شرح زاد المستقنع للحمد

باب الضمان

الضمان لغة: من الضمن، فهو مشتق من الضمن، ضمن الشيء ضمنا (1) .
واصطلاحاً: ضم ذمة الضامن إلى ذمة المضمون عنه في التزام الحق، وسمي ضمانا لأن ذمة الضامن تصير في ذمة المضمون عنه.
ومثال الضمان: اقترض زيد من عمرو عشرة آلاف، فضمنه بكر، أي التزم أن تكون ذمته منشغلة بالدين كذمة عمرو، فقد ضم ذمته إلى ذمة عمرو في التزام الحق الواجب على عمرو.
وعليه فإن الضمان من الإحسان، والله يحب المحسنين، ويسمى ضمينا وكفيلا وزعيما وقبيلا.

قال [ولا يصح إلا من جائز التصرف]
لا يصح الضمان إلا من جائز التصرف، وقد تقدم تعريف جائز التصرف وهو المكلف الرشيد، فلا بد أن يكون جائز التصرف وذلك لأن الضمان تبرع بالتزام حق مالي فلا يصح إلا ممن يجوز تصرفه، وعليه فلا يصح ضمان صبي ولا سفيه ولا نحو ذلك، لأنه غير جائز التصرف.

قال [ولرب الحق مطالبة من شاء منهما في الحياة والموت]
لرب الحق وهو الدائن، له (2) أن يطالب من شاء منهما، فله أن يطالب الضامن أو المضمون عنه.
فعندنا: ضمان (3) وقد تقدم تعريفه.
وضامن وهو من تبرع بالتزام حق مالي على غيره.
وعندنا (4) مضمون عنه وهو المدين أو المستقرض.
ومضمون له: وهو صاحب الدين.
فللمضمون له أن يطالب من شاء منهما - فله أن يطالب الضامن، وله أن يطالب المضمون عنه (5) - في الحياة وفي الموت.
أما في الحياة فظاهر، وأما في الموت فمن التركة.
وظاهره أن له أن يطالب الضامن (6) وإن كان المضمون عنه صاحب يسار وغنى (7) وعدم مماطلة، وإن كان هذا بعد الممات، وعليه فيرجع الضامن إلى المضمون عنه بالحق الذي أخذه منه المضمون له.
__________
(1) العبارة الأخيرة وهي " ضمن الشيء ضمنا " ليست في المطبوع.
(2) ليست في المطبوع.
(3) في المطبوع: فهنا الضمان.
(4) ليست في المطبوع.
(5) الجملة المعترضة ليست في المطبوع.
(6) في المطبوع: الضمان.
(7) ليست في المطبوع.


وهذا هو مذهب جمهور العلماء، قالوا: لأن الدين قد تعلق بذمتيهما جميعا.
وعن الإمام مالك وقواه ابن القيم (1) واختاره الشيخ عبد الرحمن بن سعدي وهو القول الثاني في هذه المسألة: أنه ليس له أن يطالب الضامن إلا إذا تعذر الاستيفاء من المضمون عنه، قالوا: لأن الضمان كالرهن فهو توثيق للدين، والرهن إنما يجوز أن يباع على راهنه إن تعذر استيفاء الحق، أما مع القدرة على استيفاء الحق فإنه لا يباع كما تقدم تقريره، قالوا: وكذلك الضمان فإنه توثيق للدين، ولأن الضامن محسن، وقد قال تعالى {ما على المحسنين من سبيل} (2) فليس لنا سبيل عليه وهو محسن إلا أن يتعذر الحق، ولأنه من المستقبح أن يطالب الضامن بالحق الثابت على غيره مع قدرة من عليه الحق أن يقضي الحق عن نفسه، فهذا من المستقبح جداً.
وهذا القول هو الراجح لقوة أدلته، وأما تعلقه في ذمة الضامن فهو معلق كتعلق الدين بالرهن، فهو إنما يكون حين يتعذر الوفاء (3) .
إلا أن يكون هناك شرط أو عرف، فإن كان هناك عرف أو شرط فالمسلمون على شروطهم (4) .
فلو قال: تضمن فلانا، لكن لي أن [أ] طالب أيكما شئت، أو كان العرف جارٍ على هذا (5) .

قال [فإن برئت ذمة المضمون عنه برئت ذمة الضامن لا عكسه]
__________
(1) كذا في المطبوع، وفي الأصل – المذكرة -: ابن القيم الجوزية.
(2) سورة التوبة.
(3) في المطبوع: وأما تعلق الدين بذمة الضامن فهو كتعلق الدين بالرهن.
(4) في المطبوع: ويستثنى من ذلك ما إذا شرط أو كان العرف جاريا بجواز مطالبة أيهما.
(5) في المطبوع: فلو قال الدائن للضامن: تضمن فلانا لكن لي أن أطالب أيكما شئت، فرضي، فإن له أن يطالب أيهما شاء لأن المسلمين على شروطهم.


هذا ظاهر، فمتى برئت ذمة المضمون عنه وهو المدين فإن ذمة الضامن تبرأ أيضا، لأن الحق ثابت في ذمة الضامن تبعا، فإذا ذهبت عن الأصل تبعها تبعتُها (1) ، فحينئذ يسقط ذمة الضامن أيضاً.
وأما العكس فلا، ولذا قال (لا عكسه) .
فإذا ديَّن رجل آخر مالا، وطلب عليه ضمينا، ثم أبرأ صاحب الحق الضمين فلا تبرأ ذمة المضمون عنه، لأن ذمة الضامن كالرهن، فالدين ثابت في ذمة المستدين أو المستقرض ولا يعدو الضامن إلا أن يكون وثيقة للدين،فإذا سقط فإنه يسقط الحق الذي في ذمة المضمون عنه، فإن إبراء التبع لا يعني إبراء الأصل، وهذا أيضا ظاهر لا إشكال فيه.

قال [ولا تعتبر معرفة الضامن للمضمون عنه ولا له]
فلا تعتبر ولا يشترط أن يعرف الضامن المضمون عنه، فلو قال بعض الناس لبعض التجار: " أيَّ أحد تقرضه فأنا أضمنه لك " فهو جاهل بالمضمون عنه، فهذا جائز، وذلك لأن الضمان تبرع بالتزام حق مالي فلا تشترط فيه معرفة المضمون عنه، ولا دليل على اشتراط ذلك.
ولذا فإنه لا يشترط أيضا رضى المضمون عنه، فإن ضمنه من غير رضى المضمون عنه فهذا جائز أيضا، ولا خلاف بين العلماء فيه، وهو كما لو أدى الدين عنه.
فلا يشترط رضى المضمون عنه، كما لو أدَّى الدين عنه، فلو كان لزيد عند عمرو ديناً، فقضاه بكر من غير أن يستأذن زيداً الذي في ذمته الدين، فإن الذمة تبرأ، فمن باب أولى صحة الضمان، إذا كان لو قضى الدين عنه من غير إذنه جاز، فأولى من ذلك جواز الضمان عنه.
__________
(1) في المطبوع: فإذا ذهب عن الأصل تبعها تابعها.


ولذا جاز الضمان عن الميت كما في حديث سلمة بن الأكوع في البخاري أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أتي بجنازة فقالوا: يا رسول الله صل عليها، فقال: هل عليه دين، فقالوا: نعم، فقال: صلوا على صاحبكم، فقال أبو قتادة: يا رسول الله صل عليه وعليَّ دينه [خ 2291] (1) .
وفي هذا الحديث ما يدل على أن المضمون له لا يشترط رضاه، فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - قد أقر أبا قتادة على الضمان من غير إذن المضمون له أي صاحب الحق، وكذلك لا يشترط معرفة الضامن للمضمون له، كأن يقول: " اقترض من أي أحد شئت من التجار والضمان عليَّ "، ويكتب له ورقة بذلك، فهذا جائز.
[فعندنا أمور لا تشترط:
1- معرفة المضمون له.
2- رضى المضمون له.
3- معرفة المضمون عنه.
4- رضى المضمون عنه] (2)

قال [بل رضى (3) الضامن]
هذا هو الذي يشترط، وهو رضى الضامن، وذلك لأنه تبرع بالتزام الحق فاشترط فيه الرضا.
فإن كان الضامن مكرها فلا يصح؛ لأنه تبرع بالتزام حق مالي في ذمته، فاشترط رضاه، ولا خلاف بين أهل العلم في ذلك.

قال [ويصح ضمان المجهول إذا آل إلى العلم]
مثال هذا: إذا قال زيد لعمرو: اذهب إلى فلان واقترض منه ما شئت من المال والضمان علي، أو قال: أي ثمن يقرضك إياه فلان فالضمان علي، أو اشترِ (4) هذه السيارة ومهما بلغ ثمنها فضمانها علي، فهذا جائز لأنه يؤول إلى العلم؛ لأن من شروط البيع أن يكون الثمن معلوما، والذمم لا تعلق بها حقوق غير معلومة.
__________
(1) أخرجه البخاري في كتاب الحوالات، باب (3) إن أحال دين الميت على رجل جاز (2289) ، وكتاب الكفالة،باب (3) من تكفل عن ميت دينا فليس له أن يرجع (2295) .
(2) العبارة التي بين القوسين هي في المطبوع دون الأصل.
(3) في الأصل: رضا.
(4) في الأصل والمطبوع: اشتري.


وكذلك يجوز ضمان ما لم يجب، كأن يقول له: اقرض فلاناً ومتى ما أقرضته فالضمان علي، فقد ضمن الشيء قبل وجوبه.
ودليل هذا قول الله تعالى في قصة يوسف - وشرع من (1) قبلنا شرع لنا ما لم يرد في شرعنا ما يخالفه - {ولمن جاء به حمل بعير وأنا به زعيم} (2) ، أي أنا به ضمين، أي أنا ضمين بحمل البعير، وهذا قبل أن يجب الحق، فإن الحق لا يجب إلا بعد أن يؤتى بهذا الصاع، فإذا أتانا بالصاع وجب حمل البعير، فضمنه قبل وجوبه. (3)
قالوا: وحمل البعير يختلف كثرة وقلة فكان مجهولاً.
ثم إن الأصل في المعاملات الحل ولا غرر في هذا ولا ضرر.

قال [والعواري]
العواري جمع عارية، والعارية في المشهور من المذهب مضمونة، والبحث هنا على المشهور من المذهب وأنها مضمونة، وسيأتي الخلاف في ذلك في بابه إن شاء الله.
فمثلا: ذهب زيد إلى عمرو وقال أعرني سيفك، فقال: حتى تأتي بضمين، فالضمان يصح، وذلك لأن العارية مضمونة، فالأصل مضمون فيصح في الفرع، فيصح الضمان في الأشياء المضمونة، فهنا العارية مضمونة، فلما ثبت الضمان على الأصل جاز في الفرع، ولأن الأصل في المعاملات الحل.
وأما إذا قلنا: إن العارية ليست بمضمونة فلا يصح الضمان، وذلك لأن الضمان لم يثبت في الأصل فلا يثبت في الفرع من باب أولى.
فإذا كان من بيده الشيء لا ضمان عليه، فكيف الضمان في غيره، ومثل ذلك المغصوب، لذا قال:
[والمغصوب]
فالمغصوب يثبت فيه الضمان، فلو اغتصب زيد من عمرو شيئا فطالبه به، فله أن يأبى أن يخليه حتى يأتيه بضمين، فإذا أتى بالضمين تركه، وذلك لأن الأشياء المغصوبة مضمونة لأن اليد يد تعد، واليد المتعدية ضامنة فالفرع كذلك.

قال [والمقبوض بسوم]
هذا يصح فيه الضمان.
__________
(1) كذا في المطبوع، وفي الأصل: شرع ما قبلنا..
(2) سورة يوسف.
(3) في المطبوع: فلا يجب حمل البعير إلا إذا أتي بالصاع، وهنا ضمن حمل البعير قبل وجوبه.


وصورته أن يذهب مثلا إلى السوق ويسوم شيئا، ثم يقول: دعني حتى أستشير فيه وأريه بعض الناس أو نحو ذلك فهذا هو المقبوض بسوم، فليس مقبوضا ببيع، بل بسوم.
فيَد هذا القابض ضامنة، فلو تلف سواء كان بتعد منه أو لم يكن فإنه يضمن، ذلك لأن هذا القبض قبض معاوضة، وما كان قبض معاوضة فإن الضمان يثبت فيه.
فإذا قال: أنا لا أقبضك إياه حتى تأتي بضمين يضمنك حتى ترجعه إليَّ، فالضمان صحيح معتبر.
وأما إن قبضه من غير سوم فلا يصح الضمان، لأن هذا يكون من باب الأمانات، لأنهما حيث لم يتساوما على شيء فلا معاوضة بينهما، وحينئذ فلا يصح الضمان فيه لأنه غير مضمون على الأول.

قال [وعهدة مبيع]
عهدة المبيع لغة: الصك الذي يكتب فيه البيع.
والمراد به هنا عند الفقهاء ضمان الثمن عن المشتري للبائع، وضمانه عن البائع للمشتري.
مثال ضمان الثمن عن المشتري للبائع: أن يقول: أعط فلاناً هذه السلعة التي تبايعتما عليها وإن لم يسلمك الثمن فهو في ضماني.
ومثال ضمان الثمن عن البائع للمشتري: أن (1) يقول للمشتري: أعطه ثمنه فإن ثبت أن السلعة ليست له وأنه مغتصب لها أو أنها معيبة فالضمان عليَّ.
فالضمان هنا صحيح عند جماهير أهل العلم لعمومات الأدلة، ولأن الأصل في المعاملات الحل.

قال [لا ضمان الأمانات بل التعدي فيها] (2)
لا يعتبر ضمان الأمانات، فلو قال: ضع هذا الشيء أمانة عندك بشرط أن تأتيني بضمين فلا يصح هذا، لأن الأمين ليس بضامن، فلو تلفت في يده من غير تعد ولا تفريط فلا ضمان عليه، فإذا كان الأصل لا ضمان عليه فكيف يثبت الضمان للفرع (3) .
ولأن هذا تحايل إلى مخالفة الشريعة، فإن الشريعة أبطلته على (4) الأمين، فإذا أجزناه في الفرع كان في هذا تحايلا على الشريعة.
__________
(1) في الأصل: كأن.
(2) في المطبوع: [لا ضمان الأمانات كوديعة] .
(3) في المطبوع: في الفرع.
(4) في المطبوع: لغت الضمان عن.


فعليه: الأمانة لا يصح الضمان فيها؛ لأن يد الأمين لا تضمن، فإذا كان هذا في الأصل، فالفرع من باب أولى.
[بل التعدي فيها]
أي يصح الضمان في التعدي فيها، كأن يقول: أضع هذه الأمانة عندك بشرط أنها (1) متى تُعديت عليها أو فرَّطت، فإن الضمان عليه، فهذا صحيح.
أو حصل للأمانة عند الأمين - حصل لها - تلف بتعد أو تفريط فطلب صاحب الحق ضمينا لحقه فهذا صحيح؛ وذلك لأن الأمانات تضمن بالتعدي، فإذا كانت تضمن بالتعدي أصلا فيجوز الضمان عليها فرعا.
إذاً: هذه المسألة ليس البحث فيها في مسألة ضمان الأمين، أو في مسألة ضمان الغاصب أو في مسألة ضمان المستعير، أو ضمان القابض بسوم أو البائع أو المشتري، بل في الضمانات على ذلك، فيكون الضامن طرفاً آخر ليس هو البائع، وليس هو المستعير ولا الغاصب ولا الأمين، بل هو طرف آخر يكون ضامناً للمستعير أو ضامناً للغاصب أو للقابض بسوم ونحو ذلك.
والقاعدة: أنا ما فيه ضمان فيا لأصل فيصح الضمان فيه في الفرع، وما لا، فلا.
والحمد لله رب العالمين.

الدرس السادس والستون بعد المئة
(يوم السبت: 21 / 4 / 1416 هـ)

فصل
هذا الفصل في الكفالة

الكفالة لغة: المراعاة والعناية، ومنه قوله تعالى {وكفَّلها زكريا} (2) ، وأما في اصطلاح الفقهاء فهي التزام رشيد إحضار بدن من عليه الحق لصاحب الحق، وهي من الإحسان إلى الناس كما تقدم في الضمان.

قوله [وتصح الكفالة بكل عين مضمونة]
كالعارية مثلا، فقد تقدم أن المشهور من المذهب أنها مضمونة فيثبت فيها الكفالة، فلو قال مثلا: لا أعيرك هذه العين حتى تأتي بكفيل فهذا صحيح، فكل عين تضمن فإن الكفالة تصح فيها كما تقدم في الضمان.

قوله [وببدن من عليه دين]
فمن وجب في ذمته حق مالي للغير فإن الكفالة تثبت فيه.

قوله [لا حد ولا قصاص]
__________
(1) في المطبوع: أنك.
(2) سورة آل عمران.


فلا تصح الكفالة في الحدود ولا في القصاص، وذلك لأن الحد والقصاص لا يستوفى إلا من الجاني، فلا يمكن أن يستوفى من غيره فلم ثبت فيه الكفالة، فإذا وجب عليه حد زنا أو سرقة أو قتل فلا تثبت في هذه الأمور الكفالة، وإذا وجب عليه قود في النفس أو قصاص في شيء من الأعضاء فكذلك لا تثبت فيه الكفالة لأنه لا يمكن أن يستوفى من الكفيل، وقد روى البيهقي بإسناد ضعيف أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (لا كفالة في حد) [هق 6 / 77] والحديث إسناده ضعيف، ويكفي ما تقدم من العلة الظاهرة في النهي عنه.
* وقد اختلف أهل العلم في الكفالة هل يثبت فيها غرم أم لا؟ بمعنى إن تعذر على الكفيل إحضار مكفوله، فهل يضمن الحق الثابت في ذمة المكفول أم لا؟ قولان لأهل العلم:
1- القول الأول: وهو مذهب الشافعية والأحناف أنه لا يغرم، قالوا: لأنه إنما التزم بإحضار بدنه ولم يلتزم بإعطاء الحق المالي الواجب عليه.
2- القول الثاني: وهو مذهب المالكية والحنابلة أنه يغرم، واستدلوا بما رواه الترمذي وحسنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (الزعيم غارم) [ت 1265، د3565، جه 2405] قالوا: والواجب عليه أن يؤدي ما التزمه من إحضار بدنه، والكلام حيث تعذر ذلك، وإنما أقيم مقام الرهن أي الكفيل فكان فيه ما في الرهن من استيفاء الحق، فدل على أنه يضمن ويغرم، وهذا القول هو الراجح للحديث المتقدم، وعليه وعلى القول الراجح الذي تقدم من أنه ليس لرب الحق أن يطالب الضامن إلا بعد تعذر الاستيفاء من المضمون عنه، على هذا القول لا فرق بين الضمان والكفالة إلا أن الكفالة فيها إحضار بدنه وأما هناك فإنه يلزم بأن يأخذ الحق من صاحبه الذي هو عليه، فإن تعذر فإنه يعطى الحق من الضامن ثم يرجع هو على المضمون عنه.

قوله [ويعتبر رضى الكفيل]


لأن الكفالة التزام بحق فاشترط فيها رضى الملتزم وهذا الق هو أن يحضر المكفول به على ما وقع عليه الاتفاق.

قوله [لا المكفول به]
فليس شرطا أن يرضى المكفول به بالكفالة، وهذا هو المشهور من المذهب، قالوا: كالضمان، فكما أن الضمان لا يشترط فيه الرضى من المضمون عنه فكذلك ف الكفالة لا يشترط الرضى من المكفول به، والقول الثاني في المذهب وهو مذهب الشافعية أنه يشترط رضى المكفول به، قالوا: لأنه يلتزم بحق، والحق الذي يلتزم به هو أن يتجاوب ويتطاوع مع الكفيل إذا جاء لإحضاره، فإن الكفالة عقد يلتزم فيه المكفول به أن يحضر مع الكفيل متى أراد ذلك على ما وقع عليه الاتفاق، فكان قد التزم بحق، وهذا لا بد فيه من الرضى، وهذا القول هو الراجح.
وليس بشرط رضا المكفول له، لأنها وثيقة غير مقبوضة فلم تشترط فيها الرضى كالضمان، وقد تقدم أنه لا يشترط في الضمان إذن المضمون له فكذلك هنا ولا فرق بين الأمرين.

قوله [فإن مات.... بريء الكفيل]
إذا مات المكفول به بريء الكفيل، وهذا هو المشهور من المذهب، وفي المسألة أقوال ثلاثة:
القول الأول: أنه يبرأ مطلقا، وهو مذهب جمهور العلماء، قالوا: لأن الحضور قد سقط بالموت، فلا يمكن أبدا أن يحضره وقد مات، وهو إنما تكفل بإحضاره.
القول الثاني: أنه لا يبرأ مطلقا، وهو قول مالك واختيار شيخ الإسلام، قالوا: قياسا على الرهن والضمان، فإن الضامن لا يبرأ بموت المضمون عنه، وكذلك الرهن، والمقصود استيفاء الحق كما سبق.
القول الثالث: وهو قول لبعض الحنابلة أن في هذه المسألة تفصيل، فإن توانى وقصر وفرط حتى مات فإنه لا يبرأ، وأما إذا لم يكن منه ذلك فإنه يبرأ، وهذا القول هو أعدلها.
فهناك فرق بين الرهن والكفالة، فإنه في الأصل إنما التزم بإحضاره، وهذا أمر يسقط بالموت، ويستثنى من هذا ما إذا فرط وقصر وأهمل.

قوله [أو تلفت العين بإذن الله تعالى]


كذلك إذا تلفت العين بإذن الله، مثلا: أخذ عارية فتلفت بقدر الله تعالى، الكفيل يبرأ وذلك لأنه ما دام أنها تلفت فحينئذ لا يجب شيء على من وقع التلف عنده، وعليه فإن الكفيل يبرأ أيضا، وأما إذا تلفت بفعل الآدمي فإن الكفيل لا يبرأ، وذلك لوجوب بدلها على المتلف، فما زال للمكفول له الحق، لأن البدل قائم، وعليه فتبقى الكفالة.

قوله [أو سلم نفسه بريء الكفيل]
إذا سلم المكفول به نفسه فإن الكفيل يبرأ، وذلك لأن المكفول به إذا سلم نفسه فقد قام بما يجب على الكفيل، فأدى الواجب عن الكفيل، فإذا حضر بنفسه فقد حصل المقصود.
ويبرأ الكفيل أيضا إذا أحضر المكفول به في المجلس المتفق عليه في الأجل المحدد وذلك لأنه قد قام بما يجب عليه، وكذا قبل الأجل من غير أن يتضرر المكفول له.
* مسألة:
قال شيخ الإسلام السجان كفيل، أي القائم على شان السجن كفيل، وعليه فإنه يجب عليه أن يحضر البدن فإن لم يحضر البدن فإن الضمان عليه، وقال بعض الحنابلة بل السجان ليس بكفيل، إنما هو وكيل على الحفظ، وهذا القول هو الراجح، فهو وكيل على الحفظ، وذلك لأنه ليس بملتزم بإحضار البدن، وإنما هو ملتزم بحفظه في الموضع الذي هو فيه، فهو لم يلتزم إلا بالحفظ، كما قرر هذا الشيخ عبد الرحمن بن سعدي وهو اختيار بعض الحنابلة، فهو وكيل في الحفظ، وعليه فإن فرط فعليه الضمان، وإن لم يفرط فلا ضمان عليه.
** مسألة:


المشهور من المذهب أن كفالة المعرفة كالكفالة تماما، وكفالة المعرفة أن يأتي مثلا بعض الناس إلى بعض التجار ليشتري، فيقول: هل يعرفه أحد منكم، فيقول أحدهم أنا أعرفه، فحينئذ يكون كفيلا له، وعليه فيلتزم بإحضاره في الموعد المتفق عليه، فإن لم يحضره فإنه يضمن، واختار الشيخ عبد الرحمن بن سعدي التفصيل في هذه المسألة فقال: إن عرفه باسمه وموضعه ونحو ذلك فقد قام بما يجب عليه، فإنه إذا قال: أنا أعرفه، فليس فيه إلا أنه يعرفه أي يعرف اسمه ويعرف وصفه، فليس في ذلك إلا هذا، فإن عرفه وإلا فإنه يضمن، وهذا القول هو الراجح، فإنه إذا ضمنه ضمان معرفة فليس فيه أنه يلتزم بإحضار بدنه، بل غاية هذا أن يلتزم بتعريفهم إياه اسما ومحلا ونحو ذلك، فإن قام بما يجب عليه وإلا فعليه الضمان لأنه فوت الحق عليهم.
*** إذا كان المكفول به في الحبس فإن هذا يكفي عن إحضاره، فلو قدر أنه كان محبوسا في الوقت المحدد فهل يكفي أم لا بد من إحضاره؟ الجواب: أنه يكفي هذا ولا يجب أن يحضره كما ذكر ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية فقال:" وليس أحد من الأئمة يأمر بإحضاره لأنه متمكن منه "

باب الحوالة
الحوالة في اللغة: من التحول وهو الانتقال، أما في الاصطلاح الفقهي فهي: نقل حق من ذمة إلى ذمة أخرى، وأركان الحوالة أربعة:
1- المحيل: وهو المدين الأول، أي من عليه دين.
2- المحتال: وهو من له دين، أي هو صاحب الحق.
3- المحال عليه: وهو المدين الثاني، فهو من عليه دين للأول.
4- المحال به: وهو الدين الذي في ذمة المحيل.


والأصل في الحوالة قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (مطل الغني ظلم وإذا أبتع أحدكم على مليء فليتبع) متفق عليه [خ 2287، م 1564] وفي وراية أحمد: (إذا أحيل أحدكم على مليء فليحتل) [حم 27239] ، وهو عقد إرفاق وذلك لما فيه من إبراء الذمم، فهذا الذي في ذمته الحق تبرأ ذمته بنقل الحق الذي في ذمته إلى شخص آخر، وهي استيفاء وليست ببيع، كما يقرر هذا فقهاء الحنابلة، ويقرره شيخ الإسلام ابن تيمية وابن القيم، ويدل على ذلك أن النبي - صلى الله عليه وسلم - ذكر الحوالة في سياق الوفاء فقال: (مطل الغني ظلم) فهذا فيه ما لا يجوز من فعل الغني من المماطلة، ثم قال: (وإذا أتبع أحدكم على مليء فليتبع) ، ويدل عليه أيضا عدم اشتراط رضى المحتال، والبيع من شروطه الرضى، كما قال تعالى {إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم} فالحوالة استيفاء وليست بيعا.

قوله [لا تصح إلا على دين مستقر]
هذا هو الشرط الأول من شروط الحوالة، أن تكون على دين مستقر، فعليه يجب أن يكون المال المحال عليه مستقرا في ذمة المحال عليه، مثاله: ثمن المبيع وبدل القرض، فهما دينان مستقران في الذمة غير قابلين للسقوط في الأصل فتصح الحوالة فيه، أما إذا كان الدين غير مستقر كدين المكاتب فهو دين غير مستقر لأنه عرضة للسقوط فللمكاتب أن يبطل العقد - أي عقد الكتابة - ويرجع قنا أو يعجز عن أداء الحق الذي عليه فيعود قنا، وهكذا سائر الديون غير المستقرة لا يصح الحوالة عليها، وذلك لأن مقتضى عقد الحوالة أن يلتزم المحال عليه بالدين الذي قد أحيل عليه به، وإذا كان الدين غير مستقر فإنه عرضة للسقوط فكيف تبرأ ذمة الأول وتتعلق به ذمة الثاني والدين غير مستقر فحينئذ يكون قد التزم والدين ليس بلازم.

قوله [ولا يعتبر استقرار المحال به]


إن قيل هل يشترط استقرار الدين المحال به أم لا؟ الجواب: لا يعتبر، وبيان هذا: إذا كان المكاتب الذي عليه لسيده دين في ذمته مقابل الكتابة، فهود دين غير مستقر، فللمكاتب أن يحيل سيده إلى أحد لهذا المكاتب عليه دين مستقر، فإن لا يعتبر أن يكون الدين المحال به مستقرا، وذلك لأن تسليم الدين جائز، وللمحيل أن يسلمه أو يسقطه، فإذا كان التسليم جائزا كانت الحوالة جائزة.

قوله [ويشترط اتفاق الدينين جنسا ووصفا ووقتا وقدرا]
هذا هو الشرط الثاني من شروط الحوالة، وهو أنه يشترط اتفاق الدينين، الدين الأول هو الذي في ذمة المحيل، والثاني هو الذي في ذمة المحال عليه، فيشترط أن يتفقا جنسا، فهذا ذهب وهذا ذهب، فإن كان أحدهما ذهبا والثاني فضة فلا يجوز، وكذلك أن يتفقا وصفا، فهذا رديء وهذا رديء، وهذا جيد وهذا جيد، وهذا صحيح وهذا صحيح، وهذه مكسرة وهذه مكسرة، ويشترط أن يتفقا وقتا، فهذا حال وهذا حال، وهذا مؤجل إلى شهر وهذا مؤجل إلى شهر، ويشترط أيضا أن يتفقا قدرا، فيحيل بخمسة على خمسة، أو بعشرة على عشرة، أما لو أحال بخمسة على ستة فلا يجوز، قالوا: لأن الحوالة عقد إرفاق فإن كان فيها فضل فقد خرجت عن موضعها، وقد تقدم قول الجمهور أن بيع الدين بالدين منهي عنه، ولا يتبين المنع من هذا، فهذا وإن خرج عن كونه حوالة فلا يخرج عن كونه بيعا، فيشترط فيه ما يشترط فيه البيوع، فإذا جرى على قواعد البيوع فلا يتبين أنه فيه منعا، وكونه بيع دين بدين فقد تقدم أنه ليس كل صور بيع الدين بالدين محرمة، وإنما حرم الشارع منها ما كان فيه الربا الذي كان عليه أهل الجاهلية، وأيضا فإن بيع الدين بالدين فيه إشغال للذمم وهنا في مسألتنا فيها إبراء للذمم.

قوله [ولا يؤثر الفاضل]


بيان هذا، إذا كان على أحذ من الناس عشرة آلاف، ويريد منك فلان خمسة آلاف، فقلت: أحيلك بخمسة آلاف على خمسة آلاف من العشرة التي لي في ذمة فلان فلا يؤثر هذا الفاضل لأنه يبقى لربه، وذلك لأنهما قد اتفقا في القدر وأما الفاضل فيبقى لرب المال.

قوله [وإذا صحت]
أي إذا صحت الحوالة فتوفرت فيها شروطها، وتقدم شرطان، وسيأتي شرط رضا المحيل.

قوله [نقل الحق إلى ذمة المحال عليه وبريء المحيل]
فيبرأ المحيل بالحوالة، وهذا هو مقتضى عقد الحوالة فيلتزم المحال عليه بالدين الثابت للمحتال على المحيل.

قوله [ويعتبر رضاه]
إذا يشترط رضا المحيل، فليس للدائن أن يلزم المدين بالحوالة، وذلك لأن الحق واجب عليه من غير تحديد جهة، فالواجب أن يعطي صاحب الحق حقه من غير أن يتعين عليه جهة، وإذا ثبتت الحوالة من غير رضاه فقد عينت عليه جهة وألزم بما ليس بلازم له.

قوله [لا رضا المحال عليه]
لا يشترط رضا المحال عليه، وذلك لأن المحيل هو صاحب الدين، فله أن يستوفي الحق الواجب له في ذمة المحال عليه بنفسه أو بوكيله، وقد أقام المحتال مقام نفسه فكان كالوكالة بل أولى.

قوله [ولا رضا المحتال على مليء]


لا يشترط رضى المحتال، وهو الذي حول حقه من ذمة إلى ذمة، فلا يشترط رضاه إذا أحيل على مليء، وهذا هو المشهور من المذهب وهو قول ابن جرير وأبي ثور، وقال الجمهور بل يشترط رضاه، وحجة الحنابلة حديث: (وإذا أتبع أحدكم على مليء فليتبع) قالوا: وهذا يدل على وجوب قبول الحوالة، وحيث وجب قبولها فإن الرضا ليس بشرط، وأما الجمهور فحملوا الحديث على الاستحباب وقالوا: هو واجب له في ذمة هذا فلا يلزم بأن ينقل إلى ذمة أخرى، والصحيح وجوبه لأن نقله لا ضرر عليه فيه، كما لو أعطى حقه قبل حلول الأجل ولا ضرر عليه فإنه يلزم بقبوله، هذا إذا أحيل على مليء، والمليء هو القادر بماله وقوله وبدنه، كما قال ذلك الإمام أحمد رحمه الله، فالقادر بماله هو القادر ماليا على الوفاء، والقادر بقوله هو الذي لا يماطل، والقادر ببدنه هو من يمكن أن يحضر مجلس الحاكم أي القاضي، وأما إذا كان لا يمكن إحضاره إلى مجلس القاضي كأن يحال على والده مثلا أو إلى أحد لا يمكنه أن يحضره إلى مجلس القاضي فإن الحوالة حينئذ لا تلزم المحتال.

قوله [وإن كان مفلسا ولم يكن رضي به رجع]


أي إذا كان المحال عليه مفلسا أو مماطلا ولم يكن المحتال قد رضي به رجع، أما إذا أخبره بأنه مفلس أو مماطل فرضي فليس له الرجوع، فالكلام في المسألة السابقة إذا كان مليئا، فإذا كان مليئا فلا يشترط رضا الدائن، وأما إذا لم يكن مليئا فيشترط رضاه، وذلك لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (وإذا أحيل أحدكم على مليء فليحتل) وهذا لم يحل على مليء، وهذا لم يحل على مليء فله أن يفسخ الحوالة، وظاهره ولو كان جاهلا، وهذا هو المشهور من المذهب، بمعنى أحيل على أحد فظنه مليئا ولم يعلم أنه غير مليء فالحوالة صحيحة، وليس له أن يرجع، وذهب المالكية وهو رواية عن الإمام أحمد اختارها طائفة من أصحابه أنه إن كان جاهلا مغررا له فإن الحوالة لا تثبت لنهي النبي - صلى الله عليه وسلم - عن الغرر، وهذا هو الراجح.

قوله [ومن أحيل بثمن مبيع أو أحيل به عليه فبان البيع باطلا فلا حوالة]
من أحيل بثمن المبيع أو أحيل بثمن المبيع عليه، فأصبح ثمن المبيع في المسألة الأولى محالا به، وفي المسألة الثانية محالا عليه، مثاله: إذا اشترى زيد من عمرو سلعة بثمن مؤجل إلى شهر، فقد تعلق في ذمة المشتري ثمن المبيع، فحينئذ إن أحيل بهذا الثمن الثابت في ذمة المشتري فبان أن البيع باطل بأن تكون السلعة محرمة أو نحو ذلك فحينئذ تبطل الحوالة، وكذلك لو قال البائع لأحد الناس لي على عمرو ألف ريال مقابل سلعة قد بعتها عليه إلى شهر، فأنا أحيلك على هذا الثمن لتستوفي ما في ذمتي لك، فبان أن البيع الذي باعه التاجر على المحال عليه باطل، فإنه الحوالة هنا باطلة، وذلك لأن الحوالة مبنية على لزوم الثمن، وحيث بان أن البيع باطل، فإن الثمن لم يلزم أصلا، وعليه فالحوالة باطلة.

قوله [وإذا فسخ البيع لم تبطل]


إذن إذا بطل البيع بطلت، وإذا فسخ البيع فإنها لا تبطل، وبيان هذا: اشتريت سلعة وكان البيع صحيحا، وكان الثمن إلى شهر، وكان في ذمة شخص لي دين إلى شهر، فأحلت البائع إلى ذلك الشخص، ثم ثبت أن في السلعة التي اشتريتها أمر يثبت الفسخ، فالحوالة هنا لا تبطل، وظاهره مطلقا سواء كان الفسخ بعد القبض أو قبل، بمعنى أحال عليك وأعطيت المال الذي في ذمتك لهذا المحتال، ثم ثبت العيب أو كان هذا قبل القبض، وذلك لأن الثمن لازم أثناء عقد الحوالة، وليس كالبيع الباطل، فإنه ليس بلازم، وإن ظن لازما، فهو في الظاهر لازم لكنه في الباطن ليس بلازم لأن البيع باطل.

قوله [ولهما أن يحيلا]
للبائع أن يحيل المشتري لمن أحاله عليه، وللمشتري أن يحيل البائع لمن أحاله عليه، وهذه إنما تكون قبل القبض، وصورة هذا: اشتريت هذه السلعة منك بألف ريال إلى شهر، وقلت: أنا أريد من فلان ألف ريال إلى شهر فخذها منه، ثم فسخ البيع قبل أن تقبض، إذا الحوالة ثابتة، فما هو المخرج منها، المخرج منها أن يقول ذلك الشخص الذي أحلت عليه للبائع: قد أحلتك على فلان فيعود علي، ومثال المسألة الأخرى إذا قال البائع لأحد من الناس أنا أريد من فلان ألف ريال مقابل سلعة قد اشتراها مني، فخذ دينك منها، فالحوالة قد ثبتت، لكن قبل أن يقبض فسخ البيع، فالآن قد برئت ذمة أحدهما، والدين قد انتقل إلى ذمة شخص آخر، فللآخر أن يحيل عليه مرة أخرى هذا إذا كان قبل القبض، أما إذا كان بعد القبض فإنه يرجع عليه بالثمن، مثاله: أحاله على شخص أجبني، ثم قبض المال من هذه الشخص الأجنبي ثم فسخ البيع فإنه يرجع عليه بالثمن.


* وهنا مسألة: وهي إذا اختلفا فقال أحدهما قد وكلتك، وقال الآخر بل أحلتني، فالقول قول مدعي الوكالة، وذلك لأن الوكالة فيها إبقاء الحق، وأما الحوالة ففيها نقل الحق، والأصل هو إبقاء الحق، فمن ادعى الوكالة فالقول قوله، والبينة على الآخر.

باب الصلح

الصلح في اللغة: قطع المنازعة، أما في الاصطلاح فهي: عقد لازم يتوصل به إلى قطع المنازعة بين المتخاصمين، والبحث هنا في الصلح في الأموال، وقد دلت الشريعة على ثبوت الصلح فقال تعالى {والصلح خير} وقال تعالى {لا خير في كثير من نجواهم إلا من أمر بصدقة أو معروف أو إصلاح بين الناس} ، وروى الترمذي من حديث عمرو بن عوف وله شاهد من حديث أبي هريرة والحديث صحيح بطرقه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (الصلح جائز بين المسلمين إلا صلحا حرم حلالا أو أحل حراما) [حم 8566، د 3594، حب 11 / 488، برقم 5091، كلهم من حديث أبي هريرة، ت 1352، جه 2353 من حديث عمرو بن عوف] والصلح نوعان:
1- صلح على إقرار.
2- صلح على إنكار.


وهذا الفصل سيكون في الصلح على الإقرار، والصلح على الإقرار هو أن يقر المدعي عليه بالدعوى ثم يتصالحا على أن يسقط بعضه إن كان دينا أو يهبه بعضها إن كانت عينا أو يعطيه عوضها، مثال الأول: ادعى أن له في ذمته ألف ريال، فأقر المدعي عليه بذلك، ثم وضع عنه المدعي مائة ريال قطعا للمنازعة، ومثال الثاني: أن يدعي عليه أن هذه الدار التي هو سيكنها له، فيقر المدعي عليه بذلك، ثم يتصالحا على أن يترك له المدعي شطرها هبة، ومثال الثالث: أن يقر له بهذه الدار، ثم يتصالحا على أن يعطيه عوضا عنها كأن يعطيه بستانا أو أرضا أو نحو ذلك، وقد روى البخاري في صحيحه أن كعب بن مالك تقاضى ابن أبي حدرد دينا له عليه في عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في المسجد فارتفعت أصواتهما حتى سمعها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو في بيته فخرج إليهما رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى كشف سجف حجرته ونادى كعب بن مالك قال يا كعب، قال لبيك يا رسول الله، فأشار بيده أن ضع الشطر من دينك، قال كعب قد فعلت يا رسول الله، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لابن أبي حدرد: قم فاقضه) [خ 471، م 1558] فهذا من الصلح على الإقرار، فقد وضع عنه شيئا من الدين الذي أقر به.

قوله [إذا أقر له بدين أو عين فأسقط أو وهب البعض وترك الباقي صح]
قوله (أسقط) أي من الدين، وقوله (وهب) أي من العين، فإذا أقر له بدين أو أقر له بعين فأسقط من الدين أو وهب البعض من العين وترك الباقي صح، وهذا مذهب جماهير العلماء لما تقدم في حديث كعب بن مالك، وليس فيه إلا أن صاحب الحق قد تنازل عن شيء من حقه برضى منه فكان ذلك جائزا.

قوله [إن لم يكن شرطاه]


أي إن لم يكن الصلح مشروطا، فإن كان الصلح شرطا فلا، فإذا قال: لا أعطيك حقك إلا أن تضع عني بعضه أو لا أتنازل عن العين التي هي لك حتى تهبني بعضها أو حتى تأخذ عوضها، فهذا لا يجوز، وذلك لأن الصلح أحل حراما، وذلك لأن هذا الدين أو العين ملك له، وكذلك ما يراد دفعه العوض عنه كل هذا ملك له فإذا أجبر على شيء من ذلك فقد أجبر على أخذ شيء من حقه بغير رضا منه، وكان من أكل أموال الناس بالباطل.
* وهل يجوز - إن لم يكن عن شرط - أن يكون بلفظ الصلح؟
مثاله: أقر زيد لعمرو بأن في ذمته له مائة ألف، فقال زيد: قد صالحتك على عشرة آلاف، أو قال: صالحني على عشرة آلاف من غير شرط فصالحه، فهل يجوز ذلك؟
1- قال الحنابلة: لا يجوز ذلك، وذلك لأن لفظ الصلح هنا يقتضي المعاوضة، فكأنه قال: لا أعطيك حقك حتى تصالحني على كذا، وإن لم يكن هذا حقيقة الأمر لكن اللفظ يقتضيه.
2- وقال الشافعية وهو رواية عن الإمام أحمد بل يصح ذلك، قالوا: لأن لفظ الصلح لا يقتضي المعاوضة في الأصل، وإنما يقتضي قطع المنازعة، وهذا هو اختيار طائفة من أصحاب الإمام أحمد وهذا هو الراجح، لأن العبرة بالحقائق لا بالألفاظ، فحقيقة الأمر أنه لا شرط ولا معاوضة، فلا يؤثر هذا اللفظ.

قوله [وممن لا يصح تبرعه]
أي بشرط أن يكون ممن يصح تبرعه، فإن كان ممن لا يصح تبرعه فلا، ومعنى العبارة: إن لم يكن شرطاه وإن لم يكن ممن لا يصح تبرعه، فإن كان ممن يصح تبرعه فهو جائز، فإذا كان الصلح من ولي أمر اليتيم فلا يصح، لأنه ولي لليتيم ولا يصح تبرعه، فهذا المال ليس له بل هو لليتيم، ولا مصلحة فيه لليتيم، فإنه إسقاط حق من باب الإحسان إلى الخلق فهو هدية أو هبة أو صدقه، وهذا ليس لولي اليتيم، لكن إن كان الحق لا يقدر عليه، ويخشى إن لم يصالح أن ينكر الخصم، فإن له أن يتبرع بشيء من مال اليتيم حفاظا على مصلحته.


قوله [وإن وضع بعض الدين الحال وأجل باقيه صح الإسقاط فقط]
مثاله لو قال: أنا أريد أن أحسن إليك بشيئين:
الأول: أحسن إليك بوضع بعض الدين عنك، والثاني: أؤجله لك، فمثلا عليه دين حال بألف ريال، فقال: أضع عنك الشطر وأؤجله إلى شهر، فقال هنا: صح الإسقاط دون التأجيل، أما صحة الإسقاط فما تقدم، فقد تنازل عن شيء من حقه برضاه من غير معاوضة، وأما التأجيل فلا يصح لأن الشيء الحال لا يتأجل، وقد تقدم الكلام على هذا في باب القرض، وتقدم اختيار مذهب مالك في هذه المسألة وأن الدين يتأجل بتأجيله، وهو اختيار شيخ الإسلام وتلميذه ابن القيم، فالصحيح أن الإسقاط يصح والتأجيل يصح، وهذا هو الراجح.

قوله [وإن صالح عن المؤجل ببعضه حالا.... لم يصح]
مثاله: عليه في الذمة عشرة آلاف إلى سنة، فقال الدائن: أعطني خمسة آلاف حاله وأبرؤ ذمتك، فقد وضع شطرها، فهذا لا يجوز، وقد تقدم البحث في هذه المسألة وهي مسألة: ضع وتعجل، وأن الراجح جوازها كما هو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية.

قوله [أو بالعكس]
الذي يظهر أن العبارة تكرار للمسألة السابقة، وعليه فهي وهممن المؤلف، فإن العكس أن يقال: إن الصلح عن الحال ببعضه مؤجلا، كأن يكون عليه مائة ألف حالة، فيقول: أعطني خمسين ألفا إلى سنة، فتكون المسألة هي التي تقدم ذكرها في قوله (وإن وضع بعض الحال وأجل باقيه صح الإسقاط فقط) ، وفي موضع هذه الكلمة يذكر الحنابلة هذه المسألة كصاحب الأصل وهو المقنع، وغيره من كتب الحنابلة.

قوله [أو أقر له ببيت فصالحه على سكناه أو يبني له فوقه غرفة.... لم يصح]


وسبب عدم الصحة هو المعاوضة، فإذا أقر أن هذه الدار له بشرط أن يسكنها إلى سنة، أو قال له المدعي: أصالحك عن كذا وأقر لي بهذه الدار فهذه معاوضة على الحق المقر به، أو قال: هذا الحق الثابت لي اعطني إياه وأصالحك على أن تسكنه سنة أو تبني فوقه غرفة أو نحو ذلك، فهذا لا يصح للمعاوضة، فإنه قد حرم حلالا، فإن هذا مباح له، وحرم عليه إلا بعوض، سواء كان العوض سكنى أو بناء أو نحو ذلك.

قوله [أو صالح مكلفا ليقر له بالعبودية]
رجل حر، وقال له: أقر لي بالعبودية وأعطيك كذا وكذا، فهذا لا يصح لأن فيه تحليل ما حرم الله، فإن الله حرم العبودية على الحر، وهذا فيه تحليل ما حرم الله.

قوله [أو امرأة لتقر له بالزوجية بعوض لم يصح]
إذا قال لامرأة أقري لي بأني زوج لك ولك كذا وكذا، فهذا لا يصح لأنه استباحة فرج قد حرمه الله بغير طريق شرعي.

قوله [وإن بذلاهما له صلحا عن دعواه صح]
إذا قالا نحن نبذل لك العوض واترك هذه الدعوى فهذا يصح، مثاله: قال هذا الذي ادعى عليه العبودية وطلب منه الإقرار بها قال: أنا أعطيك العوض، ولا تدعي على هذه الدعوى، فإنه قد يتوصل إلى دعواه بالشهود ونحو ذلك، كذلك قالت هذه المرأة التي يدعي عليها الزوجية قالت: أنا أعطيك العوض ولا تدعي علي هذه الدعوى فإن هذا يصح، لأنه ليس فيه تحليل ما حرم الله، فإن العوض يعتق به العبد، والمال يفارق به الزوجة كما يكون في الخلع فلم يكن فيه تحليل ما حرم الله، ولكن في الباطن يحرم عليه إن كان بغير حق، لأن أكل لأموال الناس بالباطل.

قوله [وإن قال أقر بديني وأعطيك منه كذا ففعل صح الإقرار لا الصلح]


هذه من الحيل التي تخفى على الناس، إن قال: أقر لي بديني وأعطيك منه النصف، ففعل هذا وأقر صح الإقرار لا الصلح، أما الإقرار فيصح لأنه حق ثابت قد أقر به، فلم يصح إنكاره، وأما الصلح فلا يصح لأنه حق ثابت له فلم يعط هذا الحق إلا بعوض فكان العوض باطلا.
* مسألة: هل يصح الصلح على شيء مجهول أم لا؟
في المسألة تفصيل:
- فإن كان هذا المجهول لا يمكن التوصل إليه فإن الصلح يصح.
- أما إذا كان يمكن التوصل إليه ومعرفته فإن الصلح لا يصح.
مثال الأول: إذا كانت هناك مواريث مجهولة، أو كانت هناك أراضي لا يدرى حدودها ولا يميز بينها ولا يمكن معرفة هذا، فتصالحا على شيء وتراضيا عليه، فلا بأس بذلك، للحاجة الداعية إليه، ولما فيه من إبراء الذمم، وإعطاء ما يمكن إعطاؤه من الحق، ودليل ذلك ما رواه الإمام أحمد في مسنده وأبو داود بإسناد حسن من حديث أم سلمة قالت: (جاء رجلان من الأنصار يختصمان إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في مواريث بينهما قد درست ليس بينهما بينة فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إنكم تختصمون إلي وإنما أنا بشر ولعل بعضكم ألحن بحجته أو قد قال لحجته من بعض فإني أقضي بينكم على نحو ما أسمع فمن قضيت له من حق أخيه شيئا فلا يأخذه فإنما أقطع له قطعة من النار يأتي بها إسطاما - أي حديدة تسعر بها النار - في عنقه يوم القيامة فبكى الرجلان وقال كل واحد منهما حقي لأخي فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أما إذ قلتما فاذهبا فاقتسما ثم توخيا الحق ثم استهما ثم ليحلل كل واحد منكما صاحبه [حم 26117، د 3584] ففي الحديث دلالة على جواز الصلح على شيء مجهول لا يمكن معرفته.
وأما إذا كان المجهول يمكن معرفته فقولان في مذهب الحنابلة:
القول الأول: هو الجواز.


القول الثاني: هو المنع، مثال هذا: إذا صالح الورثة زوجة أبيهم على شيء من المال لتتنازل عن حقها من الإرث وهي لا يعلم قدر حقها، لكن يمكن معرفته بحصر مال مورثها، فهل يجوز هذا؟
قولان في المذهب، وأصحهما المنع من ذلك، لأنه معاوضة فأشبه البيع، وبيع المجهول لا يجوز إلا عند الحاجة إليه، ولأن فيه غررا ومخاطرة وقد نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن الغرر.

فصل
تقدم الكلام على الصلح على الإقرار، وهان فصل في الصلح على الإنكار، أي أن يصالح المدعى عليه المدعي مع عدم إقراره، فهو لا يقر بالدعوى التي ادعيت عليه في ماله لكنه يصالح المدعي قطعا للخصومة وصيانة للمال وإبراء للذمة، مثال ذلك: أن يعدي عليه أن هذه الدار ليست له، وهي في يده، فيصالح المدعي على شيء من المال يعطيه إياه أو شيء مما تقدم ذكر كأن يهبه بعضها إن كانت عينا أو يعطيه عوضا، فهذا هو الصلح على الإنكار، وجمهور أهل العلم على القول به، ودليل ذلك قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (الصلح جائز بين المسلمين) ولما تقدم من جواز الصلح الذي بمعنى البيع وهو أن يدعي عليه أن هذه الدار ليست له فيقر بذلك لكن يقول: صالحني على أن تأخذ موضعها بستاني فهذا جائز باتفاق أهل العلم فكذلك الصلح على الإنكار، ومنع الشافعية من الصلح على الإنكار وقالوا: لا يجوز، لأنه عاوض على شيء لم يثبت له، فإن المدعي لم يثبت حق له على المدعى عليه، فإن المدعى عليه لم يقر، فيكون هذا المدعي قد أكل مال أخيه بالباطل، وقد عاوض عما لم يثبت له، وقد قال - صلى الله عليه وسلم - (إلا صلحا حرم حلالا أو أحل حراما) ، قالوا: وهذا قد أحل حراما، فإن مال المسلم محرم، وهذا الصلح قد أحله، والجواب عند جمهور العلماء عما ذكره الشافعية هو كالتالي:


أما قولهم إنه عاوض على ما لم يثبت له، فالجواب: أنه عاوض على شيء قد ثبت عنده، فهو يعلم أن الحق له، وقد ادعى ذلك، وهو يعتقد أن الحق له، ولذلك عاوض عنه، هذا في جهة المدعي، أما في جهة المدعى عليه فإنه قد دفع ما دفع قطعا للخصومة وإبراء للذمة وتركا لليمين التي يطالب بها، فلم يكن في ذلك شيء مما ذكره الشافعية، وأما قوله - صلى الله عليه وسلم -: (إلا صلحا حرم حلالا أو أحل حراما) فمراد النبي - صلى الله عليه وسلم - بهذا اللفظ الصلح الذي يتوصل به إلى تحليل الحرام، فهو ما زال محرما، ومع ذلك فإن هذا الصلح يتوصل به إلى تحليله، فهذا الصلح محرم وممنوع، كأن يتوصل بالصلح إلى حل الربا أو تعبيد الحر أو تحليل البضع ونحو ذلك، وعليه فما ذهب إليه جمهور العلماء من الأحناف والمالكية والحنابلة هو القول الراجح في هذه المسالة خلافا لمذهب الشافعية.

قوله [ومن ادعى عليه بعين أو دين فسكت أو أنكر وهو يجهله ثم صالح عليه بمال صح]
قوله (بعين) كأن يعدي عليه أن هذه الدار التي بيده ليست له، وإنما لفلان، وقوله (دين) كأن يدعي عليه إنسان أن له عليه ألف ردهم ونحو ذلك، أو يدعي عليه أن اشترى سلعة بثمن مؤجل إلى شهر ولم يدفع الثمن بعد، وقوله (فسكت) أي ولم يقر، فهو صلح على عدم إقرار سواء كان على إنكار أو سكوت، والسكوت بمعنى الإنكار فإنه لم يقر به، وقوله (وهو يجهله) أي يجهل ثبوت هذا الشيء، فهو يظن أنه لا يثبت، وقوله (ثم صالح عليه بمال صح) فإذا صالح بمال كأن يقول هذه الدار التي ادعيت أنها لك أصالحك عليها بمائة ألف ريال، أو أصالحك بأن أعطيك بعضها فهذا يصح، وهو الصلح على الإنكار وتقدم دليله، وأن هذا القول هو مذهب جمهور العلماء.

قوله [وهو للمدعي بيع يرد معيبه ويفسخ الصلح ويؤخذ منه بشفعة، وللآخر إبراء فلا رد ولا شفعة]
هنا مسألة: وهي هل الصلح على الإنكار بيع أم لا؟


أي هل هو بيع فتثبت فيه أحكام البيع، أم ليس بيعا فلا تترتب عليه أحكام البيع؟
المسألة ذات جهتين:
1- الجهة الأولى: جهة المصالح - بكسر اللام - وهو المدعى عليه.
2- الجهة الثانية: جهة المصالح - بفتح اللام - وهو المدعي.
أما المدعى عليه فليس الصلح في حقه بيعا، وإنما دفعه إبراء للذمة، وليس فيه معاوضة.
أما في حق المدعي فإنها معاوضة، لأنه يعتقد أن هذه الدار له، فعاوض عنها بكذا من الدراهم، فكأن هذا بيعا في حقه، لكن يستثنى من ذلك ما إذا كان الصلح على شيء من هذه الذي يثبت الادعاء فيه، فإن هذا يكون استرجاعا لا معاوضة، ففي المثال المتقدم ذكر وهو مثال الدار، فإذا قال: أصالحك على أن أعطيك جزءا منها فأعطاه الجزء، فلا يكون معاوضة في حق المدعي وذلك لأن الأمر لا يعدو أن يكون استرجاعا للحق، فهو يعتقد أن الدار له، وقد استرجع بعضها فلا يكون هذا فيه معنى المعاوضة، وإنما تكون المعاوضة حيث كان ما وقع عليه الصلح فيه شيئا آخر سوى هذه العين التي اختلف عليها.
إذا ثبت هذا فإن الصلح في حق المدعي يترتب عليه أحكام البيع، وأما الآخر فلا تترتب عليه أحكام البيع، وعليه فإذا وجد المدعي عيبا فله أخذه مع الأرش على القول به كالبيع، وله أن يفسخ الصلح كالبيع، ويتثبت فيه الشفعة، وسيأتي الكلام عليها، وأما المدعى عليه فالصلح في حقه إبراء.

قوله [وإن كذب أحدهما لم يصح في حقه باطنا وما أخذه حرام]
إذا كان أحدهما كاذبا في الدعوى، سواء كذب في الدعوى أو كذب في الإنكار فلا يجوز له ما أخذه، فالمدعى عليه إذا كان كاذبا وسكت أو أنكر فبقي له شيء من هذه الدار فلا يحل له هذا البعض وهو يعلم كذب نفسه، وكذلك المدعي لو ادعى على شخص شيئا وهو يعلم كذب نفسه فأخذ مالا مصالحة فما أخذه يعتبر حراما، وهو في حكم الغصب، وهو من أكل أموال الناس بالباطل.

قوله [ولا يصح بعوض عن سرقة وقذف]


رجل ثبت عليه السرقة أو ثبت عليه حد القذف فهل يجوز الصلح فيه؟
الجواب: لا يجوز الصلح فيه، وذلك لأنه حق لا يعتاض عليه، فليس من الحقوق التي يؤخذ عليها العوض، فمثلا: إذا ثبت قذف رجل لآخر، فقال المقذوف أصالحه على كذا من المال، أو قال المسروق منه أصالحه على كذا من المال، فهذا لا يجوز ولا يصح الصلح فيه.
وأما القصاص والقود فيصح الصلح فيه وذلك لأنه حق يعتاض عليه في الدية، فإذا ثبت القصاص ولم يرض أولياء المقتول بالدية فلأولياء القاتل أو للقاتل أن يعرضوا عليهم أكثر من الدية ولو كان ذلك أضعافا مضاعفة، وذلك لأن القصاص حق يعتاض عنه.

قوله [ولا حق شفعة]
حق الشفعة لا يحوز فيه الصلح، مثال هذا: ارض فيها شراكة، فباع أحد الشركاء نصيبه من الأرض المشترك فيها، فتثبت الشفعة للطرف الآخر، فله الحق أن يشتري هذا الجزء المباع على ما سيأتي تفصيله في باب الشفعة، فحق الشفعة ثابت للشريك، فهل يجوز لهذا الشريك أن يعتاض عن حق الشفعة بمال؟
الجواب: لا يجوز ذلك، قالوا: لأن الشفعة إنما شرعت لدفع ضرر الشريك ولم تشرع للاستفادة المالية، قالوا: وكذلك الخيار فليس له أن يبيع حقه من الخيار، كأن يكون الخيار بينهما مدة شهر، فيقول أسقط حق الخيار بكذا وكذا، قالوا: كذلك لا يجوز هذا، وذلك لأن الخيار إنما شرع لأن يختار ما هو أحظ له، لا ليستفيد منه استفادة مالية، وهذا هو المشهور من مذهب الحنابلة، والقول الثاني: أن ذلك جائز لأنها معاملة والأصل في المعاملات الحل، وكون الشارع لم يشرعه إلا لدفع الضرر لا يعني هذا أن الاستفادة المالية لا تجوز، وهو حق له، وقد اختار لنفسه احتمال الضرر من الشريك ورضي بذلك مقابل المال فلم يمنع من ذلك، وهذا القول هو اختيار الشيخ عبد الرحمن بن سعدي، وهو الراجح.

قوله [وترك شهادة]


لا يجوز الصلح على ترك الشهادة، سواء كانت شهادة حق أم شهادة باطل، مثال شهادة الحق: قال به أصالحك على ألا تشهد علي، وهي شهادة حق فيها إثبات حق مالي عليه، أو فيها إثبات قصاص أو نحو ذلك، فهذا محرم، لأنه كتمان للشهادة، وقد حرم الله كتمانها، وإذا كانت الشهادة بالباطل فلا يجوز الصلح عليها، لأنه يكون قد أكل مال أخيه بالباطل، مثاله: إذا قال: أصالحك على ألا تشهد علي، وكان هذا الشاهد يريد أن يشهد عليه شهادة زور، فقال: لا تشهد علي وأعطيك كذا وكذا صلحا، فهذا لا يجوز، وذلك لأن الشاهد يأكل المال بالباطل، ولا يظهر هنا أن هذا محرم، مع حرمة ذلك على الشاهد، وذلك لأن فيه دفعا للضرر عن نفسه.

قوله [وتسقط الشفعة والحد]
بيان هذا، إذا قال له: أسقط حق الشفعة ولك كذا وكذا، أو قال الشريك أصالحك على ألا شفعة لي وأعطني كذا وكذا من المال، فهذا الصلح محرم كما تقدم، وهل تبقى الشفعة، قالوا: لا، بل تسقط عنه الشفعة، فليس له بعد هذا الصلح المحرم حق في الشفعة، والعوض الذي أخذه يرده على صاحبه، أما سقوط الشفعة فلأنه رضي بإسقاط الشفعة بهذا المال الذي عرض عليه، وأما رد العوض فلأنه صلح باطل، والقول الثاني في المسألة في مذهب الحنابلة أن الشفعة لا تسقط، وهذا القول هو الراجح، وذلك لأنه إنما رضي بإسقاط الشفعة مقابل هذا المال، فإذا ثبت أنه لا حق له في هذا المال، على القول بذلك فحينئذ ينتفي رضاه، فهو إنما رضي بشرط العوض، وحيث لا عوض فلا رضى، وحيث لا رضى فالشفعة لا تسقط، وعلى القول بصحة الصلح في الشفعة وهو الراجح كما تقدم فلا إشكال في هذه المسألة.


قالوا: وإذا ثبت الصلح في حد السرقة أو قذف فإن الحد يسقط ويرد العوض على صاحبه، أما سقوط الحد فلأنه رضي بإسقاطه، وأما رد العوض فلأن الصلح باطل، والجواب أن يقال: إنه إنما رضي بإسقاطه حيث ثبت العوض وأما إن لم يثبت العوض فلا رضا، وهذا على القول بأن الحد حق للآدمي كحد القذف، والصواب أنه حق لله تعالى وللآدمي، فلا يسقط بإسقاط الآدمي له، فإذا أسقط المقذوف حقه فإن الحد لا يسقط لبقاء حق الله عز وجل، وسيأتي الكلام عليه إن شاء الله في باب الحدود، وعلى هذا فالصحيح أن الشفعة يثبت فيها الصلح، وأن الحدود إن كان يعتاض عنها كحد القصاص فإن الصلح يثبت فيها، وأما إن كانت لا يعتاض عنها كحد القذف وحد السرقة فلا صلح فيها كما سبق بيانه.
* واعلم أن صلح الأجنبي عن المنكر صحيح سواء كان بإذن المنكر أو بدون إذنه، مثال هذا: ادعى زيد على عمرو أن الدار التي بيد عمرو له، فصالح أجنبي وهو بكر، صالح زيدا على كذا وكذا من المال، مقابل ترد هذه الدعوى وقطع هذه الخصومة عن عمرو، فإن هذا الصلح جائز سواء أذن بذلك المدعى عليه أو لم يأذن، وقد تقدم فيما مضى ما إذا صالح المدعى عليه عن نفسه، وإذا صالح الأجنبي عنه فإن هذا جائز سواء أذن بذلك المدعى عليه أم لم يأذن، وذلك لأن الصلح فيه إبراء للذمة وقطع للخصومة فأشبه قضاء الدين عنه، وتقدم أن قضاء الدين عنه جائز أن أم لم يأذن.
** وهل يرجع عليه أم لا؟
الجواب فيه تفصيل:
- إذا أذن له المدعى عليه بالمصالحة عنه، ولم ينو هذا الأجنبي التبرع بل نوى الرجوع، فإنه يرجع عليه فيأخذ حقه ويكون كالوكيل.


- وأما إذا لم يؤذن له بذلك وتصرف من غير إذن فإنه لا يرجع مطلقا سواء نوى التبرع أم لم ينوه، لأن هذا الصلح غير لازم للمنكر فإنه يمكنه أن يدفع هذه الخصومة باليمين فلم يكن هذا الصلح لازما في حقه، فحينئذ لا يلزمه أن يعطي الأجنبي ما دفعه من المال في هذا الصلح، لأنه قد تصرف عنه بما لا يلزمه، فلا يجب عليه كما تقدم في مسألة شبيهة بهذه.

قوله [وإن حصل غصن شجرته في هواء غيره أو قراره أزاله]
هنا في أحكام الجوار وهي داخلة في مسائل الصلح، لأن الصلح يجوز في مسائل منها يأتي ذكرها إن شاء الله، أو أن يكون هذا من باب ذكر الشيء مع ما يناسبه.
فإذا حصل غصن شجرته في هواء غيره أو قراره أزاله، لأن مالك القرار مالك للهواء، فمن ملك أرضا فإنه يملك هواءها، وتقدم هذا في باب بيع الأصول والثمار، فإذا غرس جاره شجرة في ملك نفسه فخرجت أغصانها إلى قرار أرض جاره أو هوائها وطالبه الجار بإزالة ذلك فإنه يجب عليه أن يزيلها، ولذا قال المؤلف هنا (أزاله) ، هذا إذا كان يطلب منه ذلك، وهل يجبر على هذا أم لا؟
قولان في المذهب:
القول الأول: وهو المشهور من المذهب أنه لا يجبر، قالوا: لأنه هذا ليس من فعله.
القول الثاني: وهو الراجح أنه يجبر على هذا، لأنه وإن لم يكن من فعله فهو من فعل ملكه، وهذا الشجر في ملكه، والشجر غير مكلف فكان التكليف لاحقا للمالك، فعليه أن يزيله، فإن أجبره الحاكم فلم يفعل فترتب ضرر بعد مطالبة الجار فإنه حينئذ يضمن لأنه قد تعدى والمتعدي ضامن.

قوله [فإن أبى لواه إن أمكن وإلا قطعه]


فإن أبى أن يزيله فإنه يلويه، أي يلوي الجار الغصن الذي خرج على أرضه، يلويه إن أمكن ذلك، وإن لم يمكن فله أن يقطعه وليس له أن يقطعه مع إمكان ليه، فإن قطعه مع إمكان ليه فإنه يضمن لأنه متعدي والمتعدي ضامن، إذن يلويه فإن لم يمكنه فإنه يقطعه ولا ضمان عليه حينئذ للحوق الضرر به، وكان هذا كالصائل الذي لا يدفع إلا بالقتل.
كذلك عروق الشجر إذا دخلت في أرضه فكذلك لأن الشخص يملك الأرض وقرارها، ولا يجوز لصاحب الملك أن يضع في ملكه ما يتضرر به جاره، كأن يغرس فيه أثلا أو أن يضع فيه تنورا، أو يضع فيه حماما فيه بخار بحيث يلحق الجار ضرر، فهذا لا يجوز لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (لا ضرر ولا ضرار) [حم 2862، جه 2340] فهو يتصرف في ملكه بما شاء في حدود ما أباحه الله، لكن ليس له أن يفعل في ملكه ما يكون فيه ضرر على جاره.

قوله [ويجوز في الدرب النفاذ فتح الأبواب للاستطراق]
الدرب النافذ هو الذي ثبتت فيه الملكية العامة وليست خاصة، فله أن يفتح عليه الأبواب للاستطراق أي لتكون طريقا، فهذا جائز ولا خلاف فيه جوازه، لأن هذا لا يضر بالمجتازين والحاجة داعية إليه، وما زال المسلمون يفعلونه قديما وحديثا من غير نكير.

قوله [لا إخراج روشن وساباط]


الروشن: كان موجودا قديما ويوجد أيضا في البيوت المسلحة، وهو أن يضع شيئا من الأخشاب ونحوها فتمتد إلى الخارج ثم يبني عليه ما يقارب المتر أو المترين ونحوه، أما الساباط فهو أن تمتد الأخشاب حتى تصل إلى الجدار المقابل سواء كان جداره أو جدار غيره ثم يبني عليه، فلا يجوز أن يضع الروشن والساباط، قالوا: لأن الهواء ملك لغيره، فإذا بناه فقد بناه على ملك غيره، ولأنه قد يضر بالمجتازين بالسقوط، فقد يسقط، ولأنه - لاسيما الساباط - يسد الهواء، ويمنع دخول الضوء، قالوا: فلا يجوز إلا بإذن السلطان، فإذا أذن فإنه يجوز ذلك، لأن السلطان نائب المسلمين، وهو حق للمسلمين، فإذا أذن فيه السلطان وهو نائبهم جاز، وعن الإمام أحمد وهو مذهب جمهور العلماء أن ذلك جائز حيث لا ضرر، وأما المذهب فإنهم يمنعون منه مطلقا سواء كان فيه ضرر أم لم يكن، قال الجمهور: يجوز ذلك إذا لم يكن فيه ضرر، لأن الطريق يسلكه المارة ويجلسون فيه، فكذلك يجوز هذا، واجب الحنابلة بأن المشي في الطريق إنما وضع الطريق له، لم يمنع منه، ولأن الجلوس في الطرقات لا يدوم ولا يمكن التحرز منه بخلاف هذا، وما ذهب إليه الحنابلة أظهر وأنه يحتاج إلى إذن السلطان، وذلك لأن هذا الهواء ملك عام للمسلمين فاحتيج إلى إذنهم، والسلطان هو نائبهم، وبناءه بغير إذن تصرف في ملك الغير، ولأنه قد يقع فيه ضرر، ولا شك أن فتحه من غير إذن السلطان قد يترتب عليه مفاسد كثيرة، فالصحيح ما ذهب إليه الحنابلة.

قوله [ودكة]


الدكة هي المكان المرتفع يبنى عند الدار ويجلس عليه، وهذا لا يجوز، ولا خلاف بين أهل العلم في أنه لا يجوز، كما قال ذلك الموفق، فلا يجوز هذا سواء كان الطريق واسعا أو ضيقا لأنه تصرف في الملكية العامة، وأما إذا أذن السلطان فإنه يجوز لأنه نائب المسلمين، ولا ينبغي للسلطان أن يأذن إلا إذا لم يكن هناك ضرر بالمارة، بل إذا ثبت ذلك فإنه لا يجوز ولو أذن السلطان لحديث: (لا ضرر ولا ضرار)

قوله [ولا ميزاب]
لا يجوز أن يوضع الميزاب، بحيث يصب في الطريق، وهذا هو المشهور من المذهب، قالوا: لأنه يزلق الطريق، ولأنه قد يؤذي المارة فيصب عليهم، وعليه فيحتاج إلى إذن من السلطان، والقول الثاني في المسألة وهو مذهب جمهور العلماء وهو اختيار شيخ الإسلام وتلميذه ابن القيم أن ذلك جائز، قالوا: لأن الحاجة داعية إلى وضعه لأنه يدفع الضرر عن البيت، وعادة الناس جارية على وضعه قديما وحديثا ولا نكير فيه، وكونه يزلق ويؤذي المارة فإن هذا ضرر ضعيف بالنسبة إلى الضرر الذي يقع في بيوت الناس، وكون الزلق في الطريق هذا يقع مع الأمطار ومع سيل الماء من البيوت وهذا يقع غالبا، فيكون حدوث هذا في ضمن حدوث غيره، فالذي يظهر أنه لا يحتاج إلى إذن من السلطان لأن الحاجة داعية إليه، والعادة جارية به.

قوله [ولا يفعل ذلك في ملك جاره ودرب مشترك بلا إذن المستحق]
فليس له أن يضع في هواء جاره روشنا ولا ساباطا ولا ميزابا ولا دكة ولا غير ذلك، وذلك لأنه تصرف في ملك الغير بدون إذنه فلم يحل، كذلك الدرب المشترك لا يحل له أن يفعل فيه مثل هذا، بل يتوقف هذا على إذن المشارك لأن فيه ملكية للغير فاحتيج منه إلى الإذن، فإن أذن فهذا جائز.

قوله [وليس له وضع خشبة على حائط جاره إلا عند الضرورة إذا لم يمكنه التسقيف إلا به وكذلك المسجد وغيره]
يجوز له أن يضع خشبة على حائط جاره بشرطين:


الأول: ألا يكون في ذلك ضرر على الجار، لحديث: (لا ضرر ولا ضرار)
الثاني: أن تكون هناك ضرورة لذلك، أما إذا كانت حاجة فلا، فإذا كان يمكنه أن يضع الخشب على غير جدار جاره كأن ينصب خشبا فيضعها عليه أو أن يضع جدارا آخر فإنه ليس له أن يفعل ذلك - هذا هو كلام المؤلف - وكذلك المسجد وغيره كالوقف من باب أولى، لأنه إذا ثبت في حق الآدمي المبني حقه على المشاحة ففي حق الله المبني على المسامحة أولى، ودليل هذه المسألة قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (لا يمنعن جار جاره أن يغرز خشبه على جداره) متفق عليه من حديث أبي هريرة [خ 2463، م 1609] وظاهر الحديث عدم اشتراط الضرورة، فالحديث عام في الضرورة وغيرها، وهو قول ابن عقيل من الحنابلة، وأن الجار له أن يغرز خشبه على جدار جاره حيث لا ضرر على الجار، وإن لم تكن هناك ضرورة، وهذا القول هو الموافق لظاهر حديث النبي - صلى الله عليه وسلم - فالصحيح أنه لا يشترط الضرورة، بل ذلك جائز حيث لا ضرر لعموم الحديث، وقال جمهور العلماء: لا بد من الإذن، وحملوا الحديث على الكراهية، وأن له أن يمنع لكن يكره له المنع، وهذا يخالف ظاهر قول النبي - صلى الله عليه وسلم -، فإن ظاهر قوله التحريم، قال الجمهور: ليس له أن يضع خشبه على جدار جاره عند الضرورة مع عدم الضرر إلا بإذن الجار، واستدلوا بالأحاديث العامة في أنه لا يحل مال امريء مسلم إلا بطيب نفس منه [حم 20172] والجواب: أن هذا الحديث عام، والحديث الذي استدل به الحنابلة خاص، فيخصص عموم هذا بهذا، إذن له أن يغرز الخشبة في جدار جاره من غير إن حيث لا ضرر سواء أكانت هناك ضرورة أم لم تكن.

قوله [وإذا انهدم جدارهما أو خيف ضرره فطلب أحدهما أن يعمره الآخر معه أجبر عليه]


إذا انهدم جدارهما المشترك، أو خيف ضرره أي خيف أن يسقط كأن يظهر فيه انهدام أو شيء من الاعوجاج ونحو ذلك، فطلب أحدهما من الآخر أن يعمره معه فإنه يجبر على ذلك، وهذا هو المشهور من المذهب وهو اختيار شيخ الإسلام رحمه الله، وقال الأحناف والشافعية لا يجبر على ذلك، أما دليل أهل القول الأول فهو حديث: (لا ضرر ولا ضرار) وانهدامه يضر بالجار، واستدل أهل القول الثاني بعلة وهي أن هذا الجار الذي لم يشأ أن يبني جداره لا يلزمه أن يبنيه، والجدار لا حرمة له، فلم يجب عليه أن ينفق عليه، فالنفقة غير واجبة في بنائه وإصلاحه ونحو ذلك، وما ذكروه صحيح حيث كان الجدار له وحده، أما وله مشارك فلا يظهر تعليلهم، وعليه فالراجح هو القول الأول، ويؤيده ما سبق ذكره في الرهن وأنه يلزم بالنفقة على الرهن حيث كان هناك ضرر على الآخر، وهنا كذلك.

قوله [وكذا النهر والدولاب والقناة]
كذلك النهر إذا احتاج إلى إصلاح فإن كل من يستفيد من هذا النهر فإنه يلزم بهذا الإصلاح، وهذا يتضح في الأنهار التي تحتاج إلى إصلاح وتعمير وحفر، وذلك لأنه شيء مشترك فأشبه المسألة المتقدمة، فإن الحقوق متعلقة به، بخلاف ما لو كان منفردا، كذلك الدولاب، وهو الذي تديره الدابة للسقي بمعنى: يكون في البئر أو عند النهر فتديره الدواب فيسقي منه الناس، فالدولاب إذا احتاج إلى إصلاح فكذلك كما يكون في الجدار، وكذلك القناة، وهي ما يشق من النهر مما يكون مجرى للماء، أي يجري إلى بعض مزارع الناس أو إلى بيوتهم، فكذلك إذا احتاج إلى إصلاح فإنه يجبر الآخرون، لأنه حق مشترك، لحديث: (لا ضرر ولا ضرار) .


ومن هذا الحديث يؤخذ أن الجار إذا كان منزله عاليا فإنه يؤمر بوضع سترة تمنعه من الإشراف على جيرانه، وأما إن كانت البيوت متساوية في العلو ويشرف بعضها على بعض فإن السترة يشترك فيها، وذلك لما تقدم في الجدار المشترك، فهنا ما دام أن البيوت متساوية فإن السترة يشترك فيها، فإذا أراد بعض الجيران عمل سترة فإن له أن يطالب بقية الجيران بوضع السترة لأنه حق مشترك.
* مسألة:
هل يجوز أن يقول الجار لجاره: آذن لك أن تجعل الأغصان تمتد، ولكن آخذ منك جزءا من ثمرها أو آخذ منك كذا وكذا من الدراهم؟
الجواب: هذا جائز، فإن قيل: امتداد الأغصان مجهور، فأصبح المصالح عنه مجهولا فلا يجوز، فالجواب: أن هذا المصالح عنه مجهول لا يمكن العلم به، فأشبه الإرث الدارس، وحيث كان المصالح عنه مجهولا يحتاج إليه ولا يمكن معرفته فإن الصلح جائز كما تقدم في مسألة شبيهة بهذه، وفي المسألة قولان في المذهب، فالمشهور من المذهب المنع منه لأن المصالح عنه مجهول، والقول الثاني أنه جائز، قال الموفق: " واللائق في مذهب أحمد صحته " ا. هـ.

باب الحجر

الحجر لغة: المنع، وفي اصطلاح الفقهاء: منع الإنسان من التصرف في ماله، والحجر نوعان:
1- حجر لحظ النفس، كالحجر على الصبي في ماله.
2- حجر لحظ الغير، كالحجر على المفلس.
وقد روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: (أنه حجر على معاذ في ماله وباعه في دين كان عليه) [هق 6 / 48، قط 4 / 230] وعليه العمل، وله شاهد عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - من فعله، رواه مالك في موطئه أنه حجر على رجل من جهينة [ك 1501، كتاب الأقضية] والعمل على هذا عند أهل العلم، وفيه حفظ للحقوق، فالحجر على الغير فيه حفظ لحقوق الغير من الضياع، فالحجر على المفلس فيه حفظ لحقوق الدائنين من الضياع، كما أن في ذلك إبراء للذمة من هذا الدين، والحجر لحظ النفس فيه حفظ لمال المحجور عليه من الضياع.


قوله [ومن لم يقدر على وفاء شيء من دينه لم يطالب به وحرم حبسه]
مثاله: رجل مدين سواء كان عن قرض أو عن ثمن مبيع أو نحو ذلك، ففي ذمته ديون لا يقدر على وفائها فهو معسر، فتحرم مطالبته بالدين لإعساره ويحرم حبسه، ودليل ذلك قول الله تعالى {وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة} فأوجب الله إنظاره فحرمت المطالبة وحرم حبسه، ولما ثبت في مسلم من حديث أبي سعيد الخدري: (أن رجلا أصيب في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - في ثمار ابتاعها فأفلس، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - تصدقوا عليه، فتصدق الناس عليه، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - لغرمائه: خذوا ما وجدتم وليس لكم إلا ذلك) [م 1556] فدل على أنهم ليس لهم مطالبته وأنه ليس للحاكم أن يحبسه، ولقول النبي - صلى الله عليه وسلم - فيما رواه أبو داود والنسائي والحديث حسن: (لي الواجد يحل عرضه وعقوبته) [ن 4689، د 3628، جه 2427] أي مماطلة الغني تحل عرضه أي أن يقال: مطلني، وتحل عقوبته: أي الحبس، قال ذلك سفيان بن عيينة كما في صحيح البخاري قال:" عرضه أن يقول: مطلني، وعقوبته: الحبس " [خ كتاب في الاستقراض وأداء الديون والحجر والتفليس] ، ومفهوم هذا الحديث أن غير الواجد لا يحل عرضه ولا عقوبته، فعليه: من لم يقدر على وفاء شيء من دينه لم يطالب به، وحرم حبسه، وأما إن كان معروفا بالغنى أو كان قد اشترى شيئا عن عوض، كأن يشتري سلعة بثمن مؤجل، ثم ادعى الإعسار، فإنه يحتاج إلى بينة تثبت إعساره، لأن الأصل بقاء هذا المبيع الذي قد اشتراه بثمن، والأصل أيضا بقاء غناه، فهو معروف بالغنى، فإذا ادعى الإعسار لم يقبل ذلك إلا أن يأتي ببينة، فإن لم يأت ببينة فإنه يحبس، لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (لي الواجد يحل عرضه وعقوبته) ، والمشهور في مذهب الإمام أحمد أن البينة على الإعسار أن يشهد شاهدان، فإن شهد اثنان على أنه معسر فإن ذلك


يكفي، وعن الإمام أحمد وهو مذهب بعض الحنابلة وبعض الشافعية وهو اختيار ابن القيم أنه لا يكفي لإثبات إعساره إلا ثلاثة، فإذا شهد ثلاثة ممن يخبر حاله على أنه معسر فإن الإعسار يثبت، ودليل هذا ما ثبت في مسلم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (ورجل أصابته فاقة حتى يقول ثلاثة من ذوي الحجى من قومه لقد أصابت فلانا فاقة فحلت له المسألة حتى يصيب قواما من عيش) [م 1044] ، فإذا كان هذا في المسألة وفي جواز إعطاء الزكاة، فأولى من ذلك ما يسقط به أداء الدين، فلا شك أن الاحتياط في قضاء حقوق الناس أولى من المسألة ومن إعطائه شيئا من الزكاة، وهذا القول هو الراجح، وأن البينة المثبتة للإعسار يشترط أن يكون ثلاثة ممن يخبر حاله.

قوله [ومن له مال قدر دينه لم يحجر عليه وأمر بوفائه]
من ماله قدر دينه فإنه لا يحجر عليه، إذ لا فائدة من الحجر، فالمقصود من الحجر حفظ حقوق الناس، وحيث إن ماله قدر دينه فلا فائدة من الحجر، وفي بعض الشروح:" ومن له قدرة على وفاء دينه "، فلا يحجر عليه إذا لا فائدة من الحجر وهو قادر، لكن يؤمر بالوفاء وذلك لأن مطله ظلم، والواجب على الحاكم أن يمنع الظلم والمماطلة.


واعلم أن المفلس الذي يحجر عليه عند الفقهاء كما هو المشهور عندهم هو من دينه أكثر من ماله، وعليه فإذا كان دينه قدر ماله فإنه لا يحجر عليه، وقد تقدم أن في بعض النسخ كما في بعض النسخ من الروض:" ومن له قدرة "، هذا هو المشهور في مذهب الفقهاء، وفي هذا نظر، فإن العلة التي يحجر بها على من كان دينه أكثر من ماله هي تعلق حقوق الغرماء ذوي الديون الحالة، وهذه العلة ثابتة أيضا فيما إذا كان ماله قدر دينه، ولذا قال بعض الحنابلة:" وكذلك إذا كان قدره ولا كسب له وليس له ما ينفق على نفسه سواه "، وهو كما قال لما تقدم، والأحكام تدور مع عللها وجودا وعدما، فحقوق الغرماء متعلقة بماله حيث كان دينه قدر ماله كأن تكون عنده حلي تساوي عشرة آلاف، وعليه دين يساوي عشرة آلاف، وليس له طريق يتكسب به، فنفقته من هذه الحلي أن يبيعها، فإنه يحجر عليه، أما إذا كان له كسب آخر يأكل منه وينفق منه على نفسه، أو كانت له صنعة ينفق على نفسه منها فإنه كما قال الفقهاء، إذن إذا كان لا مال له سوى هذا المال الذي تعلقت به ديون الناس فإنه يحجر عليه، وعلى هذا فالراجح هو ما ذكره بعض الحنابلة من أن المفلس من كان دينه أكثر من ماله، أو قدر ماله ولا كسب له سواه.
* وهل للغريم أن يمنع مدينه من السفر أم لا؟
وبعبارة أخرى: هل لا بد أن يستأذن المدين الدائن عندما يريد السفر؟
المسألة فيها تفصيل:
الحالة الأولى: أن يكون قدومه من سفره قبل حلول الأجل المتفق عليه، فهنا ليس للدائن أن يمنع المدين من السفر، إلا أن يكون السفر سفرا غير آمن كسفر الجهاد ونحوه فله أن يمنعه، إلا أن يقيم ضمينا أو رهنا.
الحالة الثانية: أن يكون قدومه بعد حلول الأجل، فهنا يشترط الاستئذان لتعلق حق الغريم، إلا أن يقيم رهنا أو ضمينا.

قوله [فإن أبى حبس بطلب ربه]
فإذا أبى الوفاء فإنه يحبس بطلب رب المال فإنه حقه.


قوله [فإن أصر ولم يبع ماله باعه الحاكم وقضاه]
إذا أصر وأبى أن يقضي صاحب الحق حقه فحينئذ يباع ماله عليه ويعطى صاحب الحق حقه، لأن هذا من منع الظلم ومنع الظلم واجب، ودليل حبسه حديث: (لي الواجد يحل عرضه وعقوبته) وهذا لي منه، ولأنه كما قال صاحب الإنصاف:" الغالب أن الحقوق لا تستخرج إلا به - أي بالحبس - أو ما هو أشد منه في الأزمنة المتأخرة " ا. هـ وظاهر كلام المؤلف وغيره من الحنابلة أنه يحبس مطلقا ولو عارض ذلك حق آخر، كأن يكون أجيرا فيكون في حبسه تضييع حق مؤجره، أو أن تكون زوجة فيكون في حبسها تضييع لحق زوجها، واختار الشيخ عبد الرحمن بن سعدي أنه إذا عارضه حق آخر فإنه لا يحبس وذلك لأنه يمكن أن يجبر على إعطاء الحق بغير حبس، فكان هذا الإجبار بغير الحبس تحصيل للحقين، فيحصل الزوج حقه من زوجته، ويحصل الدائن حقه من مدينه بغير حبس، وهذا هو الظاهر إن أمكن ذلك، فإذا أمكن أن يحجر على المرأة في بيتها وأن تحبس في بيتها فتمنع من الخروج وكان في استطاعة الزوج منعها من ذلك، وكذلك إذا كان هناك قدرة على حبس الأجير ومنعه من غير أن يحبس في غرفة ونحو ذلك فأمكن حفظ حق الغريم من غير أن يكون هناك حبس وأمكن جبره على إعطاء الحق فإن ذلك هو الأولى.


والحجر لا يثبت إلا بحكم الحاكم، وهذا قول الحنابلة وعليه فله أن يتصرف قبل حجر الحاكم عليه، وإن كان هذا التصرف يضر بغرمائه، فمثلا: رجل مدين، وقد استوفت الديون أمواله، فتصدق بشيء من ماله أو أوقفه أو أهداه أو تصرف فيه بأي شيء من التصرفات التي تضر بالغرماء فصريح كلام الحنابلة أنه ينفذ تصرفه ويصح، وإنما لا ينفذ إذا حكم الحاكم بالحجر عليه، واختار شيخ الإسلام ابن تيمية وهو رواية عن الإمام أحمد وهو اختيار الشيخ عبد الرحمن بن سعدي أن الحجر يثبت قبل حكم الحاكم متى توفرت دواعيه، فإذا توفر داعي الحجر فليس له أن يتصرف ولا تنفذ تصرفاته، فإذا كان الرجل مدينا وكان في تصرفه ضرر على الدائنين فإن هذا التصرف لا ينفذ، وهذا القول هو الراجح، وذلك لما في من حفظ حقوق الناس، فلو أعتق لم ينفذ عتقه، ولو تصدق لم تنفذ صدقته وهكذا سائر الأحكام، وحكم الحاكم بالحجر لا يعدو أن يكون إظهارا لمنعه من التصرف وإلا فهو ممنوع من التصرف قبل ذلك، لأن الأحكام تدور مع عللها وجودا وعدما والعلة ثابتة قبل حكم الحاكم.

قوله [ولا يطلب بمؤجل]
وهذا ظاهر، فإن المؤجل لا يجب أداؤه إلا عند حلوله، فإذا لم يحل فإن أداءه غير واجب، وعليه فلا يطالب به لأنه ليس بواجب.

قوله [ومن ماله لا يفي بما عليه حالا وجب الحجر عليه بسؤال غرمائه أو بعضهم]
لما تقدم من حديث معاذ وأثر عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -، وتقدم أن العمل عليه عند أهل العلم، فمن كان ماله لا يفي بما عليه من الديون الحالة فإنه يحجر عليه، بسؤال غرمائه أو بعضهم، لأنهم أصحاب الحق، وتقدم القول بأنه يحجر عليه قبل حكم الحاكم لتعلق حقوقهم بذلك كما هو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية وغيره.

قوله [ويستحب إظهاره]
أي يستحب إعلان وإظهار ذلك، ليكون تصرف الناس معه على بصيرة، فيظهر ويبين لئلا يغتر به الناس، فيتصرفون معه تصرفا يضر بهم.


قوله [ولا ينفذ تصرفه في ماله بعد الحجر ولا إقراره عليه]
إذا حجر عليه فإنه لا ينفذ تصرفه في ماله، وذلك حق الغريم، فلو أعتق لم ينفذ، ولو وهب أو أوقف وقد حجر عليه فإن هذه التصرفات لا تنفذ، وكذلك لو أقر فإن إقراره يمنع منه وذلك لتعلق حق الغرماء بماله، فيمنع من الإقرار ولا ينفذ إقراره، وظاهر كلامه أن عدم نفوذ تصرفه وإقراره أن ذلك بعد الحجر وأما قبل الحجر فإنه يصح، والصحيح أنه لا يصح لا قبل الحجر - أي حجر الحاكم عليه - ولا بعده، إلا أن الإقرار يصح قبل الحجر إذا أمكن كأن تكون هناك قرائن تدل على ثبوت هذا الإقرار وصحته فإنه يقبل لما فيه من تحصيل حق المقر له، فإذن المشهور من المذهب أن تصرفه بعد الحجر ممنوع والصحيح أنه يمنع من التصرف قبل حكم الحاكم بالحجر وبعده كما تقدم.

قوله [ومن باعه أو أقرضه شيئا بعده رجع فيه إن جهل حجره وإلا فلا]
إذا باع رجل على هذا المفلس شيئا بثمن مؤجل، أو أقرضه شيئا ولم يعلم أنه محجور عليه، فإنه أن يرجع فيأخذ حقه منه، وذلك لأنه معذور بجهله.
فإن قيل: ألا يكون مفرطا لأنه لم يسأل أهو محجور عليه أم لا؟
فالجواب: أن الأصل عدم الحجر، فالأصل هو صحة التصرف ونفوذه.


ومن باعه شيئا قبل الحجر ثم وجد سلعته قائمة بعينها بعد الحجر عليه فهو أحق بها من سائر الغرماء، مثاله: رجل باع رجلا سلعة بثمن مؤجل إلى شهر، وبعد أسبوع أفلس الرجل، وحكم عليه بالحجر، فوجد هذا الرجل سلعته قائمة بعينها لا زيادة فيها ولا نقصان فإنه أحق بها من سائر الغرماء، ودليل ذلك ما ثبت في الصحيحين أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (من أدرك ماله بعينه عند رجل قد أفلس فهو أحق به) [خ 2402، م 1559] هذا إذا لم يكن فيها زيادة ولا نقصان، فإن كان فيها زيادة كأن يكون عبدا فيعلمه الكتابة، أو أن يكون فيها نقص كأن يشتري سلعة فيتصرف فيها تصرفا ينقصها كطعام ونحوه يؤخذ منه شيء يسير، فقد اختلف أهل العلم، هل له الرجوع أم لا حق له في الرجوع فيكون أسوة الغرماء يأخذ قسطه من الدين كما يأخذ سائر الغرماء قسطهم من الدين؟
قولان لأهل العلم:
1- قال الحنابلة لا رجوع له، لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (من أدرك ماله بعينه) وهذا لم يدرك ماله بعينه بل أدركه وفيه زيادة أو نقص.


2- وقال المالكية والشافعية بل يرجع، وحينئذ إن كانت السلعة فيها زيادة فإن هذه الزيادة تقوم ويدفع قيمتها للغرماء، وإن كان فيها نقص فيشارك الغرماء بقدر هذا النقص، كأن تكون السلعة سعرها قبل هذا النقص مائة ألف، وبعد النقص أصبحت تساوي ثمانين ألفا، فيشارك الغرماء بعشرين ألفا، فيكون كما لو كان عليه عشرون ألفا فحسب، والصحيح ما ذهب إليه أهل القول الأول، وذلك لثبوت الزيادة والنقص، ولأن الأصل أنها أصبحت ملك للمدين وكل ملك لهذا المدين فالغرماء فيه أسوة، وهم مشتركون فيه، وهذا خلاف الأصل فتعين البقاء على ما ورد، فهو استثناء فتعين البقاء على ما ورد، ولأنه إذا قبض شيئا من الثمن فهو أسوة الغرماء، فكذلك إذا تغير المبيع بزيادة أو نقص، فلو أنه مثلا باعه سلعة بمائة ألف إلى سنة، وأعطاه مقدما خمسة آلاف ثم أفلس هذا المشتري، وحجر عليه فحينئذ لا رجوع لهذا البائع وإن وجد سلعته قائمة بعينها، لا زيادة فيها ولا نقصان، فكما أنه إذا كان هناك استلام للثمن فلا رجوع فكذلك إذا كان هناك تغير في المبيع بزيادة أو نقص، ودليل أنه إذا استلم شيئا من الثمن فلا رجوع له ما رواه أبو داود أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (أيما رجل باع متاعه فأفلس الذي ابتاعه ولم يقبض الذي باعه من ثمنه شيئا فوجد متاعه بعينه فهو أحق به، وإن مات المشتري فصاحب المتاع أسوة الغرماء) [د 3520] والحديث اختلف في وصله وإرساله، والصواب أنه مرسل، كما رجح هذا أبو داود وغيره، لكن لكل شطر من الحديث شاهد، أما الشطر الأول وهو الذي فيه أنه إذا قبض شيئا من الثمن فلا رجوع له فله شاهد عند الإمام أحمد من حديث الحسن عن أبي هريرة [حم 10415] ، وأما الشطر الثاني الذي فيه أنه إذا مات فإن البائع أسوة الغرماء - وهي مسألة أخرى - فلها شاهد عند ابن ماجة من حديث أبي هريرة [جه 2361] وفيه اليمان بن عدي وهو ضعيف لكن حديثه يصلح أن يكون


شاهدا.
فهذا الحديث فيه مسألتان:
المسألة الأولى: أنه إذا قبض شيئا من الثمن فلا رجوع.
المسألة الثانية: أنه إذا مات المشتري المفلس وانتقل الحق إلى الورثة فلا رجوع بل يكون أسوة الغرماء.

قوله [وإن تصرف في ذمته أو أقر بدين أو جناية توجب قودا أو مالا صح]
تقدم أنه ليس له أن يتصرف في الأموال التي ثبت الحجر عليها، فليس له أن يتصرف فيها، مثاله: عنده مزرعة ودار ودكان ثبت الحجر عليها، فليس له أن يتصرف فيها ببيع أو هبة أو هدية أو نحو ذلك، لأن مقتضى الحجر منعه من ذلك، ولما في ذلك من الإضرار بحقوق الغرماء، فقد تعلقت حقوق الغرماء بهذه الأموال التي قد ثبت الحجر عليها، ومثل ذلك الإقرار، فلا يجوز، فلو قال هذه الدار - التي ثبت الحجر عليها - لفلان فلا يقبل إقراره، وأما هنا فالأموال التي أقر بها أو التي باع بها قد تعلقت في الذمة، فإذا اشترى في الذمة أو اقترض أو أقر أو نحو ذلك فهي تصرفات صحيحة، وذلك لأنه أهل للتصرف، وهو جائز التصرف، وإنما حجر عليه في ماله لا في ذمته، فالحجر ثابت في هذه الأموال التي قد احتيط لحقوق الغرماء بالحجر عليها، وأما ما يكون في الذمة فإنه خارج عن هذا، فه أن يشتري في الذمة وأن يوصي وأن يقترض وغير ذلك، ولا يطالب هذا المقرض ولا هذا الدائن بحقه في هذه الأموال التي ثبت الحجر عليها، وغنما يطالب بعد الحجر وذلك حقوق الغرماء، ولذا قال المؤلف بعد ذلك:

قوله [ويطالب به بعد فك الحجر عنه]
فلا يطالب إلا بعد فك الحجر عنه، لأن هذا الحجر ثابت لحقوق الغرماء، وأما هذا الغريم الذي قد ثبت حقه بعد الحجر فلا حق له في هذه الأموال التي ثبت الحجر عليها.

قوله [ويبيع الحاكم ماله]
فيبيع الحاكم هذه الأموال بالأحظ له، فيبيعها بثمن السوق بأفضل ما يكون، فلا يتعجل البيع بل يحتاط له في البيع، فيبيعها من غير عجلة، لأن العجلة في الغلاب تنقص من ثمنه.


قوله [ويسقم ثمنه بقدر ديون غرمائه]
مثال هذا: عليه من الديون مائتا ألف، والدائنون أربعة، لكل واحد منهم خمسون ألفا، فكل واحد منهم يريد منه الربع أي بنسبه (25 %) ، فإذا بعنا ماله فتحصل نه مائة ألف فلكل واحد منهم (25 %) أي ربع المائة ألف، فكل واحد منهم يأخذ خمسة وعشرين.

قوله [ولا يحل مؤجل بفلس]
إذا أفلس الرجل وثبت الحجر عليه فإن ديونه المؤجلة لا تحل، وذلك لأن التأجيل حق له، فلا يسقط بفلسه، فطالما قد اتفقا على أن الدين لا يحل إلا بعد سنة، أو سنتين ثم أفلس فإن هذا لا يعني أن يحل الدين بفلسه.

قوله [ولا بموت إن وثق الورثة برهن أو كفيل مليء]


إذا مات فلا يحل دينه المؤجل، مثال هذا: اقترض رجل من آخر مائة ألف إلى سنة، ثم توفي بعد يوم أو يومين، فلا يحل هذا الدين بل يبقى مؤجلا كما اتفقوا علبه قبل الموت لكن لا بد أن يوثق برهن أو كفيل مليء، فيقال للورثة: إما أن تعطوه حقه، وإما أن توثقوه برهن أو كفيل مليء حفاظا على حقه من الضياع، لأنه إذا مات من عليه الدين وانتقل ماله إلى الورثة فإن هذا مظنة ضياع الحق، ومظنة المضارة بصاحب الحق فلا بد أن يحتاط له، وقال جمهور العلماء وهو رواية عن الإمام أحمد أن الدين المؤجل يحل بالموت مطلقا، وللدائن أن يمنع التوثيق فيقول أنا أريد حقي ويمنع التوثيق برهن أو كفيل، قالوا: لأن هذا الدين إما أن يتعلق بذمة الميت، وإما أن يتعلق بذمة الورثة، وإما أن يتعلق بعين المال الموروث أي بعين التركة، قالوا: أما تعلقه بذمة الميت فهو ممتنع، لأن ذمته قد خربت بالموت، فالمطالبة متعذرة، ولا يمكن أن يعلق بذمة الورثة لأن الدائن لم يرض بذلك، فتعلقه بذمتهم يحتاج إلى رضى، ويحتاج إلى أن يلتزموا، وهذا لم يثبت فكان ذلك ممتنعا، أما إذا التزموا بذلك ورضي به فهذا شيء آخر، ولكن المقصود أن تقع المسألة من غير هذا، وأما تعلقه بعين المال فهذا ممتنع، لأننا إذا علقناه بعين المال فقلنا مثلا: حقه متعلق بهذه الدار التي ورثها الميت فحينئذ يتضرر الميت ببقاء الدين معلقا به، والميت مرتهن بدينه حتى يقضى عنه، ويتضرر أيضا الدائن بتأخير حقه مع احتمال تلف هذه الأعيان أو التلاعب في هذا المال، فيتحمل الضرر عليه، والورثة لا ينتفعون بذلك لأنهم يمنعون من التصرف بهذه الأعيان لتعلق حق الدائن بها، فلا يتعلق بعين المال، فإذا كان لا يتعلق بذمة الميت ولا بذمة الورثة ولا بعين المال تعين أن يكون حالا غير مؤجل، فالراجح أنه يحل بموت الميت، وهذا هو مذهب جمهور العلماء وهو رواية عن الإمام أحمد.


قوله [وإن ظهر غريم بعد القسمة رجع على الغرماء بقسطه]
وهذا ظاهر، ففي المسألة السابقة: الغرماء أربعة، فثبت غريم خامس، فلا بد وأن يكون له نصيب من القسمة، فيأخذ قسطه، فتعود المسألة حينئذ بعد أن كان لكل واحد منهم الربع يكون لكل واحد منهم الخمس، هذا إذا كان نصيبه كنصيب سائر الغرماء، وهذا كما لو قسمت التركة على ورثة فثبت أن هناك وارث أو هناك وصية فإننا نعود إلى المسألة من جديد فنعطي كل ذي حق حقه.

قوله [ولا يفك حجره إلى الحاكم]
لا يفك حجرا إلى الحاكم، هذا إن بقي عليه حق، وذلك لأن هذا الحجر قد ثبت بحكمه فلم يفك إلا بحكمه، وأما إذا لم يبق عليه شيء فإن الحجر ينفك تلقائيا، بمعنى أنه بمجرد ما يقضي ما عليه من الديون ولا يبقى عليه حقوق فحينئذ يفك عنه الحجر من غير حكم الحاكم، وذلك لزوال موجبه، فإن الموجب للحجر هو تعلق حقوق الغرماء، وقد زال هذا التعلق فحينئذ يزول الحجر من غير حكم الحاكم.
* مسألتان:
المسألة الأولى: هل يلزم المفلس بالتكسب والعمل لقضاء دينه حيث لم تفي أمواله بقضاء ديونه؟
قولان لأهل العلم:
القول الأول: وهو المشهور من المذهب أن المفلس يلزم بذلك حيث كان له قدرة على التكسب والتحرف، فليزم بالعمل ليقضي أصحاب الحقوق حقوقهم.
القول الثاني: وهو مذهب المالكية والشافعية أنه لا يلزم بذلك.


واستدل أصحاب القول الأول بما ثبت في سنن الدارقطني بإسناد صحيح أن النبي - صلى الله عليه وسلم -: (باع حرا قد أفلس في دينه) [قط 3 / 16، هق 6 / 50] أي باع منافعه، وهذا من باب المجاز لامتناع ذلك في الشريعة، وهذا كقوله تعالى {واسأل القرية} أي اسأل أهلها، فقوله (باع حرا) أي باع منافعه، أي أجره، وهذا يدل على أن يعمل ويتكسب ليقضي دينه، ويستدل على ذلك بأن الشريعة قد دلت على وجوب إعطاء صاحب الحق حقه، وإنما عذر المعسر لإعساره، أما وهناك وسيلة لقضاء الدين فإنه لا عذر، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، والوسائل لها أحكام المقاصد، فإعطاء الحق لصاحبه واجب، ووفاء الدين واجب، والتكسب والعمل وسيلة إلى ذلك فهو قادر على هذه الوسيلة فوجبت عليه.
واستدل أصحاب القول الثاني بقول الله تعالى {وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة} والصحيح هو القول الأول لقوة أدلتهم كما تقدم، وأما الآية فالمراد به العاجز عن قضاء دينه من ماله ومن تكسبه، فهو المعسر أما إذا كان قادرا على قضاء الدين بتكسبه فليس بمعسر، فالمعسر هو العاجز عن قضاء الدين، ولا يعتبر معسرا إذا كانت عنده قدر على التكسب.
المسألة الثانية: أنه ينفق على المحجور عليه من ماله بالمعروف، وينفق على من ينفق عليهم ويعولهم بالمعروف أيضا أثناء الحجر، ويترك له بعد الحجر ما ينفق على نفسه وعياله بالمعروف، هذا إذا لم يكن له قدرة على التكسب، وأما إذا كان له قدرة على التكسب والإنفاق على نفسه وعياله فإنه لا يترك له شيء من ذلك، واختلف أهل العلم هل يترك له مسكنه أم لا؟
على قولين:
القول الأول: أنه يترك له مسكن لائق به بالمعروف، وهذا هو المشهور من مذهب الإمام أحمد.
القول الثاني: وهو مذهب المالكية والشافعية أنه يباع عليه ويكترى له.


أما دليل أهل القول الأول من أنه لا يباع عليه مسكنه فقالوا: لأن المسكن من الحاجيات، فأشبه النفقة المتفق عليها، فإن النفقة بالمعروف من الحاجيات، ويمكن أن يعطى من النفقة ما يدفع عنه الجوع ويذهب عنه الظمأ، ومع ذلك يترك له ما يطعمه بالمعروف وكذلك الكسوة، وهي من الحاجيات فكذلك المسكن.
وأما أهل القول الثاني فاستدلوا بحديث النبي - صلى الله عليه وسلم -: (خذوا ما وجدتم وليس لكم إلا ذلك) ، قالوا: فقوله (خذوا ما وجدتم) عام فيدخل فيه المسكن، وأجاب أهل القول الأول عن استدلالهم بهذا الحديث بأنها قضية عين فيحتمل ألا مسكن له، ثم إن قوله (خذوا ما وجدتم) إنما هو فيما تصدق عليه به، فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (تصدقوا) فتصدق الناس، ثم قال: (خذوا ما وجدتم) أي من الصدقات التي تصدق عليه بها.
فالأظهر هو القول الأول، وأنه يترك له ما يسكنه بالمعروف، ولكن هل يستثنى من ذلك ما إذا كان قد استدان فاشترى مسكنا أم لا يستثنى منه؟
استثنى هذا بعض الحنابلة، وقوى الشيخ عبد الرحمن بن سعدي هذا القول، بل قد قوى مذهب المالكية والشافعية، وتقدم أن قول المالكية والشافعية مرجوح في هذه المسألة، ولكن هل ما ذهب إليه بعض الفقهاء من الحنابلة صحيح؟
الجواب: هذا فيه قوة حيث كانت هناك قرينة تدل على أنه كان محتالا مبطلا، وقد اشترى هذا المسكن ثم قال إنه معسر، فهذا قد تلاعب بأموال الناس وأراد أن يصل إليها بالطرق الباطلة، فإذا اشترى السكن مستدينا ثم ادعي الإعسار فإذا كانت هناك قرينة تدل على احتياله فإن الشريعة قد أتت بإبطال الحيل، فحينئذ يعامل بنقيض قصده فيباع بيته ويعطى غرماؤه كل منهم يأخذ قسطه كما تقدم تقريره.

فصل في المحجور عليه لحظه
قوله [ويحجر على السفيه والصغير والمجنون لحظهم]


يحجر على السفيه، وهو البالغ العاقل المكلف لكنه ليس حسن التصرف بالمال، بل عنده تبذير وتلاعب بالمال، فهذا هو السفيه كما تقدم تقريره في شروط البيع، وليس المراد من في عقله شيء من النقص بل المراد من عنده سوء تصرف في المال، ويحجر كذلك على الصغير أي غير البالغ، ويحجر على المجنون أي غير العاقل، وهذا هو النوع الثاني من أنواع الحجر وهو الحجر لحظ النفس، والفرق بين الحجر لحظ النفس والحجر لحظ الغير أن الحجر لحظ النفس عام في عين المال وفي الذمة، فيحجر عليه ولا يتصرف في ماله ولا في ذمته، وأما المحجور عليه لحظ غيره فإن الحجر على المال، وأما الذمة فإنه يتصرف فيها كما تقدم تقريره.

قوله [ومن أعطاهم ماله بيعا أو قرضا رجع بعينه وإن أتلفوه لم يضمنوا]


إذا أعطى شخص أحدا من هؤلاء الثلاثة - السفيه أو المجنون أو الصغير - ماله بيعا أو قرضا رجع بعينه، فإن أدرك ماله فإنه يرجع به، فالبيع غير صحيح، فإذا أدرك ماله وإن كان فيه تغير فإنه يأخذه، وهذا ظاهر لأن البيع عليهم باطل لا يصح، فالمبيع راجع إلى صاحبه، وإن أتلفوها لم يضمنوا، لأنه مفرط حيث عاملهم بالبيع أو القرض سواء علم بالحجر أم لا، لأن الحجر عليهم مظنة الشهرة فلم يعذر فيه بالجهل، فقد فرط حيث لم يتبنه لذلك، وعليه فإذا أتلفوا المال ولو كنوا متعمدين فإنهم لا يضمنوه في أموالهم، وظاهر كلامهم أن هذا عام في هؤلاء ومنهم السفيه، والذي يظهر أن الحجر على السفيه ليس مظنة الشهرة، فهو رجل عاقل مكلف لكن عنده سوء تصرف في المال، فمعرفة الحجر عليه ليس مظنة الشهرة، فالذي يظهر وهو قول لبعض الحنابلة عبر عنه صاحب الإنصاف بقوله:" قيل " أن البائع أو المقرض أو نحوهما إذا جهل أن هذا سفيه فإن السفيه يضمن، لأنه عاقل مكلف قد يسلط على مال غيره من غير تفريط من هذا الغير فكان ضامنا، وأما إذا دخل على بصيرة فهو الذي قد مكنه من التصرف في ماله وإتلافه فلا يضمن.

قوله [ويلزمهم أرش الجناية وضمان مال من لم يدفعه إليهم]
في المسألة السابقة حيث كان التعامل فيه تسليط، أي قد سلطهم على ماله، وأما إذا كان التعامل ليس فيه تسليطا كالعارية والوديعة فإن المعير والمودع لم يسلط المستعير ولا المودع على ماله، بل قد جعله عند هذا عارية، ليستفيد منها ثم يعيدها من غير إفساد لها، وجعل هذه وديعة عنده، فهي أمانة، فإذا وضع وديعة أو عارية عند أحد من هؤلاء الثلاثة فأتلفها فهل يضمن أم لا؟
قولان في المذهب:
القول الأول: أنه لا ضمان، وذلك لأنه لما أعارهم وأودعهم فقد مكنهم من التصرف فيها وإتلافها.


القول الثاني: أنهم يضمنون، وذلك لأنه لم يمكنهم من التصرف فيها، فهو لم يسلطهم عليها، وإنما جعلها أمانة أو عارية وليس في هذا تخويل لهم في التصرف فيها، والذي يظهر هو القول الأول وذلك لأنه بهذا قد سلطهم على ماله ومكنهم منه، وهذا في غير السفيه، فالسفيه مكلف، والحجر إنما يكون في التصرفات المالية، والأمر هنا ليس كذلك، فقد وضعت عنده عارية وهذه أمانة فلا يحل له أن يتصرف فيها، فإذا تصرف فقد اعتدى، فالذي يظهر أن السفيه يضمن مطلقا، حتى لو علم الآخر أنه سفيه محجور عليه، وذلك لأنه لم ينه عن مثل هذا، وإنما نهي أن يتصرف في ماله، وهذا ليس من التصرف في المال، والآخر وهو المودع أو المعير لم ينه عن إيداع السفيه ولا عاريته، إنما نهي عن التعامل معه بالبيع والشراء ونحو ذلك.

قوله [وإن تم لصغير خمس عشرة سنة...... زال حجرهم]
إذا كمل الصغير خمس عشرة سنة فيكون حينئذ بالغا، ودليل ذلك ما ثبت في الصحيحين عن ابن عمر قال: (عرضت على النبي - صلى الله عليه وسلم - يوم أحد وأنا ابن أربع عشرة سنة فلم يجزني - وفي رواية (ولم يرني بلغت) وعرضت عليه يوم الخندق وأنا ابن خمس عشرة سنة فأجازني) [خ 2664، م 1868، حب 11 / 30، برقم 4728، بلفظ (عرضت على النبي - صلى الله عليه وسلم - وأنا بن أربع عشرة سنة فلم يجزني ولم يرني بلغت ... ) ، قط 4 / 115، بنفس لفظ ابن حبان] فهذا يدل على أن من تم له خمس عشرة سنة فهو بالغ، وهذا هو فهم الراوي، والراوي أعلم بما روى، وهذا هو المشهور من مذهب أحمد والشافعي.
وقال مالك: ليس للتكليف سن محددة، بل يعرف ذلك بالاحتلام ونحوه وأما السن فلا، وقال أصحابه إذا بلغ سن سبع عشرة سنة، وقال أبو حنيفة كذلك في الأنثى، وفي الذكر إذا بلغ ثماني عشرة سنة أو تسع عشرة سنة، وهذه الأقوال لا دليل عليها، والراجح هو القول الأول للحديث المتقدم.


قوله [أو نبت حول قبله شعر خشن]
وهو نبات شعر العانة، وهو علامة على البلوغ، ودليل ذلك ما رواه الأربعة بإسناد صحيح عن عطية القرظي قال: (عرضنا على النبي - صلى الله عليه وسلم - - أي اليهود - يوم قريظة فكان من أنبت قتل، ومن لم ينبت خلي سبيله، فكنت ممن لم ينبت فخلي سبيلي) [حم 18299، ت 1584، د 4404، ن 4981، جه 2542] فقد جعل النبي - صلى الله عليه وسلم - نبات الشعر الخشن حول القبل جعله علامة من علامات البلوغ، وذلك لأن الصبي لا قتل كما تقدم في كتاب الجهاد، وهنا لم يقتلوا فدل على أنهم غير بالغين، وشعر العانة يكون خشنا، وأما غير الخشن فإنه قد ينبت في الطفل وغيره.

قوله [أو أنزل]
إجماعا، فإذا أنزل فبالإجماع يثبت له البلوغ، قال تعالى {وإذا بلغ الأطفال منكم الحلم} أي الاحتلام، فهذا دليل من القرآن، وقد أجمع أهل العلم على ذلك وأن من أنزل وإن كان ابن عشر سنين أو أقل أو أكثر فهو بالغ، فالبلوغ يكون في أحد هذه العلامات الثلاث، ولا يشترط اجتماعها، ولا - كما يظن بعض الناس - أنه لا بلوغ إلا إذا تمم خمس عشرة سنة، بل البلوغ يكون بأحد هذه العلامات الثلاثة، وهذه العلامات يشترك فيها الذكور والإناث، إلى أن قال المؤلف
قوله [..... وتزيد الجارية البلوغ بالحيض وإن حملت حكم ببلوغها]
فالحيض علامة على بلوغ المرأة بلا نزاع، وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: (لا يقبل الله صلاة حائض إلا بخمار) [حم 24641، جه 655، د 641، ت 377] فالحائض بالغ، وإن كانت بنت عشر سنين، وكذلك الحمل بلوغ، لأنه لا حمل إلا بماء، ولا ماء إلا بإنزال، فإذا حملت المرأة فهذا دليل على أنها قد أنزلت وأن لها ماء إذ لا حمل إلا بماء كما تقدم.

قوله [أو عقل مجنون ورشد]


إذن إذا تم للصبي خمس عشرة سنة أو نبت شعر عانته أو أنزل أو عقل مجنون، فإذا عاد المجنون إلى علقه ورشدا، أي رشدا جميعا، أي عقل هذا وبلغ هذا وثبت لهما الرشد، لقول الله تعالى {وابتلوا اليتامى حتى إذا بلغوا النكاح فإن آنستم منهم رشدا فادفعوا إليهم أموالهم} فاشترط الرشد مع البلوغ، فإذا بلغ الطف ورشد، وعقل المجنون ورشد فحينئذ يزول حجرهم.

قوله [أو رشد سفيه زال حجرهم]
أي بلغ ولم يرشد ثم رشد، فحينئذ يزول حجرهم، للآية الكريم المتقدمة {فإن آنستم منهم رشدا فادفعوا إليهم أموالهم}
قوله [بلا قضاء]
أي لا يشترط القضاء، فلا يشترط أن يحكم القاضي بأنهم قد رفع عنهم الحجر بل يرتفع عنهم تلقائيا، فلا ينتظر فيهم حكم الحاكم خلافا للإمام مالك، وذلك لإطلاق الآية الكريمة المتقدمة، فإن الله تعالى قال {فإن آنستم منهم رشدا فادفعوا إليهم أموالهم} ولم يقيد الله عز وجل الدفع بحكم الحاكم، بل أمر الأولياء بأن يدفعوا إليهم أموالهم بمجرد ما يزول عنهم الحجر، وأما مالك رحمه الله فإنه اشترط حكم الحاكم وقال: إن معرفة البلوغ والرشد تحتاج إلى اجتهاد، فكان هذا إلى نظر الحاكم، وفيما ذهب إليه رحمه الله نظر، وهو أن يقال: إن معرفة البلوغ والرشد من الأمور المشهور والمعروفة عند الناس، والأولياء الذي خولهم الله حفظ أموال من تحت أيديهم يعرفون مثل هذه الأمور، وثانيا: إن الله تعالى قد خول الأولياء فقال {فإن آنستم} وقال {فادفعوا إليهم} فهي مسؤولية الأولياء لا مسؤولية الحاكم.


أما إذا كان الشخص رشيدا فأصيب بالسفه فحكم الحاكم بحجره لسفهه، فالمشهور من المذهب أن هذا الحجر لا يزول إلا بحكم الحاكم، وذلك لأنه قد ثبت بحكمه فلا يزول إلا بحكمه، وقال أبو الخطاب من الحنابلة بل يزول من غير حكمه لزوال علته، والأول أولى احتياطا للمال أولا، وثانيا: أن هذا الأمر قد يتعجل فيه ويسارع فيه فكان مرجع ذلك إلى الحاكم، ولأنه أيضا قد تحدث له بعض التصرفات المالية وقد حكم الحاكم بالحجر عليه فيقع نزاع وخصومة فيمكن أن يقال: إن الحاكم حكم بالحجر عليه فلا يصح تصرفه، والمتصرف قد بنى تصرفه معه على أنه أصبح رشيدا فيقع النزاع والخصومة بين الناس، فالأولى أنه حيث ثبت بحكم الحاكم فلا يرتفع إلا بحكم الحاكم وهو المشهور في مذهب الحنابلة.

قوله [ولا ينفك الحجر قبل شروطه]
فلا ينفك الحجر عن الصبي حتى يبغ ويرشد، ولا ينفك عن السفيه حتى يرشد، ولا ينفك عن المجنون حتى يعقل ويرشد، فلا ينفك عنهم قبل الشروط، وإن أصبح الصبي شيخا وإن تزوجت المرأة، فإن هذا لا يغير في الحكم شيئا، فلا ينفك الحجر قبل الشروط التي اشترطها الله عز وجل بقوله تعالى {فإن آنستم منهم رشدا فادفعوا إليهم أموالهم}
قوله [والرشد الصلاح في المال]


هذا هو الرشد، قال تعالى {فإن آنستم منهم رشدا فادفعوا إليهم أموالهم} والصلاح في المال ضد الفساد فيه، والفساد هو السفه والتبذير فيما لا فائدة فيه في دين ولا دينا، وأولى منه أن يذره فيما هو حرام من شرب خمر أو غناء أو مجون أو نحو ذلك، وقال الشافعية وهو اختيار ابن عقيل من الحنابلة: الرشد هو الصلاح في المال والصلاح في الدين، وعليه فالفاسق وإن كان رشيدا في تصرفه في ماله فإنه يحجر عليه، قالوا: لأن الفاسق غير ثقة في تصرفه في ماله، والراجح هو القول الأول، وهو أن الفاسق غير محجور عليه، ما دام راشدا في تصرفاته المالية، وذلك لأنه لا تلازم بين الفسق والسفه في المال، فإن الفاسق ثقة في تصرفاته المالية لما في ذلك من حظ نفسه، نعم إذا تصرف في ماله تصرفا يقتضي سفها فهذا يدل على أنه غير راشد في تصرفاته المالية، كأن يتصرف في ماله بمقتضى فسقه تصرفات فيها تبذير في ماله، لكن إن كان راشدا في تصرفاته المالية فلا وجه للحجر عليه، ثم إنهم يقولون إن أعطى ماله وهو عدل رشيد في التصرف في ماله ثم طرأ عليه الفسق فلا يحجر عليه، بخلاف ما إذا طرأ عليه تغير في التصرفات المالية بأن أصبح غير رشيد فإنه يحجر عليه، ففرقوا بينهما، فالراجح ما ذهب إليه الحنابلة من أن الرشد هو الصلاح في المال.

قوله [بأن يتصرف مرارا فلا يغبن غالبا]


وذلك بأن يعطى مالا ويقال له: بع أو اشتر أو غير ذلك مما هو لائق، ثم يكرر هذا مرارا حتى يتبين لنا أنه لا يغبن في الغالب، لكن إن وقع منه غبن أحيانا فلا بأس به، فإن هذا يقع للراشد في تصرفاته فقد يغبن أحيانا، ومرجع ذلك إلى العرف، فإذا كان لا يغبن غالبا فإنه لا يحجر عليه، وليس أيضا أي غبن، بل المراد الغبن الفاحش أي بأن لا يغبن غبنا فاحشا غالبا، أما لو غبن غبنا غير فاحش فهذا غير مؤثر، فإن الرشيد لا يسلم منه الغبن اليسير، كأن يشتري الشيء الذي يساوي مائة وعشرة يشتريه بمائة وعشرين.

قوله [ولا يبذل ماله في حرام]
فإذا كان تبذير المال في الأمور المباحة سفه، فتبذيره في الأمور المحرمة أولى بالسفه، كأن يبذر ماله في الفجور وشرب الخمور ونحو ذلك فلا شك أن هذا يحجر عليه.

قوله [أو في غير فائدة]
كذلك إذا كان يصرف ماله في غير فائدة كما تقدم تقريره، فهذا يدل على سوء تصرفه في المال، فيقتضي حجرا عليه، فإن كان تصرفه فيما ينفعه في الآخرة ولكنه يضر في الدنيا بمن يعول فكذلك يحجر عليه، كأن ينفق أمواله في أوجه البر إنفاقا يضر بمن يعول، وهذا يدل على سفه لأنه قد قدم ما هو مستحب على ما هو واجب، ومثل ذلك إذا كان وحده فهو لا يعول أحدا، ومع ذلك أنفق ماله وهو لا يثق بصبر نفسه، وعدم تطرقه إلى ما لا يحل من سؤال ونحوه، فكذلك يحجر عليه، لأنه أدخل على نفسه الضرر بمثل هذا التصرف وهذا سفه.

قوله [ولا يدفع إليه حتى يختبر]
لقول الله تعالى {وابتلوا اليتامى} أي اختبروهم، وقد تقدمت طريقة الاختبار.

قوله [قبل بلوغه]


فهذا الاختبار يكون قبل البلوغ، فمثلا: رجل عنده يتيم مقبل على البلوغ، فيأمره ببعض التصرفات التي لا تضر بماله، ويثبت بها معرفة رشده من سفهه، وهذا حيث كان مميزا مراهقا، أي يكون هذا قبيل البلوغ، لأنه هو الذي يمكن أن يتعرف على مثل هذا فيه، وليس المراد قبل البلوغ بوقت طويل، أي بمجرد التمييز مثلا، ولذا لو قال المؤلف (قبيل البلوغ) لكان أولى، فالمميز المراهق الذي يعرف المصالح والمفاسد وما يكون فيه صيانة لماله ونحو ذلك، فهذا هو محل الاختبار، ودليل كون الاختبار قبل البلوغ قوله تعالى {وابتلوا اليتامى حتى إذا بلغوا النكاح} فسمى المبتلين: يتامى، واليتيم هو غير البالغ، فالبالغ لا يسمى يتيما، ولأنه قال سبحانه {حتى إذا بلغوا النكاح} فدل على أن هذا الاختبار يكون قبل بلوغهم.

قوله [بما يليق به]
لا بد أن يكون هذا الاختبار بما يليق به، فلا يختبر الأمير الذي قد ترك والده إرثا، لا يختبره بأن ينظر بيعه وشراءه، لأنه ليس من أهل التجارات، وإنما يعطى شيئا من المال وينظر في تصرفه فيه، فإن تصرف فيه بما فيه فائدة لنفسه في دينه أو دنياه فهو رشيد، وابن التاجر ونحوه يعطى مالا ويؤمر فيه بيع أو شراء ليتعرف على ضبطه في شرائه ورشده فيه، وهكذا.

قوله [ووليهم حال الحجر الأب]
فالأب هو الولي، وذلك لكمال شفقته وحرصه على صيانة مال ابنه والحفاظ على مصلحته، وهل للجد ولاية؟


المشهور من المذهب أنه لا ولاية له، وعن الإمام أحمد وهو مذهب الشافعي أن الجد له ولاية، وهذا أصح، لقول الله تعالى {واتبعت ملة آبائي إبراهيم} الآية، فسمى الله الجد أبا، ولقول أبي بكر - رضي الله عنه -:" الجد أب " [حم 15675، خ 3658] ولما له من النصيب الكبير الذي يقارب ما للأب من الشفقة والحرص على مصلحة ابن ابنه، فالجد على الراجح يكون وليا، واختار شيخ الإسلام رحمه الله أن سائر العصبة أولياء، فيقدم أقربهم له، لما لهم من الولاية التي اقتضت الإرث في الشرع، فكانوا أولياءه في ماله، ولما لهم من الحرص على مصلحته لوجود هذه العصوبة بينهم وبينه.

قوله [ثم وصيه]
أي ثم وصي الأب، أي نائبه بعد الممات، الوكيل يكون في الحياة، والوصي بعد الممات، فإذا توفي الأب وأوصى لفلان من الناس بالولاية على ابنه فهو أولى من غيره، وهل يقدم عليه الجد وسائر العصبة على القول بولايتهم؟
استظهر صاحب الإنصاف تقديمهم على الوصي، والذي يظهر خلاف ذلك، وأن الوصي أولى منهم، وذلك لأن الوصي نائب الأب، فقام مقام الوكيل، فكما أن الوكيل هو النائب عن الأب في الحياة وهو أولى من الجد وغيره في الولاية، فكذلك بعد الممات فهو النائب عن الأب، ولأن كمال شفقة الأب لا يشبهها شيء، واختياره لهذا الوصي يدل على أن هذا الوصي له قيام كبير في هذا الباب لأولاده وأن هذا الوصي قد يكون أكمل شفقة من سواه.

قوله [ثم الحاكم]
أي القاضي، وذلك لما له من الولاية العامة، فالحاكم له الولاية العامة والقاضي نائب عن الإمام الأعظم، فإن لم يكن ثمت قاضي شرعي فيقوم مقامه أمين، فيختار أمين يقوم مقامه بالولاية، إذا الأولى بالولاية الأب فالوصي فالجد فالعصبة أقربهم فأقربهم ثم الحاكم فإن لم يكن فيختار أمينا قويا في حفظه وصيانته، يقوم مقام الحاكم في حفظ المال.

قوله [ولا يتصرف لأحدهم وليه إلا بالأحظ]


فلا يتصرف الولي إلا بالأحظ والأصلح، لقول الله تعالى {ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن} فإذا كان يريد أن يبيع له عقارا فلا يتعجل في بيعه، بل يتريث حتى يكون ذلك أحظ له، وعليه فلا يحل له أن يعتق من ماله ولا أن يهب ولا أن يهدي، ولا أن يحابي كأن تكون هذه الأرض تساوي مائة ألف فيشتريها من صديقه بمائة وعشرة آلاف لليتيم، فهذا لا يجوز، وإن تصرف بمثل هذه التصرفات فهو ضامن لأنه متعد، فالأمين يضمن بالتعدي أو بالتفريط، أما إذا غبن في شراء شيء غبنا يسيرا يقع مثله فهذا لا يؤثر.

قوله [ويتجر له مجانا]
فإذا أرد أن يبيع ويشتري له بهذا المال، فإنه يبيع ويشتري مجانا، فليس له أن يأخذ على التجارة له شيئا، وهذا هو المشهور من المذهب، قالوا: لأنه لا يحل أن يعقد لنفسه، فهو عندما يعقد العقد التجاري بينه وبين اليتيم إنما يعقد لنفسه ولا يحل هذا، واختار شيخ الإسلام ابن تيمية وهو قول لبعض الحنابلة أنه يستحق الأجرة على ذلك، وهذا القول هو الراجح، وذلك لأن هذا التصرف التجاري خارج عن حفظ المال، وصيانته والإنفاق على اليتيم، وقد قال تعالى {ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن} وهذا قربنا لمال اليتيم بالتي هي أحسن فلا مانع منه، وأما قولهم إنه ولي فلا يعقد لنفسه فلا دليل على هذا ولا مانع شرعي يقتضي ألا يعقد لنفسه، بل لو كان هذا العقد لنفسه هو الأصلح فهو الأولى به، فلو أنه مثلا أراد أن يبيع أرضا لموليه فوقف السوم على مائة ألف، وكان أحظ له لكنه يرغب بها، فزاد شيئا من المال فاشتراها منه فلا يظهر أن هناك مانع لأن هذا من قربان مال اليتيم بالتي هي أحسن.

قوله [وله دفع ماله مضاربة بجزء معلوم من الربح]


فله أن يتفق مع رجل آخر على أن يتاجر بمال اليتيم بجزء معلوم الربح، إما النصف أو الربع أو غير ذلك مما يكون فيه مصلحة لليتيم، فهذا جائز لأنه قائم على مصلحته ونائب عنه في التصرف فجاز أن يعقد له مثل هذا العقد، والفرق بين هذه المسألة والتي قبلها أن المسألة التي قبلها هو الذي يتاجر بالمال بنفسه، وأما هنا فهو يعقد لغيره، فالمتاجر غيره وهو يعقد لهذا الغير، وكلاهما جائز كما تقدم.

قوله [ويأكل الولي الفقير من مال موليه الأقل من كفايته أو أجرته مجانا]


لقول الله تعالى {ومن كان فقيرا فليأكل بالمعروف} فله أن يأكل من مال يتيمه، قالوا: وقدره الأقل من كفايته وأجرته مجانا، فيقال: قدر أجرتك بالمعروف لو أننا أردنا أن نعطيك أجرة على هذه الولاية، فقال: كل شهر ألف ريال، هذه الأجرة على حفظ المال وصيانته، وهذا يرجع إلى كثرة المال وقلته وما فيه من تجارات ونحو ذلك، ويقال له بعد ذلك: ما كفايتك؟ فإن قال: ألفا ريال، فيقال له: خذ ألف ريال لأنه الأقل، وإن قال الأجرة خمسة آلاف، وكفايتي ألفا ريال، فيقال: خذ ألفي ريال، إذن يأخذ الأقل من كفايته وأجرته، قالوا: لأنه إنما يأخذ المال بهما، فاشترط اجتماعهما ولا يجتمعان إلا في الأقل، فهو يأخذ المال لأجرة عمله، ويأخذ المال لحاجته وكفايته، فيجتمعان في الأقل لا في الأكثر، والذي يظهر وقد نص عليه الإمام أحمد في رواية حنبل وهو صريح قول بعض الحنابلة أنه يأكل بالمعروف، وهو ظاهر الآية الكريمة، وعليه فلو كانت أجرته أقل أو أكثر والذي يكفيه بالمعروف هو كذا، فإنه يأكل بالمعروف سواء كان ما يأكله أكثر من أجرته أو أقل، ولأن المسألة ليست قضية إجارة، بل هي قضية ولاية فيها معنى الأمانة ونحو ذلك من الحفظ، وهو لا يأخذ عليها مع غناه، بل يأخذ مع فقره، فجاز له الأكل بالمعروف وإن كانت أجرته أقل، وذلك للآية الكريمة المتقدمة، ولما ثبت في سنن أبي داود بإسناد حسن أن رجلا قال للني - صلى الله عليه وسلم -: إني فقير وإن لي يتيما، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: (كل من مال يتيمك غير مسرف ولا مبادر - أي متعجل، فتتعجل بالأكل قبل كبر اليتيم - ولا متأثل) [ن 3668، د 2872، جه 2718] مؤجل للمال، فتأخذ شيئا زائدا عن الكفاية، وظاهره أنه يأكل ما يكفيه مطلقا سواء كان ذلك أقل من أجرته أو أكثر منها.

قوله [ويقبل قول الولي والحاكم بعد فك الحجر في النفقة والضرورة والغبطة والتلف ودفع المال]


يقبل قول الولي أبا كان أو وصيا، والحاكم بعد فك الحجر في النفقة والضرورة والغبطة والتلف ودفع المال، فإذا اختلف الولي والمولي - أي المحجور عليه - فالقول قول الولي أو الحاكم، فإذا اختلفا في النفقة في قدرها، فقال الولي: أنفقت عليه في هذه السنوات التي قد حجر عليه فيها ألف درهم، وقال المولي المحجور عليه بل لم ينفق علي إلا خمسمائة، فالقول قول الولي فيحلف أنه أنفق عليه كذا وكذا، إلا أن يأتي المحجور عليه ببينة تدل على صدق قوله، أو أن يكون الظاهر يخالف قول الولي كأن يدعي إنفاقا زائدا لا يتحمله الواقع فحينئذ يكون الظاهر موفقا لقول المحجور عليه، فمثلا: ادعى المحجور عليه أنه لم ينفق عليه عشرة آلاف، وادعى الولي أنه أنفق عليه عشرة آلاف، وكان الواقع يوافق قول المحجور عليه، والظاهر يخالف قول الولي فحينئذ يكون القول قول المحجور عليه وذلك لوجود القرينة.
كذلك إذا اختلفا في الضرورة، فمثلا باع الولي عقارا للضرورة، وادعى المحجور عليه بعد فك الحجر أنه قد باعه لغير ضرورة، وقال الولي بل بعته لضرورة فقد احتاج لبيع هذا العقار لأجل الكسوة ونحوها، فالقول قول الولي لأنه أمين.


كذلك إذا اختلفا في الغبطة، وهي المصلحة، فمثلا باع الولي عقارا وادعى أنه باعه لمصلحة، وخالفه المولى فقال: بل لا مصلحة، ولا غبطة، فحينئذ القول قول الولي لأنه أمين، والمشهور من المذهب أن بيع الغبطة هو البيع الذي فيه مصلحة، وقال بعض الحنابلة وهو أحد الوجهين في المذهب: بيع الغبطة أو يزيد الثمن الثلث فأكثر على بيع المثل، كان يكون شيئا يستحق مائة ألف فيبيعه بمائة وأربعين ألفا، وقال القاضي من الحنابلة: بيع الغبطة ما فيه زيادة ظاهره سواء كانت الثلث أو أقل، والصحيح أن بيع الغبطة ما فيه مصلحة سواء كانت زيادة ظاهرة أو غير ظاهرة، لعموم قول الله تعالى {ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن} وبيع شيء من عقاره فيه مصلحة للمولي هذا من قربان مال اليتيم بالتي هي أحسن، فهو جائز، وهو المشهور من المذهب وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية.
وكذلك التلف، فإذا ادعى الولي أن المال قد تلف عنده، وأنكره هذا المولي وقال بل هو قد أتلفه أو قد غيبه وجحده أو نحو ذلك، فحينئذ القول قول الولي لأنه أمين، وهذا كما تقدم ما لم تكن قرائن تخالف قول الولي.


وكذلك إذا اختلفا في دفع المال، فقال الولي: أعطيته المال بما بلغ رشده، وقال المولي: لم يعطني شيئا، ولا بينة فالقول قول الولي لأنه أمين، وقال ابن رجب في القواعد:" ويحتمل أن يكون القول قول المحجور عليه ما لم يكن هناك بينة "، وقواه صاحب الإنصاف، وهو الذي يظهر، وذلك لأن الأصل عدم الدفع فالأصل هو بقاء المال عند الولي وحيث ادعى الدفع فهو ادعاء لنقل المال من يده إلى يد موليه، فإذا لم يكن له بينة فالأصل هو البقاء، ويده يد أمانة في مدة مكث المال عنده، وعليه فالذي يظهر أن القول قول المولي، لأن الأصل هو بقاء المال، لكن إن أشهد على دفع المال للمولي فإنه يقبل قول الولي للبينة، فإن لم يأت ببينة فيلزمه أي الولي أن يدفع المال إلى المولي في الظاهر، وإن كان في الباطن قد دفعه.
هذا - أي ما ذكره الحنابلة في هذه المسائل كلها - حيث كان الولي متبرعا، وأما إذا كان الولي غير متبرع بل يأخذ مقابل ولايته أجرة، كأن يضع الوالد وصيا لولده مقابل أجرة من المال يأخذها، فحينئذ ليس القول قول الولي في المشهور من المذهب، وذلك لأنه منتفع، فيده ليست يد حفظ وصيانة فحسب، بل يد انتفاع، وحيث كان الأمر كذلك فالقول قول المولي، وسيأتي الكلام على هذه المسألة في الكلام على الوديعة إن شاء الله.

قوله [وما استدان العبد لزم سيده إن أذن له وإلا ففي رقبته كاستيداعه وأرش جنايته وقيمة متلفه]


إذا استدان العبد، فإنه يلزم الدين سيده إن أذن له، وذلك لأن السيد قد غرره حيث أذن له، وأما إن لم يأذن له سيده فإنه يتعلق الدين في رقبة العبد، وحينئذ يقال للسيد اختر أحد أمرين: إما أن تسلم العبد للدائن، وإما أن تفديه، والفداء يكون بأقل الأمرين، إما بقدر الدين، وإما بقدر القيمة، مثال هذا: استدان عبد بلا إذن من سيده مائة ألف، فيقال للسيد: إما أن تسلم العبد وإما أن تفديه، وطريقه الفداء ما يستحق العبد، فوجدناه مثلا يستحق عشرة آلاف، فنقول: تعطي الدائن عشرة آلاف وتحرر عبدك من الدين، فتختار أقل القيمتين، وذلك لأن المال متعلق برقبته فلم يلزم سيده بأكثر من ذلك، وظاهر ذلك علم المتعامل أم لم يعلم، وعن الإمام أحمد أنه معامله إذا علم فلا يتعلق الحق برقبة العبد، وذلك لأنه دخل على بصيرة، وهذا هو الظاهر، وذلك لأن العبد لا يصح تصرفه في المال، فإذا دخل معامله معه على بصيرة من أمره فقد غرر بنفسه فلم يتعلق ذلك في رقبة العبد.
وقوله (كاستيداعه) إذا وضع عند عبد وديعة فأتلفها فإن الحق يتعلق برقة العبد، فيقال للسيد إما أن تسلمه، وإما أن تفديه، فلو فرض أن الأمانة تساوي ثلاثين ألفا، وأن العبد يساوي أربعين ألفا، فإن السيد حينئذ يدفع له ثلاثين ألفا لأنها هي الأقل.
قوله (وأرش جناية) إذا اعتدى العبد وجنى، فتتعلق الجناية في رقبته، فإما أن يسلمه إلى المجني عليه، وإما أن يفديه السيد، وطريقة الفداء، مثلا وجدنا الجانية تساوي عشرة آلاف، والعبد يساوي خمسة آلاف، فيعطون خمسة آلاف، فلا يلزم السيد بشيء زائد.
قوله (وقيمة متلف) إذا أتلف العبد شيئا، فإن الحق يتعلق في رقبته، فإما أن يسلم السيد العبد، وإما أن يفديه بأقل الأمرين كما تقدم.
وهنا مسائل متعلقة بالحجر:
* المسألة الأولى:


أن لولي الصبي ونحوه أن يأذن له بالتصرف بما جرت به العادة من صدقة يسيرة كأن يتصدق بالدرهم والدرهمين ونحو ذلك، وكأن يشتري الطفل شيئا من اللعب ونحوهما من أمور اللهو فهذه قد جرت بها العادة فيسمح بمثلها، وكذلك أن يشتري طعاما بلا إسراف.
** المسألة الثانية:
أن للزوجة أن تنفق من بيت زوجها ما جرت به العادة بالسماح بمثله بلا إذن، لقول النبي - صلى الله عليه وسلم - في الصحيحين: (إذا أنفقت المرأة من بيت زوجها غير مفسدة فلها أجرها بما أنفقت وللزوج أجره بما كسب وللخازن مثل ذلك لا ينقص بعضهم من أجر بعض شيئا) [خ 1425، م 1024] ولأن جريان العادة بمثل ذلك يجري مجرى الإذن.
أما إذا منعها من ذلك أو علمت منه المنع لشح ونحو ذلك أو شكت في رضاه فليس لها ذلك، كما أنه ليس لها أن تخرج من بيته ما لم تجر العادة بمثله، لقول النبي - صلى الله عليه وسلم - فيما رواه أحمد وغيره والحديث صحيح: (لا يحل مال امريء مسلم إلا بطيب نفس) [حم 20172] ، وهذا مال زوجها فلا يحل إلا بطيب نفس، فإن أذن فذاك وإلا فلا.
*** المسألة الثالثة:
هل يحجر الزوج على زوجته الرشيدة الحسنة التصرف في المال أم لا؟
على ثلاثة أقوال للعلماء هي روايات عن الإمام أحمد:


الرواية الأولى: وهي الرواية المشهورة في المذهب أنه ليس له أن يمنعها، بل تتصرف كما شاءت، فلو أنفقت المرأة مالها كله من غير إذن زوجها بل مع منعه فها ذلك، واستدلوا بما ثبت في الصحيحين: (أن ميمونة - رضي الله عنها- أعتقت وليدة ولم تستأذن النبي - صلى الله عليه وسلم - فلما كان يومها الذي يدور عليها فيه، قالت: أشعرت يا رسول الله أني أعتقت وليدتي، قال: أوفعلت؟ قالت نعم قال أما إنك لو أعطيتها أخوالك كان أعظم لأجرك) [خ 2592، م 999] قالوا: فقد أعتقت هذه الوليدة من غير إذن النبي - صلى الله عليه وسلم -، واستدلوا بما ثبت في الصحيحين أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (تصدقن ولو من حليكن) [خ 1466، م 1000] فأمرهن بالتصدق من حليهن ولم يشترط استئذان أزواجهن.
الرواية الثانية: وهي مذهب مالك أن الزوج يمنعها مما زاد على الثلث، وأما ما نقص فلا يمنعها لقول النبي - صلى الله عليه وسلم - في الوصية: (الثلث والثلث كثير) [خ 2742، م 1628]
الرواية الثالثة: أن له أن يمنعها مما قل عن الثلث، ومما زاد، لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (لا يجوز لامرأة عطية إلا بإذن زوجها) [حم 6643، ن 2540، د 3547] وفي لفظ: (لا يجوز للمرأة أمر في مالها إلا بإذن زوجها) [حم 7018] والحديث حسن، قالوا: والحديث عام فيما قل عن الثلث وفي الثلث وفيما زاد عن الثلث، فالحديث عام، وفيه رد على مذهب مالك، فلا تتصرف المرأة بأي شيء من مالها إلا ما جرت به العادة، وهذا القول هو قول الليث بن سعد وطاووس من التابعين، وهذا القول هو أرجح الأقوال.


أما الجواب عما استدل به الإمام مالك فقد تقدم، وأما الجواب عما استدل به أهل القول الأول فإنه لا مانع من أن تكون ميمونة علمت إذن النبي - صلى الله عليه وسلم - لا سيما والنبي - صلى الله عليه وسلم - يرغب في العتق ويندب إليه، ويبعد أن تعتق ميمونة وهي تعلم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - يكره هذا، وأنه لا يأذن فيه، ولذا أرشدها النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى ما هو خير، فظاهر الأمر أنها علمت إذنه في ذلك، وإن لم يكن إذنا خاصا في هذا، ولذا قالت:" ولم استأذنه " بل قد علمت إذنه العام، لا سيما وهو يحث على عنق الرقاب، وأما قوله - صلى الله عليه وسلم -: (تصدقن ولو من حليكن) فكذلك حيث علمت المرأة الإذن العام من زوجها، ولا يعقل أن يأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - النساء أن يفعلن شيئا يكون فيه معارضة لطاعة الأزواج، والحديث المتقدم حديث صريح في المسألة ولا شك أن الحديث المحكم مقدم على الحديث المتشابه، فالراجح ما ذهب إليه الإمام أحمد في الرواية الثالثة وهو مذهب الليث بن سعد وطاووس.

بسم الله الرحمن الرحيم
وبه نستعين وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وبعد

باب الوكالة


الوكالة بفتح الواو وكسرها، والأشهر الفتح، وهي لغة: التفويض، وأما اصطلاحا: فهي استنابة جائز التصرف مثله فيما تدخله النيابة، والقاعدة أن كل حق لله تعالى أو لآدمي فالنيابة فيه مطردة كما قرر ذلك الشيخ عبد الرحمن بن سعدي، إلا ما لا يحصل المقصود إلا بفعل المكلف له، فكل حق من حقوق الآدمي من طلاق وبيع وشراء وصلح وغير ذلك وكل حق لله تعالى من تفرقة الزكاة، وتفرقة الصدقة وتفرقة الكفارة ونحو ذلك فإنها تدخلها النيابة، إلا إذا كان لا يحصل المقصود إلا بفعل المكلف له كما يكون هذا في إقامة الحد، فإن المقصود منها عقوبة المجرم، وكذلك في العبادات البدنية المحضة كالصلاة والصوم وغيرها، فالمقصود هو فعل المكلف لها فلا تحصل فيها الوكالة.
والوكالة جائزة بالكتاب والسنة والإجماع، أما الكتاب فلقول الله تعالى في سورة الكهف في قصة أصحاب الكهف حيث قال بعضهم لبعض {فابعثوا أحدكم بورقكم هذه إلى المدينة فلينظر أيها أزكى طعاما فليأتكم برزق منه وليتلطف} وأما السنة فكما تقدم في حديث عروة البارقي وتوكيل النبي - صلى الله عليه وسلم - له شراء الأضحية) (1) وكذلك توكيل النبي - صلى الله عليه وسلم - لعمر بن الخطاب في جمع الصدقة كما هو ثابت في الصحيحين، وكذلك توكيل معاذ بن جبل في أخذ زكاة أهل اليمن، وأما الإجماع فقد أجمع أهل العلم على جواز الوكالة، والحاجة داعية إليها، فإن الإنسان يحتاج إلى أن يوكل غيره في شيء من شؤونه من بيع وشراء ونحو ذلك، والشريعة قائمة بتحصيل المصالح ومن ذلك الإذن للمكلفين بالوكالة.

قوله [تصح بكل قول يدل على الإذن]
__________
(1) 1– مسند الإمام أحمد (18867) البخاري (3643) أبو داود (3384) الترمذي (1258) ابن ماجه (2402) .


فكل قول يدل على الإذن بالتصرف فإن الوكالة تثبت وتصح معه، فإذا قال له: بع لي هذا البيت، أو اشتر لي هذا البيت، أو أذنت لك بأن تبيع هذا الشيء ونحو ذلك من الألفاظ القولية الدالة على الوكالة فإن الوكالة تثبت فيها.
وظاهر كلام المؤلف أنها لا تثبت بالفعل، وهو المشهور في المذهب، فلو أعطى أحداً ثوباً وكان إعطاؤه له مفهماً له أنه يوكله بخياطته أو بتغسيله فإن الوكالة لا تثبت بذلك، والصحيح أنها تثبت بالفعل، وهو ظاهر كلام القاضي من الحنابلة واستظهره صاحب الفروع، وهذا القول هو الراجح كالبيع، ولأن المقصود التعرف على الرضى وذلك يحصل بالفعل كما يحصل بالقول، فالمقصود أن هذا الفعل قد دلنا على أن هذا يريد أن يوكل وأنه راضٍ بذلك، وهذا هو الإيجاب.

قوله [ويصح القبول على الفور والتراخي بكل قول أو فعل دال عليه]
ما تقدم هو الإيجاب، والإيجاب ما يصدر عن الموكل، وأما القبول فهو ما يصدر عن الوكيل، فيصح القبول من الوكيل على الفور والتراخي، فمثلا قال له: بع لي هذه الدار، فقال: قبلت فوراً، أو كان قبوله متراخياً كأن يبلغه بعد زمن أن فلاناً قد وكله فرضي بهذه الوكالة، كأن يكتب له ورقة فلا تصل إليه إلا بعد شهر أو شهرين أو نحو ذلك، فلا يشترط في القبول الفورية، وذلك لأن الإيجاب دل على الإذن فالإذن باقٍ لا رافع له، فلا يؤثر فيه التراخي، ويصح القبول بالقول وبالفعل الدال عليه، فإذا قال: قبلت هذه الوكالة، أو أخذ السلعة وكان أخذه لها دليلاً على رضاه بهذه الوكالة فإن الوكالة تثبت.
وتصح الوكالة مؤقتة كوكلت سنة، أو بشرط نحو إذا جاء الشتاء فافعل كذا.
قوله [ومن له التصرف في شيء فله التوكيل والتوكل فيه]


فمن له التصرف في شيء فله أن يكون موكلا وله أن يكون وكيلا، فمثلا: الرجل له أن يطلق زوجته، فله أن يوكل غيره في الطلاق، ويجوز أن يوكل غيره بالبيع أو بالشراء ونحو ذلك، لأن هذه التصرفات صحيحة منه فصح أن ينيب غيره فيها، وكذلك يصح أن يكون وكيلا فيها، لأنها لو كانت له لصح التصرف فيها، فهذا الرجل لو كان متزوجا لصح طلاقه، فالصفات المشترطة في صحة الطلاق متوفرة فيه، ولو كان متزوجا لصح طلاقه فيصح أن يكون وكيلا في الطلاق، لذا تقدم في التعريف اشتراط جواز التصرف في الوكيل والموكل.

قوله [ويصح التوكيل في كل حق آدمي]
إجماعاً.
قوله [من العقود]
كعقد البيع وعقد الصلح وعقد العارية وغيرها، وذلك لأنه يصح له أن يتصرف فيها فجاز له أن يوكل وقد تقدم ذلك.

قوله [والفسوخ]
كالإقالة والخلع، فيجوز أن يوكل من يخالع زوجته، ومن يقيل بيعا له ونحو ذلك.

قوله [والطلاق والرجعة]
فيجوز له أن يوكل من يطلق عنه أو يراجع عنه.

قوله [ويملك المباحات من الصيد والحشيش ونحوه]
كذلك يجوز التوكيل في تمليك المباحات من الصيد والحشيش ونحوه، كأن يضع وكيلا عنه في تملك ما يصطاد، أو تملك ما يجتث، وفي إحياء الموات ونحو ذلك، وذلك لأنها حقوق آدمي له التصرف فيها فجاز أن يوكل.

قوله [لا الظهار واللعان والأيمان]
ولا النذور، وذلك لأنها متعلقة بعين الشخص فلم يصح التوكيل فيها.
والظهار يقول له: وكلتك في أن تظاهر عني. فيقول: أنتِ على زوجكِ كظهر أمه عليه، وهذا منكر من القول وزور كسائر المعاصي.
قوله [وفي كل حق لله تعالى تدخله النيابة من العبادات]


فكل حق لله تعالى تدخله النيابة من العبادات فيجوز التوكيل فيه كأن يوكل من يذكي عنه أضحية أو من ينحر عنه، كما ثبت في مسلم (1) من توكيل علي بذلك. ويصح أن يوكل من يفرق صدقته أو زكاته، ويصح أن يوكل من يكفر عنه كفارة مالية ويجوز ذلك في العبادات المالية.
وأما العبادات البدنية المحضة كالصلاة والصوم فإن النيابة لا تصح فيها، وتقدم التفصيل في مسألة الحج والكلام عليها.
والأصل في حقوق الله أنها لا تدخله النيابة، ولا يجوز له في المشهور من المذهب إن وكل في الصدقة أن يأخذ منه لنفسه إذا كان من أهل الصدقة وذكر في الإنصاف احتمالاً بالجواز والأظهر الأول لما فيه من التهمة ولأن إطلاق لفظ الموكل ينصرف إلى غيره. لكن هل يجوز له أن يدفع منه لوالده وولده وزوجته فيها وجهان والأظهر المنع للتهمة.
قوله [والحدود في إثباتها واستيفائها]
كذلك تصح الوكالة في الحدود في إثباتها وفي استيفائها أي في إيقاعها على المجرم المعاقب، فيجوز للحاكم أن يوكل من يقوم بالنظر في الأدلة التي تثبت الحد على المتهم، ويجوز له أن يوكل من يستوفي الحدود فيقيمها على أربابها، ودليل ذلك ما ثبت في الصحيحين أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (واغد يا أنيس إلى امرأة هذا فإن اعترفت فارجمها) (2)
فقوله (فإن اعترفت) فيه توكيل في إثبات الحد، وفي قوله (فارجمها) فيه توكيل في استيفاء الحد.

قوله [وليس للوكيل أن يوكل فيما وكل فيه إلا أن يجعل إليه]
هنا ثلاث صور:
الصورة الأولى: أن يقول الموكل: وكلتك ولك حق التوكيل، ونحو ذلك فباتفاق العلماء له أن يوكل للإذن فيه.
الصورة الثانية: أن يمنعه من التوكيل، فيقول: وليس لك حق التوكيل، أو أنت منهي عن التوكيل، فباتفاق العلماء ليس له أن يوكل.
__________
(1) 1 – مسلم (1317) .
(2) 1 – البخاري (6828) مسلم (1698) .


الصورة الثالثة: أن يوكله من غير إثبات للإذن ولا نفيه، كأن يقول: وكلتك، من غير أن يقول: لك الحق في التوكيل، ولا أن يقول: ليس لك الحق في التوكيل، ولها ثلاث حالات:
الحالة الأولى: أن يكون هذا الشيء الموكل فيه مما يتولاه هذا الوكيل، أي مما يناسب ويليق بمثله، ولا يعجز عنه، فحينئذ ليس له أن يوكل، وذلك لأن صاحب الشأن لم يأذن بالتصرف عنه إلا لهذا الوكيل فليس له أن يعدي الوكالة إلى غيره حيث لا إذن، مثال ذلك: أن يوكل شريفا من أشراف الناس وسيدا من ساداتهم على جبي الصدقات، فهذا من الأعمال التي تليق بمثله ولا يعجز عنها.
الحالة الثانية: أن يكون هذا الشيء الموكل فيه ليس مما يتولاه مثل هذا الوكيل أو يعجز عنه ولا يقدر عليه، فحينئذ إيقاع الوكالة مع علم الموكل بهذا يدل على أنه أراد منه أن يوكل من يقوم بهذا العمل، فإذا أسدى الخليفة إلى أمير من الأمراء أن يبني له شيئا أو يحمل له شيئا معينا إلى موضع، فهذا لا شك أنه لا يليق بهذا الأمير، وحينئذ فتوكيل الخليفة له يدل على أنه إنما أراد القيام بهذا الشأن بالوكالة، أو كان يعجز عنه كأن يكون صناعة من الصناعات ويعرف أنه لا يحسن هذه الصناعة ولا يتقنها، وليس من أهلها فحينئذ يكون مراد الموكل القيام بها ولو كان هذا بالوكالة.
الحالة الثالثة: أن يكون هذا الوكيل قادرا على البعض عاجزا عن الكل، كأن يعطيه عملا كبيرا كالقيام بأعمال كثيرة يعلم الموكل قطعا أن هذا الوكيل لا يمكنه القيام بهذه الأعمال كلها إلا ومعه من يعينه على ذلك، فهل يجوز له أن يوكل؟


المشهور من مذهب الحنابلة والشافعية أن له أن يوكل مطلقا، بمعنى أن له أن يخرج عن القيام بهذا العمل بالكلية ويوكل غيره بالقيام به، والوجه الثاني في مذهب الحنابلة والشافعية أنه لا بد وأن يكون طرفا فيه، فلا بد أن يقوم ببعض العمل وأما أن يوكل فيه كله فلا، فله أن يوكل فيما لا يستطيع، ويقوم هو بما يستطيع، وهذا القول هو الراجح، وذلك لأننا لا نخرج عما دلت عليه الوكالة من قيامه هو – أي الوكيل – بها إلا بقرينة تدل على ذلك، وهنا القرينة إنما دلت على عدم قيامه بالعمل كله، لا على عدم القيام ببعضه، فإنه يمكنه أن يقوم ببعضه، وإنما دلت على أنه يحتاج إلى وكلاء معه، وعليه فيضع معه وكلاء، وأما أن يتخلى عن العمل بالكلية ويضع وكلاء فلا.

والله اعلم وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم
بسم الله الرحمن الرحيم
وبه نستعين وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وبعد

قوله [والوكالة عقد جائز]
فالوكالة عقد جائز، أي لكل من الوكيل وموكله الفسخ بغير رضى الآخر ما لم يكن هناك ضرر، فإن كان ضرر فلا يجوز، فالوكالة عقد جائز، وذلك لأنه من جهتيهما لا يقتضي لزوما، أما الموكل فلأن هذا من جهة إذنه، فالوكالة متعلقة بإذنه، وأما الوكيل فلأنها متعلقة ببذل نفع منه، وهذا ليس بلازم، فكانت الوكالة من العقود الجائزة.

قوله [وتبطل بفسخ أحدهما]
لما تقدم فهي عقد جائز فإذا فسخها أحدهما فإن الوكالة تبطل.

قوله [وموته]
وكذلك جنونه، وذلك لأن من شرطها أن يكون الموكل والوكيل جائزا التصرف، والميت ليس له أهلية التصرف فبالموت تبطل الوكالة، فإذا وكل زيد عمروا ببيع أرض له، فمات زيد، وهو الموكل قبل البيع فإن هذه الوكالة تبطل، لأن أهلية التصرف تبطل بالموت، وكذلك إذا جن لأن المجنون ليس له أهلية التصرف.

قوله [وعزل الوكيل]


فتبطل الوكالة بعزل الوكيل، فإذا عزل الموكل وكيله بطلت الوكالة، فمثلا: قال وكلتك على أن تبيع هذه الأرض، ثم عزله فإن الوكالة تبطل، وذلك لأن ذلك حق له، والوكالة عقد جائز ولا يشترط في هذا العزل رضى الوكيل، لأنه حق للموكل ولو لم يرض الوكيل.
وظاهر كلام المؤلف وهو المذهب سواء علم الوكيل بالعزل أو الموت أو لم يعلم، فإذا وكل زيد عمروا ببيع أرض له، ثم عزله وأشهد على عزله، ولم يعلم الوكيل بالعزل، أو مات الموكل ولم يبلغه موته فإنه ينعزل، وعليه فتصرفاته - أي تصرفات الوكيل - تكون باطلة، ففي المثال السابق لو باع الأرض وهو لم يعلم بموت الموكل أو عزله له فإن البيع باطل إلا أن يجيزه الموكل، كما تقدم في تصرف الفضولي من أنه موقوف على الإجازة، وهذا هو المشهور من المذهب ومذهب الشافعية، وذهب الأحناف إلى أنه ينعزل بالموت لا بالعزل، والمراد إذا لم يعلم بذلك، وأما إذا عزله بعلمه وعلم بالعزل فلا خلاف بين العلماء في بطلان الوكالة، لكن إذا مات الموكل ولم يعلم والوكيل وتصرف، فإن تصرفاته باطلة، وإذا عزله الموكل ولم يعلم الوكيل بالعزل فإن تصرفاته تكون صحيحة، وعن الإمام أحمد أنه لا ينعزل لا بالموت ولا بالعزل إلا بالعلم، قالوا: لثبوت الضرر، فإن هذا الوكيل يتصرف بتصرفات من بيع وشراء ونحو ذلك، فإذا قلنا إنها ليس نافذة كان في هذا ضرر لتعلق حق ثالث، فعليه تصح تصرفاته قبل العلم وصوبه صاحب الإنصاف، وأرجح هذه الأقوال فيما يظهر القول الأول، وهو القول بأنه ينعزل بالموت قبل العلم، وينعزل بالعزل قبل العلم، والتصرفات باطلة وموقوفة على الإجازة، وهذا لما تقدم من التعليل القوي وهو أن فسخ الوكالة لا توقف على الرضى فلم يتوقف على العلم، ولأنه إنما أذن له بالتصرف بهذه الوكالة، وهنا قد بطلت الوكالة بالعزل فلم يصح التصرف، إلا أنه يستثنى حيث كان هناك تغرير من الموكل وعلم أنه أراد التغرير


فحينئذ تثبت هذه الوكالة ولا تبطل. وإذا عزل الوكيل كان ما في يده أمانة لا يضمن إلا مع التعدي والتفريط.
وهل يضمن الوكيل إذا تصرف بعد عزله وقبل علمه أم لا؟
قولان في المذهب القول الأول: أن الوكيل يضمن هذه التصرفات، وهو غاية في الضعف، وذلك لمخالفته لقواعد الشريعة وأصولها فإنه لم يفرط، وقد تصرف تصرفا بناء على بقاء هذه الوكالة، ولم يقع منه أي تفريط فلا وجه لتضمينه.
القول الثاني في المذهب: أنه لا يضمن مطلقا وهو اختيار شيخ الإسلام وهو الراجح في هذه المسألة، وذلك لأنه لم يفرط، فعلى ذلك إذا تصرف الوكيل بعد عزله وقبل علمه فالتصرف باطل لبطلان الوكالة بالعزل، وهذه التصرفات موقوفة على الإجازة على ترجيح قول تقدم ذكره وهو أن تصرف الفضولي صحيح مع الإجازة، ولا يضمن الوكيل لعدم تفريطه، ويتوجه تضمين الموكل إذا كان قد غرر به لأنه هو المتعدي بالتغرير. ولا تقبل دعوى الموكل العزل لوكيله بعد تصرفه لتعلق حق الغير به إلا ببينة لكن يستثنى الطلاق ويدين.
هل تبطل وكالة الثاني بموت الوكيل الأول أم لا؟
إذا قال الموكل للوكيل: وكلتك ولك الحق في التوكيل، فوكل غيره فمات الوكيل، فهل تبطل هذه الوكالة أم لا تبطل؟
فيه تفصيل:
1- أما إن قال له وكلتك وأذنت لك أن توكل عني فوكل عنه، فالوكيل الجديد وكيل عن صاحب المال، وحينئذ فإذا مات الوكيل الأول فلا تبطل الوكالة.
2- وأما إذا قال له: وكلتك ولك أن توكل عن نفسك من شئت، فوكل عن نفسه من شاء ثم مات فإن الوكالة تبطل، لأن هذا اللفظ مقتضاه أن الوكيل الجديد وكيل عن الوكيل الأول.


وكذلك العزل: فليس له العزل في الحالة الأولى، وله العزل في الحالة الثانية، فإذا قال: وكلتك وأذنت لك أن توكل عني، فليس له العزل، لأنه إذا عقدها مع الوكيل الجديد فحينئذ يكون هذا الوكيل قد ارتبط بالأول، وأما إذا قال له وكلتك وأذنت لك أن توكل عن نفسك، فوكل عن نفسه فله أن يعزل لأن هذا وكيل عنه.

قوله [وحجر السفيه]
إذا حجر على السفيه بطلت الوكالة، وذلك لأن السفيه غير جائز التصرف فليس له أهلية التصرف، وحينئذ فإن كان طرفا في الوكالة فتبطل الوكالة، بخلاف الحجر على المفلس، فإن الوكالة لا تبطل إذا كان طرفا فيها، وذلك لثبوت أهلية التصرف له كما تقدم، لكن إن كانت الوكالة في أعيان ماله التي ثبت الحجر عليها فتبطل الوكالة، وذلك لأن هذه الوكالة قد تعلقت بما لا يجوز التصرف فيه، فهو لا يجوز له أن يتصرف في أعيان ماله التي ثبت الحجر عليها، فلا يصح حينئذ أن يوكل فتبطل الوكالة، وأما كونه وكيلا أو موكلا في أشياء أخر ليست من هذا الباب، كأن يوكل في نكاح أو طلاق أو أن يوكل في بيع أو شراء أو نحو ذلك فهذه الوكالة صحيحة لأنه جائز التصرف.

قوله [ومن وكل في بيع أو شراء لم يبع ولم يشتر من نفسه وولده]
من وكل في بيع أو شراء لم يبع ولم يشتر من نفسه وولده، وسائر من لا تقبل شهادته له ممن يتهم فيهم، فإذا قال الموكل لوكيل وكلتك أن تبيع داري، فهل للوكيل أن يشتريها؟ أو قال وكلتك أن تشتري لي دارا فهل له أن يبيع له داره؟
الجواب: لا يجوز ذلك، فلا يجوز أن يكون بائعا ولا مشتريا، وكذلك لا يجوز أن يدخل ولده أو زوجته وسائر من لا تقبل شهادته له ممن يتهم فيهم، وذلك لعلتين:
الأولى: أن العرف هو بيع الشخص من غيره لا من نفسه، فكانت الوكالة كذلك، فالوكالة ترجع إلى العرف، فإذا قال بع لي هذه الدار، فالأصل في هذا البيع أن يكون بيعا على غيره، وحينئذ فالوكالة ترجع إلى هذا.


الثانية: التهمة من ترك الاستقصاء في الوصول إلى الثمن المناسب، فهنا العلتان أوجبتا المنع من أن يكون الوكيل طرفا في البيع والشراء، وهذا هو المشهور من مذهب الحنابلة، وعن الإمام أحمد أن ذلك جائز، بشرط أن ينادي عليها ويكون المنادي غيره، ويشتريها بسعر أكثر مما وصلت إليه في المناداة، وحينئذ فتدفع التهمة المتقدمة من ترك الاستقصاء.
ولا يظهر أن هذا كاف لدفع التهمة، فإن قد يبيعها في أيام لا تصل فيه السلعة مع النداء إلى ثمنها المناسب، وإن زاد عليه كما هو معلوم في بيع السلع، فالمقصود أنه متى استقصى وجعل لها سعرها المناسب ثم زاد على ذلك فإن ذلك يكون دافعا للتهمة المتقدمة، وأما العلة الأولى وهو أن العرف أن البيع يكون بيع الرجل من غيره لا من نفسه، فالجواب عن هذا: أن مقصود الموكل يحصل بهذا البيع بل مقصوده يحصل وأعظم منه إذا باع الموكل لنفسه، فإن مقصوده أن تباع هذه السلعة بثمن مناسب لها، فإذا بيعت بهذا الثمن المناسب وزيادة فإن مقصوده يحصل بل يحصل أعظم منه، فالذي يظهر هو هذا القول، وأنه متى استقصى استقصاء ظاهرا واشتراها بأعلى مما تقف عليه سوما فإن هذا البيع صحيح، وكذلك الشراء لما تقدم، وهو رواية عن الإمام أحمد وهو قول الأوزاعي، ومثل ذلك الولي على اليتيم والحاكم، فإذا احتاج الولي إلى بيع شيء من مال موليه اليتيم ووصل سعره في السوق إلى سعر ما بعد الاستقصاء ثم اشتراه فإن هذا الشراء جائز، لعدم وجود التهمة، ولقول الله تعالى: {ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن} .

قوله [ولا يبيع بعرض ولا نسأ ولا بغير نقد البلد]


ليس للوكيل أن يبيع بعرض، فإذا قال: بع لي هذه الشياة، فباعها الوكيل بإبل أو بثياب أو نحو ذلك فهذا لا يجوز، وذلك لأن عقد الوكالة لا يقتضي هذا، فإن عقد الوكالة يقتضي أن يبيعها بدراهم أو دنانير، فإذا باعها بعرض فإن هذا البيع لا يصح، فهو إنما أذن له ببيع يقتضيه عقد الوكالة، وكذا إذا باعها نساء أي بتأخير، فإذا قال: بع لي هذه الدار بمائة ألف، فباعها بمائة ألف ريال إلى شهر، فالبيع باطل، وذلك لأن عقد الوكالة لا يقتضي ذلك، فهو يقتضي أن يكون الثمن حالا لا مؤجلا، وكذلك إذا باعها بغير نقد البلد، فكذلك البيع يكون باطلا، لأن مقتضى عقد الوكالة أن يبيعها بنقد البلد، وعليه فالبيع باطل، وحينئذ يكون من تصرف الفضولي، وتصرف الفضولي موقوف على الإجازة، فإذا أجاز الموكل وقال رضيت بهذا البيع وإن كان بغير نقد البلد أو رضيت به وإن كان بعرض أو رضيت بتأخير الثمن فيكون البيع صحيحا وإلا فهو باطل.

قوله [وإن باع بدون ثمن المثل]
فمثلا كأن يقول له بع لي هذه السيارة، وكان سعرها مثلا عشرة آلاف، فباعها بتسعة آلاف.

قوله [أو دون ما قدره له]
فهاتان مسألتان في البيع، والمسألتان اللتان بعدهما في الشراء.

قوله [أو اشترى له بأكثر من ثمن المثل]
كأن يقول: اشتر لي سيارة وصفها كذا وكذا، وسعر مثلها كان عشرة آلاف، فاشتراها له بأحد عشر ألفا.

قوله [أو بأكثر مما قدره له]
كأن يقول له: اشتر لي سيارة وصفها كذا وكذا بعشرة آلاف، فاشتراها له بأحد عشر ألفا.

قوله [صح البيع وضمن النقص والزيادة]


إذن البيع صحيح، يضمن الوكيل النقص في مسألتي البيع، ويضمن الزيادة في مسألتي الشراء، وذلك لأنه مفرط، إلا إذا كان الغبن الذي غبن به غير فاحش فإنه معفو عنه هذا إذا لم يقدر له ثمنا للبيع أو الشراء، وهذا هو المشهور من المذهب، وعن الإمام أحمد وهو اختيار الموفق وهو مذهب الشافعي أن البيع لا يصح، وعليه فعلى القول بوقف تصرف الفضولي على الإجازة يكون موقوفا على الإجازة وإلا فهو بيع باطل، وذلك للعلة المتقدمة، وهي أن عقد الوكالة لا يقتضي هذا، فعقد الوكالة يقتضي أن يشتري له سيارة بثمن مثلها أو بما حدده له، أو أن يبيع له السيارة بثمن مثلها أو بما حدده له، وما زاد أو نقص فهو غير مأذون فيه، وحينئذ يكون تصرفه خارجا عن مقتضى الوكالة، وهذا القول هو الراجح وعليه فهذه البيوع باطلة إلا أن يجيزها الموكل.والراجح المذهب لأن الوكيل لم يخالف في أصل العقد فقد باع بإذن الموكل ولا ضرر على الموكل إلا بالنقص ويضمن له.
قوله [وإن باع بأزيد]
كأن يقول: بع لي هذه السيارة بعشرة آلاف فباعها بأحد عشرة ألفا.

قوله [أو بع بكذا مؤجلا فباع حالا]
كأن يقول بع لي هذه السيارة بعشرة آلاف مؤجلة، فباعها بعشرة آلاف حالة، فهذا يعتبر خيرا للموكل.

قوله [أو اشتر بكذا حالا فاشترى به مؤجلا]
كأن يقول اشتر بعشرة آلاف هذا الشيء حالا، فاشتراه بعشرة آلاف مؤجلا، فهذه كلها فيها خير للموكل، فعقد الوكالة وإن لم يقتضيها لكن فيها خير، وقد تقدم حديث عروة البارقي الذي رواه البخاري وفيه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أعطاه دينارا ليشتري به شاة، فاشترى به شاتين، وباع أحدهما بدينار، فهو قد اشترى الشاتين بدينار، والنبي - صلى الله عليه وسلم - قد وكله أن يشتري شاة بدينار، فهذا فيه خير وإن لم يقتضيه عقد الوكالة فكان جائزا، لكن بشرط وهو ألا يكون فيه ضرر فيهما ولذا قال:
قوله [ولا ضرر فيهما صح وإلا فلا]


أما إذا كان فيهما ضرر كأن يلحقه ضرر بحفظ المال كأن يقول: بع لي هذه السيارة بعشرة آلاف مؤجلة، فيبيعها بهذا الثمن حالا ويضره أن تكون هذه العشرة آلاف معه الآن ويخالف مقصوده فإنه لا يريد حفظ المال في هذا الوقت، وفي المسألة الأخرى له مقصوده بكون الثمن الذي يدفعه حالا فحينئذ لا يصح التصرف لأنه خالف عقد الوكالة، والمشهور من المذهب أنه يصح وإن كان فيه ضرر، فإذا قال بع لي هذه السلعة بعشرة آلاف إلى سنة، وهو لا يريد المال الآن فباعها بهذا السعر حالة فإنه يصح وإن كان عليه ضرر، والصحيح خلافه لأن عقد الوكالة لا يقتضيه، وإنما صححناه حيث لا ضرر لأن هذا البيع يحصل به أعظم من المقصود وأعظم من المراد فلا يتوجه المنع منه مطلقا، وأما حيث كان هناك ضرر فحينئذ يكون قد خالف عقد الوكالة على وجه يضر به، وما ذكره المؤلف هو أحد القولين في المذهب.

والله اعلم وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم

بسم الله الرحمن الرحيم
وبه نستعين وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وبعد

فصل
قوله [وإن اشترى ما يعلم عيبه لزمه إن لم يرض موكله]


إذا اشترى الوكيل ما يعلمه معيبا، فقد اشتراه على بصيرة فإنه يلزمه، لأنه قد اشتراه على بصيرة، ولأن عقد الوكالة يقتضي شراء السليم، فإن رضي موكله فحينئذ يكون للموكل لرضاه، هذا إن كان الشراء في الذمة من الوكيل للموكل، وذلك لأنه قد نوى الشراء له، وأما إذا كان هذا الشراء بعين مال الموكل كأن يقول: اشتر لي بهذه الدراهم دارا، فاشترى له دارا معيبة فلا يصح في المذهب، وهذا يرجع إلى تصرف الفضولي والخلاف فيه، وقد تقدم أن الصحيح أن تصرف الفضولي موقوف على الإجازة كما هو أصح الأقوال في هذه المسألة، إذن إذا تصرف الوكيل له في الذمة تصرفا لا يقتضيه عقد الوكالة فرضي به الموكل فيصح ذلك لأنه قد نوى الشراء له، أما إذا كان بعين مال الموكل فلا يصح، والصحيح ما تقدم من أنه موقوف على الإجازة، فإن رضي الموكل فالبيع صحيح، ويكون من باب تصرف الفضولي.

قوله [فإن جهل رده]
فإذا جهل الوكيل هذا العيب الموجود في السلعة فإنه يرد هذه السلعة، لأنها معيبة، والوكيل يقوم مقام موكله فهو نائب عنه، فكما أن الموكل له الرد بالعيب فكذلك الوكيل.

قوله [ووكيل البيع يسلمه ولا يقبض الثمن بغير قرينة]
مثاله: وكل زيد عمروا في أن يبيع له سيارة، فإن عمروا وهو الوكيل يقبض المشتري السيارة، وذلك لأن عقد الوكالة يقتضي هذا، فقد وكله في البيع ومقتضى عقد الوكالة أن يسلم هذه السيارة للمشتري، ولكن هل يقبض الوكيل الثمن من المشتري عن موكله أم لا؟
قولان في المذهب:


القول الأول: وهو المشهور من المذهب هو ما ذكره المؤلف من أنه لا يقبض الثمن بغير قرينة، فليس له أن يقبض الثمن لأنه إنما وكله في البيع ولا يقتضي هذا إلا تسليم المبيع، وأما قبض الثمن فلا يقتضيه عقد الوكالة، وهو قد يوكل بالبيع من لا يثق به في القبض، إلا بقرينة تدل على أنه أراد منه أن يقبض الثمن، كأن يعطيه سلعة ليبيعها في سوق هو غائب عنه، فمقتضى هذا أن يستلم الثمن.
القول الثاني: أنه يقبض الثمن مطلقا، وفيه ضعف لمخالفته عقد الوكالة كما تقدم.

واختار الشيخ عبد الرحمن بن سعدي أن مرجع هذه المسألة إلى العرف والعادة، وذلك لأن الإذن العرفي كالإذن اللفظي وما ذكره الشيخ قرينة عرفية فإن أعطاه حلياً ليبيعه فيقبض الثمن لوجوب التقابض فهي قرينة شرعية.

قوله [ويسلم وكيل المشتري الثمن]
فلوكيل المشتري أن يسلم الثمن للبائع كالمبيع، فكما أن لوكيل البائع أن يسلم المبيع، فلوكيل المشتري أن يسلم الثمن، لأن عقد الوكالة يقتضي هذا، وهل يقبض وكيل المشتري السلعة المبيعة أم لا؟
على ما تقدم في قبض وكيل البائع الثمن.
قوله [فلو أخره بلا عذر وتلف ضمنه]
إذا أخر وكيل البائع تسليم المبيع أو أخر وكيل المشتري تسليم الثمن بلا عذر وتلف ضمنه، لأنه قد تعدى بالتأخير، والمتعدي ضامن.

قوله [وإن وكله في بيع فاسد فباع صحيحا.... لم يصح]
إذا وكله في بيع فاسد فإن هذا البيع لا يصح لأن الموكل لا يصح له أن يبيع هذا البيع الفاسد، فكذلك الوكيل، فلو وكله أن يشتري له خمرا أو أن يبيع له خمرا فإن هذا البيع فاسد كما هو فاسد من موكله، ولو وكله في بيع فاسد فباع صحيحا كأن يشتري له شيئا غير محرم كأن يشتري به إبلا أو بقرا أو خلاً فلا يصح، لأنه لم يأذن له بذلك.

قوله [أو وكله في كل قليل وكثير.... لم يصح]


إذا قال: وكلتك في كل قليل وكثير، فطلق نسائي إن شئت، وأنفق مالي إن شئت وهبه إن شئت فأنا قد وكلتك في كل قليل وكثير قال هنا (لم يصح) وذلك لما فيه من الغرر، فقد يطلق عليه كل نسائه وقد ينفق عليه كل ماله ففيه غرر، وقال ابن أبي ليلى من الفقهاء وهو اختيار الشيخ عبد الرحمن بن سعدي بل يصح هذا، قالوا: لأنه إنما وكله لتمام ثقته به، وطمأنينته إلى اختياره، ولأنه لو قال به بالتفصيل لجاز هذا، فلو قال: وكلتك في طلاق نسائي صح، ووكلتك في هبة مالي صح، فكذلك يصح إجمالاً، وهذا القول هو الراجح، وذلك لما تقدم ولأن المصلحة قد تقتضي مثل هذا، كأن يكون عنده سوء تصرف فيوكل من يقوم على مصالحه
.قوله [أو شراء ما شاء]
كذلك إذا وكله في شراء ما شاء كأن يقول له: اشتر ما شئت، فيقول: هذه مائة ألف اشتر لي بها ما شئت، فهذا لا يصح.

قوله [أو عينا بما شاء ولم يعين لم يصح]
كذلك إذا قال اشتر لي هذه السيارة بما شئت من المال فهذا لا يصح لما فيه من الغرر، وعن الإمام أحمد وهو اختيار طائفة من أصحابه أنه يصح، لما تقدم تقريره، وهو أنه اختاره لكمال ثقته به ولطمأنينته إلى اختياره، ولعلمه أنه لا يختار إلا الأصلح وحينئذ فمثل هذا جائز والأصل في المعاملات الحل.

قوله [والوكيل في الخصومة لا يقبض والعكس بالعكس]
فمن وكل في خصومة فليس له أن يقبض كأن يقول الموكل لوكيله أنا أريد من فلان عشرة آلاف وقد وكلتك في الخصومة عني أي عند المحاكم ونحو ذلك، فهل يقبض المال الذي يخاصم عليه؟


الجواب: لا يقبضه، وذلك لأن عقد الوكالة لا يقتضيه، فعقد الوكالة إنما هو في الخصومة لا القبض، ولأنه قد لا يثق به في القبض مع ثقته في الخصومة، وقوله (والعكس بالعكس) أي إن وكله في القبض فله الخصومة، فإن قال أنا أريد من فلان عشرة آلاف وقد وكلتك أن تقبضها منه، فماطل أو جحد المدين فللوكيل الخصومة، وهذا أحد القولين في المذهب، والقول الثاني في المذهب أنه ليس له الخصومة وهو الراجح، وذلك لأن عقد الوكالة لا يقتضيه، وهو قد يثق به في القبض لأمانته ولا يثق به في الخصومة لعدم معرفته بطرق إثبات الحق، فإذا قال وكلتك أن تقبض حقي، فماطل أو جحد المدين فليس له أن يخاصم عن موكله، إلا مع القرينة كأن يوكله في قبض مال في ذمة أحد من الناس يعلم الموكل أنه جاحد وأنه مماطل، فمماطلته وجحده قرينة على أنه أراد منه أن يخاصم عنه، فالراجح أن من وكل بالقبض فلا يعني ذلك أن له الخصومة عن موكله إلا أن تكون هناك قرينة.

قوله [واقبض حقي من زيد لا يقبض من ورثته إلا أن يقول الذي قِبَلَهُ]
إذا قال له وكلتك أن تقبض حقي من زيد، فحينئذ له أن يقبضه من زيد أو من وكيله لأن الوكيل يقوم مقام الموكل.
وهل له أن يقبضه من ورثة زيد؟


قال المؤلف هنا ليس له أن يقبضه من ورثة زيد، لأن عقد الوكالة إنما في القبض من زيد، وليس فيه القبض من ورثة زيد، وأما الوكيل فإنه يقوم مقام زيد، إلا أن يقول قبله، فإذا قال: وكلتك أن تأخذ حقي الذي قِبَلَ زيد أي الذي من جهته فحينئذ يأخذه ولو من ورثته لدلالة اللفظ، واختار الشيخ عبد الرحمن بن سعدي أنه إن قال اقبض حقي من زيد فله أن يقبضه من ورثته وذلك لأن مراده تحصيل الحق سواء كان من زيد أو من وكيله أو من ورثته، وهذا هو الظاهر من مراده إلا أن يصرح كأن يقول: اقبض حقي من زيد نفسه لا من ورثته فحينئذ ليس له أن يأخذه من ورثته، وما ذكره الشيخ رحمه الله هو الظاهر لأن العبرة بالمعاني لا بالمباني.

قوله [ولا يضمن وكيل في الإيداع إذا لم يشهد]
إذا قبض الوكيل الثمن ثم أودعه أي جعله وديعة عند فلان من الناس ولم يشهد أنه قد أودعه إياه، ثم أنكر المودع عنده فهل يضمن هذا الوكيل؟
قال: لا يضمن، وذلك لأنه لا فائدة من الإشهاد وعليه فإنه لا يكون مفرطا.
وهذا يرجع إلى مسألة اختلف فيها أهل العلم وهي: إذا ادعى المودع عنده الرد، فقال: قد رددت الوديعة، فهل يقبل فوله حينئذ فعليه اليمين، أو لا يقبل قوله إلا ببينة تدل على الرد؟
قولان لأهل العلم:
فالجمهور على أنه يقبل قوله مطلقا، أي قول المودع عنده، فإذا اختلف المودع والمودع عنده في رد الوديعة فالقول قول المودع عنده مع يمينه، وعليه فلا فائدة من الإشهاد، فلو أن المودع أشهد على أنه وضع هذا المال وديعة عند فلان، ثم ادعى أنه قد ردها إليه فإنه يقبل قوله فلا فائدة من هذا الإشهاد، وعليه تنبني هذه المسألة في المذهب.


والقول الثاني: وهو مذهب مالك أنه إذا كان هناك بينة في الإيداع فلا يقبل قول المودع عنده في الرد إلا ببينة، بمعنى وضعت عنده وديعة، وأشهدت على الوديعة فحينئذ لا يقبل قوله في الرد إلا ببينة، وذلك لأن المودع إنما وضع البينة أولا خوفا من الجحود فحينئذ يراعى قصده، وهذا هو المشهور في مذهب مالك، ولذا فعن الإمام أحمد رحمه الله في هذه المسألة أي مسألة الباب وهو قول لبعض الحنابلة أن الوكيل يضمن إذا لم يشهد فإذا حصل الوكيل ما وكل به ثم جعله وديعة عند رجل ولم يشهد ثم أنكر هذا المودع عنده فإن الوكيل يضمن وذلك لتفريطه، لأنه لو أشهد لم يقبل قول المودع عنده إلا ببينة وعليه فيكون مفرطا. ولأن المودع عنده قد ينسى فينكر الوديعة.

فصل
قوله [والوكيل أمين لا يضمن ما تلف بيده بلا تفريط]
فالوكيل يده يد أمانة، فإذا تلف شيء في يده وهو لم يفرط فحينئذ لا ضمان عليه، فإذا تسلم الوكيل الثمن ثم حصل له تلف أو سرقة أو غصب أو نحو ذلك فحينئذ لا يضمن لأنه لم يفرط بترك ما يجب ولم يتعدِ في فعل مالا يجوز كأن يستعمل ما وكل في بيعه فيتلف والتفريط كأن يضعه في غير حرز.

قوله [ويقبل قوله في نفيه]
أي في نفي التفريط، فلا نقول هات بينة على أنك لم تفرط، بل متى ادعى أنه لم يفرط وحلف على ذلك فالقول قوله لما تقدم.
قوله [والهلاك مع يمينه]
فإذا ادعى الوكيل هلاك المال فكذلك يقبل قوله لأنه أمين وحينئذ فعليه اليمين.

قوله [ومن ادعى وكالة زيد في قبض حقه من عمرو لم يلزمه دفعه إن صدقه ولا اليمين إن كذبه]
إذا ادعى رجل أنه وكيل لزيد في قبض حق زيد من عمرو فما الحكم؟


لا يلزم عمروا أن يدفع الحق إن صدقه، وذلك لأنه يحتمل أن ينكر زيد، ويقول أنا لم أوكله وحينئذ فيتضرر عمرو بالرجوع عليه، ولا يلزمه اليمين إن كذب الوكيل، فاليمين لا تلزم عمروا لأن اليمين إنما تلزم حيث كان النكول عنها نافعا مثبتا للحق فلا يلزم أن يقول والله إنك كاذب وأنه لم يوكلك.

قوله [فإن دفعه وأنكر زيد الوكالة حلف وضمنه عمرو]
فإذا دفع هذا المدين الحق إلى الوكيل، وأنكر زيد الوكالة وقال: أنا لم أوكله، فإن زيدا يحلف لأنه مدعي عليه ويغرم عمرو، وذلك لأن الحق باق في ذمته حتى يسلمه إلى صاحبه، وهو لم يسلمه إلى صاحبه فيبقى في ذمته، ويرجع عمرو على هذا الوكيل بحقه.

قوله [وإن كان المدفوع وديعة أخذها]
مثاله: وضع زيد عند عمرو وديعة، فقال: هذه الحلي وديعة عندك، فأتى شخص وادعى أنه وكيل عن زيد في قبض الحلي فقبضه هذا الوكيل، فحيث وجد زيد الحلي فإنه يقبضها في أي موضع وجدها، فإذا وجده في يد هذا الوكيل أخذه، وإذا وجده في يد المشتري من هذا الوكيل أخذه، لأنه عين حقه، وقد انتقل عنه بغير حق فلم يكن هذا الانتقال معتبرا، هذا إذا كان عين الوديعة أو نحوها إن كان باقيا، أما إذا كان تالفا فإنه يضمن أيهما شاء.

قوله [فإن تلفت ضمن أيهما شاء]
فإن شاء ضمن هذا الوكيل المدعي للوكالة، وإن شاء ضمن المودع عنده، أما تضمين المودع عنده فلأنه قد فرط في إخراج هذه الوديعة من يده بغير إذن شرعي، فيكون مفرطا وعليه فيكون ضامنا، وأما تضمين القابض المدعي للوكالة فلأنه أخذ الشيء بغير حقه، فقد أخذ شيئا لا يستحقه فيكون ضامن
والله اعلم وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم

بسم الله الرحمن الرحيم
وبه نستعين وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وبعد

باب الشركة


الشركة يصح فيها هذا الضبط على وزن (سرقة) ، ويصح على وزن (نسعة) بكسر النون وسكون السين، ويصح على وزن (تمرة) ، والشركة هي كما عرفها المؤلف:

قوله [وهي اجتماع في استحقاق أو تصرف]
فالشركة نوعان:
الأول: شركة أملاك واستحقاق.
الثاني: شركة تصرف أو عقود.
فالشركة الأولى وهي شركة الأملاك أو الاستحقاق هي أن يشترك اثنان في عين أو منفعة، كأن يشترك زيد وعمرو في أرض لهما لكل واحد منهما النصف مثلا، أو يشتركان في منفعة ونحوه، وشركة الاستحقاق كل منهما له حق التصرف في نصيبه لأنه ملكه، وأما نصيب الآخر فليس له أن يتصرف فيه إلا بإذنه، وحينئذ فيكون تصرفه فيه كتصرف الفضولي موقوف على الإجازة، فإذا ورث اثنان أرضا لكل واحد منهما النصف فباعها أحدهما بغير إذن الآخر فإن البيع يصح في نصيبه لا في نصيب الآخر، وصحة البيع في نصيب الآخر موقوف على الإجازة كتصرف الفضولي، وهذا هو النوع الأول من أنواع الشركة.
أما النوع الثاني وهو ما يبحث فيه في مسائل هذا الباب فهو شركة التصرف أو شركة العقود ولها أنواع كثيرة يأتي ذكرها.

قوله [وهي أنواع: شركة العنان]
شركة العنان مأخوذة من عنان الفرس، وذلك لأن الشريكين في تصرفهما في مال الشركة كفارسين على فرسين قد تساويا في السير، فكان عنان، وهو السير الذي يرتبط باللجام ويمسك به الفارس، كل واحد منهما مساو لعنان الآخر فكذلك في الشركة كل منهما يتصرف، هذا يتصرف من جهة بملكه، ومن جهة أخرى بالوكالة.

قوله [وهي أن يشترك بدنان بماليهما المعلوم]
كأن يدفع هذا عشرة آلاف، وهذا عشرة آلاف، ويشترك فيها بدنان فأكثر، ولا بد أن يكون المال المشترك فيه معلوما، إذ الجهالة غرر، وقد نهت الشريعة عن الغرر.

قوله [ولو متفاوتا]


فلا يشترط التساوي في المال المشترك فيه، فلو دفع أحدهما عشرة آلاف والآخر عشرين ألفا فهذا جائز، فلا يشترط التساوي لحصول المقصود بذلك، وعدم ترتب الغرر، ولأن الأصل في المعاملات الحل.
قوله [ليعملا فيه ببدنيهما]
أو يعملان ببدنيهما أو بأبدان من ينيبانه.
فكلاهما يعمل فيه، فيشتركان في المال، ويشتركان في العمل، ولو كان العمل متفاوتا ما دام معلوما.
أو يعمل أحدهما ويكون له من الربح أكثر من ربح ماله نظير عمله كالإبضاع في المذهب وهو أن يعطي المال لمن يتجر به والربح كله للدافع والراجح أنه يصح وهو وجه في المذهب لأنه أسقط حقه من الربح برضاه وهو مذهب المالكية.
قوله [فينفذ تصرف كل واحد منهما فيهما]
فكل الشركاء ينفذ تصرفهم في هذا النوع من أنواع الشركة، فإذا اشترك زيد وعمرو ودفع كل واحد منهما عشرة آلاف فكل واحد منهما يتصرف بهذا المبلغ، فيتصرف في نصيبه لأنه مالك له، ونصيب الآخر لأنه وكيل عنه، ولذا قال:

قوله [بحكم الملك في نصيبه والوكالة في نصيب شريكه]
لأن هذا هو مقتضى هذا النوع من أنواع الشركة، فيتصرف كل واحد منهما بالمال بحكم الملك في نصيبه، وبالوكالة في نصيب الآخر، ولا يحتاج إلى إذن لأنه مقتضى عقد الشركة، فكل يتصرف بما فيه مصلحة الشركة، أما إذا كان التصرف تصرفا في غير مصلحتها كأن يتصرف في قرض أو عتق أو في محاباة أو في تبرع فهذا لا يقتضيه عقد الشركة فليس له أن يتصرف في هذا الباب، إلا أن يأذن الطرف الآخر، فإن تصرف ضمن.


وعلى كل واحد منهما أن يقوم بما تجري العادة بتوليه إياه، فكل واحد منهما يقوم بالعمل الذي تقتضي العادة أن يقوم مثله بمثله، فإذا اشتركا في بيع قماش فطيه ونشره وإدخاله وإخراجه من الدكان هذا يقتضيه العقد، ويتولى الشريك مثله، فإذا استأجر الشريك أجيرا لشيء من هذه الأعمال فعليه الأجرة، لأن مقتضى عقد الشركة أن يقوم هو به، فإن قام به غيره فعليه الأجرة، وليست الأجرة من مال الشركة.
وأما إن كان من الأعمال التي لا تقتضي العادة قيامه بها، كأن تكون الشركة في عدة دكاكين وهما شريكان ومعلوم أنهما لا يمكن أن يقوما بالإشراف والبيع في هذه الدكاكين الكثيرة فحينئذ إذا استأجر أجراء ليقوموا بهذه الأعمال فيكون ذلك - أي أجرتهم - من الشركة.
أما إذا كانت العادة تجري - كما يوجد عندنا - بمجرد الإشراف عليه ومتابعته للعمال فإذا أتى بأحد يشرف عنه فعليه هو الأجرة، لأن العادة جارية بأن الإشراف يكون على الشريك أو على الشريكين، وأما الأجراء والعمال فإن العادة جارية على أنه لا يتولاه مثله وحينئذ فتكون الأجرة من مال الشركة.

قوله [ويشترط أن يكون رأس المال من النقدين المضروبين ولو مغشوشين يسيراً]
فيشترط أن يكون رأس المال من النقدين من الدراهم والدنانير المضروبين، ولو كان فيهما غش يسير فلا بأس، فلو كان في الذهب غش يسير من فضة فهذا لا يؤثر، وذلك لأن هذا الغش اليسير لا يمكن التحرز منه، وهذا في القديم لما كانت تضرب الدراهم والدنانير وهو لمصلحة تصليب النقد، وأما إذا كان الغش كثيرا فلا يصح حينئذ المشاركة بها، وذلك لما فيه من الغرر. والمضروب هو الذي جعل نقداً.


والمذهب يقتصر في شركة العنان على أن يكون مال شركة العنان من الدراهم والدنانير المضروبة، ولا تصح الشركة في العروض، فلو اشتركا في قماش أو ثياب أو أراض عقارية فهذا لا يجوز، وعللوا ذلك: بأن عروض التجارة من القماش والثياب ونحوها أسعارها تزيد وتنقص فلا تكون منضبطة، فإذا أراد أن يفترق الشريكان فحينئذ قد يستوعب نصيب أحدهما المال كله، فمثلا: اشتركا في أراض في حائل وأراض في الرياض، وبعد عشر سنوات أصبحت قيمة الأراضي في الرياض أضعافا كثيرة، ونزلت قيمة الأراضي في حائل فإذا قيل يشتري لهذا أرض في الرياض وللآخر أرض في حائل فقد يستوعب الأول الربح كله أو أكثره فلا يصح الشركة فيها للغرر لأن القيمة غير منضبطة، وذهب الإمام مالك وهو رواية عن الإمام أحمد وهو اختيار شيخ الإسلام وتلميذه ابن القيم وهو اختيار الإمام محمد بن عبد الوهاب وصوبه صاحب الإنصاف واختيار طائفة من الحنابلة أن الشركة في العروض جائزة، قالوا: لأن الأصل في المعاملات الحل، وأما ما ذكرتموه من الغرر فإنه يندفع بتقويمها عند العقد، وتكون دراهما عند الفراغ من الشركة أو بطلانها، فإذا اشتركا - كما في المثال المتقدم - في أراضي في مناطق مختلفة أو بعروض أو نحو ذلك فإنها تقوم ويكون رأس كل واحد منهما هو هذا، وحينئذ فلا غرر، وهذا هو القول الراجح في هذه المسألة.

قوله [وأن يشترطا لكل منهما جزءا من الربح مشاعا معلوما]
فيشترط لكل واحد منهما - أي من المتشاركين - جزءا من الربح مشاعا، كالربع والثلث أو النصف ونحو ذلك، وهذا باتفاق العلماء دفعا للغرر، وذلك لأنهما لو قدرا دراهم محدودة في كل شهر فقال: لهذا ألف درهم كل شهر، وللآخر الباقي فهذا فيه غرر، وقد يربح أضعافا مضاعفة، وقد لا يربح شيئا، فيكون في ذلك غرر، وهذا من الميسر المنهي عنه.

قوله [فإن لم يذكرا الربح.... لم يصح]


لأن المقصود من الشركة الربح وعليه فإن لم يذكر الربح لم تصح.
فإذا تشاركا ولم يذكرا الربح لم يصح البقاء على عدم ذكر الربح، وحينئذ فيقسم لكل واحد منهما نصيبه على قدر ماله كما قرر ذلك فقهاء الحنابلة، فعندما يتشارك اثنان في تجارة، كل واحد منهما دفع النصف، ولم يقدرا ربحا فيكون ربح كل واحد منهما النصف، ويتخرج على قول شيخ الإسلام في مسألة شبيهة في فساد الشركة، يتخرج على قوله في تلك المسألة أن كل واحد منهما يعطي نصيبه على قدر النفعين بمعرفة أهل الخبرة، وهذا هو الذي يقتضيه العدل، بمعنى أن كل واحد منهما يعطى على قدر نفعه المالي أولا، وعلى قدر نفعه البدني ثانيا، وأما الحنابلة فقد أعطوا على قدر النفع المالي وأهملوا النظر إلى النفع البدني، فالعدل أن يعطى كل واحد منهما على قدر النفعين النفع المالي، والنفع البدني، وهذا القول هو الراجح.
وعليه - وهو قول الحنابلة وغيرهم - لو أنهما تدافعا مالا كل واحد منهما دفع النصف، وكان الجزء المشاع لأحدهما أكثر من النصف فهذا جائز نظرا للنفع البدني، وذلك لأنهما تراضيا وتشارطا عليه والمسلمون على شروطهم وهو كما تقدم مقتضى العدل.
فإذن إذا فسد العقد قسم الربح على قدر المالين ولكلٍ منهما أن يرجع بأجرة نصف عمله.
قوله [أو شرطا لأحدهما جزءا مجهولا]
فلو قال لك البعض ولي البعض فهذا مجهول، فلا يجوز ذلك للغرر.

قوله [أو دراهم معلومة]
فإذا قال لك ألف ريال أو أكثر أو أقل فهذا لا يجوز لما فيه من الغرر.

قوله [أو ربح أحد الثوبين لم تصح]


إذا قال لك ربح أحد المالين ولي ربح الآخر، كأن يشتركا في مال، وهذا المال في موضعين، فبعضه هنا وبعضه في بلدة أخرى، فقال أحدهما: لي الربح الذي يكون في هذه البلدة، ولك الربح الذي يكون في البلدة الأخرى فهذا لا يجوز، وذلك لأنه غرر، وقد نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن الغرر، فقد يربح هنا ولا يربح هناك، وقد يكون العكس.

قوله [وكذا مساقاة ومزارعة ومضاربة]
كذلك المساقاة وسيأتي الكلام عليها، والمزارعة والمضاربة وهي نوع من أنواع الشركة، يشترط أن يكون الربح فيها جزءا مشاعا معلوما باتفاق العلماء دفعا للغرر.

قوله [والوضيعة على قدر المالين]
الوضيعة هي الخسارة، فتكون الخسارة على قدر المالين، مثاله: اشترك اثنان فدفع أحدهما ثلث المال والآخر ثلثاه وكان لكل واحد من الربح النصف فالخسارة تكون بقدر المال لا بقدر الربح، وهذا باتفاق العلماء، وهذا هو العدل وذلك لأن الخسارة متعلقة بالمال لا بالربح، فالخسارة لا تعلق لها بالربح، فعلى ذلك من له الثلثان من الربح فالخسارة عليه بقدر الثلثين، ومن له الثلث تكون الخسارة بقدر الثلث نظرا لتعلق الخسارة بالمال نفسه. فإن شرط عليه من الوضيعة أكثر من قدر ماله فسد الشرط وحده لمخالفته مقتضى العقد، وكذا لو شرط ضمان المال لو تلف فهو شرط فاسد، أو شرط أن لا يفسخ الشركة مدة بعينها.
فعلى ذلك الشروط في الشركة كالشروط في البيع والنكاح:
شرط صحيح كأن يشترط أن لا يتجر إلا في كذا.
2- شرط فاسد مفسد للعقد وهو ما يعود بجهالة الربح.
3-شرط فاسد غير مفسد للعقد كأن يشترط ضمان المال أو لزوم الشركة بأن لا يفسخ مدة معينة.

قوله [ولا يشترط خلط المالين]


فلو اشتركا في مال متميز فهذا جائز لا حرج فيه، فلو اشتركا في أراضي عقارية، هذه في جهة وهذه في جهة أخرى فهذا جائز، أو على المذهب حيث لا يجيزون العروض لو اشتركا في دراهم ودنانير ولم يخلطاهما بل تاجر في هذه بجهة، وفي هذه بجهة أخرى فلم تختلط هذه الأموال بل هي متميزة هذا جائز فلا يشترط خلط المالين، وذلك لأن المقصود من هذه الشركة هو الربح سواء كان المالان مختلطين أم متميزين فلا أثر لذلك، ولأن الأصل في المعاملات الحل.

قوله [ولا كونهما من جنس واحد]
فلو اشتركا في دنانير ودراهم فهما جنسان مختلفان وهذا جائز للعلة المتقدمة وهي حصول الربح فالربح حاصل وإن كانت الأجناس مختلفة، وعلى القول الذي تقدم ترجيحه لو اشتركا في ثياب وقماش أو اشتركا في أطياب مختلفة فهذا كله جائز، وفي المذهب حيث كانت الدراهم والدنانير لا تزيد ولا تنقص، أما والدراهم تزيد وتنقص فهذا يشكل على المذهب، فلو اشتركا في ريالات ودولارات فالريالات قد تنقص والدولارات قد تزيد أو بالعكس فكانت كالعروض، وحينئذ فالصحيح أنها لا بد أن تقوم ما دام أنها تزيد وتنقص فيقال الدولارات كل دولار يساوي أربع ريالات، وحينئذ نجعل الريالات دولارات أو نجعل الدولارات ريالات، لا بد من هذا، وذلك لأنه في القديم الدراهم لا تزيد ولا تنقص إلا زيادة يسيرة جدا، أو نقصان يسير جدا، وأما في الوقت الحاضر كما قرر هذا الشيخ عبد الرحمن بن سعدي فإنها تختلف وتزيد وتنقص فلا بد من تقويمها دفعا للغرر.

والله اعلم وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم
بسم الله الرحمن الرحيم
وبه نستعين وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم
فصل
قوله [الثاني: المضاربة]
والمضاربة جائزة بالإجماع كما حكاه ابن حزم الظاهري رحمه الله.


وتسمى بالقراض والمقارضة، وقد ثبتت في موطأ مالك عن عمر وعثمان وحكيم بن حزام (1) ولا يعلم لهم مخالف، ويدل عليها الأصل فإن الأصل في المعاملات الحل، والمضاربة من الضرب في الأرض، لأن المضاربة فيها ضرب في الأرض في السفر للتجارة.

قوله [لمتجر به ببعض ربحه]
فالمضاربة هي دفع مال لمتجر به ببعض ربحه المشاع المعلوم، وصورتها: أن يدفع رجل مالا معلوما لآخر ليعمل به الآخر ويأخذ - أي الآخر وهو العامل - مقابل عمله وتجارته جزءا معلوما مشاعا كالربع والنصف ونحو ذلك، إذن فالمال من أحدهما والعمل من الآخر، بخلاف شركة العنان فإن كان منهما منه المال والعمل، وفي شركة المضاربة لا بد أن يكون الربح مشاعا معلوما كما تقدم من اتفاق أهل العلم على ذلك، فلو قال ببعض الربح لم يصح لما فيه من الغرر، فإن قال: خذ هذا المال فاتجر به والربح كله لك فالمذهب أنه قرض، وذلك لأنه دفع المال ولا ربح له فيه فكان قرضا وهذا هو المشهور من المذهب، وعليه فيضمنه كما يضمن القرض، وذهب المالكية إلى أن هذا العقد صحيح في باب الشركات، فيبقى قراضا أو مقارضة أو مضاربة ولا يكون قرضا، قالوا: لأن الآخر قد دخل على أنه لا ضمان عليه، ونحن إذا جعلناه قرضا فإنه يضمن، وإذا جعلناه شركة فإن العامل لا يضمن، وهو قد أخذ المال على أنه شريك لا على أنه مقترض، وعليه فيكون قوله والربح لك هبة منه، وهذا القول هو الراجح وهو اختيار الشيخ عبد الرحمن بن سعدي، وذلك لأنه لم يدخل على أنه ضامن وأن هذا العقد قرض، ولا بد في العقود من الرضى، فتكون مضاربة والربح هبة.

قوله [فإن قال: والربح بيننا فنصفان]
إذا قال خذ هذا المال فاتجر به والربح بيننا، فنصفان لكل واحد منهما نصف، وذلك لأن قوله: والربح بيننا فيه إضافة للمال من غير ترجيح فقد أضاف المال إليهما من غير ترجيح فكان لكل واحد منهما النصف.
__________
(1) 1 – الحاكم (1396- 1397)


قوله [وإن قال: ولي أو لك ثلاثة أرباعه أو ثلثه صح والباقي للآخر]
إذا قال: خذ هذا المال فاتجر به ولي الربع، أو ولي الثلث أو قال: خذ هذا المال فاتجر به ولك الثلث أو ولك ثلاثة أرباعه، ولم يذكر نصيبه في الأمثلة التي ذكر فيها نصيب الآخر، أو لم يذكر نصيب الآخر في الأمثلة التي ذكر فيها نصيبه فهنا يكون الحكم الصحة، فهي شركة صحيحة، ويكون الباقي للآخر، كما قال تعالى {وورثه أبواه فلأمه الثلث} ولم يذكر نصيب الأب لأنه مفهوم باللفظ أي وللأب الباقي كما هو معلوم.

قوله [وإن اختلفا لمن المشروط فلعامل]
إذا اختلف المضارب والعامل لمن المشروط فلعامل، فإذا ذكر في العقد أن الثلث لأحدهما، والباقي للآخر فاختلفا فكل منهما يقول للآخر الثلث لك، وبينة بينها فيكون المشروط للعامل، وذلك لأن العامل هو الذي يحتاج إلى ذكر نصيبه وذلك لأن الآخر وهو المضارب حقه متعلق بالمال، وما ذكره الحنابلة هنا متجه فهو تعليل صحيح، لكن حيث لم يشهد العرف بخلافه، أما لو شهد العرف بخلافه فيعتبر العرف كما قال الشيخ ابن سعدي رحمه الله.
والآن في البنوك – في وقتنا الحالي - لرب المال.
قوله [وكذا مساقاة ومزارعة]
إذا اختلفا في المشروط في المساقاة والمزارعة فالحكم واحد، فإذا اختلفا في النصيب المشروط أهو لصحاب المزرعة أم للمزارع، أهو لصاحب النخل أم لمن تولاها بسقي ونحو ذلك وهو العامل، فإذا اختلفا في ذلك فإن النصيب المشروط يكون للعامل ما لم يشهد عرف بخلافه.


وإذا اختلفا في قدره فحينئذ القول قول المضارب، فإذا ادعى العامل أن المشروط هو النصف، وأنكر هذا المضارب وقال: بل المشروط هو الثلث فالقول قول رب المال، وذلك لأنه منكر والعامل مدعي، فرب المال ينكر أن يخرج من ماله هذا النصيب الزائد عن الثلث، والآخر يدعيه، والبينة على المدعي واليمين على من أنكر، وعليه فيحلف المضارب أنهما قد اتفقا على الثلث لا النصف فإن حلف حكم بقوله.

قوله [ولا يضارب بمال لآخر إن أضر الأول ولم يرض فإن فعل رد حصته في الشركة]
مثال هذه المسألة: اتفق زيد وعمرو على أن يعمل له عمرو بماله، ثم اتفق عمرو مع بكر على أن يعمل له عمرو بماله، فهل يجوز ذلك؟
هنا لا يخلو من حالين:
1- أن يكون هذا العقد الجديد للمضارب الآخر مضرا بالأول.
2- ألا يكون مضرا به.
فإن كان مضرا بالأول كأن تكون المضاربة الأولى ذات مال كثير وتحتاج إلى أن يستفرغ وقته بالعمل فيها، فحينئذ لا يجوز لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (لا ضرر ولا ضرار) ، ولأنه دخل معه على عقد مقتضاه أن يفرغ وقته للعمل لأنه مال كثير يحتاج إلى تفرغ، لكن إن رضي الأول بذلك وقال: رضيت وإن كان علي ضرر فحينئذ يكون قد أسقط حقه فلا بأس بذلك.
أما إذا كانت المضاربة الجديدة لا تخل بالمضاربة الأولى فلا بأس بها.


فإذا فعل المضارب مضاربة جديدة مضرة بالأول ولم يرض الأول ردت حصته في الشركة أي رد الربح الجديد في الشركة الأولى، فيرد ربحه الذي يكون في الشركة الثانية إلى الشركة الأولى، قالوا: لأن هذا المال - أي الربح الجديد - قد استحق بمنفعته وهي - أي منفعته - للشركة الأولى، فيكون الربح للشركة الأولى، وهذا هو المذهب، وقال الموفق ما حاصله إن الشركة الأولى لا تستحق هذا المال وهذا الربح، بل تكون للعامل، وإن أضر ذلك بالشركة الأولى، وذلك لأن رب المال في الشركة الأولى ليس له في الشركة الثانية لا عمل ولا مال، فلم يستحق شيئا من الربح في الشركة الثانية، وغاية الأمر أن هذا الرجل العامل قد تعدى حيث دخل في الشركة الثانية على وجه يضر بالأولى، فكما لو ترك العمل وكما لو اشتغل لمصلحة نفسه وتعدي العامل لا يوجب عوضاً، وهذا هو ما اختاره شيخ الإسلام ابن تيمية وهو الراجح، فحينئذ يكون العامل قد تعدى.
وأما إذا ضارب بمال الشركة الأولى وأدخل مال الشركة الأولى في الشركة الثانية فلا إشكال أن هذا الربح يكون للشركة الأولى، فمثلا أعطاه مائة ألف على أن يعمل فيها، فدفع عشرة آلاف منها لأحد يعمل له فلا شك أن الربح الناتج من هذه العشرة آلاف راجعة إلى الشركة، لأن رب المال في الشركة الأولى له في الشركة الثانية مال أيضا، وإن كان بغير إذنه فلا يجوز له أن يضارب بغير إذنه وعليه فالضمان على العامل، فلو دفع العامل بعض مال المضاربة فحصل تلف بالمال فإن العامل يضمنه لأنه قد تعدى.

قوله [ولا يقسم مع بقاء العقد إلا باتفاقهما]


مثاله: دخلا في الشركة هذا منه المال، وهذا منه العمل، فلا يقسم الربح، كأن يعطيه مائة ألف على أن يعمل بها، فأصبحت بعد سنة مائة وعشرون ألفا فالربح وهو عشرون ألفا لا يقسم إلا برضى الطرفين، أما إذا انتهى العقد فلا إشكال في القسمة، فلا يقسم الربح مع بقاء العقد إلا باتفاقهما وذلك لأن بقاء الربح مع رأس المال يكون وقاية له، فإذا اتفقا على القسمة أو كانت مشروطة فالسلمون على شروطهم.

قوله [وإن تلف رأس المال أو بعضه بعد التصرف أو خسر جبر من الربح قبل قسمته أو تنضيضه]
إذا تلف رأس المال أو بعضه بعد التصرف أي بعد التصرف في هذا المال الذي وقعت عليه الشركة، فإنه يجبر من الربح قبل قسمته أو تنضيضه، والتنضيض هو رده إلى النقد، فإذا رد المتاع إلى نقد، فهذا هو التنضيض، كأن تكون ثيابا فتباع وتحول إلى نقد، فإذا حصل تلف في رأس المال أو خسارة جبر من الربح قبل قسمته وقبل تنضيضه فينزل التنضيض مع المحاسبة منزلته مع المقاسمة، وهما إذا اتفقا على المشاطرة أو على أخذ جزء مشاع أو نحو ذلك فقد اتفقا على ذلك من الربح، وحيث حصل في رأس المال شيء من النقص فحينئذ لا بد أن يجبر من الربح والمتبقي بعد رأس المال هو الربح، وهذا ظاهر لأن الاتفاق في القسمة إنما هو بعد رأس المال، أما إذا حصلت فيه خسارة أو تلف بعد المقاسمة أو بعد تنضيضه ومعرفة كل واحد منهما ماله، فحينئذ لا يجبر رأس المال، وذلك لأن المضاربة قد انتهت، فتكون الخسارة قد وقعت بعد المضاربة، وإن كانا قد أنشئا مضاربة جديدة فتكون هذه الخسارة ف المضاربة الجديدة لا في المضاربة الأولى، فإذا كان رأس المال مائة ألف، والربح مائة ألف، وبعد القسمة أو بعد التنضيض والمحاسبة لم يكن فيه أي خسارة فكان لكل واحد منهما خمسون ألفا في هذا المال، وهما قد نويا مضاربة جديدة فحينئذ إذا حصلت خسارة أو تلف في رأس المال فتكون في الشركة الجديدة.


فإن تلف رأس المال أو بعضه قبل التصرف انفسخت في التالف وكان رأس المال الباقي كالتالف قبل القبض، أما بعد التصرف فقد دار في التجارة وشرع مما قصد بالعقد من التجارة المؤدية إلى الربح.
وهنا مسائل في باب المضاربة:
* المسألة الأولى:
أن الشركة - أي شركة المضاربة - إذا فسدت فللعامل أجرة المثل، فإذا حصل فساد في الشركة كأن لا يذكر في الشركة سهم العامل فحينئذ تكون شركة فاسدة فما الحكم؟
قال الحنابلة له أجرة المثل، فيقال: قدروه عاملا أجيرا، وقدروا له ما يأخذه فيأخذه، وقال شيخ الإسلام بل له نصيب المثل أي أسهم المثل كالنصف، بمعنى أن يقدر هذه شركة من الشركات، ويقدر هذا مال قدره كذا، وهذا عامل عنده من الحرفة كذا، ومن المهارة الشيء المعين فنقدر نصيبا له كذا وكذا فيأخذه، وهذا هو العدل كما قال الشيخ عبد الرحمن بن سعدي.
** المسألة الثانية:
هل يجوز للعامل أن يتعامل بهذا المال نسيئة؟
مثلا: أعطاه مائة ألف، وقال: اتجر بها في القماش، فهل له أن يبيع شيئا من القماش نسيئة أم لا؟
قال الحنابلة وهو مذهب الجمهور لا يجوز ذلك، وذلك لما فيه من المخاطرة، فإن النسيئة فيها مخاطرة، فلا يجوز أن يدخل بهذا المال فيما فيه مخاطرة، وقال الأحناف وهو رواية عن الإمام أحمد بل يجوز هذا، لأن هذا مما يعتاده التجار، والعادة محكمة، والإذن العرفي كالإذن اللفظي، وما ذكروه راجح حيث كان عرفا، أما إذا لم يكن عرفا فذلك لا يجوز وعليه الضمان لما فيه من المخاطرة، وأما إذا أذن في رب المال فهذا لا إشكال فيه.
والعامل في المضاربة أمين لأنه متصرف فيه بإذن مالكه على وجه لا يختص بنفعه كالوكيل بخلاف المستعير فإنه يختص بالنفع وعليه فلا يضمن – العامل – إلا مع التعدي والتفريط.
والله أعلم وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
بسم الله الرحمن الرحيم


وبه نستعين وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وبعد
فصل
قوله [الثالث: شركة الوجوه]
أي الشركة بالوجوه، والمراد بالوجه: الجاه، أي الشركة التي سببها الجاه، وصورتها أن يشترك اثنان فأكثر بأخذ شيء من الأموال في ذمتيهما ويتاجران بها ويكون الربح بينهما وهم يأخذون هذه الأموال في الذمة على ثقة التجار، ولا يشترط أن يشتركا في البيع والشراء، فإذا قال كل واحد منهما أنت وكيل لي وكفيل بالثمن الذي آخذه فإن الحكم يثبت، أو اتفقا على أن يكون بينهما شركة وجوه، إذن شركة الوجوه حقيقتها أن يكون كل واحد منهما وكيلا عن الآخر وكفيلا له، فإذا اتفقا على هذا فاشترى زيد بضاعة ثم باعها فيكون تصرفه في هذه السلعة شراء وبيعا يكون عن نفسه أصالة وعن عمرو وكالة، ويكون الربح بينهما على ما اتفقا عليه، وكذلك إذا اشترى عمرو شيئا من السلع ثم باعها فشراؤه وبيعه فيه تصف عن نفسه أصالة، وعن زيد وكالة، وزيد كفيل له، فلا يشترط أن يكون البيع والشراء بينهما بالسوية.
وقد أجاز هذا النوع الحنابلة والأحناف، ومنع منها المالكية والشافعية، قالوا: لأنه لا مال فيها ولا عمل، فهما لا مال لهما، بل المال في الذمة فهذه الشركة مبنية على الذمم، ولا عمل فيها أيضا، وكل منهما يعمل بهذا المال الذي يأخذه ثم يتصرف فيه تصرفات تجارية ويكون الربح بينه وبين الآخر، وقال الحنابلة والأحناف: بل هي صحيحة لأن الأصل في المعاملات الحل، وليس فيها غرر يمنعها، ولأن حقيقتها كما تقدم أن كل واحد منهما وكيل عن الآخر وكفيل له، وما ذهب إليه الحنابلة والأحناف هو الراجح إذا لا مانع منها.

قوله [أن يشتريا في ذمتيهما بجاهيهما فما ربحا فبينهما]


كأن يكون اثنان لهما وجاهة، والناس يعرفونهم ويثقون فيهم، فيقولان: نضع بيننا شركة كل منا يشتري ما شاء - بناء على شروط يضعونها - ويبيع، ويكون وكيلا للآخر، والآخر كفيل له، ثم يكون الربح بينا، فهذه الشركة حقيقتها وكالة وكفالة، والوكالة جائزة، والكفالة جائزة، والأصل في المعاملات الحل.

قوله [وكل واحد منهما وكيل صاحبه وكفيل عنه بالثمن]
فكل واحد منهما يكون وكيلا عن صاحبه، وكفيلا عنه بالثمن، وهذا هو مقتضى عقد الشركة أي شركة الوجوه، وعليه فلا يشترط في عقد الشركة التنصيص على ذلك، لأن هذا هو مقتضى العقد.

قوله [والملك بينهما على ما شرطاه]
فالملك والربح أيضا كما سيأتي يكون على ما شرطاه، كأن يقول هذه الأموال التي تأخذها وأنا آخذها لي الثلث ولك الثلثان، أو نحو ذلك فالمسلمون على شروطهم، كذلك الربح ولذا قال المؤلف:

قوله [والربح على ما شرطاه]
فإذا قال: الربح بيننا مناصفة أو نحو ذلك فالمسلمون على شروطهم.

قولهم [والوضيعة على قدر ملكيهما]
لما تقدم، فالخسارة مرجعها المال لا الربح، فإذا كان لكل واحد منهما من المال النصف، ولأحدهما من الربح الربع، وللآخر ثلاثة أرباع، فتكون الوضيعة بالنظر إلى الملك، وعليه فتكون الوضيعة في المثال المتقدم على كل واحد منهم قدر النصف، وهذا باتفاق أهل العلم في شركة العنان وهنا كذلك.
ولا يشترط ذكر جنس ما يشتريانه ولا قدر ولا وقت.

قوله [الرابع: شركة الأبدان أن يشتركا فيما يكتسبان بأبدانهما]


هذا هو النوع الرابع، وهي شركة الأبدان أو الأعمال، وهي أن يشتركا فيما يكتسبان بأبدانهما، فيجتمع عامل وعامل ويقولان: ما يكون بيننا من العمل والربح يكون شركة بيننا، فيكون الربح بيننا على ما يتفقان عليه، كما يقع هذا في الورشات كورشات النجارة وغيرها، وقد اتفق القائلون بشركة الأبدان اتفقوا على جوازها فيما إذا كان الشريكان صنعتهما واحدة، واختلفوا فيما إذا كانت صنعة كل واحد مختلفة كأن يشترك تاجر وحداد أو نحو ذلك؟
فذهب الحنابلة إلى صحة الشركة، وقال المالكية لا تصح، وعللوا المنع بقولهم إن مقتضى الشركة أن يكون العامل الآخر الشريك ضامنا، بمعنى: أتى رجل ليعمل له هذا الشريكان صنعة، فاتفق معهما، فلم يقم صانعها بها، فإنها تلزم الآخر وهو الشريك، فإن الشريك ضامن، وهذا مقتضى الشركة، وعليه فإذا كان الشريك لا يتقن هذه الصنعة التي اتفق شريكه مع أجنبي على صنعتها فحينئذ لا يتمشى هذا مع كونه ضامنا، وأما دليل الحنابلة فهو الأصل، وهو أن الأصل في المعاملات الحل، وأجابوا عن دليل المالكية بأن كونه ضامنا لا يلزم منه أن يقوم هو بالعمل، بل يمكن أن يستأجر أجيرا ليعمل هذا العمل، أو أن يتبرع له متبرع بهذا العمل، فلا يشترط أن يقوم هو بهذا العمل، قالوا: ويدل على هذا أنكم تقولون - أي المالكية - إذا كان العمال أحدهما أمهر من الآخر فإنكم تصححون الشركة، مع أن الأمهر إذا لم يقم بهذا العمل فإن من دونه من العمال لا يمكنهم أن يقوموا به كما أراد الطالب، فإذا جاز هذا فإذا اختلفت الصفة فكذلك، وهذا القول هو الراجح، والحاجة داعية إلى مثل ذلك فإن المصانع الكبيرة وورشات السيارات ونحو ذلك تحتاج إلى عدة مهن، وقد يشتركون فيها مع اختلاف مهنهم.

قوله [فما تقبله أحدهما من عمل يلزمهما فعله]
كما تقدم لأن هذا هو مقتضى عقد الشركة وهو الضمان.

قوله [وتصح في الاحتشاش والاحتطاب وسائر المباحات]


تصح في الاحتشاش بأن يحتشوا ويكون الربح بينهما على ما شرطاه، وكذلك الاحتطاب وسائر المباحات، كأن يشترط أصحاب السيارات التي تحمل السلع في حمل البضائع وتكون الأرباح بينهم على ما يشترطون.
والقول بشركة الأبدان هو المشهور في مذهب الحنابلة وهو مذهب جمهور العلماء وهو اختيار شيخ الإسلام، وقال الشافعية وهو اختيار ابن حزم من الظاهرية إن شركة الأبدان لا تصح، وذلك لما فيها من الغرر، وقد نهت الشريعة عن الغرر، فإنه إذا اشترك العاملان فقد يعمل أحدهما ولا يعمل الآخر، فيربح هذا ولا يربح الآخر، فتكون فيها مخاطرة وقمار، واستدل أصحاب القول الأول ما رواه النسائي وغيره من حديث ابن مسعود قال:" اشتركت أنا وعمار وسعد يوم بدر فجاء سعد بأسيرين ولم أجئ أنا ولا عمار بشيء (1) لكن الحديث إسناده منقطع، وما ذهب إليه الجمهور هو الراجح لأن الأصل المعاملات الحل، وأما ما ذكره أهل القول الثاني من ثبوت الغرر فإن الغرر ليس مطردا في مثل هذه الشركة، ثم هو غرر يسير إن حصل، لكن إن كان الغرر ظاهرا فيتوجه المنع كما ذهب إليه الشافعية.

قوله [وإن مرض أحدهما فالكسب بينهما وإن طالبه الصحيح أن يقيم مقامه لزمه]
فإذا مرض أحد الشريكين فالكسب بينهما على ما شرطاه، وحينئذ هناك ضرر يلحق الصحيح فإنه يعمل ويشارك في ربحه الآخر، فيدفع هذا الغرر بما ذكره المؤلف في قوله (وإن طالبه الصحيح أن يقيم مقامه لزمه) وإلا فله الفسخ، فله أن يفسخ هذه الشركة إن أبى أن يقيم مقامه.
__________
(1) النسائي (3937) أبو داود (3377) ابن ماجه (2288)


وظاهر كلام المؤلف أنه إن ترك العمل غير معذور فإن الكسب لا يكون بينهما بل لا كسب ولا ربح، وهذا هو أحد القولين في المذهب، وذكره الموفق في المغني احتمالا، والقول الثاني وهو الصحيح في المذهب وليس براجح من حيث الدليل أن له نصيبه من الربح وهذا قول ضعيف، وذلك لأن المسلمون على شروطهم، وهما قد دخلا في هذه الشركة على أن يعملا فيها، فلم يعمل الآخر فأخل بالشرط فلم يستحق من الريح شيئا.
وإذا طلب أحد الشريكين الأجرة فيلزم المستأجر أن يعطيه إياها وذلك لأنه شريك يتصرف في هذه الشركة عن نفسه أصالة وعن شريكه وكالة، وله أي للمستأجر لطالب الصنعة أن يعطي الأجرة أيهما شاء لأن كل واحد منهما يتصرف عن نفسه أصالة وعن شريكه وكالة.
ولا تصح شركة الدلالين لأن الشركة لا تخرج عن الوكالة والضمان ولا وكالة هنا لأنه لا يمكن توكيل أحدهما على بيع مال الغير، ولاضمان لأنه لا دين يصير من ذمة واحد منهما ولا تقبل عمل وأما مجرد النداء وعرض المتاع وإحضار الزبون فيجوز الاشتراك فيه.
قوله [الخامس شركة المفاوضة: أن يفوض كل منهما إلى صاحبه كل تصرف مالي وبدني من أنواع الشركة]
فيقول نشترك أنا وأنت في شركة الأبدان وشركة العنان وشركة الوجوه والمضاربة وهي جائزة، لأنها إذا صحت الشركة منفردة صحت على جهة الاجتماع والأصل في المعاملات الحل.

قوله [والربح على ما شرطاه والوضيعة بقدر المال]
كما تقدم.

قوله [فإن أدخلا فيها كسبا أو غرامة نادرين أو ما يلزم أحدهما من ضمان غصب أو نحوه فسدت]
إذا قال: أنا وإياك مالنا واحد، فما ربحت فبيني وبينك، وما خسرت فعلي وعليك، وإذا أتاك إرث فلي ولك، وإذا وجبت عليك دية فعلي وعليك، وإذا حصل عليك ضمان جناية أو غصب أو نحو ذلك فعلي وعليك، وإذا حصل أي ربح من الأرباح فلي ولك، وهكذا فهذا لا يجوز لأنه فيها غرر.

والله أعلم وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين


بسم الله الرحمن الرحيم
وبه نستعين وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وبعد

باب المساقاة

المساقاة: مفاعلة من السقي، وسميت مساقاة لأن أهم ما يكون فيها هو السقي، والمساقاة هي: دفع شجر إلى من يقوم بسقيه والعمل عليه على جزء مشاع معلوم من الثمرة، فهي دفع شجر ولو لم يغرس إلى من يقوم بسقيه والعمل عليه من تأبير ونحو ذلك، مثاله: أن يدفع زيد بستانه الذي فيه نخل أو نحو ذلك إلى آخر ليقوم هذا الآخر بسقيه وتأبيره وإصلاح شأن الثمر والاهتمام به وله الربع مثلا من الثمار، والأصل في المساقاة ما ثبت في الصحيحين من حديث ابن عمر أن النبي - صلى الله عليه وسلم -: (عامل أهل خبير على شطر ما يخرج منها من ثمر أو زرع) [خ 2286، م 1551] فهذا هو الأصل في المساقاة أو المفالحة، فالشجر هنا لبيت المال، وعامل عليه ولي المسلمين - صلى الله عليه وسلم - في عهده عامل عليه أهل خبير من اليهود على أن يعملوا عليه ولهم شطر ثماره.

قوله [تصح على شجر له ثمر يؤكل]
فتصح المساقاة على شجر له ثمر يؤكل، كشجر النخيل أو شجر العنب، وظاهره أن الشجر إذا كان له ثمر لا يؤكل فإن المساقاة لا تصح فيه، وذلك كالقَرظ الذي تدبغ بها الجلود، أو غيرها من الأشجار ذات الثمار المقصودة المنتفع بها لكنها لا تؤكل سواء كانت ثمارها خشبا أو دواء أو غير ذلك، وهذا هو المشهور من المذهب، والقول الثاني في المذهب وهو مذهب المالكية أن المساقاة تصح على كل شجر ذي ثمر مقصود سواء كان مما يؤكل أو مما لا يؤكل، وهذا القول هو الراجح، وذلك للقياس الصحيح على ثمر النخيل بجامع الانتفاع بالثمر، ولأن الأصل في المعاملات الحل ولا دليل يمنع من ذلك.
وألحق الموفق رحمه الله وهو قول طائفة من أصحاب الإمام أحمد الحقوا ما يقصد ورقه أو يقصد زهره كالورد والياسمين ونحو ذلك، وهو قياس صحيح والأصل في المعاملات الحل.

قوله [وعلى ثمرة موجودة]


كذلك تصح المساقاة على ثمرة موجودة، بمعنى غرس نخلا فأثمر هذا النخل ويحتاج إلى عناية وعمل، فله أن يساقي عليه أحداً ليعمل له حتى يتم نضج هذه الثمار، فهذا جائز لأن الأصل في المعاملات الحل.

قوله [وعلى شجر يغرسه ويعمل عليه حتى يثمر بجزء من الثمرة]
كذلك تصح المساقاة على شجر يغرسه، كأن يقول هذه أرضي وهذا نخلي فاغرس النخل في أرضي واسقها واعمل عليها ولك النصف أو الثلث أو نحو ذلك، فهذا جائز، وذلك لأنه لا فرق بين المسألة السابقة وهذه المسألة إلا مزيد عمل من العامل، حيث إنه هنا يزيد عمله بالغرس وهذا لا يمنع من الصحة وتسمى بالمناصبة.
وقوله (بجزء من الثمرة) أي بجزء من الثمرة مشاع معلوم، أما لو قال له: بجزء من الثمار، ولم يكن مشاعا فإنه لا يصح، فلو قال هذه مائة نخلة اغرسها في هذه الأرض ولك ثمار هذه النخيل العشر أو لك ثمار هذه النخيل العشرين أو لك ثمار نخيل هذه الجهة أو لك ثمار هذا النوع فهذا لا يجوز، وكذلك لو قال: لك ستون وسقا أو نحو ذلك، فهذا كله لا يجوز لما فيه من الغرر، فقد ينتج هذا النوع ولا ينتج النوع الآخر، وقد تنتج هذه الجهة ولا تنتج الجهة الأخرى.

قوله [وهو عقد جائز]
أي لكل منهما - لمالك الشجر وللعامل - أن يفسخ فهو عقد جائز بين الطرفين، فمثلا اتفقا على أن يعمل له في بستانه الذي فيه نخيل، والثمار بينهما مناصفة، فلما مضى شهر قال رب المال: أنا أريد الفسخ، فله الفسخ، أو قال العامل: أنا أريد الفسخ فله الفسخ، وهذا هو المشهور في مذهب الحنابلة، وهذه المسألة فيها ثلاثة أقوال:
القول الأول: هو هذا القول وأن المساقاة والمزارعة عقد جائز بين الطرفين، وهو المشهور من المذهب.


القول الثاني: وهو القول الثاني في المذهب وهو مذهب الجمهور أن عقد المساقاة عقد لازم بين الطرفين فلا يجوز للمالك ولا للعامل أن يفسخ، وهو اختيار شيخ الإسلام والشيخ عبد الرحمن بن حسن والشيخ عبد الرحمن بن سعدي.
القول الثالث: وهو قول لبعض الحنابلة وهو اختيار الشيخ محمد بن عبد الوهاب أنه عقد لازم من جهة المالك وجائز من جهة العامل، فالمالك ليس له أن يفسخ إلا برضى العامل، وأما العامل فيجوز له أن يفسخ ولو لم يرض مالك الشجر.
أما أهل القول الأول فاستدلوا بحديث ابن عمر وفيه رواية أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لأهل خبير: (نقركم فيها على ما شئنا) [خ 2338، م 1551] قالوا: فهذا يدل على أنها عقد جائز والنبي - صلى الله عليه وسلم - يقرهم فيها وهو نائب المسلمين على ما يشاء، قالوا: كالمضاربة، والمضاربة بالاتفاق عقد جائز، فكذلك هنا.
وأما أهل القول الثاني الذين قالوا أنها عقد لازم فقاسوها على الإجارة، فالإجارة عقد لازم فكذلك عقد المساقاة بجامع أن فيهما كليهما العوض والكسب، قالوا: وإذا لم تكن عقدا لازما فإن في ذلك ضررا، فقد يعمل العامل عدة أشهر ثم بعد ذلك يقول له فسخت، وحينئذ يتضرر العامل، ولا ضرر ولا ضرار كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم -.
وأما أهل القول الثالث فقالوا: الضرر إنما يلحق العامل، فلا ضرر على المالك، فجعلناه لازما في حق المالك، حتى لا يتضرر العامل، وأما العامل فهو عقد جائز من جهته.


وأجاب أهل القول الأول عما استدل به أهل القول الثاني من قولهم بأنها إجارة قالوا: فرق بين الإجارة والمساقاة، فإن الإجارة نوع بيع، فهي بيع للمنفعة، وليس كذلك في المساقاة، بل المساقاة أشبه بالمضاربة فكلاهما فيه نوع اشتراك، فالمضاربة يدفع المال ويعمل الآخر، وهنا في المساقاة يدفع الشجر ويعمل الآخر، قالوا: وأما الضرر الذي يقولون إنه يلحق العامل فهو مدفوع بما يذكره المؤلف:

قوله [فإن فسخ المالك قبل ظهور الثمرة فللعامل الأجرة، وإن فسخها هو فلا شيء له]
فإما أن يكون الفسخ قبل ظهور الثمرة أو بعد ظهورها، فإن كانت الثمرة قد ظهرت فقد ثبت حق العامل، وله نصيبه من الثمرة التي ظهرت، وأما إذا كانت الثمار لم تظهر بعد فلا يخلو من حالين:
الأولى: أن يكون العامل هو الذي فسخ، فإذا فسخ هو فقد أسقط حقه فلا شيء له، وذلك لأن العقد فيه أنه يعمل حتى تظهر الثمرة، وله نصيب من الثمار، وحيث لم يصبر حتى تظهر الثمار فلا شيء له، والمسلمون على شروطهم.
الثاني: أن يكون الفسخ من جهة المالك، فندفع الضرر الذي يكون على العامل بأن نعطيه أجرة المثل، فمثلاً: اشتغل خمسة أشهر وأجرة مثله كذا وكذا، فيعطيها إياه المالك.
وفيما ذكروه نظر، فإن إعطاء العامل أجرة المثل فيه نظر، فهما قد تعاقدا على أن يكون للعامل نصيب مثله مساقاة لا إجارة، وهو إنما اشتغل هذه المدة على أن له ما شرط له من الربع أو الثلث أو نحو ذلك، فإعطاؤه أجرة المثل يخالف الشرط، والمسلمون على شروطهم،
[قلت (محمد بن خليفة) : والذي يظهر لي والله أعلم أنه يأخذ من سعر الثمر الذي كان سيعطاه على قدر عمله، ويأخذه حين يُجنى الثمر؛ لأن العقد كان على هذا، وأخذه حالا فيه أجحاف بحق صاحب الشجر، والله أعلم] .


والذي يقوى والله أعلم ما ذهب إليه الجمهور من أنه عقد لازم، وذلك لأن الله أمر بالإيفاء بالعقود في قوله {يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود} وقال {وأوفوا بالعهد إن العقد كان مسؤولا} وهذا عقد وعهد فهو عقد لازم، فالأصل في العقود اللزوم، إلا أن يأتي دليل يدل على عدم لزومها كما يكون هذا في الوكالات وفي الشركات فإنها وكالة، وكما يقع في التبرعات فهي عقود جائزة بدلالة الأدلة، وأما غيرها فيبقى على الأصل، ولأن المسلمين على شروطهم، وهذا قد دخل على شرط وعقد فيجب أن يوفي به، وأما قوله - صلى الله عليه وسلم -: (نقركم فيها على ما شئنا) فيجمع بينه وبين الأدلة التي استدل بها أهل القول الثاني بأن يقال: قوله - صلى الله عليه وسلم -: (نقركم فيها على ما شئنا) أي من السنوات، فأنتم تعملون هذه السنة، وسنوات بعدها نقركم على ما شئنا، فالصحيح ما ذهب إليه الجمهور وهو اختيار شيخ الإسلام وهو قول لبعض الحنابلة وهو اختيار الشيخ عبد الرحمن بن سعدي.
وعليه فهل يشترط تحديد سنة أو سنتين أو نحو ذلك أو لا يشترط؟
المشهور عند الشافعية أنه يشترط، فإذا لم تحد سنوات فهي مساقاة فاسدة، وقال أبو ثور من الشافعية وهو صاحب اجتهاد: لا يشترط التحديد، وحينئذ تكون هذه المساقاة على سنة، فإذا دخل من غير تحديد فحينئذ تكون على سنة، وهذا القول هو الراجح، ويدل عليه أن الثمار تظهر كل سنة، ولا يلحق الضرر حيث أبطل العقد أو فسخ بعد سنة، وقد ظهرت ثمار سنة وأخذ نصيبه، وأيضا فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يحدد لأهل خبير سنة ولا سنتين بل قال: (نقركم فيها على ما شئنا) فهذا يدل على عدم اشتراط التحديد ولأنها عقد جائز كالوكالة وهو المذهب. وتملك الثمرة بظهورها فعلى العامل تمام العمل إذا فسخت بعده وله بيعها إن كان غرساً لا ثمراً حتى يبدو صلاحه.

قوله [ويلزم العامل كل ما فيه صلاح الثمرة من حرث وسقي وزبار]


الزبار كلمة غير عربية، والمراد بها قص الغصون من شجر العنب، لأن في بقائها أثراً على الثمر.

قوله [وتلقيح وتشميس وإصلاح موضعه]
أي إصلاح موضع التشميس.

قوله [وطرق الماء وحصاده ونحوه]
هذه الأعمال تلزم العامل، إذن كل ما يكون فيه صلاح الثمرة فهو واجب على العامل، وقوله (وحصاد ونحوه) كذلك ما يحتاج إليه من آلة الحصاد ونحو ذلك.

قوله [وعلى رب المال ما يصلحه]
الضمير في قوله (ما يصلحه) يعود إلى المال، أي عليه ما يصلح المال.

قوله [كسد الحائط]
فإذا كان الحائط فيه انهدام أو نحو ذلك فيجب على رب المال أن يسده.

قوله [وإجراء الأنهار]
فعندما يكون هناك نهر فيحتاج إلى أن يحفر في الأرض ليوصل ماءه إلى هذا البستان فهذا واجب على رب المال.

قوله [والدولاب ونحوه]
الدولاب: آلة يستخرج بها المال، ومثلها عندنا: المكائن ونحوها، هذه كلها واجبة على رب المال، إذن ما يتصل بالأصل فهو واجب على رب المال، وما يتصل بالثمر ويصلحه فهو واجب على العامل، هذا كله حيث لم يشهد عرف بخلاف ذلك، إذا شهد العرف بخلاف ذلك فالشرط العرفي كالشرط اللفظي، فإن كان العرف على أن إصلاح المكائن مثلا يكون على العامل فهو عليه، وإذا كان الحصاد أو الجذاذ إذا كان العرف يشهد أنه على رب المال فهو عليه وهكذا، كذلك إذا كان هناك شرط لفظي فإنه يعمل به.
الله اعلم وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم

فصل

بسم الله الرحمن الرحيم
وبه نستعين وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وبعد

فصل

قوله [وتصح المزارعة]


المزارعة: هي دفع أرض إلى آخر ليزرعها على جزء من الزرع مشاع معلوم، والفرق بين المساقاة والمزارعة أن المساقاة في الشجر، وأما المزارعة فهي في الزرع من قمح وشعير وذرة ونحو ذلك، وتصح المزارعة كما هو مذهب فقهاء الحديث كالإمام أحمد وإسحاق ابن خزيمة وأبي ثور وغيرهم من أهل العلم، ودليل صحة المزارعة من السنة ما تقدم في الصحيحين من حديث ابن عمر حيث عامل النبي - صلى الله عليه وسلم - أهل خبير على شطر ما يخرج منها من ثمر وزرع، فقوله (وزرع) يدل على صحة المزارعة، وذكر البخاري في صحيحه معلقا هذه المعاملة عن طائفة كثيرة من الصحابة فقال رحمه الله:" عن أبي جعفر - الصادق - قال ما بالمدينة أهل بيت هجرة إلا يزرعون على الثلث والربع، وزارع علي وسعد بن مالك وعبد الله بن مسعود وعمر بن عبد العزيز والقاسم وعروة وآل أبي بكر وآل عمر وآل علي وابن سيرين، وقال عبد الرحمن بن الأسود كنت أشارك عبد الرحمن بن يزيد في الزرع، وعامل عمر الناس على إن جاء عمر بالبذر من عنده فله الشطر وإن جاءوا بالبذر فلهم كذا " (1) قالوا: ولا يعلم لمن تقدم من الصحابة مخالف فكان إجماعا.
__________
(1) البخاري: كتاب المزارعة باب المزارعة بالشطر ونحوه.


وقال الأحناف والشافعية بل لا تصح المزارعة، واستدلوا بما ثبت في الصحيحين أن النبي - صلى الله عليه وسلم -: (نهي عن المحاقلة) (1) وفي أبي داود بإسناد صحيح من حديث زيد بن ثابت نحوه وفيه أنه سئل - أي زيد - عن المحاقلة فقال: (أن يأخذ الأرض على نصف وثلث وربع) (2) واستدلوا بحديث رافع بن خديج في البخاري وغيره أنه قال: (نهانا النبي - صلى الله عليه وسلم - أن نحاقل بالأرض على الثلث والربع والطعام المسمى) (3) وبما ثبت في الصحيحين من حديث جابر بن عبد الله وهو نحو حديث رفع بن خديج وفيه أنه قال (كان فيها - أي في المدينة - رجال لهم فضل أرضين فأرادوا أن يؤجروها بالثلث والربع فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: (من كانت له أرض فليزرعها أو يمنحها فإن أبى فليمسك أرضه) (4) قالوا: فهذه الأحاديث تدل على النهي عن المحاقلة وهي المزارعة.
والصحيح ما ذهب إليه أهل القول الأول، للحديث المتقدم وهو حديث ابن عمر في مزارعة النبي - صلى الله عليه وسلم - أهل خبير، وأما الجواب عما استدل به أهل القول الثاني فيقال:
إما أن يكون هذا في أول الإسلام حيث كانت الحاجة داعية إلى المنح والإحسان، ولم يكن ذلك تحريما، ولذا ثبت في الصحيحين عن ابن عباس قال: (إن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم ينه عن ذلك وإنما قال: يمنح أحدكم أخاه أرضه خير له من أن يأخذ عليها خرجا معلوما) (5) فتحمل الأحاديث المقدمة على أنها في أول الإسلام، وهذا وجه.
__________
(1) البخاري: 2186 - مسلم: 1539.
(2) أبوداود: 3407.
(3) البخاري: 2344 - مسلم: 1548.
(4) البخاري: 2341 - مسلم: 1536.
(5) البخاري: 2330- مسلم: 1550.


والوجه الثاني أن تحمل على المخابرة الجائرة أي المزارعة الجائرة الظالمة التي لا تكون على جزء معلوم، ويدل لهذا ما ثبت في مسلم من حديث رافع بن خديج وهو ممن روى في النهي عن المخابرة فإنه قال لما سئل عن كراء الأرض بالذهب والفضة فقال: (لا بأس به إنما كان الناس يؤاجرون على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - على الماذيانات - وهي أطراف السواقي - وأقبال الجداول - الجدول هو النهر والمعنى: أوائل النهر - وأشياء من الزرع فيهلك هذا ويسلم هذا ويسلم هذا ويهلك هذا فلم يكن للناس كراء إلا هذا فلذلك زجر عنه فأما شيء معلوم مضمون فلا بأس به) (1) [م 1547] وفي الصحيحين عنه أنه قال: (كنا أكثر الأنصار حقلا، قال كنا نكري الأرض على أن لنا هذه ولهم هذه فربما أخرجت هذه ولم تخرج هذه فنهانا عن ذلك) (2) فهذا يدل على أنهم كانوا يتفقون على أن هذا له، وهذا للآخر، أي هذا النصف مثلا من هذه الجهة لي، والنصف الآخر وهو الجهة الفلانية لك، وهذا هو المنهي عنه، فالصحيح جواز المزارعة، والقياس الصحيح يدل على ذلك، فإنه لا فرق بينهما وبين المساقاة التي تقدم ذكرها.

قوله [بجزء معلوم النسبة]
كأن يقول: بثلث ما يخرج أو ربعه أو نحو ذلك، فلا بد أن يكون جزءا مشاعا معلوما، لكن لو قال: لي ما يخرج في هذه الجهة، ولك ما يخرج في الجهة الأخرى، أو لي طعام فسمى كذا وكذا من الآصع أو نحو ذلك فلا يجوز هذا.
هل يجوز أن يستأجر الأرض على هذه الصفة؟
فيقول: أريد أن استأجر منك أرضك بثلث ما يخرج منها، وعليه فإذا لم يزرع هذه الأرض فإن عليه أن يأتي بالثلث الذي يخرج منها عادة، بأن ينظر غلة الأراضي التي تشبهها ثم يعطي ثلثه، فهل هذا يصح؟
__________
(1) مسلم: 1547.
(2) البخاري: 2332- مسلم: 1547


المشهور من المذهب جوازه، ومنع منه الجمهور، واحتجوا على المنع بأن الإجارة لا بد أن تكون الأجرة فيها معلومة، وهنا الأجرة ليس بمعلومة فقد يكون الثلث الذي يخرج منها قليلا وقد يكون كثيرا، والصحيح ما ذهب إليه الحنابلة من جواز هذه المسألة، وذلك لأنها إن أنبتت الأرض وأخرجت زرعها فأخذ الثلث فلا فرق حينئذ بين الإجارة والمزارعة إلا بالألفاظ وهذا ليس بمؤثر، وإن لم تنبت فإن الثلث معلوم في العادة فليس بمجهول، فإن أهل الخبرة يعلمون القدر الذي تخرجه في العادة وحينئذ فقسطه معلوم فلا جهالة.

قوله [مما يخرج من الأرض لربها أو للعامل والباقي للآخر]
فإذا قال رب المال: لي النصف فحينئذ يتعين الباقي للعامل، وإن قال العامل: لي النصف فحينئذ يتعين لرب المال الباقي.

قوله [ولا يشترط كون البذر والغراس من رب الأرض وعليه عمل الناس]


هذا هو أحد القولين في مذهب أحمد وأحد الروايتين عنه وهو اختيار الموفق والمجد ابن تيمية وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم، أن البذر لا يشترط أن يكون من رب الأرض فلو كان من العامل فهذا جائز، فلو اتفقا على أن يكون البذر من العامل في المزارعة، أو أن يكون الشجر من العامل في المساقاة فهذا جائز، والقول الثاني وهو المشهور في المذهب أنه لا يجوز ذلك، وأنه يشترط أن يكون البذر من رب المال، فإن كان البذر من العامل فهي مزارعة فاسدة، وإن كان الغراس من العامل فهي مساقاة فاسدة، وهذا هو مذهب جمهور العلماء، واستدل أهل القول الأول بما تقدم من أثر عمر بن الخطاب فإنه عامل الناس على أنه إن جاء عمر بالبذر - وهو النائب عن المسلمين - فلهم الشطر، وإن جاءوا - أي العمال - بالبذر فلهم كذا، فهذا هو قول عمر وفعله ولا يعلم له مخالف، ولأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما عامل أهل خبير وكانوا هم العمال لم يثبت أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يعطيهم شيئا من البذور ولم ينقل هذا، ولو كان مثل هذا ثابتا لنقله رواة هذا الحديث، فلما لم ينقلوه كان الظاهر أن ذلك لم يكن منه - عليه الصلاة والسلام -، وأما أهل القول الثاني فقالوا: إن المضاربة يكون رأس المال فيها من رب المال، فكذلك البذر وكذلك الغراس فلا بد أن يكون من رب المال كالمضاربة، فاستدلوا بالقياس على المضاربة، والقياس حيث خالف ما تقدم من الأثر والسنة فهو قياس فاسد ثم إن هناك فرقا وهو أن رأس المال يرجع إلى صاحبه في المضاربة وأما البذر فلا يرجع إلى رب المال، بل ترجع إليه أرضه والربح، فكان بين البذور والمال فرقا، وعليه فالراجح هو القول الأول، وعليه فإذا كان بينهما شرط لفظي على أن يكون البذر من أحدهما فهو عليه، وإن كان هناك عرف فإنه يحكم به.


مسألة:هل يجوز أن يقول رب المال أو العامل - على القول به - أنا أدفع البذر ولكن إذا أخرجت الأرض فآخذ قيمة البذر ثم يكون الربح بعد ذلك بيننا؟ كأن يضع طنا من القمح بذرا، ثم تخرج الأرض مائة طن، فيخرج طنا على أنه هو البذر فيأخذه دافع البذر ويقسمان الباقي
المشهور من المذهب المنع من ذك، قالوا:لأنه قد لا ينتج شيء، إلا ما يماثل البذور، فيكون هذا كما لو اتفقا على آصع معلومة، هذا فيه غرر، وأجازه شيخ الإسلام قياساً على المضاربة، وألحقه برأس المال.
كذا الكلف السلطانية ما لم يكن هناك عرف يقضي بخلاف ذلك، فإذا كان السلطان يأخذ شيئا من رب المال على هذا الربح كأن تكون ضرائب فتخرج هذه الضرائب ثم يقسمان الربح ما لم يكن هناك عرف بخلاف ذلك.قال شيخ الإسلام ويتبع في الكلف السلطانية العرف مالم يكن هناك شرط.
مسألة: هل يجوز أن يؤجر الأرض بطعام معلوم؟ كأن يقول: استأجر منك هذه الأرض لأزرعها بخمسين طنا من القمح، ويزرعها قمحاً أو يزرعها شعيرا؟
لهذه المسألة صورتان:
الصورة الأولى: أن يكون الطعام المسمى من جنس ما يزرع، كأن يقول: استأجر منك هذه الأرض لأزرعها قمحا وأعطيك كذا طنا من القمح، فهذا لا يجوز، وهو رواية عن أحمد وهو مذهب مالك، والجمهور على جوازه، والصحيح هو المنع وذلك لأنه ذريعة إلى التحايل على تحديد آصع معلومة في الزارعة، وهذا ممنوع منه، وفيه غرر كما تقدم، ولذا تقدم حديث رافع بن خديج في الصحيحين: (نهانا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على أن نحاقل بالأرض على النصف والربع والطعام المسمى)
الصورة الثانية: أن يكون الطعام من جنس آخر، كأن يستأجر الأرض ليزرعها قمحا ويعطيه أجره من الشعير أو غيره فلا وجه للمنع من هذا، فإن ذلك يشبه كراء الأرض بالذهب والفضة وليس هناك محذور وهو مذهب الجمهور ومنع منه المالكية، والصحيح هو جوازه