عليل فمن قال إنه يكره للمحرم أن يتزين؟ وأما (أشعث أغبر) أو (أتوني شعثاً غبراً) فهذا باعتبار الحال لكن هل يشرع للحاج أن يتقصد ذلك؟ لا يشرع وإلا لقلنا امش في الغبار أو الأشياء التي يكون فيها الإنسان أشد شعثاً وغبرة وهذه المسألة ينبغي لطالب العلم أن يتفطن لها فمثلاً قول النبي عليه الصلاة والسلام في الرباط (إنه إسباغ الوضوء على المكاره) هل نقول يسن للإنسان أن يتوضأ بالماء البارد وعنده ماءٌ ساخن؟ لا لكن إذا لم يكن عنده إلا الماء البارد وأسبغ الوضوء في هذه الحال دخل في الرباط كذلك مسألة الحاج فالحاج مشغول بنسكه فإذا كان أشعث أغبر من أجل السفر وسير الإبل والغبار وما أشبه ذلك فإنه لا يقال إنه لا ينبغي إزالة ذلك وهو يشبه أيضاً كراهة بعض العلماء التسوك للصائم آخر النهار لئلا يزيل الرائحة فمثل هذه المسائل ينبغي أن يقال إن جاءت بلا قصد فلا بأس بها وأما أن يتقصدها الإنسان فلا ومثل ذلك أيضاً إذا كان للإنسان بيتان أحدهما قريب من المسجد والآخر بعيد لا نقول اذهب إلى البعيد من أجل أن تأتي إلى المسجد بخطوات أكثر أو إذا كان هناك طريقان أحدهما بعيد والثاني قريب نقول الأفضل أن تقصد البعيد أو يقال أيضاً الأفضل أن تقارب الخطى كل هذه من الأمور التي فيها نظر.
القارئ: ويكره أن يدهن بدهنٍ غير مطيب لذلك وعن أحمد في جوازه روايتان إلا أنه يحتمل أن تختص الروايتان بدهن الشعر لأنه يزيل الشعث ويسكن الشعر ويزينه.
الشيخ: وهل تسكين الشعر مكروه والرسول صلى الله عليه وسلم قد لبد رأسه في الإحرام!!


القارئ: ويباح التدهن في غيره لأن للمحرم أكل الدهن فكان له أن يدهن به.
الشيخ: الإدهان يلين الجلد ويزين الملمس فإذا قالوا إنه يكره ماسبق فيكره هنا أيضاً فهذا مما يدل على أن الشيء الذي ليس له أصل من الشرع لا بد أن يكون فيه تناقض.
القارئ: وقد روى ابن عمر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم ادهن بدهنٍ غير مقتت أي غير مطيب يعني وهو محرم إلا أنه من رواية فرقد وهو ضعيف، ولا فدية فيه بحال لما ذكرنا.
الشيخ: الذي ذكره أن إيجاب الفدية إنما يكون من الشارع ولم يرد.
القارئ: وينبغي أن ينزه إحرامه عن الشتم والكذب والكلام القبيح والمراء لقول الله (فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ فِي الْحَج) قال ابن عباس الفسوق المنابزة بالألقاب وتقول لأخيك يا فاسق يا ظالم.
الشيخ: قوله رحمه الله وينبغي أن ينزه إحرامه عن الكذب والشتم هذا معناه لمعنىً يخص الإحرام وإلا فإن هذه الأشياء حرام حتى في الحل فالكذب حرام والشتم حرام والكلام القبيح حرام والمراء بالباطل حرام لكن قصده أنها يتأكد طلبها في حال الإحرام وإلا فهي حرام لا شك.
القارئ: والجدال أن تماري صاحبك حتى تغضبه.
الشيخ: والجدال ينبغي أن يفصل فيه فيقال الجدال المأمور به لا بد منه فلو أن رجلاً من أهل البدع جادلك وأنت محرم فلا نقول لا تجادله بل نقول جادله لأن هذا من فعل الخير الذي يكمل به النسك لكن الجدال الذي ليس فيه فائدة هذا الذي ينهى عنه كما يحدث في مجالس كثيرٍ من الناس يتجادلون في كثيرٍ من الأشياء ربما لا يكون فيها فائدة وربما يكون فيها مضرة بسبب فلان قال كذا وفلان قال كذا وما أشبهها أما الجدال لإبطال الباطل أو إثبات الحق فإنه مأمورٌ به في حال الإحرام وغيرها وقد يتعين ببعض المواضع.
القارئ: وروى أبو هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال (من حج فلم يرفث ولم يفسق خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه) متفقٌ عليه.


الشيخ: كيومَ بالفتح العلة في ذلك أنها أضيفت إلى المبني ولهذا لو أضيفت إلى معرب أعربت كقوله (إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ) فإذا أضيفت إلى مبني فالأفصح البناء على الفتح.
القارئ: ويستحب له قلة الكلام إلا فيما ينفع لقول النبي صلى الله عليه وسلم (من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه) ففي حال الإحرام والتلبس بطاعة الله تعالى والاستشعار بعبادته أولى.
الشيخ: وقوله إلا فيما ينفع يشمل ما كان نافعاً لذاته وما كان نافعاً لغيره فالنافع لذاته مثل القرآن والتسبيح والتكبير والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وتعليم العلم والنافع لغيره هو الذي يقصد به أنس الصحبة والرفقة فهو مباح والمقصود به إدخال الأنس على الرفقة والصحبة ولهذا لو أن أحداً حج مع رفقته وصار كلما جلس مجلساً اشتغل بالقرآن أو بالذكر ولم يدخل عليهم السرور قلنا هذا خلاف هدي النبي عليه الصلاة والسلام فهدي النبي عليه الصلاة والسلام أنه يدخل السرور على من رافقه وصاحبه.
السائل: هل الأولى للإنسان أن يشتغل بالدعوة في الطواف والسعي لأن هناك منكرات كثيرة أم يشتغل بعبادته الخاصة؟
الشيخ: الأفضل أن يشتغل بالعبادة الخاصة حتى في إجابة الأسئلة إذا كان يلهيه لا ينبغي.

فصلٌ
القارئ: ولا بأس أن يغتسل المحرم بالماء والسدر والخطمي ولا فدية عليه وعنه عليه الفدية والأول أصح لقول النبي صلى الله عليه وسلم في الميت المحرم (اغسلوه بماءٍ وسدر) وقال عبد الله بن حنين امترى ابن عباسٍ والمسور بن مخرمة في غسل المحرم رأسه فأرسلوني إلى أبي أيوب الأنصاري أسأله كيف رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يغسل رأسه وهو محرم قال فصب على رأسه مقبلاً ومدبرا وقال هكذا رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يفعل متفقٌ عليه.


الشيخ: وهذا السؤال غريب يدل على ذكاء المرسل وهو ابن عباس رضي الله عنه لم يقل اسئله هل الرسول يغسل رأسه بل كيف يغسل وكأن الأمر أمرٌ مسلم والظاهر أن ابن عباس كان رواه عن أبي أيوب أو ما أشبه ذلك.
القارئ: ويجوز أن يحتجم ولا يقطع شعراً لما روى ابن عباسٍ (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم احتجم وهو محرم) متفقٌ عليه.
الشيخ: سبحان الله هل يمكن أن يحتجم في رأسه ولا يقطع شعراً؟ لا يمكن المذهب أنه يحتجم وإذا قطع شعراً فدى والصحيح أنه يحتجم وإذا قطع شعراً فلا فدية لأن النبي صلى الله عليه وسلم احتجم ولم ينقل عنه أنه فدى فإن قال قائل لماذا لا تقيسونه على حلق الشعر من الأذى وتقولون إن هذا حلق رأسه لمصلحة نفسه؟ فيقال ظاهر الحديث أن النبي عليه الصلاة والسلام لم يفد وليس نصاً في الواقع لأنه ما قال _ ولم يفدِ _ ولهذا لو أن أحداً عارض وقال عدم ذكر الفدية ليس ذكراً للعدم لأننا قد علمنا أن أخذ الشعر من الرأس يوجب الفدية لكن الجواب عن هذا الإشكال وهو إشكالٌ في محله أن يقال إن الله تعالى قال (وَلا تَحْلِقُوا رُؤُوسَكُمْ) والنسك يتعلق بحلق الرأس كله وهذا هو الذي فيه الفدية أما إذا حلق هذا الجزء اليسير فإنه لا فدية فيه لكن إن كان لغير عذر فهو حرام وإن كان لعذرٍ فهو حلال فالعذر الحجامة أو أن يكون هناك شجة في رأس الإنسان يحتاج إلى أن يقص الشعر حولها أو يحلقه فهذا يكون الحلق حلالاً ولا فدية فيه ولهذا كان أصح المذاهب في هذه المسألة مذهب مالك رحمه الله أن الذي فيه الفدية هو الذي يماط به الأذى وهو الذي يشمل ثلثي الرأس أو نحوها أو أكثر وأما ما دون ذلك فلا فدية فيه لكن إما أن يحرم وإما أن يحل فمع العذر يحل ومع عدمه يحرم وهذا هو الذي ذهب إليه شيخ الإسلام في مسألة الحجامة أنه لا يجب عليه الفدية لما حلقه من شعر الحجامة.


القارئ: ويجوز أن يفتصد كما يجوز أن يحتجم ويتقلد بالسيف عند الضرورة لأن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم دخلوا في عمرة القضية متقلدين سيوفهم ولا بأس بالتجارة (والتكسب بالصناعة) لقول الله تعالى (لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ) قال ابن عباسٍ كانت ذوالمجاز وعكاظ متجراً للناس في الجاهلية فلما جاء الإسلام كأنهم كرهوا ذلك حتى نزلت (لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ) في مواسم الحج رواه البخاري.
الشيخ: قوله في مواسم الحج هذه ليست قراءة لكنها تفسير من ابن عباس رضي الله عنهما والآية عامة.

فصلٌ
القارئ: ومن جامع أفسد حجه وعليه بدنة سواءٌ كان عالماً أم جاهلا عامداً أم ناسيا لأنه في معنىً يتعلق به قضاء الحج فاستوى عمده وسهوه كالفوات.
الشيخ: هذا هو التاسع من محظورات الإحرام وهو الجماع يقول فمن جامع أفسد حجه وعليه بدنة ولكن هذا مشروطٌ بما إذا جامع قبل التحلل الأول وبماذا يحصل التحلل الأول؟ المشهور من المذهب وعليه أكثر أهل العلم أنه لا يحصل التحلل الأول إلا بالرمي والحلق أما النحر على كلام العلماء رحمهم الله لا علاقة له بالتحلل لكن الرمي والحلق وقال بعض أهل العلم بل يتحلل بالرمي وحده وعلى هذا فهذه المسألة كبيرة جداً تحتاج إلى تحرير لأن بعض العلماء قال إن التحلل الأول يحصل بالرمي فقط وكتب في ذلك رسالة فالمسألة تحتاج إلى تحرير إذا جامع قبل التحلل الأول فسد حجه ويترتب عليه أعني الجماع قبل التحلل الأول خمسة أمور أولاً الإثم والثاني فساد النسك والثالث وجوب المضي فيه والرابع قضاؤه من العام القادم والخامس بدنة كل هذه تترتب على الجماع قبل التحلل الأول.


المؤلف يقول من جامع فسد حجه وعليه بدنة سواءٌ كان جاهلاً أوعالماً عامداً أو ناسياً أما قوله فسد حجه فهذا يكاد يكون كالإجماع من الصحابة رضي الله عنهم وأما لزوم البدنة فقال بها أيضاً الصحابة روي عنهم عن عدةٍ منهم ولم يروَ عن غيرهم خلافه وأما كونه جاهلاً أو عالماً عامداًَ أو ناسياً فهذا ليس بصحيح والصحيح أنه لا يترتب على الجماع شيء من أحكامه إلا إذا كان عالماً ذاكراً غير مكره لأن هذه هي القاعدة في جميع محظورات العبادات كل محظورات العبادات لا يمكن أن يترتب أثرها إلا بهذه الشروط الثلاثة العلم والذكر وعدم الإكراه.
فإن قال أنا لا أدري أنه يترتب على الجماع هذه الأمور لكني أدري أنه حرام فهل يعذر؟ لا لأن الجهل بالعقوبة ليس بعذر فإن العالم بالحكم قد انتهك الحرمة وقوله لأنه معنىً يتعلق به قضاء الحج فاستوى عمده وسهوه كالفوات هذا غلط يعني تعليلٌ عليل إن لم نقل إنه ميت لماذا لا نقول لأنه محظور من محظورات الإحرام فلا يترتب عليه حكمه إذا كان جاهلاً أو ناسياً أما الفوات فالفوات ترك واجب لأنه إذا فات الحج معناه أنك لم تقم ببقية أركانه فمن فاته الحج يتحلل بعمرة ويحج من العام القادم.
القارئ: وإن حلق أو قلم ناسياً أو جاهلا فعليه الفدية لأنه إتلاف فاستوى عمده وسهوه كإتلاف مال الآدمي ويتخرج أن لا فدية عليه قياساً على اللبس.


الشيخ: لا شك أن هذا التخريج هو الصواب يقول إذا حلق أو قلم ناسياً أو جاهلاً فعليه الفدية وذكر أنه إتلاف فاستوى عمده وسهوه كإتلاف مال الآدمي وهل حرم الحلق وتقليم الأظفار لأنه إتلاف أو لأنه ترفه؟ هم قالوا لأنه ترف فكيف مرةً يكون إتلافاً ومرةً يكون ترفهاً ثم إذا قدرنا أنه إتلاف فما قيمة قلامة الظفر؟ لا شيء ولهذا يتبين لك ضعف الأقوال إذا كانت بعيدةً عن القواعد الشرعية هناك تعليل آخر أحسن من تعليل المؤلف ومع ذلك فيه نظر قال لأنه إتلافٌ فاستوى فيه العمد وغيره كجزاء الصيد لأن جزاء الصيد من أجل الإتلاف فيكون هذا مثله فنقول هذا قياس مع الفارق أيضاً قلامة ظفر تقيسها بغزالة لا يستقيم هذا ثم إننا نمنع الحكم في الأصل المقيس عليه ونقول إن الصيد إذا كان جاهلاً أم ناسياً فلا ضمان عليه.
القارئ: وإن قتل الصيد مخطئاً فعليه جزاؤه لأنه ضمان مال فأشبه ضمان مال الآدمي وعنه لا جزاء عليه.
الشيخ: نعم هو ضمان مال لا شك لكن لله والله تعالى لما علم عباده (رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا) قال قد فعلت بخلاف مال الآدمي فالقياس إذاً قياسٌ مع الفارق فلا يصح.
القارئ: وعنه لا جزاء عليه لقول الله تعالى (وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّداً فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ) مفهومه أنه لا شيء في الخطأ.
الشيخ: هذا هو القول الصحيح يعني هذه الرواية عن أحمد هي القول الراجح المتعين لأن الله قال (وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّداً) فقيده بوصفٍ مناسبٍ للحكم وهو العمد فإنه يناسب أن يحكم عليه بالجزاء فكيف نلغي هذا الوصف والله تعالى قد اعتبره وقيد به الحكم فهذه الرواية هي الصواب.
القارئ: وإن تطيب أو لبس ناسياً أو جاهلا فلا فدية عليه لما روى يعلى بن أمية أن رجلاً أتى إلى النبي صلى الله عليه وسلم وعليه جبة وعليه أثر خلوق.
الشيخ: خلوق يعني طيب.


القارئ: فقال يا رسول الله كيف تأمرني أن أصنع في عمرتي قال اخلع عنك هذه الجبة واغسل عنك أثر الخلوق واصنع في عمرتك كما تصنع في حجك متفقٌ عليه ولم يأمره بفديةٍ لجهله وقسنا عليه الناسي لأنه في معناه.
الشيخ: هذا الاستدلال استدلال جيد يقول إنه قال افعل كذا ولم يأمره بفدية مع دعاء الحاجة إلى بيان ذلك لو كان يلزمه وهذه قاعدة ينبغي لطالب العلم أن يسير عليها في كل النصوص لكن أحياناً العلماء رحمهم الله بعضهم يسير عليها في موضع ولا يسير عليها في موضعٍ آخر ولكن الصواب أنها قاعدة صحيحة وأنها سليمة فليمش عليها وهو أنه إذا دعت الحاجة إلى بيان شيء ولم يبين كان ذلك دليلاً على أنه لا اعتبار به.
القارئ: وعنه عليه الفدية لأنه فعلٌ حرمه الإحرام فاستوى عمده وسهوه كالحلق والأول المذهب.
الشيخ: المذهب أصح.
القارئ: ومتى ذكر الناسي أو علم الجاهل فعليه إزالة ذلك فإن استدامه فعليه الفدية لأنه تطيب ولبس من غير عذر فأشبه المبتدئ به.
الشيخ: لو قال استدامه بلا عذر فأشبه من ابتدأه على كل حال ما ذكره المؤلف صحيح أنه متى ذكر أو علم وجب عليه التخلي عن المحظور سواء كان طيباً أو لبساً أو غير ذلك يغسله وإذا غسله بيده انتقل الطيب إلى يده نقول هذا لا بأس به لأنه للتخلص منه.
القارئ: وحكم المكره حكم الناسي لأنه أبلغ منه في العذر وإن مس طيباً يظنه يابساً فبان رطبا ففيه وجهان أحدهما عليه الفدية لأنه قصد مس الطيب والثاني لا فدية عليه لأنه جهل تحريمه فأشبه من جهل تحريم الطيب.
الشيخ: الصواب لأنه جهل حاله: هذا جهل حال لأنه مسه يظنه يابساً لا يجهل أن الطيب حرام لكن يظنه يابساً فبان رطباً فنقول لأنه جهل الحال فكان كجاهل الحكم والصواب أنه لا شيء عليه لأنه معذور فلو مس طيباً يظن أنه يابس فتبين أنه رطبٌ وعلق بيده فلا شيء عليه ولكن عليه أن يبادر فيزيل ما علق بيده.


القارئ: ومن طُيب أو حُلق رأسه بإذنه فالفدية عليه لأن ذلك ينسب إليه وإن حلق رأسه مكرهاً أو نائما فالفدية على الحالق لأنه أمانةٌ عنده فالفدية على من أتلفه بغير إذنه كالوديعة.
الشيخ: أما الأول فصحيح أن من طُيب أو حُلق رأسه بإذنه فعليه الفدية لأن ذلك بإذنه ورضاه فهو كالفاعل والآذن والراضي كالفاعل.
وأما الثاني وهو من حلق رأسه مكرهاً أو نائماً فالفدية على الحالق ففيه نظر لأن هذا ليس مالاً وإنما هو تعبد لله تعالى بترك الحلق وهذا الرجل النائم أو المكره لم ينتهك حراماً فلا شيء عليه والحالق لا شيء عليه لأنه ليس بمحرم ولكن قد يعزر هذا الحالق بما يراه الإمام باعتدائه على أخيه.
القارئ: وإن حلق وهو ساكتٌ لم ينكر فالفدية عليه كما لو اتلفت الوديعة وهو يقدر على حفظها فلم يفعل.
الشيخ: هذا صحيح لكن لو علل ذلك بأنه رضي بفعل المحظور فيه لكان أحسن لأن مسألة الوديعة أموال وليست عبادات لكن يقال في هذا الذي حلق وهو ساكت إن سكوته إقرارٌ وإذن.
القارئ: وإن كشط من جلده قطعةً عليها شعرٌ أو قطع أصبعاً عليها ظفرٌ فلا فدية عليه لأنه زال تبعاً لغيره فلم يضمنه كما لو قطع أشفار عيني إنسان فإنه لا يضمن أهدابها.