شرح زاد المستقنع للحمد

" باب إحياء الموات"
قال: [وهي الأرض المنفكة عن الاختصاصات وملك معصوم]
هذا هو تعريف الموات.
منفكة عن الاختصاص: كالأفنية والطرق ومسايل الماء وحريم النهر ونحو ذلك فهذه فيها منفعة عامة فهي من الاختصاصات وليست ملكاً لمعصوم أي لمعصوم المال سواء كان مسلماً أو ذمياً فهذه الأرض هي الموات فمن أحياها فقد ملكها، ولذلك قال المؤلف: [فمن أحياها فقد ملكها]
لما روى البخاري من حديث عروة عن عائشة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (من عمّر أرضاً ليست لأحدٍ فهو أحق بها) قال عروة وقضى بذلك عمر في خلافته. وروى الثلاثة والحديث حسنه الترمذي وهو حسن لشواهده أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال من حديث أبي سعيد الخدري: (من أحيا أرضاً ميتة فهي له) .
قال: [من مسلم وكافر] .
سواء كان المحيي مسلماً أو كان كافراً ذمياً، فللذمي أن يحيى، فإذا سبق الذمي إلى أرض فأحياها بزرع أو بناءٍ أو نحو ذلك فهي ملك له أيضاً، وهو مذهب الجمهور ودليل ذلك عموم الحديث المتقدم: " من أحيا أرضاً ميتة فهي له".
ومنع الشافعية من ذلك في الذمي، وقالوا: إذا أحيا الذمي أرضاً أي في البلاد التي هي ملك للمسلمين فهي ليست له، واستدلوا بما روى البيهقي بإسناد صحيح إلى طاووس وهو من التابعين أن النبي - صلى الله عليه وسلم -?قال: ?عاديُّ الأرض" أي قديمها نسبةً إلى عاد" لله ورسوله ثم لكم بعدُ) ، والقول الراجح مذهب الجمهور?لعموم الحديث، وأما ما استدل به الشافعية فهو مرسل والمرسل ضعيف فهو عن طاووس وهو من التابعين، فالراجح مذهب الجمهور لعموم الحديث، ولأن الذمي يملك في البلاد الإسلامية، يملك بماله بالشراء ويملك بالهبة، فإذا وهب أو اشترى فإنه يملك فكذلك إذا سبق إلى أرض فأحياها فهي ملك له.
وفي قول المؤلف: [وهي الأرض المنفكة????وفي قوله بعد ذلك: [في دار?وغيرها، والعنوة كغيرها??


في هذا ما يدل على أن الإحياء عام في كل أرضٍ، سواء كانت هذه الأرض في البلاد الإسلامية أو غيرها، وسواء كانت قد فتحت عنوة كأرض الشام ومصر والعراق، أو فتحت صلحاً، لعموم قوله: "من عمّر أرضاً"، ولقوله: "من أحيا أرضاً ميتة"، فأي أرض ينفذ فيها حكم الإسلام فيحييها مسلم أو ذمي فهي له، وعند الحنابلة في المشهور عندهم?أن الأرض إذا فتحت صلحاً على أن الأرض للكفار، فإذا أحياها مسلم فليست له، واختيار الموفق رحمه الله أنها له وهو الراجح لعموم الحديث.
فإذن: من أحيا أرضاً مواتاً فهي له، سواء كانت البلاد التي هي فيها فتحت عنوة كأرض الشام ومصر والعراق، أو فتحت صلحاً سواء كان الصلح على أن تكون?الأرض للمسلمين أو على أن تكون الأرض للكفار، وهذا من تشوّف الشارع إلى إحياء الأرض وتعميرها، ومن القيام بأمر الدنيا، فالدين الإسلامي قائم بمصلحة الدين والدنيا.
قال: [بإذن الإمام وعدمه]
أي سواء أذن الإمام أم لم يأذن، فلا يشترط إذن الإمام هذا هو المشهور عند الحنابلة وهو مذهب الجمهور، ومنع من ذلك الأحناف، وقالوا: بل يشترط إذن الإمام والراجح هو الأول لعموم الحديث، فإن النبي - صلى الله عليه وسلم -?قال: (من?أحيا أرضاً ميتةً فهي له??ولم يشترط في ذلك إذن الإمام، ولأنها عين مباحة فلم تفتقر إلى إذن الإمام كالاحتطاب ونحوه لكن إن منع الإمام من إحياء أرض، كما يمنع في الغالب من إحياء الأراضي التي تكون حول المدن انتظاراً لمصلحة أو نحو ذلك، فإنه حينئذ يمنع من الإحياء، وذلك لأن منعه من إحيائها يعني اختصاصها، وأنها أصبحت مختصة ومعدة لمنفعة عامة??
قال: [ويملك بالإحياء ما قرب من عامرٍ إن لم يتعلق بمصلحته]


بمصلحته": الضمير يعود إلى العامر، أي هذا الإحياء ليس مختصاً بالأراضي النائية البعيدة عن المدن بل هو عام فيها وفي غيرها من الأراضي القريبة إلى المدن وليس فيها اختصاص، فلا تكون مقبرة أو ملقى كناسة أو طريقاً، أو مركب خيلٍ أو مصلى عيدٍ أو نحو ذلك مما فيه مصلحة عامة. فإذا لم يكن هذا الموضع القريب من الأرض العامرة لمصلحتها، فإن له أن يحييه لعموم الحديث المتقدم، "من أحيا أرضاً ميتةً فهي له??وهذه أرض موات.
ومنع منه الأحناف، لأنه يحتمل أن يُحتاج إليه للمصلحة العامة والراجح الأول، لأن هذا الاحتمال لا يمنع الحق، فهذا حق له وهذا مجرد احتمال، لكن للإمام، كما تقدم أن يمنع من إحياء المواضع القريبة من المدن، بل ينبغي له أن يمنع من الإحياء ترجيحاً للمصلحة العامة على المصلحة الخاصة??
قال: [ومن أحاط مواتاً ... إلى أن قال "فقد أحياه]
???إذا أتى إلى أرض منفكة من?الاختصاصات وليست ملكاً لمعصوم، أتى إليها فوضع عليها حائطاً منيعاً سواء كان من طين أو غيره مما تحاط به الأرض، فهي له وإن لم يزرعها وإن لم يسقفها.
إذن، من إحياء الأرض أن تضع عليها حائطاً.
استدلوا: بما روى أبو داود أن النبي - صلى الله عليه وسلم -?قال: ??من أحاط حائطاً على أرضٍ?فهي له) ،?وعن الإمام أحمد وهو مذهب الشافعية واختاره طائفة من أصحاب الإمام أحمد كابن عقيل والقاضي والموفق وغيرهما، أن الإحياء مرجعه إلى العرف، فإذا أحياها عرفاً فهذا هو الإحياء المعتبر، وكونه يحيطها بحائط من غير أن يسقفه إن كان البناء للسكن، ومن غير أن يجري على هذه الأرض الماء إن كان للزرع أو الغراس، فإن هذا ليس بإحياء وهذا القول الأرجح،?لقوله عليه السلام: ?من أحيا?،?ومن أحاط حائطاً فإنه ليس بمحيي.


وعليه فقوله - صلى الله عليه وسلم -????من أحاط حائطاً على أرضٍ فهي له) ?هذا بالنظر إلى ما يؤول إليه الأمر، أي هو أحق بالأرض، فإذا سقف هذا الحائط أو زرع أو غرس فهي له، فإذا أحاط حائطاً فهو أحق بها من غيره لكن لا تكون ملكاً له حتى يحييها، لقوله - صلى الله عليه وسلم -?في الحديث "من عمرّ أرضاً??وهذا في الحقيقة لم يعمرها، فالراجح أن مرجع ذلك إلى العرف، فعليه إذا أحاطها بحائط وحفر فيها بئراً أو أجرى إليها الماء من النهر أو من العيون أو من السدود واشتغل في الأرض فهذا هو الإحياء لها، وإذا كانت للسكن فإذا أحاطها وسقفها فهذا هو إحياؤها.
قال الحنابلة??إذا تحجّر أرضاً فهو أحق بها أي وليست ملكاً له، فإذا أحاطها بحجر أو بتراب فإنه لا يملكها لكنه أحق بها من غيره فليس لأحدٍ أن?يسبقه إلى إحيائها، وقبل ذلك على الراجح لو أحاطها بحائط وذلك لأنه سبق إليها فهو أحق بها، وحينئذ فيمهله الإمام ليحييها.
قالوا: يمهله الشهرين والثلاثة ويقول له، إما أن تحييها وإما أن تتركها، هذا هو المشهور في المذهب.
وقال بعض الحنابلة وهو الصواب??التحديد مرجعه إلى الحاكم، وهذا يختلف باختلاف الأزمنة وبعد الأرض عن المالك، والآليات التي تصلح بها الأرض، فيمهله مدة معلومة تكفيه ليتمكن من إحيائها فإذا لم يحيها فإنه ينزعها من يده.
قال: [أو حفر بئراً فوصل إلى الماء أو أجراه إليه من عين أو نحوها أو حبسه عنه ليزرع فقد?أحياه]
???قوله "أو حبسه عنه ليزرع??أي حبس الماء عن الزرع ليزرع فإن من الزرع ما يحتاج إلى حبس الماء عنه، فإذا كان الماء يسيل إلى جهة الأرض فأخذ يشتغل بإيقاف الماء عن هذه الجهة من الأرض ليزرع فإن هذا إحياء. وإذا اشتغل بإزالة الأحجار ونحوها عن الأرض، وإصلاحها بالأسمدة ونحو ذلك فهذا أيضاً إحياءُ لها.
?فقد أحياه] ?وتقدم أن الراجح أن مرجع ذلك إلى العرف.


قال: [ويملك حريم البئر العادية خمسين ذراعاً من كل جانب، وحريم البدّيّة نصفها] .
??الحريم: هو ما يمنع غير المالك من التصرف فيه، فهذا الحافر للبئر، يملك من الأرض ما?حفر وحريمه وسمي بذلك لأن غيره يحرم عليه أن يتصرف فيه، وحريم البئر العادية، "والعادية نسبة إلى عادِ" وهي البئر القديمة، حريمها خمسون ذراعاً أي نحو خمسة وعشرين متراً من كل جهة، فإذا كان هناك بئر قديم فاشتغل بإصلاحه وإخراج الماء منه فإنه يملك حينئذ خمسين ذراعاً من كل جهة، وحريم البئر البديّة أي الحديثة نصف ذلك أي خمساً وعشرين ذراعاً، ودليل هذه المسألة ما روى أبو داود في مراسيله بإسناد صحيح إلى سعيد بن المسيب أنه قال: "السنة أن يكون حريم البئر العادية خمسين ذراعاً، وحريم البدّية خمساً وعشرين ذراعاً"، وله شاهد مرسل عن الزهري عند أبي داود في مراسيله أيضاً، فإن كان شجراً أو نخيلاً، فإن حريمها ما امتدت إليه أغصانها وفي النخل بعدد جريدها، فإذا غرس نخلة في أرض موات فإنه يملك موضع النخلة وما حولها بقدر الجريد، وإن كانت أشجاراً سوى النخيل فإنه يملك بقدر الأغصان، ودليل هذا ما ثبت في أبي داود بإسناد صحيح عن أبي سعيد قال: " اختصم رجلان إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -?في?حريم نخلٍ، فأمر النبي - صلى الله عليه وسلم -?بجريدة، من جريدها فوجدت سبعة أذرع أو خمسة أذرع فقضى بذلك) .
وأما حريم النهر وغيره فإنه بقدر ما يحتاج إليه، وهكذا سوى ذلك، فمثلاً عندما يبني داراً فإنه يحتاج إلى شيء من الأراضي الخارجة عن داره كموضع الخروج والدخول ونحو ذلك، فيترك له بقدر ما يحتاج إليه.
قال المؤلف رحمه الله: [وللإمام إقطاع موات لمن يحييه ولا يملكه] .


تقدم تعريف الموات وأنها الأرض المنفكة عن الاختصاصات وعن ملك معصوم، وللإمام أن يقطع من رعيته?ما شاء من الموات لمن يحييه أي لمصلحة إحيائه، ودليل ذلك ما ثبت في الصحيحين: (أن النبي - صلى الله عليه وسلم -?أقطع الزبير?بن العوام نخلاً) ، وفي سنن أبي داود والترمذي وحسنه وهو كما قال: (أن?النبي - صلى الله عليه وسلم -?أقطع وائل بن حجر أرضاً في حضرموت) .
??لكن لا يملكه بالإقطاع بل يملكه بالإحياء، فإذا أقطعه أرضاً للسكن أو للزراعة، أو للغراس، فلا يملكها إلا بالبناء إن كانت للسكن أو بالزراعة إن كانت للزراعة أو بالغراس إن كانت للغراس، فهو أحق بها لكن لا يملكها إلا بإحيائها ودليل ذلك ما ثبت في البيهقي، والأثر حسن أن عمر بن الخطاب أخذ من بلال بن الحارث ما عجز عن عمارته مما أقطعه النبي - صلى الله عليه وسلم -?فقد أقطع النبي - صلى الله عليه وسلم -?أقطع بلال بن الحارث المعادن القبليّة، كما سيأتي ذكره، فلما ولي عمر نزع عنه ما عجز عن عمارته، ولو كان يملكها بالإقطاع لما نزعها منه، هذا هو المشهور في المذهب، وهو مذهب الجمهور?فلا يملكها بالإقطاع، بل هو أحق بها أي بأن يسبق غيره في غرسها أو زراعتها أو بنايتها، وحينئذ، إن لم يحيها فإن الإمام يمهله زمناً يتمكن بمثله من إحيائها، وإلا فإنه ينزعها منه كما تقدم تقريره.
وعليه: فإنه ليس له أن يبيعها هذا هو المشهور في المذهب قالوا: لأنها لا تملك إلا بالإحياء وهو لم يحيها فإذن لا تكون ملكاً له.


وقال بعض أهل العلم وهو قول في مذهب الإمام أحمد: أنه يجوز له أن يبيعها وذلك لأنه أحق بها، فهي من اختصاصاته فهو وإن لم يملكها لكنها اختصاص له، وهذا هو القول الراجح، ويدل عليه ما روى أبو داود بإسناد جيد: أن جٌهنيين لحقوا النبي - صلى الله عليه وسلم -?في ذهابه إلى تبوك في الرحبة فقال: من أهل ذي المروءة فقيل له: بني رفاعة من جهينة، فقال: قد أقطعتها: "أي الرحبة" لبني رفاعة" قال الراوي: فمنهم من باع، ومنهم من أمسك فعمل". وهذا هو القول الراجح، وأن من أقطع أرضاً لسكناها لزراعتها أو حجرها تحجيراً، أي حوطها بالأحجار أو بالتراب أو نحو ذلك فهو أحق بها وله بيعها لأنها من اختصاصاته.
فإن أقطع ووجد فيها معادن سواء كانت معادن باطنة كالذهب والفضة، أو كانت معادن ظاهرة كالملح والكُحل، والمعادن الظاهر هي التي لا تحتاج إلى حفرٍ وإنما تكون ظاهرة على الأرض، وقد تحتاج إلى كشفٍ يسير، وأما المعادن الباطنة فهي التي تحتاج إلى حفرٍ وعمل، فإذا أقطع أرضاً فوجد فيها معدناً من المعادن سواء كان ظاهراً أو باطناً فهو له، لأنه في ملكه فهو مالك للأرض وما فيها.
وهل للإمام أن يقطع أرضاً فيها معادن؟
أما المعادن الظاهرة فليس للإمام بالاتفاق أن يقطعها، كأن تكون أرض فيها ملح فليس للإمام أن يقطعها وذلك لما فيه من الإضرار بالناس، فالناس يشتركون فيها كما يشتركون في الكلأ ونحوه.
ولذا روى الأربعة إلا النسائي، أن النبي - صلى الله عليه وسلم -????أقطع أبيض ابن حمّال معدن الملح بمأرب فقيل له، إنما قطعت له الملح العدّ أي الملح الذي?هو كالماء الجاري على الأرض فانتزعه منه) .
أما المعادن الباطنة التي تحتاج إلى حفرٍ وعمل فقولان في المسألة.
القول الأول??وهو المشهور في المذهب وهو مذهب الشافعية?أنه ليس له ذلك أيضاً كالمعادن الظاهرة.


القول الثاني?في مذهب الإمام أحمد: وهو قول في مذهب الإمام الشافعي?إلى جواز ذلك، ما لم يكن فيه ضرر، وهذا القول الراجح، ودليله ما ثبت في أبي داود والترمذي أن النبي - صلى الله عليه وسلم -???أقطع بلال بن الحارث المعادن القبليّة?جليّها وغوريّها???الجلسيّ هي الأرض المرتفعة والغوريّ: هي الأرض المنخفضة، ولأنه يحتاج إلى حفرٍ وعمل فأشبه إحياء الأرض بالزرع هذا ما لم يكن في ذلك تفويت مصلحة عامة، فالمصلحة العامة مقدمة على المصلحة الخاصة، ولكن الإمام قد يحتاج إلى مثل هذا لتأليف قلب أميرٍ من الأمراء، كأمير قبيلة أو نحو ذلك.

قال: [وإقطاع الجلوس في الطرق الواسعة ما لم يضر بالناس] .
فللإمام أن يقطع في الطرق الواسعة وأيضاً في رُحب المساجد التي لا تحوط، وهي ما تسمى عندما بمواقف السيارات ونحوها، فله أن يقطع للجلوس فيها للبيع والشراء، ولمن أقطع أن يضع فيها شيئاً لمنع الحر والبرد ومنع الشمس ونحو ذلك، كالمظلات ونحوها، ما لم يضر بالناس بأن يضيق على الناس طرقهم فلا يجوز لحديث "لا ضرر ولا ضرار?، والمصلحة العامة مقدمة على المصلحة الخاصة.
قال: [ومن غير إقطاع لمن سبق بالجلوس ما بقي قماشه فيها وإن طال]
???فيجوز لآحاد الناس من غير أن يقطعهم الإمام، يجوز لهم أن يجلسوا في الطرق الواسعة من غير إضرار بالناس للبيع والشراء هذا جائز من غير أن يقطعهم الإمام وذلك لأنه شيء مباح ومن سبق إلى مباح فهو أحق به، وقوله: " ما بقي قماشه وإن طال??أي قماشه الذي يعرض عليه بضاعته.
قال صاحب المغني وغيره: " مازال عمل الناس في الأمصار وفي كل?الأعصار على هذا من غير نكير?، ولكن إن منع من ذلك الإمام فلا يفعل ذلك حتى لا يفتات عليه ولا يتعدى على حقه.
قال: [وإن سبق اثنان اقترعا] .


إن سبق اثنان إلى موضع للبيع والشراء في طريق واسع، فإنه يوضع بينهما قرعة، وذلك لأنهما قد ازدحما على شيء ولا مرجح لأحدهما على الآخر والقرعة يعمل بها حينئذ، فإذا ازدحم اثنان فأكثر على حقٍ ولم يكن لأحدهما مرجح فليس لأحدهما ميزة على الآخر فحينئذ تكون القرعة، كما قال تعالى: ((فساهم فكان من المدحضين)) ، وكان النبي - صلى الله عليه وسلم -?كما في الصحيحين: (يقرع بين نسائه إذا أراد سفراً) .
قال: [ولمن في أعلى الماء المباح السقي وحبس الماء إلى أن يصل?إلى كعبه ثم يرسله إلى من يليه]
إذا كانت هناك مزارع أو بساتين، وكان الماء الذي تسقى به هذه البساتين وهذه المزارع يرد إليها من نهرٍ أو عين أو سدٍ أو نحو ذلك، فحينئذ يسقي الأعلى فالأعلى، فأعلى واحد منهم يدخل الماء إلى مزرعته فإذا وصل الماء إلى كعبيه يرسله إلى جاره، فإذا وصل الماء إلى كعبيه أرسله الآخر إلى من يليه وهكذا، الأعلى فالأعلى.
ودليل هذا: ما ثبت في الصحيحين أن النبي - صلى الله عليه وسلم -?قال: (اسق يا زبير ثم?احبس الماء حتى يلغ الجدر??والجَدْر هو التراب الذي يرفع حول النخيل ونحوها لإمساك الماء، فإذا بلغ الجدر وهو تمام حاجة الزرع وتمام حاجة النخيل فيرسله إلى من يليه وهكذا، وفي أبي داود بإسناد جيد أن النبي - صلى الله عليه وسلم -?قضى في سيل مهزور "وهو وادٍ في المدينة" أن يمسك الماء حتى يبلغ الكعبين ثم يرسل الأعلى فالأعلى".
قال: [وللإمام دون غيره حمى مرعى لدواب المسلمين ما لم يضرهم]


فللإمام الأعظم دون غيره، حمى مرعى لدواب المسلمين أي أن يمنع الدواب الأخرى من هذا المرعى، فيحوط هذا المرعى ويجعله خاصاً بدواب المسلمين، كأن يجعلها لخيل القتال ولإبل الصدقة ولمواشي ضعفة الناس. وليس هذا لغير الإمام، بل هو خاص بالإمام الأعظم لدواب المسلمين، ويدل على هذا ما ثبت في البخاري أن النبي - صلى الله عليه وسلم -?قال????لا حمى إلا لله ولرسوله) فالحمى محرم إلا ما يحميه الإمام لدواب المسلمين خاصة.
وهذا كله ما لم يضر بالناس، فليس له أن يحمي حمى يضر بعامة الناس، فالمصلحة العامة راجحة.

" باب الجعالة "
الجعالة: بتثليث الجيم "الجُعالة والجِعالة والجَعالة" وعرفها المؤلف بقوله: [وهي أن يجعل شيئاً معلوماً لمن يعمل له عملاً معلوماً أو مجهولاً مدة معلومة أو مجهولة] أن يجعل شيئاً معلوماً" فيشترط العلم بالعوض، كأن يقول: من ردّ عبدي الآبق فله مائة دينار، فهنا العوض معلوم، وهو شرط في صحة الجعالة هذا هو المشهور في المذهب.
والقول الثاني في المذهب وهو اختيار الموفق وابن القيم: أنه إن كان العوض مجهولاً وكانت جهالته لا تمنع التسليم أي عند تمام العمل يمكن أن يسلم إليه العوض، فحينئذ يجوز ذلك.
مثال ذلك: أن يقول قائد الجيش: من دلني على حصن فله ثلث ما به" أو يقول رجل: من ردّ شياهي الضالة فله نصفها فهنا الثلث أو النصف مجهولان، لكن عند تمام العمل، عندما يدله على الحصن وعندما يحصل له الشياه، فإن ثلث ما في الحصن ونصف الشياه معلوم غير مجهول يمكن تسليمه، وهذا هو القول الراجح أن لا غرر، وأما إذا كان الجهل يمنع التسليم فلا يجوز لأن فيه غرراً كأن يقول: من ردّ إلي عبدي الآبق فله شيء، فهذا الشيء مجهول أو في ذلك غرر وقد نهى النبي - صلى الله عليه وسلم -?عن الغرر "لمن يعمل له عملاً معلوماً أو مجهولاً".


فالعمل لا يشترط فيه العلم، فسواء كان العمل الذي وقع عليه عقد الجِعالة، سواء كان معلوماً أو?مجهولاً فلا يؤثر هذا فلو قال: من ردّ عبدي الآبق فله مائة درهم" فعبده الآبق لا يدري أين موضعه فقد يكون قريباً، وقد يكون بعيداً، فهذا جائز، وذلك لأن الحاجة داعية إليه، ولأن عقد الجعالة عقد جائز فيجوز له أن يفسخ إن رأى العمل فيه مشقة ونحو ذلك فلا ضرر في هذا "مدة معلومة أو مجهولة"، فالمدة لا يشترط أن تكون معلومة بل يجوز أن تكون مجهولة، فإذا قال: "من حرس لي مالي فله علي كل يوم درهم" فهنا المدة مجهولة فلا يدري يوم أو يومين أو سنة، وهذا لا يؤثر، والحاجة داعية إلى ذلك، والأصل في العقود الحل.
قال: [كرد عبدٍ ولقطةٍ?وخياطةٍ وبناء حائط]
هذه أمثله للجعالة، والجعالة نوع من الإجارة، ولذا فإن الأنسب أن يكون هذا الباب بعد باب الإجارة، كما جعله صاحب الفروع وغيره، فإن الجعالة نوع من الإجارة وإن كان بينهما فروق وهذه الفروق اقتضت أن يكون لها باب منفرد، فمن الفروق، أن الإجارة لا تصح مع الجهالة بالعمل، والجعالة تصح، ويشترط في الإجارة أن يكون المعقود معه معيناً، وأما في الجعالة فلا يشترط، والإجارة عقد لازم، والجعالة عقد جائز.
قال: [فمن فعله بعد علمه بقوله استحقه، والجماعة يقسمونه]
????من فعل هذا العمل الذي وقع عليه عقد الجعالة، فعله بعد علمه بقوله أي قول الجَاعل، "من بنى حائطي فله كذا"، أو قال: من ردّ عبدي الآبق فله كذا، فسمع هذه المقالة فعمل على رده، ثم ردّه فله ذلك الجُعل، وذلك لأنه عمل في مال الغير مأذون له فيه على عوض فاستحق العوض المسمّى، وإن كانوا جماعة فإنهم يقتسمون العوض لأنهم اشتركوا في العمل فاقتضى هذا اشتراكهم في العوض.

قال: [وفي أثنائه يأخذ قسط تمامه]


إذا قال: من بنى لي حائطاً فله مائة دينار" وكان ذلك الرجل قد اشتغل ببناء الحائط قبل أن يسمع هذه المقالة فقد بنى نصفة، فهنا لا يستحق الجُعل تاماً وإنما يستحق قسط تمامه،?فيستحق في هذا المثال خمسين ديناراً، وذلك لأن العمل الذي قام به قبل أن يعلم بهذه المقالة عملُ غير مأذون له فيه فلم يستحق عليه عوضاً، وإذا علم بقول الجَاعل بعد أن أتم العمل فلا شيء له، وذلك لأن عمله غير مأذون فيه فإذا أُعلم الجاعل بالحال وبالأمر على حقيقته فتبرع له بالعوض فهذا جائز له.
قال: [ولكل فسخها]
??لأنها عقد جائز فلكل واحدٍ منهما فسخها قال غير واحدٍ من الحنابلة???لا خلاف أعلمه" ويتوجه القول بلزومها، كما تقدم الاستدلال عليه فيما تقدم نقله عن الشيخ عبد الرحمن السعدي?في مسألة سابقة من باب الوفاء بالوعد، ولأن هذا من باب العوض وليس من باب التبرع أو الوكالة أو نحو ذلك والله أعلم.
قال: [فمن العامل لا يستحق شيئاً]
??المشهور في المذهب كما تقدم، أنها عقد جائز، فإن كان الفسخ من العامل فإنه لا يستحق شيئاً، فإذا قال لرجل: إن رددت إلي عبدي الآبق فلك مائة دينار وتعاقدا على ذلك، ففسخ العامل العقد فإنه لا يستحق شيئاً لأنه لم يأت بما شرط عليه.
قال: [ومن الجَاعل بعد الشروع للعامل أجرة عمله]
????فإذا كان الفسخ من الجَاعل، فإن كان ذلك قبل شروع العامل بالعمل فلا شيء له لأنه لا يستحق عدمها من عدم العمل، وفي هذه المسألة والمسألة التي قبلها وهي فيما إذا كان الفسخ من العامل يقوى القول بأنها عقد جائز.


أما إذا كان فسخ الجَاعل بعد شروع العامل بالعمل فله أجرة عمله وتقدر بما يستحق مثله عرفاً، وهذا يختلف باختلاف بلده وباختلاف نوع العمل ومشقته، وقال برهان الدين ابن مفلح صاحب المبدع???لو قيل تقسط الأجرة لم يبَعْد" وفيه قوة حيث أمكن ذلك، فإذا علمنا أن هذا العمل يحتاج إلى ثلاثة أشهر وقد عمل له فيه شهراً، وقد قدّر له عوضاً قدره ثلاثون ألفاً فحينئذ يعطى عشرة آلاف، فإذا أمكن هذا كما يكون في بعض الأعمال التي لها مدة محددة أو نحو ذلك، كأن يقول، من بني لي حائطاً فله عشرة آلاف فيبني له نصفه، ثم يقسم الجاعل، فإنه حينئذ يعطي العامل قسطه من الجُعل وهو خمسة آلاف، هذا أظهر وذلك لأن العامل قد دخل على أن له جُعلاً لا على أن له أجرة، فقد تكون أجرة مثله في الشهر ألفين بينما يكون قسط الجُعل عشرة آلاف، هذا القول هو الأظهر حيث أمكن هذا.
قال: [ومع الاختلاف في أصله أو قدره يقبل قول الجَاعل]
???إذا اختلفا في أصل الجعالة فالعامل يقول: أنت قلت من رد إلي عبدي الآبق فله عشرة آلاف وصاحب العبد الآبق يقول: أنا لم أقل ذلك ولا بينة، فالقول قول من زعم عليه الجعالة وذلك لأن الأصل براءة ذمته ولأنه منكر، وكذلك إذا اختلفا في قدره، فالجاعل يقول: أنا قلت من ردّ‍عبدي الآبق فله عشرة آلاف درهم، والعامل يقول: بل قلت عشرة آلاف دينار أو أحد عشر ألف درهم، فالقول قول الجَاعل وذلك لأنه منكر والأصل براءة ذمته من هذا القدر الزائد.
قال: [ومن ردّ لقطةً أو ضالة أو عمل لغيره عملاً بغير جعل لم يستحق عوضاً]
???من وجد ضالةً لأحدٍ فردّها إليه أو وجد لقطةً فردها على صاحبها، فإنه لا يستحق على عمله هذه عوضاً وذلك لأنه قد بذل منفعته بلا عقد معاوضة فلم يستحق شيئاً وهذا باتفاق العلماء، ويستثنى من ذلك مسألة:


وهي ما إذا كان قد أنقذ مال غيره من هلكة أو تلف كأن ينقذ شيئاً من ماله من غرق أو حريق فله أجرة على ذلك ترغيباً لهذا العمل نصّ على ذلك الإمام أحمد رحمه الله، واختاره شيخ الإسلام وتلميذه ابن القيم?لما في ذلك من الترغيب في العمل، فإن هذا المال أصبح في حكم التالف أو الهالك وهذا هو الذي أنقذه منه فترغيباً له بهذا العمل استحق العوض.
قال: [إلا ديناراً أو أثنى عشر درهماً عند ردّ الآبق]
????إذا ردّ آبقاً فله دينار أو اثنا عشر درهماً، واستدلوا بما روى البيهقي من حديث عمر بن دينار أن النبي - صلى الله عليه وسلم -?جعل في ردّ الآبق من خارج الحرم ديناراً" والحديث مرسل، من المرسل الضعيف، وفي البيهقي عن علي بن أبي طالب، بإسناد ضعيف، واختار الموفق وهو رواية عن الإمام أحمد?وهو مذهب الشافعية?أنه لا يستحق شيئاً، وهو الأرجح لضعف الدليل، وللعلة المتقدمة فإنه بذل منفعة من غير عقد معاوضةٍ فلم?يستحق شيئاً.
مسألة???لا خلاف بين أهل العلم في أنه يجوز له أخذ الآبق، بخلاف ما سيأتي الكلام عليه من بعض الضوال كما يكون في ضالة الإبل ونحوها، وذلك لما يخشى من ترك الآبق من لحوقه بدار الحرب وقتاله ضد المسلمين، ولما يخشى من إفساده في الأرض فاختلف عن الضوال، وله بيعه?إن رأى المصلحة في ذلك، كأن يجده في بلد أخرى فيخشى ضياعه أو نحو ذلك فله أن يبيعه ويحبس ثمنه لصاحبه إن رأى المصلحة في ذلك.
قال: [ويرجع بنفقته أيضاً]
????إذا أنفق على هذا العبد الآبق، كأن ينفق عليه في الطريق حتى يأتي به إلى صاحبه فإنه يرجع بالنفقة وإن لم يأذن له صاحب العبد بذلك لأن النفس لها حرمة وواجب على السيد أن ينفق عليه وهو وإن لم يأذن لكن لحرمة النفس فإنه يرجع عليه بنفقته، لكن هذا الرجوع حيث لم ينو بنفقته التبرع أما إذا أنفق له بنية التبرع فليس له الرجوع.

??باب اللقطة "


اللُقطة: بضم اللام وفتح القاف وتسكينها "اللقَطة، اللقْطة" وعرفه المؤلف بقوله: ??وهي مال أو مختص ضلّ عن ربه???
فهي مال: كدراهم أو دنانير أو شاة أو نحو ذلك.
أو مختص: ككلب صيدٍ ونحوه مما لا مالية له، لكن لأحد فيه اختصاص.
قال: [وتتبعه همة?أوساط الناس] .
???أي تتعلق به رغبة أوساط الناس، فلأوساط الناس فيه مقصد وله عندهم قيمة، فلا عبرة بأشراف الناس الذين قد لا يكون للشيء الكبير عندهم قيمة بل العبرة بأوساط الناس، فمثلاً: عندنا الريال والريالان?والعشرة هذا لا قيمة له عند أوساط الناس، بخلاف الخمسمائة والثلاثمائة فإن هذا تتبعه همة أوساط الناس، وهكذا في المتاع، فإذا كان المتاع من ذهب فإن همة أوساط الناس تتبعه كالأساور ونحوها.

ولذا قال المؤلف: [فأما الرغيف والسوط ونحوهما فيملك بلا تعريف]
فالشيء الذي لا قيمة له عند أوساط الناس كالرغيف والتمر والسوط والعصا والحبل ونحو ذلك فهذا يملك بلا تعريف، ودليل هذا ما روى أبو داود في سننه من حديث المغيرة بن زياد عن أبي الزبير المكي عن جابر أن النبي - صلى الله عليه وسلم -???رخص في العصا والسوط والحبل يلتقطه الرجل ينتفع به) ، ورواه المغيرة بن مسلم وحديثه أصح عن أبي الزبير المكي عن جابر بلفظ: "كانوا لا يرون بأساً" أي الصحابة وهذا أصح، وأعله بعض العلماء بعنعنة أبي الزبير المكي، لكن له شاهد متفق عليه، ففي الصحيحين أن النبي - صلى الله عليه وسلم -???مرّ بتمرة في طريق فقال??لولا أني أخشى أن تكون من الصدقة لأكلتها) ،?فبّين النبي - صلى الله عليه وسلم -?أن المانع له من أكل هذه التمرة هو خشية أن تكون من الصدقة، فتبيّن من هذا أنه لم يمنعه كونها لقطة وإنما الذي منعه خشية أن تكون من الصدقة.
قال: [وما امتنع من سبع صغير كثور وجمل ونحوهما حرم أخذه]


ما يمتنع من صغار السبع كالإبل فإنه لا يجوز التقاطه ودليل ذلك: ما ثبت في الصحيحين عن زيد بن خالد الجهني أنه سأل النبي - صلى الله عليه وسلم -?عن اللقطة فقال: ??اعرف عفاصها ووكاءها ثم عرفها?سنة، فإن جاء صاحبها وإلا فشأنك??فقال: يا رسول الله فضال الغنم فقال: ?هي لك أو?لأخيك أو للذئب??فقال: يا رسول الله فضالة الإبل، قال: مالك ولها معها سقاؤها وحذاؤها ترد الماء وتأكل الشجر) .
وهل يقاس على الإبل البقر ونحوه؟
المشهور في المذهب?القياس، وأنه يقاس عليه الثور ونحوه كما ذكر المؤلف هنا.
والقول الثاني في المسألة: وهو قول في مذهب الإمام مالك?أن البقر لا تقاس فإنها تلتقط كالشاة، والمشهور في مذهب الإمام مالك?قياسها على الإبل، استدل أهل القول الأول: وهو المشهور في مذهب الإمام أحمد وغيره، بما روى أبو داود في سننه، أن جرير بن عبد الله البجلي " أمر ببقرة فطردت حتى توارت" أي أمر ببقرة ضالة فطردت عن بقره حتى توارت، وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -????لا يأوي ضالة إلا ضال) ،?لكن الحديث في إسناده اختلاف وجهالة، فعلى ذلك الحديث ضعيف، والذي يتبّين هو رجحان ما ذهب إليه المالكية?في قول لما فيه من الفارق بين الإبل والبقر من حفظ الماء، وتحمل السير في القفار ونحوها، فليست في حفظ نفسها كالإبل، بل هي أشبه بالشياة وإن كان هناك فارق بينهما.
والمشهور في مذهب الإمام أحمد?أن الخيل والبغال والحمير كالإبل، ونظرّ الموفق?في مسألة الحمر ورأى أن الأولى عدم إلحاقها وهو القول الراجح?وذلك لعدم صبرها عن الماء بخلاف الإبل، والذي يتبيّن لي ما تقدم وهو اختصاص هذا بالإبل وإن أشبهها شيء في كونه معه سقاؤه الذي يحفظ فيه الماء وحذاؤه الذي يتحمل به المشاق في القفار ونحوها وعنده قدرة على منع نفسه من صغار السبع فإنه إن ثبتت فيه هذه المعاني فحكمه حكم الإبل إذ الشريعة لا تفرق بين المتماثلات.


حرم أخذه": فأخذه لا يحل لما تقدم في حديث زيد بن خالد الجهني وعليه، فإن أخذه وتلف عن يده فعليه ضمان، وذلك لأن يده يد متعدية لأنها أخذت ما ليس لها أن تأخذه.
وهل تبرأ ذمته برده إلى موضعه؟
الجواب: لا تبرأ ذمته بذلك، لأن الضمان ثبت عليه بأخذه فلا يبرأ منه إلا برده إلى مالكه أو من يقوم مقامه لكن إن ردّه إلى الحاكم ونائبه فإن ذمته تبرأ لما للحاكم من النظر في أموال المسلمين، وللحاكم ونائبه أن يأخذوا الضوال?ويصفوها في موضع يختص بها، ولا يجب عليهم تصريفها، بل من ضاع له شيء فإنه يأتي إلى هذا الموضع الذي تكون فيه الضوال فإن وجد ضالته أخذها.
قال: [وله التقاط غير ذلك من حيوان وغيره إن أمن نفسه على ذلك] .
فله التقاط غير ذلك من الحيوانات كالشياة وصغار الإبل وهي الفصلان وصغار البقر وهي العجاجيل، وصغار الخيل ونحوها، وكذلك سائر الأمتعة، فله أن يلتقطها، لما تقدم من قوله - صلى الله عليه وسلم -?في ضالة الغنم ولأنه سئل عن اللقطة وهو عام في الأشياء كلها إلا ما ورد استثناؤه وما شابهه، فله أن يلتقطها بشرط أن يأمن نفسه عليها، فإذا علم من نفسه الأمانة والقدرة على التعرف فله ذلك فهو مباح له، والأفضل الترك، في المشهور في المذهب، قالوا: لأنه يخشى ألا يقوم بواجب التعريف وقد تطمع فيها نفسه فيخون أمانته.
وقال بعض الحنابلة وهو قول أبي الخطاب وصوّبه صاحب الإنصاف وهو مذهب الشافعية، أنه يستحب له ذلك إن كانت في مضيعةٍ، أي في مكان غير مطروق بحيث أنه إن لم يأخذها أخذها غيره، وقد يكون هذا الغير ليس بأمين، والذي يتبّين?والله أعلم??أنه إن علم من نفسه أنه يقدر على] ?التعريف وحفظ الأمانة فإنه يستحب له أن يلتقطها لما في ذلك من الإحسان إلى الناس، وأشبه هذا الوديعة، فإن الوديعة قد تطمع النفس بأخذها وخيانة صاحبها ومع ذلك فإنها تسحب اتفاقاً كما نقل.
قال: [وإلا فهو كغاصب] .


إذا علم من نفسه الخيانة أو عدم القيام بحفظها فهو كغاصب فيده يد متعدية وعليه فعليه الضمان، فإذا أخذها من لا يعلم في نفسه الأمانة أو يعلم في نفسه الخيانة أو يخشى ألا يقوم بواجب التعريف أو يعلم من نفسه عدم ذلك فلا يحل له أن يأخذها لما في أخذها من تعريضها للضياع، وتفويتها على ملتقط آخر يقوم بحفظها وعليه: فإذا التقطها فيده يد متعدية، واليد المتعدية يد ضامنة.
قال: [ويعرف الجميع في مجامع الناس غير المساجد حولاً??
يعرف ما تقدم ذكره مما يجوز التقاطه، يعرفه في مجامع الناس عند أبواب المساجد وفي الأسواق ونحو ذلك من المواضع التي هي مكانُ لوجود صاحب هذه اللقطة أو من يتصل به في هذه المواضع، وقد روى مالك في موطئة بإسناد لا بأس به: " أن عبد الله بن زيد الجهني وجد صُرةً في?طريقه إلى الشام فيها ثمانون ديناراً فسأل عن ذلك عمر فقال له، عرفها سنة عند أبواب المساجد وعند كل من أتى من الشام سنة فإذا مضت السنة فشأنك بها"، فيعرفها في المواضع التي يشيع أمرها فيكون ذلك وسيلة إلى وصول صاحبها إليها، وهذا يختلف باختلاف الأزمان فقد يكون في بعض الأزمان طرق ووسائل لنشر اللقطة والتعريف بها، والمقصود أنه يسلك الطرق المناسبة لمثلها في التعريف وهذا واجبُ عليه لقوله - صلى الله عليه وسلم -???ثم عرفها سنة??والأمر للوجوب ولما كان واجباً عليه منفقة التعريف ومؤونته واجبة عليه، كأن يكون قد بعث منادياً ينادي بذلك، وهذا المنادي له أجرة فأجرة المنادي على الملتقط لا على صاحب اللقطة، وذلك لقوله - صلى الله عليه وسلم -???ثم عرفها?، فأمره بالتعريف وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، وهذا هو المشهور في مذهب الحنابلة?ويدل عليه ما تقدم فقد أمر النبي - صلى الله عليه وسلم -?بتعريفها وهذا قد يحتاج إلى أجرة ووسيلة الواجب واجبة.


غير المساجد] ?لأن المساجد لم تبنِ لذلك وفي مسلم أن النبي - صلى الله عليه وسلم -?قال: ?من سمع رجلاً ينشر ضالة في المسجد فليقل لا ردها الله عليك فإن المساجد لم تبنِ لهذا) .
???حولاً] ?فيعرفها حولاً كاملاً على الوجه المعتاد الذي يكون وسيلة إلى إيصالها إلى صاحبها، فليس شرطاً أن تكون الأيام متتابعة أي في كل يوم أما الأيام الأول فيجب أن يكون التعريف فيها أكثر، ولذا قال الحنابلة: يعرفها في الأسبوع الأول في كل يوم لأن الأيام الأول التي فقدها صاحبها فيها يكثر بحث صاحبها عنها، فحينئذ وجب الإكثار من المناداة بها في تلك الأيام، ثم بعد ذلك يكون على الوجه المعتاد عرفاً، فيكون في كل أسبوع أو كل شهر أو نحو ذلك.
إذن: ليس واجباً عليه أن يعرفها في كل أيام السنة فيستوعب أيام السنة، لما في ذلك من المشقة الظاهرة.
نعم في أول الأيام يجتهد في ذلك ويقوى القول بوجوب ذلك في كل يوم حيث كان في ذلك وسيلة إلى إيصال الحق إلى مستحقه ثم بعد ذلك يكون على الوجه المعتاد في عرف الناس.
قال المؤلف رحمه الله: [ويملكه بعده حكماً] .
???فيملك الملتقط ما التقطه بعده أي بعد تعريفه حولاً لقوله - صلى الله عليه وسلم -???ثم عرفها سنة فإن جاء صاحبها وإلا فشأنك بها) ، وظاهر قول المؤلف أنه إن لم يعرفها فإنه لا يملكها لأنه قال: "ويملكه بعده" أي بعد التعريف.
وهذا هو ظاهر حديث النبي - صلى الله عليه وسلم -?فإنه قال: ?ثم عرفها سنة فإن جاء صاحبها وإلا فشأنك بها) فشرط التعريف.
فدل على أنه إن لم يعرفها فلا ملك له عليها، ومثل ذلك إن لم يعرفها تعريفاً صحيحاً أي بأن يقصر في التعريف فلا يقوم بالمطلوب من بثّ الدعاية عليها ونشر أمرها فكذلك فإنه لا يملكها لأنه لم يقم بالشرط على الوجه المطلوب، وشرط التمليك هذا التعريف وهنا لم يعرفها التعريف المطلوب، فإن كان له عذر في ترك التعريف كمرضٍ أو جهلٍ أو نحو ذلك فهل يملكها بعد الحول؟


قولان لأهل?العلم هما وجهان في المذهب، أظهرهما أنه?لا يملكها لعدم توفر الشرط، فإن النبي - صلى الله عليه وسلم -?شرط في ملكيتها تعريفها، وهو لم يعرفها، وأما كونه مريضاً أو جاهلاً أو نحو ذلك من الأعذار فإن هذا يرفع عنه الإثم في ترك واجب التعريف، فإذا التقط لقطةً فلم يعرفها أو عرفها تعريفاً قد قصّر فيه فما الحكم فيها؟
روايتان عن الإمام أحمد?
الرواية الأولى??أنه يتصدق بها بشرط الضمان أي متى ما جاء صاحبها يقول له: إني قد تصرفت بها عنك فإن شئت أمضيت صدقتي وإلا فخذ مثلها إن كانت من المثليات أو قيمتها إن كانت من المقومات.
الرواية الثانية??أنه يعرفها أبداً وهذا هو الأظهر، كلقطة الحاج، وذلك لأنه قد أخذها ولم يقم بالواجب وهذا لا يحل له فأشبه هذا مالوا التقط لقطة لا يحل له التقاطها فإنه يعرفها أبداً كلقطة الحاج وسيأتي الكلام عليها.
وبقوله ?حكماً] ?أي قهراً بلا اختيار، فيملك هذه اللقطة قهراً بلا اختيار منه ولا رضى، فتكون ملكاً له كالميراث هذا هو المشهور في مذهب الإمام أحمد وغيره وهو مذهب الجمهور، ودليل ذلك ما ثبت في ابن ماجه من حديث كعب بن مالك أن النبي - صلى الله عليه وسلم -?قال: (فهي كسبيل مالك??
والقول الثاني??وهو قول أبي الخطاب من الحنابلة??أنها لا تدخل في ملكه إلا رضا منه واختيار كالشراء، والقول الأول أظهر، لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -???فهي كسبيل مالك) .
فإذن إذا قضى الحول ولم يأتِ صاحبها، وكان قد عرفها فإنها تكون كسبيل ماله، فحينئذ إن جاء صاحبها يوماً من الدهر فهي له وإلا فيتصرف بها كما يتصرف في ماله كله.
وهل عليه الضمان أم لا؟
فإذا حصل تلف فيها بتعدٍ وتفريط أو بلا تعدٍ ولا تفريط فهل عليه الضمان؟


أما في الحول، الذي هو زمن التعريف، فإن تلفت بلا تعدٍ ولا تفريطٍ لم يضمن اتفاقاً، لأن يده يد أمانة ويد الأمانة لا ضمان عليها، أما إن تلفت بتعدٍ أو تفريطٍ فهو ضامن كما تقدم تقريره لأن هذا قد حصل بتعديه بفعله، أو بترك الواجب من حفظ الأمانة.
وأما بعد الحول، حيث يتصرف بها كتصرف بماله، فإن تلفت بتعدٍ أو تفريطٍ فالظاهر أن عليه الضمان لقوله - صلى الله عليه وسلم -???فإن جاء صاحبها يوماً من الدهر فأعطها إياه) .
وأما إن لم يكن منه تعدٍ ولا تفريطٍ، فقولان لأهل العلم.
القول الأول??وهو المشهور في المذهب??أن عليه الضمان لأنها أصبحت ملكاً له يتصرف بها كما يتصرف بماله، ولذا في المشهور من المذهب أن له خراجها، أي من ولدٍ أو نحوه من النماء المنفصل فهو للملتقط.
والقول الثاني?في المسألة: وهو رواية عن الإمام أحمد، ألا ضمان عليه، وعليه فالخراج أيضاً ليس له، وهذا القول أظهر، لقوله - صلى الله عليه وسلم -?في حديث زيد بن خالد في الصحيحين قال: ?فإن لم يأت صاحبها فاستنفقها ولتكن?وديعةً عندك) ?يدل على أنها في حكم الوديعة، والوديعة لا ضمان فيها وعليه، فالخراج ليس له، لأن الخراج بالضمان.
قال: [لكن لا يتصرف فيها قبل معرفة صفاتها]
?????فلا يأكلها ولا يبيعها قبل أن يعرف صفاتها، فيعرف عفاصها" وهي الخرقة التي تشد فيها، ويعرف وكاءها وهو الخيط الذي تشد فيه" ويعرف عددها وجنسها ونحو ذلك بما تتميز به عن بقية الأعيان وعن شبيهاتها أيضاً، إذن لا يدخلها في ماله حتى يضبط صفاتها، ولذا?قال - صلى الله عليه وسلم -???فإن لم تُعترف?فاعرف صفاتها ووكاءها ثم كلها فإن جاء صاحبها فأدها إليه) .?ويستحب له أن يشهد على ذلك، لما ثبت عند الخمسة إلا الترمذي بإسناد صحيح أن النبي - صلى الله عليه وسلم -?قال: (من وجد لقطةً فليشهد ذوي عدلٍ وليحفظ عفاصها ووكاءها ثم لا يكتم ولا يغيب فإن جاء ربها فهو أحق بها وإلا فهو مال الله يؤتيه من يشاء) .


الشاهد قوله: "فليشهد ذوي عدل" وهو عند جمهور العلماء للاستحباب?
قال: [فمتى جاء طالبها فوصفها لزم دفعها إليه]
???إن جاء طالبها فقال: أنا أنشد لقطة، وسمعت أن عندك لقطة من الماشية، وماشيتي صفتها كذا ووسمها كذا ووصفها بما تتميز فيه فحينئذ يدفعها إليه بلا بينة ولا يمين، لقوله - صلى الله عليه وسلم -???فإن جاء صاحبها فعرف عفاصها وعددها ووكاءها فأعطها إياه وإلا فهي لك) فأمر النبي - صلى الله عليه وسلم -?بإعطاء هذا الطالب اللقطة متى ما عرف عفاصها ووكاءها ونحو ذلك من صفاتها، ولم يشترط النبي - صلى الله عليه وسلم -?البينة ولم يأمر باليمين فدل على أنه متى ما جاء من يصفها وإن لم يكن عدلاً فإنها تدفع إليه.
قال: [والسفيه والصبي يعرف لقطتهما وليهما]
???السفيه هو غير الرشيد، فإذا التقط صبي أو سفيه لقطة فإن وليهما يعرف لقطتهما، لقيامه مقامهما وعليه فيعرف لقطتهما.
مسألة:
اللقطة لا تخلو من ثلاثة أنوع:
?النوع الأول: أن تكون من الحيوان، كأن يلتقط ماشية ونحوها، فالملتقط يخير بين ثلاثة أمور ويختار الأصلح منها للمالك.
الأول??أن يأكلها، فإن جاء مالكها أعطاه القيمة أو المثل إن كانت من المثليات.
الثاني??أن يبيعها ويحفظ قيمتها لمالكها، فمتى جاء المالك دفعها إليه.
الثالث??أن يحفظها عنده وينفق عليها ويرجع بالنفقة إلى ربها.
وإن نوى التبرع فلا رجوع يختار أحدها على حسب ما تقتضيه مصلحة المالك.
النوع الثاني??أن تكون طعاماً يخشى فساده، فحينئذ الملتقط بين ثلاثة أمور.
أ) الأكل ب) البيع ج) تجفيفها إن أمكن ذلك أو حفظها كما يوجد في الثلاجات ونحوه، ويرجع بالنفقة على مالكها.
النوع الثالث??ألا يكون حيواناً ولا طعاماً، فإنه يحفظه وجوباً كالأمانة.
مسألة:
???ظاهر كلام الحنابلة?أنه لا فرق بين لقطة مكة وغيرها، وأن لقطة مكة أسوة غيرها واستدلوا بعمومات الأدلة،


وعن الإمام أحمد وهو مذهب الشافعية واختاره شيخ الإسلام?أن لقطة مكة لا تحل فلا تملك وإنما ينشدها أبداً، لقوله - صلى الله عليه وسلم -????ولا تحل ساقطتها إلا?لمنشدٍ) ?أي إلا لمنشد أبداً، ولما ثبت في مسلم أن النبي - صلى الله عليه وسلم -???نهى عن لقطةٍ?الحاج) ?وهذان الحديثان أخص مما استدل به الجمهور، وهو القول الراجح?في هذه المسألة.
قال: [ومن ترك حيواناً في فلاة لانقطاعه أو عجز ربه عنه ملكه أخذه]
??فمن ترك حيواناً في فلاةٍ لأن ربه عجز عنه، أو لأن ربه قد انقطع في هذه البرية، فأخذه رجل فأحياه فهو ملك له، وهذا خاص في الحيوان، وأما المتاع فلا لأن حرمته ليست كحرمة الحيوان، والعبد أيضاً ليس حكمه كذلك لأنه ينيج نفسه من الهلكة في الغالب، ودليل هذه المسألة، ما روى أبو داود بإسناد حسن أن النبي - صلى الله عليه وسلم -?قال: ??من وجد دابةً قد عجز عنها أهلها فسيبوها فأخذها فأحياها فهي ملكة)
قال: [ومن أُخذ نعله أو نحوه ووجد موضعه غيره فلقطة]
????رجل بعد أن خرج من وادٍ أو من مسجدٍ لم يجد نعله، وانتظر حتى أخذ الناس نعالهم فبقيت نعل، فهل يحل له أن يمتلكها على أنها تقوم مقام نعله أم لا؟
قال المؤلف: فلقطة" فيعرفها سنة، فإن شاء أخذها فإنها تكون لقطة، وذلك لأنه لم يعاوض عليها فلم يملكها.
وقال بعض الحنابلة وصّوبه صاحب الإنصاف، أنه يملكها مع قرينة سرقة، فإذا كانت هناك قرائن تدل على تقصد صاحب النعل ترك نعله موضع هذه النعال وأخذ هذه النعال فإن له ذلك، وفي هذا قوة وإلا فإنه لا يحل له أخذها وإن أخذها فإنها تكون لقطة.

??باب اللقيط "
اللقيط على زنة فعيل بمعنى مفعول أي الملقوط.
قال: [وهو طفل لا يعرف نسبه ولا رقه نبذ أو ضل]


فهو طفل والطفل هو من لم يميز، والمشهور في المذهب وهو قول أكثر الحنابلة?أن غير البالغ كذلك أي إذا نبذ أوضاع ولا يعرف نسبه ولا رقه فهو لقيط ويكون ذلك الطفل من باب ذكر الغالب، فإن الغالب فيمن ينبذ?ويضل أنه الطفل الذي لا تمييز له.

قال: [وأخذه فرض كفاية]
???وذلك لأنه من باب إنقاذ من تخشى هلكته كإنقاذ الغريق وإطعام الجائع ونحوهم، فإذا لم يقم به البعض أثم الجميع، فهو من باب فروض الكفاية.
قال: [وهو حر]
???واللقيط يحكم له بالحرية، وذلك لأن الأصل الحرية والرق عارض ولما روى مالك في موطئه بإسناد صحيح أن عمر قال لملتقطٍ وقد سأل عريفه عنه وقال له: إنه رجل صالح، فقال: "اذهب فهو حر وأنت وليه وعلينا نفقته"
فإن أدعى إنسان أنه مملوك له لم يقبل قوله إلا ببينة حتى الملتقط، وإن كان المدعي سوى الملتقط في يده فإن القول قوله مع يمينه فإذا أدعى رجل أن هذا الطفل الذي في يده أنه مملوك له فإن قوله يقبل مع يمينه بلا بينة: "ذلك لأنه في يده فما دام في يده فالقول قوله، وأما الملتقط فلا يكفي أنه في يده وذلك لمعرفتنا سبب كونه في يده وهو الالتقاط، بخلاف الآخر فإن الظاهر أنه ملك له فما دام في يده فهو ملك له فيقبل قوله مع يمينه بلا بينة.
قال: [وما وجد معه] .
???فما وجد مع هذا الطفل ذكراً كان أو أنثى، كأن يوجد معه صرة فيها دراهم أو دنانير أو نحو ذلك.
قال: [أو تحته ظاهراً] .
??كفراشة، أو ما يوضع تحت الفراش، كأن يوجد تحت فراشه صرة فيها دراهم أو دنانير أو قطعة من ذهب أو نحو ذلك.
قال: [أو مدفوناً طرياً] .
????أي يوجد تحت فراشه شيء من الدراهم والدنانير مدفونة، ودفنها دفن طري، فهي للقيط.
قال: [أو متصلاً به كحيوان وغيره] .
???متصلاً به: كحيوان يربط بسريره أو نحو ذلك كماشيه ونحوها "وغيره" كأن يوجد في بستان وليس هناك أحودُ يدعي هذا البستان فهو له، أو يوجد، مثلاً في خيمة في بر ونحو ذلك فهي له.


قال: [أو قريبًا منه فله] .
???فهو للقيط وذلك موافقةً للظاهر، ولأن يده يد صحيحة ولذا يرث ويورث فيده يد صحيحة أي يملك.
قال: [وينفق عليه منه] .
???أي ينفق، عليه الولي منه، والولي من تقدم وهو الملتقط، فهذا الملتقط ينفق على هذا اللقيط من هذا المال الذي وجده معه، فينفقها عليه بطعام وشراب وكسوة ونحو ذلك مما يحتاج إليه بالمعروف.
فإن اختلف الملتقط أي بعد بلوغه، في النفقة، كأن يقول هذا أنفقت ألفاً ويقول?الآخر، أنفقت خمسمائة، أو اختلفا هل أسرف الملتقط في الإنفاق أم لم يسرف فالقول قول الملتقط لأنه أمين والقول قول الأمين.
قال: [وإلا فمن بيت المال] .
???إن لم يكن معه مال ينفق عليه منه، فينفق عليه من بيت المال، لما تقدم من قول عمر: "وعلينا نفقته".
فإن لم ينفق عليه من بيت المال لكونه ليس بمنتظم بمصالح المسلمين أو ليس هناك بيت مال، فيجب عليه أن ينفق عليه من علم حاله من المسلمين، وهذا فمرض كفاية سواء كان المتلقط أو غيره.
فإن أنفق عليه منفق بنية الرجوع إلى اللقيط إذا بلغ وأيسر أو الرجوع إلى بيت المال فله ذلك.
قال: [وهو مسلم] .
??فاللقيط يحكم بإسلامه، وذلك إن كان التقاطه في دار إسلام تبعاً للدار ولأن الإسلام يعلو ولا يعلى عليه، وأما إذا كان في دار كفار أي وجد في دار كفار فإنه يحكم عليه بالكفر سواء كان فيها مسلمون أو لم يكن فيها مسلمون، تبعاً للدار هذا هو المشهور في المذهب?
وقال الشافعية وهو وجه في المذهب، إن كان في البلد مسلمون فإنه يحكم له بالإسلام تغليباً للإسلام، والإسلام يعلو ولا يعلى عليه، وفيه قوة حيث أمكن هذا أما إذا لم يمكن هذا أو ثبتت قرائن تدل على كفره فلا، كأن يوجد في قرية من قرى الكفار وكان عليه بعض لباسهم وزيهم ونحو ذلك فلا يمكن أن ينسب مع ذلك إلى المسلمين.

قال: [وحضانته لواجده الأمين] .


الحضانة تكون لواجده الأمين فيشترط أن يكون الحاضن له أميناً.. وهو واجده وعليه فإن كان فاسقاً فلا حضانة له عليه، ودليله ما تقدم من أثر عمر لما سأل عريفه عن الرجل فقال هو رجل صالح، فإن قيل، أليست اللقطة تصح من الفاسق فكذلك يصح أن يكون الملتقط للقيط فاسقاً؟
فالجواب: أن بينهما فرقاً من وجهين.
الوجه الأول: أن الملتقط للقيط له عليه ولاية وأما الملتقط للقطة فهو كاسب.
الوجه الثاني: أن اللقطة لا تطول مدتها فإنه يوقت له سنة?
???بخلاف اللقيط فإن أمده طويل يحتاج إلى سنوات طويلة لحفظه وصيانته فاشترط أن يكون عدلاً، وعليه فإذا كان الملتقط فاسقاً فإن الإمام ينزع اللقيط من يد هذا الواجد ويضعه في يد أمين.
فإن وجد اثنان حكم للأنفع له منهما، فإذا وجده اثنان أحدهما أنفع للقيط في دينه ودنياه فإنه يحكم له به مراعاة للأحظ لهذا اللقيط.
فإن اختلف فيه اثنان كل يدعي أنه التقطه، فيحكم لمن كان في يده، فإن لم يكن في يد أحدهما فحينئذ يحكم بالقرعة هذا إذا لم يكن هناك بينةً، أما إذا كانت هناك بينة فإن البينة تظهر الحق وتقضي به.
والذي يتبيّن أنه إن?كان أحدهما أنفع للقيط من الآخر فإنه يحكم له حيث لم تكن يد أحدهما عليه ولا بينة.
قال: [وينفق عليه بغير إذن الحاكم] .
???لأنه ولي فلم يحتج إلى أذن الحاكم.
قال: [وميراثه وديته لبيت المال] .
??إذا مات اللقيط وله مال، أو قتل فماله الذي ورثه وديته تكون لبيت المال لأنه لا وارث له، لا بنكاح ولا بسبب ولا بولاء، هذا هو المشهور في المذهب وهو مذهب الجمهور?


واختيار شيخ الإسلام وتلميذه ابن القيم وهو قول إسحاق?أن المتلقط يرثه وذلك لأن إنعام الملتقط على لقيطه ليس دون إنعام المعتق على معتقه، والشريعة لا تفرق بين المتماثلات، وهذا القول هو الأرجح في هذه المسألة. وفي السنن بسند ضعيف أن النبي - صلى الله عليه وسلم -?قال: ??المرأة تحوز ثلاث مواريث?لقيطها وعتيقها وولدها الذي لا عنت عليه) ،?والحديث اسناده ضعيف لكن المعنى يدل عليه.
قال: [ووليه في العمد الإمام يتخير بين القصاص والدّية] .
???إذا قتل اللقيط عمداً فإن وليه الإمام يتخير بين القصاص إما القصاص وإما الدية فيختار الأصلح هذا هو المشهور في المذهب وهو مذهب الجمهور، وقد يقال إن وليه في ذلك ملتقطه لقول عمر: "أنت وليه" وقد تخرج هذه المسألة على المسائل السابقة.
فإن قطع للقيط طرف فإنه ينتظر بالجاني حتى يبلغ اللقيط ويرشد ثم يقال له: إن شئت أن تأخذ بالقصاص وإن شئت أن تأخذ بالدية.
فعن الإمام أحمد??أن للإمام استيفاء القصاص قبل البلوغ واختاره صاحب الفائق وهو أرجح?
وعليه أيضاً: له أن يختار الدية فيختار الأصلح من قود أو دية.
قال: [وإن أقر رجل أو امرأة ذات زوج مسلم أو كافر أنه ولده ألحق به ولو بعد موت اللقيط] .
هنا مسألتان.
المسألة الأولى:?إذا أقرّ رجل، سواء كان هذا الرجل مسلماً أو كافراً حراً أو عبداً، أقر أن هذا اللقيط ولده فيقبل قوله ولا يطالب ببينة لما في ذلك من مصلحة اللقيط في اتصال نسبه ولا نتزحزح عن الحكم المتقدم وهو الحكم بحريته وإسلامه فكون المدعي كافراً لا يجعلنا ننتقل إلى الحكم بكفر هذا اللقيط، ولا الحكم برقه بعد حريته، فإذا أدعى كافر أن هذا اللقيط ابنُ له وقد حكمنا له بالإسلام، فإن الإسلام يبقى له ويثبت نسبه لهذا الكافر، وكذلك تثبت حريته ويثبت نسبه لهذا الرقيق.
المسألة الثانية??أن تدعيه امرأة فتقول: هو ابني فحينئذ يلحق بها ولا يلحق بالزوج، هذا هو المشهور في المذهب.


وقال الجمهور وهو قول في المذهب:?بل لا يلحق بها لأنه لا منفعة له بذلك إذ لا يثبت له بذلك نسب، وأيضاً يتضرر بذلك زوجها ويتضرر بذلك أهلها للّحوق العار بهم، وهذا هو القول الراجح، والعكس كذلك فإذا ادعاه الزوج فلا ينسب لزوجته إذ قد يكون لنكاح شبهةٍ أو من زوجة أخرى، أو نحو ذلك، فما دام أنها لم تقر به فلا ينسب إليها أما إذا أقرّت به فإنه ينسب إليها.
قال: [ولا يتبع الكافر في دينه إلا ببينةٍ تشهد?أنه ولد على فراشه] .
???إذا ادعى كافر أن هذا اللقيط ابنه، وجاء ببينةٍ تدل على أنه ولد على فراشه فحينئذ يلحق بهذا الكافر، نسباً وديناً لأن البينة قامت على أنه ابن له وحينئذ يلحق به في دينه.
وأما إذا كانت مجرد دعوى لا بينة فيها فنثبت له النسب لا الدين.
قال????وإن اعترف بالرق مع سبقٍ منافٍ أو قال إنه كافر لم يقبل منه]
???إذا قال هذا اللقيط بعد أن بلغ، أنا رقيق مع سبقٍ منافٍ أي مع سبق شيء منافٍ لذلك، كأن يكون قد باع واشترى أو نكح أو نحو ذلك، فهذه أفعال لا يفعلها إلا الأحرار.
وكذلك إذا كان مع عدم سبق منافٍ، فالحكم كذلك فلا يقبل منه ذلك، لحق الله عز وجل في الحرية، فإن الحرية يلحقها أحكام، إذن هذه مجرد دعوى لا تخرج بها من الأصل من ثبوت حريته وما يترتب عل ذلك من أحكام لله عز وجل في الأحرار.
أو لما بلغ قال إنه كافر، فلا يقبل منه، وحينئذ فلا يبقى مسلماً بل يكون مرتداً، لأنه إذا قبلنا منه وقلنا أنت كافر فحينئذ نبقيه كسائر الكفار الذين قد تثبت لهم أحكام تعصم دماءهم كالذميين، وأما إذا لم نقبل منه ذلك فحينئذ يكون قوله ردة فيحكم عليه بالقتل.
قال: [وإن ادعاه جماعة قدم ذو البينة] .
???إذا ادعاه جماعة فكل يقول هذا ابني، فإنه يقدم ذو البينة منهم سواء كان مسلماً أو كافراً حراً أو عبداً لأن البينة تظهر الحق وتحكم به.
قال: [وإلا فمن ألحقته القافة به] .


إن لم تكن هناك بينة، فندعي القافة ونحكم بقولهم والقافة: قوم لهم معرفة في الشبه فيلحقون الشبيه بشبيهه.
وقد ثبت في الصحيحين أن النبي - صلى الله عليه وسلم -????دخل على عائشة يوماً مسروراً تبرق أسارير وجهه فقال: ألم تري إلى مجزر المدلجي ??وبنو مدلج" كانوا مشهورين بالقيافة??قد دخل على أسامة وزيداً وعليهما قطيفة قد غطيا رؤوسهما وبدت أقدامهما فقال: إن هذه الأقدام بعضها من بعض)
فقد أقر النبي - صلى الله عليه وسلم -?العمل بها، وكذلك أقر عمر كما في البيهقي والطحاوي بإسناد صحيح.
فإن حكمت البينة للجميع حكم به للجميع فكان ابناً لهم يرثهم ويرثونه وتثبت الأحكام كلها.
ودليل ذلك الأثر عن عمر، فقد ثبت في البيهقي والطحاوي بإسناد صحيح، (أن رجلين اشتركا في وطء امرأة في شهر فدعى عمر القافة فقال: أخذ الشبهُ لهما جميعاً، فقضى به لهما) ، فيحكم به للجميع وهو المشهور في مذهب الإمام أحمد?
وإن أشكل على القافة أو لم يتبينوا من ذلك أو نفى القافة أن يكون شبيهاً لأحد من هؤلاء المدعين؟
ضاع نسبه في المشهور من المذهب.
وقال الإمام أحمد في رواية عنه??بل يلحق?بأيهما أحب وهو القول الراجح وهو مذهب الشافعية?ودليله: ما ثبت في البيهقي بإسناد صحيح: " أن رجلين ادعيا رجلاً ولا يدرى أيهما أبوه فقال عمر: اتبع أيهما شئت".
وهل ينتظر حتى يبلغ أو حتى يميز؟
قولان للشافعي.
القول القديم للشافعي: أنه ينتظر حتى يبلغ.
والقول?الجديد: أنه ينتظر حتى يميز، والقول القديم هو قول في المذهب وهو أولى?وأنه ينتظر به حتى يبلغ لأن اختياره بعد ذلك يكون أتم.