شرح زاد
المستقنع للحمد وقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (يؤم
القوم أقرؤهم) يدخل في ذلك العبد والحاضر والمسافر والبدوي وغيرهم – وإن
كان من هذه الأشياء التي ذكرها المؤلف ما يكون مرجحاً.
فلا شك في ترجيح إمامه المقيم على إمامة المسافر مع التساوي، ولا شك بتقديم
المختون المطبق للسنة على الأقلف الغير مطبق لها، فيقدم؛ لأنه أطوع لله عز
وجل وأكثر تطبيقاً للسنة.
أما أن يكون هذا أولى مطلقاً فليس بصحيح.
فإذن: يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله مطلقاً، أما في مسائل الترجيح فإنه يرجح
مثل من تقدم كالمقيم وغيره.
والحمد لله رب العالمين.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: (ولا تصح خلف فاسق ككافر)
أي لا تصح الصلاة خلف الفاسق كما أنها لا تصح خلف الكافر، فالصلاة خلف
الكافر فقد اتفق أهل العلم على بطلانها.
وهنا يقيس الفاسق في الإمامة على الكافر بجامع أن كلا منهما لا يقبل خبره
لمعنى في دينه، فهذا للكفر وهذا للفسق.
وفي ابن ماجه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (لا يؤمن امرأة رجلاً
ولا أعرابي مهاجراً ولا فاجر مؤمناً) لكن الحديث إسناده ضعيف جداً.
فالمشهور من المذهب: أن الصلاة خلف الفاسق باطلة لا تصح.
وهل المقصود بالفاسق من ظهر فسقه أم من خفي؟
قولان للحنابلة:
الأول: أن المقصود من ظهر فسقه.
الثاني: أنه وإن خفي فسقه فحكمه كذلك.
واستثنوا من ذلك صلاة العيد والجمعة، فقالوا: تصح خلف الفاسق؛ لأن صلاة
الجمعة والعيد تكون في الأصل وراء إمام واحد فهذا هو أصل مشروعيتها ففي
إبطالها وراء الفاسق تفويت لها.
وعليه فإذا كانت الجمعة تصلى مع أكثر من إمام وكذلك في العيد فيجب أن يتحرى
الإمام العدل.
فرأوا بطلان الصلاة خلف الفاسق لكن إن رأى أن المصلحة في الصلاة وراءه ودرء
المفسدة بذلك صلى وأعاد صلاته.
وله أن يصلي معه بنية المفارقة فيقتدي به في الظاهر وينوي في الباطن
مخالفته.
وإن كان مجهول الحال لم تثبت عدالته ولم
يثبت فسقه فيصح الاقتداء.
والمستحب عدم ذلك وذلك - أي صحة الصلاة خلفه –؛ لأن الأصل في المسلمين
العدالة.
وكذلك عندهم الحكم في المبتدع فالفسق يدخل فيه الفسق في الاعتقاد والفسق في
العمل.
أما الفسق في الاعتقاد فهو أن يفعل بدعة لا تكفره، وأما الفسق بالعمل فهو
أن يفعل كبيرة أو يصر علي صغيرة.
فإذن: الصلاة خلف الفاسق باطلة سواء كان فسقه في الاعتقاد أو الفعل، هذا هو
تقرير مذهب الحنابلة.
وذهب جمهور أهل العلم: إلى أن الصلاة صحيحة، واستدلوا بأدلة كثيرة من
السنة:
ما ثبت في البخاري أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (يصلون لكم فإن
أصابوا فلكم ولهم وإن أخطؤوا فلكم وعليهم)
وما ثبت في مسلم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال في أئمة الجور: (صلوا
الصلاة لوقتها ثم اجعلوا صلاتكم معهم نافلة) فصححها النبي - صلى الله عليه
وسلم -.
وبما رواه أبو داود في سننه من حديث مكحول عن أبي هريرة أن النبي - صلى
الله عليه وسلم - قال: (الصلاة المكتوبة واجبة خلف كل مسلم براً كان أو
فاجراً وإن عمل الكبائر) وفي إسناده انقطاع، ومع ذلك فهو أصح مما استدل به
أهل القول الأول وله شواهد تدل عليه.
وبما رواه الدارقطني بإسناد ضعيف أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال:
(صلوا خلف كل من قال لا إله إلا الله وعلى كل من قال لا إله إلا الله)
قالوا: وعليه عمل السلف الصالح، فقد كانوا يصلون وراء أئمة الجور مع ثبوت
فسقهم، كما صح ذلك عن أبي سعيد الخدري في الصحيحين، وعن ابن عمر في
البخاري، وعن الحسن والحسين في البيهقي وابن أبي شيبة حتى حكاه بعضهم
إجماعاً للصحابة، والمراد في صلاتهم خلف من كان فسقهم فسق عمل.
كما ثبت في البخاري أن عثمان أتاه عبيد
الله بن عدي بن الخِيَار (1) فقال له - وهو محصور –: " إنك إمام عامة وقد
نزل بنا ما ترى وإنه يصلي بنا إمام فتنة فقال عثمان: (الصلاة أحسن ما يعمل
الناس فإن أحسنوا فأحسن معهم وإن أساؤوا فاجتنب إساءتهم)
وقال الحسن البصري كما في البخاري: (صل وعليه بدعته) .
فهذا القول هو الذي تعضده الأدلة من قول النبي - صلى الله عليه وسلم -
وأفعال الصحابة.
لكن اتفق أهل العلم على كراهية الصلاة خلف الفاسق المبتدع وأنهم لا يولونه
الإمامة، إلا أن يترتب على ذلك مفسدة أو فوات مصلحة أو يحتاج إلى الصلاة
خلفه فحينئذ يصلى خلفه والصلاة صحيحة، لكن إن أمكنه أن يصلي مع غيره فهو
المشروع في حقه.
وأما الكافر فقد اتفق أهل العلم على عدم صحة الصلاة خلفه سواء كان كافراً
أصلياً أو مرتداً أو صاحب بدعة مكفرة أخرجته من الإسلام كالرافضة والجهمية
على قول طوائف كثيرة من السلف.
وأما الصلاة خلف من جهلت عقيدته، فقد ذكر شيخ الإسلام اتفاق العلماء على
صحة الصلاة خلفه وأنه لا يشرع امتحانه أو سؤاله.
وهو كما قال شيخ الإسلام لأن الأصل في المسلمين حسن الاعتقاد لكن يستثنى من
ذلك، حيث كان مظنة سوء الاعتقاد كأن يأتي من بلاد تشتهر فيها البدعة فإنه
يسأل عن الاعتقاد؛ لأنه مظنة العقيدة التي تعتقدها أهل بلده.
أما إذا كان من بلد أصحابها أهل سنة وعقيدة فلا يشرع سؤاله ولا امتحانه بل
يصلى خلفه وإن جهل اعتقاده.
__________
(1) هو عبيد الله بن عديّ بن الخِيَار، ابن عدي بن نوفل بن عبد مناف القرشي
النوفلي المدني، قتل أبوه ببدر، وكان هو في الفتح مميِّزاً، فعدَّ في
الصحابة لذلك، وعَدَّه العجلي وغيره من ثقات التابعين، مات في آخر خلافة
الوليد بن عبد الملك / خ م د س.التقريب.
وحكى شيخ الإسلام أيضاً: أن من أنكر صحة
الصلاة خلف المخالف في المذهب فإنه قد خالف الكتاب والسنة وإجماع السلف
وأنه ضال مبتدع، وذلك مع صحة اعتقاده في الإمام، لأن الصحابة كان بينهم
خلاف في مسائل كثيرة – من الفروع مما يسوغ فيه الخلاف في مسائل الطهارة
والصلاة ونحو ذلك - ومع ذلك كان بعضهم يصلي وراء بعض من غير نكير لذلك
فمخالفتهم مخالفة للسنة، كأن يصلي خلف من لا يعتقد نقض الوضوء بأكل لحم
الجزور وهو يعتقد ذلك.
قال: (ولا خلف امرأة)
باتفاق العلماء؛ لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (لا يفلح قوم ولَّوا
أمرهم امرأة)
لكن هل تستثنى النافلة؟
في رواية عن الإمام أحمد: استثناؤها.
وعن الإمام أحمد وهو اختيار أكثر أصحابه وهي من مفردات المذهب: أن الصلاة
خلف المرأة في التراويح صحيحة جائزة.
وقيده بعضهم: بأن تكون ذات محرم.
وقيده بعضهم بأن تكون عجوزاً – أي كبيرة في السن –.
إلا فإطلاق بعضهم أنها تصلي مطلقاً - هذا في الحقيقة - من الغرائب.
لكن قالوا: تصلي خلفهم ولا تصلي أمامهم.
وهل يقتدون بها بمطلق الصلاة أم بالقراءة فقط؟
قولان:
الأول: أنهم يقتدون بها في مطلق الصلاة.
الثاني: أنهم يقتدون بها في القراءة فحسب، فتسمعهم القراءة ثم يركعون
ويسجدون مع إمام آخر.
ودليلهم: ما رواه أبو داود في سننه: عن أم ورقة بنت نوفل أن النبي - صلى
الله عليه وسلم - كان يزورها وكانت قد جمعت القرآن فجعل لها مؤذناً وأمرها
أن تؤم أهل بيتها) والحديث إسناده ضعيف لجهالة في عين بعض رواته.
ولو صح فالحديث عام في الفريضة والنافلة وقد ذهب إليه بعض العلماء وأن
الصلاة صحيحة خلفها فرضاً ونفلاً، لكن هذا ضعيف باتفاق العلماء –في الحديث
-: (لا يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة)
قال: (ولا خنثي للرجال)
لاحتمال أن يكون امرأة، وهو من التبس في أمره خلقةً فلم يثبت بعد أذكر هو
أم أنثى، وهذا هو الخنثى المشكل.
فإن تبين أنه ذكر صحت، وإن تبين أنه أنثى
لم تصح وذلك إذا ظهر. أما قبل الظهور فلا تصح الصلاة خلفه لاحتمال أن يكون
امرأة وهذه من المسائل النادرة.
قال: (ولا صبي لبالغ)
الصبي: هو ابن سبع أو ست أو خمس سنين ممن ثبت تمييزه.
فالصبي لا يجوز أن يؤم البالغين في الفرض، أما في النفل فتصح.
هذا هو المشهور في المذهب؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم -: (فلا تختلفوا
عليه) قالوا: والصبي يصلي بنية النفل، والبالغ يصلي بنية الفرض وهذا اختلاف
في النية بينهما، وقد قال: (فلا تختلفوا عليه) وهذا بناء على أنه لا تصح
الصلاة خلف المخالف بالنية – وسيأتي الراجح – إن شاء الله.
وذهب الشافعية وهو رواية عن الإمام أحمد: إلى أن صلاة الصبي صحيحة
بالبالغين فرضاً ونفلاً، لحديث عمرو بن سلمة وفيه: (فنظروا فلم يكن أحد
أكثر مني قرآناً فقدموني وأنا ابن ست سنين أو سبع سنين) رواه البخاري.
فهذا فعل الصحابة، وهو عموم الأدلة الشرعية: (يؤمكم أكثركم قرآناً)
وأما ما ذكروه من اختلاف النية فإن هذا الحديث لا يفسر به على الصحيح.
بل تفسر بالاختلاف في الأفعال الظاهرة كما دل عليه الحديث في قوله: (ولا
تركعوا حتى يركع)
وأما المخالفة في النية فإنه لا أثر لها على الصحيح وسيأتي بيانه إن شاء
الله تعالى.
فالراجح أن الصلاة خلف الصبي فرضاً ونفلاً صحيحة لحديث عمرو بن سلمة الذي
رواه البخاري وغيره.
وأما النفل فاتفق العلماء على صحتها من الحنابلة وغيرهم؛ لأن النفل له نفل
ولهم نفل فالنية غير مختلفة.
قال: (ولا أخرس ولو بمثله)
الأخرس: هو الذي لا ينطق.
فلا تصح إمامته لأنه ترك ركناً من أركانها وهو الفاتحة بغير بدل.
ثم إن الإمامة قوامها القراءة والتكبير والتسميع وهذا لا يكون منه، وهو
باتفاق العلماء.
لكن إن كان بمثله؟
فالمشهور في المذهب: أنه لا يصح.
وقياس المذهب وهو اختيار بعض الحنابلة: صحة ذلك.
لكن يجب أن يقيد هذا – مع ترجيحه – بألاَّ
يوجد إمام غير أخرس فيصح أن يقتدي به.
قال: (ولا عاجز عن ركوع أو سجود أو قعود أو قيام)
فالمذهب أنه لا يجوز أن يولى الإمامة من كان عاجزاً عن القيام أو القعود أو
الركوع أو السجود.
وقيَّدوه " إلا بمثله "، لذا ذكرنا أن قياس المذهب صحة الصلاة بمثله في
الأخرس.
فلا تصح إمامة العاجز عن الركوع أو السجود أو القعود إلا بمثله.
وهذا هو المشهور في المذهب.
وذهب الشافعية وهو اختيار شيخ الإسلام: إلى صحة إمامته لعموم قول النبي -
صلى الله عليه وسلم -: (يؤم القوم أقرأهم لكتاب الله) وهو وإن ترك الركوع
والسجود أو القيام أو القعود أو نحو ذلك من الأركان التي لا تتأثر بها
الإمامة إنما تركه على سبيل العذر فهو معذور في ذلك ومن صحت صلاته لنفسه
صحت صلاته لغيره ولا دليل شرعي يمنع من ذلك.
وكونه عاجزاً عن فعلها هو معذور في ذلك فلا مانع من إمامته.
وهذا هو الراجح لعمومات الأدلة الشرعية. ومن صحت صلاته، صحت إمامته.
قال: (إلا إمام الحي المرجو زوال علته)
يستثنى من ذلك - أن في صحته أن يصلي قاعداً – مثلاً - إمام الحي الراتب إن
أصيب بعلة يرجى زوالها.
وهنا قيدان اثنان:
القيد الأول: أن يكون إمام الحي.
القيد الثاني: أن يكون مرجو زوال علته.
واستدلوا: بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قد أمَّ على ذلك، ففي الصحيحين
عن عائشة في مرض النبي - صلى الله عليه وسلم - قالت: (فجاء النبي - صلى
الله عليه وسلم - حتى جلس عن يسار أبي بكر فكان يصلي بالناس جالساً وأبو
بكر يصلي قائماً يقتدي أبو بكر بصلاة النبي - صلى الله عليه وسلم - ويقتدي
الناس بصلاة أبي بكر)
وقال بعض الحنابلة وهو اختيار الشيخ عبد
الرحمن بن سعدي: قال لا يشترط ذلك لعدم الدليل عليه، ولأن الأحاديث عامة في
ذلك: (وإن صلى قاعداً فصلوا قعوداً أجمعين) فلا يقيد بالإمام الراتب ولا
بمرجو زوال العلة؛ ولأنه معذور في نفسه، صحيحة صلاته، وقد ترك ركناً لا
يؤثر بالمأمومين تركه – أي من حيث الائتمام –، فلم يكن ذلك مؤثراً في
اقتدائهم، فصحت الصلاة خلفه.
وهذا القول أظهر، والنبي - صلى الله عليه وسلم - عندما صلى بهم لا يظهر لنا
أنه كان مرجو زوال العلة فقد كان ذلك في مرض موته، وقد خشي الصحابة عليه
الموت كما هو مشهور في قصة مرضه - صلى الله عليه وسلم -، فلا يُسلَّم – أنه
كان مرجو زوال العلة.
قال: (ويصلون وراءه جلوساً ندباً)
إن صلى جالساً فإنهم يصلون وراءه جلوساً، بخلاف ما إذا ترك الركوع أو
السجود فإنهم يسجدون.
أما إن صلى جالساً فيصلون وراءه جلوساً لحديث: (فإن صلى جالساً فصلوا
جلوساً أجمعين)
وثبت في مسلم عن عائشة قالت: (اشتكى النبي - صلى الله عليه وسلم - فأتاه
بعض أصحابه يعودونه فصلى بهم جالساً وصلوا قياماً فالتفت إليهم وأشار أن
اجلسوا) .
وفي مسلم نحوه من حديث جابر وفيه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (إن
كدتم آنفاً لتفعلون فعل فارس والروم يقومون على ملوكهم وهم قعود)
" ندباً ": فلا يجب ذلك، فلو صلوا قياماً صحت صلاتهم ولم يتركوا بذلك
واجباً من واجبات الصلاة.
هذا هو المشهور في المذهب.
وقال بعض الحنابلة: بل ذلك فرض عليهم أي الجلوس.
واستدل أهل القول الأول بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يبطل صلاتهم
لما صلوا خلفه قياماً.
أما دليل أهل القول الثاني: فهو أمر النبي - صلى الله عليه وسلم -، قوله:
(إن كدتم آنفاً لتفعلون فعل فارس والروم يقومون على ملوكهم وهم قعود) وهو
تشبه بهم والتشبه بهم محرم.
فعلى ذلك يجب عليهم أن يصلوا قعوداً وعليه:
إن صلوا قياماً بطلت صلاتهم.
وأجابوا عما استدل به أهل القول الأول، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم
يبطل صلاتهم؛ لأنهم فعلوا ذلك جهلاً، فعذرهم النبي - صلى الله عليه وسلم -،
ولهذا نظائر كثيرة وقواعد الشريعة تدل عليه. وهذا القول الراجح.
قال: (فإن ابتدأ لهم قائماً ثم اعتلَّ فجلس أتموا خلفه قياماً وجوباً)
هذا استثناء:
وهو أنه إذا ابتدأ الإمام الصلاة قائماً فشرعوا في الصلاة في حال القيام ثم
اعتلَّ الإمام فجلس فإنهم يتمون صلاتهم قياماً كما شرعوا فيها قياماً.
إذن المسألة السابقة: حيث كان الإمام مبتدئاً جالساً فكبَّر بهم تكبيرة
الإحرام جالساً. أما إن شرع بهم قائماً ثم جلس فإنهم يتمون الصلاة قياماً.
واستدلوا: بحديث أبي بكر المتقدم فإن فيه أن أبا بكر صلى بالناس قائماً
فجاء النبي - صلى الله عليه وسلم - فجلس عن يسار أبي بكر فكان المأمومون مع
إمامهم الأول قد شرعوا في الصلاة قائمين ثم اعتلَّ الإمام حيث أن النبي -
صلى الله عليه وسلم - صلى بهم وبه علته المقتضية للجلوس، فأتموا صلاتهم
قائمين.
1- هذا المشهور في المذهب من الجمع بين حديث أبي بكر وحديث: (إذا صلى
قاعداً فصلوا قعوداً أجمعين)
فالجمع: أن يقال: إن صلى جالساً من أول صلاته فإنهم يصلون خلفه جلوساً
أجمعين.
أما إن اعتل أثناء الصلاة فجلس، أتموا صلاتهم قائمين لحديث أبي بكر، وهو
مذهب طائفة من أهل الحديث وهو اختيار ابن المنذر وابن خزيمة.
2- وقال جمهور العلماء: يصلون خلفه قياماً مطلقاً سواء ابتدأ الصلاة جالساً
أو اعتلَّ أثناءها، لحديث أبي بكر.
قالوا: وحديث أبي بكر في مرضه فهو حديث ناسخ للأحاديث المتقدمة فهو الحديث
المتأخر.
والراجح ما ذهب إليه الحنابلة لأن الجمع أولى من النسخ.
والحمد لله رب العالمين
قال المؤلف رحمه الله: (وتصح خلف من به سلس البول بمثله)
فتصح الصلاة خلف من به سلس بول وهكذا كل من
به حدث متجدد كأن تصلي المستحاضة بغير المستحاضة، وهكذا في كل من ثبت به
الحدث المتجدد، فتصح الصلاة خلف من به سلسل البول بمثله.
ومفهومه أنها لا تصح إن كان يصلي بمن ليس فيه سلس بول.
- هذا هو المشهور في المذهب، وأن إمامة من به سلس بول لا تصح إلا أن يؤم
مثله.
ودليله ما تقدم: لكونه عاجز عن شرط، وقد تقدم العجز عن الركن وهنا عجز عن
الشرط وهو الطهارة.
- وقال بعض الحنابلة: تصح؛ لأنه وإن كان عاجزاً عن الطهارة فهو عجز بعذر به
وصلاته صحيحة ولا ينقص ذلك من صلاته شيئاً، فلا وجه – حينئذ- لإبطال صلاته.
وهذا هو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية والشيخ عبد الرحمن بن سعدي وهو القول
الراجح، فإنه قد صلى صلاة صحيحة وقد ترك شرطاً من شروطها معذوراً فيه لكونه
عاجز عنه.
قال: (ولا تصح خلف محدث ولا متنجس يعلم ذلك)
فإذا علم الإمام أنه محدث أو متنجس فالصلاة باطلة أي صلاة المأمومين، أما
الإمام فصلاته باطلة بالإجماع، لكن الخلاف في صلاة المأمومين خلفه:
فالمذهب أن صلاتهم باطلة لا تصح، فيما إذا صلى وهو محدث أو متنجس يعلم ذلك
فصلاته باطلة إجماعاً، وصلاة المأمومين كذلك باطلة أيضاً.
وظاهره سواء علم المأموم طهارته أو نجاسته أو لم يعلم ذلك فالحكم إنما هو
بعلم الإمام، هذا هو المشهور في المذهب.
وذهب الشافعية: إلى القول بأن الصلاة صحيحة، وهو اختيار شيخ الإسلام والشيخ
عبد الرحمن بن سعدي.
قالوا: المأموم ليس منه تفريط ولا خطأ بل قد عمل ما يجب عليه من الاقتداء،
وكون الإمام يكون محدثاً أو غير ذلك هذا تفريط من الإمام وقد قال النبي -
صلى الله عليه وسلم -: (يصلون لكم فإن أصابوا فلكم ولهم، وإن أخطأوا فلكم
وعليهم)
وهذا هو القول الراجح، لأن هذا المأموم صلى
خلفه صلاة صحيحة واقتدى به والخطأ إنما هو من جهة الإمام والتفريط إنما هو
من جهته ولا ينسب إلى المأموم تفريط ولا خطأ فكانت صلاته صحيحة.
وعلى القول الراجح – وهو قول الشافعية -: إذا علم أثناء الصلاة بحدث إمامه
أو نجاسة ثوبه أو بدنه فيجب عليه أن ينفرد بالصلاة فيصلي خلفه منفرداً أو
بجماعة، فإن ائتم به ولو لحظة عالماً بطلت صلاته؛ لأنه عقد صلاته بمن لا
تصح إمامته فكانت الصلاة باطلة.
قال: (فإن جهل هو والمأموم حتى انقضت صحت لمأموم وحده)
فإن جهل الإمام فالضمير الظاهر " هو " يعود على الإمام، فإن جهل الإمام
والمأموم حتى انقضت صحت للمأموم وحده.
أما كون صلاة الإمام تبطل فللإجماع المتقدم، وأن من صلى محدثاً بطلت صلاته
وإن كان جاهلاً أو ناسياً. وأما من صلى بنجاسة فقد تقدم ترجيح أن من صلى
بنجاسة جاهلاً أو ناسياً فصلاته صحيحة.
فهنا: إذا جهل الإمام بالحدث أو النجس على المذهب، وجهل المأموم بالحدث أو
النجس – على المذهب – حتى انقضت الصلاة، صحت للمأموم وحده لأنه معذور
بالجهل، هذا على خلاف القياس عند الحنابلة.
لذا ذهب طائفة منهم إلى أن الصلاة تبطل أيضاً ولو كان الإمام جاهلاً، وهو
القياس عندهم وإنما خالفوه هنا لثبوت الأثر عندهم عن عمر وعثمان وعلي كما
روى ذلك الأثرم وابن المنذر.
إذن: المشهور من المذهب – لآثار ذكروها عن عمر وعثمان وعلي عند الأثرم وليس
كتابه بين أيدينا فننظر في سنده، وذكره ابن المنذر، تركوا القياس لذلك وإلا
فالقياس - أن الصلاة باطلة، وهو رواية عن الإمام أحمد أي البطلان.
وقوله: " حتى انقضت " يدل على أنهم لو علموا أثناء الصلاة لبطلت.
بمعنى: صلى الإمام جاهل بالحدث والمأموم
كذلك جاهل بحدث الإمام فعلموا جميعاً أو علم أحدهم أثناء الصلاة بطلت ووجب
على من علم الاستئناف، فهذا أي قوله " حتى انقضت " قيد مقيد، فهو يدل على
أن الإمام أو المأموم لو ثبت من أحدهما أو جميعاً العلم بالحدث أثناء
الصلاة وجب استئناف الصلاة، أي تبطل الصلاة من الجميع، هذا هو المشهور في
المذهب.
وعن الإمام أحمد: أنها لا تبطل بل يبني المأموم، فإذا قطع الإمام صلاته
أثناء الصلاة فتذكر حدثاً فقطعها، فإن المأموم يتم صلاته سواء أتموها جماعة
أو فراداً، هذا هو الراجح؛ لأن صلاة المأمومين قد ثبتت صحتها وانقطع الإمام
عن الصلاة لعذر فكان لهم أن يتموها منفردين أو جماعة ولا دليل على بطلان
هذه الصلاة والمأموم لم يحدث منه خطأ ولا تفريط.
وهي أولى من المسألة السابقة إذا تمت صلاتهم أو لا فرق بينهما، فكما أنهم
لو أتموا الصلاة صحت فكذلك إذا علم الحدث أثناءها.
أما على القول المرجح وهو مذهب الشافعية: فإن هذه المسائل كلها ظاهرة
الرجحان، فسواء كان التذكر أثناء الصلاة أو بعدها فعلى مذهب الشافعية الذي
تقدم ترجيحه أن صلاة المأموم صحيحة، بل لو كان الإمام يعلم ذلك حتى أتم
الصلاة فصلاة المأمومين صحيحة، وهذا أولى من جهل الإمام.
* القاعدة – على الراجح –: أن الإمام إذا صلى جاهلاً أو ناسياً أو عالماً
متعمداً فصلاة المأمومين صحيحة مطلقاً إلا أن يثبت العلم فتبطل صلاة من
علم؛ لأن علمه يزيل عذره فيكون – حينئذ – مخطئاً مفرطاً.
ومذهب الحنابلة: أنه إذا علم أحد المأمومين ثبت الحكم للجميع فبطلت. وهو
ضعيف ظاهر الضعف.
لذا ذهب الموفق وهو مذهب القاضي إلى أن الحكم على من علم فحسب، فمن علم
الحدث في الإمام فيجب عليه أن ينفرد عن إمامه.
قال: (ولا إمامة الأمي وهو من لا يحسن الفاتحة أو يدغم فيها ما لا يدغم أو
يبدل حرفاً أو يَلْحَن فيها لحناً يحيل المعنى إلا بمثله)
أي لا تصح إمامة الأمي.
والأمي هو من لا يحسن الفاتحة أي لا يحفظها.
أو " يدغم فيها ما لا يدغم " فحينئذ يذهب حرف من حروف الفاتحة.
أو " يبدل حرفاً بحرف " كالألْثَغ (1) وهو الذي يبدل حرفاً من الحروف
الهجائية بحرف آخر كالراء غيناً أو نحو ذلك.
أو " يلحن فيها لحناً يحيل المعنى " كأن يقول " إياكِ " أو " أنعمتَ (2) "
أو " أهدنا " من الهدية.
" إلا بمثله " فتصح إمامته.
فتقرير المذهب: أن الأمي لا يصح أن يؤم غيره إلا من كان مثله.
وقوله " إلا بمثله " مطلق وظاهره وإن كان للمأموم الذي لا يحسن الفاتحة
إمام آخر يمكنه أن يأتم به وهو قارئ.
هذا ظاهر إطلاقه.
وذهب بعض الحنابلة: أن ذلك لا يجوز، بل إنما يجوز ذلك للضرورة أي عند عدم
الإمام القارئ. وهذا القول الراجح.
هذا ما اتفق أهل العلم من عدم صحة إمامته إلا بمثله.
- وذهب بعض أهل العلم إلى أن إمامة الأمي صحيحة مطلقاً، وهو رواية عن
الإمام أحمد ورواية عن الإمام مالك وقول قديم للإمام الشافعي واختاره طائفة
من أصحابه كالمزني وأبي ثور وابن المنذر.
وذلك لأنه عاجز عن ركن من أركان الصلاة وهو الفاتحة فكان كالعاجز عن
القيام، ومحل هذا حيث كان عاجزاً كما ذكروا كالألثغ، أما إذا كان يمكنه
التعلم ويقدر على إصلاح الفاتحة فإنه لا يجوز الائتمام به ولا تصح إمامته.
وهذا قياس قوي ظاهر.
ومع ذلك فالأحوط مذهب الجمهور، وقلت: الأحوط، لأن الترجيح غير بيّن ظاهر في
هذه المسألة فالتجاذب بين الدليلين قوي.
والفارق بين ما ذكروه من الأصل والفرع فارق يترتب الحكم عليه حيث قلنا: هو
مؤثر أو غير مؤثر.
فالفارق: أن العاجز عن القيام والقعود ونحو ذلك عجزه عن القيام والقعود لا
يؤثر في صلاة المأموم.
__________
(1) المعجم الوسيط: 2 / 815.
(2) لعلها: أنعمتُ
بخلاف العاجز عن قراءة الفاتحة فإن الصلاة
قرآن كما قال تعالى {وقرآن الفجر} ويرفع صوته ليسمع المأموم لاسيما على
القول بأن الإمام يتحمل عن المأموم فاتحة الكتاب، فإن هذا يكون قولاً
ظاهراً جداً.
أما على القول الراجح وهو أن الإمام لا يتحمل عن المأموم الفاتحة فيكون ذلك
أضعف.
فهنا قراءة الإمام مؤثرة بدليل أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (يؤم
القوم أقرؤهم لكتاب الله) فلتأثير القراءة في الإمامة قدم الأقرأ على غيره،
حتى يقدم على من هو أفقه ومن هو أسن ومن هو أقدم هجرة وغيره، فالقراءة لها
أثر في الصلاة ومع ذلك فكما تقدم القول بصحة إمامته قول قوي وهو رواية عن
الإمام أحمد، ورواية عن الإمام مالك، والقول القديم للشافعي وهو اختيار
طائفة كابن المنذر وغيره، وهو قول قوي لكن الأحوط العمل بما ذهب إليه
الجمهور.
قال: (وإن قدر على إصلاحه لم تصح صلاته)
أي إن قدر على إصلاح هذا اللحن الذي يحيل المعنى أو قدر على أن يحسن
الفاتحة فيحفظها لم تصح صلاة نفسه فضلاً عن أن تصح إمامته فصلاته باطلة،
وهذا محل الخلاف في المسألة السابقة، فصحة إمامته وعدمها إنما هو حيث كان
عاجزاً عن إحسان الفاتحة أو إزالة الخطأ الواقع منه فيها.
أما إذا كان قادراً على ذلك فإن صلاته لا تصح لأنه ترك ركنا قادراً عليه،
وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب.
قال: (وتكره إمامة اللحَّان)
أي لحناً لا يحيل المعنى، أي المكثر من اللحن في الفاتحة وغيرها فإمامته
مكروهة، والمراد بذلك اللحن غير المحيل للمعنى.
ويمكن أن يدخل فيه اللحن المحيل للمعنى في غير الفاتحة لأنه لا يبطل
الصلاة.
قال: (والفأفاء والتمتام ومن لا يفصح ببعض الحروف)
" الفأفاء " الذي يكرر الفاء عجزاً.
" والتمتام " الذي يكرر التاء عجزاً.
" ومن لا يفصح ببعض الحروف " كالذي لا يفصح بالقاف أو الضاد.
وهنا في مسألة " الضاد والظاء " كما في
الفاتحة " غير المغضوب عليهم ولا الضالين ".
ففي الفاتحة الضاد " ض " فإذا قرأها ظاءً فهل تصح الفاتحة أم لا؟
ظاهر قوله " أو يبدل حرفاً بحرف " أنها لا تصح، لأنه إذا قال " ولا الظالين
" فإنه قرأ بالظاء التي هي أخت الطاء.
هذا هو ظاهر قوله، وهو قول لبعض الحنابلة.
والمشهور عندهم: أن الصلاة تصح؛ وذلك لقرب المخرج فيهما، فيتجوز عنهما.
وقد قال ابن كثير: " والصحيح عند أهل العلم أن الصلاة تصح لقرب مخرجهما "
فكان ذلك سبباً في التساهل والتجاوز وهذا هو القول الظاهر الذي لا يسع
الناس إلا القول به وهذا هو المشهور في المذهب.
إذن: إبدال الحرفين أحدهما بالآخر يتساهل فيه لقرب مخرجهما.
والحمد لله رب العالمين
قال المؤلف رحمه الله تعالى: (وأن يَؤُمَّ أجنبيةً فأكثر لا رجل معهن)
أي ويكره أن يؤم أجنبيةً لا رجل معها سواء كانت أجنبية واحدة أو أكثر من
ذلك.
لما ثبت في الصحيحين من نهي النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يخلو رجل
بامرأة وليس ثمَّ ذو محرم، كما في قوله - صلى الله عليه وسلم -: (لا يخلون
رجل بامرأة إلا مع ذي محرم)
قالوا: فهذا الحديث يدل على الكراهية.
والصحيح في هذه المسألة أن المسألة دائرة بين التحريم والكراهية والإباحة:
وأما التحريم: فهو إذا كانت الخلوة محرمة، فإن الإمامة محرمة مع الخلوة،
وذلك للحديث المتقدم فإن ظاهره التحريم، والإمامة – حينئذٍ – من الخلوة،
فكانت محرمة. وهذا إذا كان في امرأة أو امرأتين فإن مثل هذه الخلوة - حيث
كانت مظنة الفتنة والشر فإنها - محرمة.
وأما الكراهية: فهو إن لم يكن كذلك بأن كان داعي الفتنة موجود لكنه أضعف
فإنها تكون مكروهة.
وأما الإباحة فهي مما سوى ذلك.
وقد ثبت أن النبي - صلى الله عليه وسلم -
كان يؤم النساء ومنهن من يأتي وليس لها محرم ولم يشترط في حضورهن للمساجد
المحرم، فدل على الجواز مع أمن الفتنة، ولا كراهية في الإمامة حينئذٍ.
وقوله: " لا رجل معهن " ظاهره مطلق رجل، وهو ضعيف، بل المؤثر في هذه
المسألة أن يكون هناك محرم أو رجال تزول بعددهم مظنة الفتنة فحينئذٍ لا
كراهية ولا تحريم.
فإذا كان هناك محرم فقد ثبت أن النبي - صلى الله عليه وسلم - صلى بأم سليم
في بيتها ومعه أنس - رضي الله عنه - كما في الصحيحين.
قال: (أو قوماً أكثرهم يكرهه بحق)
أي: أو أمَّ قوماً أكثرهم يكرهه بحق.
أما إذا كان يكرهه بغير حق فإن هذا لا يؤثر.
مثال كراهيته بحق: أن يكرهه لضعف في دينه أو لضعف في إقامة الفريضة أو نحو
ذلك مما يورث كراهيته وهو حق.
ومثل ذلك: إذا كرهه لدنيا كأن يكون بينهما شحناء لدنيا، أو شحناء من جنس
الشحناء التي تقع بين أهل المذاهب والأهواء فإن الإمامة – حينئذٍ – تكره
لأن المقصود من الإمامة الاجتماع والائتلاف وهذا ينافي ذلك، وقد قال - صلى
الله عليه وسلم -: (ولا تختلفوا فتختلف قلوبكم) .
لقوله - صلى الله عليه وسلم - فيما رواه الترمذي بإسناد حسن: (ثلاثة لا
تجاوز صلاتهم آذانهم: العبد الآبق حتى يرجع، وامرأة باتت وزوجها عليها
ساخط، وإمام قوم وهم له كارهون) .
وإنما يستثنى من ذلك أن تكون الكراهية بغير حق كأن يكره لدينه أو فعله
السنة فإن الإمامة لا تكره.
لكن استحب القاضي من الحنابلة: استحب له ألا يؤمهم صيانة لنفسه وإلا فإنها
لا تكره.
وذلك لأن هذا أقام بما يشرع أو يفرض عليه، ومنعه أو كراهية إمامته يؤدي إلى
مفاسد كثيرة من ترك السنة وهجرها وإماتتها، ولا يشاء لفاسق أو نحوه أن يحكم
بمنع إمامة أحد من أهل الصلاح إلا فعل.
قال: [وتصح إمامة ولد الزنا والجندي إذا سلم دينهما]
فتصح إمامة ولد الزنا ولا تكره، والأولى أن
يقال: " ولا تكره "، خلافاً للجمهور الذين قالوا: بكراهيتها؛ قياساً على
العبد؛ لأن الإمامة فضيلة، فيمنع منها. لكن هذا ضعيف.
والراجح ما ذهب إليه الحنابلة، وهو من مفرداتهم؛ لأن النبي - صلى الله عليه
وسلم - قال: (يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله) ، وهذا عام، وقال تعالى: {ولا
تزور وازرة وزر أخرى} ، وقال: {إن أكرمكم عند الله أتقاكم} .
ثم إنه لا يقاس على العبد؛ لوجود فوارق بينهما، فهو حر له حريته من بيع
وشراء وليس ثمة تمليك عليه.
ثم إن العبد لا تكره إمامته على الصحيح، لكن الأولى أن يكون حراً.
فولد الزنا متى سلم دينه وكان تقياً، فقد قال تعالى: {إن أكرمكم عند الله
أتقاكم} ، ولا يلحقه من معرة والديه شيء، فقد قال تعالى: {ولا تزر وازرة
وزر أخرى} .
" والجندي إذا سلم دينهما ": الجندي هو العسكري، وليس المقصود نوعاً من
الجنود، بل عامة من يعمل عند السلطة، من أعوان السلطان والقائمون بشؤون
السلطة من شتى أنواع العسكر، فتصح إمامته ولا تكره إذا سلم دينه.
لأن ذلك مظنة الظلم، فإن أعوان السلطان مظنة الظلم، فكان الشرط هذا معتبراً
وهو أن يكون سالم الدين ومع ذلك فقد قال الإمام أحمد: " أحب إلى أن يصلي
خلف غيره " وذلك لأنه مظنة الظلم.
ونحن في هذا العصر أعمال العسكر ليست بمرتبة واحدة فأشبهت أعمالاً كثيرة
كان يقوم بها في الزمن وغيره.
لكن إن كان الجندي من أعوان الظلمة فيمنع من إمامته لأنه ظالم إن أقام
بالظلم، وأما إن كان عمله لا ظلم فيه فإنه لا يمنع من إمامته لذا قال: "
إذا سلم دينه " لأنه عدل ولا دليل على منعه من الإمامة.
قال: (ومن يؤدي الصلاة بمن يقضيها وعكسه)
كأن تصلي الظهر وراء من يصلي الظهر لكن
الإمام بنية الأداء وأنت بنية القضاء، أو هو بنية القضاء وأنت بنية الأداء
فصلاة الظهر واحدة لكن الفارق بينهما أن أحدهما بنية الأداء والآخر بنية
القضاء فهنا قال: يصح الاقتداء والائتمام؛ لأن الفرض واحد، فليس ثمت اختلاف
على الإمام ولا يؤثر في ذلك نية الأداء والقضاء، لأن نية الأداء والقضاء لا
تؤثر مع اتفاق الفرض.
قال: (لا مفترض بمتنفل)
إذا صلى من نوى الفريضة بمن يتنفل، فالإمام بنية النفل والمأموم بنية
الفرض، فلا يصح اقتداء المفترض بالمتنفل.
وهذا مذهب الجمهور.
واستدلوا بقوله - صلى الله عليه وسلم -: (فلا تختلفوا عليه) قالوا: وكونه
ينوي الفرض والإمام النفل هذا اختلاف على الإمام بالنية.
وعن الإمام أحمد وهو مذهب الشافعي واختيار طائفة من أصحاب أحمد كالموفق ابن
قدامة وهو اختبار ابن تيمية: أن ائتمام المفترض بالمتنفل صحيح.
واستدلوا: بما ثبت في الصحيح من حديث معاذ: (أنه كان يصلي مع النبي - صلى
الله عليه وسلم - فيؤم قومه – في مسجد بني سلمة) ، وفي البيهقي والدارقطني
ومصنف عبد الرزاق والطحاوي بإسناد صحيح قال: (هي له تطوع ولهم فريضة)
وثبت في أبي داود من حديث أبي بكرة في صلاة الخوف: أن النبي - صلى الله
عليه وسلم -: (صلى بالطائفة الأولى ركعتين ثم سلم، ثم صلى بالطائفة الثانية
ركعتين) فهنا صلى الصلاة مرتين الأولى فريضة، والثانية له نافلة، والثانية
كانت بمفترضين.
قالوا: أما قوله - صلى الله عليه وسلم -: (فلا تختلفوا عليه) فإن المراد
منه الاختلاف الظاهر بدليل سياق الحديث أي ليس له أن يركع قبل ركوعه أو
يسجد قبل سجوده أو أن يكون قائماً والإمام جالس وهكذا فهذا هو الاختلاف
الظاهر المنهي عنه.
قالوا: ويدل عليه اتفاقنا نحن وأنتم على
صحة ائتمام المتنفل بالمفترض وهي عكس المسألة السابقة، لما ثبت في مسلم أن
النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (صلوا الصلاة لوقتها ثم اجعلوا صلاتكم
معهم نافلة) وهذا اختلاف عليه في النية ومع ذلك صحت الصلاة. وهذا هو القول
الراجح.
قال: (ولا من يصلي الظهر بمن يصلي العصر أو غيرهما)
تقدم أن من صلى الظهر وراء من صلى الظهر ولكن هذا بنية الأداء والآخر بنية
القضاء فالصلاة صحيحة.
أما هنا فقد اختلفت الصلاة فهذا يصلي الظهر وهذا يصلي العصر فما الحكم؟
قال: " ولا من يصلي الظهر بمن يصلي العصر أو غيرهما " من الصلوات؛ لقوله -
صلى الله عليه وسلم -: (فلا تختلفوا عليه) وهذا اختلاف عليه فإنه يصلي
ظهراً والمأموم يصلي عصراً.
والجواب عليه كما تقدم.
- وذهب إلى صحة ذلك الشافعية ورواية عن الإمام أحمد واختيار شيخ الإسلام
وهو قول ابن عقيل من الحنابلة: وأن المفترض بنية صلاة تخالف صلاة الإمام
أنه لا بأس بذلك.
ويدل عليه حديث معاذ فإذا صحت من المفترض خلف المتنفل ومن المتنفل خلف
المفترض، فإن هذا يدل على أن النية جائز أن تخالف نية الإمام وأن ذلك لا
يؤثر في الصلاة وإنما المنهي عنه الخلاف الظاهر.
وعليه: فإذا كانت صلاة الإمام ثنائية، وصلاته رباعية، فإذا سلم الإمام قام
فأتم لنفسه كما يقتدي المقيم بالمسافر فإذا سلم قام فأتم صلاته.
والعكس كذلك: فإذا كانت صلاة الإمام أكثر من صلاة المأموم، فكان الإمام
يصلي العشاء والمأموم يصلي المغرب فإنه إذا قام الإمام للرابعة جلس ثم سلم.
الراجح في هذه المسألة كلها ما ذهب إليه الشافعية من الائتمام مع اختلاف
النية واتفاق الفعل الظاهر جائز، وقد ثبت له في السنة نظائر كثيرة تقدم ذكر
بعضها، والله أعلم.
والحمد لله رب العالمين
فصل
قال المؤلف رحمه الله تعالى: (يقف المأمومون خلف الإمام)
اتفاقاً وقد تواترت به السنة عن النبي -
صلى الله عليه وسلم -.
وقد ثبت في الصحيحين عن أنس قال: (صلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقمت
أنا ويتيم خلفه وأم سليم خلفنا)
قال: (ويصح معه عن يمينه أو عن جانبيه)
فيصح أن يكون المأمومون عن يمين الإمام أو عن يمينه ويساره اتفاقاً.
لما ثبت في مسلم عن ابن مسعود: (أنه صلى هو والأسود بن يزيد وعلقمة – وهما
صاحباه – فقام بينهما وجعل أحدهما عن يمينه والآخر عن يساره) فهذا يدل على
جواز ذلك، وفعل النبي - صلى الله عليه وسلم - لا يدل على الوجوب كما هو
مقرر في علم الأصول. لذا اتفق أهل العلم على استحباب أن يقوموا وراءه.
قال: (لا قدامه)
فلا يصح أن يصلي قدام الإمام.
والاعتبار بمؤخرة القدم لا بمقدمتها كما تقدم في الكلام على إقامة الصفوف.
فإذا صلى قدامه فإن الصلاة تبطل، وهذا مذهب جمهور أهل العلم.
قالوا: لأن هذا فعل غير مشروع في الائتمام، وما لم يكن مشروعاً مما يتصل
بالديانة فهو مردود، فعليه: العبادة لا تصح لأنه وقف منها وقوفاً غير مشروع
في باب الائتمام فبطلت صلاته كما لو وقف خلفه فإنها تبطل،وسيأتي تقريره.
فكما أن الوقوف خلف الإمام منفرداً غير مشروع تبطل به الصلاة، فكذلك قدامه
بل أولى، لأن من وقف خلف الإمام أمكنه أن يأتمَّ به وهو في معنى الائتمام
به ومع ذلك تبطل الصلاة مع تفرده وكونه فذاً فأولى من ذلك تقدمه.
قال: (ولا عن يساره فقط)
أي ولا يصح أن يصلي عن يساره فقط فتبطل.
قالوا: لأنه وقف وقوفاً في الصلاة غير مشروع فبطلت به الصلاة.
هذا مذهب الحنابلة.
وذهب الجمهور وهو اختيار الموفق وصوبه في الإنصاف واستظهره في الفروع: أن
الصلاة لا تبطل بل هي صحيحة.
قالوا: لأن الائتمام يمكن والحالة هذه ولا
يناقض الائتمام أن يساويه بل إنما يناقضه أن يتقدم عليه، وكون النبي - صلى
الله عليه وسلم - أدار ابن عباس – كما في الصحيحين – من يساره إلى يمينه
هذا فعل، والفعل لا يدل على الوجوب، وهذا القول قول قوي؛ لأن الأصل صحة
الصلاة، وقوفه عن يسار الإمام نعم هو يخالف السنة لكن إبطال الصلاة به لم
يظهر الدليل الدال عليه.
ومما استدلوا به أيضاً: أن ابن عباس لما وقف عن يسار النبي - صلى الله عليه
وسلم - وكذا جابر جبار لم يبطل الصلاة النبي - صلى الله عليه وسلم -، فلم
يأمرهم بإعادتها مع أنه أمر المسيء صلاته لما أساءها جهلاً أمره أن يعيدها.
إلا أن الحنابلة تجاوزوا عن الوقوف الذي لا تتم به الركعة كما سيأتي الكلام
عليه عند الصلاة فذاً خلف الصفوف.
ومع ذلك فالراجح مذهب الجمهور من أن الصلاة تصح إن وقف عن يسار إمامه لكنه
تارك للسنة، لكن هذا الترك لا يناقض الائتمام، فإن من الائتمام ما يكون فيه
المأموم محاذياً للإمام – وقد تقدم اتفاق أهل العلم على أنهم إن صلوا عن
يمينه ويساره فالصلاة تصح – فثبت أن اليسار موقف للصلاة وإن لم يكن موقفاً
هنا، لكنه ثبت كونه موقفاً، فمثل هذا يخفف في حكمه.
فالراجح: أنه إن وقف قدامه فالصلاة باطلة، لكن إن كان عن يساره فالصلاة لا
تبطل.
واستثنى شيخ الإسلام وهو قول في مذهب أحمد
وهو قول إسحاق بن إبراهيم قالوا: إن فعل ذلك لعذر صحت الصلاة، كأن يكون
المسجد ممتلأً بالمصلين بحيث أنه لا يمكن أن يصلوا كلهم خلفه أو عن يمينه
أو عن يساره فاحتاجوا إلى التقدم عن يمينه أو يساره شيئاً، فإن ذلك جائز
لأن المصافة على الصورة المتقدمة واجبة، والواجبات تسقط عند العجز عنها،
قال تعالى {فاتقوا الله ما استطعتم} وفي الحديث: (إذا أمرتكم بأمر فأتوا
منه ما استطعتم) فهذا اتقى الله ما استطاع وصلى كما أمر، عاجزاً عن واجب
وهو التخلف عن الإمام في المصافة أو الوقوف عن يمينه أو عن يساره، فـ[إن]
عجز [عن] ذلك [و] وقف قدامه فإن الصلاة تصح للعذر، والقاعدة: أن العجز عن
الواجب يسقطه.
قال: (ولا الفذ خلفه أو خلف الصف إلا أن يكون امرأة)
أي ولا تصح صلاة الفذ خلف الإمام أو خلف الصف إلا أن يكون امرأة.
فلا يصح للمصلي أن يصلي فذاً خلف الصف أو خلف الإمام، ومراده " خلفه " إن
كان المأموم واحداً ومثل ذلك: لو كان وراء الإمام صف أو صفوف فوقف وراء
الصف منفرداً فإن الصلاة تبطل. ودليل ذلك:
ما ثبت في مسند أحمد وسنن أبي داود والترمذي بإسناد صحيح، والحديث صححه ابن
حبان وهو كما قال، من حديث وابصة بن معبد - رضي الله عنه - قال: (رأى النبي
- صلى الله عليه وسلم - رجلاً يصلي خلف الصف وحده فأمره أن يعيد الصلاة)
وفي ابن ماجه وابن حبان بإسناد صحيح أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال:
(لا صلاة لمنفرد خلف الصف)
ففي الحديث الأول أمره النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يعيد صلاته، وفي
الحديث الثاني أخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - فيه أنه لا صلاة صحيحة
لمنفرد خلف الصف.
وقال جمهور العلماء: تصح الصلاة؛ لما ثبت
في البخاري من حديث أبي بكرة – وسيأتي سياقه – أنه ركع دون الصف فدخل في
الصف، وفيه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يأمره بالإعادة فقال: (زادك
الله حرصاً ولا تعد)
ففيه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يبطل صلاته وقد صلى مِنْ صلاته
خلف الصف، لكن هذا الاستدلال يخالف الأدلة الصريحة التي تقدم ذكرها.
ولحديث أبي بكرة استثنى الحنابلة: من صلى خلف الصف وحده دون الركعة أي لم
يرفع من الركوع وهو منفرداً خلف الصف.
وفيما من ذكروه فيما يظهر نظر وذلك لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى
عن الصلاة خلف الصف، وأمر من صلى خلف الصف أن يعيد، وفرق بين من وقف في
الصف فكبر، وبين من كبر دون الصف وهو يعلم أن له موضعاً فيه فتقدم إليه،
فهذا فاعل لما لا يتم الواجب إلا به فهو يمشي راكعاً حتى يدخل في الصف،
وأما الآخر فإنه قائم وليس بمتقدم إلى الصف ففرق بين المسألتين.
والذي يظهر لي أنه متى صلى خلف الصف بطلت صلاته لعموم حديث: (لا صلاة
لمنفرد خلف الصف) وإذا كبر وقام وركع فإن هذا من الصلاة فتكون الصلاة
باطلة.
إلا أنّ ما يقع ولابد من وقوعه، معفو عنه حيث أن تكبيرة الإحرام تقع ولابد
من بعض المأمومين متقدمة على بعضهم فمثل هذا لا يؤثر اتفاقاً.
بخلاف ما إذا قام في [خلف] الصف فإنه يظن بقاء نفسه في هذا الموقع وهو غير
متأكد من إتيان أحد من الناس إليه.
نعم إذا ثبت له إقبال أحد من المصلين فهذا يكون بمنزلة من ركع ودب حتى دخل
في الصف، أما حيث لم يظن ذلك فالأظهر هو بطلان صلاته والله أعلم.
وظاهر قول الحنابلة: أن الصلاة تبطل مطلقاً سواء كان معذوراً أو غير معذور.
فلو أن رجلاً دخل المسجد فنظر فلم يجد فرجة في الصف يمكنه أن يقف فيها فصلى
خلف الصف وحده فظاهر المذهب أن صلاته تبطل؛ لأنه قد صلى خلف الصف فيدخل في
عموم حديث: (لا صلاة لمنفرد خلف الصف) .
واختار شيخ الإسلام وتلميذه ابن القيم: أنه
إن كان معذوراً في ذلك بحيث أنه نظر فلم يجد فرجة بين الصفوف، ولم يمكنه أن
يرص المصلين فيجد فرجة فإنه يصلي خلف الصف وصلاته صحيحة.
وهو القول الراجح؛ للقاعدة السابقة المأخوذة من قول الله تعالى: {فاتقوا
الله ما استطعتم} وحديث: (إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم) وهي: أن
الواجبات تسقط عند العجز عنها.
" إلا أن يكون امرأة " فإن المرأة موقفها أن تكون خلف الصفوف باتفاق أهل
العلم كما ثبت ذلك في حديث أنس في الصحيحين قال: (فقمت أنا ويتيم خلفه وأم
سليم خلفنا) فالمرأة تصف خلف الصف.
لكن قوله " إلا أن يكون امرأة " يوهم مسألة تخالف المذهب:
فيما إذا صلت المرأة خلف صفوف النساء منفردة وكان يمكنها أن تصلي معهن،
فالمذهب قالوا: كذلك يبطل صلاتها قياساً على الرجل والنساء شقائق الرجال.
فمراد المؤلف هنا: المرأة تكون خلف الإمام أو تكون خلف صفوف الرجال، أما
إذا كانت منفردة خلف صف النساء فإن الصلاة تبطل إن كانت غير معذورة قياساً
على الرجل.
قال: (وإمامة النساء تقف في صفهن)
لما ثبت عن أم المؤمنين عائشة: (أنها كانت تؤم النساء فتقف وسطهن) رواه
البيهقي. ونحوه عن أم سلمة أنها كانت تؤم النساء فتقف وسطهن.
قالوا: ندباً واستحباباً، فإن وقفت أمامهن كما يقف الرجال فالصلاة صحيحة،
وذلك لأن النساء شقائق الرجال، فكما أن الرجل يصلي أمام المصلين فالمرأة
كذلك.
وتلك الآثار تدل على أن هذا هو المستحب للنساء، أما إن صلت المرأة إمامة
متقدمة فإن الصلاة تصح لأن النساء شقائق الرجال.
قال: (ويليه الرجال ثم الصبيان ثم النساء كجنائزهم)
فيلي الإمام الرجال ثم الصبيان ثم النساء.
" كجنائزهم ": فكذلك الجنائز في القبر وعند صلاة الإمام يقدم الرجال ثم
الصبيان ثم النساء، فعند الصلاة يوضع الرجال مما يلي الإمام ثم الصبيان ثم
النساء.
وفي القبر: فعندما يُراد دفنهم في قبر واحد
فيوضع الرجل في اللحد ثم يوجه إلى القبلة، وبعده الصبي ثم المرأة، وسيأتي
الكلام على هذا في صلاة الجنازة.
أما هنا: فذكر المؤلف أنه يستحب أن يلي الإمام: الرجال ثم الصبيان ثم
النساء، وهذا باتفاق العلماء، لما ثبت في مسلم أن النبي - صلى الله عليه
وسلم - قال: (ليليني منكم ألو الأحلام والنهى ثم الذين يلونهم ثم الذين
يلونهم)
وروى الترمذي بإسناد فيه شهر بن حوشب وهو مختلف فيه وهو إلى الضعف أقرب أن
أبا مالك الأشعري - رضي الله عنه - قال: (لأحدثنكم بصلاة النبي - صلى الله
عليه وسلم - فأقام الصلاة ثم صف الرجال ثم صفَّ الغلمان ثم صلى بهم) هذا
باتفاق العلماء ودليله حديث مسلم.
وأقربهم إلى الإمام أكملهم وأفضلهم.
* فإن تقدم إلى موضعه المفضول فهل للفاضل أن يؤخره عن موضعه أم لا؟
قولان لأهل العلم:
الشافعية قالوا: ليس له أن يؤخره، لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - – كما
في مسلم – نهى أن يقام الرجل من مجلسه ثم يجلس فيه.
وقال الإمام أحمد: أنه يجوز له ذلك، لأنه في مكان ليس له، بخلاف من جلس في
مجلس فلا يجوز أن يقام منه. واستدل بحديث: (ليليني منكم ألو الأحلام والنهى
ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم)
وفي مسند أحمد وسنن النسائي بإسناد جيد: من حديث قيس بن عبَّاد أنه صلى مع
أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - فأتى أبيّ بن كعب فنحاه وقام محله فلما
انصرف من صلاته قال: يا بني لا يسوؤك الله فإني لم آتك الذي لم آتيتك بجهل
وإنما قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: (كونوا في الصف الذي يليني) فهذا
يدل على جواز ذلك؛ لأنه هو الأحق به.
قال الإمام أحمد: " يليه الشيوخ وأهل
القرآن ثم الذين يلونهم "، فعلى ذلك: يصف الرجال ثم الصبيان ثم النساء،،
وليس المراد أن يصف الصبيان في صف بمفردهم وإن كان في الصف المقدم الذي فيه
الرجال مواضع يمكن للصبيان أن يصفوا فيها، بل المراد أنه إذا تمت صفوفهم
صلى الصبيان خلفهم.
والحمد لله رب العالمين
قال المؤلف رحمه الله تعالى: (ومن لم يقف معه إلا كافر أو امرأة أو من علم
حدثه أحدُهما أو صبي في فرض ففذّ)
أي من لم يقف معه في مكانه الذي صف فيه خلف الإمام إلا امرأة أو كافر أو من
علم حدثه أحدهما أو صبي في فرض فهذه أربع مسائل فيمن تكون صلاته صلاة فذ:
الأولى: إذا كان مصافاً لكافر، وهذا لا خلاف فيه بين أهل العلم؛ لأن الكافر
لا تصح صلاته فلم تصح مصافته فيكون فذا فتبطل صلاته إلا من عذر.
الثانية: مصافة المرأة فيكون فذاً – حينئذٍ –، وهو مذهب الحنابلة خلافاً
لجمهور العلماء.
قالوا: لأن هذا الموضع الذي تقف فيه المرأة مع الرجل في الصف غير معتد به
فكان كعدمه، وهو قول ظاهر.
الثالثة: إذا علم حدثه أحدهما: أي إذا علم أحد المتصافين حدث الآخر أو علم
المحدث حدث نفسه وإن جهل ذلك المصاف فيكون فذا.
وهذه شبهة بمسألة سابقة، فيقال هنا كما قيل هناك من التفصيل، والتفصيل أن
يقال: إنْ علم المصلي حدث من صافه فإنه كالفذ، وأما إن لم يعلم فإنه لا
يضره ذلك؛ لأنه غير مفرط وإن كان الآخر قد علم حدث نفسه، فكون الشخص يعلم
حدث نفسه لا يؤثر في غيره، لكن المؤثر أن يكون الآخر قد علم بالحدث،
فحينئذٍ تكون صلاته كصلاة الفذ.
الرابعة: " أو صبي في فرض " فمصافة الصبي في الفريضة تصير المصاف له
كالمصلي خلف الصف فذاً.
قالوا: لأن صلاته نفل، وهذا يصلي مفترض فلم يجز أن يصاف المفترض المتنفل.
هذا هو المشهور في المذهب.
وقال بعض الحنابلة وهو القول الراجح: إن مصافة الصبي صحيحة كإمامته.
وهذه المسألة تبنى على الإمامة، فحيث قلنا
إن إمامة الصبي في الفرض صحيحة، قلنا بصحة مصافته، وإن قلنا أنها باطلة
قلنا ببطلان مصافته. وقد تقدم ترجيح صحة إمامته في الفريضة فكذلك صحة
مصافته في الفريضة.
ويدل على صحتها: حديث أنس المتقدم وإن كان في النافلة لكن ما ثبت نفلاً فهو
ثابت فرضاً: في قوله في صلاة النبي - صلى الله عليه وسلم - في بيت أم سليم
قال: (قمت أنا ويتيم خلفه وأم سليم خلفنا)
ولأن إمامته صحيحة فأولى من ذلك أن تصح مصافته ولما ثبت من قول النبي - صلى
الله عليه وسلم -: (لا رجل يتجر على هذا فيصلي معه) فإنه يصلي معه ويصافه –
أي المتجر – وهو متنفل، وأما الآخر فهو مفترض، فصاف المتنفل المفترض ولم
يؤثر ذلك في مصافته شيئاً.
فعلى ذلك: الراجح أن الصبي تصح مصافته كما هو قول لبعض الحنابلة.
قال: (ومن وجد فرجة دخلها وإلا عن يمين الإمام)
إذا أتى من يريد الصلاة فوجد فرجة في الصف فإنه يدخلها لقوله - صلى الله
عليه وسلم -: (من وصل صفاً وصله الله) وقوله: (ولا تذروا فرجات للشيطان)
وقد تقدم تخريجها.
" وإلا عن يمين الإمام " فإن لم يجد فرجة في الصف فإنه يقف عن يمين الإمام.
- هذا هو المذهب.
لأنه موقف للمنفرد مع الإمام، وتصح أيضاً باتفاق العلماء في الجماعة أن
يصلي بعضهم عن يمين الإمام وبعضهم عن يساره فثبت موقفاً أصلاً فجاز أن يقف
هنا عن يمينه.
- وقال بعض الحنابلة: بل يصلي فذاً، وهو اختيار شيخ الإسلام وهذا القول هو
الراجح.
وإن كان القول بجواز وقوفه عن يمين الإمام جائزاً لأنه موقف في الصلاة،
ولأن أبا بكر صلى عن يمين النبي - صلى الله عليه وسلم - فكان مقتدياً
بالنبي - صلى الله عليه وسلم - فلا بأس أن يصلي عن يمينه إلا أن الأولى أن
يصلي وراء الصف فذاً كما هو اختيار شيخ الإسلام وهو اختيار طائفة من
الحنابلة.
قال: (فإن لم يمكنه فله أن ينبه من يقوم معه)
فإذا لم يمكنه أن يقف عن يمين الإمام فله
أن ينبه من يقوم معه بنحنحة أو تسبيح أو نحو ذلك من غير جر، بل ينبه لغيره
– هذا هو المشهور في المذهب.
- وذهب بعض الحنابلة وهو الراجح: أنه يصلي فذاً من غير أن ينبه لأن في
تنبيهه شيء من التشويش على المنبَّه، وفيه ترك فرجة في الصف قد لا يوصل
فكان الأولى أن يترك المصلي في موضعه ويصلي خلف الصف معذوراً وتصح صلاته.
وهل له أن يجرَّ أم لا؟
قال جمهور العلماء: ليس له أن يجرَّه، وهو اختيار شيخ الإسلام وهو المشهور
في المذهب وأن ذلك مكروه.
وقال بعض الحنابلة وهو اختيار الموفق: أن ذلك لا يكره، لحديث الطبراني من
حديث وابصة بن معبد وفيه: (ألا دخلت معهم أو اجتررت أحداً) لكن الحديث
إسناده ضعيف جداً فإن فيه راو متروك.
وقال ابن عقيل من الحنابلة بتحريم ذلك، وهو قوي لما يترتب على ذلك من تشويش
على المأموم، ومن نقل له من محل فاضل إلى مفضول، ومن حركة في الصلاة بلا
حاجة، ومِنْ تَرْك فرجة في الصف قد أمر الشارع بسدها، فكان هذا القول فيه
قوة، وإن كان المقطوع به هو الكراهية، لكن القول بالتحريم قول قوي.
قال: (فإن صلى فذاً ركعة لم تصح)
تقدم الكلام على هذا، في أن من صلى خلف الصف فذاً ركعة لم تصح صلاته.
وظاهر قوله: " ركعة " ركوعها وقيامها وسجدتيها. فإذا صلى معه أحد قبل أن
يتم الركعة أو دخل هو في الصف صحت صلاته– هذا ظاهر كلامه.
قال: (وإن ركع فذاً ثم دخل في الصف أو وقف معه آخر قبل سجود الإمام صحت)
" وإن ركع فذاً ثم دخل في الصف " بمعنى: رأى الناس راكعين، فركع قبل أن يصل
إلى الصف، ثم دب راكعاً فدخل في الصف، فهل تصح صلاته أم لا؟
1- قال جمهور العلماء: تصح صلاته ويجزئه
ذلك، واستدلوا بحديث أبي بكرة في البخاري: أنه انتهى إلى النبي - صلى الله
عليه وسلم - وهو راكع فركع قبل أن يصل إلى الصف، فقال النبي - صلى الله
عليه وسلم -: (زادك الله حرصاً ولا تعد)
وفي أبي داود من حديثه: (فركع دون الصف ثم مشى حتى دخل في الصف)
وفي مستدرك الحاكم بإسناد صحيح عن عطاء بن أبي رباح قال: (كان عبد الله بن
الزبير يقول على المنبر: إذا دخل أحدكم المسجد والناس ركوع فليركع حين يدخل
ثم ليدب راكعاً حتى يدخل في الصف فإن ذلك السنة)
ورواه البيهقي عن أبي بكر بإسناد ضعيف.
ورواه عن زيد بن ثابت وابن مسعود وهما من كبار فقهاء الصحابة بإسنادين
صحيحين. وهو قول جمهور العلماء.
2- وعن الإمام أحمد: أن الصلاة تبطل للعالم، أما إن كان جاهلاً فصلاته تصح
لقوله: (زادك الله حرصاً ولا تعد) لكن هذا معارض لما دلت عليه قواعد
الشريعة من أن الجاهل يكون معذوراً بالفعل عن الإثم، لكن يؤمر بالإعادة كما
ثبت أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر المسيء صلاته بأن يعيد الصلاة
ولحديث عبد الله بن الزبير: (فإن ذلك السنة)
إنما نفسر قوله: " زادك الله حرصاً ولا تعد " بالنهي عن الإسراع، ومن ذلك
الركوع دون الصف، فإنه إسراع وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: (إذا
سمعتم الإقامة فامشوا وعليكم السكينة والوقار فما أدركتم فصلوا وما فاتكم
فأتموا) فهذا الفعل مكروه، لكنه ليس بمبطل للصلاة ولا محرم هذا القول
الراجح – وهو المشهور في المذهب.
" أو وقف معه آخر " بأن يكون دخل معه آخر وهو يدب إلى الصف فوقف قبل سجود
الإمام.
وظاهره أنه لو سجد الإمام السجدة الأولى وهو لم يدخل في الصف أنه لا يدرك
بذلك الركعة، ويكون كذلك قد صلى خلف الصف فذاً فبطلت صلاته.
وقال في المغني وهو أظهر: قبل تمام الركعة.
وهو أظهر، فلا يقال قبل سجود الإمام وإنما
يقال – على الأظهر – " قبل تمام الركعة " لما تقدم – وقد تقدم قوله – " فإن
صلى ركعة فذاً ركعة لم تصح " فكذلك هنا قبل تمام الركعة.
وعليه: فإن دخل في الصف والإمام ساجد في السجود الثاني أجزأه ذلك.
وإن كان ظاهر الأحاديث كحديث ابن الزبير مطلق ذلك، وأنه بتكبيرة الإحرام
والركوع يكون بذلك أدرك الصلاة، وإن لم يدرك الإمام إلا بعد تمام الركعة.
لكن جمهور العلماء قد اتفقوا على أنه إذا أدركه بعد تمام الركعة فإن الصلاة
تبطل ويكون قد صلاها فذاً خلف الصف.
إذن: إذا دخل في الصف قبل تمام الركعة أو وقف معه أحد قبل تمام الركعة فإن
الصلاة تصح منه، وإن أدركه بعد تمام الركعة فإنه يكون بحكم من صلى خلف الصف
وحده، وقد تقدم بطلان صلاته كما هو مذهب الحنابلة، والله أعلم.
استدراك:
هنا قيد لم يذكره المؤلف – وهو معتبر عند الحنابلة – وهو أن يكون ذلك بقيد
خشية فوات الركعة.
فإن ركع قبل الصف وكان قد خشي الركعة أجزأه، وإن لم يخش فوات الركعة لم
يجزئه.
والقول الثاني في المذهب: أنه يجزئه ذلك مطلقاً وإن لم يخش فوات الركعة، ما
دام أنه يسعى إلى الدخول في الصف.
قالوا: لأن التفريق في مثل هذه المسألة بين خشية فوات الركعة وعدمه تفريقٌ
غير مؤثر، لقوله - صلى الله عليه وسلم -: (فما أدركتم فصلوا وما فاتكم
فأتموا)
فعليه يجوز مطلقاً مع الكراهية، أي سواء خشي فوات الركعة أم لا.
والحمد لله رب العالمين
فصل
قال المؤلف رحمه الله تعالى: (يصح اقتداء المأموم بالإمام في المسجد وإن لم
يره ولا من ورائه إذا سمع التكبير، وكذا خارجه إن رأى الإمام أو المأمومين)
هنا مسائل:
الأولى: في حكم صلاة المأموم مع إمامه في المسجد:
فهنا قال: " يصح اقتداء المأموم بالإمام في المسجد وإن لم يره " إذن يصح
اقتدائه وإن لم ير الإمام ولا من وراء الإمام بشرطٍ وهوا أن يسمع التكبير.
كأن يصلي بعض المأمومين في سطح المسجد أو
ساحته أو منارته أو في حجرة منه ولم يروا الإمام ولا المأمومين فإن الصلاة
تصح بشرط وهو مكان الاقتداء. فإذا أمكن الاقتداء صحت الصلاة بإجماع
العلماء.
ومثل ذلك: صلاة النساء اللاتي يصلين في غرفة في المسجد مع إمكان الاقتداء
بسماع تكبيرة الإمام وقراءته ولو لم يرين الإمام أو المأمومين.
وهل يشترط اتصال الصفوف أم لا؟
قالوا: لا يشترط اتصال الصفوف، وهذا باتفاق أهل العلم حتى حكاه المجد بن
تيمية إجماعاً ولم أر فيه خلافاً.
وهذا يقع في المساجد الكبيرة عندما يصلي بعض الناس متأخراً في مؤخرة المسجد
صفاً، والناس يصلون وبينهم وبين هذا الصف مسافات كبيرة، فإن الصلاة تصح
باتفاق أهل العلم.
ولكن هذا الفعل يكره لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر المسلمين بأن
يتراصوا في الصفوف كما تراص الملائكة، وهذا خلاف ما أمر به النبي - صلى
الله عليه وسلم - بل ظاهر ذلك التحريم، لكن الصلاة [تصح] باتفاق أهل العلم
مع ثبوتهم في المسجد، والمراد إن لم يقف فذاً – على الراجح -.
الثانية: عند قوله: " وكذا خارجه إن رأى الإمام أو المأمومين "
أي الحكم كذلك إذا صلى المأموم خارج المسجد لكن بشرط أن يرى الإمام أو
المأمومين.
فلو صلى رجل في بيت بجوار المسجد مرتفع على المسجد يرى الإمام أو يرى
المأمومين كما يقع هذا في المسجد الحرام فإن الصلاة تصح لما ذكر المؤلف هنا
– هذا هو المشهور في المذهب.
- وقال بعض العلماء وهو رواية عن الإمام أحمد ومذهب المالكية: لا تشترط
الرؤية أيضاً بل الشرط هو إمكان الاقتداء، فإذا كان يسمع التكبير صحت ولو
لم يره – وهذا القول أصح من هذا القيد المتقدم – إلا أن في المسألة من
أصلها نظراً كما سيأتي.
والراجح الثاني: لأن المقصود من الرؤية الاقتداء، وسماع التكبير يحصل به
المقصود من الاقتداء فلم تشترط الرؤية.
* لكن النظر هو هل يشترط اتصال الصفوف أم
لا؟
1- قال الحنابلة في المشهور عندهم: لا يشترط ذلك كما هو ظاهر قول المؤلف
هنا.
وعليه فلو صلى في بيته وسمع القراءة والتكبير فله الاقتداء في مذهب
المالكية ومن تقدم ذكره، وفي مذهب الحنابلة إذا كان يرى الإمام وبعض
المأمومين.
2- وقال الموفق ابن قدامة رحمه الله: يشترط اتصال الصفوف وهذا هو الراجح،
وذلك لأن الإمام والمأموم إذا كانا في المسجد فهما في موضع الجماعة،
فتجاوزنا عن اشتراط الاتصال لكونهما في محل الجماعة.
أما والحالة هذه - فبعض المأمومين خارج المسجد -، فاشترط الاتصال ليكون حكم
الخارج عن المسجد حكم الداخل فيه لوجود الاتصال بينهما وللعذر، فهذا هو
القول الراجح، ولولا الإجماع المتقدم المذكور في المسألة السابقة لقلنا
باشتراط اتصال الصفوف في المسجد لأنه هو هدي النبي - صلى الله عليه وسلم -
وكل عمل ليس على هديه فهو رد.
فعلى ذلك هنا مسألتان:
الأولى: إذا اقتدى المأموم بالإمام في المسجد فهنا لا تشترط الرؤية للإمام
ولا لبعض المأمومين، وإنما الشرط هو إمكان الاقتداء، ولا يشترط أيضاً –
بإجماع العلماء – اتصال الصفوف، لكنه يجب على الراجح كما تقدم.
الثانية: إذا كان المأموم خارج المسجد فالصحيح: أنه يشترط أن يتصل صفه
بالصفوف التي في المسجد، وهو اختيار الموفق. ولا يشترط – حينئذٍ – لا
الرؤية بل الشرط هو إمكان الاقتداء برؤية أو سماع أو غيره فلا فرق بين
الرؤية ولا السماع.
مسألة:
إن كان بين المأمومين خارج المسجد وداخله – طريق أو نهر أو نحو ذلك – فهل
يصح الاقتداء مع إمكانه " أي مع السماع أو الرؤية أم لا؟
قولان لأهل العلم:
فالمشهور في المذهب: أن الاقتداء لا يصح لثبوت هذا الفاصل بينهما، فهو
كالجدار ونحوه لأنه ليس محلاً للصلاة، فكان كالحجاب الذي يمنع الرؤية.
وقال بعض الحنابلة وهو اختيار الموفق ابن
قدامة وهو مذهب الجمهور: يصح الاقتداء لإمكانه، وكون هذا الفاصل بينهما –
الذي هو ليس محلاً للصلاة – كونه موجوداً مع كونه لا يمنع الاقتداء، هذا لا
يؤثر، فلا يمنع من الاقتداء، وكونه ليس محلاً للصلاة هذا لا يؤثر في
الاقتداء.
فكون الموضع لا يصلى فيه لا يعني أنه لا يجوز أن يكون فاصلاً بين الإمام
وبين المأمومين، فهذه مسألة الصلاة، وهذه مسألة الاقتداء. وهذا هو القول
الراجح.
فلو فصل بين المأمومين بعضهم عن بعض نهر أو طريق – كأن يصلي الناس في محل
بينهم وبين المسجد الجامع طريق، وهذا الطرق لا يمكن أن يشغل بالمصلين لكونه
طريقاً لمرور الناس فلا تتم المصلحة إلا بتركه مفتوحاً، فلو قدر مثل هذا
فالراجح صحة الاقتداء مع إمكانه.
استدراك:
تقدم وجوب اتصال الصفوف فما هو ضابط ذلك؟
للحنابلة ثلاثة أقوال فيه:
منهم من قال: أن يكون بين كل صف وصف ثلاثة أذرع، وهذا هو الذي يكفي للمصلي
في ركوعه وسجوده.
وقال بعضهم: ألا يكون بينهما ما يصح أن يكون صفاً، وذلك ما يقارب ستة أذرع
أو خمسة.
وقال الموفق ابن قدامه: ألا يكون بينهما بعدٌ لم يجر العرف به.
والقول الثاني: لا دليل عليه، فكونه يكون بينهما خمسة أذرع أو أربعة أذرع
هذا يخالف الشرع.
وأما الثالث: وهو كونه راجعاً إلى العرف، هذه المسألة لا ضابط لها، فهذه
مسألة شرعية قد حددها الشارع فلا ينبغي الرجوع فيها إلى العرف.
فكان أولاها بالصواب القول الأول: وأنه ثلاثة أذرع، لكن يخفف فيما لو كان
نحوه كأربعة أذرع أو نحوها وإن كان خلاف السنة لكن مثله لا يؤثر، كما أن
الصفوف تصح مع عدم وجود المراصة في الأكعب والمناكب ويتجاوز عن الشيء
اليسير فيها، فكذلك هنا.
فالتحديد ينبغي أن يكون بثلاثة أذرع ونحوها وهو قول طائفة من الحنابلة.
والحمد لله رب العالمين
قال المؤلف رحمه الله تعالى: (وتصح خلف
إمام عال عنهم، ويكره إذا كان العلو ذراعاً فأكثر)
هذه مسائل في صلاة الإمام في موضع عال عن المأمومين.
الأولى قوله: (تصح) .
الثانية قوله: (وتكره) .
الثالثة قوله: (إذا كان العلو ذراعاً فأكثر) وظاهره أنه إذا كان أقل من
ذراع أن الصلاة لا تكره.
فهذه ثلاث مسائل:
المسألة الأولى – وهي أصل المسألة – كراهية ذلك وأن صلاة الإمام في موضع
عال أنها مكروهة.
ودليله ما رواه أبو داود والحديث صحيح بشواهده: (أن حذيفة صلى في المدائن
على دكان " موضع شاخص مرتفع " فأخذ أبو مسعود بقميصه فلما فرغ من صلاته قال
أبو مسعود: (ألم تعلم أنهم كانوا ينهون عن ذلك؟) وفي رواية بن حبان: (أليس
قد نهى عن ذلك؟ فقال: بلى قد ذكرت حين مددتني) أي حين أخذت قميصي فجبذته)
فهذا الأثر فيه كراهة ذلك.
وقوله: (كانوا ينهون عن ذلك) يحتمل أن يكون المراد النبي - صلى الله عليه
وسلم - وأصحابه، ويحتمل أن يكون المراد أصحابه على وجهه يحتج به فيكون
إجماعاً لاحتجاج أبي مسعود وإقرار حذيفة - رضي الله عنهم -– وهو مذهب جمهور
العلماء، وأن صلاة الإمام في موضع عال عن المأمومين أنها تكره.
2- والثانية: قوله: (وتصح) هذا المشهور في المذهب وهو الراجح خلافاً للقول
الثاني فيه.
والأول هو الراجح وأنها صحيحة وإن صلى الإمام في موضع عال؛ لأن النهي لا
يعود إلى ذات الصلاة، ولأن أبا مسعود وحذيفة لم يثبت عن الأول منهما الأمر
بالإعادة ولا عن الثاني الإعادة، فدل ذلك على صحة الصلاة.
ومعلوم أن ما يقع من الصلاة جهلاً يؤمر المكلف بإعادة الصلاة حيث كان
مبطلاً لها.
3- الثالثة: وهي كراهيته بقيد أن يكون ذراعاً فأكثر.
قاعدة الاستثناء عند المذهب: أن يكون العلو يسيراً.
واستدلوا بما ثبت في الصحيحين من حديث سهل
بن سعد قال: (صلى النبي - صلى الله عليه وسلم - على المنبر فكبر وكبر الناس
وراءه وهو على المنبر ثم رفع فنزل القهقرى حتى سجد في أصل المنبر ثم عاد
إلى المنبر، فلما فرغ من صلاته قال: (أيها الناس إني صنعت هذا لتأتموا بي
ولتعلموا صلاتي) .
قالوا: والظاهر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - إنما كان رقيه على الدرجة
الأولى وذلك نحو ذراع قالوا: فهذا العلو اليسير لا يكره.
- وقال بعض الحنابلة: بل يكون ذلك إلى قامة المأموم أي إلى ارتفاعهم، لأن
ذلك يحوجهم إلى رفع البصر المنهي عنه للإقتداء بالإمام، فالمأموم يحتاج
أحياناً إلى النظر إلى الإمام للإقتداء به.
وما ذكروه - أهل القول الأول والقول الثاني – فيه نظر، والأظهر أن النبي -
صلى الله عليه وسلم - إنما رقي على المنبر كما يرقى عليه إذا خطب، وذلك أن
يكون رقيه ثلاث درجات كما كان يفعل ذلك في خطبته.
لكن الحديث يحمل على الراجح – كما حملها الإمام أحمد في إحدى الروايتين عنه
وهي غير مشهورة وهو مذهب الشافعية يحمل - على استثناء ذلك للتعليم.
فيكون لا بأس به للتعليم، ومثل ذلك عامة المواضع التي يحتاج الإمام فيها أن
يكون مرتفعاً كأن يضيق المسجد وتكون مقدمته ضيقة فلا بأس بذلك.
فالمشهور عند الشافعية حمل هذا الحديث على جواز الارتفاع من الإمام عن
المأمومين بلا كراهية حيث كان للتعليم ونحوه، وهو الراجح وهو رواية عن
أحمد.
أما ما ذكره الحنابلة من أن ذلك علواً يسيراً وهو نحو ذراع فإن ذلك فيه
نظر، وكون ذلك للإقتداء موضع نظر فإن الاقتداء يتم بسماع التكبير ونحوه.
فعلى ذلك الأظهر مذهب الشافعية من كراهية العلو للإمام مطلقاً إلا أن يحتاج
فعل ذلك للتعليم.
أما الحنابلة فمذهبهم أنه يكره مطلقاً للتعليم وغيره، لكن استثنوا من ذلك
ما إذا كان دون الذراع أي الارتفاع اليسير، والأظهر الأول.
قال: (كإمامته في الطاق)
الطاق هو المحراب أي يكره كذلك كما يكره له
أن يؤم في المحراب - وهو مشهور معروف –.
- وهذا هو المشهور في المذهب من كراهية صلاة الإمام في المحراب.
قالوا: لأنه يستتر عن بعض المأمومين فيفوت بعض الاقتداء. وعليه: سجوده فيه
لا بأس به؛ لأنه لا يفوت ذلك شيئاً من الاقتداء، وكذلك إذا كان المأمومون
قليلين بحيث يقتدون به وإن صلى في المحراب فإنه لا يكره ذلك.
وهل يشرع وضع المحراب في المسجد؟
المشهور عند الحنابلة: أن ذلك مباح؛ لأنه يستدل به على معرفة القبلة.
وعن الإمام أحمد: استحبابه، واختاره بعض أصحابه؛ ليستدل به على معرفة
القبلة.
وعن الإمام أحمد رواية أخرى: تدل على الكراهية، كما ذكر ذلك صاحب الإنصاف،
وهي الراجحة وهي كراهية ذلك. وهي قول الحسن البصري فقد قال: (الطاق في
المسجد أحدثه الناس) وكرهه.
وحكى للإمام أحمد الكراهية عن علي وابن مسعود وابن عمر وأبي ذر - أى كراهية
الصلاة في المحراب -.
وهو بدعة لم تكن في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - ولا أصحابه كما ذكر
ذلك السيوطي، وإنما كان ذلك في المائة الثانية، وكما يدل على ذلك قول الحسن
المتقدم.
وقد روى ابن أبي شيبة بإسناد ضعيف أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال:
(لا تزال أمتي بخير ما لم يتخذوا في مساجدهم مذابح كمذابح اليهود والنصارى)
والمذابح هي المحاريب لكونها يذبح فيها، أي تذبح فيها القرابين، فهي
المحاريب كما ورد هذا في لسان العرب وغيره من كتب اللغة.
وروى الطبراني والبيهقي بإسناد لا بأس به أن النبي - صلى الله عليه وسلم -
قال – من حديث ابن عمر -: (اتقوا هذا المذابح يعني المحارب) فسر ذلك ابن
الأثير بأن المراد من ذلك صدور المجالس.
وفسره السيوطي في كتابه بالمحاريب، وهو
الأظهر عندي؛ لثبوت ذلك عن ابن مسعود، فقد روى ابن أبي شيبة عن ابن مسعود
بإسناد صحيح إلى إبراهيم عن ابن مسعود وروايته عنه صحيحة، قال: (اتقوا هذه
المحاريب) فالأظهر أن هذا الحديث يحمل على المحاريب.
قال ابن مسعود – وقد كره الصلاة في الطاق – كما عند البزار: (إنما كانت
للكنائس فلا تشبهوا بأهل الكتاب) ، وهذا الوجه الثاني في النهي عنها أنها
تشبه بأهل الكتاب وأنها ليست من سنن المسلمين، وإنما استحبها من استحبها من
أهل العلم للاستدلال بها على القبلة، لكن هذا قد وجد مقتضاه في عهد النبي -
صلى الله عليه وسلم - من الحاجة إلى الاستدلال إلى القبلة فلم يفعله النبي
- صلى الله عليه وسلم - بل كان – كما في الطبراني – بإسناد جيد: (كان قد
أتخذ لقوم مسجداً فنصب في قبلته خشبة) . فنصب الخشبة - ونحوها مما يصح سترة
- يكفي في معرفة القبلة فحينئذ يكون اتخاذها بدعة كما تقدم في كراهية ذلك،
فإنه لا يكره ما كان مشروعاً، فدل على أن ذلك بدعة.
وكونه لم يكن على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - ولا خلفائه الراشدين بل
أحدث في المائة الثانية، وكما نص على ذلك الحسن، ووجود مقتضاه على عهد
النبي - صلى الله عليه وسلم - مع عدم فعله والاستغناء به عن غيره يدل على
عدم مشروعيته.
قال: (وتطوعه موضع المكتوبة إلا من حاجة)
أي يكره للإمام أن يتطوع في الموضع الذي صلى فيه المكتوبة إلا من حاجة كضيق
مسجد، كما أن الصلاة في المحراب إذا احتيج إليها لكثرة المصلين فإنه يصلي
فيه للحاجة فهنا كذلك. فيكره له أن يصلي في موضعه الذي صلى فيه المكتوبة
إلا من حاجة.
واستدلوا: بما رواه أبو داود وغيره من حديث المغيرة: والحديث صحيح لشواهده
أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (لا يصلي الإمام في موضعه الذي صلى
فيه حتى يتحول) فهذا نهي من النبي - صلى الله عليه وسلم -.
وأما المأموم فقالوا: الأولى له ترك موضعه
والصلاة في موضع غيره من غير كراهية.
واستدلوا بما رواه أبو داود وغيره أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال:
(أن يعجز أحدكم إذا صلى أن يتقدم أو يتأخر أو عن يمينه أو عن شماله في
الصلاة يعني السُبحة) والحديث ضعيف فيه إبراهيم بن إسماعيل وهو مجهول،
فالحديث لا يثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم -. وقد ثبت عن ابن عمر ما
يخالف ذلك فقد ثبت في البخاري معلقاً: (أن ابن عمر كان يصلي التطوع في
مقامه الذي صلى فيه المكتوبة) ، وثبت ذلك عن محمد بن القاسم، وهو من
الفقهاء السبعة، وعن سالم بن عبد الله بن عمر، ثبت عنهم فعل ذلك، وليس في
السنة ما يدل على كراهية هذا الفعل. فإن صلى في موضعه فلا بأس وإن تنحى
فصلى في موضع آخر فلا بأس أيضاً.
قال: (وإطالة قعوده بعد الصلاة مستقبل القبلة)
أي يكره للإمام أن يطل القعود بعد الصلاة مستقبل القبلة، وعليه: فإن القعود
اليسير لا بأس به.
- وعن الإمام أحمد: كراهيته أيضاً – أي القليل – وهو أظهر.
قال: (فإن كان ثمَّ نساء لبث قليلا لينصرفن)
تقدم البحث في هذا في مسألة سابقة في الكلام على الذكر في صفة الصلاة.
قال: (ويكره وقوفهم بين السواري إذا قطعن الصفوف)
أي يكره وقوف المأمومين المصطفين وراء إمامهم، يكره وقوفهم بين السواري إذا
كانت السواري تقطع الصفوف، وكما تقدم فإن الكراهية تزول عند الحاجة، فإذا
ازدحم المصلون فاحتاجوا إلى أن يصلوا بين السواري فإنه تزول حينئذ
الكراهية.
لأن القاعدة: أن الكراهية تزول عند الحاجة إلى الفعل.
واستدلوا: على الكراهية بما رواه الخمسة بإسناد صحيح عن أنس قال: (كنا نتقي
هذا على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم -، يعني الصلاة بين السواري) .
فإذن: يكره ذلك لأنه يقطع الصفوف لكن الكراهية تزول عند الحاجة إلى الفعل –
كما تقدم -.
والحمد لله رب العالمين.
فصل
قال المؤلف رحمه الله تعالى: (ويعذر بترك
جمعة أو جماعة مريض)
هذا الفصل في الأعذار التي يجوز فيها ترك الجمعة والجماعة.
(مريض) المريض: هو الذي يشق عليه حضور الجماعة فلا يجب عليه حضورها، لقوله
- صلى الله عليه وسلم - فيما رواه ابن عباس في سنن أبي داود، وقد تقدم
الحديث: (من سمع النداء فلم يأت فلا صلاة له إلا من عذر) والمرض عذر، وقد
عذر الله به عن الصيام ونحوه من الأحكام، ولأن النبي - صلى الله عليه وسلم
- لما مرض صلى في بيته، وقال كما في الصحيحين: (مروا أبا بكر فليصل بالناس)
.
ومثل ذلك: لو خشي المرض كانتشار وباء أو تعرض لريح شديدة أو نحو ذلك وهو
يخشى المرض بها.
ومثل ذلك: تباطؤ المرض وتأخره، فكله من هذا الباب فيعذر في ترك الجمعة
والجماعة – وهذا باتفاق العلماء أي أنه معذور في حضور الجمعة والجماعة حيث
كان يشق عليه ذلك.
قال: (ومدافع أحد الأخبثين ومن بحضرة طعام محتاج إليه)
تقدم هذا في قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (لا صلاة بحضرة طعام ولا
وهو يدافعه الأخبثان) في مكروهات الصلاة.
قال: (وخائف من ضياع ماله أو فواته أو ضرر فيه، أو موت قريبه، أو على نفسه
من ضرر أو سلطان أو ملازمة غريم ولا شيء معه أو فوات رُفقة)
الخوف عذر لترك الجمعة والجماعة، وهو ثلاثة أنواع: 1- خوف على النفس.
2- وخوف على المال. 3- وخوف على الأهل والولد.
فالخوف على النفس من سلطان أو سبع أو سيل أو غير ذلك.
والخوف على المال بتفويته، من سرقة أو فساد مال أو نحو ذلك. كأن يصلح رجل
مالاً له فخشي إن ذهب فسد فيجوز له ترك الجمعة والجماعة.
وكذلك لو أن رجلاً له دواب يخشى ضياعها فيجوز له ترك الجماعة.
والخوف على الأهل والولد: كأن يكون رجل معه أهله وولده في مدينة غير آمنة
فخشي إن وقف عند المسجد ضاع أهله أو ولده فيجوز له ترك الجمعة أو الجماعة.
(وخائف من ضياع ماله أو فواته) الفرق بين
الضياع والفوات أن الضياع مع حصوله، وأما الفوات فقد لا يكون مع حصوله.
فمثلاً: رجل يظن أنه يجد عبده الآبق في وقت صلاة الظهر فيجوز له أن يدعها
جماعة لحصول ماله.
أو يظن أنه يجد بهيمة أو دوابه في وقت من أوقات الصلاة ويخشى إن فات هذا
الوقت أن يضيع هذا المال أو يفوت عليه فيجوز له ترك الجمعة أو الجماعة.
(أو موت قريبه) سواء كان بمرضه أو لا.
قالوا: لأنه إن كان يمرضه فهذا لحاجة هذا الحي إليه، وإن كان لا يمرضه فلأن
المشقة التي يجدها في نفسه من فوات توديعه قبل موته أعظم في نفسه مما أمر
الشارع بترك الجمعة والجماعة له من طعام ونحوه، فنفسه تتوق إلى رؤية ميته
وتوديعه قبل موته، وهذا أكثر مشقة من الطعام الذي أمر الشارع بترك الجماعة
له.
(أو على نفسه من ضرر أو سلطان)
كأن تكون هناك عقوبة من سلطان ما على حضور الجمعة والجماعة، فيجوز تركها
لثبوت العذر عليه.
وكل هذه دليلها قوله تعالى: {ما جعل عليكم في الدين من حرج}
(أو ملازمة غريم ولا شيء معه) مثال: رجل يقول: أنا إذا ذهبت إلى الجمعة أو
الجماعة لازمني غريمي ولا مال معي وأخشى أن يحبسني بماله وأنا عاجز عن
السداد، فيجوز له ترك الجمعة والجماعة.
فإن كان مماطلاً فليس له ترك الجمعة والجماعة ولا عذر له.
ومثله قالوا: لو كان عليه قود أي قصاص وهو يرجو العفو، ويعلم إنه إن حبس
ثبت القود وهو يرجو العفو فيجوز له أن يترك الجمعة والجماعة.
ولا يجوز له أن يتركها لقصاص أو حد أو نحو ذلك لأنه حق فلا يترك به حق، فلا
يكون معذوراً بذلك.
(أو من فوات رفقة) كرفقة في سفر مباح فيجوز له ترك الجمعة والجماعة لثبوت
الحرج في ذلك.
قال: (أو غلبة نعاس)
كأن يصاب رجل بسهر فيغلبه النعاس فيؤذن
الفجر وهو مصاب بالسهر الشديد وقد غلبه النعاس، فخشي إن انتظر الإمام أن
يشق عليه، فحينئذ يجوز له أن يصلي قبل إقامة الصلاة؛ لأنه معذور بغلبة
النعاس الذي هو أشق من تطويل الإمام، وقد تقدم في قصة معاذ المتفق عليها أن
تطويل الإمام عذر في ترك الجمعة والجماعة والصلاة منفرداً.
قال: (أو أذى بمطر أو وَحَل) .
الوَحَل: بفتح الحاء وهي اللغة الفصيحة، وأما بتسكينها (الوَحْل) فهي لغة
ضعيفة.
فإذا كان هناك أذى بمطر أو وحل فله أن يترك الجمعة والجماعة.
ودليله: ما ثبت في الصحيحين عن ابن عباس أنه: (أمر مؤذنه في يوم مطير إذا
قال: (أشهد ألا أله إلا الله وأشهد أن محمداً رسول الله) قال له: (لا تقل
حي على الصلاة) وقل: (صلوا في بيوتكم) فكأن الناس استنكروا ذلك فقال: "
أتعجبون من ذا، فإنه قد فعله من هو خير مني، إن الجمعة عَزْمَة وإني كرهت
أن أخرجكم فتمشوا في الطين والدحض) والدَحْض هو الطين الزلق.
فهذا يدل على أن اليوم المطير أو الليلة المطيرة التي يكون فيها دحض ووحل
يجوز أن يترك الجمعة والجماعة.
بل ولو كان المطر يبل الثياب حيث كان به أذى فيجوز فيه ترك الجمعة
والجماعة، وقد ثبت في أبي داود بإسناد صحيح عن أبي المليح عن أبيه: (أنه
شهد مع النبي - صلى الله عليه وسلم - يوم الحديبية في يوم مطير لم يبتل
أسفل نعالهم فأمرهم النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يصلون في رحالهم) .
فهذا يدل على أنه متى كان مطر يثبت به الأذى أو شيء من الحرج أو كان هناك
طين أو دحض فإن ترك الجمعة والجماعة جائز لرفع الحرج عن الأمة.
قال: (وبريح باردة شديدة في ليلة مظلمة)
أي لفظة (مظلمة) فلم يذكرها بعض الحنابلة، والظاهر هو تركها؛ لأن الحديث
الوارد في هذه المسألة المستدل به ليس فيه ذكر أنها مظلمة، وكذلك لفظة
(شديدة) ليست شرطاً عندهم.
قال في الإقناع: (ولو لم تكن شديدة خلافاً
لظاهر المقنع)
ودليل الجواز: ما ثبت في الصحيحين من حديث ابن عمر أن النبي - صلى الله
عليه وسلم -: (كان يأمر مؤذنه في الليلة الباردة أو المطيرة أن يقول: (ألا
صلوا في رحالكم) .
قوله: (الليلة الباردة) قالوا: هذا دليل على أن الليلة إذا كانت باردة فيها
ريح بارد وإن لم يكن ذلك شديداً كما تقدم فإنه يجوز ترك الجمعة والجماعة.
إذن: إذا كانت هناك ليلة باردة، بقيد أن يكون فيها ريح فإنه يجوز له ترك
الجمعة والجماعة.
- وقال الشافعية: إذا كان البرد شديداً تركت الجمعة والجماعة ليلاً أو
نهاراً.
والظاهر أن مرادهم بالبرد الشديد ما يقع به الحرج، وذلك فيما لم يكن
مألوفاً عند الناس كما قيده صاحب حاشية المربع، ولم أرها لغيره لكنه قيد
معتبر، فإن المألوف ليس في ذلك حرج عند أهل البلدة الذين ألفوا هذا النوع
من البرد بخلاف من لم يألفوه أو كان برداً شديداً خارجاً عما ألفوه.
قال الشافعية: وكذلك الريح الشديدة في الليل فإنه يجوز ترك الجمعة
والجماعة.
والظاهر أيضاً: أنه لا فرق بين ليل أو نهار حيث كانت شديدة يلحق بها الحرج.
والقاعدة: في مثل هذه المسائل: أنه متى ثبت الحرج في برد أو ريح شديد سواء
كان ذلك في ليل أو نهار فإنه يجوز ترك الجمعة والجماعة – على الراجح -.
أما المشهور في المذهب فإنهم يقيدونه بالبرد الذي يكون بريح في ليل،
والظاهر عدم اعتبار كون ذلك في ليل أو نهار، لأن الحرج الحاصل بالليل قد
حصل مثله بالنهار فلا فرق – حينئذ –.
ولا يقيَّد باجتماع الريح والبرد الشديد لحصول الحرج بأحدهما، فإذا وجد
أحدهما جاز حينئذ الجمع.
- وقال بعض الحنابلة: إذا كان حراً مزعجاً شديداً يفوت معه الخشوع فكذلك،
وهو قياس ظاهر لفوات الخشوع كما ذكر.
إذن: القاعدة في هذه المسائل كلها: أنه متى
ثبت العذر من مرض أو خوف، أو ثبت الحرج من غلبة نعاس أو من مطر أو من ليلة
باردة أو من ريح شديدة مما يثبت الحرج بمثله فإنه يجوز الجمع، وقد قال ابن
عباس – كما تقدم –: (إني كرهت أن أحرجكم) أي أن أوقعكم في الحرج، فدل ذلك
على أن المعتبر في مثل هذه المسائل هو الحرج، لوجوب الجمعة والجماعة وقد
قال - صلى الله عليه وسلم - للأعمى – الذي له قائد لا يلائمه: (لا أجد لك
رخصة) ، فدل على وجوب حضورها، وأنه ليس بأي حرج بل بالحرج الذي يلحق المكلف
منه شيء من المشقة.
لذا إذا كان للأعمى قائد لا يلائمه الملائمة التامة فيجب عليه الحضور وتحمل
ذلك، بخلاف الأعمى الذي ليس له قائد أصلاً فإنه معذور عن حضور الجمعة
والجماعة؛ لأن الواجبات تسقط عند العذر، وتسقط عند الحرج؛ لأن الله عز وجل
قال: {ما يريد الله ليجعل عليكم في الدين من حرج} ومن الدين الجماعة
والجمعة.
مسألة:
الخوف المعتبر هو ما يكون مظنة لذلك كمظنة السرقة ونحوها، أما مجرد الخوف
فلا يجيز ترك الجمعة والجماعة.
مسألة:
إذا كان العمل تفوت فيه الجماعة فما حكمه؟
فيه تفصيل: فإن كان طارئاً فلا بأس.
لكن إن كان أصلياً فيه فإنه يتقدم إلى وظيفة يعلم أنه يصلي فيها الجماعة،
والأولى له ألا يعمل فيها إذا كانت تفوته فيها الجماعة؛ لأنها أدت إلى محرم
وهو ترك صلاة الجماعة.
لكن يستثني من ذلك: ما كان فيه مصلحه عامة كالشرط ومن في الثغور ونحوهم؛
لأن المصلحة العامة مقدمة على المصلحة الخاصة.
ومن ذلك ما ثبت في الصحيحين من حديث: (لقد هممت أن آمر بالصلاة فيؤذن لها
ثم آمر رجلاً فيؤم الناس ثم أخالف إلى رجال) فقد همَّ بترك الصلاة والذهاب
لإنكار المنكر.
مسألة: حكم دخول المسجد لمن أكل ثوماً أو بصلاً؟
الأظهر أن النهي للتحريم كما هو رواية عن الإمام أحمد.
وهل يعذر بترك الجماعة أم لا؟
الظاهر أنه يمنع من ذلك عند قرب وقت
الصلاة؛ لأن أكلها سبب لمنعه من حضور الجماعة، وما كان سبباً إلى ترك واجب
فإنه يمنع منه.
* وهل يخرج من المسجد أم لا؟ (1)
قولان لأهل العلم:
الظاهر منهما أنه يخرج إلا أن يترتب على ذلك مفسدة كما ذكر ذلك بعض
الحنابلة.
* وهل يقاس عليهما الدخان؟
يقاس عليهما الدخان وغيره مما له رائحة كريهة يتأذى منها الملائكة.
والظاهر كذلك: أن النهي عن حضور الجماعة ليس خاصاً بما إذا كانت في المسجد،
بل هو عام فيما إذا كانت في المسجد أو لم تكن، لأن الجماعات لها حكم
المساجد في حضور الملائكة.
والحمد لله رب العالمين.
باب: صلاة أهل الأعذار
أهل الأعذار من مريض ومسافر وخائف وغيرهم من أهل الأعذار.
وقد شرع في ذكر صلاة أحد المعذورين وهو المريض.
فقال المؤلف رحمه الله: (تلزم المريض قائماً)
لما ثبت في البخاري من حديث عمران بن حصين أن النبي - صلى الله عليه وسلم -
قال: (صل قائماً فإن لم تسطع فقاعداً فإن لم تستطع فعلى جنب) فإن أمكنه
القيام استناداً إلى حائط أو عمود أو إلى أحد جنبه، وجب عليه ذلك لثبوت
القيام، وقد تقدم البحث في هذا في الكلام على أركان الصلاة ومنها القيام.
فإذاً: يجب عليه القيام سواء كان قائماً بنفسه أو معتمداً على غيره من حائط
أو جدار أو عمود أو نحو ذلك.
قال: (فإن لم يستطع فقاعداً)
فالمريض الذي لا يستطيع الصلاة قائماً فإنه يصلي قاعداً وكذلك إذا كان يخشى
المرض أو زيادته بصلاته قائماً فإنه يصلي قاعداً مع قدرته على الصلاة
قائماً؛ لأنه وإن قدر على أن يصلي قائماً لكن ذلك يترتب عليه خشية الضرر،
إما تباطؤ البرء وإما بزيادة المرض وقد قال تعالى: {وما جعل عليكم في الدين
من حرج} .
فإذن: إن لم يستطع القيام فإنه يصلي قاعداً.
__________
(1) وقد ثبت في الصحيحين إخراج من أكل الثوم والبصل من المسجد من حديث عمر.
قالوا: ويندب له أن يكون متربعاً لما ثبت
في النسائي أن النبي - صلى الله عليه وسلم -: (كان يصلي متربعاً) وهذا في
حال القيام، وفي الأصح أيضاً في حال الركوع.
وأما في حال الجلوس والسجود فإنه يثني رجليه كما يثنيهما في جلوسه في
الصلاة؛ لأن هذا هو الأصل في السجود والجلسة بين السجدتين، والجلوس للتشهد.
أما التربع فإنه في القيام خاصة.
* وأما الركوع ففيه قولان للحنابلة:
الأول: أنه يثني رجليه كما يثنيهما في حال الجلوس والسجود أي يفترش.
والثاني: أنه يتربع للركوع، وهذا أصح؛ لأن هيئة الراكع في قدميه كهيئة
القائم فكان أولى بأن يلحق به بخلاف الساجد والجالس فإن هيئة رجليه ليست
كهيئة رجلي الراكع.
فالأرجح وهو اختيار الموفق من الحنابلة أنه في الركوع يكون متربعاً.
وإنما قلنا بندبه؛ لأنه ليس فيه إلا فعل النبي - صلى الله عليه وسلم -،
وفعله لا يدل على الوجوب، وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: (صل
قائماً فإن لم تستطع فقاعداً) وأطلق فيدخل في ذلك التربيع وغيره.
وعن الإمام أحمد: أن ذلك واجب.
والأصح أنه مستحب كما تقدم.
قال: (فإن عجز فعلى جنبه)
لقوله - صلى الله عليه وسلم -: (فإن لم تستطع فعلى جنب) وأطلق النبي - صلى
الله عليه وسلم - فلم يقيد الاضطجاع على جنبه الأيمن أو جنبه الأيسر، فسواء
اضطجع على جنبه الأيمن أو الأيسر فلا بأس؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم
- لم يعين أحدهما ولا دليل على التعيين.
ويكون مستقبلاً القبلة، فيضع وجهه وسائر بدنه تجاه القبلة، هذا هو مذهب
جمهور العلماء لقوله - صلى الله عليه وسلم -: (فإن لم تسطع فعلى جنب) وقد
أوجب الشارع استقبال القبلة، فكان واجباً عليه أن يضطجع على جنبه متجهاً
ببدنه إلى القبلة.
قال: (فإن صلى مستلقياً ورجلاه إلى القبلة صح)
فيصح ذلك وإن قدر على أن يضطجع على جنبه،
وذكر الموفق والمجد ابن تيميه أن في رواية للنسائي: (وإلا فمستلقياً) ولم
أر هذه اللفظة لا في السنن الكبرى ولا الصغرى، وكذلك قال محققا المغنى:
إنهما لم يجداها.
وقال صاحب الفروع لما حكى ذلك عن المجد قال: " كذا قال "، ففي ثبوت هذه
اللفظة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - نظر.
ثم إن الحديث لو صح فإنما هو بعد قوله: (على جنب) أي فعلى جنب فإن لم يستطع
فإنه يصلي مستلقياً.
قالوا: ولأنه إذا فعل ذلك فقد أثبت نوع استقبال للقبلة، فإن فيه نوع
استقبال للقبلة بوجهه فيصح بذلك.
والقول الثاني في المذهب – وهو اختيار الموفق ابن قدامة: أن ذلك لا يصح،
قال الموفق: (والدليل يقتضي ألا يصح، لأن ذلك خلاف أمر النبي - صلى الله
عليه وسلم -) وهو وجه عند الحنابلة ورواية عن الإمام أحمد وهو القول
الصحيح، لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (فإن لم تستطع فعلى جنب) .
وكونه يثبت فيه نوع استقبال هذا لا يدل على صحته بدليل أن القاعد لا تصح
صلاته قاعداً وإن كان مستقبلاً القبلة مع قدرته على القيام.
ولأن كونه يصلي على جنب أتم في استقباله، فإن سائر بدنه الذي يستقبل به
القبلة يكون في حال الاضطجاع على جنب قد استقبل به القبلة.
فالصحيح أن ذلك لا يجزئه وهو وجه عند الحنابلة ورواية عن أحمد وهو اختيار
الموفق ابن قدامة.
لكن إن عجز أن يصلي على جنب فإنه يصلي مستلقياً ولا نزاع في صحة ذلك لقوله
تعالى: {لا يكلف الله نفساً إلا وسعها} وقوله: {فاتقوا الله ما استطعتم}
وهذا فيه نوع استقبال.
قال: (ويومئ راكعاً وساجداً ويخفضه عن الركوع)
مع العجز أن يصلي راكعاً وساجداً، فإنه
يومئ بالركوع والسجود، لما روى البزار والبيهقي والحديث صحيح عن جابر: (أن
النبي - صلى الله عليه وسلم - عاد مريضاً فرآه يصلي على وسادة فرمى بها
وقال: (صل على الأرض إن استطعت وإلا فأومئ بالركوع والسجود واجعل سجودك
أخفض من ركوعك) وكل هذا - لا شك - مع الاستطاعة، فإنه إذا سقط أصل السجود
فأولى من ذلك أن يسقط كون السجود أخفض من الركوع.
قال: (فأن عجز أومأ بعينه)
وهذا مذهب جمهور العلماء، فيومئ بعينه في حال الركوع والسجود والقيام وغير
ذلك من أفعال الصلاة قياساً على الإيماء بالرأس.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية وهو مذهب الأحناف، وهو رواية عن الإمام أحمد
ضعفها الخلال من أصحابه: أن ذلك يسقط الصلاة عنه؛ لأنه قد عجز عن أفعالها
حيث أمر، فهو عاجز عن فعل ما يجب عليه، فحينئذ تسقط عنه الصلاة.
وقال شيخ الإسلام – في الإيماء –: " هو عبث " وذلك لعدم ثبوته عن النبي -
صلى الله عليه وسلم -؛ لأنه ليس فيه شيء من أفعال الصلاة، فإن الإيماء
بالركوع والسجود جزء من الركوع والسجود، فإنه يشرع بالسجود والركوع
بالإيماء بالرأس فإنه فعل الصلاة بخلاف الإيماء بالعينين.
وذهب بعض الحنابلة – كما قال صاحب الفروع -: " وظاهر كلام جماعة – أي من
الحنابلة – أنه لا يلزمه الإيماء بطرفه وهو متجه لعدم ثبوته ".
فهذا قول ثابت هو ظاهر كلام طائفة من الحنابلة أنه لا يومئ لعدم ثبوته عن
النبي - صلى الله عليه وسلم -، ولأنه ليس فيه فعل شيء من
أفعال الصلاة.
لكن الصلاة تثبت عليه فلا يلزمه الإيماء
لكنه يكتفي بالنية في قلبه – وهذا أظهر؛ لفرضية الصلاة ولأن النية من
أفعلها، ولأن من عجز عن أفعالها فإن منهم من يمكنه القراءة، والقراءة هي
الصلاة كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم -، ولأن الاستلقاء – وهو فعل لا
يعجز عنه أحد – ينوب عن القيام فكان نائباً عن ركن من أركانها، وحيث عجز عن
الإيماء فإن الصلاة تبقى وتثبت عليه لكنه لا يومئ بعينه لعدم ثبوت ذلك عن
النبي - صلى الله عليه وسلم - ولأنه لا فائدة فيه لكنه يفعل ما يستطيع من
النية والقراءة والاستلقاء على ظهره أو صلاته على جنب واستقبال القبلة بقدر
استطاعته لأن الله - عز وجل - قال: {لا يكلف الله نفساً إلا وسعها} وقال:
{فاتقوا الله ما استطعتم} . وهذا القول أظهر وأحوط.
قال: (فإن قدر أو عجز في أثنائها انتقل إلى الآخر)
إن قدر على القيام بعد أن كان عاجزاً عنه أثناء الصلاة فإنه ينتقل إليه
لزوال عذره، لكن إن شرع في الفاتحة فإنه لا يتمها في ارتفاعه (1) ؛ لأنه
يجب أن يقرأ حال القيام.
وإذا عجز عن القيام بعد أن كان قادراً عليه في أثناء الصلاة فإنه ينتقل إلى
القعود، و – حينئذ – إن استمر في قراءة الفاتحة في انحطاطه فإنها تجزئ عنه؛
لأن قراءته في حال الانحطاط أولى من قراءته في حال الجلوس، بخلاف المسألة
الأولى فإنه يجب أن يقرأها في حال القيام.
وهذا ما اتفق عليه أهل العلم، وذلك لثبوت العذر فيها وفي مسألة العذر الذي
تقدم في ترك الجماعة نحو هذا. فإذا حصل له العذر الذي يثبت به ترك الجماعة
لتطويل إمام فحصل له أثناء الصلاة، فإن له أن يتمها خفيفة، وله أن يقطعها.
__________
(1) المقصود حال نهوضه قبل أن يستتم قائماً. انظر حاشية الروض المربع: 2 /
372.
وإن كان التمثيل في مسألة التطويل يوجب
عليه أن يتمها خفيفة. بخلاف ما إذا كان يخشى فوات مال أو نحو ذلك فإن له أن
يتمها خفيفة، وله إن خشي وقوع الضرر أن يقطعها.
فإذا وقع عليه عذر في أثناء الصلاة، فله أن يتمها خفيفة إن أمكنه ذلك ولم
يشق عليه، وإلا قطعها.
قال: (وإن قدر على قيام وقعود دون ركوع وسجود أومأ بركوع قائماً وبسجود
قاعداً)
فإذا كان يمكنه أن يصلي قائماً أو قاعداً، لكنه يعجز عن الركوع وعن السجود،
ففرض عليه أن يصلي قائماً لقوله - صلى الله عليه وسلم -: (صل قائماً) ،
لكنه يومئ في حال القيام عن الركوع؛ لأن الركوع يكون عن قيام، ولأن القيام
جزء من الركوع فإن حالة القدمين في حال الركوع تكون في حالة القيام.
والسجود كذلك، فإذا أراد أن يسجد فيسجد عن قعود مع قدرته على ذلك؛ لأن
القعود جزء من السجود ولأن السجود إنما ينشأ عن قعود.
قال: (ولمريض الصلاة مستلقياً مع القدرة على القيام لمداواة بقول طبيب
مسلم)
إذا قال طبيب مسلم ثقة لمريض أصيب في عينيه إذا سجدت فإن ذلك يؤثر في عينيك
ويبطئ في المرض فيك فوضع له حمية أن يصلي مستلقياً على ظهره، فهل يفعل ذلك؟
الجواب: نعم يفعل ذلك فيصلي مستلقياً وإن كان قادراً على أن يصلي قائماً أو
قاعداً إذا ذكر له أن في الصلاة مستلقياً سبب لإسراع برئه أو ثبوت البرء.
وذلك لأن في ترك ذلك حرج، وقد جاءت الشريعة بنفي الحرج في قوله تعالى: {وما
جعل عليكم في الدين من حرج} .
والأظهر أنه لا يقيد الطبيب بكونه مسلماً، وإنما يقيد بالثقة الذي يرجى
صوابه، لأن العلة في ذلك هي الحرج الواقع في القلب من منع ذلك، وكذلك رجاء
الانتفاع بالشفاء، وهذا لا يثبت بكونه مسلماً فقط بل إذا كان ثقة، فالأظهر
أنه لا يقيد بكونه مسلماً بل من كان ثقة في قوله ورجي صوابه، والنفع بقوله
مثبت.
قال: (ولا تصح صلاته في السفينة قاعداً وهو قادر على القيام)
إذا كان قادراً على أن يصلي قائماً وهو في
السفينة أو في سيارة أو نحو ذلك – ففرض عليه القيام لقوله - صلى الله عليه
وسلم -: (صل قائماً) .
وثبت في البزار والحاكم وصححه أن النبي - صلى الله عليه وسلم -: (سئل عن
الصلاة في السفينة فقال: (صل قائماً إلا أن تخشى الغرق) لكن إن كان يشق
عليه القيام مشقة شديدة كأن يكون فيها حركة واضطراب فلا يمكنه أن يصلي
قائماً إلا مع مشقة شديدة فحينئذ لا حرج في أن يصلي قاعداً لقوله تعالى:
{وما جعل عليكم في الدين من حرج} .
ومثل ذلك: إذا كان في السفينة ولا يمكنه الخروج منها إلا بعد فوات الوقت،
فلا يمكنه أن ينزل فيصلي قائماً إلا بعد خروج الوقت – ومثل ذلك السيارة –
فحينئذ يصلي قاعداً للعذر لأنه عاجز عن ركن القيام في الوقت.
وهل يجب عليه أن يستقبل القبلة في صلاته كلها فيدور مع القبلة كما دارت؟
هذا هو المشهور في المذهب، وأن السفينة إذا اتجهت عن القبلة فإنه يتحرك إلى
جهة القبلة. وهذا قول ظاهر إلا أن يشق عليه.
لذا ذهب بعض الحنابلة إلى أن ذلك لا يلزمه كالنفل.
والأظهر هو التوسط بين القولين: وأن ذلك واجب عليه مع الاستطاعة بلا مشقة،
أما إن كان في استدارته مشقة فإنه يسقط ذلك عنه للحرج والمشقة.
قال: (ويصح الفرض على الراحلة خشية التأذي بالوحَل)
وقد تقدم الوحَل: وهو الطين سواء كان زلقاً أو لم يكن كذلك مما يتأذى منه.
فإذا كان على راحلته وخشي فوات الوقت والأرض فيها طين وحرج عليه أن يصلي في
الطين حيث أن الوحل فيها، فإنه يصلي على راحلته ويومئ بالركوع والسجود.
لما روى أحمد والترمذي عن يعلى بن أمية قال: (انتهى النبي - صلى الله عليه
وسلم - إلى مضيق والسماء من فوقهم والبلة أسفل منهم فأمر المؤذن أن يؤذن،
فصلى وهو على راحلته يومئ بالركوع والسجود) والحديث في إسناده جهالة وضعفه
الترمذي لكن قال: (العمل عليه عند أهل العلم) .
وذكره الإمام أحمد عن أنس بن مالك ولا يعلم
له مخالف وقواعد الشريعة تقتضي ذلك لرفع الحرج – كما تقدم – في قوله: {وما
جعل عليكم في الدين من حرج} والمشقة تجلب التيسير – ولم أر في هذه المسألة
خلافاً بين أهل العلم – لكن مع القدرة على النزول لا يجزئه ذلك.
قال: (لا للمرض)
فالمريض لا يجزئه أن يصلي على راحلته.
وقال بعض الحنابلة وصوبه صاحب الإنصاف وهو رواية عن الإمام أحمد: أنه يجزئه
ذلك. وهذا القول ظاهر، لكن بشرط ألا يكون في نزوله فعل أركان لا يمكن فعلها
في حال صلاته على الراحلة.
فإذا كان المريض مثلاً: يومئ بالركوع والسجود على النافلة ويمكنه أن يسجد
على الأرض ويركع ويقوم فيجب عليه أن ينزل للقيام والركوع والسجود وفعل
غيرهما من الأركان، لكن هذا الشرط ألا يشق عليه مشقة ظاهرة، فإنه يصلي على
راحلته وإن ترك شيئاً من الأركان المتقدمة.
إذن: الظاهر: أنه إن كانت أفعاله كأفعاله على الأرض فإنه لا فرق بين أن
يصلي على الراحلة أو على الأرض، لكن إن كان قادراً على فعل شيء من الأركان
في حال النزول فيجب أن ينزل إلا أن يُلحقه ذلك مشقة ظاهرة فإن المشقة تجلب
التيسير.
والحمد لله رب العالمين.
فصل في صلاة المسافر
قال المؤلف رحمه الله تعالى: (من سافر سفراً مباحاً أربعة برد سن له قصر
رباعية ركعتين، إذا فارق عامر قريته أو خيام قومه)
هذه الجملة فيها مسائل:
المسألة الأولى: مشروعية صلاة السفر وأنها مشروعة قد دل على ذلك الكتاب في
قوله: {وإذا ضربتم في الأرض فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة إن خفتم
أن يفتنكم الذين كفروا} ، وبسنة النبي - صلى الله عليه وسلم - في فعله
وقوله، وبإجماع أهل العلم على مشروعية قصر الصلاة للمسافر.
وقد اختلف أهل العلم هل هذه المشروعية للاستحباب أم للفرضية؟
أ – مذهب جمهور العلماء: إلى أن ذلك
للاستحباب، وهو المشهور في مذهب الحنابلة، فهي مستحبة وفعلها قصراً أفضل من
فعلها تماماً، وإن أتم جاز ذلك وصح من غير كراهية.
ب – وعن الإمام أحمد وهو اختيار شيخ الإسلام واستظهره صاحب الفروع: أن
الإتمام مكروه.
فهذا هو مذهب الحنابلة في هذه المسألة.
استدل جمهور أهل العلم على استحبابها بما يلي:
قوله تعالى: {فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة} فنفى الله الجناح، ونفي
الجناح يدل على الإباحة.
وهذا الاستدلال ضعيف، بل نفي الجناح لا يدل على نفي الإيجاب بل يدل على نفي
الإثم والتحريم أي لا أثم ولا تحريم.
أما مسألة نفي الإيجاب فلا تدل عليها هذه الآية بدليل أن الله تعالى قال:
{فلا جناح عليه أن يطوف بهما} والطواف بين الصفا والمروة - وهو باتفاقهم -
فرض وركن أو واجب.
ولو قالوا بظاهرها هو الإباحة المطلقة فضلاً عن أن يكون ذلك للاستحباب فهذه
الآية ليس فيها نفي الإيجاب ولا إثبات الاستحباب بل فيها الإخبار أنه لا
تحريم في ذلك ولا حرج ولا جناح.
وبما ثبت في النسائي ورواه أبو داود والطيالسي وقال الدارقطني إسناده حسن:
أن عائشة قالت: (اعتمرت مع النبي - صلى الله عليه وسلم - في رمضان فصام
وأفطرت وقصر وأتممت فقال لها النبي - صلى الله عليه وسلم - (أحسنت) لما
ذكرت ذلك له ".
قال الدارقطني: إسناده حسن (لكن قال في كتاب العلل وهو أقوى في التضعيف
والحكم على الأحاديث: (الراجح أنه مرسل) أو نحو ذلك وهو كما قال، وأنكر هذا
الحديث شيخ الإسلام فإنه لا يعقل أن عائشة تخالف النبي - صلى الله عليه
وسلم -، فتخالف هديه بكونها تصوم وهو مفطر وتتم وهو يقصر فالحديث لا يثبت،
وإن كان قد صح عنها أنها كانت تتم في السفر وتقول: (إنه لا يشق علي) رواه
البيهقي لكن كما قال عروة: (تأولت كما تأول عثمان) .
فتأولت أن القصر إنما شرع للمشقة، فرأت أنه
لا مشقة فيه عليها فكانت لا تقصر، فلا يعدو ذلك إلا أن يكون تأولاً منها.
أما الرواية عنها بقول النبي - صلى الله عليه وسلم - (أحسنت) فلا يثبت ذلك،
فالحديث مرسل وقد أنكره شيخ الإسلام.
وأما ما رواه الدارقطني من حديثها: أن النبي - صلى الله عليه وسلم -: (كان
يتم ويقصر، ويصوم ويفطر) فالحديث إسناده ضعيف. فهذه أدلة جمهور العلماء.
وذهب طائفة من أهل العلم من الصحابة والتابعين وهو مذهب الأحناف: إلى أنه
فرض في السفر، وهو مذهب ابن عباس وعمر بن عبد العزيز والثوري وحماد بن أبي
سليمان.
فقد قال ابن عباس – كما في سنن سعيد بن منصور -: (من صلى في السفر أربعاً
فكمن صلى في الحضر ركعتين) وهذا منه إبطال للصلاة، فإن من أتم في السفر
تبطل صلاته كما لو قصر في الإقامة، ولما سئل – - رضي الله عنه - – عن قصر
الصلاة فقال: (ليس تقصيرها ولكن إتمامها وسنة النبي - صلى الله عليه وسلم
-) رواه عبد الرزاق.
ودليل هؤلاء:
ما ثبت في الصحيحين عن عائشة قالت: (أول ما فرضت الصلاة ركعتين فأقرت صلاة
السفر وأتمت صلاة الحضر) فقولها " وأقرت " يدل على أنها أقرت على الفريضة
لكن يشكل عليه ما تقدم من مذهب عائشة، وهذا هو لفظها.
لكن يقال: إن هذا من باب الرواية، وأما ما تقدم فهو من باب الرأي ولا يعارض
رأي الراوي بروايته، بل تبقى الرواية على وجهها.
واستدلوا – وهو أصرح في الاستدلال – بما رواه مسلم في صحيحه عن ابن عباس
قال: (فرضت الصلاة على لسان النبي - صلى الله عليه وسلم - على المسافر
ركعتين، وعلى المقيم أربعاً، وفي الخوف ركعة)
فقال: " فرضت " والفرضية لفظ صريح في الإيجاب.
وبما ثبت في النسائي بإسناد صحيح عن عمر أنه قال: (صلاة السفر ركعتان،
وصلاة الجمعة ركعتان، وصلاة العيد ركعتان تمام غير قصر على لسان النبي -
صلى الله عليه وسلم -) .
وما ذكروه أصح، فإن الأدلة ظاهرة في إيجاب
ذلك ولم يثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في حديث صحيح القصر [لعلها:
الإتمام] ، بل كان يتم [لعلها: يقصر] حتى ثبت في الصحيحين أن ابن مسعود لما
قيل له: (أن عثمان قد أتم قال: (إنا لله وإنا إليه راجعون، صليت مع النبي -
صلى الله عليه وسلم - بمنى ركعتين، ومع أبي بكر بمنى ركعتين، ومع عمر بمنى
ركعتين فليت حظي من أربع ركعات ركعتان متقبلتان) لكن مع ذلك فقد صلى أربعاً
وقد قال: (الخلاف شر) . فالراجح فرضية القصر.
2 - والمسألة الثانية: عند قوله: (من سافر سفراً مباحاً) :
- هذا هو المشهور في المذهب، وهو مذهب جمهور العلماء، وأن ذلك إنما يشرع
للمسافر سفراً مباحاً. ويدخل في ذلك السفر لنزهة أو نحوها، فإنه سفر مباح
ويخرج من ذلك السفر المحرم، فمن سافر لتجارة محرمة أو فعل محرم، وكذلك
المكروه من تكاثر ونحو ذلك فإنه لا يقصر بل يتم.
واستدلوا بقوله تعالى: {فمن اضطر غير باغ ولا عاد فلا إثم عليه} قالوا:
والباغي هنا هو الخارج على السلطان، والعادي هو العادي على المسلمين، فمن
كان كذلك فلا يباح له الميتة بل تحظر عليه، قالوا: وكذلك غيرها من الرخص.
وقالوا: إن في مشروعية القصر له إعانة له على السفر المحرم أو المكروه،
وهذا يناقض مقصود الشارع من التحريم أو الكراهية.
- وذهب الأحناف وهو مذهب الظاهرية واختيار ابن تيمية: إلى أن هذه الرخصة
تشمل المسافر العاصي في سفره كما تشمل المطيع، فضلاً عمن بينهما ممن سفره
سفر مكروه أو مباح.
واستدلوا: بعمومات النصوص: {وإذا ضربتم في الأرض فليس عليكم جناح أن تقصروا
من الصلاة} وغيرها، فهذه ثابتة للمسافر مطلقاً سواء كان في سفره عاصياً أو
مطيعاً.
قالوا: وأما الآية فإن التفسير الصحيح هو
ما ذهب إليه جمهور المفسرين، وهو أن المراد بقوله: {غير باغ} في كونه يأكل
الميتة مع إمكان الاستغناء عنها، و {لا عاد} في كونه يتجاوز ضرورته. وهذا
التفسير أصح فيها لتعلقه بفعل المحرم نفسه، ولأن قوله: {فمن اضطر} عام في
كل مسلم عاصياً كان أو مطيعاً وللعمومات المتقدم ذكرها.
* ثم أن كان خارجاً عادياً على المسلمين خارجاً عن إمامهم مؤذياً لهم، فإنه
له حكم خاص لإهدار دمه، فكونه - على التسليم بالتفسير الأول، كونه - لا
يرخص له بأكل الميتة ونحوها من الرخص التي فيها بقاء حياته؛ هذا لأنه حياته
مهدرة بخلاف من سافر سفر معصية أو نحو ذلك فإن حياته ليست بمهدرة.
والراجح التفسير الثاني كما تقدم.
وهذا القول – أي الثاني – هو الراجح؛ لعمومات النصوص.
وأما كونه فيه إعانة: فإن هذا أمر مشروع ولا دخل له في كونه له إعانة على
المعصية، فهي حسرة له هكذا في السفر، أما كونه عاصياً أو مطيعاً فإنه لا
يعان على معصية أو ما يكره له، وأما هذا فهو حكم شرعي لا تعلق له بما تقدم
بل قد يكون في ذلك إعانة له على فعل ما فرض عليه من إقامة الصلاة.
إذن الراجح مذهب الأحناف والظاهرية واختيار شيخ الإسلام.
المسألة الثالثة عند قوله: (أربعة برد) :
هذه مسألة اختلف فيها العلماء وهي المسافة التي تقصر فيها الصلاة.
1- فذهب جمهور العلماء إلى هذا القول وأنه أربعة برد والبريد أربعة فراسخ،
فالأربعة برد ستة عشر فرسخاً، والفرسخ: ثلاثة أميال، فيكون المجموع ثمانية
وأربعين ميلاً وهي تزيد على 80 كيلو متراً وهذا – كما ذكروا – تقريب لا
تحديد.
واستدلوا: بما رواه الدارقطني عن ابن عباس مرفوعاً: (يا أهل مكة لا تقصروا
الصلاة إلا في أربعة برد من مكة إلى عسفان) والحديث لا يثبت بل هو ضعيف،
والصحيح أنه موقوف على ابن عباس.
لكن ثبت هذا من فعل ابن عباس وابن عمر –
كما ثبت في البخاري معلقاً – ووصله البيهقي: (أن ابن عمر وابن عباس كانا
يقصران ويفطران في أربعة برد ستة عشر فرسخاً) والأثر صحيح.
فإذا سافر أربعة برد سواء كان ذلك يومان قاصدان كما كان في القديم أو أقل
بساعة أو ساعتين فلا عبرة بالزمن في السفر بل العبرة بالمسافة.
وما ذكروه من أثر ابن عباس وابن عمر: قد ثبتت آثار تخالف هذا الأثر فلا
يقال: إنهما لا يعلم لهما مخالف من الصحابة، فقد صح عن ابن عمر نفسه آثار
تخالف ذلك، فمن ذلك:
في مصنف ابن أبي شيبة – أنه قال: (لو خرجت ميلاً لقصرت) وفيه: (إنه كان
يقصر في ثلاثة أميال) ، وفي مصنف عبد الرزاق: (أنه كان يقصر في ثلاثين
ميلاً) ، وفي مصنف ابن أبي شيبة: (أنه كان أدنى ما يقصر فيه خيبر يخرج لأرض
له) وكان بين خيبر والمدينة نحو تسعين ميلاً، فالرواية مختلفة عن ابن عمر.
وثبت في مصنف عبد الرزاق بإسناد صحيح عن إبراهيم التيمي عن أبيه: (أنه
استأذن حذيفة – وكان في المدائن – أن يذهب إلى أهله فأذن له وشرط عليه ألا
يقصر ولا يفطر، وكان بين المدائن والكوفة نيف وستون ميلاً) والأربعة برد 48
ميلاً، فهذا أثر يخالف.
كما أن السنة خالفت ذلك صراحة فقد ثبت في البخاري أن النبي - صلى الله عليه
وسلم - قال: (لا تسافر امرأة يوماً وليلة) الحديث، قال البخاري: (سمى النبي
- صلى الله عليه وسلم - يوماً وليلة سفراً) واليوم والليلة إنما يكون فيهما
بردان أي 8 فراسخ، فإن الأربعة برد يومان تامان، واليوم والليل يكونان
بردين.
وثبت في أبي داود ما هو أقل [من] ذلك فقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم
-: (لا تسافر امرأة بريداً) فدل على أن السفر بريد.
وقد ثبت أن أهل مكة كانوا يقصرون مع النبي - صلى الله عليه وسلم - بمنى،
وكان بين منى ومكة نحو بريد.
لذا أنكر الموفق رحمه الله تعالى: هذا
القول من جمهور العلماء وأنه يخالف السنة وظاهر القرآن، وأنه لا دليل عليه
من نص ولا إجماع ولا قياس، وهو كما قال.
وذهب شيخ الإسلام وهو اختيار ابن القيم: إلى أن مرجع ذلك إلى العرف، فما
تعارف الناس أنه سفر فهو سفر، لكن هذا القول لم يتبين لي أنه قول منضبط
ينضبط لسائر الناس في معرفة أن هذا سفر وهذا ليس بسفر والناس مضطريون في
أعرافهم كما هو ظاهر.
وذهب الظاهرية إلى أن مرجع ذلك إلى اللغة، فإن الله عز وجل قد خاطب العرب
في كتابه بالسفر، والسفر عندهم هو البروز عن دار الإقامة، فالسفر في اللغة
هو الكشف والبروز، فالسفر من دار الإقامة هو البروز عنها فليس هناك إلا
داران دار حضر ودار سفر.
فدار الحضر هي دار الإقامة، وأما خارجها فهو سفر، فمن برز عن دار الإقامة
قصر.
قال ابن حزم: ميلاً؛ لأثر ابن عمر المتقدم.
وقال داود من الظاهرية: ثلاثة أميال؛ لأثر ابن عمر المتقدم الذي رواه ابن
أبي شيبة، وهذا القول تدل عليه السنة.
فقد ثبت في مسلم أن أنس: سئل عن قصر الصلاة؟ فقال: (كان رسول الله - صلى
الله عليه وسلم - إذا خرج ثلاثة أميال أو فراسخ قصر الصلاة) وهنا شك من
الراوي في قوله: (ثلاثة أميال أو فراسخ) وهو من شعبة.
واليقين أنه ثلاثة فراسخ وهو نحو تسعة أميال أي 16 كيلو متراً، ومع ذلك
فليس هذا تحديداً وإنما فيه أخبار أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان إذا
خرج ثلاثة أميال أو فراسخ صلى ركعتين.
ويحتمل أن يكون ذلك ثلاثة أميال وهو أوفق للغة العرب لأن الثلاثة أميال
غالباً ما تخرج عن حيِّز المدينة.
واستثنى الظاهرية من ذلك ما يتصل بالمدينة
من بساتينها ونحو ذلك؛ لأن الصحابة كانوا يخرجون إلى البقيع وإلى أحد وقباء
وكذا النبي - صلى الله عليه وسلم - فلم يثبت عنهم القصر وكل هذا متصل بدار
الحاضرة، والسفر ليس من هذا القبيل وإنما هو البروز عن دار الإقامة وما
اتصل بها، وهذا القول هو أظهر هذه الأقوال الثلاثة.
المسألة الرابعة: (قصر رباعية ركعتين)
خص ذلك بالرباعية، فيخرج من ذلك الثنائية وهي الفجر والثلاثية وهي المغرب،
وهذا بإجماع العلماء كما حكاه ابن المنذر.
ويدل على ذلك ما ثبت في مسند أحمد بإسناد جيد من حديث عائشة المتقدم في
فرضية صلاة السفر وفيه: (إلا المغرب فإنها وتر النهار وإلا الصبح فإنها
تطول فيها القراءة) .
المسألة الخامسة: قوله: (إذا فارق عامر قريته أو خيام قومه)
فإذا خرج من الحاضرة وما اتصل بها من عمران ونحو ذلك فإنه حينئذ يقصر،
فبمجرد ما يخرج من الحاضرة كمطار الطائرات عندنا ونحو ذلك فإنه يقصر الصلاة
في ذهابه وإيابه، وهذا هو مذهب جمهور العلماء.
واستدلوا بقوله تعالى: {وإذا ضربتم في الأرض فليس عليكم جناح أن تقصروا من
الصلاة} فقيده الله بالضرب بالأرض، وهو يثبت بمجرد الخروج من الحاضرة أو
خيام القوم.
وكذلك لا ينتهي من الضرب في الأرض حتى يدخلها.
وثبت هذا عن علي بن أبي طالب ولا يعلم له مخالف فقد ثبت عنه كما في البخاري
معلقاً: أنه خرج فقصر الصلاة وهو يرى البيوت حتى رجع فقيل له: هذه الكوفة
فقال: (لا حتى ندخلها) .
ومن هنا تبين لنا: أن حديث أنس بن مالك
المتقدم: لا يحمل على أن المراد من ذلك أثناء خروجه؛ لأن النبي - صلى الله
عليه وسلم - لا يمكن أن يخالف قوله ما ثبتت الشريعة بمثله من قول الصحابي
الذي لا يعلم له مخالف، وهو مذهب الجمهور، وهم يشرعون القصر بمجرد الخروج
ولا يقيدونه بثلاثة أميال ولا بثلاثة فراسخ، والحديث المتقدم عن أنس قد
قيده بثلاثة أميال أو فراسخ.
ثم إنه قد سئل عن قصر الصلاة فدل على أن المراد من ذلك المسافة التي يقصر
فيها.
إذن: متى ما فارق قريته أو مدينته أو خيام قومه فإنه يقصر الصلاة حتى يرجع،
ويستمر في القصر حتى يدخلها – وهو مذهب جمهور العلماء وهو ثابت عن علي ولا
يعلم له مخالف.
فإن قيل: قد قال تعالى: {إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا} فقيده الله بالخوف
وقد أمن الناس؟
فالجواب: أنه ثبت في مسلم عن يعلى بن أمية قال: (سألت عمر عن قوله تعالى:
{فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا} فقد
أمن الناس فقال: " أني عجبت مما عجبت منه فسألت النبي - صلى الله عليه وسلم
- فقال: (صدقة الله تصدق الله بها عليكم فاقبلوا صدقته) ".
ويمكن أن يستدل بهذا على الإيجاب لقوله: " فاقبلوا " وظاهر الأمر الوجوب.
والحمد لله رب العالمين.
هنا ثلاث مسائل تتفرع عن المسألة السابقة وهي أن مسافة القصر أربعة بُرد:
المسألة الأولى: أن من شك في المسافة هل هي أربعة برد أم لا؟
فلا يقصر حتى يتيقن ذلك لأن الأصل – في المشهور من المذهب – عدم السفر،
فإذا ثبت هذا فإنه لا يقصر حتى يتيقن أن البلدة التي يسافر إليها بعدها
مسافة قصر.
وقد تقدم أن الراجح أنه متى ثبت كونه مسافراً فإنه يثبت بذلك القصر.
وما ذكره الحنابلة ينبني على القول الراجح، فإذا أراد أن يذهب إلى محل ولم
يثبت له كونه سفراً فإنه لا يقصر، إن شك في هذا الموضع هل هو موضع سفر أم
لا.
المسألة الثانية: أن من سافر ليترخيص في
فطر أو قصر أو نحو ذلك:
فالمشهور في المذهب: أنه لا يقصر. ولم أر دليلاً على هذه المسألة أي دليلاً
صحيحاً.
لذا ذهب بعض الحنابلة وهو مذهب الأحناف: إلى أنه يثبت له رخص السفر، لأنه
مسافر فيدخل في عموم الأدلة الشرعية وإن كان ينهى عن ذلك لكنه يثبت كونه
مسافراً متعلق به أحكام السفر من قصر أو فطر أو نحو ذلك.
فالراجح أن من سافر ليترخص أنه يثبت له أحكام السفر وإن كان ينهى عن ذلك.
والترخص أقوى ما يقال فيه: أنه معصية وقد تقدم أن من سافر سفر معصية فإن
أحكام السفر تثبت له لعمومات الأدلة الشرعية.
المسألة الثالثة: فهي فيمن كان تائهاً في طريقه لم يثبت قصداً له:
فإنه لا يقصر في المشهور من المذهب، لأنه منتهى قصده لم يثبت كونه سفراً
ولا يقصر حتى يثبت له أن منتهى قصده سفر.
يعني: أن من خرج ولم يقصد موضعاً يكون خروجه إليه سفراً ثم تاه فإنه لا
يترخص بأحكام المسافرين، لأنه لا يعد مسافراً، وهذا إذا كان الموضع الذي
قصده في الأصل ليس بسفر.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: (وإن أحرم حضراً ثم سافر أو سفراً ثم أقام ...
أتم)
كأن يكون رجل في سفر فكبر تكبيرة الإحرام في حال كونه مسافراً فوصلت
السفينة إلى بلدته – أي بلدة الإقامة – فإنه يتم صلاته.
والعكس كذلك: فلو أن رجلاً أحرم في حال الإقامة، كأن تكون السفينة في بلدته
فخرجت ثم سافر أثناء الصلاة فإنه يتم صلاته كذلك.
وحكي في هاتين المسألتين الإجماع على أنه يتم.
أما المسألة الثانية: فظاهر أنه يتم لأنه قد عقد الصلاة في حال الإقامة
فوجب إتمامها كذلك.
وأما المسألة الأولى: وهي فيما إذا أحرم مسافراً ثم أقام، قالوا فكذلك وقد
حكي الإجماع على ذلك.
والدليل على ذلك – وهو دليل للمسألة الثانية كذلك قالوا: أنها صلاة اجتمع
فيها الحضر والسفر فوجب أن يصلي على هيئة الحضر.
وهذا الدليل ظاهر في المسألة الثانية؛
لأنها قد انعقدت على أنها صلاة حضر، وأما في المسألة الأولى: فالترجيح
بتقديم صلاة الحضر على صلاة السفر غير ظاهر، لأنه قد عقدها وهو مسافر
فانعقدت على وجه السفر، فلم يلزمه إتمامها، ويثبت تبعاً مالا يثبت
استقلالاً.
فإن كان الإجماع المتقدم صحيح ثابت فلا خلاف فيه، وإن لم يثبت الإجماع فهذا
القول قوي أي أنه يصليها صلاة سفر لأنه قد عقدها مسافراً فانعقدت على وجه
السفر وكونه يصل إلى دار الإقامة فإنه يثبت تبعاً ما لا يثبت استقلالاً.
قال: (أو ذكر صلاة حضر في سفر أو عكسها)
أو ذكر صلاة سفر في حضر: كأن يتذكر مسافر أنه لم يصلي صلاة الظهر في الحضر.
فإنه يصليها تماماً وهذا بالإجماع، لأن القضاء يحكى الأداء والواجب في
القضاء أن يكون على هيئة الأداء، فقد لزمت في ذمته تماماً غير قصر وبقيت
متعلقة بذمته وخرج ومنها على هذه الصورة فكان الواجب عليه أن يصليها
تماماً.
أما إن سافر بعد دخول الوقت وقبل خروجه فإنه يصليها صلاة سفر، عند جمهور
العلماء وحكاه ابن المنذر إجماعاً.
ولكن عن الإمام أحمد رواية أخرى: أنه يصليها صلاة حضر، لأنه قد وجبت عليه
الصلاة حيث أذن، وقد أذن في الحضر فوجبت كذلك، لكن هذا القول ضعيف، لأن
الصلاة واجب موسع فكل وقتها تجب فيه، والنظر هنا إلى حال الأداء فقد أداها
في حال السفر فكانت صلاة سفر هذا هو المشهور في المذهب وهو مذهب الجمهور
وحكاه ابن المنذر إجماعاً كما تقدم.
(أو عكسها) : إذا ذكر في الحضر صلاة سفر:
كأن تكون عليه فائتة في السفر لم يذكرها إلا في الحضر فهنا قال: يجب عليه
أن يصليها تماماً - هذا هو المشهور في المذهب -.
قالوا: لأن القصر رخصة فزال بزوال سببه، وليس هو السفر.
- وذهب الأحناف وهو قول لبعض الحنابلة: إلى
أنه يصليها قصراً، وهو القول الراجح؛ لأن الصلاة قد وجبت عليه بخروج وقتها
فتعلقت في ذمته على وجه القضاء، والقضاء يحكي الأداء، فلو أنه صلاها في
السفر أداء لكانت قصراً لا تماماً، والقضاء يحكي الأداء.
فالراجح أنه يقصر؛ لأن هذه الصلاة تعلقت في ذمته على أنها قصر والقضاء يحكي
الأداء، فالذي فاته إنما هو ركعتان لا أربع فلم يفته من الصلاة أربع ركعات
وإنما فاته ركعتان والقضاء إنما يكون للشيء الفائت.
قال: (أو ائتم بمقيم)
يعني مسافر ائتم بمقيم سواء كان هذا الائتمام من أول الصلاة أو في أثنائها.
أما كونه من أول الصلاة: فصورته: رجل مسافر فكبر خلف مقيم وأدرك معه تكبيرة
الإحرام.
وأما في أثنائها: كأن يكبر خلف إمام مسافر ثم يطرأ على المسافر عذر يقتضي
الاستخلاف فيستخلف مقيماً.
فهاتان الصورتان كلاهما لمسألة واحدة وهي صلاة المسافر خلف المقيم فيجب أن
يصلي تماماً لصلاة الإمام، وهذا باتفاق أهل العلم (والمراد: هنا المذاهب
الأربعة) .
ودليل ذلك: ما ثبت في مسند أحمد بإسناد صحيح: أن ابن عباس - رضي الله عنه -
قيل له: (إنا إذا صلينا في رحالنا – أي في حال السفر – صلينا ركعتين، وإذا
صلينا معكم صلينا أربعاً؟ وكان ابن عباس من المكيين وكان يصلي تماماً "
فقال: (سنة النبي - صلى الله عليه وسلم -) .
وهو ثابت من فعل ابن عمر - رضي الله عنه - كما في البيهقي بإسناد صحيح ولا
يعلم لابن عمر مخالف، وهو كذلك السنة كما تقدم.
إلا أن الإمام مالك – وهو الراجح في هذه المسألة – يستثنى ما إذا فاته
الركوع من الركعة الأخيرة فإنه يصلي قصراً وقد تقدم الكلام على ذلك.
وخالف إسحاق رحمه الله تعالى – المشهور عند
أهل العلم – فقال: إذا صلى المسافر خلف المقيم فإنه له أن يصلي قصراً؛ لأن
الإقتداء لا يزيل هذا الحكم، كما لو اقتدى المقيم بالمسافر فإنه يتم صلاته
بالإجماع، فكذلك هنا.
وهذا قياس يخالف النص ولعله لم تبلغه السنة عن النبي - صلى الله عليه وسلم
-.
قال: (أو بمن يشك فيه)
هذه المسألة تنبني على هل تشترط النية في القصر أم لا؟
يعني: هل يشترط لمن أراد أن يصلي في السفر أن ينوي القصر أم لا؟
المشهور من المذهب – كما سيأتي –: أن ذلك فرض.
وقال بعض الحنابلة: لا يشترط ذلك، وهو مذهب الجمهور.
ولم يثبت عن الإمام أحمد نص يخالف هذا، وهو اختيار شيخ الإسلام؛ لأن
الاشتراط لا دليل عليه من كتاب الله ولا سنة نبيه ولا أقوال الصحابة - رضي
الله عنهم -، فلا يشترط له أن ينوي القصر كما لا يشترط له – في الحضر – أن
ينوي الإتمام، لأن التمام هو صلاة الحاضرين، فكذلك في القصر لا يشترط له أن
ينوي القصر؛ لأن القصر هو صلاة المسافرين، فلا دليل على اشتراط نية القصر.
فالأصل في السفر هو القصر كما أن الأصل في الحضر هو الإتمام، وكما أنه لا
يشترط نية الإتمام في حال الحضر فكذلك لا يشترط نية القصر في حال السفر،
فإن صلاة السفر ركعتان كما تقدم في الأدلة الصحيحة، وهذا مذهب الجمهور.
أما الحنابلة فقالوا: أنه إذا أطلق فكبر ولم ينو فإنها تصرف إلى الأصل وهو
التمام.
وهذا ليس بصحيح، فإن التمام أصل في صلاة الحاضرين وليس بأصل في صلاة
المسافرين، لما تقدم من الأدلة كما في حديث عمر: (صلاة السفر ركعتان)
فالأصل في صلاة السفر القصر فلم تشترط النية، بل لو نوى الإتمام ثم رأى
القصر فإنه يقصر ولا يؤثر فيه هذه النية، فالنية ليست بمؤثرة؛ لأن هذه هي
السنة فصلاة السفر ركعتان.
وهذا لا يشكل على فرضيتها فيما تقدم ترجيحه.
وكذلك لا يشكل – في الحقيقة – على القول
بمشروعيتها؛ لأنها قد شرعت ركعتان فلم تشترط فيها النية.
فهذه المسألة مبنية على ذلك.
فإذا ائتم بمن يشك فيه فلا يدري هل هو مسافر أم مقيم؟
فإنه يجب عليه الإتمام في المشهور من المذهب.
لكن استثنوا من ذلك: إذا كانت هناك غلبة ظن كأن يكون المسجد في طريق
المسافرين أو أن يظهر على الإمام هيئة السفر أو نحو ذلك.
أو أن ينوي أنه أتم، أتم، وإن قصر، قصر، فيعلِّق صلاته بصلاة الإمام فيجوز.
لكن الصحيح في هذه المسائل كلها، أنه إذا صلى وراء إمام ولا يدري أهو مسافر
أم مقيم، فإنه يصلي خلفه فإن أتم، أتم خلف. وأن قصر، قصر؛ لأن النية ليست
بشرط.
قال: (أو أحرم بصلاة يلزمه إتمامها ففسدت وأعادها)
هذه مسألة غريبة.
صورتها: رجل أحرم بصلاة - يلزمه - في السفر يلزمه إتمامها، كأن يصلي خلف
مقيم، فبطلت صلاته كأن يتذكر أنه محدث أو نحو ذلك ثم أراد أن يصلي وحده فهل
يصلي قصراً أو تماماً؟
قال هنا: (أتم) فيجب عليه الإتمام، لكن هذا قول غريب؛ لأن وجوب إتمامها في
الصلاة الأولى وهي الفاسدة الباطلة كان ذلك لتعلقها بصلاة الإمام فوجب
إتمامها لكونه قد اقتدى بمقيم. وأما في الصلاة الأخرى فلا تعلق لها بشيء
يوجب الإتمام. وهذا قول ضعيف.
- وقد ذهب الأحناف إلى خلاف هذا القول، والراجح ما ذهبوا إليه.
قال: (أو لم ينو القصر عند إحرامها)
تقدم هذا: وأن المشهور في المذهب وجوب نية القصر.
فلو أن رجلاً كبر في السفر وغاب عن ذهنه أنه مسافر فلم ينو القصر فيجب عليه
الإتمام. وهذا ضعيف وهو مبني على اشتراط نية القصر، وهو قول ضعيف.
قال: (أو شك في نيته)
أي في الركعة الثانية شك هل نوى القصر أم لا؟
فيجب عليه أن يتم قالوا: ولو تذكر بعد ذلك،
فمثلاً يبقى حائراً لحظات ثم تذكر أنه نوى القصر، فلو بقى لحظة حائراً فإنه
يلزمه أن يصلي تماماً؛ لأنه قد بقى زمناً شاكاً في نيته، فوجب الإتمام؛ لأن
من شك في نية فيجب عليه الإتمام، فتذكره بعد ذلك لا يغير من الحكم شيئاً بل
يلزمه الإتمام.
وكل هذه الأقوال تنبني على شرطية نية القصر، وهو قول ضعيف، والقول الراجح
هو عدم اشتراط ذلك كما تقدم وهو مذهب جمهور العلماء.
مسألة:
رجل مسافر فدخل مسجداً في الطريق ووجد رجلاً يصلي فدخل معه وأدرك معه ركعة
واحدة ولا يدري هل هو قد أتم صلاته فيتمها أم قصرها، فما الحكم؟
إن غلب على ظنه أحدهما فإنه يبني عليه وإلا فإنه يصلي قصراً، لأننا إنما
فرضنا وشرعنا الإتمام له حيث ثبت له أن هذا مقيم، والأصل له أن يصلي
مسافراً حتى يثبت له أن هذا الإمام مقيم؛ ولأنه إنما شرع ذلك في الأصل.
وإن كانت المسألة قد ثبت فيها بعض الأحكام تبعاً، إنما شرع ذلك لئلا يخالف
الإمام، والمخالفة إنما تكون إذا سلم قبل سلام إمامه، وإن كان قد ثبت له في
هذه المسألة تبعاً أنه وإن أدرك من الصلاة شيئاً وهو يعلم أنه مقيم أنه
يتم، فهذا قد ثبت تبعاً للمسألة السابقة؛ ولاتباع صورة صلاة الإمام تماماً،
لكن هنا لم يثبت له ذلك فيبقى على الأصل من كونه يشرع له أو يفرض أن يصلي
قصراً.
والحمد لله رب العالمين.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: (أو نوى إقامته أكثر من أربعة أيام)
هذا في سياق من يجب عليه الإتمام، فإن هذه المسألة عطف على ما قبلها من
المسائل.
فإذا نوى المسافر إقامة أكثر من أربعة أي صلاة إحدى وعشرين صلاة فإنه يتم،
وإذا نوى أكثر من ذلك أتم الصلاة.
واستدلوا: بما ثبت في الصحيحين عن أنس بن مالك قال: (خرجنا مع رسول الله -
صلى الله عليه وسلم - إلى مكة – في رواية لمسلم " إلى الحج " – فكان يصلي
ركعتين ركعتين حتى رجعنا إلى المدينة) .
قالوا: والثابت عنه في سياق حجته أنه دخل
مكة في صبيحة اليوم الرابع وأنه خرج منها إلى منى في ضحى اليوم الثامن فهذه
أربعة أيام.
قالوا: فعلى ذلك يقصر إن أقام أربعة أيام فإن زاد أتم.
قال المالكية والشافعية: إذا قام ثلاثة أيام فأقل قصر فإن أقام أكثر من
ثلاثة أيام فإنه يتم.
واستدلوا: بهذا الحديث أيضاً ولم يحسبوا يومي الدخول والخروج لما في حسبهما
من المشقة، فإن الاعتبار إنما يكون باليوم التام في حق المسافر، وأما بعض
اليوم فإن فيه مشقة.
واستدلوا بما ثبت في الصحيحين من حديث: العلاء الحضرمي - رضي الله عنه -
قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (يقيم المهاجر بعد نسكه ثلاثاً: أي
ثلاثة أيام) .
قالوا: فهذا الحديث فيه أن الثلاثة أيام هي الإقامة.
- وذهب إسحاق بن راهويه: إلى أنها تسعة عشر يوماً.
واستدل: بما ثبت في البخاري عن ابن عباس قال: (أقام النبي - صلى الله عليه
وسلم - بمكة تسعة عشر يوماً يقصر الصلاة) قال ابن عباس: (فنحن إذا أقمنا
تسعة عشر يوماً قصرنا وإذا زدنا أتممنا) .
والمقصود من كونه يتم من أول مكثه وإقامته.
ورد جمهور الفقهاء على هذا الحديث بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم
يعزم الإقامة بل كان عليه الصلاة والسلام ينوي الخروج غداً أو بعد حتى خرجت
هذه المدة فكانت اتفاقاً، ونحن وأنتم نقول: إن من مكث في بلدة ما ولم يعزم
إقامة فإنه يقصر أبداً – كما سيأتي -.
ورُدَّ هذا: بأنه خلاف الظاهر، فإن الظاهر أنه أقام تسعة عشر يوماً بنية،
ويؤيده القرائن:
() إن ذلك كان في فتح مكة كما في رواية
لأبي داود: (وذلك في عام الفتح) فأقام فيها تلك المدة، ويبعد أن يكتفي بمدة
أقل منها إذ مكة كانت محل أهل الشرك، وكان العرب يقتدون بهم في سلمهم
وكفرهم حتى لما آمنوا وأسلموا، دخل الناس في دين الله أفواجاً، فهي مكة
التي كان فيها صناديد الكفار فيبعد أن يكون النبي - صلى الله عليه وسلم -
نوى إقامة يوم أو يومين أو ثلاثة.
() والقرينة الأخرى: أن النبي - صلى الله عليه وسلم -: يبعد أن يضعف في
التقدير هذا الضعف من تسعة عشر يوماً إلى أربعة أو ثلاثة أيام فيقدر ثلاثة
أيام أو أربعة، فتصل المدة إلى تسعة عشر يوماً.
- وذهب أهل الظاهر: إلى أنها عشرين يوماً.
واستدلوا: بما رواه أبو داود في سننه أن النبي - صلى الله عليه وسلم -:
(أقام بتبوك عشرين يوماً يقصر الصلاة) لكن الحديث قد اختلف فيه علي: (يحيى
بن أبي كثير) فرواه معمر عن يحيى موصولاً، ورواه الثقات عنه مرسلاً وهو
الراجح كما رجح ذلك الدارقطني وغيره فهو مرسل، والمرسل ضعيف.
واعلم أن جمهور الفقهاء إنما حددوا مدة للإقامة والسفر – كما نبه على ذلك
غير واحد – بناءً على أن الأصل في الإقامة هي ترك النقلة، فمتى ترك التنقل
فأقام فهو مقيم وليس بمسافر، وإنما السفر هو التنقل.
قالوا: ولو لم يثبت أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قصر في حال مكثه لقلنا
إنه في حال المكث لا يقصر كما هو مذهب الحسن البصري وهو مروي عن عائشة أو
نحوه.
لكنه قصر عليه الصلاة والسلام فرأينا أن أكثر مدة لقصره هي كذا. فالقائلون
أنها أربعة أيام قالوا: هي أكثر مدة قصر فيها وتأولوا الأحاديث الأخر –
وكذلك الباقين.
لكن هذا المنطلق فيه ضعف فيما يظهر. ومحل ضعفه أن يقال: إن ما ذكرتموه من
أن السفر ينقطع بالإقامة والمكث وترك النقلة قد عارضه الأحاديث الثابتة
وكون النبي - صلى الله عليه وسلم - يقصر يوماً أو يومين أو ثلاثة باتفاقنا.
يقصر في حال كونه ماكثاً تاركاً للنقلة،
يدل على أن ترك النقلة ليست منافياً للسفر، فإنه وإن ترك النقلة فيبقى
مسافراً بدليل أنه - صلى الله عليه وسلم - قد قصر وهو تارك للنقلة.
فدل على أن مجرد المكث وترك النقلة أثناء السفر لا ينافي السفر، ولا يخرج
المسافر عن السفر إلى الإقامة بل يبقى مسافراً، وإن ترك التنقل ومكث ما لم
ينو إقامة يثبت بها حكم الإقامة.
- ولذا ذهب شيخ الإسلام وهو مذهب طائفة من أهل العلم إلى أن مرجع ذلك إلى
العرف، وذلك لأن الشرع لم يثبت فيه تحديد لهذه المسألة واللغة أيضاً.
بخلاف المسألة السابقة فإنا نرى أن اللغة قد حددت السفر بأنه من حيث
الانتقال من بلدة إلى أخرى.
أما كونه من حيث المدة يكون مسافراً أو مقيماً فليس للغة بحث في هذا، فيبقى
العرف - كما هو اختيار شيخ الإسلام - ولو بقى شهوراً. هذا اختيار شيخ
الإسلام وتلميذه، وهو مروي عن مسروق من التابعين، وهو قول قوى، وهو أظهر
الأقوال السابقة لأن اللغة العربية والشرع لم يثبت فيهما تحديد للمدة التي
يثبت بها كون الإنسان مسافراً أو مقيماً فوجب الرجوع إلى العرف كما هو مقرر
في أصول الفقه.
وقد ثبت في سنن البيهقي يإسناد صحيح وأن ابن عمر: (أقام بأذربيجان ستة أشهر
يقصر الصلاة) .
ولا يصح أن يقال: أنه لم يعزم تلك المدة، فإن مثل هذه المدة قد حبسه بها
الثلج، فيستبعد أن يكون قد ظن أن يذهب بيومين أو ثلاثة أو أربعة فذلك في
الغالب في أول الشتاء، لكونه قد استمر هذه المدة وهي ستة أشهر. فيبعد أن
يظن ذهابه في مدة يسيره.
ثم إنه – - رضي الله عنه - – لما سئل عن
القصر في ذي المجاز – كما في المسند بإسناد حسن – وهو سوق يجتمع فيه ويباع
فيه ويمكث فيه عشرين يوماً أو خمسة عشر يوماً؟ فقال: " يقصر الصلاة به "
وقال: " إني كنت بأذربيجان فرأيتهم يصلون ركعتين ركعتين ورأيت النبي - صلى
الله عليه وسلم - بمنى يصلي ركعتين ركعتين ولقد كان لكم في رسول الله أسوة
حسنة) فهنا استدل بفعل أصحابه بأذربيجان وأنهم قد مكثوا شهرين أو أربعة
أشهر – كما في مسند أحمد، وفي الرواية المتقدمة (ستة أشهر) ، فاستدل بهذا
على القصر عشرين أو خمسة عشر يوماً، فدل على أنه لم يكن ينو المكث المدة
التي تقدم ذكرها عند جمهور الفقهاء.
ويدل على أنه استنبط ذلك من فعل النبي - صلى الله عليه وسلم - لقوله: (لقد
كان لكم في رسول الله أسوة حسنة) وفيه أنه رأى ذلك سفراً، وأن إقامته
بأذربيجان شهرين أو أربعة كما في رواية أحمد، وفي رواية البيهقي " ستة أشهر
": أن ذلك سفر، وإن مكثهم بذي المجاز عشرين أو خمسة عشر يوماً سفر وأن في
القصر اقتداء بالنبي - صلى الله عليه وسلم -. فقوله يخالف قول ابن عباس،
ومأخذ ابن عباس تقدم لكم وما فيه من النظر، فهو مخالف بقول ابن عمر، وهذا
القول أظهر وأن مرجع ذلك إلى العرف والله أعلم.
قال: (أو ملاحاً معه أهله لا ينوي الإقامة ببلد لزمه أن يتم)
ملاح في السفينة أو سائق أجرة – كما في هذه الأزمنة - أو في الأزمنة
القديمة: الساعي أو البريد ونحو ذلك.
فمن كان معه أهله وهو ملاح ولا ينوى الإقامة ببلد فيلزمه أن يتم – وقد تقدم
التنبيه على هذه المسألة –.
قالوا: هو وإن كان مسافراً لكن سفره دائم لا ينقطع فلم يترخص برخص السفر؛
لأن سفره دائم لا ينقطع.
وذهب جمهور الفقهاء وهو رواية عن أحمد واختارها الموفق: إلى أنه يثبت له
القصر وغيره من رخص السفر.
وكونه ذا سفر لا ينقطع لا يعني ذلك ألا
يكون له حكم المسافرين؛ لدخوله في عمومات النصوص، بل هو أشق – كما قال ذلك
الموفق -.
فالراجح: أن من كان سفره دائم لا ينقطع كسائق سفينة ونحوه أنه يقصر لكونه
مسافر، ولأن ما كان منه لا يعتبر إقامة بل سفراً، وكون سفره الغالب فيه أنه
لا ينقطع هذا لا يؤثر في الحكم، فإنه مسافر داخل في عموم المسافرين بل هو
أشق منهم فكان أحق بالرخصة المتقدمة.
* ومن كان له أهل أو مال في بلد من البلاد وإن لم يتخذها دار إقامة:
- فالمشهور عند الحنابلة: أنه يتم فيها سواء كان له أهل فقط أو مال فقط،
فمن كان له بستان في بلدة أو ماشية فإنه يتم.
واستدلوا: بما رواه أحمد من حديث عثمان: أن النبي - صلى الله عليه وسلم -
قال: (من تأهل ببلد فليصل صلاة المقيم) .
وبما ثبت في مصنف ابن أبي شيبة عن ابن عباس أنه قال: (فإذا قدمت إلى بلد لك
فيها أهل أو ماشية فأتم) رواه الشافعي وابن أبي شيبة بإسناد صحيح.
- ذهب الشافعية وهو مذهب ابن المنذر: إلى أن من كان كذلك فإنه يقصر؛ لأنه
في حكم المسافرين ما لم ينو الإقامة، فما دام لم ينو الإقامة ولم يتأهل
فيها تأهلاً تاماً فإنه مسافر وإن كان له فيها أهل أو مال.
قالوا: وأما الحديث الذي ذكرتموه، فإسناده ضعيف منقطع.
وأما أثر ابن عباس: فإنه مخالف، فإن الصحابة كان لهم أموال في مكة وكانوا
يقصرون فيها وأنكروا على عثمان القصر [لعلها: الإتمام] ، وتقدم أثر ابن عمر
في قصره في خيبر وكان له أرض فيها.
فهي آثار تخالف ما روى عن ابن عباس، فهو رأي له قد خولف فيه فلم يحتج به.
فالراجح مذهب أهل القول الثاني: أن من كان له أهل أو مال في بلدة فذهب
إليها ولم ينو إقامة فإنه يقصر لأنه مسافر.
أما إذا تأهل فيها تأهلاً تاماً فأقام فيها
الإقامة التي ينتفي بها حكم السفر فإنه يكون في حكم المقيمين ولا مانع أن
يكون له بلدتان فأكثر متى ما ثبتت الإقامة.
فإذا كان له في هذه البلدة أشهر يمكث فيها وفي البلدة الأخرى بقية السنة
فإنه يعتبر مقيماً في البلدتين؛ لأنه قد تأهل تأهلاً تاماً واتخذ كلاً
منهما سكنى له فكان له حكم المقيمين لا المسافرين.
قال: (وإن كان له طريقان فسلك أبعد هما)
وكان أقصرهما لا يثبت به حكم السفر، فسلك أبعد هما فإنه يثبت له حكم
المسافرين، وإن كان لو سلك أقصرهما لم يثبت له ذلك.
قالوا: لأن سلوكه الأبعد فيه ترك لما كان سلوكه أولى، ولا يكون ذلك إلا لأن
سلوك ذلك مظنة خوف أو مشقة، فهذا طريق شاق أو فيه مخاوف فتركه وسلك الطريق
الآخر غيره، فكان الطريق الأبعد هو الطريق الأصلي لهذه البلدة لأنه آمن
وسالم من المتاعب.
- وقال بعض الحنابلة: يستثنى من ذلك ما ذكرتموه فيما إذا كان ذلك مظنة
الخوف أو المشقة.
أما إذا لم يكن ذلك فلا. وهذا أظهر؛ لأنا إذا قلنا بخلاف ذلك فإنه يقتضي أن
يكون اثنان قد أتيا من بلد واحدة وأحدهما له حكم السفر والآخر لا، مع أن
[من] له حكم السفر قد اتخذ طريقاً خلاف الأولى، فمثل هذا ضعيف في النظر.
أما إذا كان الطريق الآخر فيه مخاوف ومشاق فإنه يكون الطريق الأصلي للبلدة
هو هذا الطريق الآمن السالم من المتاعب.
فحينئذ يثبت في سلوكه السفر وإن كان غيره أقرب منه لمشقة سلوكه وللمخاوف
فيه.
فالراجح: أنه إذا كان هناك معنى لسلوك الأبعد لكون الأقرب فيه مخاوف أو
مشاق فسلك الأبعد فإنه يقصر الصلاة.
قال: (أو ذكر صلاة سفر في آخر قصر)
رجل مسافر فذكر أنه ترك صلاة في سفر آخر فإنه يصليها قصراً؛ لأنه قد فعلها
في السفر وقد وجبت في السفر فلا معنى لقضائها تماماً.
ثم إن القاعدة السابقة " القضاء يحكي الأداء " تفيد هذا.
لكن المذهب لا يقول بهذه القاعدة في
المسألة السابقة فلم يستدل به على هذه المسألة لعدم التناقض.
أما على الراجح فإنه يستدل بها.
أما دليلهم هم فإنهم قالوا: إنها وجبت عليه فعلها في حال السفر فكانت صلاة
سفر.
قال: (وإن حبس ولم ينو إقامة أو أقام لقضاء حاجة بلا نية إقامة، قصر أبداً)
رجل حبس ظلماً أو حبسه مطر أو ثلج ولم ينو إقامة أو أقام لقضاء حاجة من
الحوائج بلا نية إقامة، وظن أن إقامته أنها يكفيها أربعة أيام احتمالاً،
فيحتمل أنها تنتهي في أربعة أيام وقد تزيد فإنه يقصر.
إذن: إذا أقام لقضاء حاجة فله حالان:
1- الأولى: أن يعلم أنه لا يقضي حاجته إلا بعد أربعة أيام فيحتاج للمكث في
هذه البلدة أكثر من أربعة أيام، أو يظن أنه يحتاج أربعة أيام وإن كان ربما
قضاها قبل ذلك، فإنه حينئذ يجب عليه الإتمام.
2- الثاني: أن يظن أنها تحتاج أربعة أيام، أو يعلم ذلك فإنه يقصر، ولو أقام
أبداً. وهذا مذهب جماهير العلماء وحكاه الترمذي وابن المنذر إجماعاً.
إلا أن الأصح عند الشافعية خلاف ذلك، وحدوده في الأصح عندهم بثمانية عشر
يوماً، وهو خلاف مذهب عامة أهل العلم.
والراجح مذهب جماهير العلماء؛ لأنه لم ينو إقامة فلا يكون في حكم المقيمين.
واستدلوا: بأثر ابن عمر، لكن تقدم أنه لا يستدل به عليها.
لكن دليلها ما تقدم وأنه مسافر وليس مقيم؛ لأنه لم ينو إقامة فلم يكن
مقيماً، فلو بقى ما بقى فإنه في حكم المسافر، وحكاه ابن المنذر والترمذي
إجماعاً.
فإن ثبت أن الشافعي خالف في هذه المسألة، فإن الإجماع منقوض.
ومع أن المسألة تحتاج إلى بحث عن كلام الشافعي لكني استبعد ذلك على الشافعي
مع أن ابن المنذر من أعلم الناس بمذهبه ومع ذلك حكى الإجماع في هذه
المسألة.
فالظن أن هذا مذهبٌ لأصحابه، وذلك لا ينقض الإجماع.
والحمد لله رب العالمين.
فصل
قال المؤلف رحمه الله تعالى: (يجوز الجمع
بين الظهرين وبين العشاءين في وقت إحداهما في سفر قصر) .
هذا فصل في الكلام في الجمع بين صلاتي الظهر والعصر وهما الظهران، والمغرب
والعشاء وهما العشاءان من باب التغليب.
وقد أجمع العلماء على أن الجمع لا يشرع بين غيرهما من الصلوات، فلا جمع بين
عصر ومغرب، ولا عشاء وصبح، ولا صبح وظهر، فهذا بالإجماع لا يصح فيه الجمع.
فيجوز الجمع في وقت إحداهما تقديماً أو تأخيراً، فتقديماً بأن يصلي الظهر
والعصر في وقت الظهر، وكذلك المغرب والعشاء في وقت المغرب، وتأخيراً بأن
يصلي الظهر والعصر في وقت العصر، أو المغرب والعشاء في وقت العشاء.
(في سفر قصر) : فيجوز الجمع بين الصلوات في السفر الذي يصح فيه القصر وقد
تقدم الكلام عليه.
دليل ذلك: ما ثبت في الصحيحين عن أنس بن مالك قال: (كان النبي - صلى الله
عليه وسلم - إذا كان في سفر فارتحل قبل أن تزيغ الشمس أخر الظهر إلى وقت
العصر ثم نزل فجمع بينهما، فإذا زاغت الشمس قبل أن يرتحل صلى الظهر ثم ركب)
قال في البلوغ: " وفي رواية الحاكم في الأربعين بالإسناد الصحيح: (صلى
الظهر والعصر ثم ركب) ".
وروى الإسماعيلي نحوه – كما في الفتح – أن النبي - صلى الله عليه وسلم -:
(كان إذا كان في سفر فارتحل بعد أن زالت الشمس صلى الظهر والعصر جميعاً ثم
ارتحل) فهذا الحديث يدل على ثبوت الجمع في السفر.
وثبت في مسلم عن معاذ بن جبل قال: (خرجنا مع النبي - صلى الله عليه وسلم -
في غزوة تبوك فكان يصلي الظهر والعصر جميعاً، والمغرب والعشاء جميعاً) .
وثبت في مسند أحمد وسنن أبي داود والترمذي وصححه من حديثه أن النبي - صلى
الله عليه وسلم -: (كان إذا ارتحل قبل أن تزيغ الشمس صلى الظهر والعصر
جميعاً في وقت العصر، وإذا ارتحل بعد أن زاغت الشمس صلى الظهر والعصر
جميعاً في وقت الظهر، وهكذا المغرب والعشاء) .
فهذه أحاديث تدل على ثبوت الجمع في السفر،
وهي حجة على من أنكر ذلك من الأحناف في تخصيصهم الجمع بعرفة ومزدلفة.
قالوا: لأن الأحاديث في المواقيت متواترة فلا تخصص بذلك.
لكن صحتها عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وثبوتها يخصص به المتواتر كما
هو مقرر في علم أصول الفقه.
بل الأحاديث متواترة في أصل الجمع في السفر أو مستفيضة في ذلك، وحينئذ
قوله: (يجوز) ، ظاهره أن ذلك مباح وليس بمستحب.
وهو المشهور في المذهب قالوا: وتركه أفضل.
وعن الإمام أحمد: أن الجمع في السفر أفضل، وهذا القول أرجح في موضع، والأول
أرجح في موضع آخر.
أما كون الثاني أرجح، فهو في موضع الارتحال حيث جد به السير.
فالمستحب له الجمع لثبوت السنة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في ذلك
ومداومته على هذا الفعل تدل على أنه هو المستحب.
وأما إذا كان نازلاً فإن المشهور من فعله – - صلى الله عليه وسلم - – أنه
كان يصلي الصلاة في وقتها كما صح ذلك في حجته في صلاته في منى، فإنه كان
نازلاً في منى وكان يصلي الصلوات في وقتها ولا يجمع ولم يصح عنه أنه جمع في
نزوله إلا ما ثبت في موطأ مالك بإسناد صحيح – وهو دليل الجواز – عن معاذ أن
النبي - صلى الله عليه وسلم -: (أخر الصلاة في غزوة تبوك يوماً ثم خرج فصلى
الظهر والعصر جميعاً ثم دخل، ثم خرج فصلى المغرب والعشاء جميعاً) .
لكن الذي كان يداوم عليه – - صلى الله عليه وسلم - – هو الجمع حيث جد به
السير، فإن نزل فإنه كان يصلي الصلوات في وقتها ولا يجمع إلا في أحوال
نادرة كما تقدم في حديث معاذ الدال على جواز الجمع في حال النزول.
قال: (والمريض يلحقه بتركه مشقة)
فالمريض يجوز له الجمع إن كان في صلاته
الصلوات في وقتها مشقة عليه، لأن الشريعة قد أتت بنفي الحرج، وقد قال ابن
عباس – كما في الصحيحين – (جمع النبي - صلى الله عليه وسلم - بين الظهر
والعصر والمغرب والعشاء من غير خوف ولا سفر) وفي مسلم (بالمدينة من غير خوف
ولا مطر فسئل عن ذلك فقال: أراد ألا يحرج أمته) .
فدل أنه حيث وقع الحرج فإنه يجوز له أن يجمع.
وقد وردت السنة بالجمع للمستاحضة كما ثبت هذا في مسند أحمد وسنن أبي داود
والترمذي، قال الإمام أحمد: " ومثل ذلك المرضع التي يشق عليها أن تغسل
ثوبها لكل صلاة " أي من نجاسة الطفل فيجوز لها الجمع للحرج، وهذا واضح في
مثل الشتاء حيث يشق ذلك عليها.
ومثل ذلك: حيث خاف على نفسه أو أهله أو ماله – كما تقدم – في العذر في ترك
صلاة الجماعة.
وهذا هو المشهور في المذهب – أي الجمع للمريض – ونص الإمام أحمد واختيار
شيخ الإسلام.
قال: (وبين العشاءين لمطر يبل الثياب أو وحل)
فإذا كان المطر يبل الثياب وحينئذ تحصل المشقة، فلا تحصل المشقة في المطر
القليل أو الطل الذي لا يثبت بمثله أذى.
أما الذي يبل الثياب وهو الذي يثبت بمثله الأذى فإنه يجوز الجمع فيه بين
العشاءين.
واستدلوا: بما في الموطأ بإسناد صحيح أن ابن عمر: (كان إذا جمع الأمراء بين
المغرب والعشاء في المطر جمع معهم) ، وثبت في البيهقي بإسناد صحيح: أن عمر
بن عبد العزيز: (أنه كان يجمع بين المغرب والعشاء في المطر) ، وأن سعيد بن
المسيب وعروة وأبا بكر بن عبد الرحمن ومشيخة ذلك الزمان كانوا يصلون معه
ولا ينكرون ذلك قالوا: فكان ذلك إجماعاً.
وظاهر قوله: (بين العشاءين) أنه لا يجمع بين الظهر والعصر في المطر – وهذا
هو المشهور في مذهب الحنابلة.
قالوا: لعددم وروده كما ورد هذا في المغرب
والعشاء؛ ولأنه لا يقاس مطر النهار على مطر الليل، لأن المطر في الليل يكون
في الظلمة فتكون المشقة أعظم، كما أنه مظنة للبرد ونحوها فكانت المشقة فيه
أظهر فلا يقاس هذا على هذا لوجود الفارق.
- وذهب أبو الخطاب من الحنابلة وهو مذهب الشافعية: إلى جواز الجمع – في
المطر – بين الظهر والعصر.
قالوا: لقول ابن عباس: (من غير خوف ولا مطر) فدل على أن المطر عذر يجمع له،
وقال: (أراد ألا يحرج أمته) فالعلة والمناط إنما هو الحرج، والحرج ثابت
بالمطر في النهار كما هو ثابت بالمطر في الليل.
وكون المطر في الليل أشق من المطر في النهار لا يعني ذلك عدم ثبوت المشقة
في المطر في النهار، والحكم إنما علق بالمشقة فمتى ثبتت المشقة فإنه يثبت
الحكم، وإن كان هناك ما هو أشق، فكون مطر الليل أشق للظلمة ونحوها لا يعني
ذلك عدم ثبوت المشقة في النهار فالحكم إنما يعلق لوجود الحرج والمشقة فمتى
ثبت ذلك جاز.
وقد تقدم أثر ابن عباس في حديث (ألا صلوا في رحالكم) في البرد الشديد فلا
فرق فيه بين الليل والنهار. فالراجح مذهب الشافعية وهو اختيار أبي الخطاب.
ومثل ذلك: الوحل لذا قال هنا: (ووَحل) والوحل أشق من المطر الذي يبل الثياب
فكانت الرخصة فيه أولى، وقد تقدم في أثر ابن عباس في قوله: (وكرهت أن
أخرجكم في الطين والدحض) .
فهذا يدل على أن متى ثبت ذلك فهذا عذر في الجمعة في حضورها جماعة ومثلها
سائر الصلوات، وكذلك في الجمع لوجود الحرج، وقد قال ابن عباس: (لئلا يحرج
أمته) والخروج في حال الوحل والطين الزلق فيه حرج ومشقة.
قال: (وريح شديدة باردة)
كذلك إذا كانت الريح شديدة باردة يقع الحرج في أن يصلي الناس الصلوات في
وقتها فيجوز الجمع – هذا هو المشهور في المذهب –.
والأدلة ظاهرة فيه لوجود الحرج، وقد قال
ابن عباس – كما تقدم -: (لئلا يحرج أمته) وهذا من جنس العذر في المطر
والدحض ونحو ذلك.
والظاهر كما تقدم – أن يقيَّد هذا بألا يكون مما ألفته تلك البلاد، لأن
الجمع فيما يكون مألوفاً يؤدي ذلك إلى التفريط في حضور الجماعات – في صلاة
الصلوات في وقتها –.
فالمراد ما يقع به الحرج وذلك إنما يكون متى لم يؤلف، وأما من وقع عليه
الحرج فلا بأس أن يصلي في بيته لوقوع الحرج عليه.
إذن: الريح الباردة الشديدة التي لم تجر العادة لأهل تلك البلدة بمثلها
وخروجهم مع وجودها يُلحقهم حرجاً ومشقة، يجوز لهم أن يجمعوا بين الصلوات
فيها.
قال: (ولو صلى في بيته أو في مسجدٍ طريقُهُ تحت ساباط)
الساباط: هو ما كان يوضع في الدور في السابق – على السقف، فيوضع على الدور
بحيث تكون الطرق مظللة ويكون مظللاً عن المطر نحوه.
فلو صلى في بيته أو في مسجد طريقه تحت ساباط فيجوز له الجمع.
قالوا: لأن الرخص العامة كالسفر وبيع السلم تثبت وإن انتفت المشقة أو الحرج
عن شخص ما، فإن الحكم يثبت له حيث ثبت له غيره.
وهذا ظاهر في الشريعة فقد أباحت القصر في السفر، والأصل في ذلك المشقة ولو
انتفت المشقة عن بعض المسافرين فإن الحكم يبقى حقاً لهم، ومثله بيع السلم
فإنه إنما استثنى من البيع المحرم – لحاجة الناس إليه – ودخل في ذلك
الأغنياء وغيرهم ممن ليس لهم حاجة إلى تعاطي هذه الصورة من البيع.
فمتى كانت الرخصة عامة فإن حكمها يثبت مطلقاً حتى للشخص الذي لا تقع فيه
العلة التي هي باعث الحكم الشرعي، وهذا ظاهر.
قال بعض الحنابلة: لا يثبت له هذا الحكم؛ لأن الحكم علق بالمشقة والمشقة
منتفية عنه فليس له أن يترخص بذلك.
والأظهر القول الأول؛ لما تقدم من أن الرخص
العامة إذا ثبتت في حق عموم المكلفين فإنها تشمل كل مكلف وإن كان في شخصه
قد انتفت منه العلة التي من أجلها شرع الحكم، كما في السلم والسفر ونحوه،
وهو مذهب الحنابلة في المشهور عندهم.
قال: (والأفضل فعل الأرفق به من تقديم أو تأخير)
فالأفضل فعل الأرفق به من تقديم أو تأخير، وهو اختيار شيخ الإسلام.
وهو ظاهر فإن الجمع إنما شرع لنفي الحرج، وفي كونه يفعل الأرفق به تمام
لرفع الحرج.
وكوننا نحدد له شيئاً من الاثنين فإن في ذلك ما ينافي تمام توسع الأمر ورفع
الحرج فيه، فكان الأولى أن يقال: افعل الأرفق بك؛ لأن الحكم شرع لرفع الحرج
عنه، فمتى كان الحرج رفعه أتم وأظهر فإن هذا الأفضل في حقه.
وهذا ما دلت عليه السنة في الحديث المتفق عليه المتقدم بأن النبي - صلى
الله عليه وسلم -: (كان إذا ارتحل قبل أن تزيغ الشمس استمر حتى يأتي وقت
الصلاة الثانية ثم ينزل فيصلي الظهر والعصر تأخيراً) ؛ لأن للمكلف أن ينزل
في الصلاة الأخرى، كما إنه إذا أراد أن يسافر وقد زاغت الشمس فإن الأرفق
فيه أن يصلي الصلاتين ثم يرتحل وهكذا كان النبي - صلى الله عليه وسلم -
يفعل.
مسألة:
اختار شيخ الإسلام وهو مذهب ابن سيرين وابن المنذر: أن الجمع جائز مطلقاً
عند الحاجة إليه من غير أن يتخذ ذلك سنة وعادة. فمتى احتاج إليه ولو كان
ذلك لمصلحة دينية كاجتماع ناس لخطبة أو لأمر ما جاز ذلك من غير أن يتخذ ذلك
سنة وعادة.
ودليله حديث ابن عباس: فإن فيه أن النبي -
صلى الله عليه وسلم -: (صلى الظهر والعصر جميعاً، والمغرب والعشاء جميعاً
بالمدينة من غير خوف ولا سفر ولا مطر) وقال ابن عباس: (أراد ألا يحرج أمته)
وهكذا كان فعله - رضي الله عنه - – فقد ثبت في صحيح مسلم عن عبد الله بن
شقيق قال: (خطبنا ابن عباس بالبصرة بعد العصر حتى غربت الشمس وبدت النجوم
فقيل: الصلاة الصلاة فقال: جمع النبي - صلى الله عليه وسلم - بين الظهر
والعصر والمغرب والعشاء) قال عبد الله بن شقيق: فحاك في صدري من ذلك شيء
فسألت أبا هريرة فصدَّق مقالته.
وقد فعل هذا ابن عباس لمصلحة اجتماع الناس وتفرقهم وكان يخشى أن يتفرقوا عن
سماع الحق الذي يريد أن يبينه، وهي مصلحة شرعية، ولعلها فيما كان يدور في
الأمة من الخلاف بين أمير المؤمنين علي ومعاوية رضي الله عنهما.
فإن قيل: فلعله جمع صوري؟
فالجواب: هذا ضعيف من أوجه:
منها: أن عبد الله بن شقيق لا يمكن أن يخفى عليه جواز الجمع الصور والمراد
به: أن يؤخر الصلاة إلى آخر وقتها ثم يجلس حتى إذا دخل وقت الأخرى قام
فصلاها، هذا جاز بإجماع المسلمين وهو واضح لعامة الناس فضلاً عن علمائهم
فيبعد أن يحيك هذا في صدر مثل عبد الله بن شقيق وهو من علماء المسلمين فدل
على أنه ليس المراد من ذلك الجمع الصوري.
وكذلك ابن عباس: ما كان يحتاج تبيين ذلك والناس يعلمون أنه يجوز لهم أن
يؤخروا الصلاة – أي المغرب – وإن بدت النجوم ما لم يغب الشفق.
ويدل عليه ما ثبت في النسائي بإسناد صحيح: " أنه ذكر أنه صلى مع النبي -
صلى الله عليه وسلم - بالمدينة الأولى " أي الظهر " والعصر ثمان سجدات " أي
ركعات " ليس بينهما شيء " أي ليس بينهما انتظار، فليس جمعاً صوري.
فإن قيل: لعل النبي - صلى الله عليه وسلم - كان مريضاً كما قال ذلك بعض أهل
العلم والمرض عذر، فإنه نفى الخوف والمطر والسفر فبقى المرض؟
فالجواب: أن هذا ضعيف؛ لأن المرض عذر للشخص
نفسه، وقد جمع النبي - صلى الله عليه وسلم - بأصحابه، والعذر حيث كان كذلك
إنما يكون مختصاً بالشخص نفسه.
إذن: ما ذهب إليه أهل هذا القول راجح لكن لا يتساهل بهذه المسألة، فقد ثبت
عند سفيان الثوري في جامعه وقد ذكره شيخ الإسلام – والأثر صحيح – عن عمر
قال: (الجمع بين الصلاتين لغير عذر من الكبائر) ورواه الترمذي مرفوعاً إلى
النبي - صلى الله عليه وسلم - ولا يصح مرفوعاً بل هو موقوف على عمر.
قال: (فإن جمع في وقت الأولى اشتراط نية الجمع عند إحرامها ولا يفرِّق
بينهما إلا بمقدار إقامة ووضوء خفيف ويبطل براتبة بينهما، وأن يكون العذر
موجوداً عند افتتاحهما وسلام الأولى)
هذه شروط ثلاثة لمن أراد أن يجمع جمع تقديم:
نية الجمع عند إحرامها – أي الأولى –.
الموالاة.
أن يكون العذر موجوداً عند افتتاح الأولى والثانية وسلام الأولى.
فالشرط الأول: (اشتراط نية الجمع عند إحرامها) :
فيجب إذا كبر للأولى أن ينوي الجمع، فلو لم يفعل، كأن ينزل المطر مثلاً وهو
يصلي المغرب فلا يصح الجمع؛ لأنه يشترط أن يكون قد نوى الجمع عند افتتاح
الأولى وهو لم ينوه.
وذهب الحنابلة في الوجه الثاني عندهم وهو اختيار شيخ الإسلام: إلى أن نية
الجمع ليست بشرط، وأن هذا القول لا دليل عليه – كما قال شيخ الإسلام – ومثل
هذا ينبغي أن يشتهر عنه حيث كان شرطاً، وترك البيان عند الحاجة إليه لا
يجوز وهو ممتنع في الشريعة، فيمتنع أن تكون النية للجمع شرطاً ولم يبين
النبي - صلى الله عليه وسلم - ذلك لأمته فلا ينقل ذلك عنه لا بإسناد صحيح
ولا حسن، ولم يثبت ذلك عن أحد من أصحابه.
وهذا القول هو الراجح – وأن نية الجمع ليست بشرط لأنه لا دليل على ذلك –
فهذا الشرط غير صحيح.
الثاني: (ولا يفرق بينهما)
فالموالاة واجبة قالوا: لأن لفظ الجمع
يقتضي الموالاة وعدم المفارقة، والاتصال، فوجب أن تكون الصلاتان متصلتين
ببعضهما وهذا هو فعل النبي - صلى الله عليه وسلم - في صلواته التي جمع
فيها.
وعن الإمام أحمد: أن ذلك ليس بشرط، وهو اختيار شيخ الإسلام،وهو القول
الراجح.
لأن فعل النبي - صلى الله عليه وسلم - على وجه الموالاة لا يقتضي الإيجاب.
وأما كونهما يثبت فيهما الجمع، فإن الجمع لا يقتضي إلا الجمع بينهما في
الوقت نفسه، فالمراد من قولنا: جمع أن كليهما صليا في وقت إحداهما، وهذا هو
الجمع المقصود من صلاة الصلاتين في وقت إحداهما.
وأما كونهما يتصلان أو يفترقان فإن هذا لا يقتضيه لفظ الجمع.
وفعل النبي - صلى الله عليه وسلم - يدل على الاستحباب ولا معنى يقتضي إيجاب
ذلك. وهذا القول الراجح وأنه ليس بشرط.
وعلى المذهب: إذا حدث بينهما فارق: فإما أن يكون يسيراً عرفاً أو كثيراً
عرفاً.
فإن كان يسيراً عرفاً لم يضر، ومثّل له بإقامة ووضوء خفيف. وإن كان كثيراً
ضر، ومثّل له بصلاة راتبة بينهما.
فإذن: الفارق مرجعه إلى العرف فإن كان كثيراً فإنه يضر ولا يصح الجمع، بل
ينتظر ويصلي الصلاة في وقتها.
أما الشرط الثالث فقال: (وأن يكون العذر موجوداً) العذر كالمطر ونحوه (عند
افتتاحهما) أي الأولى والثانية (وسلام الأولى) :
ونازع في قوله: (وسلام الأولى) ابن عقيل من الحنابلة وقال: " هذا لا أثر له
"، وهذا هو الظاهر.
فإنه لا أثر له فكون المطر يستمر نازلاً عند افتتاح الأولى فهذا لنية الجمع
كما تقدم، وعند افتتاح الثانية فهذا لإثبات العذر في إجازة الجمع.
أما قضية سلام الأولى فإن هذا غير مؤثر وهو كما قال.
ويقول: كذلك افتتاح الأولى، فإنه إنما
اشترط وجود العذر عند افتتاح الأولى لاشتراط نية الجمع، وتقدم أن نية الجمع
ليست بشرط وعليه فلا يشترط ذلك، فلو لم ينزل المطر إلا بعد سلامهم من
المغرب – مثلاً – فإنه يجوز لهم الجمع خلافاً للمشهور من المذهب، لأن
اشتراط العذر في الصلاة الأولى هذا لا أثر له، فالصلاة الأولى إنما صليت في
وقتها والعذر إنما هو للصلاة الثانية لتضم إلى الصلاة الأولى لوجود العذر،
ولا أثر للصلاة الأولى مطلقاً لا في افتتاحها ولا سلامها.
قال: (وإن جمع في وقت الثانية اشترط نية الجمع في وقت الأولى)
هذه شروط جمع التأخير.
قال: (اشتراط نية الجمع في وقت الأولى) هذا شرط صحيح ظاهر؛ لأنه إن لم ينو
الجمع في وقت الأولى، فإن ذلك يكون من باب القضاء.
رجل في سفر فدخل عليه وقت صلاة الظهر حتى خرج وقتها ولم ينو الجمع فدخل وقت
الثانية فإن هذا لا يكون من باب الجمع لأن هذا التأخير منه لغير نية الجمع
وحينئذ يكون ذلك من باب القضاء لا الأداء، فإنه مفرط في إخراج الصلاة عن
وقتها من غير أن ينوي الجمع تأخيراً شرعياً؛ لأن الواجب عليه أن يصلي
الصلاة في وقتها، وحيث صلاها خارج وقتها فهذا من باب القضاء وليس له عذر في
أن يؤخرها عن وقتها إلا إذا كان ناوياً الجمع، فإن نوى جاز له ذلك.
قال: (إن لم يضق عن فعلها)
لأنه إذا أخرها ولم ينو الجمع حتى ضاق وقتها عنها فإنه قد فعل أمراً
محرماً، وقد تقدم البحث في هذه المسألة.
قال: (واستمرار العذر إلى دخول وقت الثانية)
هذا هو الشرط الثاني: وهو استمرار العذر إلى دخول وقت الثانية.
فمثلاً: أذن الظهر وهو في سفر، وأرد أن
يجمع صلاة الظهر مع العصر في وقت العصر لكنه قدم إلى البلد وقد بقي وقت
لأذان العصر، فما زالت في وقت الظهر، فلا يجوز أن ينتظر فيؤخر صلاة الظهر
فيؤخرها مع العصر؛ ذلك لأن العذر قد زال بزوال المقتضي، وزوال السبب يمنع
من الجمع.
وكذلك من زال مرضه: فمثلاً مريض أراد أن يؤخر صلاة المغرب إلى وقت العشاء
فزال مرضه أثناء وقت المغرب فإنه لا يجوز له الجمع لزوال عذره، وهو السبب
المقتضي للجمع.
إذن: عندنا شرطان في جواز جمع التأخير:
أن ينوي الجمع في أثناء وقت الأولى.
ألا يزول العذر إلا وقد خرج وقت الأولى.
وقد قال عمر: (الجمع بين الصلاتين من غير عذر من الكبائر) .
قال في الأنصاف: " بلا نزاع بين أهل العلم "، فلا نزاع في هذه المسألة.
والحمد لله رب العالمين.
فصل
في الكلام على صلاة الخوف حكماً وصفة ومسائل.
والمراد بصلاة الخوف: هي الصلاة المكتوبة عند الخوف وليس المراد بها أنها
يشرع عند الخوف كصلاة الاستسقاء تشرع عند طلب السقيا. وإنما المراد الصلاة
المكتوبة كيف تصلي عند الخوف.
واعلم أن الثابت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو الثابت في القرآن في
باب صلاة الخوف إنما كان في الخوف من الكفار عند القتال وقاس عليه أهل
العلم: كل خوف جائز كالخوف من ظالم أو سبع أو سيل أو نحو ذلك.
ولو كان الخوف في قتال ليس مع الكفار كقتال أهل بدعة أو بغي ونحو ذلك فإن
هذا حيث ثبت الخوف فيه تشرع عنده صلاة الخوف.
أما إن كان القتال قتالاً محرماً فإنه لا
يرخص له، وحكاه النووي إجماعاً، كالخارج على إمام أو المعتدي على المسلمين
أو نحو ذلك وهو ظاهر، وليس كالمسألة السابقة، فإن هنا إعانة ظاهرة، فإن
كونه يصلي الصلاة على راحلته كصلاة الخائف – كما سيأتي تفصيله على مراتبها
- فإن في ذلك إعانة له على هربه أو تقوية له، وفي هذا ما ينافي مقصود
الشارع من إضعافه فلم يرخص له في ذلك.
إذن: القياس يكون حيث ثبت الخوف في أمر مشروع كالقتال في سبيل الله أو في
أمر مباح كالهرب من سيل أو سبع أو نحو ذلك.
قال المؤلف رحمه الله: (صلاة الخوف صحت عن النبي - صلى الله عليه وسلم -
بصفات كلها جائزة)
فهي ثابتة صحيحة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في أحاديث كثيرة سيأتي
ذكر بعضها.
وهو أيضاً – أي أصل صلاة الخوف – ثابت في القرآن في قوله تعالى: {وإذا كنت
فيهم فأقمت لهم الصلاة فلتقم طائفة منهم معك} الآية فإنها في صلاة الخوف
وكذلك قوله تعالى: {فإن خفتم فرجالاً أو ركباناً} فهي أيضاً في صلاة الخوف.
وليس هذا مختصاً بالنبي - صلى الله عليه وسلم - خلافاً لمن زعم ذلك في
قوله: {وإذا كنت فيهم فأقمت لهم الصلاة ….} لأن ما كان ثابتاً للنبي - صلى
الله عليه وسلم - فهو ثابت لأمته إلا أن يدل دليل على التخصيص.
ولفعل الصحابة بعده كما صح ذلك عن طائفة منهم، وهو مذهب عامة العلماء.
وقد صحت صلاة الخوف بصفات عدة، ذكر الإمام أحمد أنها ثبتت عن النبي - صلى
الله عليه وسلم - بستة أوجه أو سبعة أوجه كلها ثابتة جائزة، قال الإمام
أحمد: (فمن ذهب إليها كلها فحسن، وأما حديث سهل فأنا أختاره " وسيأتي ذكره
وصفة الصلاة فيه.
ومقتضى كلام الإمام أحمد – كما قال ذلك
الموفق وصاحب الفروع – خلافاً للمشهور عند الحنابلة – مقتضى كلامه: صحة
صلاة الخوف ركعة؛ لأنها من الأوجه الثابتة عن النبي - صلى الله عليه وسلم
-، كما في قول ابن عباس ورفعه إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -: (وصلاة
الخوف ركعة) رواه مسلم.
وثبت في سنن أبي داود بإسناد صحيح عن حذيفة: أن النبي - صلى الله عليه وسلم
-: (صلى صلاة الخوف بهؤلاء ركعة وبهؤلاء ركعة ولم يقضوا) .
وهذا في الحضر والسفر، ومقتضى كلام الإمام أحمد جواز [ذلك] حضراً وسفراً
سواء كان ذلك من الإمام والمأمومين، أو من المأمومين فقط، وهو قول ابن عباس
وإسحاق وطائفة من التابعين لثبوت ذلك عن النبي - صلى الله عليه وسلم -.
وأما عامة أهل العلم فإنهم لم يجيزوا ذلك ورأوا أن صلاة الخوف تبع لصلاة
الحضر وصلاة السفر، فصلاة الخوف تصلى في الحضر أربعاً وفي السفر ركعتين.
وهذا ظاهرٌ إلا ما استثنى في حديث ابن عباس المتقدم.
إذن: جماهير العلماء يرون أن الخوف لا أثر له في عدد الركعات لكن الخوف قد
أثَّر في هيئتها، فأصبحت في هيئة يُؤمن على المسلم فيها، فهي هيئة مأمونة.
وقولهم أصح، وأما حديث ابن عباس فيحمل على شدة الخوف حيث كان الخوف شديداً
يقتضي أن تتأثر الركعات فحينئذ يجوز ذلك.
فالأظهر: أنه لا يجوز التصرف بركعاتها حضراً ولا سفراً وأما التصرف في
الهيئات فهو الوارد إلا أن يكون الخوف شديداً - لا يبلغ أن يصلي راكباً أو
قائماً كما سيأتي – لكنه يحتاج المسلم فيه إلى أن يختصر الركعات فيصليها
ركعة كأن تقام قبل التقاء الصفوف ويكون في صلاتها أربع ركعات أو ركعتين أو
ثلاثاً فيه مشقة فحينئذ يصلونها ركعة.
ومما يدل عليه قوله تعالى: {وإذا كنت فيهم فأقمت لهم الصلاة} و" أل " هنا
في الظاهر أنها العهدية أي إذا أقمت لهم الصلاة المعهودة وهي المكتوبة
فحينئذ هي على ركعاتها المشهورة حضراً وسفراً.
* واعلم أن أولى هذه الصفات الواردة عن
النبي - صلى الله عليه وسلم - في العمل هو ما اختاره الإمام أحمد؛ لأن هذه
الصفة هي التي وافقها القرآن وهي الصفة التي تفعل في كل حال سواء كان العدو
في تجاه القبلة أو ميمنتها وميسرتها أو معاكساً لها.
وصفتها:
أن يقسم الجيش طائفتين، ولا يشترط في هاتين الطائفتين التساوي لكن يشترط أن
تكون كل طائفة فيها تثبت بها الكفاية في الوقوف أمام العدو لو حدث منه ميل
إلى المسلمين، فيصلي بهم ركعة ثم يثبت قائماً فيتموا لأنفسهم ثم ينصرفون،
فيقفوا وجاه العدو، وتأتي الطائفة الأخرى فيصلي بهم الركعة التي بقيت ثم
يثبت جالساً فيتموا لأنفسهم ثم يسلم بهم، فيكون لهؤلاء ميزة التسليمة
وللآخرين ميزة التكبيرة.
ودليل ذلك: ما ثبت من حديث صالح بن خوات: عمن شهد مع النبي - صلى الله عليه
وسلم - يوم ذات الرقاع – وفي مسلم – عن سهل بن أبي حثمة.
لذا قال الإمام أحمد – كما تقدم – (وأما حديث سهل فأنا أختاره) –.
وهو عند البيهقي (عن صالح بن خوات عن أبيه) ولا مانع أن يكون رواه عن أبيه
ورواه عن سهل بن أبي حثمة – عمن شهد مع النبي - صلى الله عليه وسلم - يوم
ذات الرقاع صلاة الخوف: (أن طائفة صفت معه، وطائفة وجاه العدو فصلى بالتي
معه ركعة ثم ثبت قائماً فأتموا لأنفسهم ثم انصرفوا وجاه العدو، وجاءت
الطائفة الأخرى فصلى بهم ركعة ثم جلس فأتموا لأنفسهم ثم سلم بهم) وهو أنكى
للعدو وأحفظ للمسلمين، فإنها تفعل حيث كان العدو في أي جهة.
ومن الصفات: ما ثبت في الصحيحين من حديث ابن عمر:
وصفتها: (أن تقوم طائفة مع الإمام وطائفة تبقى وجاه العدو، فيصلي بالطائفة
التي قامت معه ركعة، ثم ينصرفون عن الإمام إلى مواقعهم ويتمون لأنفسهم
لكنهم ينتظرون الآخرين في الإتمام ثم تأتي الطائفة الأخرى فتصلي مع الإمام
الركعة الثانية ويتمون لأنفسهم) .
هذه صفة أخرى لكنها حيث كان الخوف أخف من
الوضع المتقدم لأنهم يبقون يتمون جميعاً لكن معلوم أن الإتمام حيث كان منهم
جميعاً لابد فيه من مفارقة، فهذا قائم وهذا جالس وهذا ساجد فيكون هناك نظر
للعدو – وإن كانت هذه الصفة إنما تبقى أن يفعل حيث كان العدو وجاه القبلة
وإلا فقد تحدث – حينئذ – غرة من الكفار لذا لا ينبغي أن يفعل إلا حيث كان
العدو أمامهم وحيث كان الخوف أخف مما يحتاج فيه إلى الصورة المتقدمة.
وهناك صفة ثالثة: ثبتت في الصحيحين من حديث جابر، وصفتها: أن يصلي الإمام
ويصلي الناس معه جميعاً ويقسمهم إلى صفين، فيركع ويركعون معه ويرفع ويرفعون
معه ويسجد ويسجد الصف الأول معه فقط، ويبقى الصف الثاني قائماً، فإذا قام
إلى الركعة الثانية سجد الصف الثاني ثم يقومون ويتأخر الصف الأول ويتقدم
مَنْ في الصف الثاني ويفعلون كما فعلوا في الركعة الأولى، وهذا حيث كان
العدو تجاه القبلة.
وهناك صفة أخرى: وهي ما تقدم من أن النبي - صلى الله عليه وسلم - صلى
بطائفة ركعة وبطائفة أخرى ركعة ولم يقضوا كما في حديث حذيفة وتقدم أن هذا
حيث كان الخوف شديداً.
وهناك صفة أخرى ثبتت في النسائي من حديث جابر – وفي أبي داود من حديث أبي
بكرة وهي صفة ظاهرة، وهي: أن النبي - صلى الله عليه وسلم -: (صلى بطائفة
ركعتين ثم سلم، ثم صلى بالآخرين ركعتين ثم سلم) .
وهذا لا إشكال فيه. ومن هنا يجوز لهم أن يقسموا أنفسهم إلى جماعات، فتصلي
هذه الجماعة الآن والجماعة الأخرى في وقت آخر، وإنما كان النبي - صلى الله
عليه وسلم - يفعل ما تقدم لفضيلة إمامته – عليه الصلاة والسلام – وإلا فلو
قسموا أنفسهم قسمين فصلت الطائفة الأولى ثم صلت بعدهم الطائفة الأخرى فذلك
لا بأس به.
ولنقف عند الصفة المختارة التي اختارها الإمام أحمد رحمه الله.
مسائل:
المسألة الأولى: إذا كان في الإقامة فأراد
أن يصلي أربعاً أو في السفر وأراد أن يصلي المغرب فحينئذ هل يكون انتظار
الإمام عند القيام أم عند التشهد.
قولان لأهل العلم في الأولى: وعليه: فإن أي الصفتين فعل فلا بأس.
فسواء قام وانتظرهم قائماً أم جلس فلا بأس لكن أيهما الأولى؟
الأظهر أن الأولى أن ينتظرهم وهو جالس؛ لأن الانتظار إنما فعل في حال
القيام في الصورة المتقدمة للاحتياج إليه – حينئذ –، وإلا فإن فيه مشقة على
الإمام في التطويل في القيام في انتظاره هؤلاء حتى يسلموا ثم هؤلاء حتى
يأتوا.
وأما الجلوس فإنه لا مشقة عليه ما في انتظارهم فيه، وفيه مصلحة أخرى: وهي
أن تدرك الطائفة الثانية أول شروعه في الركعة الثالثة.
المسألة الثانية: في الانتظار حيث كانت الصلاة ركعتين فقد تقدم أنه ينتظر
في حال قيامه، فينتظر الطائفة الأولى حتى تسلم وتأتي الطائفة الأخرى، وفي
حال جلوسه ينتظر الطائفة الثانية حتى تتم صلاتها فيسلم بها.
فهل يشرع بالتشهد ويشرع بالقراءة في حال انتظاره أو ينتظرهم حتى يأتوا
فيشرع؟
قولان لأهل العلم:
أظهرهما أنه يشرع بمجرد قيامه؛ لأن هذا هو الأصل فيما يشرع، ولأن خلاف ذلك
يتضمن سكوتاً وهو ليس بمشروع في الصلاة، فحينئذ بمجرد قيامه يشرع بالفاتحة
لكنه يطيل القراءة حتى تأتي الطائفة الأخرى فيدركون معه الفاتحة.
لكن إن ركع قبل أن يقرؤوا الفاتحة فذلك جائز لكنه خلاف السنة.
قال: (ويستحب أن يحمل معه في صلاتها من السلاح ما يدافع به عن نفسه ولا
يثقله كسيف ونحوه)
من غير أن يكون ذلك يثقله كدرع ونحوه.
واستدلوا بقوله تعالى: {وليأخذوا أسلحتهم}
قالوا: هذا يدل على مشروعية حمل السلاح أثناء الصلاة؛ ولأنه لا يؤمن أن
يأتي الكفار على حين غرة من المسلمين فيتمكنون منهم.
وما ذكروه من الدليل ظاهر في مشروعية ذلك
لكنه واضح في الوجوب كما هو مذهب الشافعية والظاهرية ومال إليه الموفق:
وأنه يجب ذلك لظاهر الآية الكريمة ولأن الله قال: {ولا جناح عليكم إن كان
بكم أذى من مطر أو كنتم مرضى أن تضعوا أسلحتكم} فنفى الحرج - نفاه - حيث
كان المرض والأذى، فدل ذلك على ثبوت الجناح حيث لم يكن أذى ولا مطراً أو
عذراً يقتضي ذلك.
وهذه الآية ظاهرة في وجوب ذلك كما هو اختيار الموفق ومذهب الشافعية
والظاهرية وهذا القول هو الراجح.
والمعنى يقتضي ذلك أيضاً وهو حفظ المسلمين من إغارة العدو على حين إقبالهم
على صلاتهم ولا سلاح معهم يتمكنون به الدفاع عن أنفسهم.
أما إذا كان الخوف شديداً لا يتمكن به المسلم أن يصلي على الصور المتقدمة
فإنه يصلي على حاله راكباً وماشياً ومستقبل القبلة وغير مستقبلها وهو يقاتل
العدو ويضرب بسيفه، فإنه يصلي على حاله حيث حضرت الصلاة.
ودليله قوله تعالى: {فإن خفتم فرجالاً أو ركباناً} قال ابن عمر – كما في
الصحيحين: (فإن كان خوف هو أشد من ذلك فرجالاً قياماً على أقدامهم أو
ركباناً مستقبلي القبلة وغير مستقبليها) وهذا من تخفيف الله لهذه الأمة.
وهنا مسائل – على هذه الصورة:
الأولى: وهي داخلة في هذه المسألة والمسائل قبلها – أنه إذا صلى صلاة الخوف
على هذه الصورة وغيرها من الصور من غير خوف يقتضي ذلك فإن الصلاة تبطل؛ لأن
هذه الصلاة على هيئة لا تصح في حال الأمن لما فيها من مفارقة الإمام بلا
عذر وترك متابعته، والصلاة مع العمل أو ترك استقبال القبلة سوى ما تقدم من
صلاته ركعتين بطائفة وركعتين بطائفة أخرى فإن هذه الصلاة صحيحة أمناً
وخوفاً.
إذن: إذا صلى صلاة الخوف المفارقة لصلاة الأمن فصلاها ولا خوف أو لا خوف
يقتضي ذلك فإن الصلاة تبطل.
الثانية:
فإن ظن شيئاً كأن يرى شيئاً فيظن أنهم
الكفار قدموا عليهم وكأن تأتيهم مدد من المسلمين فيظنوهم الكفار – فيصلون
صلاة الخوف بناء على أن هذا شيء يقتضي صلاة الخوف فتبين لهم أنه ليس بعدو
فهل يعيدون الصلاة أم لا؟
قولان لأهل العلم:
الحنابلة قالوا: يجب عليهم أن يعيدوا الصلاة؛ لأنهم تركوا واجباً من
واجباتها وهو ما تقدم مما يترك في صلاة الخوف.
قال الشافعية - وهو أرجح –: بل لا يعيدونها؛ لأنهم صلوا الصلاة مع ظنهم
القوي الغالب المؤثر في الحكم، أن الصلاة تجوز لهم – حينئذ –، فقبلت الصلاة
منهم وصحت، فإذا تبين لهم سوى ذلك فإنه لا يؤثر، فإنهم قد أدوا الصلاة مع
وجود السبب المقتضي لذلك.
الثالثة: إذا تغير الأمر من أمن إلى خوف، أو من خوف إلى أمن أثناء الصلاة
فما الحكم؟
يجب على كل منهما أن ينتقل إلى الصلاة الأصلية لزوال السبب المقتضي
لخلافها.
فمثلاً: رجل يصلي راكباً وهو يقاتل العدو غير مستقبل القبلة فزال الخوف
وانتصر المسلمون – وهو يصلي – فيجب عليه أن ينزل فيتم صلاته مستقبلاً
القبلة.
والعكس كذلك: فلو كان يصلي صلاة الآمنين فحدث أمر يخيف كأن يكون المسلمون
يصلون صلاة الآمنين فأتاهم الكفار على حين غرة فإنهم يتمون صلاتهم رجلاً
وركباناً.
إذن: إذا حدث السبب المجيز لصلاة الخوف فإنهم يتمون كصلاة الخوف.
الرابعة: هل يلحق في كونه يصلي راكباً أو راجلاً – هل يلحق بذلك إذا خاف
فوات طلبه، كأن يكون يلحق عدواً له من الكفار مثلاً، فخشي أن يمكث على
الأرض فصلى أن يفوته هذا العدو وعلم أنه إذا لحقه وصلى راكباً أو راجلاً
فإنه يدركه، فهل يجوز له أن يصلي كذلك؟
قال الحنابلة: يجوز ذلك. واستدلوا: بما
رواه أبو داود من حديث عبد الله بن أنيس أن النبي - صلى الله عليه وسلم -:
(بعثه إلى قتل خالد بن سفيان الهذلي فأدركه وعلم أنه إذا مكث للصلاة أنه
يفوته فصلى ماشياً يومئ بصلاته حتى أدركه فقتله) وهو وجه عن الشافعية.
والوجه الثاني – عند الشافعية – وهو الأصح عندهم: أن ذلك لا يجوز، وهو مذهب
جمهور العلماء.
قالوا: لأنه محصل لا خائف، والصلاة إنما شرعت عند الخوف، وهذا في الحقيقة
ليس بخائف لكنه محصل لأمر.
قالوا: والجواب - لم أره لهم لكن هذا مقتضى قولهم، الجواب - على الحديث
المتقدم فهو ضعيف؛ لأن فيه محمد بن إسحاق وقد عنعن وهو مدلس.
والراجح مذهب الشافعية وهو مذهب الجمهور: وأنه لا يجوز ذلك لضعف الحديث
الوارد، ولأنه محصل لا خائف والصلاة إنما شرعت عند الخوف.
لكن يستثنى من ذلك – كما استثنى الشافعية – ما إن ترك متابعته أن يعود إليه
العدو فيدركه ويكون منقطعاً عن أصحابه فيخشى على نفسه فيكون حينئذ بحكم
الخائفين.
الخامسة: قال الحنابلة: إذا كان ذاهباً إلى عرفة وخشي أنه إن وقف وصلى أن
يفوته الوقوف فيها، بحيث أنه لا يمكنه أن يدرك إلا الشيء اليسير من ليلتها،
فخشي أن يفوته الوقوف بعرفة، فيجوز له أن يصلي صلاة الخائف، وهو هنا محصل
كما تقدم فهي مقيسة على المسألة السابقة.
وهذا اختيار شيخ الإسلام وتلميذه ابن القيم وهو وجه عند الشافعية.
والوجه الثاني، وهو المصحح عندهم: أن ذلك لا يجوز؛ لأنه محصل لا خائف،
والصلاة فرض على الهيئة المشروعة لا يستثنى من ذلك إلا ما ورد في النصوص،
ومثل هذا لم يرد في النصوص الشرعية.
وهذا أظهر وأنه لا يجوز ذلك؛ لأنه لا دليل على الاستثناء.
أما مسألة الجمع فنعم لكنه غير وارد في صلاة الفجر، فليست المسألة جمعاً
ليقبل بذلك.
والحمد لله رب العالمين.
|