شرح زاد
المستقنع للحمد السادس والتسعون بعد المئة
(يوم الجمعة: 19 / 12 / 1415 هـ)
كتاب الزكاة
الزكاة في لغة العرب: هي النماء والزيادة، يقال: زكا الزرع، إذا نما.
وسميت الزكاة الشرعية زكاة؛ لأنها تنمي الغني والفقير.
أما كونها تنمي الفقير، فهذا ظاهر.
وأما كونها تنمي الغني، فإنها تنمي ماله، ولذا ثبت في مسند أحمد وسنن
الترمذي بإسناد صحيح أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: (ثلاث أُقسم
عليهن: ما نقص مال من صدقة، ولا ظُلم عبد مظلمة صبر عليها إلا زاده الله عز
وجل عزاً، ولا فتح عبد باب مسألة إلا فتح الله عليه باب فقر) (1) .
فالصدقة لا تنقص المال، لكنها تبارك فيه، كما أنها تطهر المال من الوسخ،
ولذا قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (إنها لا تحل لآل محمد، إنها من
أوساخ الناس) (2) .
وهي في الشرع: حق واجب في مال مخصوص لطائفة مخصوصة في وقت مخصوص.
" في مال مخصوص ": ستأتي الأموال الزكوية من بهيمة الأنعام والحبوب والثمار
ونحوها.
" لطائفة مخصوصة ": وهم أهل الزكاة.
" في وقت مخصوص ": وهو مضي الحول إلا ما استثني من المعشرات ونحوها.
قال المؤلف: [تجب]
فالزكاة واجبة شرعاً، ودليل ذلك كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وآله
وسلم وإجماع الأمة.
أما الكتاب، فقد قال تعالى: {خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها} (3) .
__________
(1) أخرجه الترمذي في كتاب الزهد، باب (17) ما جاء مثل الدنيا مثل أربعة
نفر (2325) قال أبو عيسى: " هذا حديث حسن صحيح "، وصححه الألباني.
(2) أخرجه مسلم في كتاب الزكاة، باب (51) ترك استعمال آل النبي - صلى الله
عليه وسلم - على الصدقة (1072) بلفظ: " إن الصدقة لا تنبغي لآل محمد، إنما
هي من أوساخ الناس.. "، وبلفظ " إن هذه الصدقات إنما هي أوساخ الناس، وإنها
لا تحل لمحمد ولا لآل محمد.. ".
(3) سورة التوبة.
وأما السنة، فقد ثبت في الصحيحين أن النبي
صلى الله عليه وآله وسلم قال لمعاذ بن جبل حين بعثه إلى اليمن: (وأعلمهم أن
الله افترض عليهم صدقة في أموالهم تؤخذ من أغنيائهم فترد على فقرائهم) (1)
.
وقد أجمعت الأمة على فرضيتها، وأن منكر وجوبها كافر خارج عن الإسلام؛ لأن
فرضيتها معلومة من الدين بالضرورة. والقاعدة: أن ما علم من الدين ضرورة
كفرضية الصلاة والزكاة والحج ونحوها من الأحكام الشرعية – أن – إنكارها كفر
بالله؛ لأنه تكذيب لدلالة الكتاب والسنة.
أما من تركها بخلاً، فإنه لا يكفر بذلك، كما هو مذهب جماهير أهل العلم،
ودليل ذلك: ما ثبت في مسلم أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: (ما من
صاحب ذهب ولا فضة لا يؤدي منها حقها إلا إذا كان يوم القيامة صُفحت له
صفائح من نار، فأحمي عليها في نار جهنم، فتكوى بها جنبه وجبينه وظهره، كلما
بردت أُعيدت له في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة حتى يقضى بين العباد،
فيُرى – وضبطت: فيَرى – سبيله إما إلى الجنة وإما إلى النار) (2) .
والكافر لا يرى سبيله إما إلى الجنة وإما إلى النار على التخيير، بل سبيله
إلى النار على وجه التحتم، فدل هذا على أن تارك الزكاة تكاسلاً مع إقراره
بوجوبها أنه لا يكفر.
فإن كان تاركها تحت يد الإمام، فإنه يلزمه بها ويأخذ شطر ماله، كما سيأتي
تقريره، لحديث: (ومن منعها فإنا آخذوها وشطر ماله عزمة من عزمات ربنا) (3)
رواه أحمد وأبو داود بإسناد حسن وقال أحمد: " هو عندي صالح الإسناد ". (4)
__________
(1) متفق عليه.
(2) أخرجه مسلم في كتاب الزكاة، باب (6) إثم مانع الزكاة (987) .
(3) أخرجه أبو داود في كتاب الزكاة، باب (4) في زكاة السائمة (1575) ".
(4) هنا عبارة بخط آخر نصه: " وهو قول إسحاق قال: محمولا يعزر ".
وأما إذا كان تاركها ليس تحت قبضة الإمام،
بأن كانت طائفة ممتنعة، كأن تمتنع جهة من الجهات عن أداء الزكاة للإمام
ولهم قوة وشوكة، فإن الإمام يقاتلهم حتى يؤدوا الزكاة، كما قاتل أبو بكر
مانعي الزكاة، ولا تكفر. وقد حكى شيخ الإسلام اتفاق المسلمين على أن
الطائفة الممتنعة عن أداء شعيرة من الشعائر الإسلامية الظاهرة، كالصلاة
والزكاة ونحوها، أو الممتنعة عن ترك شيء من المحرمات الظاهرة كالربا والزنا
أنها تقاتل.
قال: [بشروط خمسة]
هذه شروط وجوب الزكاة، فلا تجب الزكاة إلا بتوفرها.
قال: [حرية]
والمكاتب قنٌ، والعبد لا يملك بالتمليك في الصحيح من المذهب. هذا هو الشرط
الأول، وهو الحرية، فالعبد لا زكاة عليه؛ وذلك لأنه لا مال له، والزكاة
إنما تؤخذ من أصحاب الأموال. وأما العبد فإنه مال ولا يملك، ولذا قال النبي
صلى الله عليه وآله وسلم: (من باع عبداً وله مال – أي معه مال هو مختص به –
فماله للذي باعه) (1) .
قال: [وإسلام]
فالكافر لا تجب عليه الزكاة، ولا خلاف بين أهل العلم في هذا، وقد قال
تعالى: {وما منعهم أن تقبل منهم نفقاتهم إلا أنهم كفروا بالله وبرسوله} (2)
.
فالزكاة منهم لا تصح، ولا تجب، ولا خلاف بين أهل العلم في هذا، وهذا بإجماع
الصحابة رضي الله عنهم، ولذا لم يكونوا يأخذون من الذميين الزكاة، وإنما
كانوا يلزمونهم بالجزية. فالزكاة لا تجب على كافر.
__________
(1) أخرجه البخاري في كتاب المساقاة (الشرب) ، باب (17) الرجل يكون له ممر
أو شرب في حائط أو في نخل (2379) ، ومسلم في كتاب البيوع، باب (15) من باع
نخلا عليها ثمر (1543) بلفظ (من ابتاع نخلاً بعد …. ومن ابتاع عبداً وله
مال …) .
(2) سورة التوبة.
وإن أسلم فلا تجب عليه قضاؤها، ويستأنف
حولاً جديداً، أي يستأنف الحول من إسلامه؛ لقوله تعالى: {قل للذين كفروا إن
ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف} (1) ، فإذا أسلم ترتبت عليه الأحكام الشرعية،
فإذا تم لإسلامه حول أخذت منه الصدقة.
قال: [وملك نصاب]
هذا هو الشرط الثالث: أن يملك النصاب الزكوي من الأموال الزكوية. وسيأتي
الكلام على الأنصبة.
فمن ملك النصاب من الغنم فعليه الزكاة، وهكذا في بقية الأموال الزكوية التي
فيها الأنصبة.
أما إن كان ماله لا يبلغ النصاب، فإنه لا تجب عليه الزكاة، فنصاب الذهب
مثلاً: عشرون ديناراً، فإن ملك تسعة عشر ديناراً، فلا زكاة عليه، ونصاب
الغنم مثلاً: أربعون شاة، فإن ملك تسعاً وثلاثين شاة، فلا زكاة عليه. وهذا
باتفاق العلماء. وهو ظاهر الأحاديث النبوية في تقدير الأنصبة، فإن ظاهرها
أن من لم يملك النصاب المسمى، فإنه لا زكاة عليه. لكن إن كان الناقص عن
النصاب الشيء اليسير عرفاً، فإنه لا عبرة بنقصه، فتبقى الزكاة عليه واجبة،
كأن تنقص الحبة والحبتين من أوسق الحبوب أو الثمار، فإن نصاب الحبوب
والثمار خمسة أوسق وهو ستون صاعاً، فكون الصاع الأخير ينقص منه شيء يسير
هذا نقص لا يعتد به؛ لأن الشارع لا يعلق الحكم بمثل هذا، ولذا فإن الشارع
لم يبطل الصلاة بالعمل اليسير الخارج عن الصلاة، وعفا عن النجاسات اليسيرة
ونحو ذلك.
قال: [واستقراره]
فالمال غير المستقر ناقص لا تام.
" استقراره ": أي استقرار النصاب في ملكيته. ويعبر عنه صاحب المقنع بتمام
الملك، وتمام الملك: هو أن يكون الملك تاماً غير ناقص، وهو الملك المستقر
الذي لا يكون عرضة للسقوط، فإن كان ملكاً ناقصاً، بأن كان غير تامٍ أو
معرضاً للسقوط، فإنه لا تجب فيه الزكاة.
مثال ذلك: على القول بوجوب الزكاة في
الدين، فلو أن سيداً باع على عبده نفسه، وهو المكاتبة، فإن هذا المال يبقى
ديناً على المكاتب وهو العبد، فهذا الدين لا تجب فيه الزكاة، كأن يشتري
العبد نفسه من سيده بألف إلى سنتين، فإن السيد لا يزكي عن هذه الألف؛ لأن
هذا المال ليس ملكه تام فيه، فإن هذا العبد يمكنه أن يعجز نفسه فيعود
عبداً، وحينئذ، فإن هذا الدين يسقط، فمتى عجز نفسه فإنه يسقط، فأصبح هذا
الدين ليست ملكيته تامة كالديون المتعلقة في ذمم الناس من بيع أو نحو ذلك،
فهي ديون مستقرة ثابتة.
ومثل ذلك: الوقف الذي يكون لمعين، فلو أوقف رجل مالاً على ذريته، فلا زكاة
فيه؛ لأن ملكيتهم ليست بتامة، فإنه لا يمكنهم التصرف فيه ببيع ولا شراء ولا
نحو ذلك، ولا يورث منه مطلقاً، بل يجري على ما أوصى به صاحب الوقف، فلا تجب
فيه الزكاة؛ لأن الملك فيه غير تام، فلابد أن يكون الملك تاماً.
ودليل هذا قوله تعالى: {خذ من أموالهم صدقة} (1) ، وقوله صلى الله عليه
وآله وسلم: (إن الله افترض عليهم صدقة في أموالهم) (2) ، وهذا ليس بمال
مستقر. فعلى ذلك الشرط الرابع تمام الملك أو استقراره.
قال: [ومضي حول]
__________
(1) سورة التوبة.
(2) متفق عليه.
هذا الشرط الخامس، وهو مضي الحول، والحول
هنا هو الحول الهلالي القمري بلا خلاف بين العلماء، كما قال تعالى:
{يسألونك عن الأهلة قل هي مواقيت للناس والحج} (1) أي أهلة القمر التي تثبت
بها السنة القمرية. فالحول هنا هو الحول القمري أي السنة القمرية، فإذا مضى
الحول بالسنة القمرية وهي اثنا عشر شهراً، فإن الزكاة تجب، وهذا باتفاق
العلماء. وفي سنن أبي داود بإسناد حسن عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم
قال: (ليس في مال زكاة حتى يحول عليه الحول) (2) ، والصحيح وقفه على علي
رضي الله عنه، ونحوه عن عائشة في سنن ابن ماجه (3) ، والصحيح الوقف أيضا.
وعن ابن عمر عند الترمذي (4) والصحيح الوقف، فهذا آثار موقوفة على الصحابة
لا يعلم لهذه الآثار مخالف.
قال: [في غير المعشر]
المعشرات: هي الحبوب والثمار، فهذه لا ينتظر لوجوب الزكاة فيها مضي الحول،
بل متى حُصدت زكيت، لقوله تعالى: {وآتوا حقه يوم حصاده} (5) .
ويلحق بها: زكاة المعادن والركاز والعسل، فهذه تخرج زكاتها عند الحصول
عليها في المعادن والركاز، وعند جني العسل.
__________
(1) سورة البقرة.
(2) أخرجه أبو داود في كتاب الزكاة، باب (4) في زكاة السائمة (1573) .
(3) أخرجه ابن ماجه في كتاب الزكاة، باب (5) من استفاد مالا (1792)
مرفوعاً. قال البوصيري: " هذا إسناد فيه حارثة، وهو ابن أبي الرجال ضعيف.
أخرجه الدارقطني في سننه من هذا الوجه. ورواه البيهقي من طريق شجاع بن
الوليد. ورواه الترمذي من حديث ابن عمر مرفوعاً وموقوفاً، وهكذا أورده ابن
الجوزي في العلل المتناهية في الأحاديث الواهية " من زيادات طبعة بيت
الأفكار على سنن ابن ماجه صْ 195.
(4) أخرجه الترمذي في كتاب الزكاة، باب (10) ما جاء لا زكاة في المال
المستفاد حتى يحول عليه الحول (631) (632) .
(5) سورة الأنعام.
وإنما فرق الشارع بين المعشرات وغيرها؛
لأنها ليست معدة للنماء، بل متى حصدت استهلكت، بخلاف بهيمة الأنعام وعروض
التجارة والذهب والفضة، فإنها معدة للنماء، فناسب في إيجاب الزكاة فيها مضي
الحول. وأما هذه فإنها ليست بمعدة للنماء، فمتى حصد الزرع أو جني الثمر،
فإن الزكاة تجب فيه؛ لأنه حينئذ يكون معرضاً للاستهلاك، فلا فائدة حينئذ من
أن يتربص به حولاً.
قال: [إلا نتاج السائمة وربح التجارة]
فما تنتجه السائمة من بهيمة الأنعام فنتاجها وكذلك ربح التجارة هو فرع يلحق
بأصله في الحول، فحوله حول أصله.
مثال ذلك: رجل عنده أربعون شاة، وقبل أن يتم عليها حول أنتجت كل شاة منها
سخلتين أو أكثر بحيث أنها زادت على ما يجب في أصلها، فأصلها أربعون، فيجب
فيها شاة، وإذا نظرنا إلى النتاج وأضفناه إلى أصله فإن الواجب شاتين،
فحينئذ نوجب فيها شاتين، فنعتدّ بالصغار، فتلحق بأصولها في مضي الحول.
وعليه عمل السعاة في عهد النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه، وقد ثبت
في موطأ مالك بإسناد صحيح عن سفيان بن عبد الله أن عمر بعثه مصدقاً، فكان
يعتد على الناس بالسخل "، يعني يحتسب عليهم السخل، فقالوا: إنك تعتد علينا
بالسخل ولا تأخذها – فإن الساعي لا يأخذ الصغار بل يأخذ وسْط المال، الجذعة
والثنية، فذكر ذلك لعمر، فقال عمر: " نعم نعتد عليهم بالسخلة يحملها الراعي
– أي يحملها بيده – ولا نأخذها، ولا نأخذ الأكولة " وهي التي تسمن لتؤكل،
وهي من خيار المال، " ولا الرُبَّى " وهي المرضع تربى ولدها، " ولا الماخض
" وهي الحامل، " ولا فحْل الغنم، وتأخذ الجذعة والثنية، وهذا عدل بين غذاء
الغنم " (1) أي صغاره وخياره.
__________
(1) الموطأ، كتاب الزكاة، باب ما جاء فيما يعتد به من السخل في الصدقة
(602) صْ 131.
أي كوننا نحسب عليكم السخلة ولا نأخذها
منكم، وإنما نأخذ منكم أكبر منها، يقابل هذا أنا لا نأخذ منكم خيار المال،
بل نترك خياره لكم من الأكوله والربى وغيرها، فهذا قول عمر رضي الله عنه
ولا يعلم له مخالف.
ومثل ذلك أيضا: ربح التجارة، فمثلاً: رجل عنده عروض تجارة تساوي ألف ريال،
فلما مضى الحول فإذا بها تساوي أربعة آلاف، فإنه يزكي زكاة أربعة آلاف،
فهذا المتولد من هذه الألف له حكمها.
إذاً نتاج بهيمة الأنعام وأيضا ما ينتج من التجارة من ربحها، فإن له حكم
أصله، كما دل على ذلك أثر عمر المتقدم، وعليه العمل في عهد النبي صلى الله
عليه وآله وسلم وأصحابه، فإنهم ما كانوا يستثنون السخلة أو صغار الإبل أو
البقر، بل يحسبون ذلك كله.
قال: [ولو لم تبلغ نصابا]
أي وإن كانت السخال لم تبلغ نصاباً، فإنها محسوبة مع أصلها.
قال: [فإن حولها حول أصليهما إن كان نصاباً]
أي إن كان هذا الأصل نصاباً كما تقدم في التمثيل السابق.
قال: [وإلا فمن كماله]
صورة ذلك: رجل في الشهر المحرم امتلك ثلاثين شاة فأخذت بالنتاج، فبلغت بعد
ثلاثة أشهر، أربعين - ثلاثون شاة وعشر سخال - فهذه أربعون، ثم أخذت بالنتاج
بعد ذلك، فإن الحول لا يكون من الشهر المحرم؛ لأنها كانت فيه ثلاثين، وإنما
يكون هذا بعد ثلاثة أشهر منه، أي في شهر ربيع الثاني، حيث بلغت أربعين.
إذاً: النتاج له حول الأصل حيث كان الأصل نصاباً، أما إن لم يكن الأصل
نصاباً، فإن الحول يكون من الكمال.
وظاهر كلام المؤلف أن ما يطرأ على المال من جنسه مما لم يتولد منه أن له
حولاً جديداً، وهذا مذهب جمهور العلماء.
صورة هذا: رجل عنده مائتا دينار، امتلكها
في شهر المحرم، ثم أهدي إليه بعد شهر أو شهرين مئة دينار، أو ورث مئة
دينار، فهذا الإرث وهذه الهبة ليست متولدة من ماله الأول، فيستأنف بها
حولاً جديداً؛ لعموم الآثار المتقدمة التي فيها أنه ليس في المال زكاة حتى
يحول عليه الحول، وهو مال له حكم مستقل، فليس بمتولد من المال الأول.
وإن كانت زكاته مع الأول أبرأ للذمة وأيسر، لكن هذا ليس بواجب عليه.
وعند قوله: " وملك نصاب "، علّق الزكاة بملك النصاب، فتثبت الزكاة بملك
النصاب، ولو كان المالك غير عاقل أو غير بالغ، ولذا لم يذكر التكليف في
الشروط. فالزكاة تجب على الصغير في ماله، وتجب على المجنون في ماله.
ويؤدي ذلك وليهما عنهما بنيته من مالهما وجوباً؛ وذلك لأن الزكاة متعلقة
بالمال، فلم ينظر فيها إلى المالك، فأشبهت قيم المتلفات وأروش الجنايات
والنفقة على الأقارب، فإن هذا كله يجب على غير المكلف.
فلو أن غير مكلف قتل، فإن الدية تثبت، وأيضاً النفقة تثبت في مال الصبي
والمجنون وأروش الجنايات تثبت كذلك، وقيم المتلفات كذلك، لتعلق حق الآدمي
بها، وهنا كذلك، فإن الزكاة تتعلق بها حق الآدمي من أصحاب الزكاة. هذا مذهب
جمهور العلماء، وعليه تدل آثار الصحابة، كقول عمر فيما صح عنه عند
الدارقطني: " اتجروا بمال اليتيم لا تأكله الصدقة " (1) . والبالغ لا يسمى
يتيماً، وإنما اليتيم هو الصبي، ونحوه عن عائشة، ولا يعلم لهم مخالف.
__________
(1) أخرجه الدارقطني والترمذي مرفوعاً من طريق المثنى بن الصباح، بلفظ (من
ولي يتيماً له مال فليتجر له..) سنن الدارقطني [2 / 280] رقم (1945) .
وأخرجه عن عمر مالك في الموطأ في كتاب الزكاة،باب زكاة أموال اليتامى
والتجارة لهم فيها (588) عن مالك أنه بلغه أن عمر بن الخطاب قال.. ".
- وقال الأحناف: لا تجب إلا على المكلف؛
واستدلوا بقوله صلى الله عليه وآله وسلم: (رفع القلم عن ثلاثة، وذكر منهم:
(والصبي حتى يبلغ والمجنون حتى يعقل) (1) .
والجواب عن هذا بأن يقال: ... (2) (رفع القلم) أي قلم التكليف في العبادات
التي.... بحق الغير، أما العبادات التي لا تعلق بحق الغير، فهذه.... ما
تقدم من نفقة الأقارب وقيم المتلفات، فإنها متعلقة بحق الآدمي فلا ينظر
فيها إلى المكلف، بل إلى المال نفسه. كما أن هذا الحديث مُخَصص بأقوال
الصحابة، فإن الصحابة أقوالهم تخصص الأدلة، فعلى القول بدخول الزكاة في هذا
الحديث من باب العموم، فإن آثار الصحابة تدل على تخصيص الزكاة. فالراجح هو
مذهب جمهور أهل العلم من وجوب الزكاة في مال الصبي والمجنون.
والحمد الله العالمين.
والذي دلت عليه الآثار أنه – أي النصاب – تحديد وتقريب في الجمع، وهو رواية
عن أحمد، عنه تقريب الأثمان والعروض، وتحديد في غيرها.
واختار شيخ الإسلام أنه لا حول لأجره، وهو رواية عن أحمد ومنقول عن ابن
عباس، قال لا يصح أن يشترط رب المال زكاة رأس المال أو بعضه؛ لأنه قد يحط
بالربح، حكاه في الفروع وغيره.
الدرس السابع والتسعون بعد المئة
(يوم السبت: 2 / 12 / 1415 هـ)
قال المؤلف رحمه الله: [ومن كان له دين أو حق من صداق أو غيره على مليء أو
غيره أدى زكاته إذا قبض لما مضى]
هذه مسألة زكاة الديون.
الديون على ضربين:
__________
(1) أخرجه الترمذي في بداية كتاب الحدود، باب (1) ما جاء فيمن لا يجب عليه
الحد (1423) من حديث علي أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: (رفع
القلم عن ثلاثة: عن النائم حتى يستيقظ، وعن الصبي حتى يشب، وعن المعتوه حتى
يعقل " ثم قال: " وذكر بعضهم: وعن الغلام حتى يحتلم ".
(2) بياض في الأصل.
الضرب الأول: أن يكون الدين على مليء باذل،
أي يكون المستقرض غني باذل، كأن يستقرض رجل من رجل، ويكون المستقرض باذلاً
أو يكون لامرأة صداق مؤخر على زوجها، وزوجها باذل مليء، أو رجل باع سلعة
على آخر بثمن مؤجل، فهذا داخل في الديون.
الضرب الثاني: أن يكون هذا الدين على غير مليء، بأن يكون معسراً أو يكون
على غني مماطل، أو أن يكون الحق محجوراً أو مسروقاً أو مغصوباً، كرجل سُرق
ماله أو غُصب.
أما الضرب الأول: فتجب عليه الزكاة عند جماهير العلماء؛ لأن هذا الدين داخل
في عموم المال، وقد قال تعالى: {خذ من أموالهم صدقة} ، وقال صلى الله عليه
وآله وسلم: (فأعلمهم أن الله افترض عليهم صدقة في أموالهم) ، فهذا الدين
مال فيدخل في عموم الأدلة الدالة على الزكاة؛ ولأنه شبيه بالوديعة،
والوديعة يجب أن يزكيها مودعها، وهذا المال شبيه بالوديعة؛ لأنه يمكنه أن
يتصرف به متى شاء، فمتى أراد أن يتصرف به فإنه يطلبه من هذا المدين فيتصرف
به وينميه.
وهل تجب عليه الزكاة عند مضي الحول وإن لم يقبضه، أو أن الزكاة لا تجب إلا
عند قبضه، فيزكيه لما مضى؟ قولان لأهل العلم:
ذكر المؤلف القول الثاني، وأنه يزكيه إذا قبضه لما مضى، فإذا أقرض زيد
عمراً مئة ألف، فإنه يزكيها إذا قبضها، ولو كان ذلك بعد عشر سنوات، فيزكي
عن العشر سنوات، ولا يجب عليه أن يزكيها عند مضى كل حول. فإن زكاها عند مضي
الحول، أجزأ، لكن لا يجب عليه ذلك. هذا هو المشهور في مذهب الإمام أحمد،
وهو مذهب جمهور العلماء، وهو قول علي كما روى ذلك عنه أبو عبيد في كتاب
الأموال بإسناد صحيح؛ ولأنه دين ثابت في الذمة فلم يجب الإخراج قبل قبضه
كما لو كان على معسر.
والقول الثاني: أنه يجب أن يزكيه عند مضي
كل حول وإن لم يقبضه، وهو قول الشافعي، قال في المغني: " وهو قول عمار وابن
عمر وجابر "؛ وذلك لعموم الأدلة الدالة على وجوب الزكاة عند مضي الحول
للمال، وهو عام في الدين وغيره. وهذا القول أظهر؛ لأنه مال فيدخل في عموم
الأدلة القاضية بإيجاب الزكاة عند مضي الحول، ولا دليل على إخراجه منها.
وقال أهل القول الأول: هو مال لا ينتفع به صاحبه، فلم يجب أن يزكيه إلا عند
قبضه.
وفي هذا نظر، فإن مقتضى التعليل الذي ذكروه، أولاً: عدم وجوب الزكاة فيه
مطلقاً، وهم لا يقولون بهذا. والوجه الثاني: أنه يمكنه الانتفاع به بأن
يأخذه من صاحبه فيتصرف به كيف شاء، فإن هذا المليء الباذل يدفعه له متى
طلبه، وحيث كان كذلك، فإنه يمكنه الانتفاع به متى شاء.
فالراجح مذهب الشافعية، وأنه يجب أن يزكيه عند مضي كل حول وإن لم يقبضه.
أما الضرب الثاني: وهو ما إذا كان الدين على مماطل أو جاحد أو معسر، أو أن
يكون المال مغصوباً أو مسروقا، فهل تجب فيه الزكاة أم لا؟
قولان لأهل العلم، وهما قولان في مذهب أحمد والشافعي:
القول الأول: أن الزكاة واجبة، وهو ما ذكره المؤلف هنا، ويزكيه عند قبضه
لما مضى. هذا هو المشهور في مذهب أحمد والشافعي؛ قالوا: لأنه مال فيدخل في
عموم الأدلة الدالة على فرضية الزكاة في الأموال.
وعن أحمد، وهو قول مالك واختاره الشيخ محمد: أن يزكيه إذا قبضه لسنة واحدة.
والقول الثاني في مذهب أحمد والشافعي، وهو
مذهب أبي حنيفة: أن الزكاة لا تجب فيه، واختاره شيخ الإسلام؛ قالوا: لأن
هذا المال لا يمكنه أن ينتفع به ولا يتصرف به، فليس محلاً للنماء والزيادة،
والأصل في مشروعية الزكاة إنما هي في الأموال التي يمكن أن تنمى، وهنا هذا
المال ليس كذلك. وهذا القول أظهر، وأن الزكاة لا تجب. فهو وإن كان مالاً،
وهو داخل في عموم الأموال، لكنه في الحقيقة بمعنى الدين على المكاتب. وقد
تقدم أن الدين على المكاتب لا يزكى بالاتفاق؛ لأن الملك فيه ليس بتام، إذ
يمكن أن يسقط، وهنا هو بمعناه؛ لأنه لا يمكنه أن يتصرف به، ولا أن ينتفع
به، وحيث كان كذلك، فإنه لا يلزم بإخراج الزكاة عنه، لأنه ليس تحت يده
حكماً، وحيث كان كذلك، فإنه لا يلزم بأن يزكيه. وهذا القول أظهر.
وحينئذٍ فإنه إذا قبضها استأنف الحول من جديد، فإذا قبض الدين أو وجد
المسروق أو أتاه المال الغصوب، فإنه يستأنف حولاً جديداً، فإذا مضى الحول
الجديد بالشروط السابقة، فإنه يزكيه.
وقوله [أو حق] من مغصوب أو مسروق.
وقوله [من صداق أو غيره] : كقرضٍ أو ثمن مبيع.
قال: [ولا زكاة في مالِ من عليه دين ينقص النصاب]
هذه مسألة أخرى: في حكم الزكاة على من عليه دين ينقص النصاب.
تقدم أن الزكاة لا تجب إلا إذا كان النصاب تاماً، فإذا كان على صاحب النصاب
دين، لكنه دين بحيث إن هذا الدين ينقص النصاب، فلا تجب عليه الزكاة.
مثال هذا: نصاب الذهب عشرون ديناراً، فإذا كان يملك عشرون ديناراً لكن عليه
دين لفلان خمسة دنانير، فهي تنقص النصاب، فيكون في الحقيقة مالكاً خمسة عشر
ديناراً.
مثال آخر: عنده خمس من الإبل، وعليه دين ينقصها، أي بقدر بعير.
أو عليه دين شاة أو شاتين وعنده أربعون شاة.
أما إذا كان الدين لا ينقص النصاب، فلا
إشكال في إيجاب الزكاة عليه، مع حذف الدين من عليه، فإذا كان عنده ثلاثون
ديناراً وعليه عشرة دنانير، فهذا الدين لا ينقص النصاب، فإذا حذفنا عشرة
دنانير من ثلاثين ديناراً بقي له عشرون دينارً، وهو النصاب الزكوي، فيجب
عليه أن يزكي العشرين.
وأما إذا كان الدين ينقص النصاب، فإنه لا زكاة عليه. وهذا كله بيان كلام
المؤلف، وسيأتي الكلام في هذه المسألة.
قال: [ولو كان المال ظاهراً]
الأموال على قسمين:
أموال باطنة: وهي الأثمان وعروض التجارة، فالأثمان وهي الذهب والفضة أو ما
يقوم مقامها من العملة المعاصرة، هذه أموال باطنة، وعروض التجارة كذلك
أموال باطنة؛ لأن قيمتها أثماناً، فكانت بحكمها.
وقال بعض الحنابلة: بل الأموال الباطنة هي الأثمان فقط، وأما عروض التجارة،
فهي أموال ظاهرة. وهذا فيما يظهر لي أظهر؛ لأنها في الحقيقة ظاهرة، فإن
أنفس الفقراء تتشوف إليها، وهي أموال بينة بخلاف الأثمان، فإنها تتصف بأنها
أموال باطنة، إذ لا يظهر إلا بإظهار صاحبها لها.
وأما عروض التجارة فهي وإن كانت قيمتها أثماناً، لكنها في الحقيقة أموال
ظاهرة شبيهة بالمواشي والحبوب والثمار وغيرها.
أموال ظاهرة: وهي المواشي والحبوب والثمار.
فهنا المؤلف ذكر أن الديون التي تنقص النصاب لا توجب الزكاة، سواء كانت
الأموال باطنة كالذهب والفضة وعروض التجارة، أو كانت الأموال ظاهرة
كالمواشي وغيرها.
فمن كان عليه دين، وعنده مواشي أو عنده
حبوب وثمار أو ذهب وفضة قد بلغت أنصبتها، وهذه الديون التي عليه تنقص
النصاب، فإن الزكاة لا تجب عليه. هذا هو المشهور في مذهب الحنابلة؛ قالوا:
لأن الزكاة المقصود منها مواساة الفقير، وصاحب الدين بمعنى الفقير، ولذا هو
من أهل الزكاة، فلم يكن مناسباً أن يؤخذ منه مال فيجبر به غيره مع حاجته
إليه، فليس من المناسب أن تعطل حاجته لدفع حاجة غيره، قالوا: ولأن النبي
صلى الله عليه وآله وسلم قال: (ابدأ بنفسك) (1) ، فالشريعة أقرت هذا، وهو
أن يبدأ بحاجة نفسه، فليس من الشرع حينئذ أن يؤمر بما يناقض هذا فيبدأ
بغيره مع حاجة نفسه. قالوا: ولما ثبت في موطأ مالك وكتاب الأموال لأبي عبيد
بإسناد صحيح: أن عثمان رضي الله عنه في بعض الروايات على منبر النبي صلى
الله عليه وآله وسلم قال: " هذا شهر زكاتكم، فمن كان عليه دين فليؤده حتى
تخرجوا زكاة أموالكم " (2) ، قالوا: فقد قال عثمان هذا في محضر من الصحابة
ولم ينكر عليه، فكان ذلك إجماعاً. وثبت في سنن البيهقي بإسناد جيد عن ابن
عباس وابن عمر في الرجل يستقرض المال فينفقه على ثمرته وأهله، فقال ابن
عباس: " يخرج ما أنفق على ثمرته وأهله ثم يزكي ما بقي " (3) ، وقال ابن
عمر: " يخرج ما أنفق على ثمرته ثم يزكي ما بقي " (4) . ويصح أن يكون قول
ابن عمر مخالفاً لقول عثمان المتقدم وهي مخالفة في الأموال الظاهرة فقط،
وأما قول ابن عباس فهو موافق لقول عثمان.
__________
(1) أخرجه مسلم في كتاب الزكاة، باب (13) الابتداء في النفقة بالنفس ثم
أهله ثم القرابة (997) من حديث جابر رضي الله عنه.
(2) أخرجه البيهقي في كتاب الزكاة، باب (83) الدين مع الصدقة (7606) .
(3) السنن الكبرى للبيهقي، كتاب الزكاة، باب (83) الدين مع الصدقة (7608) .
(4) نفس السابق.
أما الدين المنقص للنصاب في الأموال
الباطنة، فما ذهب إليه الحنابلة هو مذهب الجمهور، وأدلتهم في هذا قوية
ظاهرة.
- وقال الشافعية: بل عليه الزكاة؛ لأنه مال، فيدخل في عموم الأموال التي
يجب أن تزكى.
والظاهر ما ذهب إليه الجمهور؛ لأنه وإن كان مالاً، لكن صاحبه ليس بغني، وقد
قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (تؤخذ من أغنيائهم) (1) ، وقال: (لا
صدقة إلا عن ظهر غنى) (2) ، وهذا عليه دين ينقص المال عن النصاب، فلا يكون
حينئذ غيناً. ولأنه كما تقدم يحتاج إلى المواساة وحاجته أولى من حاجة غيره.
فما ذهب إليه الجمهور في الأموال الباطنة أظهر، ولأثر عثمان ولا يعلم له
مخالف، وأما أثر ابن عمر فقد تقدم أن المخالفة في الأموال الظاهرة دون
الباطنة.
وأما الأموال الظاهرة، فإذا كان عليه دين ينقص النصاب:
- فجمهور العلماء: على أن الدين لا يمنع الزكاة فيها، بل تجب؛ وذلك لأن
السعاة في عهد النبي صلى الله عليه وآله وسلم وعهد أصحابه لم يكونوا
يستفصلون، فلم يكونوا يسألون أصحاب المواشي وأصحاب الحبوب والثمار هل عليكم
ديون تنقص النصاب أو لا؟ فكانوا يأخذون منهم الزكاة من غير استفصال.
والدليل الثاني، وهو نظري: أن الفقير تتشوف نفسه إلى هذا المال الظاهر،
ويتعلق به، فلم يكن من المناسب أن يمنع الدين الزكاة فيه، لتشوف الفقراء
عليه، وهذا بخلاف الأموال الباطنة. فهو ظاهر لأعين الفقراء.
وأما الحنابلة، فقالوا: الدين إذا كان ينقص النصاب في الأموال الظاهرة،
فإنه لا تجب فيها الزكاة؛ قالوا: لعموم قول عثمان التقدم " هذا شهر زكاتكم،
فمن كان عليه دين فليؤده حتى تخرجوا زكاة أموالكم "، قالوا: هذا عام في
الأموال الظاهرة والباطنة.
لكن تقدم أن أثر ابن عمر مخالف له في الأموال الظاهرة دون الأموال الباطنة.
__________
(1) متفق عليه.
(2) رواه الإمام أحمد، وذكره البخاري تعليقاً، وهو في الصحيحين بلفظ آخر.
واستدلوا بالحديث المتقدم (لا صدقة إلا عن
ظهر غنى) ، وأن هذا من أهل الزكاة، فليس من المناسب أن يعطى من الزكاة
لديونه، وتؤخذ منه الزكاة. فالزكاة إنما تؤخذ من الأغنياء الذين ليسوا
بحاجة إلى الزكاة، وهذا بحاجة إلى الزكاة. وهذا القول فيما يظهر لي أقوى؛
لقوة ما عللوا به هذا القول واستدلوا به، من أن حاجة صاحب المال مقدمة على
حاجة غيره، ويبدأ المرء بنفسه قبل غيره، ولا صدقة إلا عن ظهر غنى، وكيف
تدفع له الزكاة من جهة وتؤخذ منه من جهة أخرى! .
أما ما ذكره أهل القول الأول، فإن عدم استفصال السعاة بناء على الأصل، فإن
الأصل هو براءة الذمة من الديون، ولأن من عليه دين فإنه يخبر بذلك ويقول:
إن عليّ دين، فهم لم يكونوا يستفصلون لهذا، بناء على الأصل، ولأن من كان
عليه دين فإنه يخبر عن نفسه.
وأما كون الفقراء تتشوف نفوسهم إلى المال، فحاجة صاحب المال أولى من حاجة
غيره، فإن صاحب المال متشوفة نفسه لقضاء دينه وإبراء ذمته، وهو محتاج إلى
هذا المال الذي يؤخذ منه، فكان أولى من غيره.
فالأظهر ما ذهب إليه الحنابلة في هذه المسألة، وهو أن زكاة المال لا تجب
على من عليه دين ينقص النصاب، سواء كان المال باطنا أو ظاهراً.
أما المسألة الأولى في الأموال الباطنة، فهو مذهب جمهور العلماء.
وأما ما يكون في الأموال الظاهرة، فهو مذهب طائفة من التابعين.
وقول المؤلف [ولو كان المال ظاهرا] ، قوله " ولو " إشارة إلى خلاف بعض
الحنابلة، وهو أحد الوجهين في المذهب: على أن الزكاة في الأموال الظاهرة
واجبة وإن كان الدين ينقص النصاب، وهو رواية عن الإمام أحمد، وهو مذهب
جمهور العلماء كما تقدم.
قال: [وكفارة كدين]
فمن عليه كفارات كمن عليه ديون.
فلو أن رجلا عليه كفارة عتق رقبة أو كفارة
إطعام أو دم لحج، وكانت هذه الكفارة تنقص النصاب الزكوي، فلا تجب عليه
الزكاة أيضاً، فلو أن رجلاً عنده مال، لكن وجب في ذمته عتق رقبة حقاً لله
عز وجل أو وجب في ذمته إطعام حقا لله بحيث إن هذه الكفارة تنقص المال، فإن
الزكاة تسقط عنه أيضا. وهذا هو أحج الوجهين في مذهب الإمام أحمد؛ لقوله صلى
الله عليه وآله وسلم: (اقضوا الله، فالله أحق بالقضاء) (1) ، فدين الله
كدين الآدمي، فالحقوق الواجبة على العبد من الكفارات ونحوها إن كانت تنقص
النصاب فلا زكاة على صاحبها.
- والوجه الثاني في المذهب: أن الزكاة واجبة عليه، وهذا أظهر؛ وذلك لأن
الزكاة متعلقة بعين المال، فهي حق لله متعلق بالمال بعينه، كما أنه متعلق
أيضا بالذمة، فهو متعلق بالمال وبذمة صاحب المال، وأما الكفارات فإنها
متعلقة بالذمة فحسب، وما كان متعلقاً بعين المال وذمة مالكه أولى مما تعلق
بالذمة فقط، وكلاهما حق لله تعالى.
بخلاف المسألة المتقدمة، فإن الديون وإن كانت متعلقة في الذمة فقط مع أن
الزكاة متعلقة بعين المال، لكن هي حقوق للآدميين، والحقوق للآدميين مبنية
على المشاحة بخلاف الحقوق التي لله، فهي مبنية على المسامحة.
فالأظهر، وهو أحد الوجهين في مذهب الإمام أحمد: أن من عليه كفارات، فإن
الزكاة واجبة عليه وإن كانت الكفارات تنقص النصاب، لأن الزكاة متعلقة بعين
المال وهي حق لله تعالى، فقدمت على الكفارات المتعلقة بالذمة.
قال: [وإن ملك نصاباً صغاراً انعقد حوله حين ملكه]
فلو أن رجلاً عنده نصاب من المواشي، لكنها صغار من صغار الإبل أو صغار
الغنم أو صغار البقر.
__________
(1) أخرجه البخاري في كتاب جزاء الصيد، باب (22) الحج والنذور عن الميت
(1852) ، وانظر (6699) و (7315) .
كأن يملك أربعين سخلة أو أربعين من الفصلان
أو الفحول، فهي صغار، وهذا بشرط أن تكون سائمة، أما إذا كانت تطعم اللبن
فإنه لا زكاة فيها؛ لأن الزكاة إنما تجب في السائمة. فإذا كان عنده صغار من
الإبل أو صغار من البقر أو صغار من الغنم، وهي سائمة ليست مما تطعم اللبن،
فإن الزكاة تجب فيها وينعقد الحول من حين ملكها، فلا ننتظر حتى تبلغ السن
المجزئة في الأضحية، فلا ننتظر في الشاة حتى تكون مسنة، أو في الضأن حتى
تكون جذعاً، بل بمجرد ما يملكها انعقد الحول.
ودليل هذا عموم قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (في الغنم في سائمتها) (1)
الحديث، وهم غنم، فالصغار غنم، ومثلها الإبل والبقر، فإذا تم الحول، فإنها
تزكى وتكون في كثير منها قد بلغت السن المجزئة، كما يكون هذا في الغنم.
لكن إن وجبت الزكاة ومضى الحول في مواشي، وكلها صغار، يعني من السخال أو
الفصلان أو غيرها،فهل يُخرج صغيراً أم يجب أن يشتري كبيراً فيخرجه في
الزكاة؟ قولان لأهل العلم؟
1 – فذهب مالك: إلى أنه لا يجزئه إلا أن يخرج المجزئ في الأضحية، فعليه أن
يشتري ما يجزئ ويخرجه؛ لأن هذا هو الواجب في الزكاة أصلاً، وهو أن يخرج ما
يجزئ في الأضحية.
2 – والقول الثاني، وهو مذهب الحنابلة والشافعية في المشهور عندهم: أنه
يجزئه إخراج الصغير. وهذا أظهر؛ وذلك لأن المخرج يكون من جنس المال في
الأصل، لقوله تعالى: {خذ من أموالهم صدقة} ، ولقول عمر فيما تقدم: " هذا
عدل بين غذاء الغنم وخياره " (2) فكما أخذت الجذعة والثنية لأنها عدل بين
صغاره وبين خياره، وهنا العدل أن يؤخذ صغيراً، لأن المال كله صغار.
__________
(1) سيأتي.
(2) حاشية الروض المربع [3 / 171] .
وأما ما استدل به مالك، فإن هذا حيث كان في
المال خياراً وصغاراً، أما والمال كله صغار، فهذا يخالف الأصل، فكان العدل
أن يؤخذ من الصغار، فالعدل هنا أن يؤخذ من الصغار؛ لأن المال كله صغار،
ولأن الأصل في الزكاة أن تؤخذ من المال نفسه إلا أن يدل دليل على أخذها من
غيره؛ لقوله صلى الله عليه وآله وسلم: (خذ من أموالهم صدقة) . والله أعلم.
والحمد لله رب العالمين.
الدرس الثامن والتسعون بعدالمئة
(يوم الأحد: 21 / 12 / 1415 هـ)
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وإن نقص النصاب في بعض الحول.. انقطع الحول]
إذا نقص النصاب الزكوي في بعض الحول، فإن الحول ينقطع.
مثال ذلك: رجل ملك أربعين شاة في أول محرم، فيجب عليه في آخر السنة أي في
آخر شهر ذي الحجة أن يزكيها، لكن في أثناء الحول نقصت شاة واحدة، كأن يهب
شاة أو يضحي بها، ونحو ذلك، ثم أنتجت الشياه شاة مكانها، فمثلاً في العاشر
من ذي الحجة ضحى بشاة منها، وفي الخامس عشر من الشهر نفسه أنتجت بعض الشياه
شاة، فتم النصاب، فإن الحول ينقطع، ويبدأ من تمامها النصاب مرة أخرى أي في
الخامس عشر من ذي الحجة؛ وذلك لأن الشرط أن يمضي الحول على نصاب زكوي تام،
وهنا لم يمض الحول على هذه الصفة، بل قد نقص النصاب أثناء الحول.
مثال آخر: نصاب الذهب عشرون دينارًا، فلو ملك رجل عشرين ديناراً فبقيت عنده
حولاً، إلا أنه في أثناء الشهر نقص دينار، ثم وهب ديناراً، فتم له عشرين
ديناراً، فهنا لم يمض الحول على نصاب تام، بل في أثناء الحول نقص النصاب،
فهنا ينقطع الحول. إذاً الشرط أن يكون مالكاً للنصاب، وأن يمضي الحول كله
وهو مالك للنصاب، فإن كان في أثناء الحول نقص النصاب، فإنه يستأنف الحول من
جديد.
لكن يستثنى من ذلك الزمن اليسير عرفاً،
كالساعة أو الساعتين ونحو ذلك، كأن تموت له شاة في أول النهار، ثم وهبت له
شاة بعد زمن يسير عرفاً، كالساعة أو الساعتين، فإن هذا لا يؤثر.
قال: [أو باعه أو أبدله بغير جنسه]
المبادلة نوع من البيع، ومراد المؤلف هنا بالبيع أن يكون بنقد، وبالمبادلة
بغير نقد، وإلا فإن المبادلة نوع من أنواع البيع.
ولعل المؤلف هنا فرّق بين البيع والمبادلة للإيضاح، وهذا الأسلوب في
الحقيقة ليس أسلوباً يناسب المتون العلمية، وإنما يناسب الشروح. أو أن يكون
المؤلف يرى – وهو قول يخالف الصواب – أن المبادلة ليست ببيع.
المقصود من ذلك أن مراده بالبيع أن يكون بنقد أي بذهب وفضة، أي بالدراهم
وبالدنانير، أي أن يبيع الإبل مثلاً بالدراهم والدنانير.
وبالمبادلة، بغير نقد، كمبادلة الإبل بالغنم، ومبادلة البقر بالإبل، ونحو
ذلك، فهذه مبادلة، وهي في الحقيقة بيع.
فإذا باع النصاب الزكوي أو أبدله بغير جنسه، انقطع الحول.
مثال ذلك: رجل عنده أربعون شاة، فباعها وأبدلها بإبل، أو باع إبلاً بدراهم،
فإنه ينقطع الحول.
فلو أن رجلاً عنده خمس من الإبل – وهو نصاب الإبل -، فمضى عليها ستة
أشهر،فباعها بدراهم، وبقيت الدراهم عنده ستة أشهر، فلا يزكيها حتى يتم
عليها حولاً كاملاً؛ لأن حول الإبل قد انقطع، واستأنف للدراهم حولاً
جديداً.
ومثل ذلك: لو باع هذه الإبل التي مضى عليها ستة أشهر بأربعين شاة، فإن هذا
الأربعين يستأنف حولاً جديداً، فإذا مضى عليها حول كامل وجبت فيها الزكاة؛
وذلك لما تقدم من الآثار التي رُفعت، وتقدم ترجيح وقفها من أنه لا زكاة في
مال حتى يحول عليه الحول، وهذه الشياه التي قد اشتريت بالإبل، وهذه الدراهم
التي بيعت بها الإبل، هذه أموال لم يمض عليها حول، فلا تجب فيها الزكاة حتى
يمضى عليها الحول.
إذاً: إذا باع نصابه الزكوي بنصاب زكوي آخر
من جنس آخر، فإنه يستأنف لهذا النصاب الجديد حولاً جديداً؛ لعموم الآثار من
أنه ليس في مال زكاة حتى يحول عليه الحول.
قال: [لا فراراً من الزكاة]
إن فعل هذا فراراً من الزكاة أي حيلة، فإنه لا ينقطع الحول، كأن يكون عنده
أربعون شاة، فمضى عليها تسعة أشهر، ثم باعها بدراهم حتى يفر من الزكاة، ثم
يعود بعد ذلك فيشتري بها شياه، فإنه تجب عليه الزكاة إذا مضى الحول
المتقدم؛ لأنه فعل ذلك فراراً من الزكاة.
وهذا لا شك أنه يحتاج إلى قرينة، أي قرينة تدل على أنه فعل ذلك فراراً، أما
إذا لم تكن هناك قرينة، فإن القول قوله بلا يمين، فإذا قال: أنا لم أفعل
ذلك هروباً من الزكاة، فإن القول قوله ولا نحتاج إلى يمينه؛ لأن الأصل معه،
فإن الأصل براءة ذمته من هذا القصد المحرم.
لكن إن كانت هناك قرينة تقوي أنه إنما فعل ذلك فراراً من الزكاة، كخصومة
بينه وبين الساعي أو نحو ذلك، فإنه يحكم بهذا؛ وذلك لأن الحيلة لا تسقط
الواجب، وهي قاعدة شرعية يقررها فقهاء المالكية والحنابلة دون فقهاء
الشافعية والأحناف، فإن الحيلة عند فقهاء المالكية والحنابلة لا تسقط
الواجبات، فمن احتال لإسقاط واجب، فإن هذه الحيلة باطلة لاغية غير مؤثرة،
وأما فقهاء الشافعية والأحناف، فإنهم يصححون الحيل، وإن قالوا بالإثم فيها.
والراجح ما ذهب إليه المالكية والحنابلة في
هذه المسائل؛ وذلك لأن تصحيحها يخالف مقصود الشارع من تحريم الحيل، وقد نهى
عنها الشارع، كما قال صلى الله عليه وآله وسلم فيما رواه ابن بطة بإسناد
حسن: (لا تفعلوا كما فعلت اليهود، فتستحلوا محارم الله بأدنى الحيل) (1) ،
والحيلة ليس عليها أمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وكل عمل ليس عليه
أمره فهو رد، فالحيل لا غية مردودة غير نافعة لأصحابها، وعليه: فإذا احتال
لإسقاط الزكاة فإن هذه الحيلة لا تكون مقبولة منه وغير مؤثرة في إسقاط
الزكاة.
لكن كما تقدم هذا يحتاج إلى قرينة تدل عليه، أو اعتراف من فاعل ذلك، وأما
أن يحكم عليه بمجرد التهمة فلا؛ لأن الأصل معه وهو براءة ذمته من الحيلة.
والمحتال يعاقب بنقيض قصده، وهنا قصده الهروب من الزكاة، فيعاقب بإثباتها،
كما فعل الله عز وجل من العقوبة في أصحاب الجنة في قصتهم المذكورة في سورة
القلم، فيما ذكره الله عنهم من احتيالهم لإسقاط الصدقة الواجبة عليهم
للفقراء إلى أن قال الله في جنتهم: {فأصبحت كالصريم} (2) الآيات، فدل هذا
على تحريم الحيل، وحيث حرمت فكما تقدم هي باطلة ومردودة في الشرع.
إذاً من احتال لإسقاط الزكاة أو لقطع الحول فإنها تجب عليه، والحول لا
ينقطع، كما هو مذهب المالكية والحنابلة.
وأما الأحناف والشافعية، فإنهم قالوا: لا تجب الزكاة إلا حيث وجد النصاب
ومضى عليه الحول، ولم يروا إثبات الزكاة لوجود هذه الحيلة. والصحيح كما
تقدم خلافه.
قال: [انقطع الحول]
في المسائل الثلاثة كلها.
قال: [وإن أبدله بجنسه بنى على حوله]
اعلم أن الذهب والفضة وعروض التجارة جنس واحد.
__________
(1) ذكر الحافظ ابن كثير في تفسير سورة الأعراف آية 163، تفسير ابن كثير 3
/ 492، وانظر إرواء الغليل 5 / 375. من المغني [7 / 487] .
(2) سورة القلم.
أما الذهب والفضة؛ فلأنهما قيم الأشياء،
فمؤداهما واحد، فهما من جنس واحد، ولذا يضم بعضهما إلى بعض في الزكاة، كما
سيأتي، فمن كان عنده عشرة دنانير ومئة درهم، فإن الزكاة واجبة عليه كما
سيأتي.
فلو أنه عنده فضة، فمكثت ستة أشهر ثم أبدلها بذهب، فبعد مضي ستة أشهر تجب
عليه الزكاة في الذهب، فحولهما حول واحد، فلا يستأنف حولاً جديداً للذهب.
وأما عروض التجارة، فهي من جنس الذهب والفضة بالنظر إلى قيمتها، فإنها
مقومة على الاستمرار، فهي معروضة للتجارة، فقيمها الذهب والفضة، وتزكى
أيضاً بتقويمها ذهباً أو فضة، فكانت من جنس الذهب والفضة.
فلو أن عنده ثياباً للتجارة، مضى عليها ستة أشهر، ثم باعها بدراهم، ثم مضى
على هذه الدراهم ستة أشهر، فإنه يزكيها؛ لأنهما من جنس واحد، فالثياب عروض
تجارة، وهي من جنس الأثمان من الذهب والفضة، لأن قيمتها الذهب والفضة.
فإذا أبدل النصاب الزكوي بجنسه، بنى على حوله.
فلو أن عنده أربعين شاة، فأبدلها بأربعين شاة، فإن هذه الأربعين الممتلكة
حديثاً لا يستأنف لها حولاً جديداً، بل حولها حول ما قبلها،، فالشياة قد
باعها بشياه أخر، فمقصود الشارع حاصل في الشياه الأخر كما هو حاصل في
الشياه الأولى، فوجبت الزكاة في الشياه الأخر مبنية على حول الشياه الأولى.
حتى لو كانت الشياه الأخرى أكثر من الشياه الأولى، كأن يستبدل أربعين شاة
بمئة وثلاثين شاة فيها سخال ونحو ذلك، فإنه يجب عليه أن يزكي عن المئة
والثلاثين.
فإن قيل: هذا الزائد لم لا يُستأنف له حول جديد؟
فالجواب: أنه شبيه بنتاج السائمة، فإن الزائد على الأربعين تبع للجنس الأول
المستبدل، لأنه بدل له.
فإذا كان عنده جنس من الأجناس الزكوية، فاستبدل له بجنسه، فإنه لا يستأنف
حولاً جديداً، بل يبني على الحول الأول.
لكن إن استبدل أربعين شاة سائمة بأربعين
شاة عروضاً، فإن الجنس يختلف، فهي وإن كانت كلها شياه، لكن هذه شياه تسوم،
وهذه شياه للتجارة، ولذا لو أن رجلاً عنده أربعون شاة فمضى عليها ستة أشهر
وهي سائمة، ثم أعدها تجارة للبيع والشراء، فإنه ينقطع الحول ويستأنف حولاً
جديداً؛ لأنها تحولت إلى جنس آخر، فهي في الوضع الأول كانت سائمة، وهنا
أصبحت من باب التجارة.
قال: [وتجب الزكاة في عين المال ولها تعلق في الذمة]
هل تجب الزكاة في ذمة المسلم صاحب المال الزكوي، أو أنها تجب في عين المال،
بمعنى: هل هذا المال الذي يمتلكه المسلم إذا أوجبنا عليه الزكاة فيه، هل
هذه الزكاة واجبة في عين المال بمعنى: أنها جزء من المال وداخلة فيه بنفسه
أم أنها متعلقة في ذمة المزكي، وإن كان لها تعلق بالمال، لكن أصل تعلقها
بالذمة؟
قولان لأهل العلم، هما قولان للحنابلة:
القول الأول: أن الزكاة متعلقة بعين المال،
ولها تعلق في الذمة، لكن أصل تعلقها في عين المال. واستدلوا: بقوله عز وجل:
{خذ من أموالهم صدقة} (1) ، و {من} هنا تبعيضية، ومفادها أن الزكاة بعض
المال المتوفرة فيه شروط وجوب الزكاة. وبقوله صلى الله عليه وآله وسلم: (في
الغنم في سائمتها في كل أربعين شاة شاة) (2) ، و (في) هنا ظرفية، فتفيد أن
هذه الشاة الواجبة زكاةً داخلة في هذا المال، فهي فيه، وهذا المال الزكوي
شامل لها. قالوا: لكن لها تعلق في الذمة من حيث أنه لا تجب عليه أن يخرجها
بعينها، بل لو أخرج مالاً خارجاً عنها، فإن ذلك يجزئ عنه، وهذا ما اتفق
عليه العلماء، من أن الرجل إذا وجبت عليه شاة في أربعين شاة، فلا يجب عليه
أن يخرجها من هذه الأربعين، بل له أن يشتري بدراهمه شاة أو أن يأخذ شاة من
شياه غيره شراء أو هبة، ثم يدفعها للسعاة، ولو لم يرض الساعي بذلك، فلا
يشترط رضا الساعي بذلك. قالوا: فلذا لها تعلق في الذمة، لكن أصل تعلقها في
عين المال، ولكن رُخص للمكلف ألا يدفعها من عين المال الزكوي، ويبقيه على
هيئته، ويدفعها من جهة أخرى؛ لأن المزكي قد يكون له تعلق في عين ماله،
فيرغب أن يخرجها من غيره. ولأن مقصود الشارع يحصل بذلك، فإن المقصود هو
إخراج شاة سواء كانت الشاة من عين ماله أو من غيره.
القول الثاني، قالوا: تجب في الذمة، لكنها لها تعلق بالمال، لكن أصل وجوبها
أن تجب في الذمة.
واستدلوا: بما تقدم من أنه يجوز له أن يخرجها من غير عين ماله، وما جاز هذا
إلا لوجوبها في الذمة، قالوا: ولو كانت واجبة في عين المال لوجب عليه أن
يخرجها من عين ماله.
__________
(1) سورة التوبة.
(2) رواه البخاري من حديث أنس، كتاب الزكاة، باب (38) زكاة الغنم (1454) .
وانظر (6448) .
وفيما ذكروه نظر، ولذا أجاب أهل القول
الأول بأنه إنما جاز له أن يخرجها من غير عين ماله رخصة له، فهو من باب
الرخصة.
ومما ينبني من الخلاف على هذين القولين:
لو أن رجلاً عنده أربعون شاةً، مضى عليها حولان، فهل يجب عليه شاة واحدة أو
يجب عليه شاتان؟
إن قلنا: إن الزكاة تجب في عين المال، فلا تجب عليه إلا شاة واحدة. وإن
قلنا: إنها تجب في الذمة، فيجب عليه شاتان.
بيان هذا: عنده شاتان (1) مضى عليها حولان، إذا قلنا بقول الحنابلة هنا،
وأنها متعلقة بعين المال، فلا يجب عليه أن يزكي إلا شاة واحدة؛ لأنا إذا
أخرجنا عن الحول الأول شاة، فما بقي عنده إلا تسع وثلاثون شاة، والزكاة
متعلقة بعين المال، فلتعلقها بعين المال، فإذا أوجبناها عليه في الحول
الأول، فإن الزكاة متعلقة بهذه، فلا نحسب في السنة الأخرى، بل يبقى عنده
تسع وثلاثون شاة، فلا يجب عليه إلا أن يزكي الحول الأول، وأما الحول الثاني
فإن النصاب يكون قد نقص، أما إذا قلنا: إنها متعلقة بالذمة، فهو في الحول
الأول قد ملك أربعين شاة، فعليه زكاة شاة، وفي الحول الثاني عنده أربعون
شاة، فعليه شاة أخرى، هذا إذا لم نقل إن الدين الذي لله عز وجل الذي ينقص
النصاب تجب فيه الزكاة، وقد تقدم الخلاف في هذا.
المقصود من هذا: أن الأدلة الشرعية المتقدمة دلت على أن الزكاة متعلقة في
عين المال لا في الذمة فقط، بمعنى أنه قد وجب لله - عز وجل - في هذه
الأربعين شاة أو في هذه العشرين ديناراً وجب لله فيها هذا الجزء المحدد من
الزكاة، وإن كان لها تعلق في الذمة من حيث أن صاحبها لا يجب عليه أن يدفع
هذا الجزء، بل له أن يخرجه من جهة أخرى رخصة له.
قال: [ولا يعتبر في وجوبها إمكان الأداء]
أي لا يعتبر في وجوب الزكاة إمكان الأداء، فالضمير في " وجوبها " يعود على
الزكاة.
__________
(1) لعل الصواب: أربعين شاة.
رجل وجبت عليه زكاة، لكنه معسر، قالوا: لا
يعتبر في وجوبها إمكان الأداء. (1)
فيقال له: الزكاة واجبة عليك وإن لم تتمكن من أدائها، وإنما قلنا: الضمير
في " وجوبها " يعود على الزكاة؛ لنبيِّن أن إخراجها لا يجب عليه، فالزكاة
واجبة، لكن لا يجب عليه أن يخرجها؛ لأنه عاجز عن إخراجها، فالزكاة تبقى
متعلقة في ذمته متى ما قدر زكى، لكن لا يجب عليه الإخراج؛ لأنه غير قادر
عليه، فتتعلق الزكاة في ذمته حتى إذا ما استطاع زكى.
فلو أن رجلاً عنده أربعين شاة، وقد مضى عليها الحول، لكنه معسر لا يستطيع
إخراج شيء من الزكاة، فهو معسر محتاج إلى ما عنده من هذه الشياه في قيام
بيته أي يحتاج إلى لبنها ونحو ذلك، فقيام معيشته بها، فلا يستطيع أن يخرج
منها شيئاً، هو لا يمكنه الأداء، لكن الزكاة تبقى متعلقة في ذمته متى ما
قدر زكى.هذا هو المشهور في مذهب الحنابلة، والشافعية.
__________
(1) وفي حاشية المذكرة ما نصه: وعليه فيشترط للوجوب الحول والنصاب، التمكن
من الأداء، وعليه: لو أتلف النصاب بعد الحول قبل التمكن من الأداء، ضمنها،
وعلى الثانية لا، إذا لم يقصد الفرار من الزكاة.
- وعن الإمام أحمد، وهو مذهب المالكية وهو
القول الثاني للشافعي، قالوا: إن لم يمكنه الأداء، فإن الزكاة لا تجب عليه؛
قالوا: لأن الزكاة عبادة، ومن شروط إيجاب العبادات إمكان أدائها، وقد قال
تعالى: {فاتقوا الله ما استطعتم} (1) ، ولأن الزكاة إنما وجبت من باب
المواساة، وهذا معسر يحتاج إلى المواساة، فلم تجب عليه. وليست كالديون على
الآدمي، لأن الديون التي على الآدميين فيها محض حق الآدمي، وليست من باب
المواساة، بل هي حقوق الآدميين، أما في الزكاة فإن حق الآدمي مشوب بحق الله
- عز وجل -، وهي إنما وجبت مواساة من الغني للفقير، فإذا كان هذا محتاجاً
إليها أو معسراً، فهو أولى بالمواساة من الفقير. فالراجح القول الثاني، وأن
الزكاة لا تجب إلا مع إمكان أدائها.
أما أهل القول الأول، فإنهم استدلوا بالأدلة الدالة على وجوب الزكاة بمضي
الحول، قالوا: وقد مضى الحول، فتعلقت الزكاة في ذمته.
والجواب: ما تقدم من أنها وإن مضى الحول، لكن لا نقول بإيجابها؛ لأن
العبادات لا تجب إلا مع إمكان الأداء، ولأنها من باب المواساة، وما كان
كذلك، فإنه يسقط عن صاحب المال، لأنه هو أحق بالمواساة من الفقير، لأنه
صاحب المال.
قال: [ولا بقاء المال]
فبقاء المال ليس شرطاً في إيجاب الزكاة.
صورة هذا: رجل ملك نصاباً، ومضى عليه الحول، وقبل أن يزكيه تلف المال،
بتفريط منه أو غير تفريط، فإن الزكاة واجبة عليه، وكما تقدم الإخراج لا يجب
حتى يتمكن، لكن المقصود أن الزكاة تتعلق في ذمته. هذا هو المشهور عند
الحنابلة؛ قياساً على دين الآدمي، قالوا: من كان له على آدمي دين، فإنه يجب
عليه أن يعطيه إياه وإن كان معسراً، لكن يتربص به حتى يكون موسراً، لكن لا
يسقط عنه الدين لإعساره، فكذلك الزكاة.
__________
(1) سورة التغابن.
- وقال شيخ الإسلام ابن تيمية، وهو قول
الموفق ابن قدامة: إن كان بتفريط، فإن الزكاة تتعلق في ذمته، وإن كان بغير
تفريط، فإن الزكاة تسقط عنه؛ قالوا: لأن الزكاة هنا أصبحت كالأمانة في يده،
ومن كانت عنده لأحد أمانة، فتلفت بلا تفريط، فلا ضمان عليه اتفاقاً، كما
دلت عليه الأدلة الشرعية فكذلك في الزكاة.
أما إذا تلفت الزكاة بتعد وتفريط، فإنه يضمن، كما يضمن الأمانة التي تلفت
عنده بتعد منه وتفريط. وهذا القول هو القول الراجح.
وأما الجواب عن قياسهم على دين الآدمي، فيقال: بينهما فرق، فإن دين الآدمي
محض حق للآدمي، وأما الزكاة ففيها حق الله المبني على المسامحة. هذا الوجه
الأول.
وأما الوجه الثاني: فهو أن ديون الآدميين لا دخل لها في باب المواساة،
بخلاف الزكاة، فإنها إنما شرعت مواساة من الغني إلى الفقير، وحيث كان ذلك،
فإنه لا يضر بالغني ولا يشق عليه لمواساة غيره. فالراجح ما اختاره شيخ
الإسلام.
قال: [والزكاة كالدين في التركة]
إذا مات صاحب المال وعليه ديون، فإن الديون تقدم على الإرث كما هو مقرر في
علم الفرائض، قال تعالى: {من بعد وصية يوصي بها أو دين} (1) ، فالديون
مقدمة على الورثة، فكذلك الزكاة.
فلو أن رجلا مات قبل أن يخرج زكاة ماله، فإنها تخرج من تركته قبل الإرث؛
لقوله صلى الله عليه وآله وسلم: (اقضوا الله، فدين الله أحق بالقضاء) (2) ،
فدل هذا على أن دين الله كدين الآدمي في القضاء، فيقدم حينئذ على الإرث.
__________
(1) سورة النساء.
(2) رواه البخاري، وقد تقدم.
وهل يقدم دين الله الزكوي على ديون
الآدميين المطلقة التي لم تتقوى برهن في هذا المال -، لأن الديون منها ما
هو دين برهن، ومنها ما هو دين مطلق، فالدين برهن هذا دين متعلق بالتركة،
أما الديون المطلقة فهي التي لا رهن فيها، فهل تقدم الديون المطلقة على دين
الله أو يقدم دين الله على الديون المطلقة، أم نجعلها حصصاً ونساوي بينها؟
المشهور عند الحنابلة: الثالث، فلو أن رجلا مات وعليه زكاة، فما بقي له من
المال إلا شاة واحدة، الواجب عليه في الزكاة شاة وعليه دين لآدمي بقدر شاة،
فإن هذه الشاة تقسم بين دين الله وبين دين الآدمي بالمحاصة، فإذا كان من له
الدين واحد، فنصف الشاة للزكاة والنصف الآخر لهذا الدائن، وإن كانوا اثنين
فالثلث للزكاة والثلث للدائن الأول، والثلث الأخير للدائن الثاني.
وذهب بعض الحنابلة: إلى أن الزكاة مقدمة على دين الآدمي، إلا أن يكون دين
الآدمي مرتبط برهن. وهذا القول أظهر، ودليل هذا ما تقدم من أن الزكاة
متعلقة بعين المال، فهي جزء منه متعلقة به، وإنما أذن له أن يخرجها من غيره
من باب الرخصة، فحيث كان ذلك، فهي مقدمة على الدين المطلق المتعلق بالذمة.
وأما الدين الذي يكون برهن، فإنه مقدم على الزكاة؛ لأنه مرتبط بعين هذا
المال بخصوصه، فالزكاة متعلق بجزء منه لا على التعيين، وأما الدين الذي
برهن، فهو متعلق بجزء من المال بعينه.
والوجه الثالث: يقدم دين الآدمي؛ لأن حقه مبني على المشاحة.
والحمد لله رب العالمين.
... (1)
الدرس التاسع والتسعون بعد المئة
(يوم الاثنين: 22 / 12 / 1415هـ)
باب زكاة بهيمة الأنعام
[تجب في إبل وبقر وغنم]
__________
(1) كلام غير واضح متكون من سطرين.
هذه بهيمة الأنعام، فهي الإبل والبقر
والغنم، فتجب الزكاة فيها سواء كانت الإبل بَخاتياًّ، وهي الإبل المتولدة
من الإبل العربية والعجمية، وهي ذات السنامين، أو كانت عِرابا، وهي
المشهورة عندنا، فكلها من بهيمة الأنعام.
والبقر: كل ما يسمى بأنه بقر، ومن ذلك الجواميس باتفاق العلماء.
* وأما بقر الوحش، فعن الإمام أحمد روايتان:
الرواية الأولى: أنها داخلة في البقر التي تجب فيها الزكاة، وهكذا غنم
الوحش؛ وذلك لأنها داخلة في عموم الاسم، فلفظ البقر كما أنه شامل للبقر
الأهلي، فإن البقر الوحشي يدخل فيه، وهكذا الغنم.
الرواية الثانية، وهي مذهب جمهور العلماء: أن بقر الوحش لا يدخل في وجوب
الزكاة؛ وذلك لأن اسم البقر لا يشمله إلا بالإضافة، فيقال: بقر وحشي، أما
الاسم المطلق وهو " البقر "، فإن بقر الوحش لا يدخل فيه. ولأنه ليس من
بهيمة الأنعام، ولأن المعنى الذي من أجله شرعت الزكاة من النماء ليس ثابتاً
فيه.
فالراجح مذهب الجمهور، وهو رواية عن الإمام أحمد: من أن الوحشي من البقر
والغنم ليس فيه الزكاة، إذ هو ليس من بهيمة الأنعام، ولأن الاسم الذي ورد
في الشريعة لا يشمل الوحشي إلا بالإضافة.
*
والمشهور عند الحنابلة: أن المتولد من الوحشي والأهلي تجب فيه الزكاة.
وقال الشافعية، وهو اختيار الموفق ابن قدامة: إن الزكاة لا تجب فيه. وهذا
هو الراجح؛ لأن المتولد من الوحشي والأهلي نوع آخر، كما أن البغل المتولد
من الفرس والحمار نوع آخر. فهو نوع آخر، فليس بمنصوص عليه ولا بمجمع عليه
ولا بمعناهما، ولأن الأصل براءة الذمة من الزكاة، والأصل عدم إيجاب الزكاة
إلا بنص أو إجماع، ولا نص ولا إجماع ولا قياس.
فعلى ذلك: حاصل ما يجب فيه الزكاة من بهيمة
الأنعام ما يصدق عليه أنه من بهيمة الأنعام من الإبل والبقر والغنم، فيخرج
من هذا الوحشي من البقر والغنم، والمتولد من الوحشي والأهلي، فإنهما ليسا
من بهيمة الأنعام، وبالتالي لا تجب فيهما الزكاة.
قال: [إذا كانت سائمة الحول أو أكثره]
السائمة: هي الراعية التي ترعى الكلأ.
فأما المعلوفة التي يؤتى لها بالكلأ ويجمع لها، أو يشترى لها، فإن الزكاة
لا تجب فيها.
فالزكاة إنما تجب في السائمة التي ترعى، أما التي يتكلف صاحبها بشراء علفها
أو يتكلف جمع الكلأ والعشب لها، فإن الزكاة لا تجب فيها.
ودليل هذا: ما ثبت في صحيح البخاري من حديث أنس بن مالك فيما كتب له أبو
بكر: " هذه فريضة الصدقة التي فرضها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على
المسلمين " الحديث وفيه: " وفي صدقة الغنم في سائمتها " (1) ، فقوله " في
سائمتها " قيد يجب مراعاته، فهو قيد وشرط فيما تجب الزكاة فيه من الغنم،
وهكذا الإبل والبقر، وقد ورد هذا في الإبل، فقد ثبت في مسند أحمد وسنن أبي
داود بإسناد جيد من حديث بهز بن حكيم عن أبيه عن جده أن النبي صلى الله
عليه وآله وسلم قال: (في كل سائمة إبل أربعين بنت لبون) (2) . فهنا قيد
الإبل بكونها سائمة. والبقر كذلك من باب القياس الجلي؛ لأنها بمعنى الإبل
والغنم.
إذاً: لا تجب الزكاة في بهيمة الأنعام إلا أن تكون سائمة.
وظاهر الأحاديث أن تكون سائمة الحول كله، بحيث أنها وإن علفت يوماً أو
يومين، فإن الزكاة تسقط منها. هذا ظاهر الأحاديث، وهو قول ضعيف في مذهب
الإمام أحمد.
__________
(1) رواه البخاري في كتاب الزكاة، باب في زكاة الغنم، وقد تقدم.
(2) أخرجه أبو داود في كتاب الزكاة، باب (4) في زكاة السائمة (1575) بلفظ:
(في كل سائمة إبل في أربعين بنت لبون..) .
والجمهور: على أنها إن كانت تسوم أكثر
الحول، فإن الزكاة تجب فيها وإن كان تعلف بعضه.
وذلك لندرة السوم السنة كلها، فإن هذا نادر قلّ أن يقع، ولاشك أنا إذا لم
نوجب الزكاة إلا بهذا القيد، فإن هذا فيه إجحاف بالفقراء، مع أن الزكاة
كانت تؤخذ في عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كثيراً من الإبل
والبقر والغنم، فدل على أن المراعى إنما هو الأكثرية، ولاشك أنها توصف
بأنها سائمة بناء على الأغلب.
فالتي ترعى تسعة أشهر في السنة، وثلاثة أشهر تعلف، تسمى سائمة من باب النظر
إلى الأمر الغالب فيها.
فإذا كانت سائمة الحول كله أو أكثره، فإنها تجب فيها الزكاة.
لكن إن كانت تسوم ستة أشهر، وتعلف ستة أشهر أو كانت تعلف أكثر السنة، فإن
الزكاة لا تجب فيها.
قال: [فيجب في خمس وعشرين من الإبل بنت مخاض]
وبنت المخاض: هي الأنثى من الإبل التي تم لها سنة وشرعت في السنة الثانية.
وسميت بنت مخاض؛ لأن أمها في الأغلب تكون ماخضاً أي حاملاً، فمن ملك خمساً
وعشرين من الإبل، فعليه بنت مخاض.
قال: [وفيما دونها في كل خمس شاة]
فإذا كان لا يملك إلا أربعاً وعشرين من الإبل، فعليه في كل خمسٍ شاة، فيجب
عليه في أربع وعشرين من الإبل أربع شياه. وفي عشر من الإبل شاتان، وفي خمس
عشرة من الإبل فيها ثلاث شياه، ففي كل خمسٍ شاة.
وما بين العشرين – مثلاً – وخمس وعشرين وَقْص، أي لا ينظر إليه في الزكاة،
إذا بلغت عشرين، ففيها أربع شياه، وكذا إذا بلغت إحدى وعشرين أو اثنتين
وعشرين أو ثلاث وعشرين أو أربع وعشرين، فكلها فيها أربع شياه. فهذا هو
الوقص: وهو ما بين الفريضتين. فالوقص في بهيمة الأنعام لا شيء فيه.
أما إذا لم تبلغ خمساً من الإبل، فلا شيء فيها، فمن عنده أربع من الإبل،
فلا شيء فيها.
قال: [وفي ست وثلاثين بنت لبون]
إذاً: من خمس وعشرين إلى خمس وثلاثين فيها
بنت مخاض. فإذا بلغت ستاً وثلاثين ففيها بنت لبون.
وبنت لبون: هي ما لها سنتان وشرعت في السنة الثالثة، وسميت بنت لبون؛ لأن
أمها في الغالب تكون ذات لبن، لأنها قد حملت فنتجت فكانت ذات لبن.
إذاً: إذا بلغت ستاً وثلاثين إلى خمس وأربعين، فيها بنت لبون.
قال: [وفي ست وأربعين حقة]
فإذا بلغت ستاً وأربعين ففيها حقة.
والحقة: هي طروقة الجمل، ويمكن أن تحمل وتركب، وهي ما تم لها ثلاث سنين
وشرعت في السنة الرابعة.
فإذا بلغت ستاً وأربعين إلى ستين، فيها حقة.
قال: [وفي إحدى وستين جذعة]
فإذا بلغت إحدى وستين، ففيها جذعة: وهي ما تم لها أربع سنوات وشرعت في
السنة الخامسة.
فإذا بلغت إحدى وستين إلى خمس وسبعين، فيها جذعة.
قال: [وفي ست وسبعين بنتا لبون]
فإذا بلغت ستاً وسبعين إلى تسعين ففيها بنتا لبون.
قال: [وفي إحدى وتسعين حقتان]
فإذا بلغت إحدى وتسعين إلى مائة وعشرين ففيها حقتان.
قال: [فإذا زادت على مئة وعشرين واحدة، فثلاث بنات لبون، ثم في كل أربعين
بنت لبون، وفي كل خمسين حقة]
فإذا زادت على مئة وعشرين، ففي كل أربعين بنت لبون، وفي كل خمسين حقة.
هذه هي فريضة الإبل، ودليلها: ما ثبت في
البخاري عن أنس بن مالك أن أبا بكر الصديق كتب له: " هذه فريضة الصدقة التي
فرضها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على المسلمين، والتي أمر الله بها
رسوله، في كل أربع وعشرين من الإبل الغنم، في كل خمس شاة، فإذا بلغت خمساً
وعشرين إلى خمس وثلاثين ففيها بنت مخاض أنثى، فإن لم يكن فابن لبون ذكر –
وسيأتي الكلام على هذه المسألة – فإذا بلغت ستاً وثلاثين إلى خمس وأربعين
ففيها بنت لبون، فإذا بلغت ستاً وأربعين إلى ستين ففيها حقة طروقة الجمل،
فإذا بلغت واحدة وستين إلى خمس وسبعين ففيها جذعة، فإذا بلغت ستاً وسبعين
إلى تسعين ففيها بنتا لبون، فإذا بلغت إحدى وتسعين إلى عشرين ومئة ففيها
حقتان، فإذا زادت على عشرين ومئة واحدة، ففي كل أربعين بنت لبون، وفي كل
خمسين حقة، فإن لم يكن معه إلا أربع من الإبل فليس فيها شيء إلا أن يشاء
ربها " (1) .
إذاً: إذا زادت الإبل على مئة وعشرين من الإبل، فإن الواجب عليه في كل
أربعين بنت لبون، وفي كل خمسين حقة.
فإذا كان عند مثلاً 300 من الإبل، فعليه ست حقق، في كل خمسين حقة، وإذا كان
عنده 200 من الإبل فعليه أربع حقق أو خمس بنات لبون، وهكذا.
وعند قول المؤلف [وفيما دونها في كل خمس شاة]
لا يجزئ من الغنم في صدقة بهيمة الأنعام إلا ما يجزئ في الهدي والأضحية من
باب القياس، ولأثر عمر المتقدم في قوله: " نأخذ الثنية والجذعة ".
وإن كان الإبل رديئة، فتكون الشاة رديئة، وإن كانت الإبل جيدة، فتكون الشاة
المخرجة جيدة، فبحسب الإبل تؤخذ الغنم جودة أو رداءة. فإن كانت الإبل
سماناً، أخرجت شاة سمينة، وإن كانت هزالاً، أخرجت شاة هزيلة.
فإن كانت الإبل مراضاً أخرجت شاة صحيحة، لكنها في قيمتها تناسب الإبل
المريضة.
__________
(1) أخرجه البخاري في كتاب الزكاة، وقد تقدم.
فمثلاً: إذا كانت الشاة الطيبة تساوي خمسة
دراهم، والإبل الصحيحة، الواحد منها يساوي مئة درهم، ووجدنا أن الإبل
المراض يساوي الواحد منها ثمانين درهما، فإنا نخرج شاة قيمتها أربعة دراهم؛
نظراً للفارق بين الصحيحة والمريضة من الإبل، فبقدر النسبة بين الإبل
الصحيحة والمريضة تكون النسبة في المخرج. بقى ما تقدم إذا كانت الدراهم
للإبل الصحيحة مئة، وللمريض ثمانون، فإن النقص بقدر الخمس، فيكون النقص في
قيمة الشاة أيضا بقدر الخمس.
إذاً يكون المخرج من الغنم جودة أو رداءة بالمراعاة إلى الإبل جودة أو
رداءة، فإن كانت الإبل مراضاً أخرجت شاة صحيحة، لكن قيمتها تناسب الإبل
المراض.
واعلم أن أظهر قولي العلماء - وهما قولان في مذهب أحمد – أن الواجب عليه أن
يخرج أنثى من الغنم، وأن الذكر لا يجزئ؛ لأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم
في ذكر صدقة الإبل إنما ذكر الشاة في قوله: (في كل خمس شاة) فقد نص على
الأنثى، فلم يجزئ غيرها، وقد تقدم قول عمر: " نأخذ الجذعة والثنية ".
واختلف أهل العلم، هل يجزئ أن يخرج الإبل عن الشاة، أم لا يجزئ؟
فلو أن رجلاً عنده خمس من الإبل، فالواجب عليه شاة واحدة، فإذا أخرج عنها
بعيراً، فهل يجزئ أم لا؟
قال الحنابلة: لا يجزئ؛ نظراً للنص، فإن النبي صلى الله عليه وآله وسلم
إنما نص على الشاة.
لكن هذا القول ضعيف، بل هو قريب من طريقة الظاهرية.
وذهب الشافعية والمالكية: إلى أن ذلك يجزئ؛ لأن الإبل تجزئ في العدد
الأكبر، فإجزاؤها في العدد الأقل من باب أولى.
فبنت المخاض تجزئ في خمس وعشرين من الإبل، فإجزاؤها فيما أقل من ذلك من باب
أولى.
وأما النص الوارد، فهو من باب ما يجب عليه، لكن إن زاد خيراً، فهو خير له،
وهو تطوع منه.
ويدل على هذا ما ثبت في مسند أحمد وسنن أبي
داود بإسناد حسن أن رجلاً وجبت عليه بنت مخاض في إبله، فقال: " ذلك ما لا
لبن منه ولا ظهر، ولكن هذه ناقة سمينة فتيَّة " فذكر ذلك للنبي صلى الله
عليه وآله وسلم، فقال: (ذاك الذي عليك، فإن تطوعت بخير آجرك الله فيه
وقبلناه منك) (1) ، قال الراوي: " فأخذت صدقته في عهد معاوية ثلاثين حقة "،
أي قد بلغت إبله ألفاً وخمسمئة.
فالشاهد قوله (فإن تطوعت بخير آجرك الله فيه وقبلناه منك) ، فقبل النبي صلى
الله عليه وآله وسلم منه الناقة عن بنت المخاض، فدل هذا على أن من تصدق
بفريضة أعلى من الفريضة الواجبة عليه، فإن ذلك يجزئ عنه، ومن ذلك إن تصدق
بناقة عن شاة، فإن ذلك يجزئ عنه.
ولا خلاف بين أهل العلم في أنه إن تصدق ببنت لبون عن بنت مخاض أو بحقة عن
بنت لبون أو بجذعة عن حقة، فإن ذلك يجزئ بلا خلاف، فكذلك في المسألة
المتقدمة.
واعلم أن من وجبت عليه سن فلم يجدها، ووجد سناً أعلى منها أو أنزل منها،
كأن تجب على رجل حقة، فلم يجدها، ووجد أعلى منها – أي جذعة – وأنزل منها –
بنت لبون -، فهو بالخيار، إن شاء أن يدفع أعلى منها ويأخذ شاتين أو عشرين
درهماً جبراناً له، وإن شاء أن يدفع أنزل منها ويعطي شاتين أو عشرين درهماً
جبراناً للصدقة.
وكذلك إن لم يجد السن التي تليها، ووجد السن التي تلي ما بعدها، فإن جبرانه
أربع شياه أو أربعون درهماً، كأن يجب على رجل بنت مخاض، فلم يجدها وفي ماله
حقة، فإنه يجوز له أن يدفع الحقة ويُدفع له أربعون درهماً، أو أربع شياه،
جبراناً له.
__________
(1) رواه أبو داود في الباب المتقدم رقم (1583) .
فقد ثبت في حديث أبي بكر المتقدم أنه قال:
" من بلغت عنده من الإبل صدقة الجذعة وليست عنده الجذعة وعنده الحقة، فإنها
تقبل منه وتؤخذ منه شاتين إن استيسرتا أو عشرين درهماً، ومن بلغت عنده صدقة
الحقة وليست عنده الحقة وعنده الجذعة فإنها تقبل منه، ويعطيه المصدق شاتين
أو عشرين درهماً ".
والجبران مختص بالإبل دون البقر والغنم.
أما الغنم فلا إشكال، فإن الغنم الفريضة فيها واحدة، فلا تختلف السن فيها
كما تختلف في الإبل، فالواجب هو شاة أو شاتان أو ثلاث أو أربع، وهكذا، فلا
تختلف السن فيها، فلا مدخل للجبران فيها.
وأما البقر، فإن النص لم يرد فيها، والوقص فيها يختلف عن الوقص في الإبل،
فلا يصح القياس.
فمن وجبت عليه سن في البقر وليست عنده، وعنده سن أكبر منها، فإنه يدفعها إن
شاء ولا يعطى جبراناً، وإن شاء اشترى من السوق السن المطلوبة وأعطاها
المصدق.
إذاً: هذا الجبران المتقدم مختص في الإبل فقط، فلا مدخل للبقر والغنم فيه،
والنص إنما ورد في الإبل وليست البقر بمعناها.
وأما الغنم، فإن هذه المسألة ليست بمفروضة فيها أصلاً، إذ السن فيها واحدة
وإن اختلف عدد الغنم بحيث يختلف عدد الفريضة فيه، فإن الفريضة لا تختلف.
الدرس المئتان
(يوم الثلاثاء: 23 / 12 / 1415 هـ)
فصل
قال: [ويجب في ثلاثين من البقر تبيع أو تبيعة]
التبيع: ماله سنة، وهو الذكر من أولاد البقر.
والتبيعة: الأنثى وهي مالها سنة وقد شرعت في الثانية.
قال: [وفي أربعين مسنة]
المسنة: ما لها سنتان، وهي الثنية، وقد تقدم أنها تجزئ في الأضحية، فالبقر
يجب في ثلاثين منه تبيع أو تبيعة، فإذا بلغت أربعين فالواجب مسنة.
قال: [ثم في كل ثلاثين تبيع، وفي كل أربعين مسنة]
ثم بعد ذلك في كل ثلاثين من البقر تبيع،
وفي كل أربعين مسنة. فإذا كان عنده تسعون بقرة، فيجب عليه ثلاثة أتبعة،
وإذا كان عنده مئة بقرة فيجب عليه تبيعان ومسنة، وهكذا.
ودليل هذا ما رواه الخمسة، وحسنه الترمذي، وهو كما قال، لكن لشواهده،عن
معاذ بن جبل رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم بعثه إلى
اليمن، فأمره أن يأخذ من كل ثلاثين من البقر تبيعاً أو تبيعة، ومن كل
أربعين مسنة، ومن كل حالم ديناراً أو عدله معافرياً) (1) ، وهذه جزية
وسيأتي الكلام عليها.
فإن لم تبلغ البقر ثلاثين، فلا تجب الزكاة فيها، وهو ما يسمى بالشَنَق،
فالشنق: هو ما دون النصاب.
والوقص: هو ما بين الفريضتين.
قال: [ويجزئ الذكر هنا]
الذكر هنا وهو التبيع يجزئ عن التبيعة، أما الأربعون فلا يجزئ فيها إلا
مسنة.
قال: [وابن لبون مكان بنت مخاض]
هذا في صدقة الإبل (2) ، فابن اللبون يجزئ عن بنت المخاض، لكن ثمت فارق بين
هاتين المسألتين.
ففي صدقة البقر يجزئ التبيع عن التبيعة مطلقاً، وأما في صدقة الإبل فإن ابن
اللبون لا يجزئ عن بنت المخاض إلا عند عدمها.
فلو أن رجلاً وجبت عليه بنت مخاض وليس في ماله بنت مخاض، فإنه لا يكلف
شراءها بل يخرج ابن لبون من إبله.
وهل له أن يخرج موضع بنت لبون حقاً، أو أن يخرج موضع الحقة جذعاً أم لا؟
فلو أن رجلاً وجبت عليه بنت لبون وليس في ماله بنت لبون، وفي ماله حق، فهل
يجزئه الحق عن بنت اللبون،
قولان في مذهب الإمام أحمد:
__________
(1) أخرجه أبوداود في الباب المتقدم رقم (1576) ، والترمذي في الزكاة، باب
زكاة البقر حديث 623، وقال: " حديث حسن " وذكر أن بعضهم رواه مرسلاً وقال:
" وهذا أصح "، والنسائي في الزكاة، باب سقوط الزكاة عن الإبل إذا كانت رسلا
لأهلها ولحمولتهم حديث 2455، وابن ماجه في الزكاة، باب صدقة البقر حديث
1803. سنن أبي داود [2 / 235] .
(2) كذا في الأصل.
الأول، وهو قول القاضي وابن عقيل من
الحنابلة: أنه يجزئ قياساً، فكما أن ابن اللبون يجزئ عن بنت المخاض، فكذلك
الحق يجزئ عن بنت اللبون، والجذع يجزئ عن الحقة، فعلى ذلك: فارق السن في
الذكر مقابل فضيلة الأنوثة. ففضيلة الأنوثة في بنت اللبون يقابلها فارق
السن في الحق. وفضيلة الأنوثة في الحقة يقابلها فارق السن في الجذع.
والمشهور عند الحنابلة: أنه لا يجزئ؛ وذلك لأن النص لم يرد، وليس هذا بمعنى
ما نص عليه، بل هناك فارق بين المسألتين.
والفرق: أن ابن اللبون إنما كان مقابلاً لبنت المخاض الأنثى، لأن فضيلته
ظاهرة، فإنه يرد الماء ويأكل الشجر ويمتنع عن صغار السباع، بخلاف بنت
المخاض، فإنها لا ترد الماء وتدفع عن نفسها صغار السباع، فكانت هذه فضيلة
فيه مع زيادة السن.
وليس هذا الفارق ثابتاً بين بنت اللبون وبين الحق، فإن بنت اللبون ترد
الماء وتأكل الشجر، وتمنع نفسها من صغار السباع، فالفضيلة الثانية في الحق
ثابتة فيها، فلم يبق إلا فارق السن، وحينئذ فلا يقابل الأنوثة، فإنه إنما
قابل الأنوثة في المسألة السابقة لأمر آخر، وهو أن ابن اللبون فيه فضيلة
قيامه بشأن نفسه مع فارق السن، وقيام الحق بشأن نفسه متوفر ببنت اللبون،
فلم يكن هناك فارق إلا زيادة السن.
فلذا الراجح ما ذهب إليه الحنابلة في المشهور عندهم، من أن الحق لا يجزئ عن
بنت اللبون ولا الجذع عن الحقة، وإنما يجزئ ابن للبون عن بنت المخاض؛ للنص
الوارد عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
قال: [وإذا كان النصاب كله ذكوراً]
فإذا كان النصاب كله ذكوراً، فإنه يجزئ أن
يخرج الذكر. فإذا كان لا يملك إلا ذكوراً من المعز، أو ذكوراً من البقر، أو
ذكوراً من الإبل، فإن الواجب عليه أن يخرج الذكر، ولا يجب أن يخرج الأنثى؛
قالوا: لأن المقصود من الزكاة هو المواساة – مواساة الفقير والغني -، فلا
يكلفها من غير ماله، لأنه ليس في ماله أنثى، فماله كله ذكوراً، فيخرج
حينئذٍ ذكراً. وهذا هو المشهور عند الحنابلة وغيرهم من أهل العلم.
وحكى صاحب الفروع قولاً في المسألة، أشار إليه بقوله: " قيل: - أي قول لبعض
الحنابلة، وهو وجه عن الشافعية – أنه يجب أن يخرج أنثى إذا كان النصاب كله
ذكراً، لكنها تكون قيمتها بقدر الذكر، فيقوم النصاب إناثاً، ويقوم ذكوراً
ثم تخرج الأنثى بقسطه، أي بالفارق بين الذكور وبين الإناث، فإذا كان الذكر
مثلاً يساوي ثمانمئة، والأنثى تساوي ألفا، فالفارق بينهما بقدر الخمس،
فحينئذ إن كانت قيمة بنت المخاض الواجب إخراجها في الأصل ألف، فإنه يخرج ما
قيمتها ثمانمئة.
هذا القول قول قوي؛ لعمومات النصوص، فقد قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم
فيما تقدم من حديث أبي بكر: (في كل أربع وعشرين من الإبل الغنم) ، وقال:
(في كل خمس وعشرين من الإبل بنت مخاض) ، فقوله: (في كل خمس وعشرين من
الإبل) (وفي كل ست وثلاثين من الإبل) عام فيما إذا كانت الإبل ذكوراً أو
إناثا.
لكنه لا يجب عليه أن يخرجها أنثى كما لو كان النصاب إناثاً؛ لأن الزكاة
تخرج عدلاً، فحينئذ تخرج أنثى لكن بقدر قيمة الذكر، أي يقوم النصاب ذكوراً
وإناثاً، ثم تخرج الأنثى بقسط ما بينهما.
هذا، وإن كان أهل القول الأول يمكنهم الخروج من العموم بأن يقولوا: بندرة
كون النصاب كله ذكوراً، فإن هذا من النادر، فخروجه من العموم لندرته.
لكن لا شك أن العمل بعموم النصوص الشرعية
أولى، والمقصود أن يكون المُخرج منظوراً فيه العدلية، وهذا يثبت بإخراج
الأنثى بقيمة الذكر.
إذاً: لا يجوز إخراج الذكر إلا في ثلاث مسائل:
المسألة الأولى: إذا بلغت البقر ثلاثين، فله أن يخرج تبيعاً أو تبيعة.
المسألة الثانية: إذا كان الواجب عليه بنت مخاض، ولم يجدها في ماله،فله أن
يخرج موضعها ابن لبون.
المسألة الثالثة: إذا كان النصاب كله ذكوراً، فيما تقدم في المشهور عند
الحنابلة، والأقوى ما تقدم ذكره. الله أعلم.
فصل
قال: [ويجب في أربعين من الغنم شاة]
إذا ملك أربعين من الغنم، فقد تم النصاب الزكوي فيها، فيجب عليه أن يخرج
شاة.
إذاً مادون الأربعين شَنق لا زكاة فيه.
قال: [وفي مئة وإحدى وعشرين شاتان]
فإذا بلغت مئة وإحدى وعشرين، ففيها شاتان.
قال: [وفي مئتين وواحدة، ثلاث شياه]
فإذا بلغت مئتين وواحدة، فالواجب عليه ثلاث شياه.
قال: [ثم في كل مئة شاة]
فإذا كان عنده أربعمئة شاة، فعليه أربع شياه، وإذا كان عنده خمسمئة شاة
فعليه خمس شياه.
إذاً في الأربعين شاة إلى مئة وعشرين.
فإذا بلغت مئة وإحدى وعشرين إلى مئتين، ففيها شاتان.
فإذا بلغت مئتين وواحد إلى ثملاثمئة ففيها ثلاث شياه.
ثم في كل مئة شاة.
ودليل هذا: ما تقدم سياق بعضه وهو حديث أبي بكر، وفيه: " وفي صدقة الغنم في
سائمتها إذا كانت أربعين إلى عشرين ومئة شاة، فإذا زادت على عشرين ومئة إلى
مئتين ففيها شاتان، فإذا زادت على مئتين إلى ثلاثمئة ففيها ثلاث شياه، ثم
في كل مئة شاة " (1) . فهذه صدقة الغنم.
وإذا كان النصاب الزكوي من الإبل أو البقر أو الغنم من نوعين، كأن تكون
الغنم معزاً وضأناً، أو أن تكون الإبل بخاتياً وعراباً، أو أن تكون البقر
بقراً وجواميساً، فإنه يخرج من أحد النوعين.
ولاختلاف القيمة المحتملة من النوعين، فإن
هذا المخرج يكون بقدر قيمة المالين، وكذا إذا كان المال سمان ومهازيل.
مثال ذلك: عنده عشرون شاة، كل شاة ثمنها خمسمئة ريال، وعنده عشرون معزاً
سعر الواحدة ثلاثمئة ريال، فيخرج شاة أو معزاً قيمتها أربعمئة ريال.
قال: [والخلطة تصير المالين كالواحد]
الخلطة في بهيمة الأنعام نوعان، وهو كذلك في كل خلطة، سواء في الأثمان أو
عروض التجارة أو الحبوب والثمار:
1- خلطة أعيان. 2- خلطة أوصاف.
خلطة الأعيان: أن يكون مال كل واحد منهما غير متميز عن مال الآخر، بل نصيب
كل واحدٍ منهما مشاعاً، كأن يكون عندهم مئة شاة، هذا له النصف وهذا له
النصف، أو هذا له الربع وهذا له الثلاثة أرباع، وهكذا.
أما خلطة الأوصاف: فهي أن يتميز مال كل واحد منهما عن الآخر، فشياه هذا
معروفة وشياه الآخر معروفة، لكنها مختلطة، فيما يأتي ذكره مما تثبت به
الخلطة.
فالخلطة تصير المالين مالاً واحداً بشرطين:
الشرط الأول: أن يكون كل واحد من المتخالطين أهلاً للزكاة، فإذا كان كافراً
فلا. فإن لم يكونوا أهلاً للزكاة أو لم يكن أحدهما كذلك نقصت بحسب ما ينقص
مما ليس أهلاً للزكاة أو لم تجب الزكاة أصلاً.
الشرط الثاني: أن يمر على الخلطة حولاً؛ لأن الخلطة جعلت المالين كالمال
الواحد، وحينئذ أصبح له حكم مستقل، فاشترط ما تقدم من مضي الحول.
إذا ثبت هذا: فلا إشكال في خلطة الأعيان، فهي ظاهرة واضحة، فهي أن يكون
لاثنين فأكثر مال يملكانه أو يملكونه مشاعاً.
وأما خلطة الأوصاف فشرط فيها الحنابلة شروطاً:
أن يكون مَسْرحها واحداً، أي موضعها الذي تخرج منه لترعى (1) .
أن يكون مرعاها واحداً.
أن يكون راعيها واحداً.
__________
(1) قال في الشرح الممتع لابن عثيمين رحمه الله تعالى [6 / 68] : " المسرح
أي يسرحن جميعاً ويرجعن جميعاً، فلا يسرح أحد غنمه يوم الأحد والثاني يوم
الاثنين ".
أن يكون مراحها واحداً، وهو الموضع الذي
تبيت فيه.
أن يكون الفحل الذي يطرقها واحداً، فإن تميز مال كل واحد منهما بفحل فلا.
إلا أن يكونا نوعين مختلفين، كالضأن والمعز، فهنا نوعان مختلفان، فلا يعتبر
هذا الشرط هنا.
أن يكون محلبها واحداً، يعني الموضع الذي تحلب فيه.
فقالوا: هذه شروط ستة، فإن هذه المواشي تكون خلطة حينئذ، فتؤخذ منها الزكاة
جميعاً وكأنها مال واحد. وحينئذ إذا اجتمع لرجلين أربعون شاة، فإنا إذا
نظرنا إلى مال كل واحد منهما، فإن الزكاة لا تجب، فكل واحد يملك عشرين شاة،
فلا زكاة عليها، وإذا نظرنا إلى المال الذي وقعت فيه الخلطة قلنا بوجوب
الزكاة، وهذا ما اعتبره الشارع، ففي حديث أبي بكر: " ولا يجمع بين متفرق
ولا يفرق بين مجتمع خشية الصدقة، وما كان من خليطين، فإنهما يتراجعان
بينهما بالسوية " (1) ، والنظر يدل على هذا، فإن الزكاة متعلقة بالمال ولذا
وجبت على الصبي والمجنون، وحيث ثبتت الخلطة المتقدمة، فإنها تصير المالين
مالاً واحداً، فتتعلق الزكاة بهذا المال، كما لو كان مالاً لرجل واحد.
إذاً: خلطة الأعيان وخلطة الأوصاف بالشروط المتقدمة تصير المالين مالاً
واحداً، وحينئذ تجب الزكاة في هذا المال، وإن كان نصيب كل واحد منهما لا
يبلغ نصاباً، فإن النظر إلى مجموع المال.
وفيما ذكروه من الشروط الست في خلطة الأوصاف شيء من النظر، والأظهر ما ذكره
صاحب الفروع في قوله: " ويتوجه أن ينظر في الخلطة إلى العرف "، فما ثبت في
العرف أنه خلطة تثبت به الأحكام، لأن الشرع أطلق، فقال: " وما كان من
خليطين "، فمتى ما ثبتت الخلطة عرفاً،فإن الحكم يثبت.
__________
(1) رواه البخاري وغيره، وقد تقدم.
والأظهر: عدم اعتبار مثل المحلب، فإن هذا
غير مؤثر في هذه المسألة، فالأظهر أن يقال: متى ما ثبتت الخلطة في
العرف،فإن الحكم يثبت. فإذا كان عرف الناس أن هذين المالين مختلطين وأنهما
كالمال الواحد، فإن الزكاة تجب فيهما على أنهما مال واحد.
وأما خلطة الأعيان، فإنه لا إشكال فيها، فالخلطة فيها ظاهرة جداً؛ لأن
المال لا يملكه كل واحد منهما متميزاً عن الآخر، فليس كل واحد منهما يملك
شياهاً متميزة عن شياه الآخر، بل هم يشتركون في هذه الشياه. إذاً: إذا ثبتت
الخلطة، فإن الزكاة تؤخذ من جميع المال، فإذا أخذت الزكاة، فإنهما يتراجعان
بينهما بالسوية.
مثال هذا: إذا كان المال الذي وقعت فيه الخلطة قدره أربعون شاة، لأحدهما
شاة، وللآخر تسع وثلاثون شاة، فأخذت شاة وقدرها أربعون درهم، فحينئذ يكون
الواجب على صاحب الشاة قدر درهم من هذه الشاة، وهكذا.
وإذا كان المال بينهما ثلاثاً، فأخرجت زكاة، فالواجب على كل واحد منهم
ثلثها، فتقوّم الشاة، وما كان من حق لأحدهما، فإنه يدفع له.
واختلف أهل العلم هل الخلطة خاصة بالمواشي أم هي عامة فيها وفي غيرها،
كعروض التجارة، والحبوب والثمار وغيرها مما تقع به الخلطة؟ قولان لأهل
العلم:
القول الأول، هو مذهب جماهير أهل العلم، وهو المشهور عند الحنابلة: أن
الخلطة لا حكم لها، ولا أثر لها في الزكاة هنا.
فلو أن لرجلين محل للتجارة، فإن على كل واحد منهما الزكاة بقدر ماله في هذا
الدكان، ثم يزكيه إن كان نصاباً.
وإذا اشترك مجموعة في مزرعة، فلكل واحد منهم نصيبه، فيخرج الزكاة فيه إن
بلغ نصاباً، وإلا فلا زكاة فيه.
قالوا: لأن النص إنما ورد عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم في خلطة
المواشي، وأما غيره فلم يرد فيه عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، والأصل
أن الزكاة في الواحد منفرداً أو مستقلاً عن مال غيره.
وعن الإمام أحمد: أن الخلطة مؤثرة في هذا
الباب، وهو مذهب الشافعية.
فإذا اشترك اثنان مثلاً في عقار للتجارة أو دكان أو في مزرعة، فإن الخلطة
مؤثرة، ويزكون على أنه مال واحد، وإن كان نصيب كل منهم لا يبلغ النصاب.
فلو أن أناساً عندهم نخل، ونصاب التمر خمسة أوسق، وهم عدد كثير بحيث أن
نصيب كل واحدٍ منهم لا يبلغ هذا، فحينئذ عليهم الزكاة. وهذا القول أظهر؛
لأن القياس في هذا ظاهر، ولأن الزكاة متعلقة بالمال، ولذا تجب في مال الصبي
والمجنون، فإذا اشترك اثنان في دكان، فالموضع واحد والبائع واحد، فإن هذا
يشبه اشتراكهم في المواشي في المرعى وفي المراح ونحو هذا مما تقدم، فالقياس
فيه ظاهر.
وقد يستدل على هذا: بأن السعاة لم يكونوا يستفصلون من أصحاب الحبوب
والثمار، أهي مشترك فيها أم لا، مع كثرة هذا، فالاشتراك في مثل هذا كثير.
والله أعلم.
وقد قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (لا يجمع بين متفرق ولا يفرق بين
مجتمع خشية الصدقة) .
إذا كان المال متفرق، هذا مال لزيد، وهذا مال لعمرو، وهذا مال لبكر، فلا
يجوز أن يجمع خشية الصدقة أي هروباً من الزكاة أو تخفيفاً منها.
فإذا كان هذا يملك أربعين شاة، وهذا يملك أربعين شاة، وهذا يملك أربعين
شاة، فمجموعها مئة وعشرين شاة لا يجب فيها إلا شاة واحدة، وحيث كانت مفرقة
فيجب في كل واحدةٍ منها شاة، فيكون الواجب في مجموعها ثلاث شياه، هذا لا
يجوز.
وعكسه لا يجوز، فإذا كان المال إذا جمع وجبت فيه زكاة أكثر، فتفريقه لتخفيف
الزكاة أو إسقاطها لا يجوز.
فمثلاً: الواجب في مئتين وعشرة من الغنم ثلاث شياه، فإذا اقتسماها، هذا له
مئة وخمس، والآخر له مئة وخمس، فلا يجب على كل واحد إلا شاة، فتسقط عنهم من
الثلاث شاة. هذا أمر لا يجوز؛ لأنه حيلة على المحرم، وقد تقدم الكلام على
تحريم الحيلة.
وهل يجمع مال الرجل الواحد إن كان في مواضع مختلفة؟
هذه المسألة فيها تفصيل:
- فإن كانت الأموال المتفرقة من المواشي أو الحبوب والثمار ونحوها - إن
كانت - ليس بينها مسافة قصر، فلا خلاف بين العلماء في إنه يضم بعضها إلى
بعض. فلو أن له مثلاً مواشي في شمال بلده وفي جنوبها وفي شرقها وما بينها
مسافة لا تقصر فيها الصلاة، فكلها في موضع واحد له حكم واحد من حيث قصر
الصلاة، فحينئذ يضم بعضها إلى بعض؛ لأن المال مال رجل واحد، وقد صلى الله
عليه وآله وسلم: (في كل أربعين من الغنم شاة) ، وهذا الرجل قد ملك أربعين
أو أكثر من ذلك، فوجب عليه قدر ذلك من الزكاة، وحينئذ فلا فرق بين أن يكون
ماله في موضع واحد أو في مواضع مختلفة.
فإذا كانت أمواله بينها مسافة قصر، كأن يكون له في هذه المدينة شياه، وله
في مدينة أخرى شياه أخرى، وفي مدينة ثالثة شياه ثالثة:
فالمشهور عند الحنابلة، هو رواية عن الإمام أحمد: أنه لا يضم بعضها إلى
بعض، واستدلوا بقوله: (ولا يجمع بين متفرق ولا يفرق بين مجتمع خشية الصدقة)
.
وعن الإمام أحمد، وهو مذهب جماهير العلماء: أنه يضم بعضه إلى بعض؛ لأن
المال مال رجل واحد.
وأما حديث (لا يفرق بين مجتمع ولا يجمع بين متفرق) ، فإن هذا إنما هو في
المالين إن كان لرجلين، فلا يجمع بينهما ولا يفرق خشية الصدقة. ومما يدل
على هذا: الإجماع على المسألة المتقدمة، فقد أجمعوا على أن المال إذا كان
متفرقاً وما بينهما مسافة لا يقصر فيها الصلاة، فإنه يجمع بينهما، على أن
الحديث مطلق، فدل على أن تفسيره كما تقدم، وهو أن يكون الأموال لأناس
مختلفين، فيجمعونها خشية الصدقة أو يفرقونها خشية الصدقة.
إذاً: الراجح ما ذهب إليه جماهير العلماء، وأن المال يضم بعضه إلى بعض سواء
كان بينه مسافة قصر أو لم يكن. كما أن مسافة القصر في هذا الباب لا معنى
لتأثيرها.
والحمد لله رب العالمين.
الدرس الأول بعد المئتين
(يوم الجمعة: 26 / 12 / 1415هـ)
باب زكاة الحبوب والثمار
قال تعالى: {يا أيها الذين آمنوا أنفقوا من طيبات من كسبتم ومما أخرجنا لكم
من الأرض} ، هذا هو الأصل في وجوب الزكاة فيها.
هذا الباب في زكاة الخارج من الأرض، وهي الحبوب من الزروع كالقمح والشعير
ونحوها، والثمار من الأشجار كالتمر والزبيب، فالحبوب من الزروع، والثمار من
الأشجار.
قال المؤلف: [تجب في الحبوب كلها ولو لم يكن قوتاً]
القوت: هو ما يقوم به غذاء الآدمي دون ما يطعمه الآدمي تأدماً وتنعماً،
كالشعير والحنطة والأرز ونحوها.
وهنا المؤلف لم يستثن الأطعمة، بل نص على أنه فرق بين الأطعمة وغيرها، وأنه
لا يشترط أن يكون مطعوماً مما يكون به غذاء الآدمي، فذكر أن الحبوب كلها
تجب فيها الزكاة سواء كانت مما يطعم كالقمح والأرز والشعير أو كانت مما لا
يطعم كحبوب الأدوية، كحب الرشاد والترمس ونحوها من الحبوب، فكل الحبوب تجب
فيها الزكاة، سواء كانت من طعام الآدمي من الأقوات أو كانت من طعامه من غير
الأقوات كحب الكمون ونحوه مما يوضع في الأطعمة أو كان من الأدوية فيما
يتداوى به الآدميون، أو كان من الحبوب التي توضع أدوية للزروع ونحوها.
هذا هو المشهور عند الحنابلة، واستدلوا بما روى البخاري في صحيحه أن النبي
صلى الله عليه وآله وسلم قال: (فيما سقت السماء والعيون أو كان عَثَرياً
العشر، وما سقي بالنضح فنصف العشر) (1) . والشاهد: قوله (فيما سقت السماء)
، قالوا: وهذا عام فتدخل فيه الحبوب كلها بأنواعها، سواء كانت مطعومة أو
غير مطعومة، وسيأتي مذهب جمهور أهل العلم في هذه المسألة إن شاء الله.
قال: [وفي كل ثمر يكال أو يدخر]
أي في كل حب وإن لم يكن قوتاً وفي كل ثمر بشرط، وهذا الشرط في الحبوب
والثمار، أن يكون مكيلاً مدخراً.
__________
(1) أخرجه البخاري في كتاب الزكاة، باب (55) العشر فيما يسقى من ماء السماء
وبالماء الجاري (1483) .
والمكيل: هو ما يقدر بالكيل أي بالصاع.
وأما الموزون فهو ما يقدر بالكيلو جرام.
ودليل اشتراط الكيل، قوله صلى الله عليه وآله وسلم في الصحيحين من حديث أبي
سعيد: (ليس فيما دون خمسة أوسق من تمر ولا حب صدقة) (1) ، والشاهد: قوله
(ليس فيما دون خمسة أوسق) ، فدل على اعتبار التوسيق أي الكيل، فالكيل معتبر
فيه. فما لم يكن مكيلاً من الحبوب أو الثمار، فإنه لا زكاة فيه.
والوزن متصور في الثمار، إذ الحبوب فيما يظهر لي مكيلة، إلا أن قول المؤلف:
" يكال " يدل على أنه يوجد هناك شيء من الحبوب - وإن كانت تخفى علينا -
توزن.
__________
(1) أخرجه البخاري في كتاب الزكاة، باب (56) ليس فيما دون خمسة أوسق صدقة
(1484) و (1405) بلفظ " ليس فيما أقل من خمسة أوسق صدقة.. " وفي باب (42)
ليس فيما دون خمس ذَوْد صدقة (1459) بلفظ " ليس فيما دون خمسة أوسق من
التمر صدقة.. " ومسلم (979) بلفظ " ليس فيما دون خمسة أوساق من تمر ولا حب
صدقة " في أول كتاب الزكاة.
فالشرط أن تكون مكيلة أي تقدر بالصاع،
فعليه: لا زكاة في الخضروات والفواكه؛ لأنها موزونة، وهذه هي سنة النبي صلى
الله عليه وآله وسلم وخلفائه من بعده، فإنهم لم يكونوا يأخذون من الخضروات
والفواكه الصدقة، وقد كان في المدينة شيء من ذلك، وفي الطائف ما هو أبين
وأظهر، ومع ذلك مع دواعي النقل، لم ينقل إلينا أنهم كانوا يأخذون منها
الصدقة. وأما ما رواه الترمذي من أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال:
(ليس في الخضروات صدقة) (1) ، فالحديث فيه الحسن بن عُمارة، وهو ضعيف جداً،
قال الترمذي: " لا يصح في
__________
(1) أخرجه الترمذي في كتاب الزكاة، باب (13) ما جاء في زكاة الخضروات (638)
بلفظ: " عن معاذ أنه كتب إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - يسأله عن
الخضراوات وهي البقول، فقال: (ليس فيها شيء) . قال أبو عيسى: " إسناد هذا
الحديث ليس بصحيح، وليس يصح في هذا الباب عن النبي - صلى الله عليه وسلم -
شيء، وإنما يُروى هذا عن موسى بن طلحة عن النبي - صلى الله عليه وسلم -
مرسلاً، والعمل على هذا عند أهل العلم: أن ليس في الخضراوات صدقة. قال أبو
عيسى: والحسن هو ابن عُمَارَة، وهو ضعيف عند أهل الحديث، ضعّفه شعبة وغيره،
,تركه ابن المبارك "، وانظر السنن الكبرى للبيهقي [4 / 216] رقم (7475) باب
(53) الصدقة فيما يزرعه الآدميون.. قال الألباني في الإرواء [3 / 277] : "
وقال الحاكم: وموسى بن طلحة تابعي كبير، لا ينكر أن يدرك أيام معاذ، ووافقه
الذهبي فقال: شرطهما، وقد تعقبه صاحب التنقيح بالانقطاع.. " ثم قال
الألباني رحمه الله: " لا وجه عندي لإعلال هذا السند بالإرسال، لأن موسى
إنما يرويه عن كتاب معاذ، ويصرح بأنه كان عنده فهي رواية من طريق الوجادة
وهي حجة على الراجح من أقوال علماء أصول الحديث، ولا قائل باشتراط اللقاء
مع صاحب الكتاب، وإنما يشترط الثقة بالكتاب وأنه غير مدخول ".
هذا الباب شيء، والعمل عليه عند أهل العلم
".
- وذهب الأحناف: إلى وجوب الصدقة فيها، واستدلوا بعمومات الأدلة، كحديث
(فيما سقت السماء..) ، والخضروات والفواكه قد سقتها السماء.
لكن هذا ضعيف؛ لأن سنة النبي صلى الله عليه وآله وسلم الفعلية المتقدم
ذكرها وما جرى عليه عمل المسلمين في المدينة، وكان الإمام مالك من القائلين
بهذا، فهي السنة التي كانت في المدينة النبوية وغيرها من بلاد المسلمين
الموروثة عن أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن النبي صلى الله عليه
وآله وسلم هو خلاف هذا، وأنها لا تؤخذ منها الصدقة.
كما أن الدواعي متوفرة على نقل ذلك لو ثبت، ومع ذلك لم يثبت.
وأصرح في الاستدلال ما ثبت في مستدرك الحاكم ومعجم الطبراني بإسناد صحيح أن
النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال لمعاذ بن جبل ولموسى الأشعري: (لا
تأخذوا الصدقة إلا من هذه الأصناف: الشعير والحنطة والزبيب والتمر) (1) ،
فهذا مخصص ظاهر.
فهنا لا زكاة في الخضروات والفواكه.
إذاً الشرط الأول: أن تكون مكيلة.
الشرط الثاني: أن تكون مدخرة، والمدخر هو ما ييبس فيبقى، كالحبوب والزبيب
والتمر، فإنها تزول رطوبتها وتكون يابسة، فتبقى مدة زمنية طويلة.
والفواكه والخضروات ليست مما يدخر، في الطبيعة في الأصل، وأما في هذه
العصور، لتقدم المادة، فيمكن فعله، لكن هذا خلاف الأصل فيها.
__________
(1) أخرجه البيهقي في كتاب الزكاة، باب (48) لا تؤخذ صدقة شيء من الشجر غير
النخل والعنب (7451) بلفظ: " عن أبي موسى ومعاذ بن جبل أن رسول الله - صلى
الله عليه وسلم - بعثهما إلى اليمن، فأمرهما أن يعلما الناس أمر
دينهم،وقال: (لا تأخذوا في الصدقة إلا من هذه الأصناف الأربعة: الشعير
والحنطة والزبيب والتمر "، وأخرجه أيضاً في معرفة السنن (2325) ، والحاكم
في المستدرك [1 / 401] ، والدارقطني [2 / 98] . السنن الكبرى للبيهقي [4 /
210] .
واختلف في الاقتيات، هل يشترط أم لا؟
فقال الحنابلة: لا يشترط كما تقدم، ولذا قال المؤلف هنا: " ولو لم تكن
قوتاً "، فعلى ذلك: كل ما يكال ويدخر وإن لم يكن مطعوماً، فإن الزكاة تجب
فيه.
وقال الشافعية والمالكية: يشترط الاقتيات؛ وذلك لأن النبي صلى الله عليه
وآله وسلم قال: (لا تأخذوا الصدقة إلا من هذه الأصناف) ، وذكر الشعير
والحنطة والزبيب والتمر، وكلها مما يقتات أي مما يطعم. هذا القول هو
الراجح؛ لأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم خص الزكاة في هذه الأصناف
الأربعة، فلا تجب الزكاة إلا فيها أو في نظيرها أو شبيهها، وشبيهها هو
المكيل المدخر المقتات، فكل هذه الأصناف الأربعة مكيلة ومدخرة ومقتاتة.
وهذا هو دليل الجمهور على اشتراط الادخار والكيل، فإن هذه الأصناف الأربعة
كلها مكيلة ومدخرة.
وعن الإمام أحمد: أن الزكاة محصورة في هذه الأصناف الأربعة، فلا تجب الزكاة
في غيرها.
وهذه الرواية ضعيفة؛ وذلك لأن هذا يخالف ما دلت عليه الأدلة من القياس،
والشريعة لا تفرق بين المتماثلات، وقد جاء الإسلام بالميزان من إلحاق
النظير بنظيره والشبيه بشبيهه.
فهذه الأصناف الأربعة لا تجب الزكاة إلا فيها أو ما يقاس عليها. هذا هو
مذهب جماهير العلماء، وهو المشهور عن الإمام أحمد؛ وذلك بتوفر ثلاث شروط:
1- أن تكون مكيلة. 2- أن تكون مدخرة. 3- أن تكون مقتاتة، وهذا الشرط فيه
خلاف من الحنابلة، والراجح ما تقدم. (1)
قال: [ويعتبر بلوغ نصاب قدره ألف وستمئة رطل عراقي (2) ]
" رطلاً ": يصح، بكسر الراء وفتحها.
الرطل: عند العرب ما يساوي اثنتي عشرة أوقية.
__________
(1) في حاشية المذكرة ما نصه: " واختار شيخ الإسلام: أن المعتبر هو
الادخار، وأنه لا عبرة بالكيل، وإنما اعتبر في باب الربا لاعتبار التساوي،
بخلافه هنا ". انظر حاشية الشرح الممتع [6 / 75] .
(2) في الأصل: " رطلاً عراقياً ".
والأوقية: وزن أربعين درهما. وهو من
الموازين القديمة.
وهذا النصاب، وهو " ألف وستمئة رطل عراقي " إيضاح من المؤلف وغيرها للقدر
المشهور في زمانهم، وإلا فإن النصاب الوارد عن النبي صلى الله عليه وآله
وسلم هو ما تقدم وأنه خمسة أوسق، لقوله: (ليس فيما دون خمسة أوسق صدقة) ،
والوسْق: يساوي ستين صاعاً نبوياً. فعلى ذلك: النصاب ثلاثمئة صاع نبوي.
والصاع النبوي يساوي بالكيلو جرام = كيلوين وأربعين جراماً. فعلى ذلك:
النصاب يساوي ستمئة واثني عشر كيلوجرام، وهو أكثر من نصف الطن.
فعلى ذلك: من ملك ثلاثمئة صاع نبوي ويساوي بالصيعان الموجودة عندنا = مئتين
وأربعين صاعاً، فإن الصاع النبوي يساوي أربعة أخماس الصاع المعاصر، فإن
الزكاة تجب عليه. هذا هو نصاب الحبوب والثمار.
والوسْق: يساوي ستين صاعاً نبوياً، وقد أجمع الفقهاء على هذا، فعلى ذلك: هم
متفقون ومجمعون على أن النصاب في الحبوب والثمار ثلاثمئة صاع.
قال: [وتضم ثمر العام الواحد بعضها إلى بعض في تكميل النصاب]
فلو أن رجلاً عنده نخيل، اختلف بدو صلاحها، فهذه المجموعة من النخيل بدا
صلاحها في أوله، وهذه في أوسطه، وهذه في آخره، هذا يختلف باختلاف أنواع
النخيل، وكذلك في أنواع القمح والشعير، فإنه يضم الثمر أو يضم الحب وتجب
الزكاة فيها جميعاً.
فعلى ذلك: لو كان عنده نخيل، قد بدا صلاح بعضها في أول الشهر، وهو لا يبلغ
النصاب، وبدا صلاح المجموعة الأخرى من نخيله في آخر الشهر، وبها يكتمل
النصاب، فإن الزكاة تجب عليه.
فالتمر له أنواع، وكذلك القمح، فهذه الأنواع يضم بعضها إلى بعض في تكميل
النصاب، فلا يعتبر كل نوع منها جنس مختلف عن الجنس الآخر، فتجب الزكاة فيه
دون غيره، فإن لم يتم نصاباً فلا زكاة، بل يضم بعضها إلى بعضه ويكمل
النصاب.
إذاً: الجنس الواحد من الحبوب أو الثمار
يضم بعضه إلى بعض، وإن اختلفت الأنواع، وإن اختلف الزمن في بدو صلاحها؛
لأنها ثمرة عام واحد، ولأنها داخلة في الجنس نفسه الذي أوجب النبي صلى الله
عليه وآله وسلم فيه الزكاة، ففي قوله (لا تأخذوا الصدقة إلا من هذه الأصناف
الأربعة: الشعير..) ظاهره أن كل نوع من أنواع الشعير له حكم الآخر في إيجاب
الزكاة، فتكمل به النصاب، كما تقدم هذا في الإبل من بخاتي وعربي، وفي الغنم
من معز وضأن، فهي أنواع مختلفة، لكنها يجمعها اسم واحد فهي داخلة تحت جنس
واحد.
قال: [لا جنس إلى آخر]
فلا يضم الجنس إلى آخر غيره، فإذا كان عنده شعير لا يتم نصاباً، وعنده قمح
لا يتم نصاباً، وباجتماعهما يتم النصاب، فإن الزكاة لا تجب عليه، فلا يُكمل
جنس بجنس آخر، فلا يكمل الزبيب بالتمر، ولا الشعير بالحنطة، ولا الأرز
بالذرة، أو نحو ذلك.
هذه إحدى الروايات عن الإمام أحمد.
والرواية الثانية: أن الأجناس يضم بعضها إلى بعض في الحبوب.
والرواية الثالثة: أن الحنطة تضم إلى الشعير، وأن القطنيات المراد به ما
يقطن في البيت ويمكث ويدخر من أرز وذرة ونحو ذلك، هذه يضم بعضها إلى بعض،
فأفرد الشعير والقمح بالضم دون غيره.
والقطنيات الأخرى يضم بعضها إلى بعض، فالشعير والحنطة جنس واحد، والقطنيات
جنس واحد.
وهذا ضعيف؛ لأنه تفريق بين هذه الأجناس بلا مفرق.
والقول الأول، وهو الذي ذكره المؤلف هو الرواية المشهورة عن الإمام أحمد في
المذهب، وهو مذهب جمهور العلماء: من أن أجناس الحبوب لا يضم بعضها إلى بعض؛
قياساً على الثمار والمواشي باتفاق العلماء، فلا خلاف بينهم في ذلك، فكذلك
الحبوب ذوات الأجناس المختلفة.
وهذا ظاهر الأحاديث الواردة، كقوله صلى
الله عليه وآله وسلم: (لا تأخذوا الصدقة إلا من هذه الأصناف الأربعة:
الشعير والحنطة) ، فظاهره أنهما جنسان مختلفان، وأن لكل منهما زكاته.
وأما الرواية الأخرى عن الإمام أحمد، وهي مذهب طائفة من التابعين: من أن
الحبوب يضم بعضها إلى بعض. فقالوا: هي متفقة في قدر النصاب، وهي متفقة في
قدر المخرج، فالمخرج في الحبوب واحد، وهو العشر أو نصفه، فيضم بعضها إلى
بعض.
وهذا ضعيف؛ لأن اجتماعهما في اتحاد النصاب وفي اتحاد المخرج ليس بمؤثر،
فالشارع إنما جعل نصابها واحد، وجعل القدر المخرج واحد؛ لأنهما متشابهان في
ماليتهما، أما أن يضم بعضها إلى بعض فلا.
وهذا منتقض عليهم بالثمار، فإن الثمار كالزبيب مثلاً نصابه ثلاثمئة صاع،
والقدر المخرج هو العشر أو نصفه، والتمر كذلك، ومع ذلك فقد اتفق العلماء
على أن الثمار لا يضم بعضها إلى بعض، فينتقض قياسهم بالثمار، فهم لا يقولون
بها.
وأما الرواية الثالثة، فقد تقدم تضعيفها، وهي مذهب الإمام مالك، فعلى ذلك:
أصح الأقوال ما ذهب إليه الجمهور، وهو المذهب من أن الحبوب لا يضم بعضها
إلى بعض كالثمار.
إذاً لا خلاف بين العلماء في أن الثمار لا يضم بعضها إلى بعض، فلا يضم
الزبيب إلى الثمر، كما أنه لا خلاف بينهم في أن المواشي لا يضم بعضها إلى
بعض، فلا تضم الإبل إلى البقر على أنها بُدن، ولا تضم الإبل إلى الشياه.
واختلفوا في الحبوب على ثلاثة أقوال، هي روايات عن الإمام أحمد، وأصحها
القول الأول من أن الأجناس المختلفة من الحبوب لا يضم بعضها إلى بعض، وهو
ظاهر الأدلة الشرعية، ويدل عليها القياس.
قال: [ويعتبر أن يكون النصاب مملوكاً له، وقت وجوب الزكاة]
هذا شرط ظاهر، يدخل فيما في ما تقدم من اشتراط ملكية النصاب، فلابد من أن
يكون النصاب مملوكاً لمن أوجبنا عليه الزكاة، وأن تكون الملكية وقت وجوب
الزكاة.
ووقتها هو بدو صلاح الثمر، واشتداد الحب في
الزرع، فإذا اشتد الحب وبدا صلاح الثمر، فإن الزكاة تجب. فعليه: لو اشترى
بستانا قبل أن يبدو الصلاح في الثمر أو اشترى زرعاً قبل أن يشتد حبه، واشتد
الحب وبدا صلاح الثمر في ملكيته وإن كان لم يشتر إلا قبل أيام يسيرة، فإن
الزكاة تجب عليه؛ لأنه قد ملكه وقت الزكاة، ولا نظر للحولية في باب الثمار
والحبوب، فإن الله يقول: {وآتوا حقه يوم حصاده} (1) .
ولو باعه وقد اشتد الحب وبدا صلاح الثمر، فإن الزكاة تجب على البائع؛ لأن
الزكاة تعلقت بذمته قبل البيع، فتجب عليه الزكاة. وحاصل هذا: أنه يشترط أن
يكون مالكاً للنصاب الزكوي من الحبوب والثمار عند وقت الزكاة، وهو بدو
الصلاح في الثمر واشتداد الحب في الزرع، فمن كان مالكاً له حينئذ، فإن
الزكاة عليه.
فلو ورث من أبيه زرعاً وقد اشتد حبه، فإن الزكاة لا تجب عليه، وإنما تجب
على المورث.
أو وهبه رجل زرعاً وقد اشتد حبه، فإن الزكاة تجب على الواهب. ولذا قال -
وهي مرتبة على هذه المسألة -:
[فلا تجب فيما يكتسبه اللّقّاط]
يعني: رجل لقط فجمع الشيء الكثير فبلغ نصاباً، فإن الزكاة لا تجب عليه؛ لأن
قد ملكه بعد وقت الزكاة.
[أو يأخذه بحصاده]
رجل اتفق مع صاحب الزرع أن يحصد له وأن يأخذ منه مقابل حصيده (2) طناً من
القمح، فلا تجب الزكاة فيه؛ لأنه لم يملكه عند وقت الزكاة.
وكذا لو كانت الأجرة على شيء آخر غير الحصاد.
فالمقصود من ذلك: أن الحصاد ونحوه مما يأخذه من الزرع مقابل حصاده أو غيره
لا تجب عليه فيه الزكاة إن بلغ نصاباً.
قال: [ولا فيما يجتنيه من المباح كالبُطم]
البُطم: شجر ينبت في البلاد الشامية من فصيلة الفستق ونحوه، وهذا ينبت في
الأرض من غير أن يزرعه الآدمي، فهو من النبات المباح، فليس مملوكاً،
والزكاة إنما تجب في المملوك، وهذا مباح فلا تجب فيه الزكاة.
__________
(1) سورة الأنعام.
قال: [ولا الزَّعبل]
وهو شعير الجبل؛ وذلك لأنه ليس بمملوك، فلا تجب فيه الزكاة.
قال: [وبِزْرُ قُطُونا]
ذكر الشيخ محمد بن عثيمين عن الشيخ عبد الرحمن بن سعدي أنه الربلة المشهورة
من أعشاب البر، وهكذا في تعريف العرب من غير تخصيص، قالوا: هو نبات عشبي.
قال: [ولو نبت في أرضه]
فكل هذه النباتات المباحة التي لا يملكها أحد، وإنما تنبت بغير صنع الآدمي
لا تجب فيها الزكاة، ولو نبت في أرضه، أي ولو كانت الأرض مملوكة له؛ وذلك
لأنه لا يملك الزرع بملكية أرضه، فإن المباح مباح ولو ملكت أرضه، لكن صاحب
الأرض أحق به من غيره من غير أن يمتلكه.
وقوله " ولو " هنا: إشارة إلى خلاف، وهو خلاف للقاضي من الحنابلة.
فإنه قال: إذا كان النبات الذي لا يكون من صنع الآدمي إذا نبت في أرض
مملوكة، فتجب فيه الزكاة؛ لأنه مملوك بملكية الأرض التي نبت فيها.
وهذا ضعيف، فإن النابت في الأرض من المباحات لا يمتلك بامتلاك أرضه، بل
يبقى مباحاً، فليس له أن يمنع غيره منه، لكنه أحق به من غيره، كما سيأتي
تقريره في موضعه إن شاء الله تعالى.
فعلى ذلك: المباحات التي تنبت في الأرض من عشب أو شجر ونحوها لا تجب فيها
الزكاة، وإن بلغت نصاباً؛ لأنها لا تملك، والشرط في المزكى أن يكون
مملوكاً. هذا ولو كانت الأرض مملوكة له؛ لأن المباح يبقى مباحاً وإن ملكت
الأرض، فإن الملكية إنما هي ثابتة في الأرض لا في النبات، وإن كان صاحب
الأرض أحق به من غيره، لكن هذه أحقية وليست بملك.
والحمد لله رب العالمين.
فصل
هذا الفصل في القدر الواجب إخراجه في صدقة الحبوب والثمار ومسائل أخرى.
قال: [يجب عُشْر فيما سُقي بلا مؤنة]
والمؤنة: هي الكلفة والشدة والتعب، فإن سقى
الزرع أو الشجر بلا كلفة، كأن يسقي من مياه الأمطار أو الأنهار أو العيون
أو كان بعْلاً يعثر على الماء بجذوره أو كان عثرياً ينبت حول المستنقعات،
فإن هذا الزرع والشجر لا مؤنة فيه، أي لا شدة ولا كلفة فيه، فيجب فيه
العشر؛ لقوله صلى الله عليه وآله وسلم فيما رواه البخاري في صحيحه وقد
تقدم: (فيما سقت السماء والعيون أو كان عثرياً) (1) ، وعند أبي داود: (أو
كان بعلاً ففيه العشر) (2) .
والكلفة التي يجدها المزارع من تفجير الماء وحفر الأرض لنقل مياه الأنهار
إلى أرضه، وحفر السواقي ونحو ذلك هذا لا يؤثر في هذه المسألة، فهو من جنس
حرث الأرض.
فتصريف المياه بحفر الأرض وإصلاحها لجريان الماء من موضع إلى موضع في
المزرعة وفي البستان وأيضا جريان الماء من النهر أو العين إلى بستانه، هذه
كلفة لا تؤثرها؛ لأنها من جنس حرث الأرض؛ ولأن الكلفة فيها لا تكرر مع
الأعوام، فإنه متى ما أصلح أرضه فأصلح السواقي منها وحفر الأرض من النهر
إليها أو من العيون إليها، فإن هذا لا يتكرر، وإن كان يحتاج إلى شيء من
الإصلاح اليسير، فيجب عليه العشر.
.. (3) وإن كان حبه أو ثمرة خمسة أوسق فيه نصف وسْق.
فعليه في ثلاثمئة صاع من التمر – عليه -ثلاثون صاعاً.
قال: [ونصفه معها]
__________
(1) أخرجه البخاري في كتاب الزكاة باب (55) (1438) وقد تقدم صْ 36.
(2) أخرجه أبو داود في كتاب الزكاة، باب (11) صدقة الزرع (1596) عن سالم بن
عبد الله عن أبيه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (فيما سقت
السماء والأنهار والعيون أو كان بعلاً العشر، وفيما سقي بالسواني..)
(3) بياض في المذكرة بما يقارب الكلمة.
أي نصفه مع المؤنة، المؤنة هنا: الكلفة في
إخراج الماء من الأرض أو رفعه كأن يكون النهر منخفضاً انخفاضاً ظاهراً عن
بستانه، فيحتاج إلى آلات أو نواضح لرفع الماء من النهر أو من العيون إلى
أرضه.
أو كانت آباراً، فيضع الآلات ونحوها، كما في هذا العصر من مكائن ونحو ذلك،
فيضعها على البئر لاستخراج الماء.
فإذا كان الماء يحتاج إلى استخراج من الآبار أو إلى رفع من الأنهار ونحوها
أي برفع ظاهر يحتاج منه كما يحتاج إلى رفع الماء من الآبار، فهذه الكلفة
تسقط عنه نصف العشر، فلا تجب عليه إلا نصف العشر.
فعليه في ثلاثمئة صاع عليه خمسة عشر صاعاً.
إذاً: إن كانت عليه مؤنة في السقي، فعليه نصف العشر، والمؤنة كما تقدم هي:
الكلفة التي يجدها المزارع في إخراج المياه أو في رفعها. ودليله قوله صلى
الله عليه وآله وسلم في تمام الحديث المتقدم: (وما سقي بالنضح ففيه نصف
العشر) .
قال: [وثلاثة أرباعه بهما]
فإن كان الزارع يسقي بمؤنة وبغير مؤنة، وهما متناصفان، أي بمعنى أنه قد
انتفع بالمؤنة انتفاعاً يساوي الانتفاع بغير المؤنة، فليس الاعتبار هنا
بالمدة، فلو كان الزرع مثلاً مؤنته ستة أشهر، وكان في الثلاثة الأشهر
الأولى سقيه بلا مؤنة وفي الثلاثة الأشهر الأخرى بمؤنة، هذا لا اعتبار له؛
لأن حاجة الزرع والثمر إلى الماء تختلف من وقت إلى آخر، فالاعتبار هنا
بالنفع والنمو. فإذا تساويا بأن كان انتفاع الزرع ونموه بالمؤنة وبغير
المؤنة متساوياً، فإنه يجب عليه ثلاثة أرباع العشر، وهذا باتفاق العلماء.
والنظر - كما هو ظاهر - يدل عليه، فهي من باب المقاسطة، وقد تقدم نظيرها.
والاعتبار هنا كما تقدم بالنفع والنمو لا بالمدة، هذا هو المشهور في
المذهب.
وقيل: الاعتبار بالمدة. وهو ضعيف كما تقدم؛ لأن حاجة الزرع إلى الماء تختلف
من وقت إلى آخر. قاله في المغني.
قال: [فإن تفاوتا فبأكثرهما نفعاً]
إذا كان انتفاعه بالسقي بغير مؤنة كمياه
الأمطار ونحوها - انتفاعه - به أكثر من انتفاعه بسقيه بمؤنة، فإنها حينئذ
ننظر إلى الأغلب فحينئذ نوجب عليه العشر؛ لأن الأغلب هو سقيه بلا مؤنة.
والعكس بالعكس، فإذا كان انتفاعه بمؤنة وكلفة أكثر من انتفاعه بلا مؤنة،
فالواجب عليه نصف العشر.
فإذاً: يجب عليه العشر أو نصفه حكماً للأغلب، هذا هو المشهور عند الحنابلة.
- وقال الشافعية، وهو قول ابن حامد من الحنابلة: يجب بالقسط قياساً على ما
إذا تساويا، فكما أنهما إذا تساويا حكمنا بالقسط ولذا أوجبنا عليه ثلاثة
أرباع العشر، فكذلك إذا اختلفا، حكمنا بالقسط.
مثال هذا: إذا كان سقيه بمؤنة يقابل ثلث نفعه ونموه، بينما سقيه بلا مؤنة
يقابل الثلثين، فقد سقي بلا مؤنة أكثر من سقيه بمؤنة بمقدار الضعف، فيجب
عليه في الثلث الذي قد سقي بمؤنة - يجب عليه - ثلث نصف العشر، وهو سدس
العشر، وفي الآخر يجب عليه ثلثا العشر، وهو أربعة أسداسه. فعلى ذلك: يجب
عليه خمسة أسداس العشر، وهكذا.
وهذا القول أقيس؛ لما تقدم، فإنهم قد اتفقوا على أنه إذا سقى بمؤنة وبغير
مؤنة على وجه التساوي أن الواجب عليه ثلاثة أرباع العشر، فهذا عمل القسط،
فكذلك إذا تفاوتا. فالأظهر ما ذهب إليه الشافعية، وهو قول ابن حامد، أنا
نحكم بالقسط.
قال: [ومع الجهل العشر]
فإذا جهل، فلا يدري هل السقي بمؤنة أكثر نفعا ونمواً من السقي بلا مؤنة أم
العكس، فهو لا يدري أيهما أكثر نفعاً.
قالوا: فيجب عليه العشر؛ قالوا: لأن الأصل هو العشر، والكلفة مع ثبوتها
تنقصه إلى (1) العشر، والكلفة هنا غير معلومة، فيبقى على الأصل.
__________
(1) كذا في الأصل ولعل الصواب: عن.
وهذا ضعيف؛ فإن الحكم بأن الأصل هو العشر
لا دليل عليه، بل كلاهما أصل منفرد، فالعشر أصل منفرد، ونصف العشر أصل
منفرد، فإذا كان الزرع يسقى بمؤنة ففيه نصف العشر، وإذا كان يسقى بغير مؤنة
ففيه العشر، وكلاهما أصل منفرد، ولا دليل على تعيين أحدهما أصلاً، ولا نظر
أيضاً يدل على هذا، فإن الزروع والأشجار منها ما يسقى بمؤنة، ومنها ما يسقى
بلا مؤنة، فأوجب النبي صلى الله عليه وآله وسلم فيما سقي بمؤنة كذا، وفيما
سقي بلا مؤنة كذا، فكلاهما أصل.
- قال صاحب الفروع: " ويتوجه احتمال: فيه ثلاثة أرباع العشر لتقابلهما ".
وهذا هو الأظهر، وهو مذهب الشافعية، وأن الواجب فيه ثلاثة أرباع العشر؛
لأنهما يتقابلان، فكما لو تساويا، فنحن نجهل أيهما الأغلب، فحينئذ لهما حكم
التساوي لتقابلهما، ولأن كليهما أصل منفرد، كما تقدم.
فمذهب الشافعية هو الأظهر، وقد وجهه صاحب الفروع - وجهه - احتمالاً: أن
الواجب عليه ثلاثة أرباع العشر.
قال: [وإذا اشتد الحب وبدا صلاح الثمر وجبت الزكاة]
فإذا اشتد الحب وأصبح قويا صلباً.
وبدا صلاح الثمر بأن تحمر أو تصفر ثمار النخيل أو يتموه العنب فيطيب أكله.
هذا هو بدو صلاحه.
فإذا بدا صلاح الثمر واشتد الحب، وجبت الزكاة؛ لما تقدم في درس سابق، لكن
قال:
[ولا يستقر الوجوب إلا بجعلها في البَيْدر]
البَيْدر: هو الموضع الذي تجمع فيه الثمار والحبوب، أما الحبوب فلتصفيتها
وإزالة القشر عنها.
وأما الثمار فلتجفيفها لتذهب عنها الرطوبة، فتكون جافة كما يكون هذا في
الرطب، ليكون تمراً، وفي العنب ليكون زبيباً.
فإذا وضعت في البيدر فقد تم الحصاد أو الجداد، فحينئذ تستقر الزكاة في
الذمة.
وعليه قال: [فإن تلفت قبله بغير تعد منه سقطت]
فإذا تفلت قبل وضعها في البيدر بغير تعد منه، فإنها تسقط عنه؛ لأنها لم
تستقر بعد في ذمته.
إذاً: إذا بدا صلاح الثمر واشتد الحب ولم
يوضع بعد في البيدر، فلم يحصد الزرع، ولم يجد الثمر، فإن الزكاة لم تستقر
بعد في ذمته، وإن كان الوجوب قد تعلق ببدو الصلاح وباشتداد الحب، لكن
الزكاة لم تستقر بعد في ذمة صاحب المال.
فلو حصل له تلف بغير تعد منه ولا تفريط، فإن الزكاة تسقط عنه؛ لأنه في حكم
ما لم يثبت عليه اليد، فما دام الرطب على رؤوس النخل والحب في سنبله، فإنه
بعد لم يتم ثبوت يد صاحبه عليه، فإذا حصل فيه تلف، كأن يحترق الزرع أو حصل
للنخيل جائحة، فإن الزكاة تسقط عنه؛ لأنها لم تستقر بعد في ذمته.
أما إذا وضعه في البيدر، فقد استقرت الزكاة في ذمته، فإذا تلف، ولو كان هذا
التلف بغير تعد منه، فإن الزكاة تبقى وتتعلق في ذمته.
وهذا كله على القول بمسألتين:
المسألة الأولى: وقد تقدم أن الراجح خلافها، وهي أن الزكاة تجب قبل التمكن
من أدائها.
والصحيح أن الزكاة لا تجب إلا بعد التمكن من أدائها، ومتى يمكنه أن يؤدي
التمر والزبيب والحب؟ إنما يمكنه ذلك إذا صُفي الحب تماماً وزال ما فيه من
قشور وجهز لبيعه أو للانتفاع به، فحينئذ يكون قد تمكن من أداء زكاته، وهذا
هو وقت إخراجه عند الحنابلة وغيرهم، فإن وقت الإخراج هو تصفية الحب وجفاف
الثمر، فإذا جف الثمر فأصبح الرطب تمراً وأصبح العنب زبيباً، فهذا هو وقت
الإخراج، وهذا الوقت هو وقت التمكن، فإن صاحب المال إنما يتمكن من أداء
زكاة ماله إذا وجد وقت الإخراج.
فإذا وجد وقت الإخراج ولم يخرج فحينئذ تتعلق الزكاة بذمته، فإذا صفى الحب
وجفف الثمر ثم فرط فحصل تلف للزرع، فحينئذ تجب عليه الزكاة؛ لأن الزكاة قد
استقرت في ذمته حينئذ لتمكنه من أدائها.
إذاً: الراجح ما تقدم، وهو رواية عن الإمام
أحمد: أن الزكاة لا تجب إلا عند التمكن من أدائها، وعليه فلا تتعلق الزكاة
بذمته ولا تستقر إلا إذا تمكن من أدائها، وذلك بعد تصفية الحب وجفاف الثمر.
أما الحنابلة في المشهور عندهم: فإن وقت استقرار الزكاة في ذمته إنما هو
وضعها في البيدر، ووقت الإخراج تصفية الحب وجفاف الثمر، فتستقر في ذمته وإن
لم يأت وقت إخراجها. والراجح ما تقدم.
المسألة الثانية:
وقد تقدم ذكرها أن الزكاة بمعنى الأمانة، فإذا استقرت في ذمته ثم تلفت بغير
تفريط منه ولا تعد، فإنها تسقط عنه؛ لأنها في حكم الأمانة، كما تقدم، وهو
اختيار شيخ الإسلام، واختيار الموفق.
فعليه: إذا صُفي الحب وأراد إخراجه، لكن تلف قبل إخراجه وهو لم يفرط، فإن
الزكاة تسقط عنه؛ لأن الزكاة في يده كالأمانة.
فعلى ذلك: وقت وجوب الزكاة اشتداد الحب وصلاح الثمر.
ووقت استقرارها في الذمة عند الحنابلة إذا وضعت في البيدر.
والراجح أنها لا تستقر في ذمته حتى وإن وضعت في البيدر حتى يصفى الحب ويجفف
الثمر، ويتمكن من الأداء، كما تقدم.
والراجح أنه إن حدث تلف في الزكاة بغير تعد منه ولا تفريط، فإن الزكاة تسقط
عنه مطلقاً، وإن كان ذلك بعد استقرارها في ذمته؛ لأنها كالأمانة، والأمانة
إن تلفت بغير تعدٍ من المؤتمن فإنها تسقط.
قال: [ويجب العشر على مستأجر الأرض دون مالكها]
فإذا استأجر زيد من عمرو أرضاً فزرعها أو
غرس فيها نخيلاً، فالأرض ليست ملكاً له، وإنما ملكيته ثابتة إما على الثمار
دون أصولها كما يقع هذا في النخيل، وإما أن يكون مالكاً للثمر وأصله، أي
للرطب والنخيل، أو يستأجر أرضاً فيزرعها، فيكون مالكاً للزرع، فالزكاة تجب
على المستأجر؛ لأن الزكاة متعلقة بالمال المزكى، والمال المزكى إنما هو
الحب أو الثمر، والحب والثمر مملوك للمستأجر دون صاحب الأرض. وهذا باتفاق
العلماء، فلا خلاف بينهم في هذا.
وهنا مسألة لم يذكرها المؤلف:
وهي مسألة الخرص، وهي مختصة بالثمار دون الحبوب، إذ الحبوب لا خرص فيها.
والخرص: هو أن يطيف الخارص، وهو من له خبرة بالخرص، يطيف بالنخل أو بشجر
العنب، فينظر إلى ما فيها من ثمر ويقدره أوسقاً.
كأن يقول: في هذه النخلة عشرة آصع رطب، وفي هذه تسعة آصع رطب، وهكذا، ثم
يقدر كم تجيء تمراً، وفي العنب وكم تجيء زبيباً، هذا هو الخرص.
فالخرص: أن يأتي إلى بستان النخيل أو إلى بستان شجر العنب فينظر إلى
الأشجار من النخيل والعنب، فيقدر ما فيها من ثمر، ثم بعد ذلك يقدر ما يجيء
هذا الثمر من زبيب أو تمر.
فالنخلة مثلا يجيء فيها عشرة آصع رطب، فإذا خف، فإنه يكون سبعة آصع تمراً.
وإذا اختلفت الأنواع بحيث إنه يختلف، فما خف منها، فإنه يحتاج أن يقدر كل
نوع بمفرده.
فالخرص إذاً: أن يقدر الرطب وهو في النخل وأن يقدر العنب وهو في شجره، يقدر
بالأوسق ثم يقدر ما يجيء منها من تمر أو زبيب.
والخرص مصلحته ظاهرة، فإن الغني يحتاج إلى
رطبه، ويحتاج إلى العنب من بستانه، فيحتاج إلى أن يأكل هو وأهل بيته، وأن
يهدي وأن يتصدق، فإذا منعناه من ذلك حتى يجد الثمر ثم يجفف حتى يكون زبيباً
أو تمراً فإن ذلك يفوت عليه الانتفاع بما يحب الانتفاع به من الرطب، وما
يحب من إهدائه وصدقته ونحو ذلك، فلهذه المصلحة إذا بدأ صلاح الثمر يأتي
الساعي فيقدره من غير أن يأخذ منه شيئاً، بل يقدر الرطب على رؤوس النخل
ويقدر ما يجيء منه من تمر، ثم بعد ذلك ينتظر حتى يتم الجداد وحتى يتم
الجفاف ثم تؤخذ بعد ذلك الزكاة؛ لأنه إذا لم يفعل هذا، فإن الغني يمنع من
أن يتصرف بالرطب لئلا يتصرف بالمال قبل أخذ الزكاة منه، وفي ذلك تفويت
لحاجته، فقد ثبت في الصحيحين عن أبي حميد الساعدي قال: " غزونا مع النبي
صلى الله عليه وآله وسلم في تبوك، فلما جاء مررنا بوادي القرى، فإذا امرأة
في حديقة لها، فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (اخرصوا) فخرص النبي
صلى الله عليه وآله وسلم عشرة أوسق " (1) ، فهذا في خرص النخيل.
__________
(1) أخرجه البخاري في كتاب الزكاة، باب (54) خرص التمر (1481) بلفظ: " عن
أبي حميد الساعدي قال: غزونا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - غزوة تبوك،
فلما جاء وادي القرى، إذا امرأة في حديقة لها فقال النبي - صلى الله عليه
وسلم - لأصحابه (اخرصوا) .. "، وأخرجه مسلم مختصراً (1392) .
وأما في خرص العنب، فقد روى الخمسة -
بإسناد فيه انقطاع - عن سعيد بن المسيب عن عتّاب بن أسيد – فالانقطاع بين
أسيد (1) وعتاب، فإن سعيداً لم يسمع من عتاب، فهذا انقطاع يسير – قال: "
أمرنا النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن نخرص العنب كما يخرص النخل، ونخرج
زكاته زبيباً " (2) .
فهذا الحديث وإن كان فيه انقطاع، وهو يسير، فإن سعيد بن المسيب مراسيله عند
أهل العلم أصح المراسيل، هذا إذا روى عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم،
فكيف إذا رواها عن صحابي.
فلو قلنا بضعفه، فهو ضعف يسير ويجبره القياس الظاهر، وهو قياس العنب على
النخيل، فإن المصلحة المتقدم ذكرها ثابتة في العنب كما هي ثابتة في الرطب،
وإمكان الخرص ثابت في العنب كما هو ثاب في الرطب.
إذاً الخرص مشروع في الثمار.
وأما الحبوب، فإنه لا يشرع فيها، إذ لا فائدة منه، فليس بواردٍ عن صاحب
الشريعة وليس بمعنى الوارد.
__________
(1) لعل الصواب: سعيد.
(2) أخرجه أبو داود في كتاب الزكاة، باب (13) في خرص العنب (1603) بلفظ: "
عن عتاب بن أسيد قال: أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يُخرص العنب
كما يخرص النخل وتؤخذ زكاته زبيباً..) ، والترمذي في الزكاة، باب في الخرص
حدث 644 وقال: " هذا حديث حسن غريب "، وابن ماجه في الزكاة، باب خرص النخل
والعنب حديث 1819. قال الترمذي: " وقد روى ابن جريج هذا الحديث عن عروة عن
عائشة، وسألت محمدا - يعني البخاري - عن هذا؟ فقال: حديث ابن جريج غير
محفوظ، وحديث سعيد بن المسيب عن عتاب بن أسيد أصح " قال المنذري: وذكر غيره
أن هذا الحديث منقطع، وما ذكره ظاهر جداً، فإن عتاب بن أسيد توفي في اليوم
الذي توفي فيه أبو بكر الصديق رضي الله عنهما، ومولد سعيد بن المسيب في
خلافة عمر، سنة خمسة عشرة، على المشهور، وقيل: كان مولده بعد ذلك، والله
أعلم " سنن أبي داود [2 / 258] .
إذا عُلم هذا، فاعلم أن الزكاة لا تخرج
رطباً ولا تخرج عنباً، وإنما تخرج تمراً أو زبيباً، لا خلاف بين أهل العلم
في هذا.
فإذا خرصها، فإنه لا يخرجها رطباً ولا عنباً، وإنما ينتظر حتى يتم الجذاذ
ويجف الثمر ثم يؤدى بعد ذلك مرة أخرى إلى صاحب المال فتؤخذ زكاته زبيباً أو
تمراً.
يدل على هذا ما ثبت في البخاري عن أبي هريرة قال: " كان النبي صلى الله
عليه وآله وسلم يؤتى عند صِرام النخيل – أي عند جدادها – فيجيء هذا بتمره
وهذا من تمره حتى يصير عنده كَوْماً، قال: فجاء الحسن والحسين يلعبان بها،
فأكل أحدهما منها تمرة، فنظر إليه النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأخرجها
من فيه، وقال: (أما علمت أن الصدقة لا تحل لآل محمد) (1) . والشاهد هنا:
أنه كان يؤتى بالتمر وهذا الإتيان كان على وجه الزكاة، بدليل قوله (فإن
الصدقة لا تحل لآل محمد) .
إذاً المخرج هو التمر والزبيب، فلا يخرج رطباً ولا عنباً.
مسألة:
إذا اختلف الساعي – الخارص – وصاحب الثمر، اختلفوا في الخرص، فمثلاً: خُرصت
من الساعي، فكان مقدارها عشرة أوسق، فلما تم جدادها وحصادها وجففت بعد ادعى
صاحب الثمر أنها لتسعة أوسق وليست لعشرة أوسق، فإن قوله يصدق بلا يمين؛
فالناس لا يستحلفون في صدقاتهم، فهي حق لله عز وجل، واليمين إنما شرعت في
حقوق الآدميين، هذا إن كان قوله محتملاً.
أما إن كان قوله لا يحتمل كأن يكون الساعي قدرها بخمسة أوسق وادعى صاحب
المال أنها خمسة (2) أوسق، والساعي من أهل الخبرة والمعرفة، فإن هذا احتمال
بعيد ويتبين به كذب صاحب الثمر، فلا يقبل خبره.
__________
(1) أخرجه البخاري في كتاب الزكاة، باب (57) أخذ صدقة التمر عند صِرام
النخل (1485) ، ومسلم (1069) باختلاف وبالجزم بأن آخذ التمرة الحسن.
(2) كذا في الأصل.
إذاً: إذا ادعى تغليط الساعي بأمر يدل على
كذبه، فإن خبره لا يقبل ويُلزم بما قدره الساعي، وأما إذا كان بقدر يحتمل،
فإن قوله يقبل بلا يمين.
مسألة:
وهي أنه يترك لصاحب الثمر الثلث أو الربع، فإن خرصت عشرة أوسق مثلاً، فإنه
يترك له الثلث مثلاً، وهو ثلاثة أوسق وثلث أو الربع وهو وسقان ونصف. فإن
صاحب الثمار يحتاج لشيء من الثمر في الأكل والإهداء والصدقة ونحو ذلك،
فيترك له إما الثلث وإما الربع على حسب اجتهاد الساعي، فإذا رآه من الناس
الذين تكثر هدياهم (1) ويكثر الإتيان إليهم، فيكثر الأكل من هذا الرطب
عندهم، فإنه يترك له الثلث وإلا فإنه يقدر له الربع. هذا هو المشهور في
مذهب أحمد وهو مذهب إسحاق.
واستدلوا بما رواه الخمسة إلا ابن ماجه عن سهل بن أبي حثمة قال: " أمرنا
النبي صلى الله عليه وآله وسلم إذا خرصتم فخذوا ودعوا الثلث، فإن لم تدعوا
الثلث فدعوا الربع " (2)
لكن الحديث فيه جهالة التابعي الراوي عن سهل بن حثمة، وله شاهد عند أبي
عبيد القاسم بن سلام في كتاب الأموال عن مكحول مرسلاً، وثبت في مصنف بن أبي
شيبة بإسناد صحيح: أن عمر بن الخطاب كان يبعث ابن أبي حثمة خارصاً، ويقول
له: " إذا أتيت أهل البيت في حائطهم فلا تأخذ منهم قدر ما يأكلون " (3) .
__________
(1) كذا في الأصل.
(2) بلوغ المرام ص184، رقم 497. أخرجه أبو داود في كتاب الزكاة، باب (14)
في الخرص (1605) بلفظ: عن عبد الرحمن بن مسعود قال: جاء سهل بن أبي حثْمَة
إلى مجلسنا قال: أمرنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: (إذا خرصتم
فجذوا ودعوا الثلث، فإن لم تدعوا أو تجذوا الثلث فدعوا الربع) ، وأخرجه
الترمذي في الزكاة، باب في الخرص حديث 643، والنسائي في الزكاة، باب كم
يترك الخارص حديث 2493. سنن أبي داود [2 / 260] .
وأما جمهور العلماء فإنهم لم يروا ذلك، بل
رأوا أنه لا يترك لأهل البيت شيء؛ قالوا: لعموم الأدلة التي تقدم ذكرها،
كقوله: (ليس فيما دون خمسة أوسق) فدل هذا على أن من بلغ ماله خمسة أوسق
فتجب عليه الزكاة.
والأظهر في الجملة ما ذهب إليه الحنابلة، فإن أدلتهم مخصصة لما تقدم، هذا
أولاً.
ثانيا: لأن الزكاة إنما تتعلق به إذا كان تمراً أو زبيباً، فالتوسيق
المتقدم إنما هو حيث كان تمراً وحيث كان زبيباً، وأما قبل ذلك فلا.
لكن ذهب ابن عقيل الحنبلي إلى قول – فيما يظهر لي أصح -، وإن كنا نقول بما
ذهب إليه الحنابلة في الجملة أي من إخراج شيء من الرطب وشيء من العنب
لصاحب.. البستان.
لكن تقديره بالربع والثلث هكذا مطلقاً فيه نظر.
بل الأظهر ما ذهب إليه ابن عقيل من الحنابلة، فإنه قال: يترك لهم بقدر ما
يحتاجون إليه لأكلهم ولهديتهم بالمعروف سواء كان ربعاً أو ثلثاً أو أقل من
ذلك ولو كان عشراً.
وهذا أمر ظاهر، فإن بعض الناس يملك بساتين كثيرة لا يحتاج حتى إلى عشرها أو
أقل من عشرها. وقول عمر المتقدم يدل على هذا، فإنه قال: " إذا أتيت أهل بيت
في حائطهم فلا تأخذ منهم قدر ما يأكلون "، فلم يقدره بالربع والثلث.
وأثر عمر رضي الله عنه أصح من الأثرين المتقدمين عن النبي صلى الله عليه
وآله وسلم، ولأن الأصل وجوب الزكاة في المال.
فعلى ذلك: الأظهر ما اختاره ابن عقيل من الحنابلة، وأنه إذا وجب العنب أو
الرطب، فإنه يخرج منه قدراً يحتاجه أهل البيت لأكلهم وهديتهم بالمعروف سواء
كان ذلك بقدر الربع أو بقدر الثلث أو بقدر الخمس أو بقدر العشر أو أقل من
ذلك، ثم الباقي ينظر فيه، فإن بلغ نصاباً وجبت فيه الزكاة، وإن لم تبلغ
نصاباً فلا زكاة فيه.
والحمد لله رب العالمين.
الدرس الثالث بعد المئتين
(يوم الأحد: 28 / 12 / 1415هـ)
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وإذا أخذ من
مِلْكه أو مواتٍ من العسل مئة وستين رطلاً عراقياً ففيه عشره]
هنا في زكاة العسل: قال ابن القيم: " ورأوا أن هذه الآثار يقوي بعضها
بعضاً، وقد تعددت مخارجها، واختلفت طرقها، ومرسَلُها يُعضد بمسندها " (1)
جمهور العلماء لم يروا وجوب الزكاة في العسل؛ قالوا: لأن الأصل هو عدم وجوب
الزكاة، ولا دليل على وجوبها، قالوا: ولم يصح حديث عن النبي صلى الله عليه
وآله وسلم في هذا الباب.
وقال الحنابلة بوجوب الزكاة في العسل، وهو قول الأحناف، قال الترمذي: " وهو
قول أكثر أهل العلم ".
__________
(1) زاد المعاد [2 / 15] .
وأجابوا عن الجمهور: بثبوت الحديث فيه،
وأنه قد ثبت عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم في سنن أبي داود وغيره من
حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده: (أنه أخذ في زكاة العسل العشر) (1)
__________
(1) أخرجه أبوداود في كتاب الزكاة، باب (12) زكاة العسل (1600) قال: "
حدثنا أحمد بن أبي شعيب الحراني، حدثنا موسى بن أعين، عن عمرو بن الحارث
المصري، عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: جاء هلالٌ أحدٌ بني مُتْعان
إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعُشُور نحل له، وكان سأله أن يحمي
له وادياً يقال له سَلَبة، فحمى له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذلك
الوادي، فلما ولي عمر بن الخطاب رضي الله نه كتب سفيان بن وهب إلى عمر بن
الخطاب يسأله عن ذلك، فكتب عمر رضي الله عنه: إن أدى إليك ما كان يؤدي إلى
رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من عشور نحله فاحْم له سلبَة، وإلا فإنما
هو ذُباب غيث يأكله من يشاء " قال المحقق: " في هذا دليل على أن الصدقة غير
واجبة في العسل، وأن النبي - صلى الله عليه وسلم - إنما أخذ العشر من هلال
المتعي إذ كان قد جاء بها متطوعا وحمى له الوادي إرفاقاً ومعونة له بدل ما
أخذ منه، وعقَل عمر بن الخطاب المعنى في ذلك فكتب إلى عامله يأمره بأن يحمي
له الوادي إن أدى إليه العشر وإلا فلا، ولو كان سبيله سبيل الصدقات الواجبة
في الأموال لم يخيره في ذلك، وكيف يجوز عليه ذلك مع قتاله في كافة الصحابة
مع أبي بكر مانعي الزكاة ". في أبي داود أيضاً (1601) عن عمرو بن شعيب عن
أبيه عن جده أن شبابة - بطن من فهم - فذكر نحوه، قال: من كل عشر قِرَب
قرْبة، وقال سفيان بن عبد الله الثقفي قال: وكان يحمي لهم واديين، زاد:
فأدَّوا إليه ما كانوا يؤدون إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وحمى
لهم وادييهم ". وأخرجه النسائي في الزكاة باب زكاة النحل حديث 1401، وأخرج
ابن ماجه طرفاً منه (1823) . وقال البخاري: " ليس في زكاة العسل شيء يصح "،
وقال الترمذي بعد ذكر حديث 629: " ولا يصح عن النبي - صلى الله عليه وسلم -
في هذا الباب كبير شيء ". سنن أبي داود [2 / 256] .
، قالوا: والحديث حسن، وحديث عمرو بن شعيب
عن أبيه عن جده أحاديث حسان.
قالوا: وفي مصنف عبد الرزاق أن عمر: أخذ في زكاة العسل في كل عشرة أفرق
فرقاً واحداً " لكن إسناده منقطع، واحتج به أحمد، ورواه سعيد كما في
المغني.
فجمهور العلماء لم يصححوا هذا الحديث، والأرجح تصحيحه، فعلى ذلك: تجب في
العسل الزكاة، كما هو مذهب الحنابلة.
وقول المؤلف: " إذا أخذ من ملكه " أي من أرض مملوكة له، كأن يضع في أرض له
منحلاً، فينتج هذا المنحل، فيجب عليه إن بلغ النصاب أن يزكيه أو كان ...
... ... (1) .
وإن كانت الأرض ليست مملوكة لصاحب الزرع، والثمر يتبع النخيل، فمالك النخيل
هو الذي تجب عليه الزكاة، وإن كانت الأرض مستأجرة غير مملوكة له.
فالصحيح مذهب الحنابلة، للحديث المتقدم، وأن الزكاة تجب في العسل تبعاً
للنخيل من غير نظر إلى الأرض أهي موات أم مملوكة. (2)
[مئة وستين رطلاً عراقيا]
هذا هو نصاب العسل (160) رطلاً عراقياً، وقد تقدم أن هذا الوزن من الأوزنة
القديمة، لكن يمكننا أن نعرف قدره بقياسه بالمقدار المتقدم.
وقد تقدم أن الثلاثمئة صاع نبوي يساوي ألفاً وستمئمة رطل عراقي، فعلى ذلك:
مئة وستون رطلاً عراقياً يساوي ثلاثين صاعاً نبوياً، وتقدم أن الصاع النبوي
يساوي أربعة أخماس الصاع الموجودة عندنا، فعلى ذلك تساوي الثلاثين صاعاً =
أربعة وعشرين صاعاً من الآصع الموجودة عندنا. فعلى ذلك: إذا ملك أربعاً
وعشرين صاعاً، والصاع كيلوان وأربعون جراماً، فنضرب كيلوين جراماً (3) في
أربع وعشرين صاعاً يكون نصاب العسل بالكليوجرامات. هذا هو المشهور في مذهب
الحنابلة.
__________
(1) يوجد بياض بين العبارات في نحو خمسة أسطر.
(2) في حاشية المذكرة ما نصه: " قال القرضاوي بقياس الألبان على العسل ...
... "
(3) لعل الصواب: كيلوين وأربعين جراماً.
وقيل: إن نصاب العسل ألف رطل عراقي،
وقدَّمه الموفق في الكافي، واحتمله في المغني. وهو الأرجح.
أما دليل الحنابلة: فهو ما تقدم من أثر عمر، فقد أخذ عمر من كل عشرة أفرق
فرقاً واحداً، والفرق يساوي ثلاثة آصع، فعلى ذلك: من كل ثلاثين صاعاً ثلاثة
آصع، والثلاثون صاعاً يساوي مئة وستون رطلاً كما تقدم.
وتقدم أن هذا الأثر إسناده منقطع.
وأما القول الثاني، فإن دليله ما في سنن أبي داود في بعض روايات حديث عمرو
بن شعيب عن أبيه عن جده المتقدم قال: (في كل عشر قربات قربة) (1) .
والقربة تساوي مئة رطل عراقي، فعلى ذلك: العشر قرب تساوي ألف رطل عراقي.
فالراجح هو هذا القول؛ لأن أثر عمر إسناده ضعيف، وأعلى منه وأصح هذا الأثر
الوارد عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم وهو مرفوع إليه وإسناده حسن.
فعلى ذلك الواجب في ألف رطل عراقي الزكاة، ويمكن معرفة قدر الألف رطل عراقي
بمعرفة قدر المئة وستين رطلاً، فقد تقدم أنها تساوي ثلاثين صاعاً نبوياً،
فيمكن معرفة الألف رطل بالآصع النبوية، ثم بالكيلوجرامات بحساب ما تقدم.
فالراجح أن في كل ألف رطل عراقي الزكاة.
والواجب فيه العشر، وقد تقدم هذا في الحديث المتقدم أن النبي صلى الله عليه
وآله وسلم: " أخذ في زكاة العسل العشر "، وفي حديث آخر: " في كل عشر قربات
قربة ". فعلى ذلك: الواجب في ألف رطل عراقي مئة رطل.
قال: [والركاز: ما وجد من دفن الجاهلية، ففيه الخمس]
أي ما وجد من مدفونهم، من ركز الشيء إذا أخفاه، وسمي ركزاً لإخفائه.
والركاز باتفاق العلماء هو دفن الجاهلية، أو مدفون أهل الجاهلية.
ويعرف أنه دفن لأهل الجاهلية بكتابة أسمائهم عليه وصورهم وصور مصوراتهم
ونحو ذلك.
فما يوجد من الأرض من الكنوز إن وجد فيه علامات الكفار من كتابة أسمائهم أو
صورهم أو صور ملوكهم أو صور مصوراتهم فهو الركاز.
__________
(1) تقدم.
أما إن وجدت فيه علامات المسلمين أو كان في
البلاد الإسلامية وليس فيه علامة فليس بركاز.
فالركاز ما يكون من دفن أهل الجاهلية ويعرف بعلامات الكفار أو أن يكون
مدفوناً في بلادهم وليست علامات.
أما إن كان مدفوناً في البلاد الإسلامية، وإن لم تكن عليه علامة فهو دفن
المسلمين أو كان عليه علامة المسلمين فهو دفن لهم، فليس بركاز وإنما هو
لقطة، وسيأتي - في هذا الدرس - الكلام عليها.
أما الركاز: وهو دفن أهل الجاهلية، فيجب فيه الخمس؛ لقوله صلى الله عليه
وآله وسلم: (في الركاز الخمس) (1) ، متفق عليه من حديث أبي هريرة.
وكل مدفون ثبتت فيه علامة الكفار فله أخذه ويمتلكه بذلك، وعليه فيه الخمس،
سواء كانت الأرض مواتاً أو مملوكة له أو لغيره أو كانت في ديار الكفار، فلا
نظر بالأرض هنا؛ لأن الركاز مودع فيها مخفي فيها، فليس منها، فلا يملك
الركاز بملكية الأرض، فإذا وجده في أرض مملوكة لغيره فهو له، أو وجده في
موات، فلا يقال إنه لبيت المال، بل متى ما وجده فإنه يمتلكه سواء كانت
الأرض مواتاً أو كانت ليست أرضا للمسلمين. أو كانت الأرض مملوكة له أو
لغيره؛ لأن هذا الركاز مخفي فيها مودع فيها، فليس من الأرض في شيء فلا
يتبعها.
وهل الخمس مصرفه مصرف الزكاة أو مصرفه الفيء؟
جمهور العلماء على: أن مصرفه مصرف الفيء.
وقال الشافعية: مصرفه مصرف الزكاة.
أي هل تصرف الخمس كما يصرف خمس الفيء، فيصرف في مصالح المسلمين في بناء
المساجد والقناطر ويدفع لبعض أعيان المسلمين تأليفاً أو نحو ذلك مما يكون
فيه مصلحة، أم أنه مصرفه مصرف الزكاة، فلا يصرف إلا للأصناف الثمانية؟
قولان لأهل العلم، وتقدما.
__________
(1) أخرجه البخاري في كتاب الزكاة، باب (66) في الركاز الخمس (1499) ،
ومسلم (1710) .
والقول الراجح هو مذهب جمهور العلماء، وأن
مصرفه مصرف الفيء؛ وذلك لأنه مال كافر أُخذ في الإسلام، فأشبه الغنيمة،
ولذا وجب فيه الخمس، كما يجب في الغنيمة.
فعلى ذلك يصرفه الإمام في مصالح المسلمين كما يصرف الفيء.
وهل له أن يتصرف فيه بمصالح المسلمين أي وحده، أم لابد وأن يدفعه إلى
الإمام؟
قولان لأهل العلم:
المشهور عند الحنابلة، وهو مذهب الأحناف: أنه له أن يتصرف به، فيعطيه أهله
ممن يصح أن يصرف لهم الفيء، فيصرفه في مصالح المسلمين ونحو ذلك، وفيه أثر
عن علي في البيهقي، لكن إسناده ضعيف.
وقال بعض الحنابلة، وهو مذهب أبا (1) ثور: أنه ليس له ذلك، بل يدفعه إلى
الإمام، والإمام يصرفه في مصالح المسلمين، كما يصرف الفيء. وهذا القول هو
الراجح؛ لأن الإمام هو الناظر في مصالح المسلمين، وما دام هو الناظر فيها،
فإن التصرف لا يصح إلا منه.
فعلى ذلك: يجب دفعه للإمام ليصرفه في مصالح المسلمين كما يصرف الفيء، وأما
أثر علي فإسناده ضعيف.
وقد اتفق العلماء على الواجب في الركاز يدفع بمجرد إخراجه، فإذا أخرجه
وتمكن من الأداء أخرج، قياساً على الخراج من الأرض من الزروع والثمار. وهذا
باتفاق العلماء، لا خلاف بينهم في ذلك، فإنه لا ينتظر حتى يحول عليه الحول،
بل بمجرد إخراجه من الأرض يخرج خمسه؛ ولأنه كما تقدم ليس من باب الزكاة،
ومضي الحول إنما هو في الأموال الزكوية، وأما هذا فهو يصرف مصارف الفيء،
فليس إذاً من باب الزكاة، والحولية إنما هي شرط في الأموال الزكوية.
قال: [في قليله وكثيره]
__________
(1) الأشهر: أبي ثور، وعلى لغة: إن أباها وأبا أباها قد بلغا من المجد
غايتاها. أي بإثبات الألف رفعاً ونصباً وجراً، والأشهر الإعراب بالحروف،
قال ابن مالك: أب أخ حم كذاك وهن والنقص في هذا الأخير أحسن.
وفي أب وتالييه يندر وقصرها من نقصهن أشهر.، شرح ابن عقيل [1 / 43] .
ليس له نصاب، فنصاب الذهب عشرون ديناراً،
فإذا وجد كثيراً لا يصل إلى هذه القيمة فتجب عليه فيه الزكاة؛ لأن الحديث
عام، فقد قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (وفي الركاز الخمس) (1) ، فهو
عام في كل ركاز، قليلاً كان أو كثيراً؛ ولأنه كما تقدم ليس من الأموال
الزكوية والأنصبة إنما تشرع فيها.
فعلى ذلك: القدر الذي يجده يخرج خمسه، سواء كانت تساوي نصاب الذهب والفضة
أو لم تكن تساويهما، فتجب فيه الزكاة. هذا إذا كان من دفن الجاهلية.
أما إذا كان من دفن المسلمين، ويعرف ذلك إما بعلامات المسلمين أو لا تكون
فيه علامات، لكن يوجد في البلاد الإسلامية، فهذا هو دفن المسلمين.
فلِما تقدم أن الركاز لا يتبع الأرض، فإذاً هو لا يتبع مالكها، بل يكون له
حكم اللقطة، فتعرفه سنة، فإن جاء صاحبه وإلا ملكه، هذا إذا كان في أرض
مملوكة، أما إذا وجده في موات من الأرض كفلاة، فهذا لا يمكن تعريفه، فإنه
يكون عليه فيه الخمس، فيكون له حكم الركاز.
__________
(1) متفق عليه، وقد تقدم.
ودليل هذا ما ما ثبت عند أحمد وسنن أبي
داود والنسائي بإسناد حسن أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم سئل عن اللقطة،
فقال: (إن كانت في طريق مأتي وأرض عامرة فعرفها سنة، فإن جاء صاحبها وإلا
ملك، فإن لم تكن في طريق مأتي ولا قرية عامرة، ففيها وفي الركاز الخمس) (1)
.
إذاً إن وجد دفناً عليه علامات المسلمين ولم يتمكن من معرفة أصحابه، أما
إذا كانت العلامات تدل على أصحابه فهو ملك لهم، أما إذا لم يكن فيه علامات
أو فيه علامات لا يهتدى بها إلى معرفة صاحبها، فإنه يعرفها سنة ثم يملكها
إن كانت في أرض عامرة أو طريق مأتي. أما إذا كانت في موات من الأرض بحيث
إنه يبعد معرفة صاحبها والوصول إليه، فإنه يمتلكها وعليه فيها الخمس،
والخمس حكمه كالخمس المتقدم.
ولم يذكر المؤلف هنا زكاة المعادن وقد ذكرها الشراح فهذا موضعها:
والمعادن: جمع معدِن بكسر الدال من عدن أي أقام ومكث.
والمراد بالمعادن: ما يخرج من الأرض من ذهب أو فضة أو زئبق أو رصاص أو حديد
أو غير ذلك مما يخرج من الأرض.
والمعادن تبع للأرض، لأنها مودعة فيها خلقة، فكانت تبعاً لها؛ لأن مالك
الأرض يملكها ويملك قرارها.
__________
(1) أخرجه أبو داود في كتاب اللقطة رقم (1710) عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن
جده عبد الله بن عمرو بن العاص عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه
سئل عن الثمر المعلق فقال: (ما أصاب بفيه من ذي حاجة …) قال: وسئل عن
اللقطة فقال: (ما كان منها في طريق الميتاء أو القرية الجامعة فعرِّفها
سنة، فإن جاء طالبها فادفعها إليه، وإن لم يأت فهي لك، وما كن في الخراب
يعني ففيها وفي الركاز الخمس) ، وأخرجه الترمذي في البيوع حديث 1289 وقال:
" حديث حسن "، سنن أبي داود [2 / 336] .
جماهير العلماء على وجوب الزكاة في المعادن
في الجملة – أي فيه خلاف في أنواع المعادن التي تجب فيها الزكاة، لكنهم
مجمعون على أصل هذه المسألة، وأن الزكاة ثابتة في المعادن.
واستدلوا بقوله تعالى: {ومما أخرجنا لكم من الأرض} (1) فيدخل في عمومه
المعادن، فإنها مما تخرج من الأرض. وفي الموطأ وسنن أبي داود بإسناد مرسل،
وأصله عند أبي داود موصولاً، لكن الشاهد فيه هنا مرسل أن النبي صلى الله
عليه وآله وسلم أقطع بلال بن الحارث المعادن القبلية، فتلك المعادن لا يؤخذ
منها إلا الزكاة إلى اليوم " (2) .
والأظهر أن هذا من قول الراوي، فلا يكون موصولاً ولا مرسلاً، وإنما الثابت
عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم هو إقطاعه لبلال بن الحارث المعادن
القبلية، وأما قوله هنا: " فتلك المعادن لا يؤخذ منها إلا الزكاة إلى اليوم
" فالظاهر أنه من قول بعض الرواة، وهو من حديث ربيعة الرأي عن بعض أشياخه
عن غير واحد، فهو إذاً من قول بعض أهل المدينة، فهو قول ربيعة أو من روى
عنه، فليس بمرسل ولا بموصول، لكن يمكن الاستدلال بالآية {ومما أخرجنا لكم
من الأرض} ، والآية عامة فيدخل في عمومها المعادن.
وعليه العمل عند أهل العلم، فقد اتفقت المذاهب الأربعة كلها على القول
بهذا، وأن الزكاة تؤخذ من المعادن في الجملة.
- وخالف في ذلك الظاهرية، فقالوا: لا تجب الزكاة فيها لعدم الدليل، والأصل
هو عدم الوجوب.
لكن العمل بعموم الآية المتقدمة، وما تقدم من عمل أهل العلم.
وقد قال الراوي: " فتلك المعادن لا تؤخذ منها إلا الزكاة إلى اليوم "، يمكن
الاستدلال به بما يسمى بالاستصحاب المقلوب، وهو عكس الاستصحاب الذي يُعد من
الأدلة الشرعية.
__________
(2) أخرجه أبو داود في كتاب الخراج والإمارة والفيء، باب (36) في إقطاع
الأرضين (3061) .
وصفة الاستدلال بالاستصحاب المقلوب هنا أن
يقال: إن ثبوت أخذ الزكاة فيه في عصر التابعين، فإننا نستصحب هذا الأخذ إلى
عصر الصحابة إلى عصر النبي صلى الله عليه وآله وسلم؛ لأن الأصل هو عدم
التغير.
ولاشك أن هذا الاستصحاب فيه شيء من الضعف، لكنه يقوي ما تقدم.
فعلى ذلك جمهور العلماء وهو الأظهر أن الزكاة واجبة ففي المعادن.
وخصها الشافعية والمالكية بمعادن الذهب الفضة، أما غيرها من الجواهر
والياقوت فلا زكاة فيها.
وقال الحنابلة بالعموم، وهو الراجح؛ لأن الآية عامة {ومما أخرجنا لكم من
الأرض} ، فهو عام في كل معدن.
أما ما رواه البيهقي أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: (لا زكاة في
الحجر) (1) ، فإن الحديث لا يصح عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
*
قال جمهور العلماء: ونصابه نصاب الذهب والفضة؛ وذلك لأن الشارع لم يحدد له
نصاباً ولا قدراً مخرجاً، فحينئذ ننظر إلى قيمته كعروض التجارة، فإذا كانت
قيمته تساوي عشرين ديناراً، كأن يخرج رصاصاً أو حديداً يساوي عشرين
ديناراً، ففيها الزكاة، والقدر المخرج هو ربع الشعر.
إذاً ننظر إلى قيمتها؛ وذلك لأنها إنما يستفاد منها بالاستفادة من قيمتها،
وهي تشبه عروض التجارة، وكما تقدم، فإن الشارع لم يحدد لها نصاباً، فيقدر
النصاب بالذهب والفضة، فإذا بلغت قيمتها نصاب الذهب والفضة، ففيها الزكاة،
والواجب فيها هو ربع العشر. (2)
__________
(1) أخرجه البيهقي في السنن الكبرى [4 / 245] باب (80) ما لا زكاة فيه من
الجواهر غير الذهب والفضة (7590) .
(2) في حاشية المذكرة ما نصه: وعن أحمد أنه يجب في قليله وكثيره، وهو مذهب
...
الزكاة تخرج كما تخرج زكاة الركاز، فمجرد
إخراج المعدن من الأرض تجب الزكاة فيه، قياساً على الزروع والثمار، فإنهما
داخلان في عموم قوله: {ومما أخرجنا لكم من الأرض} (1) ، فكما أن الزروع
والثمار وهي المخرجة من الأرض تجب زكاتها بمجرد الحصول عليها والتمكن من
الأداء، فكذلك في المعادن.
إذاً: المعادن تجب فيها الزكاة، والزكاة تجب في كل معدن فيها، ونصابها
والمخرج منها قدره قدر قيمتها من الذهب والفضة، ويخرج بمجرد الحصول عليها.
وهل تجب الزكاة في المخرج من البحر من اللؤلؤ والعنبر ونحو ذلك؟
قولان لأهل العلم:
1- القول الأول، وهو مذهب الجمهور، وهو المشهور عند الحنابلة: أنه لا تجب
فيه الزكاة.
قالوا: لأن الأصل عدم وجوب الزكاة، ولا دليل على وجوب الزكاة فيما يخرج من
البحر، ولأنه يوجد ملقياً على البحر في غالب أحواله، فأشبه ما يعثر عليه في
الأرض من المباحات التى لا تجب فيها الزكاة.
2- والقول الثاني، وهو رواية عن الإمام أحمد: أن الزكاة تجب فيه قياساً على
المخرج من الأرض، فكما أن المخرج من الأرض تجب فيه الزكاة، فكذلك المخرج من
البحر. وهذا قياس ظاهر. والله أعلم.
والحمد لله رب العالمين.
باب زكاة النقدين
الدرس الرابع بعد المئتين
(29 / 12 / 1415 هـ)
باب زكاة النقدين
النقدان: مثنى نقد، وهو ضد النسيئة، بمعنى منقود أي معطى، فالنقد هو ضد
النسيئة والتأخير، والأثمان تنقد نقداً، فليست محلاً للتأخير، فإذا دفع
مثلاً مئة دينار، فإنه قد نقد الثمن أي دفعه حاضراً.
وهي من نقد الدرهم والدينار، أي نقد جيده من رديئه، أي ميز الطيب من
الرديء.
والنقدان هما الذهب والفضة.
فهذا الباب في زكاة الذهب الفضة.
وقد أجمع العلماء على فرضية الزكاة فيهما – الذهب والفضة -، وهما النقدان،
وهما أثمان الأشياء. وأما الحلي من الذهب والفضة فسيأتي الكلام عليها في
الدرس القادم.
قال المؤلف: [يجب في الذهب إذا بلغ عشرين
مثقالاً]
المثقال: يساوي في أصح ما ظهر لي من الأقيسة أنه يساوي أربعة جرامات وربع
الجرام، فعلى ذلك النصاب يساوي خمسة وثمانين جراماً، وهي ما يساوي عندنا
نحو ثلاثة آلاف ريال. هذا نصاب الذهب.
يدل على ذلك:
أما على أن نصاب الذهب عشرون ديناراً وعلى أن القدر المخرج منه هو ربع
العشر: ما روى أبو عبيد القاسم من سلام في كتابه الأموال عن محمد بن عبد
الرحمن الأنصاري – وهو ثقة تابعي – أن في كتاب رسول الله صلى الله عليه
وآله وسلم في الصدقة وكتاب عمر: أن الذهب لا يؤخذ منه شيء حتى يكون عشرين
ديناراً، ففيه نصف دينار، وأن الورق – وهو الفضة – لا يؤخذ منه شيء حتى
يكون مئتي درهم، فإذا بلغ مئتي درهم ففيه خمسة دراهم " (1)
وهذا الحديث مرسل، لكن له شاهد عند ابن ماجه من حديث عائشة وابن عمر (2) ،
والحديث سنده ضعيف، لكن يصح شاهداً، وله شاهد أيضاً عند أبي داود عن علي
قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (إذا كان لك مئتا درهم وحال
عليها الحول ففيها خمسة دراهم، وليس عليك شيء حتى يكون لك عشرون ديناراً
وحال عليها الحول، ففيها نصف دينار، فما زاد فبحساب ذلك، وليس في مال زكاة
حتى يحول عليه الحول) (3)
، والحديث إسناده حسن، لكن الراجح وقفه على علي، ولا يعلم له مخالف.
__________
(2) أخرجه ابن ماجه في كتاب الزكاة، باب (4) زكاة الورق والذهب (1791)
بلفظ: " عن ابن عمر وعائشة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يأخذ من كل
عشرين ديناراً فصاعداً نصف دينار، ومن الأربعين ديناراً ديناراً ". قال
البوصيري: " هذاإسناد فيه إبراهيم بن إسماعيل وهو ضعيف. رواه الدارقطني في
سننه من هذا الوجه ".
(3) أخرجه أبو داود في كتاب الزكاة (1573) باب (4) .
وقد عمل أهل العلم بهذه الآثار، فعليها
العمل عند أهل العلم، فقد أجمعوا على فرضية الزكاة في الذهب والفضة، وأن
الواجب فيها ربع العشر، وعامتهم على أن نصابها عشرون ديناراً.
إلا ما روي عن الحسن: أن نصاب الذهب أربعون ديناراً، وروي عنه موافقته أهل
العلم، ولا دليل له على ذلك.
إذاً نصاب الذهب عشرون ديناراً، والواجب فيه ربع العشر.
قال: [وفي الفضة إذا بلغت مئتى درهم ربع العشر منهما]
فقد ثبت في البخاري من حديث أنس في كتاب أبي بكر في الصدقة، وفيه: " وفي
الرِّقة – أي الفضة – إذا بلغت مئتي درهم ربع العشر، فإن لم تكن إلا تسعين
ومئة فليس فيها صدقة إلا أن يشاء ربها " (1) .
كما أن الآثار المتقدمة تدل على هذا، وقد أجمع أهل العلم عليه، وأن الواجب
في مئتي درهم ربع العشر.
إذا علم هذا، فاعلم أن جماهير العلماء على أن المعتبر في زكاة النقدين هو
الوزن.
وقد تقدم وزن الذهب وأنه يساوي عندنا فيما يظهر خمسةً وثمانين جراماً، وأما
الفضة فإن مئتي درهم يساوي مئة وأربعين مثقالاً، والمثقال من الفضة يساوي
جرامين وتسعمئة وخمساً وسبعين بالمئة، وعلى ذلك: نصابه بالجرامات يساوي
خمسمئة وخمساً وتسعين جراماً.
فالمعتبر عند جماهير العلماء هو الوزن.
__________
(1) صحيح البخاري، كتاب الزكاة: باب زكاة الغنم، الفتح [3 / 371] .
فعليه عشرون ديناراً يساوي عشرين مثقالاً،
ومئتي درهم يساوي مئة وأربعين مثقالاً، فإذا كانت العشرون ديناراً لا تساوي
إلا عشرة مثاقيل، كأن يضرب الناس دنانير تسمى دنانير، لكن الدينار فيها لا
يساوي إلا نصف مثقال، فلا تكون النصاب عشرين مثقالاً، بل يكون أربعين
مثقالاً، لأن المعتبر هو الوزن، فلا ينظر إلى العدد، أما إذا ملك عشرين
مثقالاً لكنها لا تساوي إلا عشرة مثاقيل أو لا تساوي إلا خمسة عشر مثقالاً
فلا يجب فيها الزكاة، وكذلك في الفضة، فإن ملك مئتي درهم لكنها لا تساوي
مئة وأربعين مثقالاً، فإن الزكاة لا تجب عليه.
واستدلوا بما ورد في أبي داود وغيره في قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم،
والحديث حسن في زكاة الفضة قال: (إذا بلغت خمس أواق) (1) ، فذكر النبي صلى
الله عليه وآله وسلم نصاباً له وزناً، فالأوقية وزن.
وقال شيخ الإسلام: بل المعتبر العدد من غير نظر إلى الوزن.
وعليه: ما نسميه نحن الريالات تقوم مقام الدراهم،.. .. .. (2) فسيأتي
الكلام على الأوراق النقدية، لكن لو ضربت دراهم سميت بريالات أو بغيرها من
الأسماء ضربت من الفضة، والدرهم فيها لا يساوي وزناً الدرهم الذي كان على
عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، لكنه يسمى درهماً، وكذلك في
الدينار، كأن يضرب دينار لا يساوي إلا نصف مثقال، فإنه متى ما بلغ العدد
المذكور، فإن الزكاة تجب فيه.
__________
(2) بياض في الأصل.
واحتج رحمه الله بأن الدراهم في عهد النبي
صلى الله عليه وآله وسلم لم تكن ذات وزن واحد، بل كانت ذات أوزان مختلفة،
فمنها ما وزنه ثمانية دوانق، ومنها ما وزنه أربعة دوانق، حتى كان عهد عبد
الملك بن مروان فضرب الدرهم الإسلامي الذي يساوي ستة دوانق، قال: فلا يمكن
أن يحكم على ما ورد عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم بهذا الدرهم الحادث.
فهذا درهم حادث، فهذه الأوزان إنما تعود إلى دراهم ودنانير فضربت في عهد
عبد الملك بن مروان، فلا يحكم على القديم بما هو حادث.
فهو يرى أن الزكاة متعلقة بعدد الدراهم والدنانير من غير نظر إلى الوزن،
واحتج بأن الدراهم والدنانير لم تكن في عهد النبي صلى الله عليه وآله وسلم
ذات وزن واحد، بل لها أوزان مختلفة، فعلق النبي صلى الله عليه وآله وسلم
الزكاة بعددها، وحيث كان كذلك، فإذا وجدت دنانير ودراهم، فإن الزكاة تجب
فيها إذا بلغت العدد المتقدم، وإن كانت لا تساوي الوزن الذي تقدم.
وفيما ذكره شيخ الإسلام رحمه الله نظر، فإنه لا يعقل أن تكون الدراهم أو
الدنانير التي تتعلق بها قيم الأشياء وتتم بها الأنكحة في مهورها، والبيوع
ونحو ذلك من الأحكام الشرعية لا يمكن أن تكون مختلفة الأوزان، وحيث كانت
مختلفة في الواقع، فإنه لابد أن يكون هناك قدر هو المتعارف عليه، فإذا وجد
دينار يساوي ضعف غيره من الدنانير، فإنه يحكم له بأنه بقيمة دينارين، فنحن
وإن سلمنا لم تضرب في عهد النبي صلى الله عليه وآله وسلم، والأمر كذلك،
وإنما ضربت – كما تقدم - في عهد عبد الملك، فإنا لا نسلم أنها كانت مجهولة
القدر، بل لها قدر ظاهر واضح بيّن، فهي قيم الأشياء وبها تتم أنكحة الناس
وبيوعهم وحقوقهم (1) متعلقة بها، ونحو ذلك من الأحكام الشرعية التي تتعلق
بالدرهم والدينار.
__________
(1) أو كلمة نحوها.
كما أن الشارع لا يمكن أن يجمع بين
المختلفات، فيوجب في مئتي درهم الدرهم فيها قدر أربعة دوانق يوجب فيه
الزكاة، ولا يوجب الزكاة مما يبلغ الدرهم فيها ثمانية دوانق حتى يبلغ هذا
العدد، فإن المئة درهم مما يكون وزنه ثمانية دوانق تساوي مئتي درهم مما
يكون وزن الواحد فيها أربعة دوانق، فكيف يفرق الشارع بينهما مع أنهما
متساويان.
فالأظهر مذهب جمهور العلماء من اعتبار الوزن خلافاً لشيخ الإسلام.
وأما الأوراق النقدية المعاصرة، وهي ما تسمى " بنك نوت "، وتسمى بالأنواط
في كلام الفقهاء المعاصرين.
وهي لغة: " بنك نوت " لغة فرنسية بمعنى الأوراق النقدية.
فهذه الأوراق اختلفت فيها أنظار الناس من الفقهاء المعاصرين:
فمنهم من قال: هي وثائق دين، يعني ليست أثماناً، وإنما هي وثيقة كما لو
اقترضت من رجل مالاً فأعطيته ورقة فتثبت فيها هذا الحق الذي عليك، فهي
وثيقة دين.
وهذا اعتماد على ما يكتب فيها من التزام مؤسسة النقد بدفع ما يقابلها من
ذهب وفضة.
وهذا ضعيف، فإن هذه الكتابة المقصود منها توثيقها وإلا فإن صاحب الورق لا
يعطي قيمتها من الذهب والفضة، لكن المقصود من هذه الكتابة هو توثيق هذه
الأوراق وإعطائها قيمتها. وهذا القول فيه شدة، إذ يترتب عليه الأحكام
الكثيرة من عدم جواز السلم فيها، ومن مسائل كثيرة تترتب على هذا، كما أنه
لا يجوز شراء الذهب الخالص بها ولا شراء الفضة الخالصة بها؛ لأنها تعتبر
ديون، فلا يجوز أن يشترى ذهباً فيها وإن دفعها، ولا فضة وإن دفع هذه
الأوراق النقدية؛ لأنها ديون، والواجب أن يكون الشراء يداً بيد في الأموال
الربوية، فهذا مع ضعفه فيه ضيق وشدة.
وأوسع المذاهب من قال: إنها عروض تجارة، وحجته: أنها مال مرغوب فيه، وليست
بذهب ولا فضة، فأشبه العقارات وغيرها من العروض كالأقمشة وغيرها التي تباع
وتشترى.
وهذا أيضا ضعيف؛ لأن قيمتها في الحقيقة
قيمة ثمنية، إذ لو أن السلطان أبطلها - أي أبطل التعامل بهذه الورق المعينة
لم يبق لها قيمة مطلقاً. وهذا أوسع المذاهب.
ويترتب على هذا القول جواز الربا فيها بنوعيه، ربا الفضل وربا النسيئة؛
لأنها عروض تجارة، فكما لو استبدل أقمشة بأقمشة، فله أن يستبدل مئة ألف
بخمسة آلاف، سواء كان ذلك حاضراً أو نسيئة؛ لأنها ليست بأثمان، بل هي عروض
تجارة.
وقال بعض أهل العلم: بل هي بدل عن الذهب والفضة، فلها أحكام الذهب والفضة؛
لأنها – على رأي هذا القائل - لابد مقابلها في صندوق النقد ذهب وفضة، فتعطى
حكمه.
وعليه: إذا كانت بدلاً من الذهب، فنصابها نصاب الذهب، سواء كانت.. ... (1)
نحو ثلاثة آلاف ريال. وأما إن كانت بدلاً عن الفضة فنصابها نصاب الفضة، وهو
نحو أربعمئة أو خمسمئة ريال، وربما زاد أو نقص. فهذا القول يقول هي بدل عن
الذهب والفضة، والبدل له حكم المبدل منه، فعلى ذلك يعطى حكم الذهب والفضة.
وعليه: فإنه يترتب على هذا أن الأوراق النقدية المختلفة التي تكون من بلاد
مختلفة يقع الربا بينها، أي ربا الفضل وربا النسيئة؛ لأنها كلا من جنس
واحد.
فمثلاً الدولارات والريالات، إن قلنا أن أصلها ذهب، فلا يجوز أن يعطيه
دولارات بريالات متفاضلة؛ لأنها من جنس واحد، وهو الذهب.
وذهب بعض أهل العلم، وهو أصحها: أن الأوراق النقدية من الريالات والدولارات
وغيرها أثمان مستقلة بنفسها.
__________
(1) كلمة غير واضحة.
أما كونها أثمان، فهذا ظاهر؛ فإن لها قيمة
الذهب والفضة تماماً في البيع والشراء ونحو ذلك، ولا فرق بينها وبين الذهب
والفضة في التعامل القديم، بل قد طغى التعامل بها بظهور ووضوح على التعامل
بالذهب والفضة، بل لا يكاد أن يتعامل الناس بالذهب والفضة، بل ربما لا
يتعاملون بها على أنها أثمان، وإنما يتعاملون بالأوراق النقدية، فهي
الأثمان، ففيها البيع والشراء، فقد أخذت مكان الذهب والفضة تماماً، حتى لا
تسمع في القوانين عامة الشرعية وغيرها من لم يقبلها على أنها ثمن للأشياء.
وأما كونها مستقلة - أي مستقلة عن الذهب والفضة -؛ فلأن هذا هو الواقع، فإن
الواقع أن رصيدها في بيت النقد ليس بذهب على الخصوص أو فضة على الخصوص، بل
يجتمع فيه الذهب والفضة والمعادن والعقارات وغير ذلك من الأموال، فليس لها
رصيد محدد من ذهب أو فضة حتى نجعلها بدلاً من أحدهما، بل رصيدها من أموال
مختلفة، فقد يكون رصيدها من البترول أو من بعض المعادن الأخرى ومن الذهب
والفضة ومن العقارات ونحو ذلك، وربما كان رصيدها الثقة الدولية التي تعطى
لهذه الدولة. فعلى ذلك: أصبحت مستقلة بنفسها، وحيث كان كذلك،فإن كل ورقٍ
نقدي لبلد جنس مختلف، فعليه: يجوز التفاضل بين الريالات والدولارات أو
غيرها من الأموال.
وهذا لاشك أن فيه دفعاً لحاجة الناس ورفعاً للحرج عنهم مع المحافظة على
الأحكام الشرعية من وجوب الزكاة وتحريم الربا ونحو ذلك، فيثبت الربا
بنوعيه، ربا الفضل وربا النسيئة فيها، وتثبت الزكوات فيها، كما أن هذا في
كل جنس منفرداً، وفيما بينها لا يثبت إلا ربا النسيئة الذي هو أقبح الربا
وأعظمه.
فعلى ذلك: أصح الأقوال للمعاصرين في مسألة الأوراق النقدية أنها أجناس
مختلفة، وهي أثمان مستقلة عن الذهب والفضة. وحينئذ يشكل علينا نصابها، فهل
يكون نصابها نصاب الذهب أو يكون نصابها نصاب الفضة؟
وحيث هي أثمان، فإن نصابها بالقياس الظاهر
هو نصاب الأثمان، لكن هل يكون نصابها نصاب الذهب أو نصاب الفضة؟
فهل.. .. (1) الريالات خمسا وثمانين جراماً أوجبنا فيها الزكاة، أم أنها..
. . خمسمئة وخمس وتسعين جراماً من الفضة أوجبنا فيها الزكاة؟
ثلاثة أقوال أيضا للمعاصرين:
فمن المعاصرين من قال: نصابها نصاب الفضة؛ لأن نصاب الفضة مجمع عليه، ولأنه
ثابت في البخاري، والأحاديث الواردة فيه أصح.
وقال بعضهم: إن الزكاة تجب إذا بلغ أدنى النصابين، فإذا ساوى الفضة وجبت
فيه الزكاة، وإن لم يساو الذهب، فإن كان نصاب الذهب أقل من نصاب الفضة،
فإذا بلغ نصاب الذهب وجبت فيه الزكاة، وإن لم يبلغ نصاب الفضة. وهذا أقوى
في النظر؛ وذلك لأنها كليهما أثمان تجب فيه الزكاة، فإذا بلغ نصاب أحدهما،
وجبت فيه الزكاة وإن لم يبلغ نصاب الآخر.
والقول الثالث: أن الواجب فيه نصاب الذهب؛ قالوا: لأن نصاب الفضة يسير لا
يقارن بالأنصبة الواردة في الشرع في أربعين شاة أو خمس من الإبل وغيرها مما
ورد في الشريعة من أنصبة الأموال. فإن نصاب الريالات السعودية لو حددناه
بنصاب الفضة فإنه يساوي خمسمئة ريال، وهذه لا تساوي شاة واحدة، فيبعد أن
يوجب الشارع في مثل هذا المبلغ الزكاة، فإن في ذلك إجحافاً بصاحب المال.
وأما الذهب، فإنه يصل كما تقدم إلى ثلاثة آلاف، وهذا يقرب أن يكون نصاباً
يعرف به الغني.
وهذا القول فيما يظهر لي أقوى هذه الأقوال؛ لأنه ليس فيه إجحاف بصاحب
المال، ولأن الشرع لا يعلق الزكاة بمثل هذا المبلغ اليسير، فإن الشاة كانت
تساوي الدرهم ونحوه، فمئتا درهم تأتي بها مئة شاة ومئتى شاة، وأما هنا،فإنه
بالنظر إلى نصاب الفضة لا تساوي الريالات إلا الشيء اليسير من الأموال.
فالأظهر هو تقويمها بنصاب الذهب. كما أن الذهب أقوى في الثمنية من الفضة.
__________
(1) كلمة غير واضحة.
فأظهر الأقوال أن يقدر بالريالات بالذهب،
وأحوطها هو القول الثاني، وهو أنها إذا ساوت أدنى النصابين من الذهب والفضة
فإن الزكاة تجب فيها. الله أعلم.
قال: [ويضم الذهب إلى الفضة في تكميل النصاب]
هذا المشهور عند الحنابلة، وهو مذهب جمهور العلماء، قالوا: لأن الذهب
والفضة المقصود منهما واحد، فهما أثمان الأشياء وقيمها، فعلى ذلك: إن ملك
نقداً من الذهب، ونقداً من الفضة، بحيث إن كل واحد من النقدين لا يبلغ
نصاباً، وبمجموعهما يبلغان النصاب، فإن الزكاة تجب عليه، وهي ربع العشر.
- وقال الشافعية، وهو رواية عن الإمام أحمد (1) : إنه لا يضم بعضهما إلى
بعض؛ لأن كلاًّ منهما جنس مختلف عن الآخر، كالإبل والبقر والغنم، فكل منها
جنس يختلف عن الآخر، فلم يضم بعضها إلى بعض لاختلاف جنسيهما.
والأظهر ما تقدم، وهو القول الأول، فإن جنسيهما وإن اختلفا، فهما بمعنى
الجنس الواحد، فهما قيم الأشياء، فعلى ذلك: الأظهر مذهب الجمهور أن الذهب
والفضة يضم بعضها إلى بعض.
وهذه مسألة غير واقعة لنا في الأزمنة المعاصرة إلا أن يقال هذا على القول
الذي تقدم اختياره، وهو في الأوراق النقدية المختلفة، كأن يكون يملك
دولارات وريالات، وقلنا إن كلا منهما جنس مجرد عن الآخر، فإنه يضم بعضها
إلى بعض كما يضم الذهب والفضة.
فإذا ضم بعضها إلى بعض، فهل يكون هذا بالأجزاء أم بالقيمة؟
قال جمهور العلماء: يكون هذا بالأجزاء.
وصورة هذا: إذا ملك نصف نصاب الذهب وهو عشرة الدنانير، وملك نصف نصاب الفضة
وهو مئة درهم، فإن الزكاة تجب عليه، فقد ملك نصفاً من هذا، ونصفاً من هذا،
فيتم النصاب.
كذلك إذا ملك ثلثاً من نصاب الفضة، وثلثين من نصاب الذهب أو العكس، فإن هذه
الأثلاث تجتمع فتكون نصاباً. هذا إذا قلنا:إنها تضم بالأجزاء.
__________
(1) واختاره الشيخ محمد العثيمين رحمه الله تعالى.
أما إذا قلنا: إنها تضم بالقيمة، فإذا ملك
عشرة دنانير وملك خمسين درهماً وهي تساوي ربع نصاب الفضة، وهذه الخمسون
درهماً تساوي عشرة دنانير، لأن قيمة الذهب والفضة تختلف باختلاف الأزمان
ونحو ذلك، بل قد يكون في الزمن الواحد بل بالأيام يحصل اختلاف في قيمة
الذهب والفضة، فمثلاً إذا كان يملك خمسين درهماً ويساوي عشرة دنانير، وعنده
عشرة دنانير، فهذه عشرون ديناراً، فتجب عليه الزكاة.
وقال أبو حنيفة: إن الضم يكون بالقيمة، وخالفه فيه صاحباه فوافقوا جمهور
العلماء.
فجمهور العلماء على أن الضم يكون بالأجزاء، فإذا ملك نصفاً من هذا ونصفاً
من هذا وجبت عليه الزكاة، فلو ملك عشرة دنانير ومئة درهم، وهذه المئة درهم
لا تساوي إلا ثمانية دراهم، فإنه تجب عليه الزكاة.
أما أهل القول الأول، فقالوا: إنا لا ننظر إلى القيمة إذا كانا منفردين،
فكذلك إذا ضم بعضها إلى بعض.
فعندما يملك عشرين ديناراً وهذه العشرون لا تساوي إلا مئة درهم، فإن الزكاة
تجب عليه اتفاقاً، فلم ننظر إلى القيمة، وكذلك من ملك مئتي درهم، فإن
الزكاة تجب عليه وإن لم تساو إلا عشرة دنانير، قالوا: فلم ننظر في القيمة
وهما منفردان، فكذلك لا ننظر فيها وقد ضم بعضا إلى بعض. هذا هو مذهب
الجمهور.
وأما القول الثاني، وهو الاعتبار بالقيمة، فقالوا: إن هذه العشرة دنانير لا
تساوي إلا خمسين درهماً، فحينئذ يكون ماله بمجموعه لا يساوي نصاباً، وهذا
فيما يظهر لي أقوى.
وذلك لأن كوننا ننظر إليهما منفردين لأنهما
مال واحد أوجب الشارع فيه الزكاة، وأما هنا فإنهما لم يبلغا نصاباً شرعياً،
وإنما بجموعهما قد بلغاه بالقيمة، فحيث كان ذلك فقد وجبت الزكاة. وحيث لم
يكن مجموعهما يصل إلى قيمة ما تجب فيه الزكاة فإن الزكاة لا تجب فيهما، ولا
شك بالفارق بين ما إذا كانا منفردين وما إذا كانا مضمومين: بأنهما إذا كانا
منفردين فقد بلغا النصاب الشرعي، وأما إذا كانا غير منفردين فإن كلاًّ
منهما لم يبلغ النصاب الشرعي، وحيث لم يبلغ النصاب الشرعي، فإنا حينئذ نعلق
الحكم بقيمته؛ لأن الشارع لا يفرق بين المتماثلات، فحيث كان عنده من
الدراهم والدنانير ما يساوي مئة درهم أو عنده من الدراهم والدنانير ما
يساوي عشرين ديناراً، فإن الزكاة تجب عليه، لأنه كما لو كان عنده عشرون
ديناراً.
فالذي يظهر لي وهو رواية عن الإمام أحمد، وهو مذهب أبي حنيفة من الاعتبار
بالقيمة هنا لا بالأجزاء. والله أعلم.
قال: [وتضم قيمة العروض إلى كلٍ منهما]
رجل عنده دكان وعنده دراهم قد حال عليها الحول، فهذه الدراهم التي حال
عليها الحول لا يبلغ نصاباً وبضمها إلى قيمة العروض يكون مجموعها نصاباً،
فإن قيمة العروض تضم إليها، سواء كانت دراهم أو دنانير، وهذا ظاهر؛ لأنه
تقدم أن العروض تجب الزكاة في قيمتها، وقيمتها دراهم أو دنانير، فعلى ذلك:
تضم.
فإذا كان عنده دكان فقومه بدراهم، وعنده دراهم قد حال عليها الحول، وإذا
أفرد كلاً منهما لم يتم نصاباً، فإنه يضم بعضها إلى بعض، ويجب عليه ربع
العشر؛ لأن العروض من جنس الدراهم والدنانير، لأن النظر في قيمتها لا في
أعيانها. والله أعلم.
والحمد لله رب العالمين.
الدرس الخامس بعد المئتين
(يوم الثلاثاء: 1 / 1 / 1416 هـ)
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ويباح للذكر من الفضة الخاتم]
لما ثبت في الصحيحين عن أنس قال: " اتخذ
النبي صلى الله عليه وآله وسلم خاتماً من فضة " (1) . فخاتم الفضة جائز
لثبوته عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
قال: [وقبيعة السيف]
هي ظرف مقبض اليد منه، فيجوز أن يكون من فضة؛ ودليل هذا ما ثبت في مسند
أحمد وأبي داود والترمذي بإسناد صحيح من حديث أنس بن مالك قال: " كانت
قبيعة سيف النبي صلى الله عليه وآله وسلم فضةً " (2) .
قال: [وحلية المِنْطَقة]
المنطقة: تقدم أنها ما يشد به الوسْط، وهو من ملبوس الرجال سابقاً، فإذا
وضع في أطرافه شيء من فضة، فحليت بالفضة فلا بأس.
__________
(1) أخرجه البخاري في كتاب العلم، باب (7) ما يذكر في المناولة وكتاب أهل
العلم بالعلم إلى البلدان (65) عن أنس رضي الله عنه بلفظ قال: " كتب النبي
- صلى الله عليه وسلم - كتاباً - أو أراد أن يكتب – فقيل له: إنهم لا
يقرؤون كتاباً إلا مختوماً، فاتخذ خاتماً من فضة نقشه … "، وفي كتاب
اللباس، باب (46) خاتم الفضة (5866) عن ابن عمر بلفظ: " أن رسول الله - صلى
الله عليه وسلم - اتخذ خاتماً من ذهب أو فضة، وجعل فصه مما يلي كفه، ونقش
فيه: محمد رسول الله، فاتخذ الناس مثله، فلما رآهم قد اتخذوها رمى به وقال:
(لا ألبسه أبداً) ، ثم اتخذ خاتماً من فضة، فاتخذ الناس خواتيم فضة، قال
ابن عمر: فلبس الخاتم بعد النبي - صلى الله عليه وسلم - أبو بكر ثم عمر ثم
عثمان، ثم وقع من عثمان في بئر أريس "، و (5869) (5870) عن أنس رضي الله
عنه بألفاظ مختلفة، ومسلم (2092) .
(2) أخرجه أبو داود في كتاب الجهاد، باب (9) في السيف يحلى (2583) .
وذكر الحنابلة في ذلك آثاراً عن الصحابة لم
أقف على عزوها، ولم يعزوها، والقياس يدل على جوازه، وأظهر منه ما سيأتي من
إباحة الفضة للرجال مطلقاً مما هو اختيار شيخ الإسلام. قالوا: ومثل ذلك رأس
المكحلة وحلية الدرع وحلية المغفر أو أن يضع شيء في النصل أو نحو ذلك، فكل
هذا جائز لا بأس به من باب القياس على الحلية التي توضع في السيف التي تقدم
ثبوت فعلها عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
وما سوى ذلك فهو محرم. هذا هو المذهب.
قال صاحب الفروع: " ولم أجدهم يحتجون على تحريم لبس الفضة على الرجال، ولا
أعرف على تحريم لبس الفضة على الرجال نصاً عن أحمد ".
- وهناك قول في المذهب، وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية، وهو القول
الثاني في المسألة، وقد قواه صاحب الفروع: وهو أي لبس الفضة للرجال جائز
مطلقاً؛ وذلك لأن الأصل في الأشياء الإباحة كما قال تعالى: {هو الذي خلق
لكم ما في الأرض جميعاً} (1) ، ومن ذلك الفضة، فالفضة مما خلقه الله لنا،
فهو جائز لنا، ولا دليل يحرمه، وقد دلت الأدلة على جوازه للنساء، وهو
بإجماع العلماء جائز لهن، والأصل أن ما جاز للنساء فهو جائز للرجال كما أن
ما جاز للرجال فهو جائز للنساء إلا بدليل يدل على التخصيص ولا دليل يدل على
ذلك. هذا هو القول الراجح في هذه المسألة، وأن لباس الفضة جائز مطلقاً
للرجال.
وأما كون الآنية محرمة منه، فإن باب اللباس أوسع من باب الآنية، بدليل أن
الآنية محرمة على النساء كما تقدم، فالنساء لا يجوز لهن أن يشربن في آنية
الذهب والفضة ويجوز لهن أن يلبسن الذهب والفضة، فباب اللباس أوسع من باب
الآنية.
فلبس الفضة للرجال جائز مطلقاً على الراجح
إلا أن يدل دليل على التحريم، كأن يكون اللبس فيه تشبه بالنساء، فقد دلت
الأدلة الشرعية على تحريم تشبه الرجال بالنساء، فلا يجوز أن يلبس سواراً أو
غير ذلك، لكن إن لبسه لبساً يختص بالرجال فلا بأس بذلك.
ومما يدل على الفرق بين الذهب والفضة أن خاتم الفضة جائز لثبوته عن النبي
صلى الله عليه وآله وسلم وخاتم الذهب محرم عن النبي صلى الله عليه وآله
وسلم نصاً في الصحيحين كما سيأتي. ففرق بين الذهب والفضة.
قال: [ومن الذهب قبيعة السيف]
يجوز له أن يحلي قبيعة (1) سيفه بالذهب، فهذا جائز، وقد حكاه الإمام أحمد
عن عمر بن الخطاب، والوارد عن عمر كما في الطحاوي (2) وغيره بإسناد جيد أن
سيفه كان محلاًّ بفضة، وهو الأليق به من الاقتداء بالنبي صلى الله عليه
وآله وسلم، فإن سيفه كان محلاً بفضة، فالأظهر ضعف هذا الأثر، ولم أقف على
سند له ينظر فيه، والمحفوظ عن عمر ما تقدم من أن سيفه كان محلاً بفضة.
ورواه الترمذي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم مرفوعاً لكن بإسناد لا
يصح.
إذاً قالوا: قبيعة السيف يجوز أن تكون من ذهب، واستدلوا بما حكاه الإمام
أحمد فقال: " روي عن عمر " وتقدم أن المحفوظ فيما وردت به الآثار التي يقف
الناظر على سندها إنما ما تقدم من أن سيفه كان محلاً بفضة، لكن سيأتي
الدليل على جواز ذلك.
قال: [وما دعت إليه ضرورة كأنف ونحوه]
__________
(1) القَبِيعةُ: التي على رأس قائم السيف، وهي التي يُدخَلُ القائم فيها،
وقيل: هي ما تحت شاربي السيف مما يكون فوق الغِمْد فيجيء مع قائم السيف،
والشاربان أنفان طويلان أسف القائم، أحدهما من هذا الجانب والآخر من هذا
الجانب، وقيل: قبيعة السيف رأسه الذي فيه منتهى اليد إليه، وقيل: قبيعته ما
كان على طرف مَقْبِضِه من فضة أو حديد " لسان العرب [8 / 259] .
يجوز أن يضع من الذهب ما يضطر إليه من أنف
أو أسنان أو نحو ذلك. هذا جائز للضرورة. فقد روى أبو داود بإسناده الذي لا
بأس به، فالسند لا بأس به إن شاء الله، ويشهد له عمل أهل العلم، فإنه لا
خلاف بين العلماء في جواز اتخاذ ما يضطر إليه من أنف أو سن أو نحو ذلك من
الذهب، فما يضطر إليه أن يتخذ من ذهب فهو جائز باتفاق العلماء، ويدل عليه
أصول الشريعة من أن المحرمات يذهب تحريمها بالاضطرار إليها، فلا تحريم مع
ضرورة، فقد روى أبو داود في سننه بإسناد لا بأس به عن عرفجة بن أسعد رضي
الله عنه أنه أصيب أنفه يوم الكُلاَب في الجاهلية، فاتخذ أنفاً من فضة،
فأنتن، فأمره النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن يتخذه من الذهب " (1) ، ولا
خلاف بين العلماء في هذه المسألة.
__________
(1) أخرجه أبو داود في كتاب (28) الخاتم، باب (7) ما جاء في ربط الأسنان
بالذهب (4232) . قال المحقق [4 / 434] : " وأخرجه الترمذي في اللباس حديث
1770 باب ما جاء في شد الأسنان بالذهب، والنسائي في الزينة حديث 5164 باب
من أصيب أنفه هل يتخذ أنفاً من ذهب، وقال الترمذي " هذا حديث حسن غريب،
إنما نعرفه من حديث عبد الرحمن بن طرفة " وقال المنذري: وأبو الأشهب هذا،
هو جعفر بن الحارث، سكن واسط وكان مكفوفاً، ضعفه غير واحد والكلاب - بضم
الكاف وتخفيف اللام والباء – موضع كان فيه يومان من أيام العرب المشهور.
الكلاب الأول، والكلاب الثاني، واليومان في موضع واحد، وقيل: هو ما بين
الكوفة والبصرة على سبع ليال من اليمامة، فكانت به وقعة في الجاهلية، انتهى
كلام المنذري، وفي عارضة الأحوذي شرح الترمذي: يوم الكلاب كان مرتين،
الأولى بين بكر وتغلب، والثاني يوم الصعقة بين تميم وأهل هجر الحارثيين
وغيرهم، وفي الثاني حضر عرفجة وأكثم بن صيفي والزبرقان بن بدر " انتهى كلام
المحقق.
نعود إلى ما تقدم من الاستدلال على جواز
قبيعة السيف، دليله ما رواه النسائي وغيره بإسناد صحيح: أن النبي صلى الله
عليه وآله وسلم نهى عن الذهب إلا مقطعاً " (1) ، وهو اختيار شيخ الإسلام
(2) ، وهو قول أبي بكر من الحنابلة: أن الذهب اليسير التابع لغيره جائز،وهو
الذهب المقطع. فإذا اتخذ في شيء من ملبوساته ذهباً يسيراً، فإن ذلك جائز؛
لأن الذهب هنا مقطع، فالذهب المقطع جائز، كأن يحلي الدرع بشيء يسير من ذهب
أو يحلي المنطقة بشيء يسير من ذهب أو أن يضع في خاتمه فصاً من ذهب، فإن هذا
جائز. وهذا خلاف المشهور في المذهب،فإن المشهور في المذهب جوازه في قبيعة
السيف فحسب.
- واختار شيخ الإسلام، وهو قول في المذهب: جوازه مطلقاً إن كان تابعاً
لغيره، وهو يسير.
أما إن كان ليس تابعاً لغيره، بل هو لباس مستقل، كالخاتم وغيره، فإن الأدلة
دلت على تحريمه، فقد ثبت في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم رأى
خاتم ذهب في يد رجل فنزعه وطرحه، وقال: (يعمد أحدكم إلى جمرة من نار
فيجعلها في يده) (3) .
(4)
قال: [ويباح للنساء من الذهب والفضة ما جرت عادتهن بلبسه ولو كثر]
__________
(1) أخرجه النسائي في كتاب (48) الزينة، باب (40) تحريم الذهب على الرجال
(5150) بلفظ: " عن معاوية أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهى عن لبس
الذهب إلا مقطعاً وعن ركوب المياثر "، و (5149) عن معاوية أن رسول الله -
صلى الله عليه وسلم - نهى عن لبس الحرير والذهب إلا مقطعاً ".
(2) الفتاوى لشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله [21 / 87] .
(3) أخرجه مسلم في كتاب (37) اللباس والزينة، باب (11) تحريم خاتم الذهب
على الرجال.. (2090) . ولم أجده في البخاري، وكذا عزاه صاحب الدراية في
تخريج أحاديث الهداية، إلى مسلم فقط.
(4) في أسفل المذكرة ما نصه: قال رحمه الله: فيباح خراز الذهب إذا كان
أربعة أصابع فما دونها ...
النساء يباح لهن أن يلبسن من الذهب والفضة
ما جرت عادتهن به من قرط أو فتخات أو أسورة أو سلاسل أو غير ذلك محلقاً أو
غير محلق، يجوز لهن أن يلبسن ما جرت عادتهن بلبسه من الذهب والفضة.
وذلك لقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم فيما تقدم تخريجه، وهو في بعض
السنن أنه قال في الذهب والحرير: (هذان حرام على ذكور أمتي حلال لإناثهم)
(1) . فالذهب مباح للنساء مطلقاً.
وقيده المؤلف هنا بما جرت عادتهن، لا بما جرت عادة الرجال به، فما عادة
الرجال به فلا يجوز لما فيه من التشبه.
إذاً ما جرت عادتهن بلبسه، وهذا يختلف باختلاف الأزمان والبلدان، فإن ذلك
جائز لهن ولو كثر.
__________
(1) أخرجه أبو داود في كتاب (26) اللباس، باب (14) في الحرير للنساء (4057)
بلفظ: " عن عبد الله بن زُريَر يعني الغافقي أنه سمع علي بن أبي طالب رضي
الله عنه يقول: إن نبي الله - صلى الله عليه وسلم - أخذ حريراً فجعله في
يمينه، وأخذ ذهباً فجعله في شماله، ثم قال: (إن هذين حرام على ذكور أمتي) ،
وأخرجه النسائي في الزينة حديث 5147) باب تحريم الذهب على الرجال، وابن
ماجه في اللباس حديث 3595 باب لبس الحرير والذهب للنسائي، وفي حديث ابن
ماجه (حل لإناثهم) ، وأخرج الترمذي - عن أبي موسى الأشعري – في اللباس حديث
1720 باب في الحرير والذهب، وأخرجه النسائي أيضا في الزينة باب تحريم لبس
الذهب، وقال الترمذي: " حسن صحيح "، سنن أبي داود [4 / 330] .
وقوله: " ولو كثر "، " لو " إشارة إلى خلاف
في المذهب، فقد قال ابن حامد من الحنابلة، وهو رواية عن الإمام أحمد: أنه
إن بلغ ألف مثقال فإنه يحرم،وهذا القول ضعيف؛ لأنه تحديد بلا دليل، بل يجوز
للنساء أن يلبسن ما شئن، فإن الأدلة مطلقة، لكن بشرط ألا يكون فيه إسراف
ولا مخيلة، وقد يكون الإسراف أو المخيلة في أقل من هذا العدد المذكور، وقد
لا يكون فيه، بل في أكثر منه، فمتى ما وقع الإسراف أو المخيلة فإنه لا
يجوز.
فقد قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم فيما رواه أحمد والنسائي بإسناد
جيد: (كلوا واشربوا وتصدقوا والبسوا بغير إسراف ولا مخيلة) (1) . إذاً لا
يحدد ذلك بقدر، إذ لا دليل على التحديد، وإنما ينهى فيه الإسراف أو
المخيلة، فإنه محرم لما تقدم.
قال: [ولا زكاة في حليهما]
أي في حلي الذكر والأنثى، فإذا كان عند الرجل خواتم من فضة وله قبيعة سيف
من فضة يبلغان نصاباً، فتجب (2) عليه الزكاة فيه، وكذلك المرأة إذا كان
فيها لبس من فضة أو لبس من ذهب بلغ النصاب.
فقوله: " حليهما " أي الذكر والأنثى أي فيما يجوز لهما من الحلي.
قال: [المعد للاستعمال أو العارية]
أي لاستعمال مالكه وهو الملبوس، أم كان معداً للعاريَّة. فإن كان قد أعد
للاستعمال أو العارية، فلا زكاة فيه. هذا هو المشهور عند الحنابلة، وهو
مذهب المالكية والشافعية، وأن الحلي لا زكاة فيه سواء كان معداً للاستعمال
أو معداً للعارية.
__________
(1) ذكره البخاري معلقاً بصيغة الجزم في أول كتاب اللباس بلفظ: (كلوا
واشربوا والبسوا وتصدقوا من غير إسراف ولا مَخِيلة) وأخرجه النسائي في كتاب
(23) الزكاة، باب (66) الاختيال في الصدقة (2559) عن عمرو بن شعيب عن أبيه
عن جده بلفظ قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (كلوا وتصدقوا
والبسوا في غير إسراف ولا مخيلة) .
(2) كذا في الأصل، ولعل الصواب: لا تجب.
واستدلوا بما روى جابر أن النبي صلى الله
عليه وآله وسلم قال: (ليس في الحلي زكاة) (1) .
قالوا: ولأن الحلي المعدة للاستعمال أو العارية ليس محلاً للنماء، والزكاة
إنما تجب في الأموال النامية، وهذا ليس بمال نام، بل يستعمل ويعار، وحينئذ
فليس قابلاً للنماء، قالوا: فأشبه متاع البيت، فأثاث البيت لا زكاة فيه،
فكذلك حليهما المعد للاستعمال والعارية، وهو مذهب الشافعي.
- وذهب الأحناف، وهو رواية عن الإمام أحمد، وهو مذهب طائفة كثيرة من
التابعين، فهو مذهب ابن المسيب ومجاهد وابن سيرين وعطاء، وهو مذهب ابن
مسعود وعائشة كما في البيهقي بإسناد حسن: أن الزكاة تجب في الحلي المعد
للاستعمال (2) .
__________
(1) رواه الطبراني، قال الألباني في الإرواء [3 / 294] رقم (817) : " باطل
". قال الإمام أحمد كما في منار السبيل: " خمسة من أصحاب النبي - صلى الله
عليه وسلم - يقولون ليس في الحلي زكاة زكاته إعارته، وهم أنس جابر وابن عمر
وعائشة وأسماء.
(2) أخرج البيهقي [4 / 234] رقم (7546) عن علقمة أن امرأة عبد الله سألت عن
حلي لها فقال: إذا بلغي مئتي درهم ففيه الزكاة قالت: أضعها في بني أخ لي في
حجري قال: نعم، وقد روي هذا مرفوعاً إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - وليس
بشيء ".وفيه (7551) عن ابن عمر قال: " زكاة الحلي زكاته "، وعن عائشة
(7545) رضي الله عنها قالت: " لا بأس بلبس الحلي إذا أعطي زكاته ".
واستدلوا بما ثبت عند أبي داود والترمذي
والنسائي بإسناد قوي كما قال الحافظ ابن حجر، وهو كما قال: " أن امرأة أتت
النبي صلى الله عليه وآله وسلم ومعها ابنة لها، وفي يد ابنتها مسكتان – أي
سواران – من ذهب، فقال: (أتؤدين زكاة هذا) قالت: لا يا رسول الله، قال:
(أيسرك أن يسورك الله بهما سوارين من نار) فألقتهما وقالت: هما لله ورسوله
" (1) ، والحديث من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده، وهي أحاديث يحتج
بها.
وثبت - وهو شاهد له - عند أبي داود بإسناد حسن، ورواه الحاكم وصححه، وقال
ابن دقيق العيد فيه: " إسناده على شرط مسلم " عن عائشة قالت: " دخل علي
رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وعلى يدي فتخات من ورق – أي من فضة –
فقال: (ما هذا يا عائشة؟) فقلت: صنعتهن أتزين بهن لك، فقال النبي صلى الله
عليه وآله وسلم: (أتؤدين زكاتهن؟) قالت: لا أو ما شاء الله - أي من اللفظ
المقابل للفظة " ما شاء الله "، فقال: (هو حسبك من النار) (2) .
__________
(1) أخرجه أبو داود في كتاب الزكاة، باب (3) الكنز ما هو؟ وزكاة الحلي
(1563) .
(2) أخرجه أبو داود في الباب السابق رقم (1565) .
وروى أبو داود في سننه وهو شاهد لما تقدم
عن عطاء عن أم سلمة قالت: " كنت ألبس أوضاحاً – أي خلخل (1) – من ذهب،
فقلت: يا رسول الله أكنز هو؟ فقال: (ما بلغ أن تؤدى زكاته فزكي فليس بكنز)
(2) ، وعطاء لم يسمع من أم سلمة، فالحديث فيه انقطاع، لكنه يصح شاهداً
للحديثين المتقدمين. قالوا: فهذه أحاديث تدل على فرضية الزكاة في الحلي،
قالوا: ويدل على هذا عمومات الأدلة الشرعية، كقوله صلى الله عليه وآله
وسلم: (ما من صاحب ذهب ولا فضة لا يؤدي منها حقها..) (3) رواه مسلم، وقوله
تعالى: {والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله..} (4) وغير
ذلك من العمومات.
__________
(1) كذا في الأصل.
(2) سنن أبي داود، كتاب الزكاة: باب الكنز ما هو وزكاة الحلي. [2 / 212]
.رقم (1564) .
(3) أخرجه مسلم / في أول باب (6) إثم مانع الزكاة، من كتاب (12) الزكاة،
رقم (987) .
قالوا: وأما ما استدل به أهل القول الأول
من حديث جابر، فالحديث إسناده ضعيف جداً، وإنما هو ثابت من قول جابر كما في
سنن البيهقي بإسناد صحيح (1) ، فهو قول موقوف على جابر، والقول الموقوف
معارض بغيره من الأقوال الموقوفة كما تقدم من أثر عائشة وابن مسعود، فلا
يحتج به، فآثار الصحابة إنما يحتج بها حيث لم يخالف بأقوال غيرهم، وقد خولف
أثر جابر بأثر عائشة وابن مسعود، وحيث اختلفت أقوال الصحابة فالحجة فيما
ورد عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كما تقدم. قالوا: وأما ما ذكرتموه من
الحلي من الذهب والفضة المعد للاستعمال لا تجب فيه الزكاة لأنه ليس من
الأموال النامية فأشبه متاع البيت، فهذا قياس مردود من وجهين:
الوجه الأول: أنه قياس مصادم للنصوص الشرعية، والقياس المصادم للنصوص
الشرعية فاسد الاعتبار، فلا ينظر إليه. (2)
__________
(1) السنن الكبرى للبيهقي [4 / 233] رقم (7539) قال: " أخبرنا أبو زكريا بن
أبي إسحاق وغيره قالوا: ثنا أبو العباس، أنبأ الربيع، أنبأ الشافعي، أنبأ
سفيان، عن عمرو بن دينار قال: سمعت رجلاً يسأل جابر بن عبد الله عن الحلي
أفيه الزكاة، فقال جابر: لا، فقال: وإن كان يبلغ ألف دينار، فقال جابر:
كثير ". قال المحقق: " أخرجه المصنف في معرفة السنن (2353) والشافعي في
الأم (2 / 41) .
(2) في حاشية المذكرة ما نصه: قال بعض العلماء: لا يشترط النصاب في الحلي،
وقال سفيان الثوري: نضمه إلى غيره. ...
الوجه الثاني: أنه قياس مع الفارق، فقد
قستم حلي الذهب والفضة على متاع البيت المعد للاستعمال، وبينهما عندكم
فارق، والفارق عند الحنابلة وغيرهم فيهما هو أنهم أوجبوا الزكاة في الحلي
المعد للنفقة والمعد للكراء، فلو أن امرأة عندها حلي تبيع منه للنفقة على
نفسها، فإن الزكاة تجب عليها؛ لأنه ليس بمعد للاستعمال، وإنما هو معد
للنفقة، وسيأتي دليلهم على هذا، ولذلك إن أعد للكراء، كأن يكون عند امرأة
ذهباً قد أعدته كلها للكراء، أي للإجارة،فإن الزكاة تجب.
وأما متاع البيت المعد للنفقة أو الكراء، فإن الزكاة لا تجب فيه عندهم،
فبين المسألتين فارق، والقياس مع الفارق لا يصح.
ومما يدل على هذا: أن الكنز من الذهب والفضة تجب فيه الزكاة بنص القرآن
{والذين يكنزون الذهب والفضة..} (1) ومعلوم أن الكنز ليس بمعد للنماء ومع
ذلك فقد أوجب الله عز وجل فيه الزكاة.
وأما المواشي المعدة للعمل، فإنها لا تجب فيها الزكاة، وهذا أصح قياساً على
هذه المسألة، فإنه لو قيس قولهم على هذا لكان أقوى من القياس المتقدم مع
ضعفه.
والفارق بين الحلي من الذهب والفضة وبين البقر والإبل العوامل حيث أنها لا
تجب فيها الزكاة، الفارق: أن الذهب والفضة مادة الأثمان وبهما قيام
المعايش، ولاشك أن اختيارها حلياً ثم لا تجب فيها الزكاة يخالف مقصود
الشارع من بقائها أثماناً للأشياء، فحيث أنها بقيت هكذا حلياً بحيث أنها لا
تقع فيها هذه الأحكام الشرعية من الزكاة فقد تكون مهرباً لكثير من الناس،
فتكون أثمان الناس وقيمهم.
وعموماً فإن الأدلة الشرعية قد دلت على إيجاب الزكاة فيها فلا ينظر إلى
الأدلة النظرية حيث خالفت الأدلة الأثرية.
واعلم أننا قد أوجبنا – وهو الراجح في
المسألتين – الزكاة في الحلي، فإن الحلي إنما تجب الزكاة فيه حيث كان ذهباً
وفضة كما دلت عليه الأدلة المتقدمة،وعليه فيخرج عن الزكاة ما لو صنع فيه من
الجوهر ونحوه، فإذا رصعت فيه جواهر أو لآلئ أو ماس أو نحو ذلك، فإنها تخرج
من وزنه، فلا توزن؛ لأن الزكاة إنما تجب في الذهب والفضة، وأما سائر الحلي
من غير الذهب والفضة، فإن الزكاة لا تجب فيها اتفاقاً. وكذلك المخالط للذهب
والفضة، فإنه لا تجب فيه الزكاة.
وهناك قول ثالث في مسألة زكاة الحلي، وقد قواه ابن القيم، وهو مذهب بعض
التابعين وهو رواية عن الإمام أحمد: أن الحلي يجب فيها الزكاة أي العارية..
.. .. (1) أن يعيرها أن يزكيها. وهذا القول ضعيف؛ لأن الأدلة الشرعية
المتقدمة فيها لفظ الزكاة، والزكاة إذا تلفظ بها الشارع فهي الزكاة الشرعية
الحقيقية التي هي إخراج حق من المال لأهل الزكاة.
وما ذكروه من أن زكاتها عاريتها هذا مجاز، والألفاظ تحمل على حقائقها لا
على مجازاتها إلا بدليل، ولا دليل شرعي يدل على ذلك. فأصح الأقوال وجوب
الزكاة فيها.
قال: [وإن أعد للكرى أو للنفقة أو كان محرّماً ففيه الزكاة]
إذا كان عنده ذهب قد أعده للكراء كحلي النساء، فتجب الزكاة فيه، قالوا: لأن
الأصل في الذهب والفضة وجوب الزكاة، وإنما استثنينا الحلي الملبوس لأدلة
ثبتت عندنا، وحيث لم تثبت الأدلة في الكراء فإنا نبقى على الأصل من وجوب
الزكاة في الذهب والفضة.
__________
(1) لم يتضح لي، قال في حاشية الروض المربع [3 / 256] : " ونقل الشيخ عن
غير واحد من الصحابة أنه قال: زكاة الحلي عاريته، قال: والذي ينبغي إذا لم
تخرج الزكاة أن يعيره، وهو رواية عن أحمد ".
وكذلك النفقة، فإن الأصل وجوب الزكاة في
الذهب والفضة، ولا دليل على إسقاطها في النفقة بخلاف إسقاطها في الحلي،
فعندهم ما يستدلون به على هذا، أما هنا فلا دليل عندهم. فعلى ذلك: بقوا على
الزكاة فيها.
وكذلك إذا كان محرماً، كلبس الرجل للذهب المستقل، فإنه يزكيها، وكذلك
المرأة إذا لبست حلياً فيها إسراف، فإنها تزكيها.
إذاً: ما لا يحل من الحلي تجب الزكاة فيه؛ قالوا: لأن الأصل هو وجوب الزكاة
في الذهب والفضة، وهذا الملبس غير مأذون فيه شرعاً؛ لأنه محرم، فلا يسقط
الزكاة، فيبقى على الأصل من إيجاب الزكاة؛ لأن اللبس هنا غير مأذون فيه
شرعاً، وحيث كان كذلك فإنا نبقى على الأصل، فلا يكون هذا الفعل المحرم
مؤثراً في إسقاط الزكاة.
وعلى الترجيح المتقدم، فإنه لا إشكال في دخولها؛ لأنه إذا ثبتت في الذهب
المستعمل فأولى منه ما أعد للكراء ونحوه، وإذا ثبتت في الحلي المباح فأولى
منه إثباتها في الحلي المحرم.
والحمد لله رب العالمين.
باب زكاة العروض
الدرس السادس بعد المئتين
(يوم السبت: 5 / 1 / 1416 هـ)
باب زكاة العروض
العروض: جمع عرض: وهو ما سوى الأثمان من الأموال، أي ما سوى الذهب والفضة
من الجواهر والعقارات والثياب والأمتعة ونحو ذلك من الأموال.
وهي في تعريف الفقهاء: ما أعد للبيع بقصد الربح من متاع أو غيره. فعروض
التجارة هي الأموال سوى الأثمان التي قد أعدها صاحبها للبيع، أما إن كانت
للقنية أي للاقتناء من ملبوسه أو مسكنه أو ما في بيته من أمتعة ونحو ذلك،
فإنها قد أعدت للقنية لا للتجارة، فهي بإجماع العلماء لا تجب فيها الزكاة.
فلا تجب الزكاة فيما اتخذ للقنية من دابة ومركب أو فراش أو نحو ذلك.
وتجب الزكاة في عروض التجارة بدلالة الكتاب والسنة والإجماع وآثار الصحابة.
أما الكتاب، فقوله تعالى: {أنفقوا من طيبات
ما كسبتم} (1) ، وقوله تعالى: {خذ من أموالهم صدقة} (2) فقوله {أموالهم}
جمع مضاف فيفيد العموم أي خذ من كل أموالهم، والأمتعة والأثاث والعقارات
التي أعدت للبيع أموال فتدخل في العموم.
وأما السنة، فقد ثبت عند الحاكم في مستدركه والدارقطني والبيهقي في سننيهما
بإسناد جيد أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: (في الإبل صدقتها وفي
الغنم صدقتها وفي البز صدقته) (3) والبز: هو القماش الذي يباع، فأوجب النبي
صلى الله عليه وآله وسلم في البز الصدقة، وضبطها الحاكم في مستدركه – وهو
تصحيف – (وفي البر صدقته) (4) ، لكن هذا تحريف وتصحيف كما صحح ذلك النووي
وغيره، ولو كان الشارع يريد البر لقال: (وفي الحب صدقته) كما قال صلى الله
عليه وآله وسلم: (ليس فيما دون خمسة أوسق من تمر ولا حب صدقة) (5) ، فهذا
دليل على وجوب الزكاة في البز، ويلحق به غيره من أموال التجارة.
__________
(1) سورة البقرة.
(2) سورة التوبة.
(3) أخرجه الدارقطني في سننه [2 / 268] رقم (1909) قال المحقق: " في إسناده
موسى بن عبيدة الربذي وهو ضعيف … قال الحافظ في التلخيص (2 / 345) : إسناده
غير صحيح … وله عنده طريق ثالث من رواية ابن جريج عن عمران بن أبي أنس عن
مالك بن أوس عن أبي ذر، وهو معلول، لأن ابن جريج أخرجه عن عمران أنه بلغه
عنه.اهـ. وقد تابعه سعيد بن سلمة بن أبي الحسام: ثنا عمران بن أبي أنس،
أخرجه الحاكم في المستدرك (1 / 388) وصححه على شرط الشيخين، ووافقه الذهبي،
وله متابعة أخرى،وهي التي أشار إليها الحافظ، وستأتي عند الدارقطني " انتهى
كلام المحقق. وأخرجه البيهقي [4 / 247] رقم (7598) (7602) .
(5) متفق عليه، وقد تقدم صْ 37.
وأما دليل الإجماع، فقد حكى غير واحد من
أهل العلم، كابن المنذر وأبي عبيد القاسم بن سلام إجماع العلماء على وجوب
الصدقة في الأموال التجارية.
أما دلالة أقاويل الصحابة، فقد صح ذلك عن عمر كما في البيهقي وغيره (1) ،
وصح عن ابنه كما في البيهقي (2) ، وصح عن ابن عباس كما في كتاب الأموال
لأبي عبيد (3) ، ولا يعلم لهم مخالف، فيكون قولهم إجماعاً وحجة.
- وذهب الظاهرية إلى أن الزكاة غير واجبة في عروض التجارة، واختار هذا
القول الشوكاني في نيل الأوطار وغيره.
واستدلوا بالأصل، قالوا: الأصل براءة الذمة من الزكاة، فلا تجب الزكاة إلا
بدليل، قالوا: ولا دليل يدل على ذلك.
وهذا ظاهر البطلان، فقد تقدمت الأدلة الدالة على وجوبها من عمومات النصوص
الشرعية في القرآن ومن الحديث والمتقدم، وهم محجوجون بالإجماع الذي تقدم
ذكره.
واستدلوا بقوله صلى الله عليه وآله وسلم: (ليس فيما دون خمسة أوسق من تمر
ولا حب صدقة) ، قالوا: وأنتم توجبون الزكاة فيما إذا بلغ الحب أربعة أوسق
أو التمر، وقد أعد للتجارة. وهذا ظاهر، فإن الذين يوجبون الزكاة في العروض
التجارية إذا كان عنده دكان فيه أربعة أوسق من الحب للبيع والتجارة، فإن
الزكاة تجب فيها؛ لأنها عروض التجارة.
والجواب عن هذا أن يقال: إن هذا باب آخر، فقوله صلى الله عليه وآله وسلم:
(ليس فيما دون خمسة أوسق من تمر ولا حب صدقة) (4) ، هذا في زكاة الحبوب
والثمار التي تجب عند الحصاد ويراعى فيها عينها، وأما عروض التجارة فإن
زكاتها زكاة حولية وتراعى فيها قيمتها، فهذا باب آخر.
__________
(1) السنن الكبرى للبيهقي [4 / 248] رقم (7603) .
(2) رقم (7605) .
(4) تقدم قريباً.
إذاً: ما عليه أهل العلم هو الذي دلت عليه
الأدلة الشرعية، وأما ما ذهب إليه الظاهرية، فلا يلتفت إليه لمخالفته ما
تقدم، ولمخالفته الإجماع. وباتفاق العلماء أن الزكاة تجب في عروض التجارة
عند مضي الحول، لعموم الآثار المتقدمة: " لا زكاة في مال حتى يحول عليه
الحول " (1) ، فإذا مضى الحول وجبت الزكاة.
قال: [إذا ملكها بفعله]
أي باختياره، كالخلع والصداق والهبة والوصية والشراء ونحو ذلك، فالمقصود
أنه وقع التملك على هذا السلعة باختياره لا قهراً عنه، ليخرج من ذلك ما
يتملكه العبد بالإرث، فإنه يتملكه قهراً لا اختياراً، بحيث أنه بمجرد ما
يموت الميت وله مال فإن هذا الوارث يمتلك نصيبه بموته، وإن كان له أن
يتنازل عنه، لكن المقصود أنه يدخل في ملكيته قهراً عنه فليس باختياره.
فذكر شرطاً، وهو أن يكون ملكية هذه السلعة بفعله واختياره لا قهراً. هذا هو
الشرط الأول.
قال: [بنية التجارة]
هذا هو الشرط الثاني، وهو أن تكون بنية التجارة. فإن كانت بنية القنية فلا
تجب فيها الزكاة، فلو اشترى أرضاً على أنه يريد أن يبنيها فيسكنها، فهذه
قنية، أو اشترى ثياباً بنية أن يلبسها أو يهديها، فإن الزكاة لا تجب.
فالشرط الثاني: هو أن تكون بنية التجارة أي من وقت ملكيتها. وسيأتي الكلام
على هذين الشرطين.
قال: [وبلغت قيمتها نصاباً]
وباتفاق العلماء أن نصابها نصاب الأثمان، أي نصاب الذهب والفضة، والشارع لم
يضع لها نصاباً لكثرتها وانتشارها؛ ولأن الاعتبار فيها بقيمتها، فإنها تباع
وتشترى بالأثمان، فكان نصابها نصاب الذهب والفضة، فإذا بلغت النصاب من
الذهب والفضة فيجب فيها الزكاة.
إذاً: تنظر قيمتها، فإذا بلغت نصاباً وجبت فيها الزكاة. وعليه: فإذا كانت
عنده أمتعة لا تباع إلا بمئة درهم أو عشرة دنانير، فإن الزكاة لا تجب عليه؛
لأنها لم تبلغ نصاباً، ولا خلاف بين العلماء في هذا.
__________
(1) تقدم.
الشرط [الثالث] هذا من باب القياس الظاهر
على الأثمان.
قال: [زكى قيمتها]
فإذا بلغت نصاباً، فإنها تزكى ويخرج زكاتها قيمة، فيكون المخرج القيمة لا
العين. هذا هو المشهور عند الحنابلة. فإذا بلغت تجارته عشرين ديناراً فيجب
عليه أن يتصدق بنصف دينار.
قالوا: لأن نصابها تعتبر فيه القيمة، فاعتبرت - أي القيمة - بالمخرج منها،
فإنا إذا أردنا أن ننظر هل بلغت النصاب أم لم تبلغه فإنا ننظر على قيمتها،
فإن بلغت القيمة النصاب أوجبنا الزكاة فيها، قالوا: وكذلك المخرج، فيجب أن
يخرج القيمة، ولا يجوز له أن يخرجها من أعيان تجارته، فليس له أن يخرجها
ثياباً أو نحو ذلك.
- وقال بعض الشافعية: بل تجب الزكاة في عينها، فعليه أن يخرج ربع العشر مما
عنده من الأموال التي هي سوى الأثمان، فإذا كان عنده أقمشة فيخرج أقمشة
ونحو ذلك.
قالوا: قياساً على سائر الأموال الزكوية، فكما أن الزروع تخرج زكاتها حباً
والثمار يخرج زكاتها ثمراً والمواشي كذلك، فكذلك عروض التجارة.
ويمكن أن يجاب عليهم بالفارق، فيقال: الفارق بينهما أن المواشي نصابها
مواشي والثمار نصابها ثمار، والزروع نصبها حبوب، وأما هنا فإن نصابها
بالقيمة، فكان القدر المخرج منها أيضاً بالقيمة.
- وقال الأحناف، وهو اختيار شيخ الإسلام: يجوز أن يخرج قيمة ويجوز أن يخرج
عيناً.
أما كونه يجوز له أن يخرجها من أعيان هذه الأموال؛ فلأن الزكاة في الأصل
تجب من عين المال، لقوله تعالى: {خذ من أموالهم صدقة} ، فالزكاة تؤخذ من
المال.
وأما كونه يجوز أن يخرج قيمةً – ولم أره لشيخ الإسلام – فلعل ذلك بالنظر
إلى نصابها، أو لأن المقصود منها القيمة.
وهذا هو الأرجح، فإن إخراجها من عين ماله جائز؛ وذلك لأن الأصل في الزكاة
أن تخرج من عين المال، لأن المقصود منها المواساة، فلم يكلفها الغني من غير
ماله.
وإن أخرجها قيمة جاز ذلك؛ لأن هذه الأمتعة
ونحوها المقصود منها القيمة، فإن أخرج القيمة أجزأه ذلك. هذا هو أرجح
المذاهب، فيجوز إخراجها عيناً ونقداً.
واعلم أن أهل العلم قد اختلفوا في جواز إخراج القيمة في غير العروض من
المواشي ونحوها، فهل يجوز أن يخرج عن الحب دراهم أو دنانير أو يخرج عن
الإبل أو البقر أو الغنم دراهم أو دنانير، أو يجب أن يخرجها من عين ماله؟
- قال جمهور العلماء: يجب أن يخرجها من عين ماله؛ لقوله تعالى: {خذ من
أموالهم صدقة} . والنصوص الشرعية في هذا الباب كقوله: (في كل أربعين من
الغنم شاة) ، ونحو ذلك من الأدلة الدالة على أن المخرج يكون من جنس المال.
- وقال الأحناف: يجوز أن يخرج بالقيمة؛ لأن المقصود منها هو القيمة، فله أن
يخرج مكان الشاة ما يساويها من الدراهم والدنانير.
- واختار شيخ الإسلام، وهو رواية عن أحمد، قولاً بين هذين القولين، فقال:
يجوز إخراج القيمة عند الحاجة، فإذا احتيج إلى إخراج الدراهم والدنانير عن
الشياه أو عن البقر أو عن الإبل أو عن الحب أو التمر، فإن كانت مصلحة الغني
في ذلك من غير ضرر على الفقير أو كانت مصلحة الفقير في ذلك من غير ضرر على
الغني، فله أن يخرجها قيمة.
قال: لأن هذا هو المقصود من هذه الأشياء، فإن هذه الأشياء تباع وتشترى فلا
فرق بين أن يخرج قيمة وبين أن يخرج على الصفة الواردة في الشريعة، وحيث أن
الشارع قد نص عليها فلا يجوز لنا أن نخرج القيمة إلا عند الحاجة إليها،
فإذا ثبتت المصلحة جاز لنا أن نخرجها.
ودليل هذا من الآثار: ما رواه طاووس عن
معاذ بن جبل أنه قال: " ائتوني بخميص أو لبيس – وهي.. ثياب – مكان [الشعير]
والذرة أهون عليكم وخير لأصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالمدينة "
(1) ، وهذا الأثر يرويه طاووس عن معاذ وهو لم يسمع منه، لكنه أدرك حالة
تلاميذ معاذ بن جبل في اليمن، وهو من أهل اليمن، وقد احتج بهذا الأثر
البخاري في صحيحه، ومقاصد الشريعة تدل عليه.
فأصح الأقوال ما اختاره شيخ الإسلام، وهو رواية عن الإمام أحمد: أن إخراج
القيمة لا يجوز إلا عند الحاجة إلى إخراجها، فإذا كانت مصلحة أحدهما في
إخراجها قيمة من غير ضرر على الآخر فيجوز إخراج القيمة.
هذا في غير عروض التجارة، وأما عروض التجارة فإن الجواز مطلق عند الحاجة
وغيرها في الأرجح كما تقدم.
قال: [فإن ملكها بإرث أو بفعله بغير نية التجارة ثم نواها لم تصر لها]
إن ملكها بإرث، فهو ملك بغير الفعل، فلو أن رجلاً توفي والده وترك له
دكاناً إرثاً، فإنه لا تجب عليه الزكاة فيه، وإن أبقاه للتجارة؛ لأنه ملكه
بغير اختياره.
هذا في الحقيقة ضعيف جداً، وهو المشهور عند الحنابلة.
- وعن الإمام أحمد وهو اختيار أبي بكر وابن عقيل وغيرهم: أن الزكاة تجب
فيه؛ وذلك لأنه مال تجاري فيدخل في عموم الأدلة المتقدمة وهو مالك له، فلا
فرق بين أن يملكه باختياره أو بغير اختياره، فقد دخل في ملكيته، وكونه يدخل
باختياره أو بغير اختياره، فإن هذا لا أثر له في الحكم.
__________
(1) كذا في صحيح البخاري، كتاب الزكاة، باب العرض في الزكاة، الفتح: [2 /
365] ، وفي الأصل: (ائتوني بخميص أو لبيس.. مكان الذرة والحنطة أهون عليكم
وخير لأصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - بالمدينة ".
ومثل هذا قوله: " أو بفعله بغير نية
التجارة "، فلو أن رجلاً اشترى أرضاً وقد نواها قنية، ثم غير نيته إلى
التجارة أو اشترى قماشاً بنية الهبة ثم نواه تجارة، قالوا: فلا تجب فيه
الزكاة، فلابد أن تكون نية -للتجارة مقارنة للشراء أو عنده، فلابد أن تكون
مقارنة للملك.
وهذا أيضاً ضعيف؛ لأنه متى نواه تجارة فإن المال أصبح مال تجارة، ولو كان
ذلك بعد زمن من ملكيته، فإن كان نواه قنية ثم حولها إلى تجارة، فإنه بهذه
النية أصبح مالاً تجارياً.
- وهذا كما تقدم رواية عن الإمام أحمد واختيار أبي بكر وابن عقيل وطائفة
كثيرة من الحنابلة. وهذا هو القول الراجح؛ لأنه بالنية وإن كانت غير مقارنة
للملك، فهذه النية انتقل إلى مال تجاري، وحيث كان مالاً تجارياً، فإن
الزكاة تجب فيه لعمومات الأدلة الشرعية.
إذاً: هذان الشرطان فيهما نظر، بل متى ما كان المال ملكاً له وقد نوى فيه
التجارة ومضى على نية التجارة حول، فإن الزكاة تجب فيه؛ لأنه مال تجاري
فيدخل في عموم الأدلة الشرعية.
قال: [وتقوم عند الحول بالأحظ للفقراء من عين أو ورق]
رجل عنده قماش للبيع إن قومه بالدراهم ساوى مئتي درهم، وإن قومه بالدنانير
ساوى خمسة عشر ديناراً، فإذا نظرنا إلى قيمته بالدراهم أوجبنا عليه الزكاة،
وإذا نظرنا إلى قيمته بالدنانير لم نوجب عليه الزكاة، فما الحكم؟
تقوم بأحد النقدين، فإن بلغ نصاب الذهب أوجبنا الزكاة، وإن لم يبلغ نصاب
الفضة، وإن بلغت نصاب الفضة أوجبنا الزكاة وإن لم تبلغ نصاب الذهب. وهذا هو
المشهور عند الحنابلة.
قال: [ولا يعتبر ما اشتريت به]
فالمشهور في المذهب: بأنه لا يعتبر ما اشتُريت به، فلو اشتراها بفضة مثلاً
فلا بأس أن يقوم بالذهب، إن كان هو الأحظ للفقير، وإن اشتراها بذهب فيجوز
أن يقوم بالفضة إن كان هو الأحظ للفقراء، فلا يعتبر ما اشتريت به.
- وعن الإمام أحمد، وهو قول الشافعية: أن
الاعتبار بقيمته عند الشراء، فإذا اشتراها بذهب قومناها بالذهب، وإذا
اشتراها بالفضة قومناها بالفضة.
فإذاً: إن كان اشتراها بالفضة فنصابها نصاب الفضة، وإن كان اشتراها بالذهب
فنصابها نصاب الذهب؛ قالوا: لأن قيمتها عند شرائها ذهب أو فضة، فروعي ذلك
عند إيجاب الزكاة فيها.
وهذا تعليل ضعيف؛ لأن الاعتبار إنما هو في الانتهاء وهو وقت وجوب الزكاة،
فالنظر إلى قيمتها عند وجوب الزكاة وهي لها قيمة من الورق ولها قيمة من
الذهب.
ولا أثر لقيمتها عند الشراء، بدليل أنه قد يشتريها بدينار وتساوي عشرة
دنانير بعد حول، فالاعتبار إنما هو بقيمتها وقت إخراجها، وقيمتها هنا يمكن
أن تكون بالذهب ويمكن أن تكون بالفضة، فتعليق الحكم بأحد النقدين بالنظر
إلى قيمة الشراء هنا متعلق ضعيف؛ لأنه لا أثر له.
وأما دليل القول الأول وهو المشهور عند الحنابلة، قالوا: هو مال قد بلغ
نصاباً زكوياً فوجبت فيه الزكاة، فهذه العروض قد بلغت النصاب وهو النصاب من
الفضة أو بلغت النصاب الآخر وهو النصاب من الذهب، فوجبت فيه الزكاة من غير
اشتراط أن يبلغ نصاباً في النقد الآخر.
فما دام أن الاعتبار هو بالقيمة وقد بلغت قيمتها أحد النصابين، فإن الزكاة
حينئذ تجب؛ لبلوغ هذا المال النصاب الزكوي.
وهذا تعليل قوي؛ فإن هذا المال – وهو عروض التجارة – المعتبر فيه القيمة من
غير تحديد بذهب ولا ورق، وقد بلغت هذه القيمة نصاباً زكوياً سواء كان من
الورق أو من الفضة، فوجبت فيه الزكاة.
ولما فيه من مصلحة الفقير، لذا قال المؤلف هنا: " بالأحظ للفقراء "؛ لأن
هذه الطريقة أحظ للفقراء.
قال: [وإن اشترى عرضاً بنصاب من أثمان أو عروض بنى على حوله]
رجل عنده دراهم يبلغ النصاب مضى عليها ستة
أشهر وهي عنده، فاشترى بها أقمشة للبيع والشراء، فحولها حول الدراهم، فيبني
على حول الأثمان؛ لأن العروض والأثمان جنس واحد كما تقدم، لأن المقصود من
العروض ثمنها، فكانت هي والأثمان جنس واحد، ولذا نصابها نصاب الأثمان،
والقدر المخرج هو ربع العشر.
فعلى ذلك: رجل عنده مبلغ من المال ويبحث عن تجارة، فمضى على هذا المال عدة
أشهر ثم اشترى به تجارة له، فإنه يبني على حول الأثمان.
كذلك عروض التجارة: عنده عروض تجارة فاستبدلها بعروض أخرى، فمثلاً عنده
أقمشة فباعها واشترى بها أطياباً، فإن هذه الأطياب لا يستأنف لها حول جديد،
بل حولها حول ما قبلها من الأقمشة، لأنها ذات قيمة واحدة، فكما لو كانت
أثماناً كلها، فهي جنس واحد.
قال: [وإن اشتراه بسائمة لم يبن]
عنده عروض فباعها بسائمة من الإبل والبقر والغنم، فإنه لا يبني على حول
العروض، بل يستأنف حولاً جديداً.
أو بالعكس: عنده.. سائمة فباعها بعروض، فإنه لا يبني على حول السائمة؛ وذلك
لأن الجنس مختلف، وتقدم الكلام على هذه المسألة، وأن الجنسين المختلفين لا
يبنى حول أحدهما على الآخر.
مسألة:
إذا كان عنده إبل سائمة وقد أعدها للتجارة، فهل تزكى زكاة عروض، لأنها قد
أعدت للتجارة أو تزكى زكاة سائمة؟
1- قال الحنابلة: تزكى زكاة عروض.
وعللوا هذا بأن قالوا: إن الزكاة واجبة
فيها وإن كانت سائمة حيث لم تبلغ نصاب السائمة، فلو أن عنده أربع من الإبل
سائمة وقد نواها تجارة وتساوي عشرين ديناراً، فإن الزكاة تجب فيها. قالوا:
فكما اعتبرناها عروضاً فأوجبنا فيها زكاة العروض وهي لم تبلغ نصاب السائمة،
فكذلك إذا بلغت نصاب السائمة. فإذا كان عنده خمس من الإبل، فلا يخرج شاة بل
ينظر إلى قيمة الإبل ويخرج ربع العشر. قالوا: ولأن هذا الأحظ للفقراء، وذلك
لأنا إذا اعتبرناها عروضاً فلا وقص فيها، بل بحساب ذلك، فلو كان عنده سبع
من الإبل، فزكاتها أكثر مما لو كان عنده خمس من الإبل، وإذا كان عنده ثمان
من الإبل وقلنا: هي عروض تجارة، فزكاتها أكثر مما لو عنده خمس، وهكذا، فلا
وقص فيها، بل تزيد بحساب ذلك , وهذا فيه مصلحة للفقير.
2 - وقال الشافعية: بل تخرج زكاتها على أنها سائمة؛ قالوا: لأن الأدلة
الدالة على فرضية الزكاة في السائمة أقوى من الأدلة الدالة على وجوبها في
عروض التجارة.
لكن هذا ضعيف، فإن كون الأدلة على فرضية الزكاة في السائمة أصح من الأدلة
الدالة على وجوب الزكاة في عروض التجارة لا ينافي صحة الأدلة الدالة على
الزكاة في العروض.
وكونها أصح لا يعني ذلك أن يتغير الحكم مع ثبوت الأدلة على صحة زكاة
العروض.
فالصحيح مذهب الحنابلة، وأنه إذا كانت عنده سائمة أعدها للتجارة فإنه يخرج
زكاتها زكاة عروض، بدليل إنها إذا لم تبلغ نصاب السائمة وقيمتها تساوي نصاب
الذهب أو الفضة، فإن الزكاة تجب فيها، فكذلك إذا بلغت النصاب؛ ولأن هذا هو
الأحظ للفقراء لاعتبار حساب ذلك.
مسألة:
رجل عنده سائمة خمس من الإبل قد أعدها للتجارة، فلما مضى عليها ستة أشهر
ألغى نية التجارة، وقال: بل هي سائمة، فهل يستأنف حولاً جديداً أم أنه
يثبتها على أنها سائمة فتجب عليها الزكاة إذا مضى ستة أشهر – كما في المثال
-.
المشهور عند الحنابلة: أنه إذا ألغى هذه
النية وأبطلها عن أن تكون تجارة، فلا زكاة عليه حتى يستأنف حولاً جديداً.
وعن إسحاق، وهو الأشبه – كما قال ذلك الموفق –: أنه يبني على الحول الأول.
قالوا: لأن هذه الإبل وجبت فيها الزكاة لسببين: 1- أنها سائمة. 2- أنها
عروض تجارة. فإن ألغى كونها عروض تجارة، فإنه يبقى كونها سائمة، فهي سائمة
ترعى، فيجب فيها الزكاة، وإنما أوجبنا فيها زكاة العروض؛ لأنها بنية
التجارة، فإذا ألغى هذه النية فقد بقي كونها سائمة، فتجب فيها الزكاة. وهذا
هو الأظهر.
فالأظهر أنه إذا كان عنده مال من الأموال التي تجب فيها الزكاة، كالسائمة،
وقد نواها تجارة ثم ألغى هذه النية، فإن الزكاة تبقى على أنها سائمة، فلا
يستأنف حولاً جديداً لدخولها في عموم الأدلة، كقوله صلى الله عليه وآله
وسلم: (في الغنم في سائمتها) وقوله: (في كل سائمة من الإبل..) (1) ، وحيث
ألغى أحد سببي الزكاة وهو كونها عروض تجارة، فقد بقي السبب الآخر وهو كونها
سائمة.
والحمد لله رب العالمين.
باب زكاة الفطر
الدرس السابع بعد المئتين
(6 / 1 / 1416 هـ)
باب زكاة الفطر
الفطر: اسم مصدر من أفطر الصائم إفطاراً.
__________
(1) تقدما.
وإضافة الزكاة أو الصدقة إلى الفطر من باب
إضافة الشيء إلى سببه أي الصدقة أو الزكاة التي سببها الفطر أي الفطر في
رمضان، ففي سنن أبي داود وابن ماجه بإسناد حسن أن النبي صلى الله عليه
وسلم: (فرض زكاة الفطر طهرة للصائم من اللغو والرفث وطعمةً للمساكين) (1)
الحديث.
قال: (تجب على كل مسلم)
فصدقة الفطر تجب على كل مسلم سواء كان ذكراً أو أنثى حراً أو عبداً كبيراً
أو صغيراً.
__________
(1) أخرجه ابن ماجه في كتاب الزكاة باب صدقة الفطر (1827) : " حدثنا عبد
الله بن أحمد بن بشير بن ذكوان وأحمد بن الأزهر قالا حدثنا مروان بن محمد
حدثنا أبو يزيد الخولاني عن سيّار بن عبد الرحمن الصدفي عن عكرمة عن ابن
عباس قال: فرض رسول الله - صلى الله عليه وسلم - زكاة الفطر طهرة للصائم من
اللغو والرفث وطعمة للمساكين، فمن أداها قبل الصلاة فهي زكاة مقبولة ومن
أداها بعد الصلاة فهي صدقة من الصدقات ".
وأخرجه أبو داود في باب زكاة الفطر من كتاب الزكاة (1609) : " حدثنا محمود
بن خالد الدمشقي وعبد الله بن عبد الرحمن السمرقندي قالا: حدثنا مروان قال
عبد الله حدثنا أبو يزيد الخولاني وكان شيخ صدق، وكان ابن وهب يروي عنه
حدثنا سيار بن عبد الرحمن قال محمود الصدفي عن عكرمة عن ابن عباس قال: فرض
رسول الله - صلى الله عليه وسلم - زكاة الفطر طهرة للصائم من اللغو من
الرفث وطعمة للمساكين، من أداها ... ) الحديث.
ففي الصحيحين عن ابن عمر قال: (فرض رسول
الله صلى الله عليه وسلم زكاة الفطر على الحر والعبد والذكر والأنثى
والصغير والكبير من المسلمين وأمر بها أن تؤدى قبل خروج الناس إلى الصلاة)
(1) .
إذن: هي فرض على كل مسلم ذكراً أو أنثى حراً أو عبداً صغيراً أو كبيراً.
قال: (فَضُل له يومَ العيد وليلته صاعٌ عن قوته وقوت عياله)
فلا يشترط أن يكون غنياً، بل الشرط أن يكون الصاع فاضلاً عن قوته وقوت
عياله ليلة العيد ويومه.
__________
(1) أخرجه البخاري في باب فرض صدقة الفطر من كتاب الزكاة (1503) : " حدثنا
يحيى بن محمد بن السكن حدثنا محمد بن جَهضم حدثنا إسماعيل بن جعفر عن عمر
بن نافع عن أبيه عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: فرض رسول الله - صلى الله
عليه وسلم - زكاة الفطر صاعاً من تمر أو صاعاً من شعير على العبد والحر
والذكر والأنثى والصغير والكبير من المسلمين، وأمر بها أن تؤدى قبل خروج
الناس إلى الصلاة ". وأخرجه كذلك برقم (1504) ، (1507) ، (1511) ، (1512) .
وأخرجه مسلم في باب زكاة الفطر على المسلمين من التمر والشعير (984) : "
حدثنا عبد الله بن مسلمة بن قعنب وقتيبة بن سعيد قالا: حدثنا مالك. وحدثنا
يحيى بن يحيى - واللفظ له – قال: قرأت على مالك عن نافع عن ابن عمر أن رسول
الله - صلى الله عليه وسلم - فرض زكاة الفطر من رمضان على الناس صاعاً من
تمر أو صاعاً من شعير على كل حر أو عبد، ذكر أو أنثى من المسلمين ". وأخرجه
أيضاً بأسانيد أخرى منها قال: " وحدثنا محمد بن رافع حدثنا بن أبي فُديك
أخبرنا الضحاك عن نافع عن عبد الله بن عمر أن رسول الله - صلى الله عليه
وسلم - فرض زكاة الفطر من رمضان على كل نفس من المسلمين، حرٍّ أو عبد أو
رجل أو امرأة صغير أو كبير، صاعاً من تمر أو صاعاً من شعير ".
يدل على هذا أن النبي صلى الله عليه وسلم
فرضها على العبد والعبد لا مال له، ويدل عليه أيضاً قول أبي هريرة الثابت
عنه في مسند أحمد بإسناد صحيح قال: (زكاة الفطر على كل صغير وكبير ذكر أو
أنثى فقير أو غني صاع من تمر أو نصف صاع من بر) (1) فإن كان عنده ما يفضل
عن قوته وقوت عياله ليلة العيد ويومه، فإن الزكاة تجب عليه، أما إن لم يكن
عنده ما يفضل عن يوم العيد وليلته فلا تجب عليه الزكاة وذلك للحوق الضرر به
وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا ضرر ولا ضرار) (2)
__________
(2) أخرجه ابن ماجه في كتاب الأحكام (2341) قال رحمه الله: " حدثنا محمد بن
يحيى حدثنا عبد الرزاق أنبأنا معمر عن جابر الجعفي عن عكرمة عن ابن عباس
قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (لا ضرر ولا ضرار) .
(2340) حدثنا عبدُ ربه بن خالد النُّميري أبو المُغلِّس حدثنا فُضيل بن
سليمان حدثنا موسى بن عقبة حدثنا إسحاق بن يحيى بن الوليد عن عبادة بن
الصامت أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قضى أن لا ضرر ولا ضرار ".
وأخرجه الدارقطني في سننه (4 / 227) قال: " نا محمد بن عمرو بن البختري نا
أحمد بن الخليل نا الواقدي نا خارجة بن عبد الله بن سليمان بن زيد بن ثابت
عن أبي الرجال عن عمرة عن عائشة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (لا
ضرر ولا ضرار) .
نا أحمد بن محمد بن أبي شيبة نا محمد بن عثمان بن كرامة نا عبيد الله بن
موسى عن إبراهيم بن إسماعيل عن داود بن الحصين عن عكرمة عن ابن عباس أن
النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (للجار أن يضع خشبته على جداره وإن كره،
والطريق الميتاء سبع أذرع، ولا ضرر ولا إضرار) .
نا إسماعيل بن محمد الصفار نا عباس بن محمد نا عثمان بن محمد بن عثمان بن
ربيعة بن أبي عبد الرحمن نا عبد العزيز بن محمد عن عمرو بن يحيى عن أبيه عن
أبي سعيد الخدري أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (لا ضرر ولا إضرار)
.
نا أحمد بن محمد بن زياد نا أبو إسماعيل الترمذي نا أحمد بن يونس نا أبو
بكر بن عياش قال: أراه قال عن عطاء عن أبيه عن أبي هريرة أن النبي - صلى
الله عليه وسلم - قال: (لا ضرر ولا ضرورة، ولا يمنعن أحدكم جاره أن يضع
خشبه على حائطه) ".
قال في الأربعين النووية: " ورواه مالك في الموطأ مرسلاً عن عمرو بن يحيى
عن أبيه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - فأسقط أبا سعيد، وله طرق يقوي
بعضها بعضاً "
وقال صلى الله عليه وسلم: (أبدأ بنفسك) (1)
فإذا فضل عن قوته وقوت عياله ومن ينفق عليهم من خدم أو بهيمة أو نحو ذلك
فإن الزكاة تجب عليه.
قال: (وحوائجه الأصلية)
فإذا كانت له حوائج أصلية في مسكنه أو ملبسه أو مركبه من الحوائج الأصلية
التي يحتاج إليها المسلم - فليست من الحوائج الفرعية - فإن الصدقة لا تجب
عليه، فلا يلزم طالب علم أن يبيع شيئاً من كتبه التي يحتاج إليها من الكتب
الأصلية ولا يلزم صاحب المنزل أن يبيع شيئاً من أثاث بيته ليشتري به هذا
الصاع لأن هذه حوائج أصلية وإلزام المكلف ببيعها وإخراجها صدقة حرج والحرج
مرفوع كما قال تعالى: {وما جعل عليكم في الدين من حرج} (2) أما إن كان عنده
شيء من المتاع أو الأثاث أو نحوه من الحوائج غير الأصلية مما لا يحتاج إليه
أصلاً فإنه يجب عليه أن يبيعه فيشتري به صاعاً فيتصدق به.
قال: (ولا يمنعها الدين إلا بطلبه)
تقدم أن المذهب وهو الراجح أن الدين يمنع الزكاة في الأموال الظاهرة
والباطنة أما في زكاة الفطر فإنها لا يمنعها الدين، فالدين لا يمنع صدقة
الفطر، قالوا: لأن صدقة الفطر لا تعلق لها بالمال بدليل وجوبها على الفقير
ووجوبها على العبد فدل هذا على أنها لا تعلق لها بالمال فيجب وإن كان
مديناً أي عليه دين بخلاف الزكاة فإنها متعلقة بالمال كما قال تعالى: {خذ
من أموالهم} (3)
إذن: يجب عليه زكاة الفطر وإن كان مديناً لأنها لا تعلق لها بالمال بدليل
وجوبها على العبد والفقير كما تقدم.
__________
(1) أخرجه مسلم (3 / 78 - 79، 5 / 97) ، والنسائي والبيهقي. الإرواء (833)
.
(2) سورة الحج آية (78) .
(3) التوبة (103) .
لكن استثنى المؤلف فقال: (إلا بطلبه) أي
إلا بطلب الدين، فإن كان الدين مطالباً به فإن الزكاة لا تجب؛ وذلك لأن
الدين إذا طولب به وجب أداؤه كما سيأتي تقريره في بابه فكان مقدماً على
الزكاة، لأن الزكاة إنما تجب من باب المواساة ولأن الدين حق آدمي محض فقدم
على الزكاة.
إذن: زكاة الفطر لا يمنعها الدين إلا إذا طالب الدائن به فإن الدين يمنع
الزكاة لأنه حينئذ يكون أهم؛ إذ هو من حقوق الآدميين المحضة ولأن الزكاة
مبناها على المواساة وحقوق الآدميين مبناها على المشاحة، والزكاة مبنية على
المواساة فلم يكلفها المسلم مع وجود من يطالبه.
قال: (فيخرج عن نفسه وعن مسلم يمونه)
فتجب صدقة الفطر عن النفس وتجب عمن يمونه.
أما وجوبها عن النفس فقد تقدم قول ابن عمر: (فرض رسول الله صلى الله عليه
وسلم صدقة الفطر على الحر والعبد والذكر والأنثى والصغير والكبير من
المسلمين) (1) .
وتجب على من يمونه – أي على من ينفق عليه –، فعلى من ينفق الصدقة، فإذا كان
له ولد وزوجة ورقيق فيجب عليه أن يتصدق عنهم صدقة الفطر كما يجب عليه أن
ينفق عنهم.
__________
(1) تقدم صْ 84.
ودليل هذا: أن رسول الله صلى الله عليه
وسلم فرضها على العبد، والعبد لا مال له فدل على أنها تجب على سيده وهو
المنفق عليه، وفرضها على الصغير، والصغير ينفق عليه ولا مال له في الغالب
فدل على أنها تجب على من ينفق عليه، أما إذا كان الصغير ذا مال وهو اليتيم
الذي له إرث فإن الصدقة تجب في ماله ويخرجها وليه عنه ويدل على أن الزكاة –
زكاة الفطر – تجب على من يمونه ما ثبت في الدارقطني عن ابن عمر قال: (فرض
رسول الله صلى الله عليه وسلم زكاة الفطر على العبد والحر والصغير والكبير
ممن تمونون) (1) وإسناده ضعيف لكن له شواهد يرتقي بها إلى درجة الحسن وهو
ثابت من فعل ابن عمر كما في ابن أبي شيبة بإسناد صحيح.
فعلى ذلك تجب صدقة الفطر تبعاً للنفقة، فتجب صدقة الفطر على من وجبت عليه
النفقة.
فعليه كما ينفق على ولده وزوجه وربما كان ينفق على والده ووالدته وربما كان
ينفق على رقيق أو على أخ أو نحوه فيجب عليه - تبعاً للنفقة - أن يخرج عنهم
صدقة الفطر للحديث المتقدم.
قال: (ولو شهر رمضان)
إذا مان (2) مسلماً يعني أنفق عليه ولو كان ذلك في شهر رمضان.
مثال: رجل - تبرعاً منه - جَمَع فقراء فأنفق عليهم في شهر رمضان من باب
التبرع، فتبعاً لذلك تجب عليه صدقة الفطر.
__________
(1) أخرجه الدارقطني في سننه، كتاب زكاة الفطر، رقم (2052) قال المحقق: "
أخرجه البيهقي في الكبرى (4 / 161) من هذا الوجه، قال الزيلعي في نصب
الراية (2 / 413) : وهو مرسل، فإن جد علي بن موسى: هو جعفر الصادق بن محمد
بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب رضي الله عنهم، وجعفر لم يدرك
الصحابة، وقد أخرج له الشيخان، وقال ابن حبان في الثقات: يحتج بحديثه، ما
لم يكن من رواية أولاده عنه، فإن في حديث ولده مناكير كثيرة ".
(2) مانه موناً: احتمل مؤونته وقام بكفايته، فهو مَمُون. تقول: مان الرجل
أهله: كفاهم. المعجم الوسيط [2 / 892] .
هذا هو المشهور عند الحنابلة وأن من أنفق
على فقير في شهر رمضان فتجب عليه صدقته وإن كان ذلك تبرعاً للحديث المتقدم:
(عمن تمونون) قالوا: وهو هنا يمونه وينفق عليه.
واختار الموفق وأبو الخطاب من الحنابلة وهو مذهب أكثر الفقهاء: أن الصدقة
لا تجب عليه؛ قالوا: لأن النفقة هنا من باب التبرع وأما النفقة المذكورة في
الحديث فإنها النفقة الحقيقية التي تجب على المسلم في ولده ونحوهم. أما هنا
فهي نفقة على وجه التبرع فلا يدخل في هذا الحديث، وهذا هو الظاهر، وذلك لأن
هذه النفقة منه على وجه التبرع لا على وجه الإيجاب، فليس فيها حقيقة النفقة
بل هي من جنس الصدقات التطوعية فالراجح ما ذهب إليه أكثر الفقهاء وصححه
الموفق وهو قول أبي الخطاب من كبار الحنابلة.
قال: (فإن عجز عن البعض بدأ بنفسه)
فإذا كان لا يفضل عن قوته وقوت عياله ليلة العيد ويومه وعن حوائجه الأصلية
ولا يفضل إلا صاع، فالواجب عليه أن يبدأ بنفسه، لقوله صلى الله عليه وسلم:
(أبدأ بنفسك) (1) .
وحينئذ يسقط عنه عن زوجه وولده ومن يمون فإن لم يكن عنده إلا صاع فإنه يبدأ
بنفسه.
قال: (فامرأته)
قالوا: لأن الصدقة تبع للنفقة، ونفقة المرأة من باب المعاوضة وتثبت في عسر
الزوج ويسره فكانت أقوى من نفقة الولد والرقيق وغيرهما، وحيث أن النفقة هنا
قوية، فالصدقة تبع لها فكما أن الزوجة مقدمة في النفقة على غيرها فإنها
تقدم في صدقة الفطر.
وجمهور العلماء يقولون بأن زكاة الفطر تجب على الزوج عن زوجته، مطلقاً وإن
كانت زوجته ذات يسار وقدرة وغنى فإن الصدقة تجب على الزوج.
واستدلوا: بما تقدم في قوله صلى الله عليه وسلم: (عمن تمونون) .
- وذهب الأحناف: إلى أن صدقة الفطر لا تجب على الزوج عن زوجته، وإنما تجب
على الزوجة في مالها.
__________
(1) تقدم قريباً.
واستدلوا: بقول ابن عمر: (فرض رسول الله
صلى الله عليه وسلم صدقة الفطر على الذكر والأنثى) (1) .
فدل على أنها مفروضة عليها، فهي مفروضة على الأنثى وحينئذ فتجب عليها في
مالها وهذا القول – فيما يظهر لي – أصح؛ وذلك لأن الحديث أصح مما تقدم،
فالحديث الأول إنما يصح بشواهده وطرقه، وهذا الحديث أصح منه وأظهر فإنه
قال: فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم صدقة الفطر على الذكر والأنثى " فهي
فرض على المرأة في مالها ولأن الأصل في الزكاة وجوبها في المال.
فالأصح أن الزوج لا تجب عليه صدقة الفطر عن زوجته وإنما تخرجها من مالها،
هذا إذا كانت قادرة، وأما إذا لم تكن قادرة فإنه يتوجه القول الأول؛ وذلك
لأنه ينفق عليها والصدقة تبع للنفقة كما تقدم.
قال: (فرقيقه)
قالوا: لأن النفقة على الرقيق تجب في العسر واليسر لكنها دون النفقة على
المرأة لأن النفقة على المرأة من باب المعاوضة أما النفقة على العبد فإنها
للملكية لا للمعاوضة، فكانت النفقة على الزوجة أولى، لكن النفقة على الرقيق
أولى من النفقة على القريب من الأب والولد والأم لأن النفقة على الأقارب
تجب في اليسر دون العسر وأما النفقة على الرقيق فإنها تجب في عسر السيد
ويسره بحيث إنه إذا كان معسراً فإنه يؤمر ببيعه حتى لا يتضرر العبد بذلك.
قال: (فأمه فأبيه) .
تُقدّم الأم على الأب؛ قالوا: لأن الأم أولى بالبر من الأب كما في الحديث:
(من أبر؟ فقال: أمك، قال: ثم من؟ قال: أمك، قال: ثم من؟ قال: أمك، قال: ثم
من؟ قال: أباك) (2)
فهنا أمر النبي صلى الله عليه وسلم بتقديم بر الأم على بر الأب قالوا:
فكذلك تقدم على الأب في صدقة الفطر.
قال: (فولده)
__________
(1) تقدم صْ 84.
(2) أخرجه البخاري في كتاب الأدب، باب من أحق الناس بحسن الصحبة (5971) ،
وفي أوله: " من أحق الناس بحسن صحابتي.. "، ومسلم في كتاب البر والصلة
(2548) .
قالوا: لأن الولد تجب النفقة عليه في
الجملة وتجب في اليسر دون العسر وحق الوالدين مقدم على حق الولد هذا هو
المشهور في المذهب.
قال: (فأقرب في ميراث)
فالأقرب فالأقرب، فالجد الأدنى يقدم على الجد الأعلى، فالجد مقدم على أب
الجد وهكذا (الأقربون أولى بالمعروف) .
وفي تقديم المؤلف الزوجة على الولد نظر، فقد قال بعض الحنابلة بتقديم الولد
على الزوجة، ودليله ما ثبت في أبي داود والنسائي بإسناد صحيح أن رجلاً قال:
(يا رسول الله عندي دينار؟ فقال: تصدق به على نفسك، قال: عندي آخر؟ قال:
تصدق به على ولدك، قال: عندي آخر؟ قال: تصدق به على زوجك قال: عندي آخر؟
قال: تصدق به على خادمك، قال: عندي آخر قال: أنت أبصر به) (1) فقدم النبي
صلى الله عليه وسلم الولد على الزوجة وقدم الزوجة على الرقيق، فالأظهر هو
تقديم الولد على الزوجة والرقيق لهذا الحديث الثابت بإسناد صحيح.
__________
(1) أخرجه أبو داود في كتاب الزكاة باب في صلة الرحم (1691) قال: " حدثنا
محمد بن كثير أخبرنا سفيان عن محمد بن عجلان عن المقبري عن أبي هريرة قال:
أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بالصدقة، فقال رجل: يا رسول الله عندي
دينار.. " وفيه " (تصدق به على زوجتك أو قال: زوجك) ". وأخرجه النسائي في
كتاب الزكاة، باب تفسير ذلك (2535) قال: " أخبرنا عمرو بن علي ومحمد بن
المثنى قال حدثنا يحيى عن ابن عجلان عن سعيد عن أبي هريرة قال: قال رسول
الله - صلى الله عليه وسلم - (تصدقوا) فقال رجل: يا رسول الله، عندي دينار،
قال: (تصدق به على نفسك) قال: عندي آخر، قال: (تصدق به على زوجتك) قال:
عندي آخر، قال: (تصدق به على ولدك) قال: عندي آخر، قال: (تصدق به على
خادمك) قال: عندي آخر، قال: (أنت أبصر) ". ففيه تقديم الزوجة على الولد.
والأظهر – أيضاً – تقديم الأب على الأم؛
وذلك لأن صدقة الفطر مال وقد قال - صلى الله عليه وسلم -: (أنت ومالك
لأبيك) (1) فدل هذا على أن المال الوالد أحق به من الوالدة (2) .
وفي تقديم الرقيق على الأب والأم نظر ظاهر أيضاً حتى في النفقة فإن كون
الرقيق يجب النفقة عليه في العسر واليسر ليس معنى ذلك أن يقدم على الأب
والأم في النفقة وإنما معنى ذلك أنه إذا أيسر أبقاه في ذمته وفي ملكيته
وأنفق عليه، وإن أعسر وعجز عن الإنفاق عليه فإنه يعتقه أو يبيعه ليُنفق
عليه وليس معنى ذلك أن تقدم نفقته وهو رقيق مملوك له أجنبي عنه على نفقة
الأم والأب اللذين حقهما بعد حق الله عز وجل ورسوله.
فإذن: فيما ذكره الحنابلة في هذا الباب من التقديم فيه نظر، فتقديم الزوجة
على الولد، والرقيق على الولد فيه نظر كما تقدم، وتقديم الأم على الأب فيه
نظر أيضاً، وتقديم الرقيق على الأب والأم فيه نظر.
* وهل يقدم الولد على الوالدين أو يقدم الوالدان على الولد؟
وجهان في مذهب الحنابلة:
الوجه الأول: ما ذكره المؤلف هنا من تقديم الوالدين على الولد.
والوجه الثاني: وهو تقديم الولد على الوالد.
والظاهر تقديم الوالدين على الولد، لأن هذا من باب المواساة والصدقة وليس
من باب الحاجة، وحيث كان الأمر كذلك فإن الوالد أولى بتطييب خاطره وإدخال
السرور في نفسه وإسقاط الواجب الشرعي عنه من الولد.
فالأرجح هو تقديم الوالدين على الولد، بل أيضاً على تقديمهما على الزوجة هو
الأظهر؛ وذلك لما تقدم من أن الراجح أن صدقة الفطر واجبة في مال الزوجة –
هذا أولاً.
__________
(1) أخرجه ابن ماجه (2291) والطحاوي في مشكل الآثار (2 / 230) والطبراني في
الأوسط (1/ 141 / 1) والمخلص في " حديثه " (12 / 69 / 2 من المنتقى منه) .
الإرواء (838) .
(2) وحكي ذلك رواية عن أحمد.
وثانياً: لأن المسألة وإن كانت تبعاً
للنفقة فهي تبع لها في الجملة لا في التفصيل، فتقديم الزوجة في النفقة على
الوالدين لو سلم بها، على ما فيها من النظر لا تعني تقديمها عليهما في صدقة
الفطر، فإن صدقة الفطر باب مواساة، وأما النفقة فهي باب حاجة، على أن
الأظهر هو تقديم الوالدين على الزوجة في النفقة وإنما وجبت النفقة على
المرأة في العسر واليسر كالرقيق فيما تقدم بحيث إنه ينفق عليها في يسره،
فإن أعسر فإما أن ينفق عليها وإما أن يطلقها.
فعلى ذلك: الأظهر أنه يبدأ بنفسه ثم بوالديه ثم بولده ثم بزوجته ثم بخادمه
ثم الأقرب فالأقرب ممن ينفق عليه من ورثته.
قال: (والعبد بين شركاءَ عليهم صاعٌ)
إذا كان العبد مملوكاً لأكثر من شخص، فإن هذا الصاع يجب عليهم بقدر ملكيتهم
فإن اشترك في العبد اثنان لكل منهما النصف فإن على كل منهما نصف صاع، فإن
اشترك فيه ثلاثة لكل منهم الثلث فعلى كل واحد منهم ثلث الصاع وهكذا.
فإذن: يجمع الصاع من الشركاء في العبد بقدر ملكيتهم فيه؛ لأن الصدقة تبع
للنفقة والنفقة مشتركة على هذا القدر فكذلك صدقة الفطر.
قال: (ويستحب عن الجنين)
فيستحب صدقة الفطر عن الجنين
وقد أجمع أهل العلم على أن صدقة الفطر لا تجب عن الجنين حكى ذلك ابن
المنذر.
واستحب الإمام أحمد صدقة الفطر عن الجنين واستدل بأثر عن عثمان رواه ابن
أبي شيبة لكن إسناده منقطع.
لكن ثبت في مصنف عبد الرزاق بإسناد صحيح عن
أبي قلابة وهو من كبار التابعين قال: (كانت تعجبهم - أي السلف من الصحابة
والتابعين - صدقة الفطر عن الصغير والكبير حتى الحمل في بطن أمه) (1) فإن
تصدق عن الجنين فهو حسن من غير إيجاب؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم شرعها
عن الصغير والكبير، والجنين لا يصدق عليه أنه صغير، فالصغير هو المولود
وهذا ليس بمولود لكن إن فعل فهو حسن لما تقدم من أثر أبي قلابة.
قال: (ولا تجب لناشز)
المرأة الناشز هي المرأة التي خرجت عن طاعة زوجها بغير حق شرعي.
فلا تجب لها النفقة وبالتالي فلا تجب صدقة الفطر عنها كما تقدم من أن صدقة
الفطر تبع للنفقة لقوله: (عمن تمونون) والمرأة الناشز لا ينفق عليها فكذلك
لا يتصدق عنها لأن صدقة الفطر تبع للنفقة.
والحمد لله رب العالمين
الدرس الثامن بعد المئتين
(يوم الاثنين: 7 / 1 / 1416هـ)
قال المؤلف رحمه الله: (ومن لزمت غيرَه فطرتُهُ فأخرج عن نفسه بغير إذنه
أجزأته)
لا خلاف بين العلماء في أن من وجبت عليه صدقة الفطر عن غيره فأستأذن الغيرُ
- من تجب عليه النفقة، استأذنه - في أن يخرج عن نفسه صدقتها فلا خلاف بين
العلماء في جواز ذلك وإجزائه.
فلو أن ولداً ينفق عليه والده فأستأذن والده أن يتصدق عن نفسه صدقة الفطر.
وكذلك الزوجة إذا قلنا بوجوب الصدقة على زوجها عنها فإذا استأذنت زوجها أن
تخرج الصدقة عن نفسها من مالها فإن ذلك يجزئ.
* ولا خلاف بين العلماء في أنه إذا أخرج عن غيره ممن يجب عليه أن يخرج عن
نفسه بغير إذنه فإنه لا يجزئه:
فلو أن رجلاً أخرج عن آخر صدقة الفطر وهذا الآخر تجب عليه بنفسه فأخرجها
عنه بغير إذنه فإنها لا تجزئ.
__________
(1) أخرجه عبد الرزاق في المصنف باب هل يزكى عن الحبل (5788) : " عبد
الرزاق عن معمر عن أيوب عن أبي قلابة قال: " كان يعجبهم أن يعطوا زكاة
الفطر عن الصغير والكبير حتى الحبل في بطن أمه ".
- واختلفوا فيما إذا أخرج عن نفسه صدقة
الفطر وهي تجب على غيره بغير إذنه، وهي المسألة التي ذكرها المؤلف هنا.
فمثلاً: إذا أخرج الولد صدقة الفطر عن نفسه وهي تجب على والده بغير إذن
والده، أو أخرجت الزوجة صدقة الفطر عن نفسها – على مذهب الجمهور – وهي
واجبة على زوجها بغير إذنه، فهل يجزئه ذلك؟
قال المؤلف يجزئه؛ وذلك لأنها واجبة عليه في الأصل وإنما أوجبت على الغير
تحملاً، لأنه مظنة ألا يقدر عليها بنفسه فالصغير مظنة ألا يقدر عليها بنفسه
والعبد لا مال له، وهكذا سائر من ينفق عليه فهو مظنة ألا يقدر على إخراج
صدقة الفطر عن نفسه.
ولذا أوجبت على من ينفق عليه فهي في الأصل واجبة عليه لكن لعدم قدرته عليها
في الغالب وجبت على غيره فحيث قدر فتصدق عن نفسه ولو لم يأذن له من وجبت
عليه فإن ذلك يجزئ عنه هذا هو المشهور في المذهب وهو الوجه الأول.
2- والوجه الثاني: أنه لا يجزئ؛ قالوا: كما لو أخرج عن غيره صدقته ممن تجب
عليه بنفسه بغير إذنه فقاسوها على ما إذا أخرج صدقة الغير وهذا الغير ممن
يجب عليه أن يخرج صدقة نفسه.
وهذا قياس مع الفارق – كما تقدم – والفارق بينهما: أنها في الأصل واجبة
عليه وإنما وجبت على غيره من باب التحمل، وأما في المسألة الثانية فهي
واجبة عليه مطلقاً فهي طهرة لصومه وواجبة عليه، وأما الأول فهي طهرة له وهي
واجبة على غيره ففرق بينهما.
فأصح الوجهين ما ذكره المؤلف هنا، من أن من وجبت صدقته على غيره فأخرجها عن
نفسه من غير إذن من وجبت عليه فإن ذلك يجزئ عنه.
قال: (وتجب بغروب الشمس ليلة الفطر)
فتتعلق بذمة المسلم إذا غربت الشمس من آخر يوم من أيام رمضان؛ وذلك لأنها
صدقة سببها الفطر والفطر يحصل بغروب الشمس من آخر يوم من أيام رمضان – هذا
مذهب الحنابلة وهو مذهب الجمهور –.
- وقال الأحناف: بل وقت وجوبها طلوع فجر
يوم العيد عيد الفطر؛ لأنه به يثبت الفطر حقيقة، فإن الليل ليس محلاً
للصوم.
والأظهر ما ذهب إليه الجمهور من أنه بغروب الشمس تتعلق الفطرة بالذمة؛ وذلك
لأنها طهرة للصوم، والصوم ينتهي بغروب الشمس، ولأن ليلة العيد ليست من شهر
رمضان، وهي متعلقة بشهر رمضان.
فقال المؤلف – مرتباً على هذه المسألة -:
(فمن أسلم بعده)
أي أسلم بعد غروب الشمس، فلم يدرك شيئاً من النهار يؤمر بإمساكه، فإنه لا
صدقة عليه فلا تتعلق بذمته لأنها تجب بغروب الشمس وهو لم تغرب عليه الشمس
وهو ممن يمكن أن تتعلق بذمته.
قال: (أو ملك عبداً)
تقدم أن السيد يجب أن يخرج صدقة الفطر عن عبده، لكن إن اشتراه بعد غروب
الشمس فلا يجب عليه أن يتصدق عنه، وإنما يجب هذا على سيده الأول إن كان تحت
مسلم قبل غروب الشمس.
قال: (أو تزوج أو ولد له)
إذا تزوج – وقلنا أن الصدقة تجب على الزوجة (1) عن زوجته – إذا تزوج بعد
غروب الشمس فلا يجب عليه عنها وكذلك إذا أتاه ولد فلا يجب عليه عنه صدقة
الفطر، وإنما يدخل في الصدقة على الجنين وهي مستحبة كما تقدم، فهذه المسائل
مترتبة على هذه المسألة وهي مسألة تعلق الذمة بوجوب الفطرة إذا غربت الشمس.
قال: (وقبله تلزم)
إذا أسلم قبل غروب الشمس أو اشترى عبداً قبل غروب الشمس أو تزوج قبل غروب
الشمس أو ولد له قبل غروب الشمس فإن الصدقة تجب؛ لأنه قد ملك هذا العبد وقد
ولد له هذا الولد في وقت تعلق وجوب صدقة الفطر في ذمته.
- وقال الحنابلة: إن كان معسراً عند غروب الشمس فغربت عليه الشمس وهو معسر
ليس عنده ما يفضل عن قوته وقوت ما (2) ينفق عليه فإن الصدقة تسقط عنه وإن
قدر عليها قبل خروج وقتها.
__________
(1) لعلها: الزوج.
(2) لعلها: من
- وعن الإمام أحمد وهو اختيار شيخ الإسلام:
أن الصدقة تجب عليه إذا أيسر بعد ذلك لأنه قادر على الأداء في الوقت فكونه
عاجزاً في أول الوقت لا ينفي عنه الوجوب ما دام قادراً على أدائها في وقتها
كما أن المتمتع إذا عجز عن الهدي ثم قدر عليه في يوم النحر وما بعده من
أيام التشريق فإنه يجب عليه لقدرته على الأداء في الوقت – هذا القول هو
الراجح.
قال: (ويجوز إخراجها قبل العيد بيومين فقط)
يجوز إخراج صدقة الفطر قبل العيد بيومين.
هذا هو المشهور عند الحنابلة.
وقال الأحناف: يجوز إخراجها من أول السنة.
وقال الشافعية: يجوز من أول شهر رمضان.
وهما قولان ضعيفان؛ لأن هذه الصدقة متعلقة بالفطر فهي صدقة الفطر وقد سماها
الشارع كما تقدم بزكاة الفطر فهي زكاة سببها الفطر فهي متعلقة به فلم تثبت
قبله.
- وقال المالكية: يجزئ قبل ثلاثة أيام، واستدلوا بما ثبت في الموطأ بإسناد
صحيح أن ابن عمر: كان يعطي زكاة الفطر ممن يجمع عنده قبل يومين أو ثلاثة
(1) .
قالوا: فهذا فعل صحابي ولا يعلم له مخالف فيدل على جواز إعطائها قبل يومين
أو ثلاثة فإذا دفعها في اليوم السابع والعشرين من رمضان وكان شهر رمضان
تاماً فإنها تجزئ وهو رواية عن الإمام أحمد.
والمشهور عند الحنابلة ما ذكره المؤلف وأنها لا تجزئ إلا قبل يوم أو يومين
فقط فإن دفعها في يوم الثلاثين أجزأ أو في يوم تسع وعشرين أجزأ إن كان
الشهر كاملاً وإن كان ناقصاً يجزئ في يوم ثمان وعشرين.
__________
(1) بلفظ: " كان يبعث بزكاة الفطر إلى الذي تُجمع عنده قبل الفطر بيومين أو
ثلاثة ". الموطأ برواية يحيى الليثي ص143
واستدلوا: بما ثبت في البخاري من قول ابن
عمر – وهو راوي حديث صدقة الفطر قال: (وكانوا يعطون " أي الصحابة " صدقة
الفطر قبل يوم أو يومين) (1)
- وذهب الظاهرية: إلى أنه لا يجزئ إلا أن يخرجها قبل صلاة العيد أما إذا
أخرجها في ليلة العيد فإنها لا تجزئه.
واستدلوا: بما ثبت في الصحيحين من حديث ابن عمر وفيه: (وأمر بها أن تخرج
قبل الصلاة) (2) قالوا: فأمْر النبي صلى الله عليه وسلم هنا في هذا الحديث
دليل على أنها لا تجزئ ليلة العيد أو قبل العيد بيوم أو يومين أو ثلاثة
وذلك؛ لأن إخراجها في ليلة العيد أو قبله ليس على أمر النبي صلى الله عليه
وسلم وكل عمل ليس على هديه وأمره فهو رد.
ويجاب عن أثر ابن عمر المتقدم: بأنها لم تكن تدفع إلى الفقراء قبل يوم أو
يومين وإنما كانت تجمع عند العمال الذين كانوا يجمعون الصدقات فيخرجها
المسلم قبل يوم أو يومين أو ثلاثة يخرجها إلى العامل الذي يجمع الصدقة ثم
تخرج قبل صلاة العيد.
ودليل هذا: ما ثبت عند ابن خزيمة: أن أيوب السختياني قال: (قلت لنافع: متى
كان ابن عمر يخرج زكاته؟ يعني زكاة الفطر، فقال: كان يخرجها إذا قعد
العامل، قلت متى يقعد العامل؟ قال: قبل [الفطر] بيوم أو يومين) (3) فدل على
أن ابن عمر إنما كان يخرجها إلى العامل فلا يكون هذا دليلاً – وإن كان فيه
استثناء – يدل على جواز إخراجها قبل العيد بيوم أو يومين.
__________
(1) ذكره البخاري تحت حديث (1511) وفيه: " وكان ابن عمر رضي الله عنهما
يعطيها الذين يقبلونها، وكانوا يُعطون قبل الفطر بيوم أو يومين ".
(2) متفق عليه، وقد تقدم " وأمر بها أن تؤدى قبل خروج الناس إلى الصلاة ".
(3) إرواء الغليل [3 / 335] .
وما ذهب إليه الظاهرية – فيما يظهر لي –
قوي وأن إخراجها لا يجزئ إلا قبل صلاة العيد، فإذا دخل يوم العيد وذلك
بصلاة الفجر فإن الصدقة تجزئ. أما جمعها عند العمال الذين يجمعون الصدقات
كما يقع عندنا هنا في الجمعيات الخيرية أو بعض المتبرعين الذين يجمعون
صدقات الفطر ثم يوزعونها بأنفسهم، فإنه يجوز أن يعطوا الصدقة قبل يوم أو
يومين، والله أعلم.
قال: (ويوم العيد قبل الصلاة أفضل)
إذا أخرجها يوم العيد قبل الصلاة فهو الأفضل.
قالوا: لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بذلك فقال ابن عمر: (وأمر بها أن
تخرج قبل الصلاة) وهذا يدل على أن الحنابلة وغيرهم ممن ذهب إلى هذا المذهب
- واستدل بهذا الحديث - يرى أن هذه الجملة تدل على أن الإخراج المقصود فيها
هو الإخراج في يوم العيد قبل الصلاة لا قبله (1) فالمستحب عند الحنابلة أن
يخرجها قبل الصلاة وتقدم أنه هو الواجب.
قال: (وتكره في باقيه)
إذا أخرجها بعد صلاة العيد أو بعد صلاة الظهر أو بعد صلاة العصر من يوم
العيد ما لم تغرب الشمس فإن هذا الفعل منه مكروه لكن الزكاة تجزئ عنه هذا
هو المشهور عند الحنابلة.
وعن الإمام أحمد: أنه يحرم.
وقال الظاهرية، وهو قول الشوكاني: لا يجزئ فإن أخرجها بعد صلاة العيد فإنها
لا تجزئ. وهذا هو ما دل عليه قول النبي صلى الله عليه وسلم الثابت في سنن
أبي داود وغيره بإسناد حسن من حديث ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم:
(فرض زكاة الفطر طهرة للصائم من اللغو والرفث وطعمة للمساكين فمن أداها قبل
الصلاة فهي زكاة مقبولة ومن أداها بعد الصلاة فهي صدقة من الصدقات) (2)
فهذا دليل ظاهر فيما ذهب إليه الظاهرية من أن الزكاة لا تجزئ، لأنه قال:
(فهي زكاة مقبولة) ومفهومه أنها إن أخرجت بعد الصلاة فهي ليست زكاة مقبولة
وإنما هي صدقة من الصدقات.
__________
(1) لعله: بعدها
(2) تقدم صْ 84.
فالراجح أنه إن أخرجها بعد الصلاة لعذر أو
لغير عذر فإنها لا تجزئ عنه زكاة وإنما هي صدقة من الصدقات فإن كان معذوراً
فلا شيء عليه، وأما إن كان غير معذور فإنه آثم لتركه الواجب في وقته.
قال: (ويقضيها بعد يومه آثماً)
أي بعد يوم العيد كأن يخرجها في ليلة الثاني من شوال أو في اليوم الثاني أو
الثالث من شهر شوال فإنها تجزئ عنه لكنه آثم فهي زكاة مقبولة لكنه آثم
لتأخير الواجب عن وقته.
والصحيح أنها لا تجزئ عنه – أيضاً كما تقدم – بل هنا أولى فلا يجزئ عنه وهو
آثم إن لم يكن معذوراً أما إن كان معذوراً فلا شيء عليه.
إذن: المشهور عند الحنابلة أن إخراجها يجزئ قبل يوم أو يومين وأن السنة أن
تخرج قبل الصلاة وأنها إن أخرجت بعد الصلاة في يوم العيد فهي زكاة مقبولة
لكنها مكروهة وأما إن أخرجها بعد يوم العيد فهو آثم.
والراجح: ما تقدم وأن الواجب عليه أن يخرجها قبل الصلاة فإن أخرجها بعد
الصلاة فلا تجزئ عنه سواء كان هذا في يوم العيد أو بعده وإنما هي صدقة من
الصدقات.
فإن قيل: لم فرق الحنابلة في هذا؟
فالجواب: لعلهم فرقوا من باب ما ورد في الدارقطني لكن إسناده ضعيف أن النبي
- صلى الله عليه وسلم - قال: (أغنوهم عن المسألة في هذا اليوم) (1) أو كما
روى، فكأنها عندهم في يوم العيد آكد من غيره.
والحديث وإن كان ضعيفاً لكن المعنى يدل عليه، فإن زكاة الفطر إنما تؤدى يوم
العيد لهذا القصد.
فلا يشكل على الفقير طعمته في يوم هو عيد من أعياد المسلمين وهو يوم فطر من
رمضان، فيُغنى عن المسألة في هذا اليوم، فالتفريق من هذا الباب.
والحمد لله رب العالمين
الدرس التاسع بعد المئتين
(يوم الثلاثاء: 8 / 1 / 1416 هـ)
فصل
قال: (ويجب صاعٌ من برٍ أو شعير أو دقيقهما أو سويقهما أو تمر أو زبيب أو
أقط)
" صاع من بر " وهو الحنطة أو القمح.
__________
(1) سنن الدارقطني [2 / 348] رقم (2108) .
" أو دقيقهما " الدقيق هو الطحين.
" أو سويقهما " السويق هو ما يطحن من الشعير والبر بعد أن يحمَّص " أي يوضع
على النار قليلاً.
" أو أقط " وهو ما نسميه بالبقل.
فهذه الخمس يجب منها صاع صدقة الفطر.
ودليل هذا: ما ثبت في الصحيحين عن أبي سعيد الخدري قال: (كنا نعطيها زمن
النبي صلى الله عليه وسلم صاعاً من طعام أو صاعاً من تمر أو صاعاً من شعير
أو صاعاً من زبيب أو صاعاً من أقط) (1) فقد ذكر في هذا الحديث أربعة، وكذلك
الحنطة بإجماع الصحابة وسيأتي ما يدل عليه.
إذن: تخرج من هذه الأصناف الخمسة.
والقدر الواجب ما ذكره المؤلف وهو الصاع، وهو الصاع النبوي وتقدم أنه يساوي
أربعة أخماس الصاع المعاصر.
وكلام المؤلف يدل على أن القدر الواجب في البر هو الصاع كغيره وهذا هو مذهب
جمهور العلماء.
قالوا: لأن النبي صلى الله عليه وسلم أوجبه – أي الصاع – في هذه الأصناف
المختلفة فهي ذوات قيم مختلفة ومع ذلك فقد أوجب الشارع فيها كلها صاعاً
فالبر كذلك.
- وذهب الأحناف: إلى أن نصف الصاع من الحنطة يجزئ فإذا أخرج مُدَّيْن من
حنطة – أي نصف صاع – فإنه يجزئه ذلك.
واستدلوا:
__________
(1) أخرجه البخاري في كتاب الزكاة، باب (75) صاعٍ من زبيب (1508) عن أبي
سعيد الخدري رضي الله عنه قال: " كنا نعطيعها في زمان النبي - صلى الله
عليه وسلم - صاعاً من طعام أو صاعاً من تمر أو صاعاً من شعير، أو صاعاً من
زبيب، فلما جاء معاوية، وجاءت السَّمْراءُ قال: أرى مداً من هذا يعدل مدين
"، أخرجه مسلم 985 بزيادة: فأما أنا فلا أزال أخرجه كذلك ".
بما روى أبو داود في مراسيله بإسناد صحيح
إلى سعيد بن المسيب - ومراسيله أصح المراسيل عند أهل العلم – قال: (فرض
رسول الله صلى الله عليه وسلم زكاة الفطر مدين من حنطة) (1) أي نصف صاع فإن
الصاع أربعة أمداد، وله شاهد عند النسائي من حديث ابن عباس، وشاهد ثالث عند
الترمذي من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده، وشاهد رابع من حديث عبد الله
بن ثعلبة أو ثعلبة بن عبد الله – الشك في الرواية - في سنن أبي داود (2) ،
فهذه شواهد تدل على صحة الحديث، فثبت ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم وهو
مذهب جمهور الصحابة، فقد رواه ابن المنذر: عن عثمان وعلي وابن عباس وأبي
هريرة وجابر وعبد الله بن الزبير وأسماء بنت أبي بكر قال الحافظ ابن حجر: "
بأسانيد صحيحة " (3) .
وهو ثابت عن عائشة كما هو ثابت عند ابن حزم.
__________
(1) لم أجده في سنن أبي داود بهذا اللفظ، لكن فيه (1622) قال: " حدثنا محمد
بن المثنى، حدثان سهل بن يوسف قال: حُميد: أخبرنا عن الحسن قال: خطب ابن
عباس رحمها لله في آخر رمضان على منبر البصرة فقال: أخرجوا صدقة … فرض رسول
الله - صلى الله عليه وسلم - هذه الصدقة صاعاً من تمر أو شعير أو نصف صاع
من قمح على كل حر.. ". وفي صحيح مسلم / كتاب الزكاة / باب (4) زكاة الفطر
على المسلمين من التمر والشعير (984) عن ابن عمر قال: فرض النبي - صلى الله
عليه وسلم - صدقة رمضان على الحر والعبد والذكر والأنثى صاعاً من تمر أو
صاعاً من شعير قال: فعدل الناس به نصف صاع من بر " وفي رواية له: " فجعل
الناس عدله مدين من حنطة ". وانظر فتح الباري [3 / 372] .
(2) في سنن أبي داود [2 / 270] ما نصه: " عن عبد الله ثعلبة أو ثعلبة بن
عبد الله بن أبي صُعيْر عن أبيه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -
... "
ورواه ابن حزم أيضاً عن أبي بكر وعمر وابن
مسعود لكن بأسانيد ضعيفة فهو قول جمهور الصحابة ولا يعلم لهم مخالف إلا ما
كان من أبي سعيد الخدري والمخالفة أيضاً ليست صريحة، ففي الصحيحين: (لما
جاء معاوية وجاءت سمراء الشام " أي الحنطة " قال معاوية " (إني أرى مداً من
هذه يعدل مدين من شعير) فهو قول معاوية أيضاً، فقال أبو سعيد الخدري: (أما
أنا فلا أزال أخرجه كما كنت أخرجه في زمن النبي صلى الله عليه وسلم) .
وعند أبي داود: (لا أخرجه أبداً إلا صاعاً) فهذا قول أبي سعيد، فإن كان
صريحاً فالمخالف له جمهور الصحابة، وهو ما تقدم أيضاً ثابت عن النبي صلى
الله عليه وسلم.
ويحتمل أن يكون هذا فعل منه من باب الاحتياط، ولا شك أن من أخرج أكثر من
الواجب عليه فإنه يجزئه وله أجر كما قال النبي صلى الله عليه وسلم – فيما
تقدم – فيمن أراد أن يخرج ناقة فتية سمينة فقال النبي صلى الله عليه وسلم:
(فإن تطوعت قبلناه منك وآجرك الله عليه) (1) .
إذن: ما ذهب إليه الأحناف هو القول الراجح وهو اختيار ابن المنذر وهو من
كبار المجتهدين وهو منسوب إلى الشافعية وهو اختيار شيخ الإسلام وهذا هو
القول الراجح.
ومثل البر الأرز، فإنه يجزئه أن يخرج نصف الصاع منه إن كان من أطيب أنواع
الأرز أما إن كان من النوع الرديء الذي يساوي قيمة الشعير ونحوه فإنه لا
يجزئه إلا أن يخرج صاعاً لكن الأحوط وهو الآجر أن يخرج صاعاً.
قال: (فإن عَدِم الخمسةَ أجزأ كل حب وثمر يُقتات)
إذا عدم هذه الخمسة المذكورة فإنه يجزئه كل حب كالذرة مثلاً أو ثمر - يشبه
أن يكون هذا التين ونحوه إن يبس (2) - يقتات أي يطعم، وتقدم الكلام على
القوت.
إذن: إذا عدم هذه الخمسة فيجزئه كل نوع من أنواع الحبوب أو الثمار التي
تقتات أي التي تطعم وتدخر.
__________
(2) كذا في الأصل.
- وظاهر كلام المؤلف أنها إذا لم تعدم فلا
يجزئه ذلك وأن الحكم مخصوص بهذه الأصناف الخمسة وهذا هو المشهور في المذهب
فلو أخرج ذرة أو غيرها من الأطعمة التي تقتات،فإنه لا يجزئه. وأنه إذا أخرج
شيئاً من الأصناف الخمسة وإن كان لا يقتات كالشعير في وقتنا أو الأقط فإنه
يجزئه هذا هو المشهور عند الحنابلة.
واستدلوا بالحديث المتقدم الذي فيه ذكر الأصناف الخمسة وهو حديث أبي سعيد.
- وذهب جمهور أهل العلم: إلى أن المجزئ ما كان من قوت البلد سواء كان من
هذه الأصناف المذكورة أم لم يكن، بل إذا أخرج شيئاً من هذه الأشياء
المذكورة وليس قوتاً كالأقط أو الشعير مثلاً عندنا، فإنه لا يجزئه ذلك.
فالمجزئ هو إخراج طعام من طعام البلد وقوته سواء كان من هذه الأصناف الخمسة
أم لم يكن منه، وأما ما ليس من قوت البلد فإنه لا يجزئه وإن كان من الأصناف
الخمسة المذكورة في الحديث.
فعلى هذا القول: إخراج الشعير في وقتنا لا يجزئ، وإخراج الأقط لا يجزئ.
واستدلوا: بما ثبت في سنن أبي داود وتقدم، من قول الصحابي وهو ابن عباس:
(فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم زكاة الفطر طهرة للصائم من اللغو والرفث
وطعمة للمساكين) فصدقة الفطر إنما شرعت طعمة للمساكين فدل على أن ما كان من
طعام البلدة وقوتهم فإنه يجزئ وأن ما لم يكن من طعامهم فإنه لا يجزئه.
قالوا: وإنما ذكر النبي صلى الله عليه وسلم الأصناف الخمسة لأنها كانت قوت
البلد، فقد ثبت في البخاري وغيره أن أبا سعيد قال: (وكان طعامنا يومئذ
الشعير والزبيب والتمر والأقط) فهو طعامهم ولذا أمرهم النبي صلى الله عليه
وسلم بإخراجه. وهذا القول هو الراجح وهو اختيار شيخ الإسلام وتلميذه ابن
القيم.
قال: (ولا معيبٌ)
فلا يجزئ إخراج المعيب كأن يكون مبلولاً
بالماء أو مسوساً أو أن يكون متغيراً طعمه لقدمه كما يقع هذا في التمر وبعض
الأطعمة فيتغير طعمها لقدمها فإنها لا تجزئ لقوله تعالى: {ولا تيمموا
الخبيث منه تنفقون ولستم بآخذيه} (1) فلا يجزئ أن يخرج من خبيث طعامه وما
كان معيباً فهو من خبيث الطعام فلا يجوز إخراجه.
أما إن كان قديماً لكن طعمه لم يتغير وكان الطعام الجديد أحب إلى الناس –
وهذا يختلف باختلاف الأطعمة فالتمر مثلاً الجديد أفضل من القديم، بخلاف بعض
الأطعمة كالأرز فإن منها ما إذا طالت مدته كان أفضل فالمقصود من ذلك أن
الجديد إذا كان أحب إلى الفقير فهو أولى وأفضل في الصدقة، مع أنه يجزئه أن
يخرج القديم الطيب.
قال: (ولا خبزٌ)
الخبز ما يصنع من الطحين أي من القمح فلا يجزئ لأنه لا يُدّخر وما ذكر من
الأطعمة مما يدخر.
- واختار ابن عقيل من الحنابلة إجزاءه، ووجه هذا القول الزركشي من الحنابلة
فاختار أنه يجزئ إخراج الخبز.
وعلى ذلك الأرز المطبوخ يجزئه، وهذا إذا كان الطحين أو الأرز الذي صنع منه
الطعام - إذا كان يعدل القدر الواجب إخراجه وهذه المسألة وهي مسألة ثابتة
أيضاً في الطحين وفي الدقيق والسويق الذي تقدم ذكره، فلابد أن يكون الطحين
أو السويق لابد أن يكون بوزن الصاع من الشعير والصاع من البر وهنا كذلك فإن
الطحين الذي يصنع منه الخبز أو الأرز المطبوخ على القول بإجزائه لابد أن
يكون قبل الطبخ أو قبل الخبز لابد وأن يكون صاعاً، على القول بأنه لا يجزئه
إلا صاع، أو نصف صاع على القول الآخر.
__________
(1) سورة البقرة.
وفيما ذكره – فيما يظهر لي – قوة؛ وذلك لأن
قضية الادخار غير معتبرة في صدقة الفطر، فإن المقصود هو إغناء الفقير عن
المسألة في يومه ذلك، ولذا أوجبناها على الفقير نفسه إن فضل له عن حاجة يوم
العيد وليلته صاع، فليس المقصود الادخار إذ أنها تخرج منه فإن الرجل الذي
لا يملك إلا صاعاً من بر وهو فاضل عن قوت يوم العيد وليلته هو فقير ونوجب
عليه إخراج هذا الصاع وننهاه عن ادخاره فدل على أن الادخار غير مقصود وأن
المقصود هو أن يكون له طعمة في ذلك اليوم.
فما اختاره ابن عقيل قوى، لكن الأحوط ما ذهب إليه الحنابلة في المشهور
عندهم وغيرهم.
قال: (ويجوز أن يعُطي الجماعةُ ما يلزم الواحد)
الذي يلزم الواحد هو الصاع، فيجوز أن يدفعه إلى جماعة من الناس بمعنى أن
يقسم الصاع على أكثر من مسكين؛ لأنه فعل الواجب عليه، فقد أخرج صاعاً من
طعام ففعل الواجب عليه.
- وقال بعض الحنابلة: لا يجزئه. وهو ظاهر اختيار شيخ الإسلام وأن الصاع هو
القدر الذي يحتاج إليه الفقير الواحد وقد قال صلى الله عليه وسلم طعمة
للمساكين، ولا شك أنه إذا قسم بينهم هذا حفنة وهذا حفنة، فإن هذا لا يكون
لهم طعاماً.
فالأظهر أنه لا يجزئه ذلك، وأن الواجب إخراج القدر المجزئ بشرط أن يكون هذا
القدر المجزئ طعاماً، وتحديد الشارع للصاع؛ لأن الصاع هو القدر الذي يحتاج
إليه الفقير في طعامه، فلا يجزئه أن يقسم الصاع بين أكثر من مسكين وقد
يتساهل فيما إذا كان الصاع يكفي أكثر من مسكين، كأن يقسمه بين مسكينين أو
ثلاثة بحيث يكون القدر المعطى لكل شخص منهم أن يكون كافياً لطعامه – قد
يتساهل بهذا -.
أما أن يقسم بينهم بحيث لا يكفيهم كأن يقسم بين عشرة ونحو ذلك فإن هذا غير
مجزئ؛ لأنه لم يحصل به طعمة للمسكين. هذا هو ظاهر اختيار شيخ الإسلام.
واستثنى فيما إذا كان هناك مضطرون بحيث
إنّا إذا قسمنا الصاع بينهم لكل شخص حفنة أنجيناهم من الهلكة والموت فحينئذ
– يجوز أن يفرق بينهم، وهذا ظاهرٌ لاقتضاء المصلحة له.
إذن: الأظهر أن هذا الصاع يجب أن يعطى للمسكين؛ لأنه هو القدر الذي يحتاج
إليه وبه تندفع حاجته لكن قد يتساهل في هذا ويقال بقول الجمهور إذا كان
القدر المعطى يكفي المسكين يومه وليلته فإنه قد يتساهل بهذا كما تقدم.
قال: (وعكسه)
أي ويجوز عكسه وذلك أن يعطى الواحد ما يلزم الجماعة يعني جماعة أخرجوا صدقة
الفطر إلى شخص واحد، قال الموفق: (لا نعلم خلافاً بين أهل العلم فيه) (1) .
وذلك لأن هذه الصدقة قد أعطيت مستحقها فبرئت الذمة.
ولو قال قائل: بعدم الإجزاء إلا أن يكون الفقراء قليل لكان قولاً قوياً؛
وذلك لما تقدم من أن زكاة الفطر يؤمر بها الفقير فلا يقصد منها الادخار بل
يقصد منها طعمة يومه، وطعمة يومه إنما تكون بصاع كما تقدم فعلى ذلك إذا
أعطي أكثر من ذلك فإنما يكون للادخار فلا يناسب شرعاً أن تؤخذ من فقير
فتعطى فقيراً آخر فيؤخذ منه ما يمكن أن يدخره فيعطى غيره ليدخره – هذا محل
نظر ظاهر.
لكن إن كان أغلب أهل البلد أغنياء يخرجون صدقة الفطر عن يسر – كما يقع هذا
كثيراً في بلادنا – والفقراء قليل، فيعطون هذه الأموال وإن كانوا يدخرونها،
فإن هذا جائز.
__________
(1) قال ابن قدامة في المغني [4 / 316] ما نصه: " أما إعطاء الجماعة الواحد
فلا نعلم فيه خلافاً ".
أما أن يُعطي شخصاً ويمنع منها شخص آخر
ونقول بإجزاء ذلك، هذا فيه نظر، ولذا فإن الذي ينبغي أن يكون هناك عمّال
يرتبون القيام بإخراجها فيخرجونها على سائر فقراء البلدة فلا يدَعوا فقيراً
إلا وقد أوصلوا إليه طعمة يوم العيد وليلته، فإذا فضل بعد ذلك شيء من
الطعام أُعطى بعد ذلك الفقراء وإن ادخروه، وأما كلام الفقهاء فإن ظاهره
الإجزاء مطلقاً وإن كان هناك فقراء لم يصل إليهم شيء من صدقة الفطر مطلقاً.
والأظهر ما تقدم وأن هذا الطعام إنما يقصد به إغناء الفقير ليلة العيد
ويومه ولذا يؤمر به الفقير نفسه.
وأصح الوجهين في المذهب أن من لم يجد إلا نصف صاع يفضل عن مؤنة يوم العيد
وليلته فإنه يجب عليه إخراجه لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا أمرتكم
بأمر فأتوا منه ما استطعتم) (1)
__________
(1) أخرجه البخاري في كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة (7288) فقال رحمه الله
تعالى: " حدثنا إسماعيل حدثني مالك عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة
رضي الله عنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (دعوني ما تركتكم،
فإنما أهلك من كان قبلكم سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم، فإذا نهيتكم عن
شيء فاجتنبوه، وإذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم) "
وأخرجه مسلم في كتاب الحج (1337) [صحيح مسلم بشرح النووي (9 / 100) ] فقال:
" وحدثني زهير بن حرب حدثنا يزيد بن هارون أخبرنا الربيع بن مسلم القرشي عن
محمد بن زياد عن أبي هريرة قال: خطبنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -
فقال: (أيها الناس قد فرض الله عليكم الحج فحجوا) فقال رجلٌ: أكل عام يا
رسول الله؟ فسكت حتى قالها ثلاثاً، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:
(لو قلت نعم لوجبت ولما استطعتم) ثم قال: (ذروني ما تركتكم فإنما هلك من
كان قبلكم بكثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم، فإذا أمرتكم بشيء فأتوا
منه ما استطعتم، وإذا نهيتكم عن شيء فدعوه) ".
وأخرجه أيضاً في كتاب الفضائل بعد حديث (2357) [صحيح مسلم بشرح النووي (15
/ 109) ] فقال: " حدثني حرملة بن يحيى التُّجيبي أخبرنا ابن وهب أخبرني
يونس عن ابن شهاب أخبرني أبو سلمة بن عبد الرحمن وسعيد بن المسيَّب قالا:
كان أبو هريرة يحدث أنه سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: (ما
نهيتكم عنه فاجتنبوه، وما أمرتكم به فافعلوا منه ما استطعتم، فإنما أهلك
الذين من قبلكم كثرة مسائلهم واختلافهم على أنبيائهم) .
وحدثني محمد بن أحمد بن أبي خلف حدثنا أبو سلمة وهو منصور بن سلمة الخزاعي
أخبرنا ليث عن يزيد بن الهاد عن ابن شهاب بهذا الإسناد مثله سواء.
حدثنا أبو بكر ابن أبي شيبة وأبو كريب قالا حدثنا أبو معاوية ح وحدثنا ابن
نمير حدثنا أبي كلاهما عن الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة ح وحدثنا قتيبة
بن سعيد حدثنا المغيرة - يعني الحِزامي - ح وحدثنا ابن أبي عمر حدثنا سفيان
كلاهما عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة ح وحدثناه عبيد الله بن معاذ
حدثنا أبي حدثنا شعبة عن محمد بن زياد سمع أبا هريرة ح وحدثنا محمد بن رافع
حدثنا عبد الرزاق أخبرنا معمر عن همام بن منبه عن أبي هريرة، كلهم قال عن
النبي - صلى الله عليه وسلم - ذروني ما تركتكم، وفي حديث همام: ما تركتكم،
فإنما هلك من كان قبلكم ثم ذكروا نحو حديث الزهري عن سعيد وأبي سلمة عن أبي
هريرة ".
وقد أمرنا بالصاع وعجزنا عنه وأمكننا أن
نخرج المد أو نصف الصاع فإن إخراجه هو الواجب علينا وقد قال تعالى: {فاتقوا
الله ما استطعتم} (1) .
مسألة:
في الصنف الذي يعطى صدقة الفطر؟
- مذهب الحنابلة: أن أصناف أهل الزكاة هم الذين يعطون صدقة الفطر وهم
الأصناف الثمانية المذكورين في قوله تعالى: {إنما الصدقات للفقراء
والمساكين} الآية.
فعلى ذلك يعطى المؤلفة قلوبهم وتعطى للجهاد في سبيل الله هذا هو المشهور
عند الحنابلة.
قالوا: لقوله تعالى: {إنما الصدقات للفقراء} فيدخل في ذلك صدقة الفطر.
- واختار شيخ الإسلام: أنها لا تجزئ إلا لمن يستحق الكفارة وهو من يأخذ
الصدقة لحاجة نفسه وهو الفقير والمسكين، واستدل بقوله صلى الله عليه وسلم:
(طعمة للمساكين) فخصها النبي صلى الله عليه وسلم بالمساكين.
قال: والفارق بينها وبين زكاة المال: أن زكاة المال متعلقة بالمال، فما
يخرج من الشياه أو من الإبل أو البقر أو من الذهب والفضة متعلق بهذه
الأموال.
أما صدقة الفطر فهي متعلقة بالبدن ولذا يجب على الفقير فأشبهت الكفارة فإن
الكفارات ككفارة اليمين وغيرها متعلقة بالبدن لا بالمال فأشبهت صدقة الفطر
الكفارة فكانت مستحقة لمن يستحق الكفارة.
وهذا القول هو الراجح؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم -: (طعمة للمساكين)
فخصها بالمساكين وأما قوله تعالى: {إنما الصدقات للفقراء والمساكين} فإن "
أل " هنا عهدية وقد قال تعالى في هذه السورة: {خذ من أموالهم صدقة} الآية،
فهي صدقة المال.
فقوله: {إنما الصدقات} أي إنما صدقات المال، وأما زكاة الفطر فهي صدقة بدن
فهي طهرة للصائم من الرفث فهي صدقة بدن لا صدقة مال.وما اختاره شيخ الإسلام
هو الراجح. فعليه: لا تدفع إلا للفقراء والمساكين طعمة لهم في ذلك اليوم.
والحمد لله رب العالمين
الدرس العاشر بعد المئتين
(يوم الجمعة: 11 / 1 / 1416 هـ)
باب: إخراج الزكاة
قال: (ويجب على الفور مع إمكانه إلا
لضرورة)
يجب على الفور إخراج الزكاة، فمن وجبت عليه زكاة في ماله سواء كانت من
المواشي أو عروض التجارة أو من النقد أو غيرها فيجب عليه أن يخرجها فوراً،
ولا يجوز له التراخي، وذلك للقاعدة الشرعية التي تقدم ذكرها وهي أن
الواجبات على الفور وقد دلت عليها نصوص الشريعة، فعلى ذلك وقد قال تعالى:
{وآتوا الزكاة} فيجب عليه أن يؤتيها فوراً، فإن تراخى أثم.
وقيده المؤلف بقوله: (مع إمكانه) أي مع إمكان الإخراج وهذه قاعدة في
الواجبات، وأن الواجبات إنما تجب مع القدرة.
والفورية الواجبة هنا: إنما تجب مع القدرة عليها، فإن لم يقدر على أدائها
فوراً فإنه لا تجب عليه ذلك بل له أن يتراخى بحسب ما تقتضيه قدرته كأن يكون
المال غائباً عنه فلم يتمكن من زكاته إلا متراخياً فإنه يجوز له التراخي
لقوله تعالى: {فاتقوا الله ما استطعتم} وقوله صلى الله عليه وسلم: (إذا
أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم) (1) .
واستثنى المؤلف هنا فقال: (إلا لضرورة) فإذا اقتضت الضرورة تأخير الزكاة
فإنه يجوز له تأخيرها وإن كان قادراً على أدائها لقوله صلى الله عليه وسلم:
(لا ضرر ولا ضرار) فلو أنه مثلاً تأخر عنه الساعي، والساعي يطالب بها عادة،
فتأخر عنه الساعي، وعلم أنه إن أداها بنفسه فإن الساعي يطالبه بها وقد لا
يصدقه في أنه قد أداها بنفسه، فحينئذ يجوز له أن يتأخر حتى يأتيه الساعي
حفظاً للمال وهي من الضروريات الخمس ومثل ذلك: إن احتاج إلى تأخير الزكاة
في مؤنة نفسه وكفايتها وحاجتها فله أن يؤخرها؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم
-: (لا ضرر ولا ضرار) .
* وهل يجوز له أن يؤخرها ويتراخى في دفعها ليؤديها إلى من هو أحق بها؟
كأن يكون هناك غائب وهو فقير شديد الحاجة إلى الزكاة أو أن يكون هناك قريب
إليه وهو محتاج إلى الزكاة وهو غائب؟
ظاهر كلام بعض الحنابلة المنع من التأخير
مطلقاً.
وظاهر قول بعضهم جوازه مطلقاً.
والمشهور عندهم وهو الأظهر: جوازه إن كان التأخير يسيراً عرفاً كأن يتأخر
أياماً يسيرة عرفاً كاليوم واليومين، فإنه يجوز له أن يؤخرها ليدفعها إلى
من هو أحوج إليها وأحق بها أما إن كان التأخير كثيراً عرفاً فليس له ذلك،
وذلك لأن الأصل وجوب دفعها فوراً، وتأخيرها زمناً يسيراً لأدائها إلى من هو
أحق بها، الحاجة داعية إليه ولا يفوت به مقصود الشرع من الفورية في الزكاة
بل يحصل به مقصود الشرع من دفعها إلى من هو أحق بها. بخلاف ما إذا كان
الزمن كثيراً فإن الزكاة حينئذ تكون عرضة للفوت إما بموت أو إفلاس أو نحو
ذلك، ولا يجوز ترك واجب لمندوب. (1)
قال: (فإن منعها جحداً لوجوبها كفر عارفٌ بالحكم)
أي إذا لم يكن جاهلاً فإنه يكفر؛ وذلك لأنه مكذب لله ورسوله فإن أدلة إيجاب
الزكاة ظاهرة من الدين ضرورة فإن جحدها وأنكرها فقد كذب الله في كتابه
والنبي صلى الله عليه وسلم في سنته فيكفر هذا إن كان عارفاً بالحكم أما إن
كان جاهلاً والجهل ممكن كأن يكون حديث عهد بإسلام فإنه لا يكفر حتى يبين له
حكم الله عز وجل وقد أجمع العلماء على أن جاحد وجوبها كافر.
قال: (وأخذت منه)
أي الزكاة لأنها وجبت عليه قبل كفره، فلا يقال: لا تجب الزكاة لأنه كافر،
والكافر لا يجب عليه الزكاة فحينئذ ينتقل إلى وارث أو بيت مال، بل يقال
الزكاة واجبة؛ لأنها تعلقت في ماله قبل كفره وقبل ردته فكانت واجبة فتؤخذ
من ماله زكاة.
قال: (وقتل)
__________
(1) في حاشية المذكرة ما نصه: " في الإنصاف: ويجوز له التأخير لحاجته إلى
زكاته إن كان فقيراً محتاجاً إليها تختل كفايته ... .
وعنه: له أن يعطي قريبه كل شهر شيئاً، وحمله أبو بكر على تعجيلها، وخالفه
المجد وأن الظاهر ... .
فائدة: نص أحمد على فورية النذر المطلق والكفارة، وهو المذهب ... "
ردةً؛ لأنه كافر بالله عز وجل، وقد قال صلى
الله عليه وسلم: (من بدل دينه فاقتلوه) (1) .
قال: (أو بخلاً أخذت منه)
فمن تركها بخلاً أو تهاوناً وكسلاً فإنها تؤخذ منه قهراً لقوله تعالى: {خذ
من أموالهم صدقة} وهذا حق مالي واجب فكان واجباً على الحاكم أن يأخذه من
مانعه إن منعه بخلاً به أو تهاوناً وكسلاً. (2)
قال: (وعُزِّر)
لأنه قد ارتكب أمراً محرماً من ترك الزكاة وفعل المحرم – إن لم يثبت فيه حد
– فإن الحاكم يعزر به كما سيأتي هذا في باب التعزيرات إن شاء الله.
فإذا منع الزكاة فإن الحاكم يعزره بسجن أو ضرب أو نحو ذلك.
وظاهره أنه لا تؤخذ منه شطر المال، وهذا هو المشهور عند الحنابلة وأن مانع
الزكاة تؤخذ منه الزكاة الواجبة فحسب ويعزر على المنع. (3)
وعن الإمام أحمد: أنه يؤخذ منه شطر ماله، وهو قول أبي بكر وقول الأوزعي
وقول الشافعي في القديم وهو اختيار ابن القيم وقد نصره في تهذيب السنن وأن
مانع الزكاة يؤخذ منه نصف ماله الذي وجبت فيه الزكاة مع الزكاة الواجبة،
وهذا هو القول الراجح.
__________
(1) أخرجه البخاري وغيره.
(2) في حاشية المذكرة ما نصه: " المذهب: أنه إن قاتل عليها لم يكفر، وعنه..
وهو قول بعض أصحابه: إن قاتل عليها كفر، وعنه: يكفر وإن لم يقاتل عليها.
فإن ادعى ما يمنع وجوب الزكاة من نقصان نصاب أو نحوه قبل قوله بلا يمين،
هذا هو المذهب، ووجه في الفروع.. "
(3) في أعلى المذكرة ما نصه: " لأن الصحابة لم يأخذوا الزيادة، إلا أن
يفعله لفسق الإمام، لكونه لا يضعها موضعها، وصوبه في الإنصاف، وقال: لو قيل
بوجوب كتمانه لكان سديداً ".
لما ثبت في مسند أحمد وسنن أبي داود
والنسائي من حديث بهز بن حكيم عن أبيه عن جده والحديث إسناده جيد، وقد صححه
غير واحد من أهل العلم والحديث ثابت جيد السند أن النبي صلى الله عليه وسلم
قال: (ومن منعها فإنا آخذوها وشطر ماله عَزْمةً من عزمات ربنا) (1)
فعلى ذلك يكون هذا من التعزيرات المالية.
فعلى ذلك تؤخذ الزكاة ويؤخذ معها شطر ماله.
قال: (وتجب في مال صبي ومجنون فيخرجها وليهما)
تقدم الكلام على هذه المسألة، وأن الزكاة واجبة في مال الصبي والمجنون
ويخرجها عنهما وليهما؛ لأنه هو القائم بالتصرفات المالية عنهما – كما هو
مذهب الجمهور خلافاً للأحناف. وعن أحمد: لا يلزمه الإخراج إن خاف أن يطالب
بذلك، كأن يخشى رجوع الساعي، لكن يعلمه إذا بلغ وعقل.
قال: (ولا يجوز إخراجها إلا بنية)
فلا تصح الزكاة ولا يجوز إخراجها إلا بنية فإن دفعها على أنها صدقة تطوع
مثلاً ثم نواها زكاة فلا يجزئه ذلك أو تنازل عن حق مالي لشخص ثم نواها بعد
ذلك زكاة فلا يجزئ - على القول بإجزاء تبرئة المدين زكاة –؛ وذلك لأن
الزكاة عمل، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إنما الأعمال بالنيات) (2)
فلا يصح العمل إلا بالنية ولا يجزئ إلا بها فإذا دفع شيئاً من ماله بغير
نية الزكاة، كأن يرى مسكيناً مثلاً فيعطيه ولم ينوها زكاة فإنه لا يجزئه
زكاة بل صدقة من الصدقات لحديث: (إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما
نوى)
قال: (والأفضل أن يفرقها بنفسه)
فالأفضل له أن يفرقها بنفسه سواء كانت الزكاة من الأموال الباطنة كالذهب
والفضة أو كانت من الأموال الظاهرة كالمواشي فالأفضل له أن يتولاها بنفسه
فيفرقها على مستحقيها وذلك لأنه بهذا الفعل يتيقن وصولها إلى مستحقيها وله
أن يدفعها إلى الإمام أو السعاة هذا هو المشهور عند الحنابلة
__________
(1) أخرجه أبو داود، وقد تقدم صْ 2.
فالأفضل – عندهم – أن يدفعها بنفسه ويفرقها
بنفسه سواء كانت الأموال الظاهرة أو الباطنة، قالوا: لأنه بذلك يتيقن
وصولها إلى مستحقيها.
وقال بعض الحنابلة كأبي الخطاب وهو مذهب الشافعية: بل الأفضل له أن يدفعها
إلى الإمام، وهو رواية عن الإمام أحمد في الأموال الظاهرة وفي صدقة الفطر.
وهذا القول هو الظاهر وأن الأفضل أن يدفعها إلى الوالي؛ وذلك لأنه بهذا
الفعل تزول التهمة عنه ولأن الصحابة كانوا يدفعونها إلى العمال والسعاة،
وكانت تجبى في زمن النبي صلى الله عليه وسلم وكان الناس يدفعونها إلى
السعاة كما هو مشهور في غير ما حديث عن النبي صلى الله عليه وسلم وهذا
القول هو الأرجح، وأن الأفضل له أن يدفعها إلى الإمام إن كان الإمام عادلاً
يضعها في مواضعها.
وظاهر كلام المؤلف أن له أن يدفعها إلى الإمام مطلقاً، لأنه قال: (الأفضل
له أن يفرقها بنفسه) وظاهره أنه إن دفعها إلى الإمام جاز ذلك مطلقاً سواء
كان الإمام عدلاً أو جائراً، وإن علم أنها تصرف في غير مصارفها وتوضع في
غير مواضعها هذا هو المشهور عند الحنابلة.
فإن كان الإمام عادلاً ويضعها في مواضعها فلا إشكال في جواز دفعها إليه بل
أفضلية ذلك – كما تقدم –.
وأما إن كان الإمام لا يضعها في مواضعها ولا يدفعها إلى مستحقيها وأمكنه أن
يكتمها عنه فمذهب المالكية والشافعية وهو اختيار القاضي من الحنابلة وصوبه
صاحب الإنصاف: أنه ليس له أن يدفعها – حينئذ – إلى الإمام. وهذا هو القول
الراجح؛ وذلك لأن مقصود الشارع إيصالها إلى مستحقيها وحيث دفعت إلى سلطان
لا يضعها مواضعها فإن في ذلك تضييعاً للحق عن صاحبه.
هذا حيث لم تترتب فتنة، بين الحاكم والمحكوم أما إن ترتب فتنة فإن ذلك لا
يجوز للفتنة.
أما إذا كان الإمام عادلاً، فإن المشهور عند الحنابلة جواز دفعها إليه وله
أن يصرفها بنفسه وتقدم أن المستحب له أن يدفعها إلى الإمام.
لكن هل يجب دفعها إلى الإمام أم لا؟
إذا كانت الأموال باطنة فقد أجمع العلماء
على أنه يجوز له أن يصرفها بنفسه ولا يجب عليه أن يدفعها إلى الإمام.
أما أن كانت الأموال ظاهرة:
فقال الحنابلة والشافعية: يجوز له أن يفرقها بنفسه ولا يجب أن يدفعها إلى
الإمام.
وقال المالكية والأحناف: بل يجب أن يدفعها إلى السلطان.
واستدلوا بقوله تعالى: {خذ من أموالهم صدقة} (1) وبأن النبي صلى الله عليه
وسلم كان يبعث السعاة في الأموال الظاهرة.
وأما الحنابلة فاستدلوا: بالقياس على الأموال الباطنة إذ لا فرق وأما ما
ذكرتموه من الأدلة، فإنه ليس فيه إلا إيجاب ذلك على الحاكم أو السلطان وأنه
يجب عليه أن يأخذ الأموال فيصرفها إلى مستحقيها، وليس فيه وجوب ذلك على
صاحب المال، وحيث دفعها – وهي الأموال الظاهرة – فإن الذمة تبرأ بذلك لأنها
زكاة قد أعطيت مستحقها.
هذا: إذا لم يطالب بها الإمام، فإن طالب بها الإمام فيجب دفعها إليه سواء
كانت باطنة أو ظاهرة؛ وذلك لما في منعها من الفتنة والافتيات على السلطان،
ولأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (قد عفوت عن الخيل والرقيق فهاتوا
صدقة الرقة) (2) كما ثبت في أبي داود بإسناد حسن، فقوله: (هاتوا) أمر
والأمر للوجوب.
* بيان هذه المسألة مرة أخرى وتفاصيلها:
إن طلب الإمام أو نائبه الزكاة في الأموال الظاهرة أو الباطنة فيجب دفعها
إليه لما في منعها من الافتيات عليه، ولما في ذلك من الفتنة ولقوله صلى
الله عليه وسلم – وهو الإمام -: (فهاتوا صدقة الرقة) وظاهر الأمر الوجوب.
فإن لم يطالب بها الإمام ولم يرسل السعاة إلى جلبها من الناس بأعيانهم فهل
يجب أن يدفعها إليه أو يجوز له أن يفرقها بنفسه؟
إن كانت باطنة فيجوز بالإجماع.
وإن كانت ظاهرة ففي ذلك قولان لأهل العلم:
__________
(1) سورة التوبة.
(2) أخرجه أبو داود في كتاب الزكاة / باب (4) في زكاة السائمة (1574) .
أصحهما وهو المشهور عند الحنابلة والشافعية
– جواز تفريقها بنفسه؛ وذلك لأن الأدلة الواردة ليس فيها ما يدل على وجوب
دفعها إلى الإمام وإنما فيها وجوب الإخراج، ووجوب أخذها من السلطان وليس
فيه وجوب دفعها إليه إلا أن يطالبه السلطان بها فيجب حينئذ لما تقدم.
ثم هل الأفضل له أن يدفعها إلى الإمام أم الأفضل له أن يفرقها بنفسه؟
الراجح – وهو مذهب الشافعية – أن الأفضل له أن يدفعها إلى الإمام لفعل
الصحابة، ولزوال التهمة.
* أما إذا ثبت له أن الإمام لا يضعها في مواضعها ويتصرف فيها بغير حق
وأمكنه كتمها:
فمذهب المالكية والشافعية وهو قول القاضي من الحنابلة وصوبه صاحب الإنصاف:
أنه لا يجوز له دفعها إليه كما تقدم.
والمشهور من المذهب أنها تدفع إليه.
ومما يدل على وجوب دفعها إلى الإمام إن كان الإمام يطالب بها وإن كان
الإمام لا يضعها مواضعها ولا يتصرف بها تصرفاً شرعياً آثار الصحابة، ففي
البيهقي بإسناد جيد أن ابن عمر قال: (ادفعوها إليهم وإن أكلوا بها الكلاب)
(1) ، وقال في رواية: (وإن شربوا بها الخمر) (2) .
وثبت في مصنف عبد الرزاق بإسناد صحيح عن أبي صالح قال: اجتمع عندي مال،
فأتيت ابن عمر وأبا هريرة وأبا سعيد وسعد بن أبي وقاص فقابلت كل واحد منهم
وقلت له: إن هؤلاء يضعونها حيث ترى: " أي لا يضعونها في مواضعها الشرعية "
وإني قد وجدت لها موضعاً حسناً، فكلهم قالوا: أدها إليهم) (3) .
إذن: إذا كان الإمام يطالب بها فيجب دفعها إليه وإن كان لا يضعها في
مواضعها، أما إذا لم يطالب بها أو أمكن كتمها ما لم يترتب على ذلك فتنة
فإنه يجب كتمها كما تقدم. (4)
__________
(2) السنن الكبرى للبيهقي / كتاب الزكاة، باب (38) الاختيار في دفعها إلى
الوالي (7383) .
(3) وانظر سنن البيهقي [4 / 193] رقم (7385) .
(4) كلام في الحاشية بعضه غير واضح.
ويجوز له أن يدفعها إلى ثقة توكيلاً هذا
جائز لا حرج فيه، فإذا أعطى زكاته ثقة يؤديها إلى مستحقيها فلا بأس؛ وذلك
لأن النبي صلى الله عليه وسلم قد وكل في زكاة ماله فقد وكل معاذ بن جبل في
أخذ زكاة أهل اليمن ويفرقها بينهم وكان يوكل السعاة في أخذ الزكاة ويفرقها
فدل ذلك على جواز التوكيل ولأنه يحصل المقصود ولا دليل أيضاً على منعه.
وهل يجب عليه أن يعلم الفقير أنها زكاة مال أم لا يجب عليه ذلك؟
نص الإمام أحمد على أنه لا يجب ذلك وأنه لا يستحب له؛ لما في ذلك من كسر
قلب الفقير.
واستثنى الحنابلة: من كان عادته ألا يقبل الزكاة ويتنزه عنها فإنه حينئذ لا
يدفع إليه إلا أن يخبر أنها زكاة، وقالوا: إن دفعت إليه من غير أن يذكر له
أنها زكاة فإن ذلك لا يجزئ.
هذا هو المشهور عند الحنابلة.
وقال بعض الحنابلة: بل يجزئ. وهذا هو الظاهر؛ وذلك لأنه من المستحقين وقد
دفعت إليه علم أنها زكاة أم لم يعلم فهي زكاة قد دفعت إلى مستحق لها وهو من
أهل الزكاة ولا دليل على عدم إجزائها والأصل هو الإجزاء لكن الذي ينبغي أن
يخبر بذلك وألا يفتات عليه فيعطى ما لا يرضى ويعطى ما يتنزه عنها بل يخبر
أنها زكاة فإن قبلها فذاك وإن ردها فكذلك.
ومع ذلك فالذي يظهر: أنه إذا اقتضت المصلحة الشرعية والحاجة عدم إخباره
فإنه لا يخبر، كأن يكون هناك أحد من الناس يتنزه عنها تنزهاً بالغاً وعليه
حاجة شديدة ويخشى عليه الهلكة ونحو ذلك وإن دفعت إليه وأخبر أنها زكاة لم
يقبلها فالذي ينبغي ألا يخبر بذلك إذ لا ضرر عليه. لكن إن لم يكن الأمر على
هذه الصفة فالذي ينبغي هو الإخبار وفي كل الحالات فإنها تجزئ لأنها زكاة
توفرت فيها الشروط الشرعية ودفعت إلى مستحقيها ولا دليل على عدم إجزائها
والأصل هو الإجزاء، أما إذا كان لا (1) يتنزه عن قبولها فلا ينبغي إخباره
بل تدفع إليه بلا إخبار؛ لئلا يكسر قلبه بذلك.
__________
(1) لعل الصواب حذفها.
هذا إن كان كسر القلب يحصل بذلك، أما إن
كان كسر القلب يحصل بدفعها على أنها صدقة من الصدقات، بينما إذا دفعت على
أنها زكاة رأى أن هذا حق من الله - عز وجل - دفع إليه قهراً من الغنى، وأنه
لا منة للغني بذلك، فالأولى هو الإخبار بأنها زكاة؛ لئلا يبقى في قلبه منة
لهذا الدافع - ولا منة له بذلك فهو حق من الله في مال هذا الغني دفع إلى
هذا الفقير -.
فالمقصود من ذلك: أنه حيث حصل كسر قلب الفقير فإنه لا يخبر بذلك وإن كانت
عادته عدم القبول فينبغي أن يخبر بذلك، فإن لم يخبر أجزأت على الراجح وهو
قول بعض الحنابلة.
قال: (ويقول عند دفعها هو وآخذها ما ورد)
أما هو فيقول عند دفعها: (اللهم اجعلها مغنماً ولا تجعلها مغرماً) (1) لكن
الحديث رواه ابن ماجه وإسناده ضعيف.
وأما آخذها من السعاة فيقول ما ورد وهو ما ثبت في الصحيحين - أن النبي -
صلى الله عليه وسلم - - عن عبد الله بن أبي أوفى: كان النبي صلى الله عليه
وسلم إذا أتاه الناس بصدقتهم قال: اللهم صل على آل فلان، فأتاه ابن أبي
أوفى بصدقته فقال: اللهم صل على آل أبي أوفى) (2) أي: اللهم أثن عليهم، فهو
من باب الدعاء وقد قال تعالى: {خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها وصل
عليهم إن صلاتك سكن لهم} (3) أي ادع لهم.
__________
(1) أخرجه ابن ماجه في كتاب الزكاة، باب ما يقال عند إخراج الزكاة. المغني
[4 / 96] .
(2) أخرجه البخاري في باب صلاة الإمام ودعائه لصاحب الصدقة من كتاب الزكاة،
وفي كتاب المغازي، وكتاب الدعوات، ومسلم في باب الدعاء لمن أتى بصدقته من
كتاب الزكاة وغيرهما. المغني [4 / 96] .
فيستحب للإمام أو نائبه أن يدعو لدافعها
وهذا الدعاء الوارد في الآية والحديث ليس خاصاً بالنبي صلى الله عليه وسلم
بل عام له ولغيره ولكن الخاص به هذا الفضل المذكور بقوله: {إن صلاتك سكن
لهم} ، ونظير هذا: قول النبي صلى الله عليه وسلم: (إن هذا القبور مملوءة
ظلمة على أهلها وإن الله ينورها لهم بصلاتي عليهم) (1) فلا يعني هذا أن
الصلاة على الميت في قبره خاص بالنبي صلى الله عليه وسلم، بل ذلك عام له
ولغيره، لكن هذا الفضل وهو أن الله ينورها بالصلاة خاص بالنبي - صلى الله
عليه وسلم -.
مسألة:
إذا منع الزكاة بخلاً فإنها تؤخذ منه شطر ماله معها وهذا الشطر هل يصرف
مصرف الفيء أو مصرف الزكاة؟
الظاهر أنه يصرف مصرف الزكاة لأنها متولدة من الزكاة فسببها الزكاة ولقوله
صلى الله عليه وسلم: (ومن منعها فإنا آخذوها وشطر ماله عزمة من عزمات ربنا
ولا تحل لآل محمد منها شيئاً) (2) وآل محمد تحل لهم الفيء أما الزكاة فلا
تحل لهم. فالأظهر أنها تكون لها مجرى الزكاة.
مسألة:
مستحق الزكاة هل الأفضل له أن يقبلها أم يتنزه عنها؟
الجواب: بل يقبلها إلا أن يترتب على ذلك مفاسد، وإلا فإن الصحابة كانوا
يقبلونها وتقدم أثر معاذ: (خير لأصحاب المدينة) (3) فلا شك أن التنزه عما
كان عليه الصحابة تنزه مذموم وهي حق من الله - عز وجل - وليس فيها منة
فالتنزه عنها ليس بسليم لكن قد يمتنع عنها الشخص إذا كان الناس يرونها مذمة
فيكرهها لذلك وإن كان قد يقبلها باطناً لكنه ظاهراً لما يرى من مذمة الناس
لذلك فحينئذ، والأصل أنه لا مذمة فيها فهي مال من الله ليس للغني فيه منة.
مسألة:
رجل زكاة ماله عشرة آلاف ريال، ويريد من فلان عشرة آلاف ريال، فهل له أن
يحلل الفقير مما عليه من الدَّيْن ويخصم هذا من زكاته هل يجوز أم لا؟
__________
(1) أخرجه مسلم، وانظر فتح الباري [1 / 553] . اسطوانة مكتبة الفقه وأصوله.
(2) تقدم.
(3) تقدم.
الذي يظهر أن المسألة فيها تفصيل – وإن كان
فيما يظهر لي أن المشهور عند الحنابلة المنع مطلقاً.
لكن الأظهر هو التفصيل وهو أن يقال: إن كان حقه يخشى ضياعه كأن يكون على
معسر فإنه ليس له ذلك؛ لأن هذا المال الذي على هذا الفقير بحكم المال
الضائع، فليس له حينئذ أن يخرج هذا من زكاة نفسه، أما إذا كان في حكم ما في
يده من المال كأن يكون له دين على فلان عشرة آلاف وهو يعلم أنه قادر على
الوفاء وهو وفيّ فيجوز له ذلك؛ لأنه له أن يدفع إليه الزكاة مباشرة وللفقير
إذا دفعها إليه أن يعيدها إليه وإن كان قد يمنع من هذا إن قلنا بالمسألة
على مذهب الحنابلة إن كان فيها مواطأة لكن لو دفعها إلى هذا الفقير المدين
له ثم أعادها هذا المدين من غير مواطأة، لقلنا بالإجزاء فلا فرق حينئذ بين
أن يحلله منها مع علمه بقدرته على الوفاء لكن إن كان غير قادر على الوفاء
فإنه لا يجوز ذلك، ولما في ذلك من تفويت الزكاة لأنه لا يكاد يجد غنياً إلا
له أموال كثيرة قد ذهبت في أيدي كثير من الناس لا يمكن تحصيلها فإذا فعل
هذا الفعل خرجت الزكاة وخرجت عن مستحقيها لذا المشهور في المذهب عدم الجواز
مطلقاً.
والحمد لله رب العالمين
الدرس الحادي عشر بعد المئتين
(يوم السبت: 12 / 1 / 1416هـ)
قال المؤلف رحمه الله تعالى: (والأفضل إخراج زكاة كل مال في فقراء بلده ولا
يجوز نقلها إلى ما تقصر فيه الصلاة) .
فالأفضل – أي المستحب – إخراج زكاة كل مال
في فقراء بلده ولا يجوز نقلها إلى ما تقصر فيه الصلاة وبهذه الجملة يتبين
أن مراد المؤلف في قوله: (والأفضل إخراج زكاة كل مال في فقراء بلده)
التفضيل بين إخراجها في بلد المال وبين إخراجها في موضع آخر بينه وبين
البلد الذي فيه المال الزكوي - بينه - مسافة لا تقصر فيه الصلاة، فعلى ذلك
الأفضل له أن يخرج الزكاة في البلد أفضل له من أن يخرجها في البوادي أو في
القرى القريبة من البلدة أو في المدن القريبة منها التي ليس بينها وبين هذه
المدينة - التي فيها المال - مسافة قصر.
أما إذا نقلها إلى بلدة بينها وبين هذه البلدة التي فيها المال الزكوي
مسافة قصر فإن ذلك النقل محرم فأصبح عندنا ثلاث حالات:
الحالة الأولى: أن يخرج الزكاة في بلدة المال فهذا هو الأفضل.
الحالة الثانية: أن يخرجها إلى بادية أو بلدة قريبة إلى بلدة المال بحيث
أنه ليس بينها وبين بلدة المال مسافة قصر فهنا يجوز له ذلك.
والحالة الثالثة: أن يخرجها إلى بلدة بينها وبين بلدة المال مسافة قصر فهذا
حرام لا يجوز.
أما الحالة الأولى: فدليلها ما ثبت في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه
وسلم قال لمعاذ بن جبل: (فأعلمهم أن الله افترض عليهم صدقة تؤخذ من
أغنيائهم فترد في فقرائهم) (1) أي في فقراء أهل اليمن، وثبت في سنن أبي
داود أن زياد بن أبيه أو بعض الأمراء بعث عمران بن حصين على الصدقة، فلما
رجع عمران قال له: (أين المال؟ فقال: وللمال أرسلتني؟ أخذناها [من] حيث كنا
نأخذها على عهد النبي صلى الله عليه وسلم ووضعناها حيث كنا نضعها على عهد
النبي صلى الله عليه وسلم) (2) فدل على أنهم لم يكونوا يجبون الصدقة إلى
بلدة الإمام وإنما كانوا يضعونها في فقراء البلد إلا إن فضل شيء فإنهم
يرجعون به إلى بلدة الإمام.
__________
(2) سنن أبي داود [2 / 276] ، كتاب الزكاة: باب في الزكاة هل تحمل من بلد
إلى بلد.
ومما يدل عليه من النظر: تعلق قلوب الفقراء
من أهل البلدة بهذا المال فصرفها إلى غيرهم كسر لقلوبهم ولا شك أن الشارع
يراعي جبر خواطرهم.
وأما دليل الحالة الثانية: وهي أن يخرجها إلى موضع آخر بينه وبين البلدة
دون مسافة القصر
فقالوا: لأنها بمعنى البلدة الواحدة لعدم قصر الصلاة بينهما فمن أتى من هذه
البلدة إلى هذه لم يقصر، وكذلك العكس. وهذا فيه نظر، لأن ظاهر الأحاديث
المتقدمة أنها تصرف في الموضع نفسه، ولذا قال صاحب الفروع: " ويتوجه احتمال
بالمنع " (1) أي منع صرفها في بلدة أخرى وإن كانت هذه البلدة ليس بينهما
وبين بلدة المال إلا مسافة لا تقصر فيها الصلاة وهذا القول هو الأرجح، وأن
الزكاة مختصة بالموضع نفسه فلا يصرف إلى البوادي أو البلدان القريبة التي
لا تقصر فيها الصلاة وذلك لظاهر الأحاديث ولما تقدم من التعليل وهو تعلق
قلوب الفقراء بها والذين تتعلق قلوبهم هم فقراء البلد نفسه.
أما الحالة الثالثة: وهو أن ينقلها إلى بلدة تقصر فيها الصلاة:
- فالمذهب المنع وأن ذلك لا يجوز وهذا مذهب جمهور العلماء والدليل ما تقدم
من الأدلة السابقة فهي دليل على أنه لا يجوز له أن يصرفها في بلدة أخرى
وأنها إنما تصرف في الموضع نفسه.
وظاهر كلام الحنابلة وغيرهم أن ذلك ممنوع مطلقاً للسلطان ونائبه وصاحب
المال، فلا يجوز لأحد منهم أن ينقلها من بلدة إلى بلدة أخرى.
فظاهر قولهم أيضاً أنه وإن دعت المصلحة لهذا، كأن تنقل لطلاب علم في بلدة
أخرى أو لشديدي حاجة أو لثغر من الثغور الإسلامية أو لهلكة في بلدة من
البلاد الإسلامية أو نحو ذلك وأن هذا لا يجوز مطلقاً.
- وعن الإمام أحمد وهو اختيار شيخ الإسلام:
جواز ذلك، واختاره طائفة من الحنابلة، وأنه إذا كانت ثمت مصلحة تقتضي نقلها
من بلدة المال إلى بلدة أخرى لكون هذه البلدة الأخرى فيها طلاب علم أو فيها
شديدو حاجة أو فيها مجاهدون هم على ثغر من الثغور الإسلامية، أو نحو ذلك من
المصالح، فإذا ثبتت المصلحة ورجحت الحاجة فيجوز، وهذا القول هو الراجح الذي
تقتضيه القواعد الشرعية من مراعاة المصالح وترجيح الأصلح على الصالح
والأنفع على النافع وشديد الحاجة على المحتاج وهو أعظم نفعاً من أن يختص
بها فقراء البلد مع كون الحاجة والمصلحة تقتضي نقلها إلى غيرهم.
ومما يستدل على هذا ما تقدم من أثر معاذ بن جبل من نقله صدقة أهل اليمن أو
شيئاً منها إلى فقراء الصحابة في المدينة.
فعلى ذلك: النقل لا يجوز إلا أن تكون هناك مصلحة راجحة فإنه يجوز.
قال: (فإن فعل أجزأت)
تقدم أنه لا يجوز له أن يخرجها من بلدة المال إلا لمصلحة راجحة فإن نقلها
لغير مصلحة على الراجح – فإن ذلك لا يجوز ولكن هل تجزئ؟
قال المؤلف: (أجزأت) ؛ وذلك لأنها زكاة أعطيت مستحقاً لها وكونها تنقل إليه
مع وجود من هو أحق منه، هذا يقتضي التحريم والإثم دون البطلان، فهو مستحق
لها، فقد أخذها بحق، وهي زكاة مال صرفت إلى مستحق لها فأجزأت، ونقلها إليه
من مستحقها الأصلي لا يبطلها بل تكون مجزئه ويثبت الإثم.
قال: (إلا أن يكون في بلد لا فقراء فيه)
فإذا كان في بلد لا فقراء فيه فقد اتفق أهل العلم على أنه يجوز له أن
ينقلها إلى بلدة أخرى وذلك لعدم المزاحم الأحق، ففي المسألة السابقة هناك
مزاحم أحق وهو صاحب البلدة الفقير، وأما هنا فإنه قد عدم فلا مزاحم أحق
فيجوز حينئذ دفعها إلى بلدة أخرى، وهذا لا خلاف بين أهل العلم فيه.
قال: (فيفرقها في أقرب البلاد إليه)
إذا وجبت عليه زكاة المال وكان البلد الذي
هو فيه لا فقراء فيه فإنها تنقل كما تقدم، وحينئذ فيجب عليه أن يدفعها إلى
أقرب البلاد إليه، فليس [له] أن ينقلها إلى بلدة بعيدة مع وجود بلدة قريبة
يستحق أهلها دفع الزكاة.
قالوا: لأنهم أولى بها لقربهم وهذا التعليل ليس بتعليل قوي، والحنابلة
ينقضونها في المسألة السابقة وهي جواز نقلها إلى بلدة لا تقصر فيها الصلاة
فإنهم ينقلونها من الموضع الذي وجبت فيه الزكاة إلى موضع آخر لا تقصر فيه
الصلاة ويرون جواز ذلك.
وهذه المسألة أولى بالجواز من المسألة السابقة، فينقلها إلى بلدة بعيدة مع
وجود بلدة قريبة أولى من نقلها من موضع إلى موضع آخر يشتركان في عدم قصر
الصلاة.
والأظهر هو جواز ذلك وأنه يجوز أن ينقلها إلى موضع بعيد مع وجود موضع قريب،
وذلك لأن مستحقيها في الأصل هم فقراء البلد، فحيث عدموا جاز له أن يصرفها
في أي موضع شاء، ولا دليل على إلزامه بموضع قريب دون موضع بعيد لكن لا شك
أن الأولى هو دفعها إلى الموضع القريب وكونه أولى لا يعني ذلك وجوبه فليس
هو أحق لكنه أولى بالدفع. والأفضل له أن ينقلها إلى الموضع القريب لأن أهل
الموضع القريب أولى بمعروفه فالأقربون أولى بالمعروف.
قال: (فإن كان في بلد وماله في آخر أخرج زكاة المال في بلده)
بعني بلد المال، فقوله: (في بلده) ضمير الغائب يعود إلى المال لا صاحب
المال.
أي إن كان في بلد من البلاد وماله في بلد آخر فإنه يخرج زكاة المال في بلد
المال؛ وذلك لأن الزكاة متعلقة بالمال فتدفع في موضعه، ولأن الفقراء
متعلقون بها في موضعها فوجب أن تدفع لهم.
بخلاف صدقة الفطر فلتعلقها في البدن تدفع في الموضع الذي هو فيه لذا قال:
(وفطرته في بلد هو فيه)
وإن كان ماله في موضع آخر، فلو كان من أهل
هذه البلدة وسافر مثلاً إلى مكة ووافق يوم الفطر فيها فإنه يخرج زكاة الفطر
في مكة وهكذا؛ وذلك لتعلقها بالبدن لا بالمال.
إذن: زكاة المال لتعلقها بالمال تدفع في الموضع الذي فيه المال، وأما صدقة
الفطر فإنها تدفع في الموضع الذي هو فيه لتعلقها بالبدن.
قال: ويجوز تعجيل الزكاة لحولين فأقل)
فيجوز له تعجيل زكاة المال، وذلك أن يخرجها قبل وقت وجوبها، أي يبقى عليه
شهر ويمضي عليها الحول فيخرجها قبل شهر مثلاً أو أن يخرجها في أول السنة.
جمهور العلماء على جواز تعجيل الزكاة.
ومنعه المالكية؛ واحتجوا على المنع بقوله صلى الله عليه وسلم: (لا زكاة في
مال حتى يحول عليه الحول) (1) قالوا: أي لا زكاة صحيحه.
وقالوا: لأن الشارع وقت لها ميقاتاً فلا يجوز تقديمها على ميقاتها كالصلاة،
فكما أنه ليس له أن يصلي قبل زوال الشمس فليس له أن يدفع زكاة ماله قبل
حلول الحول ومضيه.
وقال الجمهور: يجوز ذلك، واستدلوا: بما ثبت في أبي داود والترمذي وابن ماجه
من حديث علي بن أبي طالب – والحديث حسن – أن العباس بن عبد المطلب سأل
النبي - صلى الله عليه وسلم -: (في تعجيل زكاته قبل أن تحل، فرخص له في
ذلك) (2) ، وهو عند أبي عبيد القاسم بن سلام أن النبي صلى الله عليه وسلم:
(تعجل صدقة العباس سنتين) (3) والحديث حسن كما تقدم.
قالوا: ولأن تأخيرها إلى حلول الحول ومضيه لمصلحة الغني لينمو ماله ويزداد،
فإذا قدمها قبل وقتها فهو محض حقه، فإذا فعل هذا باختياره فإن هذا يجزئ عنه
ويجوز له. وهذا القول هو الراجح.
والجواب عما استدل به المالكية:
__________
(1) أخرجه أبو داود وقد تقدم.
(2) أخرجه أبوداود في كتاب الزكاة، باب (21) في تعجيل الزكاة (1624) ،
والترمذي باب في تعجيل الزكاة حديث 678، وابن ماجه باب تعجيل الزكاة حديث
1795. سنن أبي داود [2 / 276] .
أما ما استدلوا به مما روي عن النبي صلى
الله عليه وسلم من قوله: (لا زكاة في مال حتى يحول عليه الحول) فتقدم أن
الصحيح هو وقفه لا رفعه، ويجمع بين هذه الآثار الموقوفة وبين ترخيص النبي
صلى الله عليه وسلم للعباس بأن مراد الصحابة: (لا زكاة واجبة) فلا تجب
الزكاة حتى يحول عليه الحول.
وأما قولهم: أن العبادة لا تصح قبل ميقاتها كالصلاة.
فيجاب عنه: أن الميقات في الصلاة مجهول المعنى فلا يعقل لِمَ جعل الشارع
زوال الشمس وقتاً لصلاة الظهر ولم جعل غروبها وقتاً لصلاة المغرب. وأما مضي
الحول في الزكاة فإنه معلوم المعنى، فإن معناه توفير الوقت للغني ليتوفر
ماله ويزداد وينمو فهو لمصلحة الغني فإذا قدمه فهو حق له قد تنازل عنه وهذا
القول هو الراجح وهو مذهب الجمهور؛ لصحة الدليل الذي استدلوا به.
وهنا شرطان في جواز تعجيل الزكاة:
الشرط الأول: وهو شرط متفق عليه: هو ملكية
النصاب فلو كان عنده مثلاً ثلاثون شاة فلا يجوز له أن يعجل الزكاة فيها
فيدفع شاة لاحتمال أن تكون بعد سنة أربعين شاة أو خمسين شاة؛ وذلك لأنه فعل
الفعل قبل سببه، وسبب الزكاة هو ملك النصاب ولا يجزئ فعل الشيء قبل سببه
كما لو أراد أن يحلف فكفر قبل أن يحلف فإنه لا يجزئه؛ لأن الحلف هو سبب
الكفارة ويجزئه إذا حلف أن يكفر قبل الحنث لأن السبب موجود وهو الحلف، فهو
فعل قبل سببه وهو خلاف ما أمر به الشارع وما لم يأمر به الشارع فهو مردود،
وهنا كذلك فإذا لم يملك النصاب فليس له أن يعجل الزكاة. وملكية النصاب
المشترطة هنا تشترط في الحول كله ليجزئ عنه عن زكاة المال، ومعنى هذا أنه
لو ملك خمسين شاة فيجوز له أن يخرج شاة معجلة، فإن نقص هذه الشياه عن
النصاب فأصبح لا يملك إلا خمساً وثلاثين شاة أثناء الحول فإن تلك الزكاة لا
تجزئ وإنما يكون له صدقة من الصدقات وحينئذ إذا تم النصاب فبلغت أربعين
فإنه يستأنف حولاً جديداً وتكون زكاته المتقدمة صدقة له؛ لزوال سبب الزكاة
وهو ملكية النصاب وقد زال بنقصانها عن النصاب.
لكن إن كان النصاب بقدر ما عجل فإن هذا لا يؤثر، فلو أن رجلاً عنده أربعون
شاة فعجل فيها شاة فبقيت عنده تسع وثلاثون شاة فهذا لا يؤثر؛ لأن المعجل
بحكم الموجود في المال، فالواجب عليه أن يخرجه إذا حال الحول وحيث قدمه قبل
ذلك فإن هذا المال المعجل يكون بحكم المال الموجود فلا يؤثر حينئذ.
وهل يشترط ملكية المال أم لا؟
بمعنى: رجل عنده ثلاثمئة شاة فالواجب عليه ثلاث شياه وهو يظن ظناً غالباً
أن شياهه ستزيد على ثلاثمئة بحيث أنها لا يأتي عليها الحول إلا وقد وجب
عليه أربع شياه فهل يجوز له أن يخرج أربع شياه، ثلاث شياه عن الثلاثمئة وهي
ما يملكه الآن وشاة عما سيتولد من ماله أم ليس له ذلك؟
المشهور عند الحنابلة: أنه ليس له ذلك؛
لأنه غير مالك للمال المستفاد هنا، فالمائة شاة غير مملوكة له.
وعن الإمام أحمد: أن ذلك يجزئه؛ لوجود السبب في الجملة.
قالوا – تعليلاً لهذه الرواية -: كما يُضَم المال المستفاد إلى النصاب في
الحولية، فيضم إليه أيضاً في جواز التعجيل. وهذا القول أظهر؛ لأن المال
المستفاد تبعاً للنصاب في الحولية فيكون تبعاً له في جواز التعجيل.
الشرط الثاني: وهو ما ذكره المؤلف بقوله: (لحولين فأقل) أن يكون التعجيل
حولين فأقل فله أن يعجل السنة والسنتين، وليس له أن يعجل ثلاث سنين أو أربع
أو خمس.
- وعن الإمام أحمد: أنه يجوز له أن يعجل ثلاثة أعوام فأكثر. وهذا القول هو
الأظهر؛ إذ لا فرق بين تعجيل السنتين أو الثلاث ولا بين الثلاث والأربع فإن
النبي صلى الله عليه وسلم قد تعجل صدقة العباس سنتين، وتقدم إن المعنى يدل
على الجواز حيث أنه مالك للنصاب فجاز له أن يعجله قبل وقته ما دام أن ذلك
باختياره، وأن التأخير إنما هو لمصلحته، وهذا المعنى ثابت في ثلاث سنين
وثابت في أربع سنين وهكذا وهو اختيار طائفة من أصحاب الإمام أحمد.
إذن: الصحيح أنه لا يشترط للزكاة زمن محدد خلافاً للمشهور عند الحنابلة من
أنه يقيد بسنتين.
مسألة:
إن عجل زكاة ماله ثم طرأ على المعجَّل له وهو الفقير مثلاً – طرأ عليه ما
يجعله ليس أهلاً للزكاة لو أخرجت الزكاة في وقتها؟
فمثلاً زكاة ماله تجب في محرم فأخرجها في ذي الحجة وأعطاها من لم يصبح
مستحقاً لها في محرم وهو وقتها وكان مستحقاً لها في ذي الحجة كأن يعطيها
شخص فيموت أو يرتد أو يعطيها فقيراً فيغنى في وقت وجوبها الأصلي – فهل
يجزئه ذلك أم لا؟
- فالمشهور في المذهب أنه يجزئه؛ لأنه أخرج
زكاة المال على وجه مأذون له فيه وهي زكاة مجزئة حينئذ، فلا دليل على
إبطالها بعد ذلك، والفعل إذا صح فلا يبطل إلا بدليل، وهو مأذون له في ذلك
وقد دفعها إلى مستحق لها حينئذ فالاعتبار في حالة الدفع.
مسألة:
إذا دفع الزكاة معجلاً لها ثم طرأ عليه ما يجعله ليس من أهل الزكاة دفعها
عند وقت دفع الزكاة كأن يكون غنياً في أول السنة فيعجلها ثم يفتقر عند حلول
الحول؟ فهل يرجع بالزكاة أم لا؟
قولان لأهل العلم:
لقول الأول: أنه ليس له أن يرجع لا إلى الفقير ولا إلى السعاة في زكاته،
وهو اختيار أبي بكر من الحنابلة والقاضي؛ وذلك لأنه عجلها باختياره ورضاه
ودفعت للفقير على وجه التمليك فكانت ملكاً له، فلا يجوز إخراجها من ملكيته
إلا بدليل، وكونه يفتقر بعد ذلك هذا لا يعني إخراجها من ملكية الفقير إلى
ملكيته هذا أحد الوجهين في مذهب أحمد.
القول الثاني: وهو الوجه الثاني في المذهب: أنه إن دفعها إلى الساعي فإنه
يرجع مطلقاً سواء دفعت إلى الفقير وأخبر أنها زكاة معجلة أم لم يخبر. وأما
إذا دفعها هو بنفسه إلى الفقير المستحق، فإنه لا يجوز له أن يرجع إلا أن
يكون أخبره أنها زكاة معجلة فيجوز له الرجوع. ولا دليل على هذا القول وهو
قول ضعيف، والراجح هو القول الأول.
قال: (ولا يستحب)
أي لا يستحب له أن يعجل بل المستحب له أن يخرج زكاته عند مضي الحول.
قالوا: لوجود الخلاف في هذه المسألة، فخروجاً من الخلاف لا يستحب التعجيل.
وتقدم أن الخروج من الخلاف ليس دليلاً على حكم ما من الأحكام الشرعية.
والراجح: ما ذكره صاحب الفروع احتمالاً فقد
قال: " ويتوجه احتمال أنه يتبع المصلحة " فإذا كانت المصلحة في التعجل
فالمستحب هو التعجيل، كأن يصاب المسلمون بمجاعة في وقت من الأوقات ليس من
أوقات زكوات الناس فحينئذ المستحب هو تعجيل الزكاة لدفع حاجة الناس وأما إن
كانت المصلحة في التأخير وإعطائها في وقتها فهو المستحب.
فعلى ذلك الراجح: أنه يباح له التعجيل لحديث العباس المتقدم وإن كانت هناك
مصلحة شرعية في التعجيل فهو مستحب مراعاة للمصلحة والحاجة، ومراعاة المصالح
والحاجات من مقاصد الشريعة. وفي هذا الزمن الناس يخرجون زكوات أموالهم
الباطنة لا سيما الباطنة – بأنفسهم – وفي أيام إخراجها يخرجونها على أوجه
غير شرعية لعدم اهتمام منهم أو لضيق وقت أو نحو ذلك.
فإن عجلوا من أول السنة وهم يخرجون زكاة أموالهم حتى إذا تمت السنة يكونوا
قد أخرجوا الزكاة كلها – هذا خير وأفضل.
فكون الغني – مثلاً – يتكفل عائلة من الفقراء فيعطيهم كل شهر من زكاة ماله
فيغنيهم من الفقر حتى إذا تمت السنة حسب ما دفع لهم أو لغيرهم من مستحقي
الزكاة ثم حسب ذلك زكاة له وكان قد نوى التعجيل فإن ذلك هو الأفضل أما إن
كان هناك من يقوم بالزكاة ويصرفها في مصارفها الشرعية في وقتها فهذا هو
الأصل وإن كان يباح له التعجيل مطلقاً وإن لم تقتضيه المصلحة.
مسألة:
من كان له مال مثلاً في الرياض ومال في حائل فهل يخرج الزكاة من الذي في
حائل أم في الرياض؟
إن كان المالان يكملان نصاباً وكل واحد بمفرده ليس بنصاب فإنه يجوز له
دفعها في أحد البلدين والأولى أن ينظر الأحوج والأحق بها.
أما إذا كان المال نصاب في كلا البلدين
فإنه يخرج عن كل بلد في بلدها، فمثلاً عنده مائة وخمس وعشرون شاة، أربعون
منها في حائل، وخمس وثمانون في الرياض فالواجب عليه شاتان فيخرج شاة في
الرياض وشاة في حائل عن الأربعين. (1)
والحمد لله رب العالمين.
الدرس الثاني عشر بعد المئتين
(يوم الأحد: 13 / 1 / 1416هـ)
باب
هذا الباب فيمن تجزئ الزكاة إن دفعت إليهم، وهم الأصناف الثمانية،
ولذا قال: (أهل الزكاة ثمانية)
وهم المذكرون في قوله تعالى: {إنما الصدقات للفقراء والمساكين والعاملين
عليها والمؤلفة قلوبهم وفي الرقاب والغارمين وفي سبيل الله وابن السبيل
فريضة من الله} (2) أي لا تحل الزكاة إلا لهؤلاء المحصورين وهم الأصناف
الثمانية أي إنما الصدقات تحل.
ولذا اتفق العلماء على أن الزكاة لا يجوز ولا يجزئ أن تصرف في غير هذه
الأصناف من أبواب البر والخير كبناء المساجد ووقف المصاحف وبناء القناطر،
وإصلاح الطرق ونحو ذلك من أبواب الخير، وذلك لأن هذه الآية قد حصرت أهل
الزكاة فلا يجوز أن تدفع لغيرهم.
واعلم أن هذه الآية الكريمة فيها بيان لمن تحل لهم الزكاة وهم الأصناف
الثمانية، فأي صنف منهم دفعت إليه أجزأت.
__________
(1) في أسفل المذكرة ما نصه: والتقديم على الشرط جائز دون السبب.
(2) سورة التوبة.
ولا يظهر أن المراد في الآية هو الاستيعاب،
خلافاً لما ذهب إليه الشافعية من أن الآية فيها دليل على وجوب الاستيعاب،
وهي أن تقسم الزكاة إلى ثمانية أسهم فيعطى كل صنف من هذه الأصناف الثمانية
نصيباً فالآية لا تدل على هذا بل ظاهرها أن الزكاة يحل دفعها وتجزئ إلى هذه
الأصناف الثمانية، وليس فيها وجوب استيعاب الأصناف الثمانية ومما يدل عليه
قوله صلى الله عليه وسلم – في حديث معاذ -: (فأعلمهم أن الله افترض عليهم
صدقة تؤخذ من أغنيائهم فترد في فقرائهم) (1) والفقراء صنف من هذه الأصناف
الثمانية وقد أجزأ دفعها إليهم.
فالراجح: ما ذهب إليه جمهور العلماء من أن أي صنف دفعت إليه الزكاة أجزأت
وأن استيعاب هذه الأصناف الثمانية ليس بشرط خلافاً لما ذهب إليه الشافعية.
قال: (الأول: الفقراء وهم من لا يجدون شيئاً أو يجدون بعض الكفاية)
فالصنف الأول الفقراء: قال تعالى: {إنما الصدقات للفقراء}
(وهم من لا يجدون شيئاً) أي لا يجد شيئاً يطعمه ولا مسكناً يؤيه ولا منكحاً
ولا غير ذلك، أو له منكح وعيال وليس له ما ينفقه على نفسه وعياله مطلقاً،
فليس له شيء مطلقاً ينفقه على نفسه أو من يعول.
(أو يجدون بعض الكفاية) كأن يجد ربع كفايته أو ثلثها.
وأما المسكين:
فقال: (والمساكين يجدون أكثرها أو نصفها) .
فالفقير من لا يجد شيئاً البتة أو يجد أقل من النصف كالربع أو الثلث.
وأما المسكين فهو من لا يجد تمام كفايته وإن كان يجد أكثرها أو نصفها.
صورة هذا: إذا كان يكفيه في الشهر ألف ريال ينفقه على نفسه وعياله وعنده
عقار أو دكان أو وظيفة لا يخرج له منه إلا أربعمئة ريال، فهنا لا يجد إلا
أقل من نصف كفايته فهو فقير.
__________
(1) متفق عليه.
أما إن كان يجد خمسمئة أو ستمئة أو
ثمانمئة، فهو مسكين، وهذا باعتبار السنة، فلو أنه يحصل له في السنة ستة
آلاف ولا يكفيه إلا اثنا عشر ألفاً، فإنه يُدفع له ستة آلاف لتتم كفايته،
فإن الزكاة إنما تدفع له كفاية سنته وذلك لأنها لا تتكرر إلا في السنة
فيعطى كفايته منها سنة.
وهنا المؤلف قد جعل الفقير أشد حاجة من المسكين وهو كما قال، ولذا قدمه
الله عز وجل في الآية على المسكين فقال: {إنما الصدقات للفقراء والمساكين}
والتقديم مشعر بأهمية إعطائه وأنه أحوج من المسكين وهما في الحقيقة صنف
واحد يجمعهما عدم تمام الكفاية ولعل الداعي إلى جعلهما نوعين أو صنفين مع
أنهما في الحقيقة صنف واحد تنبيهاً على أهمية الدفع إليهم فهو جنس واحد
فذكرت أنواعه للتكثير لأهمية الدفع إليهم وأنهم أولى من غيرهم بالزكاة،
ولذا خصهم النبي - صلى الله عليه وسلم - بها في حديث معاذ فقال: (تؤخذ من
أغنيائهم فترد في فقرائهم) .
إذن: من لا يجدون كفايتهم يدفع إليهم من الزكاة ما يتمها كل سنة مما
يحتاجون إليه من مشرب وملبس ومنكح – فإن النكاح من الحاجات التي يحتاج
إليها الفقير، فيعتبر له ذلك فيعطى ما يمكنه أن ينكح به.
واعلم أن الفقير والمسكين بضد الغني، فالغني لا يحل له أن يأخذ من الزكاة
شيئاً والغني هو من يملك كفايته بالقوة أو بالفعل.
إذن: الغني قسمان:
من يملك كفايته بالفعل: أي عنده من الدراهم والدنانير أو عنده من المطاعم
والمشارب والمساكن ما يكفيه فهو غني بالفعل.
غني بالقوة: وهو المكتسب فليس بيده درهم ولا دينار لكن عنده قدرة بدنية على
التكسب فهو جلد يمكنه أن يتكسب وأن يعمل ويتحرف، فهو غني فليس له أن يأخذ
من الزكاة شيئاً إلا ألا يتمكن من عمل مع البحث عنه أو تمكن منه لكنه لا
يقوم بكفايته فإنه يأخذ من الزكاة.
يدل على هذا ما ثبت في مسند أحمد وسنن أبي
داود والنسائي عن عبيد الله بن عدي بن الخيار: (أن رجلين أتيا إلى رسول
الله صلى الله عليه وسلم يسألانه الصدقة فقلب النظر فيهما فرآهما جلدين
فقال: إن شئتما أعطيتكما - وهذا من التوبيخ والتقريع لهما أي إن شئتما
أطعمتكما حراماً، ويحتمل أن يكون أرجع إليهم الأمر لاحتمال أنه لم يتهيأ
لهما شيء من عمل - ولا حظ فيها لغني ولا لقوي مكتسب) (1) .
وجمهور العلماء على أن المعتبر بالغنى هو ما تقدم وهو أحد الروايتين عن
أحمد وأصحهما عنه، وهي اختيار أبي الخطاب والمجد من الحنابلة وأن الغني هو
من يجد كفايته.
وقال أكثر الحنابلة وهو رواية عن الإمام أحمد: أن الغني من يملك خمسين
درهماً أو ما يساويها من الذهب أي خمسة دنانير، فمن ملكها فهو غني لا يحل
له من الزكاة شيء.
وهذا القول لا وجه له في النظر، وإنما استدلوا بحديث رواه أبو داود من حديث
ابن مسعود أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من سأل الناس وعنده ما يغنيه
كانت له خدوش أو كدوح يوم القيامة فقيل: يا رسول الله وما الغنى؟ فقال:
خمسون درهماً أو قيمتها من الذهب) (2) .
__________
(1) سنن أبي داود، كتاب الزكاة: باب من يعطى من الصدقة وحد الغني. [2 /
285] .
(2) في سنن أبي داود [2 / 277] بلفظ: " من سأل وله ما يغنيه، جاءت يوم
القيامة خموش أو خدوش أو كدوح في وجهه، فقال: يا رسول الله، وما الغنى؟
قال: (خمسون درهماً أو قيمتها من الذهب) .
لكن الحديث ضعيف ففيه حكيم بن جبير وهو
ضعيف الحديث بل قد ترك الإمام شعبة حديثه لهذا الحديث [الـ]ـضعيف فهو منكر
من مناكيره فلا يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا حظ لهذا القول من
الرأي فهم يقولون أن من ملك خمسين درهماً فلا تحل له الزكاة وإن كانت هذه
الخمسين لا تكفيه ولا تقوم بحاجته، بينما من ملك عشرة دراهم وهي فاضلة عن
حاجته وهو غني غير محتاج فإن الزكاة تحل له، وهذا ضعيف كما تقدم.
- وقال الأحناف: من ملك نصاباً فهو غني، فلا يحل له أن يأخذ من الزكاة
شيئاً.
واستدلوا: بظاهر قوله صلى الله عليه وسلم: (تؤخذ من أغنيائهم) فسمى النبي
صلى الله عليه وسلم من تؤخذ منه غنياً وهي إنما تؤخذ ممن ملك نصاباً فدل
على أن مالك النصاب غني.
والجواب على هذا أن يقال: إنما تؤخذ ممن ملك نصاباً؛ لأن الغالب فيه الغنى
وإلا فقد يكون من يملك النصاب عنده من يعولهم كثرة وله حاجات كثيرة بحيث لا
يكفيه ما عنده وهذا أمر ظاهر فإن من يملك أربعين شاة لا يكفيه ما يستفيده
من هذه الأربعين شياه من القيام بنفسه وولده ونحو ذلك فيحتاج إلى أن يأخذ
من الزكاة.
فإذن: قول النبي صلى الله عليه وسلم: (تؤخذ من أغنيائهم) وكون الزكاة تؤخذ
من مالك النصاب هذا بناءً على الأغلب فإن الأغلب أن مالك النصاب غني، لكن
من يكون مالكه فقيراً فيدخل في عموم قوله: (إنما الصدقات للفقراء
والمساكين) فهو فقير أو مسكين فيدخل في عموم هذه الآية.
فعلى ذلك الراجح أن الغني هو من يملك كفايته وأن الفقير قد لا يملك كفايته
وإن ملك نصاباً زكوياً.
* واعلم أن من تفرغ للعبادة وهو قوي مكتسب
فإنه لا يعطى من الزكاة شيئاً؛ لعموم قوله - صلى الله عليه وسلم -: (ولا حظ
فيها لغني ولا لقوي مكتسب) وهو قوي مكتسب، والعبادة نفعها لازم به فلم يدفع
له من الزكاة شيئاً بخلاف طالب العلم فإنه إن تفرغ للعلم وهو قوي مكتسب ولم
يمكنه الجمع بين التكسب وطلب العلم فإن الزكاة تجوز له ويعطى منها لشراء
كتب علم أو غيرها؛ وذلك لأنه قائم بمصلحة عامة من مصالح المسلمين والفرق
بينه وبين العابد أن العابد قائم بنفع نفسه منفعة لازم له وأما طالب العلم
فهو قائم بنفع متعد، فيجوز أن يأخذ منها طالب العلم وإن كان يمكنه التكسب
إذا كان يشغله، وأما إن كان لا يشغله عن العلم ويمكنه الجمع بين العلم
والتكسب فإنه لا يحل له أن يأخذ منها شيئاً؛ لأنه قوي مكتسب غني بقوته.
قال: (والثالث: العاملون عليها وهم جباتها وحفاظها)
وقسامها وكتبتها وغير ذلك، هؤلاء هم العاملون عليها، لقوله تعالى:
{والعاملين عليها} فجباة الزكاة: الذين يجمعونها من الأغنياء.
وحفاظها: الذين يحفوظنها في المستودعات وغيرها.
وقسامها: الذين يصرفونها إلى أهلها، هؤلاء يدفع لهم من الزكاة أجرة وعُمالة
على عملهم لقوله: {والعاملين عليها} فتدفع إليهم وإن كانوا أغنياء، فلا
يشترط أن يكون العامل فقيراً.
ودليل هذا: ما ثبت في مسلم عن ابن الساعدي
قال: عملت على الصدقة لعمر فلما فرغت منها وأديتها إليه قال: خذ هذه
العُمالة فقلت: إنما عملت لله فأجري على الله فقال: خذ ما أعطيتك فإني عملت
على عهد النبي صلى الله عليه وسلم فقلت مثل ما قلت فقال لي النبي صلى الله
عليه وسلم: (إذا أعطيت شيئاً من غير أن تسأل فخذ فكل وتصدق) (1) وهذا
الحديث يدل على أنها تدفع للعامل وإن كان غنياً، ويفيده أيضاً إطلاق الآية
في قوله: {والعاملين عليها}
وهل يشترط أن يكون العامل عليها مسلماً؟
قال جمهور العلماء باشتراطه واحتجوا بقوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا لا
تتخذوا بطانة من دونكم} فدلت هذه الآية على أن الولاية لا يعطي للكافر
والعمل على الزكاة ولاية ولذا قال تعالى: {والعاملين عليها} فأتى بلفظة "
على " التي تفيد تضمن الولاية أي العاملون ولاية عليها وقد قال عمر: (لا
تأمنوهم وقد خونهم الله) (2) .
وعن الإمام أحمد وهو مذهب أكثر أصحابه: أن ذلك جائز فيجوز أن يتولاها
الذمي؛ قالوا: لأنه يأخذها أجرة، لا زكاة.
والراجح هو القول الأول وأن ذلك لا يجوز لقوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا
لا تتخذوا بطانة من دونكم} والعمل على الزكاة ولاية ولذا يتولاها في الغالب
أشراف الناس فهو ولاية على الزكاة وتسليط على الغني لأخذ الزكاة فيها وصرف
لها إلى المستحقين فهي ولاية، فلا يجوز أن يتولاها كافر لكن العمل على
الزكاة في غير الولاية عليها كالرعاة لها والحاملين لها من منطقة إلى أخرى
والحارس وغير ذلك يجوز أن يكونوا كفاراً؛ لأن هذه ليست من الولاية في شيء
وإنما هي استئجار ويجوز أن يستأجر الكافر في مثل هذه الأعمال.
وهل يشترط أن يكون بالغاً؟
المشهور عند فقهاء الحنابلة وغيرهم: اشتراط أن يكون بالغاً.
__________
(1) أخرجه مسلم في كتاب الزكاة / باب (37) إباحة الأخذ لمن أعطي من غير
مسألة ولا إشراف (1045) .
ووجه صاحب الفروع: جواز استعمال المميز
العاقل الأمين، وهو كما قال؛ لحصول المقصود به. فإنه إن كان أميناً عاملاً
فإن المقصود يحصل به كحصوله بالبالغ ويشترط أن يكون أميناً ليحفظ هذه
الأموال التي يجمعها وليصرفها إلى مستحقيها.
إذن: يشترط أن يكون مسلماً أميناً عاقلاً، وهل يشترط أن يكون بالغاً الظاهر
أنه لا يشترط،
فإنه إذا توفرت فيه الأمانة والعقل فإن المقصود يحصل وإن لم يكن بالغاً وإن
كان البالغ أولى.
* ولا يجوز أن يتولاها أحد من ذوي القرابة للنبي صلى الله عليه وسلم وهم
بنو هاشم، يدل على هذا ما ثبت في مسلم أن بعض بني هاشم سأل النبي صلى الله
عليه وسلم العمل على الصدقة فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (أنها لا تنبغي
لآل محمد إنما هي أوساخ الناس) (1) لكن إن وضعهم الوالي جباة وأعطاهم من
الفيء لا من الزكاة فإن هذا جائز، أما الزكاة فلا يعطون منها لهذا الحديث.
قال: (الرابع المؤلفة قلوبهم ممن يرجى إسلامه)
رجل كافر ونرجو إذا أعطيناه شيئاً من المال أسلم وترك دينه، فإنه يعطى من
الزكاة، فقد ثبت في مسند أحمد: عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم: (وكان
لا يسأل شيئاً على الإسلام إلا أعطاه، فسأله رجل فأعطاه شاءً كثيراً بين
جبلين فرجع إلى قومه فقال: يا قوم أسلموا فإن محمداً يعطي عطاء من لا يخشى
الفاقة) .
قال: (أو كف شره)
رجل من أهل الشر كأن يكون من الكفار من يقطع الطرق على المسلمين أو من
الدول الكبيرة من يخشى ضررها على المسلمين فيجوز أن تعطى من الزكاة، وذلك
لكف الشر عن المسلمين فإنه كان لا يسأل شيئاً على الإسلام إلا أعطاه وهنا
كذلك فإن هذا فيه حفظ للإسلام وأهله، فيجوز أن يعطي السيد من الكفار أو
المسلمين ما يحفظ به شره.
فإذا خشي على قوم أو طائفة أن يمنعوا الزكاة فأعطى سيدهم مالاً لكي يجبرهم
على إخراجها فلا بأس.
قال: (أو يرجى بعطيته قوة إيمانه)
__________
(1) تقدم.
أي يرجى بإعطائه أن يحسن إسلامه، فكذلك وقد
ثبت في الصحيحين أن علي بن أبي طالب: (بعث إلى النبي صلى الله عليه وسلم
بذَهبة (1) ِ في تربتها – أي من اليمن – فقسمها النبي صلى الله عليه وسلم
بين أربعة: الأقرع بن حابس وعُيينة بن حصين وعلقمة بن عُلاثة وزيد الخير،
فغضبت قريش وقالت: يعطي صناديد نجد ولا يعطينا فقال النبي صلى الله عليه
وسلم: إنما فعلت ذلك لأتألفهم) (2) فهذا فيه إعطاء السيد المطاع الذي يرجى
تأليفه على الإسلام فهم كانوا ذوي إسلام
وإنما أعطوا من أجل أن يحسن إسلامهم، كذلك يجوز أن يعطي السيد المطاع
لإسلام نظرائه في القبائل، فإنهم إذا رأوا ما يكرم به السيد المسلم كان ذلك
أدعى لإسلامهم.
إذن: المؤلفة قلوبهم: هم من يرجى بإعطائهم نفع نفسه أو نفع غيره، وهم
السادة المطاعون في أقوامهم أو من دونهم إذا وجدت هذه المصلحة.
فالسيد المطاع في قومه ونحوه سواء كان مسلماً أو كافراً إذا أعطى لجلب
مصلحة أو دفع مضرة تأليفاً فإن ذلك جائز لا حرج فيه دل عليه عموم القرآن في
قوله: {والمؤلفة قلوبهم} ودلت عليه السنة النبوية.
إذن: من يرجى إسلامه وهو كافر أو يخشى شره وضرره فإنه يعطى من الزكاة، أو
هو مسلم فيعطى ليتقوى إيمانه بذلك أو ليكون ذلك سبباً في إسلام نظيره أو
لئلا يمنع قومه من أداء الزكاة أو ليجبر غنيهم على دفعها ونحو ذلك من
المصالح الشرعية فإن ذلك جائز.
__________
(1) في البخاري " بذُهيبة ".
(2) أخرجه البخاري في كتاب التوحيد، باب (23) قول الله تعالى {تعرج
الملائكة والروح إليه} (7432) . وبرقم (3344) ، ومسلم (1064) .
وإعطاء المؤلفة قلوبهم توقف في عهد عمر
وعثمان وعلي لقوة الإسلام وظهوره. واحتيج إليه في زمن النبي صلى الله عليه
وسلم وأبي بكر، وتوقفه في عهد الخلفاء الثلاثة لا يعني تركه، وإنما لزوال
الحاجة الداعية إليه، فإذا تكررت الحاجة الداعية فإن هذا الحكم يثبت فهؤلاء
أصناف أربعة وهؤلاء تدفع إليهم الزكاة تمليكاً ولذا ثبتت لألفاظهم " لام "
التمليك فقال تعالى: {إنما الصدقات للفقراء والمساكين والعاملين عليها
والمؤلفة قلوبهم …} قال: {وفي الرقاب} فالأصناف الأربعة الأخيرة لا تمتلكها
فمتى زالت الحاجة الداعية إليها فإنها تعاد وترجع، أما هذه الأصناف الأربعة
فإنهم يستحقونها وإن زال السبب.
فلو أن رجلاً فقيراً فدفعت إليه الزكاة ثم اغتنى بعد زمن يسير ولم يصبح
محتاجاً إلى الزكاة، فإنه قد امتلكها بدفعها إليه قبل غناه، وكذلك المؤلفة
قلوبهم والعاملون عليها والمساكين يدفعها إليه قبل غناه وكذلك المؤلفة
قلوبهم والعاملون عليها والمساكين.
مسألة:
الفقير هل يعطى من الزكاة - هل يعطى - على حسب عرف الناس فيكون وسطاً بين
الناس أم يعطى دون ذلك فيسكن السكن الرديء ويأكل الأكل الرديء ويشرب الشراب
الرديء وهكذا؟
الظاهر أنه يعطى ما يكون به وسطاً؛ لأن النفقة في الأصل تكون بالمعروف
فالنفقات الشرعية تكون بالمعروف كما في غير ما دليل يدل على ذلك، فما يكون
في وسط الناس هو المعروف.
ولأن إعطائه الشيء الرديء قد تفوت به بعض مقاصد الشريعة من لجوئه إلى سرقة
أو زنا أو نحو ذلك من الأشياء المحرمة التي في الحقيقة الزكاة تدفع مثل هذه
الأشياء كما أن حقيقة المواساة تثبت بهذا.
* تقدم أن الفقير يعطى زكاة سنة؛ لأنها لا تتكرر، فمثلاً يعطى رجل مئة ألف
تكفيه سنة، أما إذا كانت تفيض على السنة فلا يجوز، وذلك لأن الكفاية محسوبة
بالسنة فهو الآن فقير فإذا أعطيناه ما يكفيه أصبح غنياً، فإذا زدنا فكما لو
أعطيناه وهو غني.
والحمد لله رب العالمين.
الدرس الثالث عشر بعد المئتين
(يوم الاثنين: 14 / 1 / 1416هـ)
قال المؤلف رحمه الله تعالى: (الخامس: الرقاب)
لقوله تعالى: {إنما الصدقات …} إلى قوله: {وفي الرقاب} .
قال: (وهم المكاتبون)
وتقدم تعريف المكاتب.
والكتابة: اتفاق بين السيد ورقيقه بتحرير الرقيق مقابل أقساط معلومة يدفعها
الرقيق لسيده حتى يتم فك رقبته من العبودية لسيده، فالمكاتب يجوز أن يعان
على مكاتبته من الزكاة، فيعطى من الزكاة ما يتم به فكاك رقبته.
ومثل ذلك أيضاً: الرقيق غير المكاتب لعموم قوله: {وفي الرقاب} فالرقيق غير
المكاتب يجوز أن يفك أسره من عبودية سيده بأن تحرر رقبته بالأموال الزكوية.
فيدخل في قوله:
{وفي الرقاب} الرقاب المكاتبة، والرقاب غير المكاتبة.
قال: (ويفك منها الأسير المسلم)
إذا وقع مسلم في الأسر تحت أيدي الكفار فيجوز أن يفدى من الزكاة، فيعطى
الكفار من الزكاة ليفكوا أسره، وهو داخل في عموم قوله تعالى: {وفي الرقاب}
؛ لأنها رقبة مأسورة تحتاج إلى فك فدخلت في عموم قوله: {وفي الرقاب} .
وفي قوله: (المسلم) ما يدل على أن الرقبة إنما تفك إذا كانت مسلمة، وهذا
ظاهر، فإن الزكاة إنما تختص بالمسلمين، إلا ما تقدم في المؤلفة قلوبهم
فإنها إنما تدفع لكفار منهم لمصلحة المسلمين.
قال: (السادس: الغارم لإصلاح ذات البين ولو مع غنى أو لنفسه مع الفقر)
السادس: الغارم، وهو من عليه غُرم، والغرم هو الدين قال تعالى: {والغارمين}
وقسم المؤلف الغارم إلى قسمين:
القسم الأول: الغارم لإصلاح ذات البين.
القسم الثاني: الغارم لنفسه.
أما الغارم لإصلاح ذات البين، فهو الرجل
يصلح بين طائفتين من الناس فيتحمل من أجل هذا الإصلاح أموالاً في ذمته كأن
يقع شجار بين قبيلتين بينهم ديات فيتحمل هذه الديات لتزول ما بينهم من
العداوة فهو المصلح ذات البين، فإنه يعطى من الزكاة؛ لدخوله في عموم قوله:
{والغارمين}
ولما ثبت في مسلم عن قبيصة قال: (أتيت النبي صلى الله عليه وسلم وقد تحملت
حمالة فسألته فيها فقال صلى الله عليه وسلم: أقم عندنا حتى تأتينا الصدقة
فنأمر لك بها) (1)
قال: (ولو مع غنى)
فيعطى من الزكاة ولو كان غنياً، وقد تحملها ويمكنه أن يدفعها من ماله فإنه
يعطى من الزكاة؛ وذلك لأن هذا الغرم لمصلحة عامة أشبه ما يعطى العامل الغني
ومن يؤلفه قلبه، فإنه للمصلحة العامة يعطى مع الغنى فكذلك المصلح ذات البين
ولإطلاق قوله تعالى: {والغارمين} فهي لفظة مطلقة غير مقيدة بالفقر أو
بالعجز عن القضاء.
قال: (أو لنفسه)
عليه دين لمصلحة نفسه من مسكن أو منكح أو مطعم أو غير ذلك من الأمور
المباحة له فإنه يعطى من الزكاة.
أما إن كانت أموراً محرمة فإن ذلك لا يجوز؛ لأن في ذلك تعاوناً على الإثم
قال تعالى: {وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان}
(2) وهذا تعاون على الإثم فلا يعطى من الزكاة.
لكن إن تاب فإنه يعطى من الزكاة لأنه غارم، وإنما منعنا من إعطائه لو لم
يتب لما في ذلك من التعاون على الإثم أما وقد تاب إلى الله تعالى فإن هذا
المعنى يزول.
ومثل ذلك إذا كانت الديون على أمور سرف فإن الزكاة لا تدفع إليه كمن يقترض
لمفاخرة في منزل أو ملبس أو مشرب أو نحو ذلك من أمور التكاثر والترف فإنه
لا يعان على ذلك لأنها أمور مرفوضة في الشريعة فلا يعان عليها لكن إن تاب
إلى الله من ذلك أو ترك هذا فإنه يعاون لزوال المعنى المتقدم.
__________
(1) أخرجه مسلم في كتاب الزكاة / باب (36) من تحل له المسألة (1044) .
(2) سورة المائدة.
إذن: من عليه دين لنفسه لأمور مباحة أو
لأمور محرمة، لكن تاب منها فإنه يُعان من الصدقة.
وهنا اشترط الفقر فقال: (أو لنفسه مع الفقر) :
وهذا أحد الوجهين في مذهب الإمام أحمد وهو اشتراط الفقر في المدين.
ولم أر دليلاً يدل عليه وفي اشتراطه نظر، فإن الآية القرآنية مطلقة وقد قال
تعالى: {والغارمين} فظاهرها أن كل غارم يعطى من الزكاة وإن كان قادراً على
التكسب والعمل وذلك؛ لأنه غارم والزكاة إنما أثبتت لهم – الزكاة - لمعنى
الغرم لا لمعنى آخر سواه.
وإن كان مراد المؤلف هنا بقوله: مع الفقر، بأن يكون قادراً على دَيْنه من
ماله، فهذا لا إشكال فيه، فلو كان عنده مال وهو قادر على قضاء الدين فلا
يعطى من الزكاة بل يؤمر بقضاء الدين من ماله أما إن كان غنياً عنده ما
يكفيه ويكفي عائلته لكن عليه ديون، فإنه يعطى من الزكاة لأنه غارم وقد قال
تعالى: {والغارمين} .
إذن: الغارم لمصلحة نفسه يعطى من الزكاة مطلقاً سواء كان غنياً أو فقيراً
ما دام غير قادر على قضاء دينه ولو كان عنده قدرة على التكسب والتحرف لقضاء
الدين فإنه غارم فيعطى من الزكاة وإن كان عنده ما يكفيه ويكفي عائلته
بالمعروف.
والغارم إنما يعطى من الزكاة لدفع غرمه لا للتمليك، فإنه لا يدفع له المال
ليتملكه ويصرفه في أي مصرف شاء وإنما يدفع إليه ليقضي دينه منه.
ولذا فإن فضل منه شيء فيجب عليه رده. فلو أن رجلاً أعطي عشرة آلاف لقضاء
دينه فذهب بها إلى الدائن فأعفاه عن بعضها فيجب عليه أن يرد هذا الباقي
لأنه إنما دفع لمصلحة إزالة الغرم عنه، فليس له أن يتملكه وقد زال السبب
الذي من أجله أعطي الزكاة.
كذلك لا يشترط إذن الغارم في إعطاء الغريم
حقه فلو أن رجلاً يطالب بمبلغ مالي لأحد من الناس فللقائم على مصلحة الزكاة
– العامل عليها - ولصاحب المال أن يعطي الدائن مباشرة من غير إذن الغارم؛
وذلك لأن المقصود هو إزالة الغرم ولا يحتاج حينئذ إلى إذن الغارم؛ وذلك
لأنه لا يمتلك هذا المال فلا يعطاه تمليكاً له وإنما يعطاه إزالة لغرمه
وحيث كان كذلك فلصاحب المال أن يعطيه الغريم من غير إذن الغارم.
مسألة:
والصحيح من المذهب أن من أبرأ مدينه بنية الزكاة فإن ذلك لا يجزئه.
فلو أن رجلاً له على فلان عشرة آلاف فقال له: ذمتك بريئة من هذه العشرة
آلاف ونوى ذلك زكاة، فإن ذلك لا يجزئه في الصحيح من المذهب.
- وقال بعض الحنابلة بالجواز، لأنها صدقة فإبراء ذمة المدين صدقة وحيث كانت
صدقة فإن ذلك يجزئه عن زكاته بالنية.
والأظهر هو المذهب الأول؛ وذلك لما ثبت في الصحيحين عن عمر بن الخطاب قال:
(حملت على فرس في سبيل الله فأضاعه " أي أضاعه من حملته عليه أي لم يقم
برعايته " فأردت أن اشتريه منه وظننت أنه يبيعه لي برخص فسألت النبي - صلى
الله عليه وسلم - فقال: لا تشتر ولا تعد في صدقتك فإن العائد في صدقته
كالكلب يقيء فيعود في قيئه) (1) وهذا المعنى المستقبح يدل على تحريم العودة
في الصدقة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم نهاه عن ذلك فقال: (لا تشتر) فدل
على أن اشتراء الصدقة محرم، ودل هذا على ما نحن فيه من أن إعادة الصدقة إلى
مصلحة نفسه ومنفعة نفسه فإن ذلك محرم وهو إذا أبرأ المدين من الدين فإنه قد
أعاد الصدقة إلى نفسه فحرم ذلك. فالشارع نهى عن العود في الصدقة وفي إباحة
ما تقدم، عودة في الصدقة.
__________
(1) أخرجه البخاري في كتاب الهبة، باب (37) إذا حمل رجلا على فرس (2636) ،
وراجع (1490) ، ومسلم (1620) .
ومثل ذلك – أيضاً في الصحيح من المذهب،
وخالف بعض الحنابلة أيضاً كالمخالفة في المسألة السابقة – في أنه لا يجوز
أن له يعطي المدين له زكاته حيلة إلى العود.
فلو أن رجلاً يريد من رجل عشرة آلاف فليس له أن يدفعها له ويقول: هذه زكاة
مالي حيلة لإعادتها إلى نفسه، سواء شرط هذا أو علم أن الغارم سيعيدها إليه،
هذا أمر محرم.
فإن المسألة السابقة محرمة وإذا شرط ذلك فإنه محرم وإذا أبرأه فإن ذلك محرم
والحيلة إلى المحرم محرم، أما لو دفعها إليه فإن ذلك جائز كأن يراه محتاجاً
إلى الصدقة فأعطاه الزكاة فإن ذلك جائز لا حرج فيه.
إذن: لا يحل له أن يبرأ ذمة المدين ولا أن يدفع إليه الزكاة حيلة لإعادتها
لمنفعة نفسه، وفي هذا – كما تقدم – مصلحة كبيرة حفظاً للزكاة من عبث أصحاب
الأموال لتبرئة ذمم المعسرين وغيرهم الذين قد تسقط عنهم الحقوق بالإعفاء أو
غيره فتذهب زكوات كثيرة لنفع أصحاب الأموال.
مسألة:
هل يجوز أن تدفع الزكاة للغارم الميت أم هي مختصة بالغارم الحي؟
فلو أن رجلاً توفى وعليه دين فهل يجوز قضاء دين من الزكاة أم هو مختص
بالحي؟
قولان لأهل العلم هما قولان في مذهب الحنابلة:
1- القول الأول: أن ذلك لا يجوز وهو مذهب جمهور العلماء.
قالوا: لأن الزكاة حينئذ قد دفعت إلى الغريم لا إلى الغارم، وقد قال تعالى:
{والغارمين} وعندما ندفعها إلى الدائن فقد دفعناها إلى الغريم ولم ندفعها
إلى الغارم.
2- وقال المالكية، وهو قول في المذهب وهو اختيار شيخ الإسلام: أن ذلك جائز؛
لعموم قوله تعالى: {والغارمين} فيدخل في عمومها الغارم الميت.
قالوا: وأما تعليلكم فهو ضعيف فإن المقصود هو دفع الغرم سواء دفع المال إلى
الغارم أو إلى الغريم، ولذا أجزنا – كما تقدم – دفعها إلى الغريم مباشرة
بغير إذن الغارم، لأن دفعها إلى الغارم ليس بمقصود، بل المقصود هو إبراء
ذمته من الدين سواء دفع هذا إلى الغريم أو الغارم.
فعلى ذلك الراجح مذهب المالكية وهو قول في
المذهب واختيار شيخ الإسلام أن الغارم الميت يجوز أن يبرأ ذمته من دينه
بالزكاة.
قال: (السابع: في سبيل الله)
لقوله تعالى: {وفي سبيل الله}
قال: (وهم الغزاة المتطوعة الذين لا ديوان لهم)
أي لا يعطون رواتب من الديوان أي من بيت المال أي من الفيء.
فإذا كان يعطى من الفيء فإنه لا يعطي من الزكاة أما إن لم يكن يعطى من
الفيء أو كان يعطى من الديوان ما لا يكفيه فإنه حينئذ يعطى من الزكاة. يعطى
– المجاهد – ما يكفيه لغزوته ذهاباً وإياباً وما يحتاج إليه من أدوات الحرب
ومراكبه وما يحتاج إليه من الطعام وغيره، لقوله تعالى: {وفي سبيل الله}
يعني الجهاد هذا ولو كان غنياً، وذلك لما تقدم من التعليل السابق فإنه إنما
يعطى للمصلحة العامة، ولأن الله أطلق فقال: {وفي سبيل الله} ولم يقيده
بالفقراء.
ويعطى من يريد الجهاد في سبيل الله ما يكفيه لغزوته تلك وليس له أن يوفر من
ذلك شيئاً، فإذا بقى معه شيء من المال فاض عن غزوته فإنه يجب عليه أن يخرجه
زكاة أو أن يعيده إلى مصلحة الزكاة. - وأدخل الحنابلة الحج والعمرة الفرض،
فقالوا: يجوز أن يأخذ الحاج والمعتمر من الزكاة ما يحج به ويعتمر.
- وفي إحدى الروايتين عن الإمام أحمد: في فرض أو نفل، وهو ظاهر إطلاق بعض
الحنابلة فيأخذ للحج والعمرة سواء كان فرضاً أو نفلاً.
قالوا: ولما ثبت في أبي داود أن النبي صلى
الله عليه وسلم قال: لأم معقل، وكانت لم تحج واعتذرت بأنه ليس لها ما تركبه
وأن زوجها قد أوصى بحمله في سبيل الله فقال لها النبي - صلى الله عليه وسلم
-: (فهلا حججتي منه فإن الحج في سبيل الله) (1) ، وبما صح عن ابن عمر – كما
في كتاب أبي عبيد القاسم بن سلام بإسناد صحيح أنه قال: (أما إن الحج في
سبيل الله) (2) فدل على دخول الحج والعمرة في حكمه – في عموم قوله تعالى:
{وفي سبيل الله} .
- واختار الموفق وهو مذهب جمهور العلماء: أن الحاج والمعتمر لا يعطي شيئاً
من الزكاة وإن كان الحج والعمرة فرضاً؛ لأن الحج والعمرة لا يجبان مع الفقر
فإن الله قال: {من استطاع إليه سبيلاً} فهما لا يجبان عليه؛ لأنه فقير.
والأقوى ما ذهب إليه الحنابلة لقوة ما استدلوا به من دخولها في سبيل الله
وإن كان فيما ذكره جمهور العلماء قوة على أن الجهاد في سبيل الله الكفائي
وهو سنة غير فرض يعطى الغازي ما يكفيه لغزوته وإن كان ذلك مستحباً لا
واجباً، لكن يظهر الفرق بينهما بأن الجهاد لمصلحة عامة ومصلحة متعدية، وأما
الحج والعمرة فهو لمصلحة خاصة أو مصلحة قاصرة على صاحبها.
__________
(1) أخرجه أبو داود في كتاب المناسك، باب (80) العمرة (1989) .
ويدخل في سبيل الله طلب العلم، فيعطى طالب
العلم الزكاة ما يكفيه لمؤنة نفسه، وما يكفيه لكتب العلم وغيرها مما يحتاج
إليه في تعلمه ورحلته وغير ذلك، فهذا جائز لأن العلم في سبيل الله، فهو
كالجهاد بل هو نوع من أنواع الجهاد وقد قال صلى الله عليه وسلم: (جاهدوا
المشركين بأموالكم وأنفسكم وألسنتكم) (1) والعلم هو سبب الجهاد باللسان فلا
قيام للجهاد باللسان إلا بالعلم وقد قال تعالى: {لقد أرسلنا رسلنا بالبينات
وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط وأنزلنا الحديد فيه بأس
شديد ومنافع للناس وليعلم الله من ينصره ورسله بالغيب} (2) فالكتاب
والميزان هو العلم والحديد هو أداة الجهاد في سبيل الله باليد.
فالعلم نصرة لله والجهاد في سبيله، وهو الجهاد الذي قام به النبي - صلى
الله عليه وسلم - في أكثر عمره بمكة فقد أقام ثلاث عشرة سنة يجاهد بالعلم
والقرآن.
* وألحق الشيخ محمد بن إبراهيم، وأفتى به المجمع الفقهي على أن الدعوة إلى
الله عز وجل ومصالحها داخلة في هذا. وهو قول قوي؛ لأن الدعوة جهاد في سبيل
الله فهي جهاد باللسان كما تقدم، فيجوز أن يعطى الدعاة المتفرغون للدعوة أن
يعطوا من الزكاة.
قال: (الثامن: ابن السبيل وهو المسافر المنقطع به)
أي المنقطع به سفره لقوله تعالى: {وابن السبيل} أي ابن الطريق. وهو كما قال
المؤلف: (المسافر المنقطع به سفره) .
قال: (دون المنشئ للسفر من بلده)
فالمنشئ للسفر من بلده ليس ابن سبيل، فلو أن رجلاً في بلده وبين أهله
وعشيرته فليس ابن سبيل، وذلك لأنه [ليس] في سبيل، فليس في طريق.
لكن ابن السبيل هو من انقطع به في طريقه خارجاً عن بلده فإنه يُعطى من
الزكاة وإن كان غنياً أي إن كان غنياً في بلده ما دام محتاجاً إلى الزكاة
في سفره وهذا إذا كان السفر مباحاً.
__________
(1) رواه أحمد وأبو داود والنسائي كما في نيل الأوطار.
أما إذا كان السفر محرماً إلا أن يضطر إلى
ذلك دفعاً للضرورة، أما إن أمكنه أن يقترض فإنه لا يعطى من الزكاة لما في
ذلك من إعانته على المحرم إلا أن يظهر فيه التوبة فإنه يعطى.
أما من كان في سفر مباح فإنه يعطى من الزكاة وإن أمكنه الاقتراض في هذه
البلدة فإنه يعطى من الزكاة كما هو أصح الوجهين في مذهب الإمام أحمد وهو
ظاهر إطلاق الآية الكريمة: {وابن السبيل} ظاهره وإن كان قادراً على
الاقتراض فإن في طلب الاقتراض كلفة أو منة فلا يلزم به ويعطى من الزكاة.
قال: (فيعطى ما يوصله إلى بلده)
فيعطى المال الذي يحتاج إليه في طريقه من مركب، ومطعم ومشرب وغير ذلك مما
يحتاج إليه فإنه يعطاه من الزكاة حتى يرجع إلى بلده.
كما أنه لو كان قاصداً بلداً من بلده فانقطع في الطريق بينهما فإنه يعطى ما
يكفيه للذهاب إلى البلدة التي هو قاصد لها وما يكفيه للرجوع منها إلى بلده
لأنه ابن سبيل فيعطى ما يكفيه حتى يرجع إلى بلده حيث ماله هناك.
فإن فضل منه شيء فيجب عليه الرد لأنه لا يعطاه تمليكاً له وإنما لزوال
الحاجة التي هي سبب لإعطائه فمتى ما أن قضت الحاجة، وتوفر معه شيء فلا يجوز
له أن يمسكه لنفسه بل يجب عليه أن يرده.
قال: (ومن كان ذا عيال أخذ ما يكفيهم)
وهذا ظاهر فإن الرجل الذي يعول عائلة لا يعطى ما يكفيه وحده بل يعطى ما
يكفيه وما يكفي من يعول؛ لأنه كما أنّا نقصد دفع حاجته فكذلك نقصد دفع حاجة
من يعول فيعطى لزوجته ولأولاده، لأن المقصود هو دفع حاجة الفقراء وهم
فقراء، وهو وإن كان عائلاً لهم فهو عاجز عن القيام بالنفقة عليهم فيعطى هو
من النفقة ما يكفيه وما يكفي من يعول.
قال: (ويجوز صرفها إلى صنف واحد)
تقدم البحث في هذا في أول هذا الباب.
قال: (ويسن إلى أقاربه الذي لا تلزمه مؤنتهم)
فيسن له أن يدفع زكاة ماله إلى أقاربه؛
وذلك لأن إعطاء القريب الزكاة صدقة وصلة، وأما إعطاؤها للأجنبي فهي صدقة
فحسب ولذا قال: النبي - صلى الله عليه وسلم - – فيما رواه أحمد وأبو داود
والترمذي والنسائي بإسناد صحيح -: (الصدقة على المسكين صدقة، والصدقة على
ذي القرابة اثنتان صدقة وصلة) (1) .
وأما تقييده بقوله: (لا تلزم مؤنتهم) فيأتي هذا وأنه من تلزمه مؤنتهم لا
يجوز أن يعطيهم من الزكاة شيئاً بل يجب عليه أن ينفق عليهم من غير الزكاة.
أما إن كان لا يلزمه مؤنتهم فالأفضل دفع الزكاة لهم ولذا إن أخر زكاة ماله
لإعطائها قريب وكان التأخير يسير فهو جائز له كما تقدم.
فإن إعطاء القريب أفضل من إعطاء البعيد؛ لما في ذلك من الصلة المأمور بها
وهي أيضاً صدقة، فتفضل على الصدقة على البعيد بكونها صلة. والله أعلم.
والحمد لله رب العالمين.
الدرس الرابع عشر بعد المئتين
(يوم الثلاثاء: 15 / 1 / 1416 هـ)
فصل
(ولا تدفع إلى هاشمي)
الهاشمي: هو نسبة إلى هاشم بن عبد المطلب جد النبي - صلى الله عليه وسلم -
فالهاشميون هو بنو هاشم بن عبد المطلب القرشي فالزكاة لا تدفع إلى هاشمي
فمن ثبت نسبه إلى بني هاشم ذكراً كان أو أنثى فلا تحل له الزكاة.
ودليل هذا ما ثبت في صحيح مسلم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لبعض
بني هاشم: (إن الصدقة لا تنبغي لآل محمد إنما هي أوساخ الناس) (2) فالصدقة
لا تنبغي لآل محمد، وهم بنو هاشم وهذا باتفاق العلماء، وأن الهاشميين لا
تحل لهم الصدقة.
__________
(1) رواه أحمد والترمذي والنسائي وابن ماجه، كما في نيل الأوطار وغيره، ولم
أجده في أبي داود في باب صلة الرحم من كتاب الزكاة.
(2) أخرجه مسلم في كتاب الزكاة، باب (51) ترك استعمال آل النبي - صلى الله
عليه وسلم - على الصدقة (1072) . وانظر صْ 50.
وظاهر كلام الفقهاء أنها لا تحل لهم مطلقاً
سواء أعطوا من الخمس أو لا، فإن لقرابة النبي صلى الله عليه وسلم وهم بنو
هاشم لهم حق في الفيء فلهم خمس الخمس فظاهر كلام الفقهاء أن الزكاة لا تحل
لهم وإن لم يعطوا نصيبهم من الخمس.
واختار شيخ الإسلام وهو وجه عند بعض الشافعية واختاره بعض الحنابلة: أن
الصدقة تدفع إليهم إن لم يعطوا من الخمس لحاجتهم إلى ذلك.
وفي هذا نظر، فإن الحديث المتقدم عام وأن الصدقة لا تحل لهم مطلقاً وكونهم
يمنعون من حقهم من الخمس لا يجعل ما حرم عليهم حلالاً، فإن الصدقة محرمة
عليهم لا تحل لهم وكونهم يمنعون من الخمس لا يعني ذلك أن يباح لهم أخذ
الزكاة.
وموالي بني هاشم ليس لهم في الخمس شيء ومع ذلك فإن الصدقة لا تحل لهم بنص
النبي - صلى الله عليه وسلم -.
فعلى ذلك الأظهر ما ذهب إليه جماهير العلماء من أن الصدقة محرمة عليهم وإن
لم يعطوا من الخمس شيئاً.
وظاهر كلام المؤلف أيضاً وهو ظاهر كلام الفقهاء أن الصدقة لا تحل لهم وإن
كانت من بعضهم، فلا تحل صدقة الهاشمي للهاشمي، فليس للهاشمي أن يدفع زكاته
إلى هاشمي وليس للهاشمي أن يقبلها خلافاً لشيخ الإسلام، فإنه رأى جواز ذلك
لهم، وفي ذلك نظر، فإن الحديث عام، وكما أن الصدقة أوساخ للناس فهي أوساخ
لأموال بني هاشم.
وأما ما رواه الحاكم من أن النبي صلى الله عليه وسلم سأله العباس فقال: (هل
تحل صدقة بعضنا لبعض) فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: (نعم) (1) فالحديث
إسناده لا يصح.
فعلى ذلك الظاهر ما ذهب إليه جماهير العلماء من أن الزكاة لا تحل لبني هاشم
أعطوا من الخمس أم لم يعطوا ولا تحل لهم أيضاً وإن كانت من بني هاشم.
أما صدقة التطوع فإنها تحل لهم وحكى صاحب
الفروع ذلك إجماعاً، وذلك لأن العلة الثابتة في صدقة المال الواجبة ليست
ثابتة في صدقته التطوعية فإن صدقة التطوع ليست من أوساخ الناس بدليل أن من
تصدق ولم يزك فإن ماله لا يتطهر، فهي وإن كانت مطهرة لصاحبها من الإثم
لكنها ليست بوسخ المال هذا هو مذهب جماهير العلماء وحكاه صاحب الفروع
إجماعاً.
إلا ما قاله الشوكاني من أن صدقة التطوع محرمة.. (1) أيضاً؛ وذلك لأنها من
أوساخ الناس أيضاً.
وفي هذا نظر فإن صدقة التطوع ليست بأوساخ الناس كما تقدم بدليل أنها لا
تطهر المال حتى تخرج زكاته.
فالصحيح مذهب جماهير العلماء من أن صدقة التطوع تحل لهم وهو الذي تقتضيه
المصلحة فإنهم قد يمنعون من الخمس وعندما يمنعون من الصدقة التطوعية مع
منعهم من زكاة المال لا شك أنه يلحقهم ذلك حرجاً عظيماً وقد أتت الشريعة
بنفي الحرج ورفعه.
قال: (أو مطلبي)
المطلبي: نسبة إلى المطلب بن عبد مناف أخي هاشم بن عبد مناف، فلعبد مناف:
هاشم والمطلب ونوفل وعبد شمس.
فلا تحل الزكاة لبني هاشم ولا تحل أيضاً لبني أخيه المطلب أما بنو عبد شمس
وبنو نوفل فإنها تحل لهم اتفاقاً – هذا ما ذكره المؤلف وهو مذهب الشافعي.
__________
(1) كلمة غير واضحة.
واستدلوا: بما ثبت في مسلم: أن جبير بن
مطعم – وهو من بني نوفل ابن عبد مناف قال: (مشيت أنا وعثمان بن عفان " وهو
من بني عبد شمس ابن عبد مناف " إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقلنا: يا
رسول الله إنك قد أعطيت بني المطلب من خمس خيبر وتركتنا ونحن وهم بمنزلة
واحدة) (1) أي بمنزلة واحدة منك فجبير من بني نوفل بن عبد مناف وعثمان من
بني عبد شمس فهم بمنزلة واحدة من بني المطلب أي تخصيصك لبني هاشم هذا لا
غرابة فيه فأنت من بني هاشم، لكن إعطاءك لبني المطلب ونحن وهم بمنزلة واحدة
منك هذا أوجد عندنا شيئاً من الاستغراب فنحن نطالب بذلك لما في ذلك من
الشرف والمنزلة فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (إنما بنو المطلب وبنو هاشم
شيء واحد) وذلك لأن بني المطلب كانت لهم نصرة عظيمة لبني هاشم في الجاهلية
والإسلام، فإنهم قد نصروهم في الشعب وغيره.
بخلاف بني عمهم من عبد شمس ونوفل فإنهم قد خذلوهم في الشعب وفي غيره ولذا
لهذه النصرة العظيمة راعى النبي صلى الله عليه وسلم حق بني المطلب فأعطاهم
من الخمس الذي هو لذي القربى قالوا: فكما لبني المطلب في الخمس فليس لهم
نصيب من الزكاة فلا تحل لهم الزكاة.
وقال جمهور العلماء، وهو رواية عن الإمام أحمد واختار هذا القول شيخ
الإسلام: أن بني المطلب تحل لهم الزكاة.
واستدل بعمومات الأدلة الشرعية الدالة على إعطائها للفقير والمسكين وغيرهم
ممن تقدم ذكرهم من الأصناف وبنو المطلب يدخلون في هذه العمومات ولا دليل
على استثنائهم فقد صحت الأدلة باستثناء آله وهم بنو هاشم ولم يصح دليل على
استثناء بني المطلب.
__________
(1) أخرجه البخاري في كتاب فرض الخمس، باب (17) ومن الديل على أن الخمس
للإمام.. (3140) . ولا أظنه في مسلم.
قالوا: وأما قوله: (إنما بنو المطلب وبنو
هاشم شيء واحد) فإن هذا في الخمس لمقتضى النصرة التي قاموا بها لبني هاشم
أما الزكاة فإنه لا معنى لاختصاصهم عن بني عبد شمس وبني نوفل، هذا هو القول
الراجح وأن بني المطلب تحل لهم الزكاة.
قال: (ومواليهما)
أي موالي بني هاشم وموالي بني المطلب
لما ثبت في مسند أحمد وسنن أبي داود والترمذي والنسائي بإسناد صحيح عن أبي
رافع – وهو مولى النبي صلى الله عليه وسلم فهو من موالي بني هاشم قال: (بعث
النبي صلى الله عليه وسلم على الصدقة رجلاً من بني مخزوم) وهذا يدل على أن
سائر فروع قريش من بني مخزوم وغيرهم تحل لهم الزكاة فإنه قد جعله عاملاً
على الصدقة فقال: (اصحبني حتى تنال منها) أي من الزكاة على العمل فسألت
النبي صلى الله عليه وسلم: (فقال: لا، مولى القوم من أنفسهم وإنها لا تحل
لنا الصدقة) (1) فدل على أن مولى القوم - أي عتيقهم - أنه من أنفسهم فمولى
بني هاشم من أنفسهم فلا تحل لهم الزكاة.
وقد تقدم أن ذوي قرابته لا يحل لهم العمل على الصدقة بأجرة، أما إذا كان من
الفيء فإن ذلك لا بأس به.
__________
(1) أخرجه أبو داود في كتاب الزكاة / باب (29) الصدقة على بني هاشم (1650)
. والنسائي في الزكاة حديث 2613، والترمذي في الزكاة حديث 657 وقال: حسن
صحيح، سنن أبي داود [2 / 299] .
واعلم أن ما تقدم من منع بني هاشم ومواليهم
من الصدقة إنما هو ما كان لمصلحة أنفسهم أما ما يدفع إليهم للمصلحة العامة
كأن يكون أحدهم غازياً أو مصلحاً ذات البين أو مؤلفاً قلبه فإنه يعطى من
الزكاة إذ لا فرق بين بني هاشم وغيرهم في هذا، وهو إنما يعطي حينئذ للمصلحة
العامة، والمصلحة العامة المقصود إيجادها سواء كانت لهاشمي أو غيره فالمنع
المتقدم حيث كان لمصلحة نفسه في عمل على الصدقة أو كان فقيراً أو مسكيناً
أو غارماً لمصلحة نفسه، وأما إن كان غارماً لمصلحة غيره كالمصلح ذات البين
أو كان مؤلفاً قلبه على الإسلام أو كان في سبيل الله غازياً فإن الصدقة
تدفع إليه.
قال: (ولا إلى فقيرة تحت غني منفق)
إذا كانت الزوجة فقيرة لا مال لها لكن زوجها غني ينفق عليها، فلا تحل لها
الزكاة لاستغنائها بزوجها وكذلك الولد الذي لا مال له ولا عمل ووالده ينفق
عليه فلا تحل له الزكاة لاستغنائه بنفقة والده وهكذا.
فكل من ينفق عليه فلا تحل له الزكاة لوجود من ينفق عليه واستغنائه بذلك.
قال: (ولا إلى فرعه وأصله)
لا تحل الزكاة إلى الفروع، والفروع هم أولاده وإن نزلوا أي أولاده الذكور
وأولاده الإناث، وأولاد الذكور وأولاد الإناث وإن نزلوا، الوارث منهم وغير
الوارث فبنت البنت لا تحل لها منه الزكاة وإن كانت غير وارثة وغير منفق
عليها.
وكذلك الأصول، والأصول هم الوالدان وإن علوا، أمه وأبوها وأمها وإن علوا،
وأبوه وأبو أبيه وأم أبيه وهكذا وإن علوا الوارث منهم وغير الوارث.
وقد أجمع العلماء على أن الولد والوالد والزوجة لا تحل لهم الزكاة، حكى
إجماعهم ابن المنذر وغيره.
وظاهر كلام الفقهاء أن الصدقة لا تحل للأصول ولا الفروع مطلقاً، وجبت
النفقة عليهم للإرث أم لم تجب وسواء كان قادراً على النفقة عليهم أو غير
قادر عليها.
فمثلاً: رجل عنده بنات ابنته لا تحل لهن
الزكاة منه وإن كان غير قادر على الإنفاق عليهن كأن يكون عنده من يعول.
وظاهر كلامهم أيضاً: أنه ولو لم تجب عليه النفقة فإنه لا يجب أن ينفق على
بنات بناته أو أبنائهن لعدم الإرث كما لا يجب على أبي أمه لعدم الإرث، هذا
ظاهر كلامهم.
- واختار شيخ الإسلام: أن الزكاة حينئذ تحل، وهو رواية عن الإمام أحمد.
قال رحمه الله: إن كان غير قادر على الإنفاق على أصوله وفروعه كأن يكون
عنده أبوه وأمه وهو غير قادر على الإنفاق عليهم مع وجود أولاده وزوجته ومن
ينفق عليهم.
أو كان قادراً على الإنفاق لكن النفقة لا تجب عليه في الأصل وإنما أوجبت
عليه باضطرارهم إلى ذلك فأولاد البنت لا تجب عليهم النفقة في الأصل، لكن
إذا اضطروا إلى نفقة جدهم من أمهم فإن الراجح أنه يلزم بالإنفاق لكن النفقة
في الأصل لا تجب فاختار شيخ الإسلام أنه حينئذ يحل له دفع الزكاة لهم قال:
لأن المانع من إجزاء الزكاة دفعاً لهم هو خوف تهربه من النفقة الواجبة عليه
وهنا لا نفقة فحيث كان غير قادر على الإنفاق فلا نفقة، فإن لم يعطهم من
الزكاة بقوا لا منفق عليهم.
وإذا كان لا يجب عليه الإنفاق عليهم فكذلك فإنه حينئذ يصرف الصدقة إلى
البعيد وهؤلاء أقرب إليه ولا يجب عليه أن ينفق عليهم.
وهذا القول الراجح وأن من عنده أحد من أصوله أو فروعه وهو غير قادر على
الإنفاق عليه – فعنده رأس مال تجب فيه الزكاة لكن ما يأتيه من هذا المال لا
يكفي إنفاقه على نفسه وولده وزوجه ووالديه، فيحتاج حينئذ إلى أن يدفع إلى
والديه الزكاة وينفق عليهم منها فإن ذلك جائز.
وكذلك [من] لا يجب عليه أن ينفق عليهم في الأصل كغير الورثة من أصوله
وفروعه. هذا هو الراجح؛ لأن المانع من صحة دفع الزكاة لهم هو وجوب الإنفاق
وهنا لا تجب النفقة فصحت الزكاة حينئذ ولدخولهم في عمومات الأدلة الشرعية،
ولا مانع يمنع من صحة الزكاة لهم.
أما الحواشي: فاتفق الفقهاء على أن ذوي
الأرحام وهم غير الورثة – يصح أن يعطوا من الزكاة كبنت الأخ وبنت الأخت أو
العمة أو الخالة يصح أن يعطوا من الزكاة لأنهم غير وارثين فلا تجب عليهم
النفقة حينئذ. هذا في حكم الحواشي من غير الورثة.
أما الحواشي من الورثة كالأخ وابن الأخ والعم فاختلف أهل العلم في صحة دفع
الزكاة لهم على قولين:
القول الأول: أن الزكاة لا تصح لهم، وهو المذهب وهو قول الشافعية.
قالوا: لأن النفقة تجب عليهم فإذا أعطاهم من الزكاة كان ذلك تهرباً من
النفقة الواجبة عليهم.
2- وذهب الأحناف وهو رواية عن الإمام أحمد: إلى أن الزكاة يجوز دفعها
إليهم، وذلك لأن النفقة لا تجب لهم أصلاً فلا يجب على الأخ أن ينفق على
أخيه أو ابن أخيه ولا على عمه فلا تجب النفقة عليهم أصلاً وإنما يوجب عند
الضرورة فإذا اضطروا إلى نفقته أوجبناها في الضرورة وهنا - وهم يمكن أن
يأخذوا من الزكاة – فلا ضرورة فالنفقة لا تجب عليهم أصلاً إلا إذا وقعت
الضرورة والحاجة الماسة إلى ذلك وحيث كانوا يمكن أن يأخذوا من الزكاة فلا
ضرورة، وهي الرواية الظاهرة عن الإمام أحمد كما قال ذلك الموفق. وهذا القول
هو الراجح وهو مقتضى كلام شيخ الإسلام المتقدم.
واعلم أن ما تقدم في النفقة التي يحتاج إليها من طعام وشراب ونحو ذلك.
أما الدين:
فإن أصح قولي العلماء في هذه المسألة وهو أصح الوجهين في مذهب الإمام وهو
اختيار شيخ الإسلام أن الدين يجوز أن يقضيه من زكاته وإن كان يجب أن ينفق.
فالوالد يجوز أن يقضي دين ولده، وذلك لأن
قضاء الدين ليس من النفقة الواجبة على المنفق، فالواجب عليه أن ينفق عليه
ما يحتاج إليه في طعامه وشرابه وسكناه ونحو ذلك وفي ملبسه ومنكحه وغير ذلك،
وأما قضاء الدين فلا يدخل في باب النفقات ولذا صرح فقهاء الحنابلة بأنه
يجوز أن يعطي الوالد ولده مالاً يغزو به أو غير ذلك من المصالح العامة وذلك
لأنها لا تدخل في النفقة والعلة المتقدمة أن الزكاة إنما تمنع تهرباً من
النفقة وهنا لا نفقة واجبة.
فعلى ذلك الراجح أنه يجوز للوالد أن يقضي دين ولده أو دين زوجته أو غير ذلك
ممن ينفق عليهم؛ لأن ذلك غير داخل في النفقة الواجبة لكن إذا كان الدين
بسبب إهماله في النفقة، كأن يكون على الابن دين في نكاحه أو في مسكنه وهو
محتاج إلى نفقة والده، أو يكون على الزوجة دين بسبب عدم قيام الزوج بالنفقة
فإن قضاء دينها من الزكاة لا يجوز؛ لأنه يجب عليه أن ينفق وهذا داخل في
النفقة لكن الدين الخارج عن النفقة هو الذي يجوز أن يقضيه من الزكاة.
قال: (ولا إلى عبد)
لاستغنائه بنفقة سيده، فإن السيد يجب أن ينفق على عبده.
قال: (وزوج)
هذا أحد القولين في المذهب، وأن الزوجة لا يحل لها أن تعطي زوجها زكاتها
سواء كانت من حلي على القول بالزكاة به أو غير ذلك.
والقول الثاني في المذهب: أن الزكاة يجوز
أن يعطي الزوج من الزوجة، وهذا هو القول الراجح؛ وذلك لأن الزوجة لا تنفق
على زوجها فلا معنى لمنعها من إعطائه زكاتها والزوج داخل في العمومات التي
فيها أصناف من تحل له الزكاة كما تقدم فهو إن كان فقيراً أو مسكيناً فهو
داخل في عموم قوله: {إنما الصدقات للفقراء والمساكين} وقد ثبت في البخاري
عن أبي سعيد: أن زينب امرأة ابن مسعود أتت النبي - صلى الله عليه وسلم -
فقالت: (يا رسول الله إنك قد أمرت اليوم بالصدقة وكان عندي حلي فأردت أن
أتصدق به فزعم ابن مسعود أنه وولده أحق من تصدقت به عليهم فقال: صدق ابن
مسعود زوجك وولدك أحق من تصدقت به عليهم) (1) .
فلها أن تتصدق على زوجها ولها أن تتصدق على ولدها؛ لأنها لا يجب عليها أن
تنفق على ولدها وإنما يجب ذلك على الوالد.
قال: (وإن أعطاها لمن ظنه غير أهل فبان أهلاً أو بالعكس لم يجزئه)
رجل أخذ زكاة ماله فأعطاها هاشمياً أو غنياً أو نحو ذلك وهو يعتقد ذلك
ويعلم أن هذا ليس من أهل الزكاة فلا يجزئه وإن ثبت له بعد ذلك خطأ ظنه.
فمثلاً: أعطاها غنياً وهو يعلم أنه غني فبان فقيراً فلا يجزئه هذه الزكاة؛
وذلك لأن من شرط الزكاة النية وهنا النية غير جازمة لأنه أعطاها من يعتقده
ليس أهلاً وحينئذ لم ينوها زكاة؛ لأن الزكاة إنما تدفع للأصناف الثمانية
كما لو صلى صلاة بظن أن الوقت لم يدخل فتبين دخوله فإنها لا تجزئه كما
تقدم، فكذلك هنا.
(أو بالعكس)
رجل أعطى زكاته من يظن أنه من أهل الزكاة، كأن يرى رجل فظن أنه ليس من بني
هاشم أو نحو ذلك فأعطاه الزكاة ثم بان بعد ذلك على خلاف هذا، فإنها لا
تجزئه.
قالوا: لأن الذمة لا تبرأ إلا بدفعها إلى أهلها وقد ثبت أن هذا ليس من
أهلها.
وقال بعض الحنابلة: بل تجزئ عنه قياساً على الغني.
__________
(1) أخرجه البخاري في كتاب الزكاة، باب (44) الزكاة على الأقارب (1462) .
فالمسألة هنا – فيما سوى الغني – كأن
يدفعها إلى هاشمي أو إلى عبد أو إلى وارث يظنه بخلاف ذلك ممن هم من أهل
الزكاة ثم تبين له أنه هاشمي أو عبد أو وارث – فهنا قالوا: لا يجزئ.
وقال بعض الحنابلة: بل تجزئ قياساً على الغني.
فالغني – عند الحنابلة - إن أعطى من الزكاة ظناً أنه فقير فثبت غناه، فإن
الزكاة تجزئ.
واستدلوا: بقوله صلى الله عليه وسلم: (إن شئتما أعطيتكما ولا حظ فيها لغني
ولا لقوي مكتسب) (1) قالوا: فهذا يدل على أنها إن أعطيت الغني بظن أنه فقير
فإنها تجزئ وإن تبين أنه غني بعد ذلك.
وقال بعض الحنابلة: بل لا يجزئ أيضاً إن دفعت إلى الغني ظناً أنه فقير
وتبين غناه، لأنها لم تدفع إلى أهلها فلم تبرأ بها الذمة. (2)
إذن: المشهور عند الحنابلة: أنها إذا دفعت إلى من ليس أهلاً لها سوى الغني
فإنها لا تجزئ، وإن دفعت إلى الغني فإنها تجزئ.
قالوا: وإنما فرقنا بين الغني وغيره لخفاء الغني وظهور غيره، فإن النسب
ظاهر والعبودية ظاهرة، والإرث ظاهر وأما الغنى فإنه يخفى غالباً.
وقال بعض الحنابلة: بل لا تجزئ مطلقاً.
وقال بعضهم بل تجزئ مطلقاً.
فعندنا ثلاثة أقوال للحنابلة.
والذي يظهر: أنه إن اجتهد وتحرى فأعطاها من يظنه أهلاً بعد التحري
والاجتهاد فإنها تجزئ؛ لأنه قد فعل ما يجب عليه وقد قال تعالى: {فاتقوا
الله ما استطعتم} (3) وقال - صلى الله عليه وسلم -: (إذا أمرتكم بأمر فأتوا
منه ما استطعتم) (4) وقال تعالى: {لا يكلف الله نفساً إلا وسعها} (5) وقد
قام بوسعه وطاقته وقدرته فسقط عنه الواجب فبرأت بها الذمة – وهذا مطلقاً في
الغني وغيره.
__________
(1) تقدم.
(2) في أعلى المذكرة ما نصه: " وظاهر هذا التعليل أنه إذا دفعها إلى رجل
غناه ظاهر، فإنها لا تجزئه ولا تبرأ بها ذمته "
(4) تقدم.
(5) سورة البقرة.
أما إذا لم يتحر ولم يجتهد فإن ذمته لا
تبرأ لأنه مأمور بإعطائها أهلها، وهو لم يعطهم إياه، فلا تجزئه إلا أن
يعطيها أهلها وحينئذ فيجب عليه الرجوع أو أن يخرجها من ماله.
فإذن يجب عليه الرجوع على من أعطاها إياه؛ لأنها لا تحل له ويحكم له القاضي
بذلك لأنه أخذ مال بغير حق فيحل له الرجوع بل حتى إذا دفعها إلى من ليس
بمستحق وثبت أنه غير مستحق فمع القول بالإبراء – حيث اجتهد وتحرى – فإن
الرجوع واجب لإعطائها أهلها فهي محض حق الفقير وقد صرفت إلى الغني فوجب
حينئذ الرجوع.
قال: (وصدقة التطوع مستحبة)
إجماعاً والأدلة من القرآن والسنة ظاهرة في هذا.
قال: (وفي رمضان أفضل)
لما ثبت في الصحيحين من حديث ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم: (كان
أجود الناس وكان أجود ما يكون في رمضان حين يلقاه جبريل فلرسول الله صلى
الله عليه وسلم أجود بالخير من الريح المرسلة) (1) ويتوجه أن تكون الصدقة
في عشر ذي الحجة أفضل لصريح قوله صلى الله عليه وسلم: (ما من أيام العمل
الصالح فيها أحب إلى الله من هذه العشر) (2) والصدقة من ذلك.
قال: (وأوقات الحاجات أفضل)
فعندما يصاب الناس بحاجة وفقر ومسغبة فإن الصدقة حينئذ أفضل، فهي أفضل منها
في الأزمنة الفاضلة وذلك لتعلقها بالمحتاج نفسه.
__________
(1) أخرجه البخاري في كتاب بدء الوحي باب (5) رقم (6) وفي مواضع أخرى،
ومسلم (2308) .
(2) قال في نيل الأوطار: " رواه الجماعة إلا مسلما والنسائي ". أخرجه
البخاري في كتاب العيدين، باب (11) فضل العمل في أيام التشريق (969) بلفظ:
" ما العمل في أيام العشر أفضل من العمل في هذه.. " الفتح [2 / 530] .
فإن الصدقة في الأزمنة الفاضلة متعلقة
بالزمان، وأما في أوقات الحاجات فهي متعلقة بالمحتاج نفسه فكانت أفضل،
فالصدقة في أوقات الحاجات أفضل من الصدقة في رمضان وفي عشر ذي الحجة وفي
غير ذلك وقد قال تعالى: {أو إطعام في يوم ذي مسغبة} (1) أي في حاجة وفقر.
قال: (وتسن بالفاضل عن كفايته ومن يمون)
فيسن له أن يتصدق بما يفضل عن حاجته هو وحاجة من يمون، لما ثبت في البخاري
أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (خير الصدقة ما كان عن ظهر غنى وابدأ
بمن تعول) (2) أي أفضل الصدقة ما كان زائداً على حاجتك وحاجة من تمون، وقد
تقدم أن الغنى هو الكفاية، فما فضل عن الكفاية فهو خير الصدقة.
أما أن يتصدق بما يلحقه أو يلحق من يمون ضرراً فإن ذلك محرم.
ولذا قال المؤلف: (ويأثم بما ينقصها)
أي بما ينقص المؤنة، أي مؤنته ومؤنة من ينفق عليهم.
فإذا تصدق وأضر بنفسه وبمن ينفق عليهم فإن ذلك محرم لما ثبت في المسند وسنن
أبي داود أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (كفى بالمرء إثماً أن يضيع
من يقوت) (3) وقال - صلى الله عليه وسلم -: (لا ضرر ولا ضرار) (4) .
لكن يستثنى من ذلك: من كان من أهل اليقين والصبر وكانت أيضاً عائلته على
هذه الصفة، فإنه وإن أنفق ماله كله مع رجاء رزق الله - عز وجل - ورجاء
الخير فإن ذلك لا حرج فيه، فقد ثبت في مسند أحمد وأبي داود والترمذي بإسناد
صحيح: أن أبا بكر: (أتى بماله كله للنبي - صلى الله عليه وسلم - وقال له:
ما أبقيت لأهلك فقال: أبقيت لهم الله ورسوله) (5) فهذا يدل على جواز ذلك.
__________
(1) سورة البلد.
(2) أخرجه البخاري في كتاب الزكاة، باب (18) لا صدقة إلا عن ظهر غنى (1426)
.
(3) أخرجه أبو داود في باب صلة الرحم من كتاب الزكاة.
(4) انظر صْ 85.
(5) أخرجه أبو داود في كتاب الزكاة، باب (40) في الرخصة في ذلك (1678) .
واعلم أن السنة في الصدقة الإسرار قال
تعالى: {إن تبدوا الصدقات فنعما هي وإن تخفوها وتؤتوها الفقراء فهو خير
لكم} (1) .
وقد ثبت في أبي داود بإسناد جيد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الجاهر
بالقرآن كالجاهر بالصدقة، والمسر بالقرآن كالمسر بالصدقة) (2) .
وقد ثبتت الأدلة بفضيلة الإسرار بالقرآن أي بين الناس وأن المصلي يناجي ربه
فلا يجهر بعضكم على بعض في القرآن كما ثبت هذا في مسند أحمد وغيره بإسناد
صحيح (3) .
وقد قال صلى الله عليه وسلم في السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل
إلا ظله: (ورجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه) (4) .
لكن إن اقتضت المصلحة الجهر فهو مستحب كأن يأمن على نفسه من الرياء ويأمن
على الفقير من ظهور حاجته إلى الناس ونحو ذلك ويكون في ذلك مصلحة الاقتداء
ونحوه فإن ذلك يكون أفضل.
وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم – كما في الصحيح – فيمن تصدق أمام الناس
وكان قدوة في ذلك: (من سن في الإسلام سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها
إلى يوم القيامة) (5) .
والله أعلم وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه.
والحمد لله رب العالمين.
تم بحمد الله تعالى شرح كتاب الزكاة من زاد المستقنع، لفضيلة الشيخ: حمد بن
عبد الله الحمد، حفظه الله تعالى ونفع به. (6)
__________
(1) سورة البقرة.
(2) أخرجه أبو داود في كتاب الصلاة، باب (315) في رفع الصوت بالقراءة في
صلاة الليل (1333) .
(4) أخرجه البخاري في كتاب الأذان، باب (36) من جلس في المسجد ينتظر الصلاة
وفضل المساجد (660) وانظر في الزكاة باب (13) ، ومسلم (1031) بقلب في لفظ
الشمال.
(5) أخرجه مسلم في كتاب الزكاة، باب (20) الحث على الصدقة ولو بشق تمرة أو
كلمة طيبة.. (1017) بلفظ: (من سن في الإسلام سنة حسنة فله أجرها وأجر من
عمل بها بعده من غير أن ينقص من أجورهم شيء، ومن سن..) .
(6) مسألة:
حكم زكاة الأسهم؟
إن كانت محرمة فلا زكاة فيها، لأن الله طيب لا يقبل إلا طيباً.
وإن كانت مباحة ففيها أقوال:
القول الأول: إن كانت أسهم في مصانع وعقارات ونحوها التي لا يقصد منها
البيع والشراء، فليس في رأس مالها زكاة، بل في الربح متى حال عليه الحول
وبلغ النصاب.
وإن كانت في شركات تجارية، ففي رأس المال مضافاً إليه الربح الزكاة.
القول الثاني: أن في جميعها الزكاة؛ لأنها عروض تجارة.
القول الثالث: إن كان يقصد بهذه الأسهم أن يبيع ويشتري، ففيها الزكاة. وإن
كان يقصد ـم يضعها ويحصل على الربح ولا يريد بيعها وشراءها فلا زكاة إلا في
الربح بالشروط السابقة.
ملاحظة:
إن لم يستخدم المال حتى حال عليه الحول فالذي ينبغي القول فيه: وجوب
الزكاة، كما تفعل بعض الشركات تحبس المال لمدة سنة أو أكثر ….
المراجع:
فتاوى الزكاة لابن جبرين.
فقه الزكاة للقرضاوي.
شريط " الزكاة " لمحمد بن صالح المنجد.
كيف تؤدي زكاة أموالك للطيار.
|