شرح زاد
المستقنع للحمد الدرس الرابع والستون بعد الثلاثمائة
كتاب العِدد
العِدد: جمع عِدَّة وهي ما تتربصه المرأة عند النكاح بسبب طلاق أو فسخ أو
وفاة.
وسمي عِدة لأنه مقدر، بالأقراء أو يقدر بالأشهر أو يقدر بوضع الحمل.
قال: [تلزم العدة كل امرأة فارقت زوجاً]
فالعدة تلزم كل امرأة ’ سواء كانت المرأة مسلمة أو ذمية، حرة أو أمة، صغيرة
يوطأُ قبلها أو كبيرة.
قال: [خلا لها مطاوعة]
فالعدة تثبت بالخلوة، وهو قضاء الخلفاء الراشدين، وتقدم أن في سنده عن
الخلفاء انقطاعاً، لكنه ثابت عن عمر وعلي بن أبي طالب، تقدم تقريره في كتاب
الصداق، فإذا خلا بها فإن العدة تثبت وإن لم يطأ، فالخلوة مظنة الوطء
والمظنات تعتبر في الشرع وإن لم تثبت الحقائق، فالعدة تثبت بالخلوة وإن لم
يحصل وطء خلافاً للشافعي وقد تقدم البحث في هذه المسألة في درس سابق.
قوله: " مطاوعة "؛ فيشترط ألا تكون مكرهةً على هذه الخلوة فإن كانت مكرهةً
على هذه الخلوة فلا عدة.
واختار شيخ ابن سعدي أن العدة تثبت وإن كانت مكرهةً وذلك لثبوت الخلوة، وهو
ظاهر قضاء الخلفاء، ولأن اشتمال الخلوة للوطء مع الإكراه احتمال قوي، قد
يكون أقوى إذا كانت مطاوعةً، ولأن الفقهاء قد قرروا ثبوت الخلوة ولو كان
تمت مانع حسي كأن يكون الرجل مجبوباً أو تكون المرأة رتقاء، فإذا ثبت هذا
فأولى من ذلك إذا كانت المرأة مكرهةً.
فالراجح أن المرأة إذا كانت مكرهةً على الخلوة فإن العدة تثبت.
قال: [مع علمه بها]
أما لو لم يعلم بها كأن تكون في زاوية من الدار لم يطلع عليها، أو أن يكون
غير بصير فلم يرها، فلا خلوة وذلك لعدم تحقق المظنة وهي الخلوة.
قال: [وقدرته على وطئها ولو مع ما يمنعه منهما أو من أحدهما حساً]
فلو كان معه ما يمنعه منها كأن يكون
مجبوباً أو تكون المرأة رتقاء، بأن يكون فيهما جميعاً ما يمنع من الوطء،
فإن الخلوة تثبت، وعلى ذلك فتثبت العدة، وعليه فقوله: " وقدرته على وطئها
"؛ فيه إشكال، ولم أره في بعض كتب الحنابلة.
قال: [أو شرعاً]
كأن تكون المرأة وهي صائمة فرض أو محرمة أو حائض فإن هذا المانع الشرعي لا
يمنع من ثبوت العدة، وذلك لثبوت الخلوة، فقد خلا بها وإن كان لا يمكنه
الوطء أو منها ما يمنعه من الوطء سواء كان ذلك حسياً أو شرعياً فالخلوة
ثابتة، والحكم هنا متعلق بالمظنة لا تحقيقه الوطء، ولأنه قد استحل منها ما
لا يستحله ممن تحرم عليه، فقد خلا بها ولا شك أن هذه الخلوة استلال لهذه
المرأة.
قال: [أو وطئها]
فإذا خلا بها ولم يطأها فإن العدة تثبت، وإذا وطئها فإن العدة تثبت من باب
أولى.
قال: [أو مات عنها]
فإذا مات عنها ولم يدخل بها فإنها تعتد، وقد تقدم ذكر ذليل هذا وهو ما ثبت
عن ابن مسعود في قضائه في امرأة مات عنها زوجها ولم يدخل بها ولم يفرض لها
صداقاً فقضى أن عليها العدة ولها الميراث لا وكس ولا شطط، فقام معقل بن
سنان الأشجعي فقال: " قضى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في --- بنت
واشق – امرأةٍ منا – قِبْلَ ما قضيت " وإسناده صحيح، فقضية المتوفى عنها
لها حكم آخر فلا يشترط الدخول فإذا عقد على امرأة ولم يدخل بها فمات فإنها
تعتد.
قال: [حتى في نكاحٍ فاسدٍ فيه خلاف]
فلو أن رجلاً نكح امرأة بلا ولي وهو يعتقد صحته، كالحنفي؛ فإن هذا النكاح
الفاسد المختلف فيه تترتب عليه العدة وذلك لأن فاعله يعتقد حله، فهو
باعتقاده نكاح صحيح فيلحق بالصحيح في أحكامه.
قال: [وإن كان باطلاً وفاقاً لم تعتد للوفاة]
فإذا كان النكاح باطلاً اتفاقاً كنكاح
الخامسة مثلاً أو نكاح المرأة في عدتها فهذا نكاح باطل باتفاق أهل العلم
فهذا النكاح وجوده كعدمه لأنه باطل ولا يمكن مع بطلانه أن تترتب عليه
الأحكام الشرعية، وعليه فإن العدة لا تثبت معه، فإذا نكح امرأ’ خامسة فإنه
يؤمر بطلاقها ولا تعتد منه لكن لابد وأن تُستبرأ بحيضة ليُعلم برأة رحمها.
قال: [ومن فارقها حياً قبل وطء وخلوة أو بعدهما أو بعد أحدهما وهو ممن لا
يولد لمثله، ... .. فلا عدة]
إذا فارقها في حال الحياة قبل الوطء والخلوة، أو بعدها أو بعد أحدهما أي
بعد الخلوة وقبل الوطء، أو بعد الوطء قبل الخلوة وهو ممن لا يولد لمثله أو
كانت المرأة لا يوطأ مثلها فلا عدة، والذي لا يولد لمثله هو الصغير وهو في
المذهب من كان دون عشر سنين، والمرأة التي لا يوطأ مثلها وهي في المذهب من
كانت دون تسع سنين، وتقدم أن هذا لا حد له بل متى كانت لا يوطأ مثلها وإن
كانت بنت اثني عشرة سنة فلها هذا الحكم، وكذلك الرجل وإن كان ابن اثني عشرة
سنة، إذن: إذا كان لا يولد لمثله أو كانت المرأة لا يوطأ مثلها فلا عدة،
قالوا: للعلم ببرأة الرحم، هذا إذا كان الزوج حياً، أما إذا توفى الرجل عن
امرأته التي لا يوطأ مثلها، وهو لا يولد لمثله فإنها تعتبر عدة الوفاة،
قالوا: لعموم الآية: {والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجاً يتربص بأنفسهن
أربعة أشهر وعشراً} ، أما إذا فارقها في الحياة فلا عدة، هذا هو المشهور في
المذهب، وعندي في هذا القول نظر.
والذي يترجح – والله أعلم – هو ثبوت العدة
وذلك لأمر الحكمة من العدة ليس ببراءة الرحم فحسب، بل لها حكم آخر، فمن ذلك
حق الزوج الأول، ومن ذلك حق الله تعالى في العدة، فليس الحكمة من العدة هو
العلم ببراءة الرحم فحسب، بدليل أنهم يقولون – وهو مذهب جماهير العلماء –
أن المرأة إذا طلقها زوجها ثلاثاً فإنها تعتد بثلاث حيض مع أنها بحيضة
واحدة يعلم براءة رحمها، ومن ذلك أيضاً؛ تشريف هذا العقد وهو عقد النكاح،
فإن من تشريفه – إلا ما ورد استثناءه – أن تبقى المرأة إذا طلقها الرجل بعد
ثبوت العقد وتقويته بالخلوة أن تبقى متربصة معتدة، ومن حكمه؛ تطويل المدة
لعل الزوج يرجع إلى امرأته وهذا في الرجعية، ولا شك أن أكثر هذه العلل
ثابتة في المرأة التي لا يوطأ مثلها أو في طلاق الرجل الذي لا يولد بمثله
لصغره.
قال: [أو تحملت بماء الزوج]
إذا عقد على امرأة، فأخذت من مائه في خرقة واستدخلته في فرجها قد تحملت
بماء الزوج وهو لم يدخل بها فقال: فلا عدة، لقوله تعالى: {يا أيها الذين
آمنوا إذا نكحتم المؤمنات ثم طلقتموهن من قبل أن تمسوهن فمالكم عليهن من
عدة تعتدونها} ، وهنا لم يمسها ولم يخلو بها، فهذا الإستدخال ليس بوطء وليس
بخلوة.
والقول الثاني في المسألة وهو مذهب الشافعية: أن العلدة تثبت هنا وذلك
لانشغال رحمها بمائه.
والذي يترجح أن العدة لا تثبت وذلك لظاهر الآية المتقدمة لكن لابد أن
تستبرئ بحيضة وذلك لانشغال رحمها بماء زوجها.
قال: [أو قبلها أو لمسها بلا خلوة فلا عدة]
فإذا قبلها أو لمسها فلا خلوة فلا عدة، وذلك لظاهر الآية المتقدمة: {إذا
نكحتم المؤمنات ثم طلقتموهن قبل أن تمسوهن فمالكم من عدة تعتدونها} .
فصل
قال: [والمعتدات ست: الحامل]
هذا الفصل في بيان أنواع المعتدات، وقد بدأ بالحامل.
قال: [وعدتها من موت وغيره إلى وضع كل الحمل بما تصير به أمةٌ أم ولدٍ]
فذات الحمل عدتها من موت وغيره أن تضع
حملها، قال تعالى {وأولات الأحمال أجلهن أن يضعن حملهن} ، قوله؛ " قوله وضع
كل الحمل " فلو كانت حاملاً بولدين، فوضعت الأول ثم وضعت الثاني بعد أسبوع،
فإن الحمل كله قد وضع بوضع الثاني، وعليه فإنها تبقى معتدة حتى تضع الثاني
وهذا هو ظاهر قوله تعالى: {وأولات الأحمال أجلهن أن يضعن حملهن} ، قوله؛ "
بما يصير به أمةٌ أم ولدٍ " إن قيل: ما هو الولد الذي إن وضعته تنتهي بذلك
عدتها، لو وضعت نطفة لم يمض لها إلا ثلاثون يوماً أو وضعت علقة لم يمض لها
إلا ستون يوماً، أو وضعت مضغة ليس منها شيء من صورة الآدمي، أو وضعت مضغة
على صورة الآدمي أو حتى ينفخ فيه من الروح، قال؛ " بما تصير به أم ولدٍ "
يعني الذي تصير به الأمة أم ولد لسيدها فتعتق عليه بعد وفاته هو نفسه الذي
تنتهي به المرأة من عدتها، هو ما تبين به الآدمي بأن يظهر فيه شيء من خلق
الآدمي كرأسه أو رجله أو غير ذلك من صورة الآدمي، وهذا إنما يكون في
المرحلة الثالثة والطور الثالث، وهو حالة كونه مضغة، فإذا كان مضغة، وهي
المرحلة الأولى أو كان علقة وهي المرحلة الثانية، فإنه لا يمكن أن يتبين
فيه خلق الإنسان، فإذا دخل في الطور الثالث وهو المضغة، وذلك يكون بعد
ثمانين يوماً، فإنه يمكن أن يتبين خلق الإنسان في أوله أو في وسطه أو في
آخره، فإذن؛ إذا وضعت ما يتبين به شيء من صورة الإنسان فإن هذا الساقط منها
ينتهي به عدتها، وهذا بإجماع العلماء، أما إن كان نطفة أو علقة، فجاهير
العلماء على أنه لا تنتهي به العدة.
وقال الحسن البصري: " بل تنتهي به العدة "،
فإذا وضعت ما يسمى حملاً فإن العدة تنتهي به، وفيه قوة – فيما يظهر – وهو
ظاهر القرآن {وأولات الأحمال أجلهن أن يضعن حملهن} ، فإذا وضعت ما يسمى
حملاً سواء تبين به خلق الآدمي أم لم يتبين، فإنه حمل، تترتب عليه الأحكام
الشرعية، وإن كان بعد أربعين يوماً مع أن الأحوط ما ذهب إليه الجمهور، وهي
مسألة تترتب عليها حل البضع، فلاشك أن الاحتياط للأبضاع هو الأولى.
قال: [فإن لم يلحقه لصغره أو لكونه ممسوحاً أو ولدت لدون ستة أشهر منذ
نكاحها ونحوه، وعاش لم تنقض به]
إذا مات عنها وهي حامل لكن هذا الحمل لا يلحقه ولا ينسب إليه، ولم يلحقه
الحمل لصغره، أي لكونه لا يولد لمثله، أو لكونه ممسوحاً أي مجبوب الذكر
والأنثيين، أو ولدت بدون ستة أشهر منذ نكاحها، وعاش أو لأكثر من أربع سنين
منذ أبانها، إذاً هذا الحمل تبين أنه ليس منه، فهل تنتهي عدتها بوضعه أم
لا؟
قال جمهور العلماء: لا تنتهي به العدة، وذلك لأنه حمل منفي عنه بيقين،
فأشبه ما لو حملت بعد وفاته، فإذا حملت بعد وفاته فلا شك أن هذا الحمل غير
معتبر في العدة، فكذلك هنا.
وقال الأحناف وهو رواية عن الإمام أحمد: بل عدتها حين تضع هذا الحمل، وذلك
لعموم الآية {وأولات الأحمال أجلهن أن يضعن حملهن} .
والأولى ما ذهب إليه الجمهور في هذه المسألة، وذلك لأن هذا الحمل منفي عنه
بيقين، كما لو حملته بعد فراقه لو مات أو فسخ، ثم أن الآية إنما تحمل على
الأصل والغالب، فإن الأصل أن يكون الحمل منه هو، وأما هذا فهو شيء نادر أو
خلاف الظاهر، فالذي يترجح ما ذهب إليه الجمهور وعليه فلو أن امرأة مات عنها
زوجها وقد نكحها قبل شهرين فوضعت حملاً بعد ثلاثة أشهر وقد عاش متيقن من
ذلك أن هذا الحمل إنما يكون بستة أشهر فأكثر، فثبت لنا أنه ليس منه،
فحينئذٍ لا تنتهي بذلك عدتها لأن هذا الحمل ليس منه.
والمذهب أنها تستأنف عدة جديدة بعد وضع
الحمل، فإذا وضعت الحمل نقول لها الآن إبدائي فاحسبي أربعة أشهر وعشراً،
قالوا: لأنهما عدتان، عدة من الزوج وعدة من صاحب هذا الحمل غير الشرعي فهما
عدتان، فلم تعتد أصلاً.
والأرجح وهو قول في المسألة؛ أنها تحسب من موت زوجها أربعة أشهر وعشراً،
ويعلم براءة رحمها منه بوضع الحمل، فالمقصود من عدة الثاني العلم ببراءة
الرحم وبوضع الحمل يتبين لنا براءة رحمها، إذاً الصحيح أنها تحسب من وفاة
زوجها فإذا تم لها أربعة أشهر وعشراً فقد انتهت عدتها من زوجها، فإذا كان
منها حمل فلا يحل لها أن تنكح حتى تضع هذا الحمل، وذلك لأنها بوضع الحمل
تستبرئ رحمها من هذا الواطئُ الوطءَ غيرَ الشرعي.
قال: [وأكثر مدة الحمل أربع سنين وأقلها ستة أشهر وغالبها تسعة أشهر]
تقدم الكلام على هذا ولا شك أن غالب الحمل تسعة أشهر وهذا معلوم من الواقع.
قال: [ويباح إلقاء النطفة قبل أربعين يوماً بدواء مباح]
هذا في حكم إلقاء النطفة وهو ما يسمى بالإجهاظ أو الإنزال، فيباح إلقاء
النطفة قبل أربعين يوماً بدواء مباح، هذا المشهور في المذهب – وهذا الشرط
إذن الزوج لما له من الحق في ذلك، إذاً الأحوال في المذهب ثلاثة:
الحالة الأولى: حالة النطفة فيباح إلقاء هذه النطفة بدواءٍ مباح.
الحالة الثانية: ما بعد النطفة وقبل نفخ الروح، أي في حال العلقة والمضغة،
فيحرم على المذهب الإجهاظ الإختياري حينئذٍ.
الحالة الثالثة: إذا نفخ فيها الروح وذلك يكون بعد أربعة أشهر فيحرم
الإجهاظ حينئذٍ، وهذا بإجماع أهل العلم.
أما الحالتان الأوليتان ففيهما خلاف.
والقول الثاني في المسألة أي الحالة الأولى والثانية؛ أن إلقاء النطفة
والعلقة والمضغة؛ كل ذلك جائز، فإلقاء الجنين قبل قذف الروح فيه جائز، وهذا
هو مذهب الأحناف ابن عقيل من الحنابلة.
والقول الثالث في المسألة وهو قول
الظاهرية، وأكثر المالكية وهو قول بعض الحنابلة وبعض الشافعية وبعض
الأحناف: أي إلقائه فمحرم مطلقاً وإن كان نطفة؛ وهذا القول هو أرجح هذه
الأقوال وذلك لقول النبي - صلى الله عليه وسلم - في الحديث المتفق عليه:
(يجمع خلق أحدكم في بطن أمه أربعين يوماً نطفة ….) ، والذي يتبين أنه في
حال النطفة، أي في حال جمع الخلق، فيتبين أنه في حال تهئ للخلق الجديد،
وعليه فهو محرم فإلقاءه محرم والتعدي عليه جناية.
واستدل الحنابلة على أنه اسكان نطفة، فيجوز إلقاءه، لما روى أحمد في مسنده
أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال في حديث ابن مسعود: (أن النطفة تكون
في الرحم أربعين يوماً لا تتغير) ، قالوا: فإذا كانت لا تتغير فإنها ليست
بعد في طور التخلق وعليه فلا حرمة لها، فيجوز إلقاءها، لكن الحديث إسناده
ضعيف وهو يعارض حديث ابن مسعود المتفق عليه المتقدم وفيه أنها تتخلق.
فالصحيح أنه يحرم الإجهاض مطلقاً، هذا حيث كان الإجهاض اختيارياً، وأما إذا
كان إطرارياً فهذا:
إن كان قبل نفخ الروح فاضطرت إلى اسقاطه لأنه يلحقها الضرر بإبقائه فإنه
يجوز الإسقاط حينئذٍ، وذلك من باب تقديم الوقوع في المفسدة الصغرى درءاً
للمفسدة الكبرى، فلا شك أن رفع الضرر عن هذه المرأة أولى من تخلق هذا
الجنين الذي بعدُ لم ينفخ فيه الروح.
وأما إذا كان بعد نفخ الروح فإن الأمر يكون أعظم والتشدد فيه أكثر، وعليه
فإذا كان في إبقائه إتلاف للأم وتعريض لحياتها للخطر فيجوز الإسقاط في
الأظهر وذلك لوجهين:
أن الأم هي الأصل والأبن فرع عنها، ولا شك أن إبقاء الأصل أولى من إبقاء
الفرع.
أن الأم حياتها حياة متحققة وأما هذا الجنين فحياته حياة مظنونة غير
متحققة، ومن ثمَّ فرق الشارع بين دية الجنين ودية المولود، فالجنين ديته
غرة، وأما المولود فديته دية غيره كما سيأتي.
وهنا إيراد على المسألة التي تقدم ترجيحها
وهي أنه لا يجوز الإسقاط قبل نفخ الروح مطلقاً.
إن قيل لما أجزنا العزل؟
فالجواب: أن بين العزل والإسقاط فرقاً، فإن الإسقاط يكون فيه إزالة ما هو
موجود حاصل، فإن هذه النطفة قد حصلت في الرحم، واجتمع ماء الرجل بماء
المرأة في رحمها، بخلاف العزل فإنه بموجود ولا حاصل، وفرق ظاهر بين ما هو
موجود وحاصل وما ليس كذلك.
الدرس الخامس والستون بعد الثلاثمائة
فصل
قال رحمه الله: [الثانية: المتوفي عنها زوجها بلا حملٍ قبل الدخول وبعده]
هذا هو القسم الثاني من المعتدات، المتوفي عنها زوجها قبل الدخول أو بعده
لحديث معقل بن سنان الأشجعي الذي تقدم ذكره في الدرس السابق ودرسٍ قبله.
قوله: " بلا حمل منه "؛ فإن الحامل إذا وضعت حملها وقد توفى عنها زوجها،
فإنها تنقضي عدتها بوضعها للحمل، ولو كان ذلك بعد ليالٍ يسيرة، ففي البخاري
عن المسور بن مخرمة: " أن سبيعة الأسلمية نُفست بعد وفاة زوجها بليالٍ،فأتت
النبي - صلى الله عليه وسلم -؛ فاستأذنته أن تُنكح فأذن لها " رواه
البخاري، وأصله في الصحيحين.
أما إذا كانت حائلاً غير حاملٍ وتوفى عنها زوجها فإن عدتها، أن تتربص أربعة
أشهرٍ وعشراً، لقوله تعالى: {والذين يتوفون منكم ويدرون أزواجاً يتربصن
بأنفسهن أربعة أشهرٍ وعشراً} ، ولا فرق كما تقدم أن تكون مدخولاً بها أو
غير مدخول بها، بخلاف المطلقة فإن المطلقة غير المدخول بها لا عدة لها.
قال: [للحرة أربعة أشهرٍ وعشراً]
فالحرة تتربص أربعة أشهر وعشراً، أي وعشرة أيام، فهنا أتت العدد لتبين
مسألة اتفقت عليها المذاهب الأربعة، وهي أن العدة؛ لا تنتهي بعد مضي أربعة
أشهرٍ إلا مع مضي عشرة أيام بلياليهن، فإذا غابت الشمس من اليوم العاشر فإن
العدة تنقضي عند جمهور العلماء.
وقال الأوزاعي: " بل تنقضي بمضي أربعة
أشهرٍ وعشر ليالٍ "، وهذا متضمن لمرور تسعة أيام، وعليه؛ فإذا كان الفجر
الصادق من اليوم العاشر، فإن العدة تنقضي.
واستدل الأوزاعي: بتذكير العدد في قوله تعالى {والذين يتوفون منكم ويذرون
أزواجاً يتربصن بأنفسهن أربعة أشهرٍ وعشراً} ، فهنا ذكّر العدد، وتذكير
العدد يدل على أن المعدود مؤنث، وعليه فإذا مضت أربعة أشهرٍ وعشر ليالٍ فإن
العدة تنقضي.
وأجاب الجمهور: بأن مثل هذا ورد في لغة العرب، فيؤنثون العدد ويريدون بذلك
دخول أيامها معها، ومن ذلك قوله تعالى عن نبيه زكريا عليه السلام {ثلاث
ليالٍ سويا} ، وقد قال في آية أخرى {ثلاثة أيام إلا رمزاً} ، فذكره لليال
في الآية الأولى، دخلت فيها الأيام بدليل الآية الأخرى، لكن ما ذهب إليه
الأوزاعي فيه قوة لأن هذا – أي ما أجاب به الجمهور - من باب المجاز، وإلا
فالأصل أن المراد بذلك، الليالي دون أيامها، ففي ما ذهب إليه قوة، لكن
الأحوط ما ذهب إليه الجمهور، لا سيما في هذه المسألة التي يترتب عليها
تحليل الابضاع.
قال: [وللأمة نصفها]
فالأمة عدتها نصف عدة الحرة، أي شهران وخمس ليالٍ بأيامهن قياساً على عدة
الأمة المطلقة، فقد اتفق الصحابة؛ على أن عدة الأمة المطلقة حيضتان، على
نصف عدة الحرة، وإنما لم تكن عدة الأمة حيضة ونصف، لأن الحيض لا يتبعض،
قالوا: فكذلك في عدة الوفاة، تكون على نصف عدة الحرة، وهذا باتفاق أهل
العلم.
قال: [فإن مات زوج رجعية في عدة طلاقٍ سقطت وابتدأت عدة وفاة منذ مات]
رجلٌ طلق امرأته طلاقاً رجعياً - والمطلقة الرجعية زوجه – فحاضت حيضتين، ثم
مات زوجها، فهل يبقى لها شهران وعشرة أيامٍ، أم أنها تستأنف عدة الوفاة من
جديد؟
قال المؤلف هنا: " ابتدأت عدة وفاة "؛
فتستأنف عدة الوفاة من جديد، منذ مات ولا تحسب الشهرين، ذلك لأنها زوجه،
وقد قال تعالى: {الذين يتوفون منكم ويذرون أزواجاً يتربصن بأنفسهن أربعة
أشهرٍ وعشراً} ، وقوله؛ سقطت، أي سقطت الأيام التي مضت من عدة طلاقها.
قال: [وإن مات في عدة من أبانها في الصحة لم تنتقل]
فلوا أن رجلاً طلق امرأته ثلاثاً، فهي بائنٌ منه، ثم مات وقد مضى من العدة
شهران، فإنها تستأنف من جديد، بل تكمل عدة الطلاق، ولا تعتد عدة الوفاة،
لذا قال المؤلف: " لم تنتقل "؛ أي لم تنتقل من عدة الطلاق إلى عدة الوفاة
بل تبقى على عدة الطلاق، ذلك لأنها ليست زوجة، والآية المتقدمة في
الزوجة،وفي قوله: " في الصحة "؛ إحتراز من هذه المسألة التي ذكرها بعد ذلك،
وهي قوله:
[وتعتد من أبانها في مرض موته الأطول من عدة وفاة وطلاقٍ]
إذا طلق امرأته طلاقاً بائناً في مرضه في مرضه المخوف فإنها، ترث منه فإذا
مضى على عدتها شهران ثم مات الزوج فإنها تعتد الأطول من عدة وفاة وطلاق،
فتنظر أطول الأجلين فتعتد به، أما ثبوت عدة الطلاق لها؛ فلأنها بائنٌ فهي
ليست بزوجة، وأما ثبوت عدة الوفاة فلأنها وارثة، وحينئذٍ نكون قد أوجبنا
عليها الأطول من العدتين، وذلك لأن الأقل يندرج في الأكثر هذا هو المشهور
في مذهب الإمام أحمد وذهب المالكية والشافعية إلى أنها تعتد بعدة الطلاق
فحسب، لأنها ليست بزوجة فهي بائن منه فلا تدخل في قوله تعالى {والذين
يتوفون ويدرون أزواجاً} ، وعليه فلا تعتد عدة الوفاة، وإنما ورثناها لأنه
أراد حرمانها ومنعها حقها، فأعطيناها حقها الثابت لها، وهذا هو القول
الراجح في هذه المسألة.
إذاً إذا أبان امرأته في مرضه المخوف حكمنا لها بالإرث، فالمذهب أنها تعتد
بأطول الأجلين من عدة الطلاق وعدة الوفاة.
والقول الثاني في المسألة: أنها تعتد عدة
الطلاق، وذلك لأنها ليست بزوجة فلا تدخل في الآية المتقدمة.
قال: [ما لم تكن أمة]
هذا استثناء على المذهب، فإذا كانت الزوجة أمة وأبانها في مرضه المخوف،
فإنها تعتد عدة الطلاق فحسب، لأن الأمة لا ترث.
قال: [أو ذمية]
لأن الذمية لا ترث منه لاختلاف الدين.
قال: [أو جاءت البينونة منها]
كأن تسأله الطلاق، فإذا سألته الطلاق فطلقها طلاقاً بائناً، فإنه لا إرث
لها لأن منعها من الإرث جاء من جهتها.
قال: [فطلاق لا غير]
أي فعدة طلاق لا غير، فإذا كانت لا ترث فإنهم لا يقولون بأنها تعتد أطول
الأجلين، لأنهم إنما أمروها؛ أن تعتد عدة الوفاة لأنها ورثت، وأما في هذه
المسائل فإنها لا ترث وعليه فإنها لا تعتد عدة الوفاة.
قال: [وإن طلق بعض نسائه مبهمةً أو معينتاً ثم أنسيها ثم مات قبل قرعة،
أعتد كل منهن سوى الحامل الأطول منهما]
إذا طلق بعض نسائه مبهمةً، أو عين لكنه نسي المعينة، ثم مات قبل أن يقرع
بين النساء لإخراج المطلقة، فكل واحدة من نسائه تعتد الأطول من الأجلين
فتعتد عدة المطلقة لأنها قد تكون هي المخرجة بالقرعة، فتكون هي المطلقة
وتعتد عدة الوفاة لأنها ربما لا تكون هي المخرجة بالقرعة، وعليه فيكون
نكاحها نافد، وعليه فيكون قد توفى عنها وهي زوجٌ فيجب عليها أن تعتد عدة
الوفاة، قال " سوى حامل "؛ فالحامل واضح استثنائها، لأن الحامل عدتها
واحدة، سواء كانت مطلقة أو متوفى عنها، فإن عدتها أن تضع حملها فلا فرق بين
أن تخرج القرعة عليها أو لا تخرج.
قال: [الثالثة؛ الحائل ذات الأقراء]
الحائل هي ضد الحامل.
قال: [وهي الحيض]
فالأقراء هي الحيض في أصح قولي العلماء، فقد اختلف أهل العلم في المراد
بالقرء في قوله تعالى {والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء} ، والقروء جمع
قرء، هل القرء هو الحيض أم أنه هو الطهر؟
اختلف أهل العلم على قولين، ولفظة القرء من
الألفاظ المشتركة، فتر في اللغة ويراد بها الطهر، وتر في اللغة ويراد بها
الحيض، ومن ثم اختلف أهل العلم فيالمراد بالقرء في هذه الآية:
القول الأول: وهو مذهب الأحناف والحنابلة؛ إلى أن القرء هو الحيض.
القول الثاني: وهو مذهب المالكية والشافعية؛ إلى أن القرء هو الطهر.
فإذا قلنا هو الحيض فطلقها في طهرٍ فإنها تنتظر حتى تحيض ثلاثة حيض، فإذا
حاضت الحيضة الأولى ثم طهرت ثم حاضت الحيضة الثانية ثم طهرت ثم حاضت الحيضة
الثالثة ثم طهرت، ثم يأتي الخلاف المتقدم في قضية خروجها من العدة، هل
ينتظر حتى تغتسل من الحيض أم بمجرد انقطاع الدم.
وإن قلنا هو الطهر؛ فإذا طلقها وهي طاهر فحينئذٍ يحسب طهراً، فحاضت ثم
طهرت، هذا هو الطهر الثاني، فحاضت ثم طهرت فهذا هو الطهر الثالث، فإذا دخلت
الحيضة الثالثة بعد طلاقها فإنها تنقضي لذلك عدتها.
أستدل أهل القول الثاني:
بقوله تعالى {فطلقوهن لعدتهن} ، قالوا: ومعنى هذه الآية فطلقوهن وقت عدتهن،
ووقت الطلاق هو الطهر، وعليه؛ فالعدة هي في الطهر.
واستدلوا بقوله تعالى {والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء} ، قالوا: قال
ثلاثة، فالعدد هنا مؤنث، والعدد إذا أنث فهذا يدل على أن العدد مذكر،
والمذكر من المعنيين هو الطهر، فالحيض مؤنثة والطهر مذكر.
أما أدلة أهل القول الأول فهي:
ما روى ابن ماجة بإسناد صحيح أن بريرة أمرها النبي - صلى الله عليه وسلم -
أن تعتد ثلاثة حيض، وهو من حديث عائشة وإسناده صحيح.
واستدلوا: بقول النبي - صلى الله عليه وسلم - الثابت في سنن أبي داود
وغيره: (اترك الصلاة أيام أقرائك) ، قالوا: فالشارع قد أطلق الإقراء على
الحيض، فإذاً المعروف عن الشارع أن القرء هو الحيض.
قالوا: ولأن من حكم العدة الإستبراء، والإستبراء إنما يحصل بالحيض.
واستدلوا أيضاً بقوله تعالى: {والآئي يئسن
من المحيض من نسائكم فعدتهن ثلاثة أشهرٍ والآئي لم يحضن} ، فهنا قد جعل
الأشهر مقابل المحيض، فالحيض ثلاثة والأشهر ثلاثة.
وأجابوا عن أدلة أهل القول الثاني: أن استدلالهم بقوله تعالى {فطلقوهن
لعدتهن} ، وان المعنى؛ طلقوهن وقت عدتهن " وهو الطهر ".
وأجابوا عن هذا الإستدلال: أن الطلاق هو سبب العدة فإذا كان ذلك كذلك، فإنه
لا يمكن أن يكون الطلاق في أثناء العدة، بل لا بد أن يكون سابقاً لها.
وعليه؛ فالمراد " اجعلوا الطلاق سابقاً للعدة "، فتستقبل المرأة العدة وهي
مطلقة، وحينئذٍ يكون الطلاق في الطهر، فتستقبل الحيض بعد ذلك.
وأما استدلالهم بقوله تعالى: {ثلاثة قروء} ؛ وأنه لما أنث دل على أن
المعدود مذكر.
أجابوا عن هذا الإستدلال: بأنه أنت باعتبار اللفظ المذكور وهو قوله " قروء
"، والقرء لفظ مذكر، فأنث الله عز وجل باعتبار اللفظ لا باعتبار المعنى،
وهو ظاهر معروف في لغة العرب.
قالوا: ويستدل بهذه الآية عليكم فإن الله قال: {ثلاثة قروء} ، وقد فسرتموه
أنتم بالأطهار، وأنتم إذا طلقها في طهرٍ فإنكم تحسبون هذا الطهر الذي طلقها
في أثنائه ثم تضيفون إليه طهرين بعده – وهو أي الطهر الأول –، إنما هو بعض
طهرٍ وليس طهراً كاملاً، فلو طلقها قبل حيضها بيومٍ واحد، وبعد مضي أيامٍ
كثُّر من طهرها، فإنكم تحسبونه طهراً، وهو بعض طهر والله قال {ثلاثة قروء}
وهذا نص في أن القروء ثلاثة، والنص لا يقبل المجاز، وعليه فلا بد أن تكون
القروء ثلاثة فإذا كانت قرآن وبعض قرء فلا يدخل هذا في الآية، وأما قوله
تعالى {الحج أشهر معلومات} فلفظة أشهر أسم جمع فيه المجاز، قلنا أن تقول
شهران وعشرة أيام، وهو مذهب الجمهور مع أن الراجح ما ذهب إليه المالكية،
وأن الأشهر لابد وأن تكون ثلاثة.
وما ذهب إليه الحنابلة والأحناف، وهو قول
أكثر الصحابة، بل هو قول أكابر الصحابة، كما قال ذلك الإمام أحمد وهو قول
أكثر أئمة الحديث.
وأما القول الثاني؛ فهو قول عائشة وزيد بن ثابت والعبرة في رواية عائشة لا
برأيها فقد تقدم أنها روت أن بريرة اعتدت ثلاثة حيض، ولعل هذا الرأي منها
هو الذي جعل بعض أهل العلم يعلوا هذا الحديث فقد ذكر الحافظ في البلوغ، أن
الحديث معلولٌ، ولم أقف على علله، أو على من علله، فلعل التعليل لمخالفة
عائشة، لكن العبرة بالرواية لا بالرأي، فعلى كلٍ فلو لم يثبت هذا الحديث بل
كان معلولاً حقاً ففي الأدلة التي ذكروها، ما يدل على قوة قولهم، فالصحيح
أن الأقراء هي الحيض.
قال: [المفارقة في الحياة]
طلاقٌ أوفسخ أو خلع، فالمختلعة تعتد ثلاث حيض والمطلقة تعتد ثلاث حيض،
وهكذا من فسخت، واختار شيخ الإسلام وهو رواية عن الإمام احمد، وهو قول
اسحاق واختاره تلميذه ابن القيم: أن المختلعة تعتد بحيضة، وهو القول الراجح
في هذه المسألة، ويدل عليه ما ثبت في سنن النسائي بإسنادٍ صحيح أن النبي -
صلى الله عليه وسلم - جعل عدة المختلعة حيضة.
قال: [فعدتها إن كانت حرة أو مبعضة ثلاثة قروء كاملة]
فعدتها إذا كانت حرة أو مبعضة ثلاثة قروء لقوله تعالى: {والمطلقات يتربصن
بأنفسن ثلاثة قروء} ، والمبعضة؛ هي التي بعضها حرٌ وبعضها رقٌ، وإنما تعتد
ثلاثة حيض لأن الحيضة الثالثة لا تتبعض عليها، فاعتدت حيضة كاملة فكانت
كالحرة.
قال: [وإلا قرآن]
فإذا كانت أمة فإنها تعتد قرئين وبذلك أفتى الصحابة كعمر وابن مسعود كما في
مصنف عبد الرزاق وكابن عمر كما في سنن الدارقطني،والأسانيد إليهم صحيحة ولا
يعلم لهم مخالف وقد اتفق أهل العلم على القول بهذا.
قال: [الرابعة: من فارقها حياً ولم تحض لصغرٍ أو إياس فتعتد حرة ثلاثة
أشهرٍ وأمة شهرين]
فالرابعة هي من فارقها حياً ولم تحض، لأنه
إذا فارقها ميتاً فإنها تعتد عدة المتوفى عنها زوجها، لكن هنا قد فارقها
وهو حي ولم تحض لصغر وإياس لقوله تعالى {والآئى يئسن من المحيض من نسائكم
إن إرتبتم فعدتهن ثلاثة أشهر والآئى لم يحضن} ، فاليائسة من المحيض، والتي
لم تحض لصغرها تعتد ثلاثة أشهر للآية المتقدمة وهذا بإجماع أهل العلم.
واختلف أهل العلم في سن اليأس:
فالمشهور في المذهب؛ أن سن اليأس خمسون سنة فإذا بلغت المرأة خمسين سنة
فإنها تعتد بالأشهر.
وعن الإمام أحمد؛ أن سن اليأس ستون.
وقال بعض أهل العلم؛ أنه اثنان وستون، وقيل غير ذلك.
واختار شيخ الإسلام أنه لا حد لأكثر سن الحيض، فقد تحيض المرأة وهي بنت
سنتين، وقد ينقطع عنها الدم وهي بنت أربعين.
وهذا هو القول الراجح في هذه المسألة إذ لا دليل يصار إليه في أكثر سن
الحيض، وعليه فمرجع ذلك إلى حيضها، فإذا انقطع عنها الحيض وانقطع رجاؤها
فيه فإنها حينئذٍ تكون آيسة منه وعليه فتعتد بثلاثة أشهر.
فالحرة تعتد ثلاثة أشهر، وتعتد الأمة شهران، لأن عدتها حيضتان، والحيضة
تقابل الشهر، وعليه فتعتد شهرين، وهو رواية عن الإمام وقول في مذهب
الشافعي.
والمسألة فيها ثلاثة أقوال هي روايات عن الإمام أحمد وأقوال في مذهب الإمام
الشافعي:
القول الأول: هو ما ذكره المؤلف.
القول الثاني: أنها تعتد شهراً ونصف، وذلك لأن الأصل أن الأمة عدتها حيضة
ونصف، لكن لم تُنَصِّف الحيضة لأن الحيضة لا تتبعض، أما الشهر فإنه يتبعض.
القول الثالث: وهو مذهب مالك وهو - كما تقدم – رواية عن الإمام أحمد وهو
قول في مذهب الشافعي؛ أن الأمة تعتد ثلاثة أشهر كالحرة.
وذلك لأن هذه المدة تتربصها المرأة ليعلم براءة رحمها، وهو في الغالب لا
يعلم إلا بعد مرور ثلاثة أشهر ولا فرق في هذا بين الأمة والحرة.
فالأمة التي تحيض بمجرد ما تحيض حيضة فإنه
يعلم براءة رحمها وإنما زويا --- عليها حيضة نظراً لحيض الحرة، وأما هنا
فإن براءة الرحم لا تعلم بشهر ونصف فاحتجنا إلى ثلاثة أشهر، وهذا هو أقوى
المذاهب وأحوطها والله أعلم.
قال: [ومبعضة بالحساب ويجبر الكسر]
فالمبعضة إذا كان بعضها حر وثلاثة أرباعها رق، فإنها تعتد شهرين وثمانية
أيام، ويجبر الكسر، فربع الشهر سبعة أيام وكسر، فيجبر الكسر فتكون ثمانية
أيام، وإن لم يكن هناك كسر كأن يكون نصفها حر، فإنها تتربص شهرين ونصف.
وأما على القول الراجح الذي تقدم فلا تحتاج إلى ذلك.
الدرس السادس والستون بعد الثلاثمائة
قال المؤلف رحمه الله: [من ارتفع حيضها ولم تدر سببه]
الخامسة – أي من المعتدات – من ارتفع حيضها ولم تدر سببه، فهي غير آيسة لكن
قد ارتفع الحيض وهي لا تدري ما السبب وهذا قد يقع لبنت عشرين سنة مثلاً.
قال: [فعدتها سنة، تسعة أشهر للحمل وثلاثة للعدة]
فعدتها تسعة أشهر للحمل لأن غالب مدة الحمل تسعة أشهر وثلاثة للعدة وهذا هو
قضاء أمير المؤمنين عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - كما روى ذلك البيهقي
وغيره، قال ابن المنذر: " وهو قضاء عمر بين المهاجرين والأنصار ولم ينكره
منكر "، وهو مذهب المالكية، وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية.
وقال الأحناف والشافعية: بل تتربص حتى يرجع إليها الحيض، أو تيئس منه على
الخلاف المتقدم في سن اليأس.
وهذا القول هو قول ابن مسعود – وإن كان ليس على هذا الإطلاق –، ولا شك أن
هذا القول لا يوافق يسر الشريعة، ولا يشبه أصولها وذلك لأن فيه ضرراً
عظيماً بالمرأة فقد تكون بنت خمس عشر سنة ويقال لها؛ انتظري حتى تبلغي سن
اليأس أو حتى يأتيك الحيض.
قال: [وتنقص الأمة شهراً]
وهذا بناءً على القول بأن عدة من لم تحض
لصغر أو يأس من الإماء بأن عدتها شهران فحينئذ ينقص من السنة شهر، وعلى
القول الذي تقدم وأن عدة الأمة ثلاثة أشهر فحينئذ تكون عدتها هنا سنة إذ لا
فرق بين الأمة والحرة في الاعتداد بالأشهر، وإنما الفرق بالاعتداد بالحيض.
قال: [وعدة من بلغت ولم تحض – إلى أن قال – ثلاثة أشهر]
لقوله تعالى: {والائي يئسن من المحيض من نسائكم إن ارتبتم فعدتهن ثلاثة
أشهر والائي لم يحضن} ، أي فكذلك.
قال: [والمستحاضة الناسية، والمستحاضة المبتدأة ثلاثة أشهر]
إذا كانت مستحاضة ناسية أيقد نسيت هل تحيض في كل شهر أو في كل شهرين،
فعدتها ثلاثة أشهر أو كانت مستحاضة مبتدأة – أي لم يسبق لها حيض – فأول ما
نزل معها الحيض تتابع عليها فكانت مستحاضة فعدتها ثلاثة أشهر وذلك لأن غالب
النساء يحضن في كل شهر فتلحق بغالب النساء،أما إذا كانت المسحاضة لها عادة
سابقة أولها تمييز مالها لعمل بعادتها السابقة أو بتمييزها.
قال: [والأمة شهران]
تقدم النظر في هذا، وأن الراجح أن الأمة عدتها ثلاثة أشهر.
قال: [وإن عملت ما رفعه من مرض أو رضاع أو غيرهما فلا تزال في عدةٍ حتى
يعود الحيض فتعتد به أو تبلغ سن الإياس فتعتد عدته]
إذا ارتفع عليها الحيض وهي تعلم سبب ارتفاعه عنها كأن يكون بها مرض أو تكون
رضاع فإنها لا تزال في عدة حتى تحيض أو تبلغ الإياس.
والقول الثاني في المسألة – وممن إختاره من
المتأخرين الشيخ عبد الرحمن السعدي – أنها إذا كان يغلب على ظنها أن العادة
ترجع إليها كأن يكون سببه ارتفاع العادة هو الرضاع وتعلم أنها إذا توقفت عن
الرضاع أو قضت الرضاع فإن العادة ترجع إليها فإنها حينئذٍ تنتظر حتى تحيض
ثلاث حيض، وأما إن غلب على ظنها أن العادة لا ترجع إليها كأن يصاب بمرض لا
يرجى برؤه ويغلب على ظنها أن العادة لا يرجع إليها فإنها تعتد سنة تسعة
أشهر للحمل وثلاثة أشهر للعدة وهذا القول هو الراجح وهو الموافق لأصول
الشرع.
قال: [السادسة: امرأة المفقود تتربص ما تقدم في ميراثه ثم تعتد للوفاة]
إن كان الغالب على سفره السلامة فإنها تتربص تسعون سنة من ولادته ثم تعتد
للوفاة، وإن كان الغالب على سفره الهلال فإنها تتربص أربع سنين منذ فقد ثم
تعتد عدة الوفاة وهو قضاء عمر كما في البيهقي وتقدم النظر في هذا وأن المدة
ترجع إلى الحاكم وأنها تختلف باختلاف الأزمان، فإذا قرر القاضي أنها تتربص
مثلاً سنة، فإنها بعد انقضاء السنة تعتد للوفاة.
قال: [وأمة كحرة فالتربص]
فلا فرق بين الأمة والحرة في التربص وهذا ظاهر إذ ليس هناك ما يدعي إلى
التفريق بين الأمة وبين الحرة في مسألة التربص لأنها متعلقة بالزوج ونوع
غيبته.
قال: [وفي العدة نصف عدة الحرة]
كما تقدم في الدرس السابق، فعدة الأمة شهران وخمسة أيام.
قال: [ولا تفتقر إلى حكم حاكم بضرب المدة وعدة الوفاة]
فإذا مضى أربع سنين فيما ظاهره عدم السلامة ثم مضى أربعة أشهر وعشر فلها أن
تتزوج بعد ذلك ولا تحتاج بعد ذلك ولا تحتاج إلى حكم حاكم.
قال: [وإن تزوجت فقدم قبل وطءِ الثاني فهي للأول]
إذا تزوجت هذه المرأة ثم قدم الأول قبل أن يطأها الثاني فإنها تكون للأول
لأن نكاحه على ما هو عليه وبقدومه يبطل نكاح الثاني، ولا مانع من الرد،
وعليه فإذا قدم وقد عقد عليها ولم توطأ فإنها حينئذٍ تكون للأول.
قال: [وبعده له أخذها زوجةً بالعقد الأول.
ولو لم يطلق الثاني، ولا يطأ قبل فراغ عدة الثاني]
أما إذا أتى زوجها الأول، وقد عقد عليها ودخل بها فله خياران:
الخيار الأول: أن يأخذها زوجة له بالعقد الأول فلا يحتاج إلى عقد جديد لأن
نكاحه على ما هو عليه ولم يطلق الثاني، لأن نكاحه على ما هو عليه، لكنه لا
يطأ حتى تفرغ من عدتها من الثاني لأن نكاح الثاني نكاح صحيح، فليس له يطأها
حتى تفرغ من عدة الثاني.
قال: [وله تركها معه من غير تجديد عقد]
هذا هو الخير الثاني: وهو أن يتركها مع الثاني من غير تجديد عقد وذلك لأن
نكاحه صحيح لكنا رجحنا الأول لأن نكاحه هو الأسبق.
قال: [ويأخذ قدر الصداق الذي أعطاها من الثاني ويرجع الثاني عليها بما أخذه
منه]
فإذا اختار أن يتركها مع زوجها الثاني، فله أن يأخذ الصداق الذي أصدقها إما
قبل ذلك يأخذه من الثاني ويرجع الثاني على المرأة بما أخذه الأول منه، ففي
سنن البيهقي بإسناد صحيح أن عمر قال في امرأة المفقود (إن جاء زوجها وقد
تزوجت فإنه يخير بين إمرته وصداقها، فإن اختار صداقها كان على زوجها
الآخر،وإن اختار امرأته اعتدت – أي من الثاني –حتى تحل ثم ترجع إلى زوجها
الأول ولها مهرها من الزوج الآخر بما استحل من فرجها) ، وفي البيهقي عن عمر
وعلي: أنهما قد جعلا له صداق الأول، وما ذكره المؤلف ينبني على هذا الأثر،
لكن قول المؤلف:" ويرجع الثاني عليها بما أخذه منه " فيه نظر وعلل الحنابلة
في المشهور عندهم هذا القول بأن هذا الصداق قد لزمه بسبب وطئه إياها، فكان
كما لو حصل فيها تغرير له.
والقول الثاني في المسألة وأستظهره صاحب
المغني أنه لا يرجع إليها بما أخذه منه الأول، وهو ظاهر أثر عمر بن الخطاب
فإنه قال: "فإن اختار صداقها كان على زوجها الآخر " وليس فيه أنه يرجع إلى
امرأته بالصداق، والمرأة لم تغره، وكونه بسبب وطئها فلاشك أن ذلك تعليل
ضعيف جداً بل هو الذي قد وطئ وهو الذي قد أتلف المعوض على الناكح الأول،
فقد أتلف على الناكح الأول معوضه فكان عليه هو المعوض.
إذاً: الصحيح القول الثاني في المسألة وهو رواية عن الإمام أحمد وأنه لا
يرجع إلى المرأة، وأيضاً أثر عمر المتقدم ليس فيه تجديد عقد وليس فيه
اشتراط طلاق الأول وهذا هو الموافق لما ذكره المؤلف هنا.
والقول الثاني في المسألة: اشتراط أن يطِّلق الأول وأن يجَّدد للثاني
العقد، وهذا ضعيف والأثر يدل على خلافه، ونكاحهما جميعاً صحيح لكن رجحنا
الأول لأنه هو الأسبق.
وهكذا كل فراق بين الزوجين لموجب تبين انتقاؤه، كأن يفرق بينه وبين امرأته
لدعوى رضاع بينهما فتنكح زوجاً آخر، ثم يتبين ألا رضاع، فالمسألة كذلك.
فصل
قال: [ومن مات زوجها الغائب، أو طلقها اعتدت منذ الفرقة وإن لم تحد]
فمن مات زوجها وهو غائب، أو طلقها وهو غائب اعتدت منذ الفرقة، فلوا أن
امرأة توفي زوجها ولم تعلم بذلك إلا بعد سنة أو طلقها زوجها ولم تخبر إلا
بعد مضي عليها ثلاث حيض فحينئذ تكون قد خرجت من العدة وإن لم تخبر وهذا
مذهب جمهور العلماء، وذلك لأن النية غير مشترطة وغير معتبر في العدة بدليل
ثبوت العدة على الصغيرة والمجنونة.
قال: [وعدة موطوءة بشبهة أو زنا أو بعقد فاسد كمطلقة]
فلو أن رجلاً وطئ امرأة بشبهة سواء كانت نكاح أو اشتبهت عليه امرأته
بالأجنبية فوطئ الأجنبية يظنها امرأته، أو زنا بامرأة، أو وطئ امرأة بعقد
فاسد كأن ينكح امرأة ولي وهو يعتقد أنه لا يصح النكاح إلا بولي، فعدتهن
كمطلقة فإنهن يتربصن ثلاث حيض وهذا هو مذهب جمهور العلماء.
وعن الإمام أحمد وهو اختيار شيخ الإسلام
رحمه الله: أنها حيضة، فالمرأة المزني بها والمرأة الموطوءة بشبهة والمرأة
المنكوحة بعقد فاسد تعتد بحيضة، وهذا هو القول الراجح وذلك لأن المقصود من
عدتها استبراء رحمها، فليس ثمة حكمة من عدتها إلا استبراء رحمها، واستبراء
الرحم يحصل بحيضة بدليل استبراء الأمة بحيضة، وكذلك استبراء المختلعة
بحيضة، وهن – أي المزني بها – الموطوءة بشبهة أو بعقد فاسد لا يدخلن في
عمومات النصوص، فإن عمومات النصوص إنما وردت في الزوجة وهي ليست بزوجة، فإن
قوله تعالى: {والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء} ، فهو خاص بالزوجة،
والمذكورات لسن بمطلقات لأن الطلاق فرع النكاح وهذه ليست بمنكوحة.
قال: [وإن وطئت معتدةٌ بشبهةٍ أو نكاحٍ فاسد فرق بينهما، وأتمت عدة الأول]
اذا وطئت معتدة بشبهة – أي بشبهة نكاح – أو وطئت بنكاح فاسد كأن تنكح بعد
انقطاع الدم من الحيضة الثالثة وقبل أن تغتسل فهذا نكاح فاسد – فالحكم انه
يفرق بينهما لأنه عقد فاسد وجودة كعدمة، فوجب أن يفرق بينهما.
(أو أتمت عدة الأول) فيجب عليها أن تتم عدة الأول.
قال [ولا يحتسب منها مقامها عند الثاني]
فلا يحتسب من العدة مقامها عند الثاني، فمثلاً: مضت حيضة من عدتها ثم تزوجت
بشبهة نكاح ثم حاضت حيضة ثانية بعد أن وطئها هذا الناكح ثم فرقنا بينهما،
فلا تحتسب لها هذه الحيضة التي حضتها عند هذا الناكح الثاني، بل نقول حضت
حيضة واحدة، فوجب عليك أن تتربصي حتى تحيضي حيضتين فيتم لك ثلاث حيض وهو
قول عمر رضي الله عنه كما في البيهقي.
اولاً: الوطء يقطع العدة وهذا ظاهر لأن رحمها قد أنشغل بماء غير من هي
معندة له. ومن حكم العدة استبراء الرحم وهنا حيث كان موطوءة من غيره بقي
رحمها مشغولاً بغير مائه فلم يعتد بهذه المدة.
قال: [ثم إعتدت للثاني]
فإذا انتهت من عدة الأول فإنها تعتد للثاني، وعلى القول الراجح المتقدم
عدتها فتعتد منه بحيضة.
قال: [وتحل له بعقد بعد انقضاء العدتين]
أي تحل للثاني بعقد جديد بعد انقضاء العدتين، لأن العقد الأول عقد باطل،
وظاهر كلام المؤلف أنه ليس له أن ينكحها في عدتها () في عدة الثاني. فإذا
اعتدت للثاني، فليس للثاني أن ينكحها في اثنا عدتها منه، فظاهر كلام المؤلف
أن العقد لا يصح، والراجح صحته وهو مذهب الشافعية وهو اختيار الموفق من
الحنابلة، وذلك لأن العدة له هو. ولا يصان ماؤه الأول من مائه الثاني
قال: [وإن تزوجت في لم تنقطع حتى يدخل بها]
اذا عقد هذا الناكح الثاني على هذه المعتده ولم يطأها فإن عدتها لزوجها
الأول لا تنقطع بذلك لعدم الوطء فإن العلة كما تقدم انشغال رحمها بماء جديد
وهنا الأمر ليس كذلك لعدم الوطء.
قال: [فإذا فارقها بنت على عدتها من الأول ثم استأنفت العدة من الثاني]
فإذا فارقها الثاني فإنها تبني على عدتها من الأول ثم تستأنف العدة من
الثاني – هذا حيث وطئها الثاني، أما إن لم يطأها الثاني فإنها لا تعتد إلا
بعد المس.
فهذه الجملة راجعة إلى المسألة ما قبل الأخيرة.
قال: [وإن أتت بولد من أحدهما انقضت عدتها به]
إذا أتت بولد من أحد الناكحين فإن عدتها تنقضي به – أي انقضت عدتها من هذا
الناكح الذي قد نشأ من مائه هذا الحمل، وهذا هو الظاهر.
قال: [ثم اعتدت للآخر]
فإذا وضعت الحل، فإنها تكون قد انقضت عدتها من الناكح الذي نشأ هذا الحمل
من مائه، وثم تعتد للآخر ولا يقال إن العدتين تتداخلان لأنهما حقان لزوجين.
لكن على القول الراجح الذي تقدم ذكره. وأن
المقصود هو الاستبراء من الثاني، فإنها إذا وضعت الحمل فإنه يعلم استبراء
رخمها من الثاني، لكن تبقى عدة الأول، وعليه فإذا كان الحمل من الحمل،
فبوضعه تنتهي من العدتين جميعاً، فلو أن امرأة وهي حامل وطئها آخر بنكاح
باطل فإنها إذا وضعت حملها تنتهي من العدتين جميعاً، لأن عدو الأول تنتهي
بوضع الحمل منه، وعدة الثاني تنتهي بوضع الحمل، لأن الحمل إذا وضع يعلم
براءة الرحم.
قال: [ومن وطئ بعدته البائن بشبهه استأنفت العدة بوطئه، ودخلت فيها بقية
الأول]
رجل طلق امرأته ثلاثاً فكانت في الطلاق بائياً منه، ثم وطئها – وهذا وطء
محرم فهو وطء من أجنبي، فإنها تستأنف العدة من جديد بوطئه كأنه زوج آخر،
ودخلت بقية الأول فهنا العدتان تتداخلان لأنهما لرجل واحد.
فمثلاً طلقها طلاقاً بائناً فحاضت حيضة واحدة ثم وطئها، فنقول لها احسبي
ثلاث حيض مرة أخرى وما بقي من الحيض من العدة الأولى فإنها تدخل في العدة
الثانية لأنهما من زوج واحد.
وعلى القول الراجح وهو أن الوطء الذي يكون بشبهة أو بزنا أو بعقد فاسد يكفي
الاستبراء، فإنها إذا أتت عليها حيضة فإن رحمها تعلم براءته.
فلو أن رجلاً وطئ مطلقته البائن بعد انقطاع دمها من الحيضة الثالثة وقبل أن
تغتسل، فإنها تعتد بحيضة على القول الراجح.
قال: [وإن نكح من]
إذا نكح مطلقته البائن في عدتها ثم طلقها قبل الدخول بها فإنها تبني على
العدة الأولى، لأن النكاح الثاني لم يحصل فيه مسيس. فهذا النكاح باطل ولكن
لا عدة فيه، وذلك لانه فراق قبل المسيس.
وذلك أن تقول هو عقد فاسد فكان وجوده كعدمه.
والمذهب أن الرجل إذا طلق امرأته الرجعية فإنها تبني على عدتها، وأما إن
راجعها مطلقها فإنها تستأنف العدة من جديد.
ورجل طلق امرأته طلقه واحدة فحاضت حيضتين
ثم طلقها ثانية، وقد تقدم الخلاف في صحة هذا الخلاف والمذهب أنه صحيح. فهنا
يقولون بنى على عدتها فيبقى لها حيضة، ولكن لو راجعها بعد هاتين الحيضتين
ثم طلقها فإنها تستأنف عدة جديدة وهذا ظاهر وذلك لأن الرجعة تذهب اثر
الطلاق وتعود المرأة إلى نكاحها الأول.
فصل
قال: [يلزم الإحداء مدة العدة كل متوفى عنها زوجها في نكاح صحيح ولو ذمية
أو أمة أو غير مكلفة] .
فالإحداء يلزم مدة العدة كل متوفى عنها زوجها في نكاح صحيح ولو كانت الزوجة
ذمية أو أمةً أو صغيرة وذلك لعموم الأدلة – فالأدلة عامة في كل زوجة –
وإنها يلزمها الإحداء سواء كانت مسلمة أو ذمية، صغيرة أو كبيرة حرةً كانت
أو أمةً.
ففي الصحيحين إن النبي صلى الله - صلى الله عليه وسلم - قال: (لا تُحد
امرأة على ميت فوق ثلاث إلا على زوج أربعة أشهر وعشرا، ولا تلبس ثوباً
مصبوغاً إلا ثوب عَصب، ولا تكتحل ولا تمس طيباً إلا إذا طهرت نبذة من قسط
أو أظفار) .
والعَصْب: هو نوع من الأصباغ مهيجاً للنظر إلى المرأة.
والنبذة: هي القطعة من الشيء.
والقُسط والأظفار: نوعان من الطيب.
وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم - لفُريعه بنت مالك: (امكثي في بيتك
حتى يبلغ الكتاب أجله) رواه الخمسة بإسناد صحيح فالإحداد على الزوج واجب
مدة العدة.
والإحداد: هو اجتناب المرأة ما يدعو إلى جماعها ويرغب في النظر إليها.
قال: [ويباح الباين من حي]
ولا يجب ولا يسن، فيباح للبائن من حي أن تُحدًّ عليه لكن ذلك ليس بسنة.
قال: [ولا يجب على رجعية وموطوءة بشبهة أو زنا أو نكاح فاسد أو باطل] .
فالنكاح الفاسد: النكاح بلاولي عند من يرى أن ذلك منهي عنه.
قال: [أو ملك يمين]
فالآمة المملوكة لا يجب عليها الاحداد.
فالرجعية والموطوءة بشبهة أو نكاح فاسد أو
باطل أو ملك يمينن لا تجب عليها الاحداد، لأن الله عز وجل إنما أوجب
الاحداد على المرأة المتوفى عنها. والرجعية زوجة لم يتوفى عنها، وممن ذكر
سواها فإنهن لسن بزوجات له فلم يجب عليهن الاحداد ولم يشرع.
قال: [والإحداد اجتناب ما يدعو إلى جماعها ويرغب في النظر إليها من الزينة]
أي من الزينة في البدن والثياب.
الزينة في البدن كالكحل مثلاً أو الحمرة أو الخضاب في الشعر ونحو ذلك.
وأما الزينة في الثياب فكأن تلبس ثوباً مصبوغاً كأن يكون أحمر أو أصفر فيه
فيرغب النظر إليها.
قال: [والطيب والتحسين]
فالتحسين: هو تجميل الوجه ونحوه.
فالطيب والتحسين تمنع منهما المرأة المُحادة وقد تقدم قول النبي - صلى الله
عليه وسلم - (ولا تمس طيباً) ، ولكن يستثنى ما ورد في الحديث فإنها إذا
طهرت تأخذ نبدة من قسط أو أظفار لتصفية فرجها لتزيل الرائحة الكريهة
الناتجة عن الحيض.
قال: [وما صُبغ للزينة]
كأن يكون الثوب أحمر أو أصفر أو أخضر أو نحو ذلك. أما إذا كان مصبوغاً لغير
الزينة وهو ما يصبغ ليتحمل الوسخ والدنس فلا بأس أن تلبيسه كالأسود ونحوه
إن كان ليس للزينة بل هو من ثياب المهنه.
قال: [وحلي]
فليس لها أن تلبس الحلي، وفي سنن ابي داود بإسناد صحيح عن أم سلمة قالت:
قال رسول - صلى الله عليه وسلم - (المتوفى عنها زوجها لا تلبس المعصفر من
الثياب ولا المُمَشقه " هي الثيلب التي قد صبغت بالطين الأحمر" ولا تلبس
الحلي ولا تكتحل ولا تمتشط)
فليس لها أن تلبس من الحلي شيئاً، لا سواراً ولا خاتماً ولا غير ذلك.
قال: [وكحلٍ أسود]
فليس لها أن تكتحل لحديث أم سلمة المتقدم
وفيه (ولا تكتحل) ولحديث أم عطية ان النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (لا
تحد امرأة على ميت فوق ثلاث إلا على زوج أربعة أشهر وعشرا) الحديث وفيه ولا
تكتحل وفي ابي داود والنسائي ايضاً (ولا تختضب) وفي النسائي ولا تمتشط. وفي
الصحيحين (ولا تكتحل) . فالمحادة تنهى عن الكحل. فإن احتاجت إلى الكحل
للتداوي فلها أن تضعه في الليل وتنزعه في النهار، ففي سنن أبي داود بإسناد
لا بأس به أن أم سلمة قالت (وضعت في عيني صبراً لما توفى أبو سلمة فقال
النبي - صلى الله عليه وسلم - إنه يَشبُّ الوجه " أي يزيد في لون الوجه "
فلا تجعليه إلا بالليل وانزعيه في النهار ولا تمتشطي بالطيب والحناء فإنه
خضاب قال: قلت بأي شئ أمتشط فقال بالسدر) ، فلها أن تمتشط بالسدر ونحوه مما
لا يكون له رائحة طيبة، وهذا باتفاق أهل العلم.
قال: [لا توتيا ونحوها]
(لا توتيا) ؛ لا أعرف هذا، ولعله من الكحل المعروف عندهم قديماً، وكذلك
ذكروا في الشرح كحل العنزروت، وهذه الأنواع ليست مما يكون فيه الجمال أي لا
يعطي العين جمالاً ونضيره وحسياً، وهكذا إذا كان من الكحل شئ يتصف بهذا
الوصف وهذا لا شك غير الأسود أي ليس فيه نضرة ولا جمال ولا حسن فلا بأس
للمرأة أن تضعه، وأما الكحل الأسود فلا.
قال: [ولا نقاب]
أي لا تمنع من لبس النقاب وكذلك البُرقع، وهذا ينبني على أن النقاب
والبرقع، وعندهم وليس من لباس الجمال والزينة، والذي يظهر أنه عندنا من
لباس الجمال والزينة، وأن المرأة تلبسه تجملاً وتزيناً، وعليه فيمتنع من
ذلك.
والخزفي من الحنابلة منع المرأة في إحدادها أن تنتفي وهذا هو القول الراجح.
فالمرأة - لاسيما النساء عندنا اللاتي تلبسه تجملاً وتزيناً وهو الجمال في
حقهن وزينة – فإنها تمنع منه، بخلاف المرأة التي هو من عادتها كنساء
البادية ونحوهن فليس من لباس الجمال من حقهن فلا يمنعن منه.
قال: [وأبيض ولو كان حسناً]
فإذا لبست ثوباً أبيض ولو كان حسناً فلا يأس بذلك، قالوا: لأن طبيعته الحسن
فليس الحسن طارئاً عليه وهذا فيه نظر ظاهر.
والقول الثاني في المسألة وهو قول في المذهب وهو اختيار الشيخ عبد الرحمن
بن سعدي أن المرأة تمنع منه.
وهو القول الصحيح في المسألة وذلك لأن الحكم يدور مع علته وجوداً وعدماً،
فلا فرق بين أن يكون مصبوغاً بالبياض الذي يعطي هذا الثوب حسناً ونضرة أو
أن يكون البياض أصلياً فيه.
فصل
قال: [وتجب عدة الوفاة في المنزل حيث وجبت]
فتجب عدة الوفاة في المنزل حيث وجبت العدة، فإذا كانت في منزل من منازل
زوجها وهي في ذلك المنزل فيجب عليها أن تعتد في ذلك المنزل، ففي السنن
ومسند أحمد بإسنادٍ صحيح عن فريعة بنت مالك؛ (أن زوجها خرج في طلب –أعبد له
فقتلوه، قالت: قسألت النبي - صلى الله عليه وسلم - أن أرجع إلى أهلي فإن
زوجي لم يترك لي مسكناً يملكه ولا نفقة فقال لها - صلى الله عليه وسلم -:
نعم، فلما كانت في الحجرة ناداها النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال لها:
امكثي في بيتك حتى يبلغ الكتاب أجله، قالت: فاعتددت أربعة أشهر وعشراً، ثم
قضى بذلك عثمان رضي الله عنه) .
وهذا الحديث فيه أنه يجب على المرأة أن تعتد في بيت زوجها الذي توفي وهي
فيه سواء كان هذا البيت ملكاً له أو مستأجراً أو إعارة، فيجب عليها أن تمكث
فيه.
مسألة:
إذا كان البيت مستأجراً أو كان مملوكاً فهل يخرج ذلك من تركة الرجل فإن كان
مملوكاً فإن الورثة يلزمون بإبقاء المرأة فيه ولا يحل لهم أن يخرجوها منه،
وإذا كان مستأجراً فيؤخذ من تركته ما يدفع لصاحب الدار لتبقى فيه، أم ليس
كذلك؟
قولان لأهل العلم:
القول الأول: هو مذهب الجمهور، قالوا: لا يجب على الورثة أن يدعوها لتمكث
فيه، ويشرع لهم ذلك لأنه من باب الإحسان.
وإذا كان البيت مستأجراً فلا يخرج من تركته شيئاً لتسكن فيه.
القول الثاني: وهو مذهب المالكية، وهو
رواية عن الإمام أحمد وقول في نذهب الشافعي: ان لها حقاً في ذلك، فإذا له
مال فإنه يؤخذ من تركته ما يستأجر له به هذا البيت الذي توفي زوجها وهي
فيه، وإن كان له ورثة فإن الورثة يلزمون بترك زوجة أبيهم حتى تحد في البيت،
وهذا هو القول الراجح في المسألة.
وذلك لقول الله تعالى: {والذين يتوفون منكم ويدرون أزوجاً وصيةً لأزواجهم
متاعاً إلى الحول غير إخراج} .
فنهى الله الأولياء أن يخرجوهن، والآية إنما نسخت المدة فيها، وأما النهي
عن الإخراج فلم ينسخ، وهذا دليل من الأثر.
وأما من النظر، فلأن هذه المرأة معتدة لحق زوجها فوجب لها في تركته ذلك.
وعلى القول الأول - وهو قول الجمهور – هل يلزمها أن تستأجر هي من مالها أم
لا يلزمها ذلك؟
فلو توفي عنها زوجها وهي في دار فهل يلزمها أن تستأجر هذه الدار أربعة أشهر
وعشراً سواء كان المستأجر منه الورثة أو غيرهم أم لا يلزمها ذلك.
المشهور في المذهب: أن ذلك لا يلزمها وأن الواجب عليها هو السكن لا تحصيل
المسكن.
والقول الثاني في المسألة وهو مذهب أبي حنيفة وهو قول في المذهب: أن ذلك
يلزمها.
…وذلك لأن ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب.
…فالأرجح وهو المشهور في المذهب أن ذلك لا يلزمها، وذلك لأن الله إنما أوجب
عليها السكن، وأمر الأولياء أن يحصلوا لها المسكن فقال سبحانه: {غير إخراج}
.
…هذا القول هو الأصح من هذين القولين، وإلا فالراجح من أصلي القولين ما
تقدم وهو مذهب المالكية وأنه لا يجوز للأولياء أن يخرجوهن، وليس لهن أن
يخرجن إذا كان البيت مستأجراً، فإنه يؤخذ من التركة ما يدفع به الإيجاز ثم
تسكن فيه هذه المرأة مدة العدة.
قال: [فإن تحولت خوفاً] .
أي تحولت من هذا البيت خوفاً من هدم أو لص أو غير ذلك.
قال: [أو قهراً] .
أي تخرج بظلم كأن يخرجها الأولياء حيث قلنا إنه ليس للأولياء أن يخرجوها.
قال: [أو بحق] .
كأن تؤذي فتخرج بحق.
قال: [انتقلت حيث شاءت] .
فمتى ما كان لها عذر في ترك هذه الدار فإنها تنتقل حيث شاءت قرب الموضع من
الدار أم لم يقرب.
وذلك لأن الواجب عليها قد سقط بالعذر وليس هناك مكان معين آخر، فكان لها أن
تعتد في أي موضع شاءت.
قال: [ولها الخروج لحاجتها نهاراً لا ليلاً] .
اتفق العلماء على أن المرأة المحادة ليس لها أن تخرج ليلاً إلا لضرورة وذلك
لأن الخروج في الليل مظنة الفساد.
وأما النهار فلها أن تخرج قال المؤلف هنا: " لحاجتها " قالوا: كأن تشتري أو
تبيع، ولو كان هناك من يقوم بمصالحها لأن هذه حاجة وليست ضرورة.
ودليل ذلك ما روى ابن أبي شيبة في مصنفه: "أن ابن عمر رخّص للمتوفي عنها أن
تخرج إلى أهلها في بياض النهار" في مصنف ابن أبي شيبة أيضاً: أن النساء
شكين إلى بن مسعود الوحشة فأجاز لهن أن يجتمعن في بيت إحداهن إلى الليل،
فإذا كان الليل ذهبن كل واحدة منهن إلى بيتها".
وهذا باتفاق العلماء.
لكن في ذكر الحاجة نظر ظاهر، كما قرر هذا الزركشي من الحنابلة فإنه من
المعلوم والمتقرر أن المرأة تمنع من الخروج من بيتها إلا لحاجة لقوله
تعالى: ((وقرن في بيوتكن)) ، عادة فلا حاجة إلى هذا الاشتراط، وليس هذا
الاشتراط مذكوراً من كلام الإمام أحمد، بل أجاز ذلك في النهار مطلقاً وهذا
يترجح لي ولم أر دليلاً يدل على منع المرأة من أن تخرج من بيتها وهي محادة
نهاراً.
والحنابلة كما تقدم يجيزون خروجها للحاجة كأن تشتري أو تبيع أو أن تجد وحشة
فتحتاج إلى الخروج.
والذي يترجح أن لها الخروج مطلقاً لكن إن كان لغير حاجة فإن ذلك يكره وهو
قول في مذهب الإمام أحمد وهو رواية عن الإمام أحمد بل ذكر الزركشي أن هذا
الشرط لا حاجة إليه لأن المرأة يكره لها أن تخرج بلا حاجة سواء كانت في
حداد أو غيره.
قال: [وإن تركت الإحداد أثمت، وتمت عدتها بمضي زمانها] .
إذا تركت المرأة الإحداد في عدتها فلم تحد، فإنها تأثم لتركها الواجب.
لكن عدتها تتم، بمضي زمانها إذ ليس من شروط
العدة الإحداد، فالعدة تصح بلا احداد، وذلك لأنه كما تقدم لا يشترط للعدة
النية فأولى من ذلك ألا يشتراط فيها الإحداد.
" باب الإستبراء"
الاستبراء: مشتق من البراءة، وهو عند الحنابلة تربص يقصد منه العلم ببراءة
رحم ملك اليمين.
فخصوه بملك اليمين.
والراجح ما تقدم وأن الاستبراء يكون لنكاح الشبهة ويكون للزنا وللمختلعة
وغيره مما تقدم ذكره.
وأما الحنابلة فخصوه بملك اليمين فإذا اشترى أمةً وهي توطأ فلا يحل له أن
يسقي ماءه زرع غيره، فلا بد وأن يستبرئ المرأة بحيضة أو أن تضع حملها.
قال: [من ملك أمة يوطأ مثلها من صغيرٍ وذكر وضدهما حرم عليه وطؤها ومقدماته
قبل استبرائها] .
من ملك أمةً يوطأ مثلها من صغير، ليس هنا المالك الجديد هو الصغير بل
المالك القديم هو الصغير.
فإذا اشترى رجل أمةً مملوكة لصغيرة أو ذكر أو صدهما بأن تكون لكبير أو
امرأة فإذا اشترى أمة من امرأة عجوزٍ حرم عليه وطؤها حتى يستبرئها وهذا قول
ضعيف.
ولذا عن الإمام أحمد وهو اختيار شيخ الإسلام، أنها إذا كانت مملوكة لمن لا
يطأ كالطفل، والمرأة فإنه لا يجب عليه الاستبراء وذلك للعلم ببراءة الرحم.
قال: [ومقدماته] فليس له الوطء ولا مقدماته، كأن يباشرها أو يقبلها أو نحو
ذلك وهذا خلاف الراجح.
فعن الإمام أحمد وهو اختيار ابن القيم أن له أن يباشرها وله أن يستمتع بها
دون الوطء وذلك لأن النهي عن الوطء فقط، فلا دليل على المنع من مباشرتها
والاستمتاع بها دون وطئها.
وكذلك العلة لا تثبت فالعلة هي ألا يسقي ماءه غيره وحيث استمتع بها دون
الفرج فالعلة ليست ثابتة والحكم يدور مع علته وجوداً وعدماً.
قال: [واستبراء الحامل بوضعها، ومن تحيض بحيضة] .
لما ثبت في مسند أحمد وسنن أبي داود بإسناد صحيح أن النبي - صلى الله عليه
وسلم - قال: (لا توطأ حامل حتى تضع،، ولا غير ذات حمل حتى تحيض حيضة) .
فإذا كانت حاملاً فلا يحل وطئوها حتى تضع
سواء كانت عند من يطأ أو عند من لا يطأ كصغير وأنثى، لأن الحمل قد ثبت فيها
وقد يكون من زنا أو شبهة أو غير ذلك.
وإذا كانت غير ذات حمل فحتى تحيض حيضة إن كانت عند من يطأ.
قال: [والآيسة والصغيرة بمضي شهر] .
وذلك لأن الاستبراء بحيضة، والشهر يقابل الحيضة وعن الإمام أحمد وهو القول
الثاني في المسألة، وذكر الموفق أنه المشهور في المذهب، أنها تستبرأ بثلاثة
أشهر وهذا هو الظاهر وكما تقدم بقليل مسألة سابقة وأن العلم ببراءة الرحم
لا يكفي فيه الشهر ولا الشهران بل يحتاج إلى ثلاثة أشهر، فهنا لا يكفي في
الاستبراء بشهر بل لابد من ثلاثة أشهر لأن التربص ثلاثة أشهر يعلم به براءة
الرحم.
وهنا مسألتان:
1) المسألة الأولى: أن الرجعية في حكم المحادة في مسألة المكث في البيت.
قال تعالى: ((واتقوا الله لا تخرجوهن من بيوتهن ولا يخرجن إلا أن يأتين
بفاحشة مبينة)) .
فالرجعية كالمتوفي عنها في وجوب المكث في البيت.
2) المسألة الثانية: وأما البائن فليست كذلك، لأن البائن ليست بزوجة لكن إن
أحب زوجها تحصناً لفراشه أن تمكث في بيته حيث لا محذور في ذلك، أي حيث كان
مأموناً وكان الموضع مأموناً منه ومن غيره، فإنها تلزم بذلك وذلك لرفع
الضرر (ويراجع قول آخر) .
والمذهب أنه لا يلزم بالنفقة.
واختار شيخ الإسلام أن له ذلك بشرط أن يلتزم بالنفقة وهذا الأظهر وذلك
لأنها محبوسة لأجله ولحقه.
إذن للزوج الذي قد طلق امرأته طلاقاً بائناً أن يمنعها من أن تخرج إلى
أهلها أو إلى بيت آخر وأن يأمرها أن تمكث في البيت لكن ذلك بشرطين: 1) ألا
يكون هناك محذور في ذلك.
2) أن ينفق عليها في الأصح.
" كتاب الرضاع "
الرضاع: بفتح الراء وكسرها.
وهو في اللغة: مصّ الثدي.
وفي اصطلاح فقهاء الحنابلة: هو مصُّ من دون الحولين لبناً ثاب عن حمل أو
شربه أو نحوه، هذا تعريفه في اصطلاح فقهاء الحنابلة ويأتي ما فيه من النظر.
وقد دل الكتاب والسنة والإجماع على ثبوت
الرضاع.
قال تعالى: ((وأمهاتكم اللاتي أرضعنكم وأخواتكم من الرضاعة)) وقال - صلى
الله عليه وسلم - من حديث عائشة: (يحرم من الرضاعة ما يحرم من الولادة)
متفق عليه.
وفي الصحيحين من حديث ابن عباس: (يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب) وقد
أجمع أهل العلم على ثبوت الرضاع في الجملة.
قال: [يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب] .
لما تقدم من حديث ابن عباس وحديث عائشة وما تقدم من الكتاب والإجماع.
قال: [والمحرم خمس رضعات] .
فالمحرم خمس رضعاتٍ في المشهور في مذهب أحمد ومذهب الشافعي.
ودليل ذلك ما ثبت في صحيح مسلم عن عائشة قالت: " كان فيما أنزل من القرآن
عشر رضعات معلومات يحرمن ثم نسخن بخمس معلومات فتوفي النبي - صلى الله عليه
وسلم - وهن فيما يتلى من القرآن".
أي أن بعض الناس لم يطلّع على النسخ فبقي يتلو هذه الآيات ولا يعلم أنها
منسوخة.
وعليه فالآية الناسخة والمنسوخة كلاهما، يتفقان في النسخ اللفظي، والآية
الثانية التي فيها التحريم بخمس رضعات لم ينسخ حكمها وأما الآية الأولى
التي فيها أن التحريم بعشر رضعات فقد نسخ لفظها وحكمها.
وذهب المالكية والأحناف إلى أن مجرد الرضاع يحرم، فلو امتص شيئاً قليلاً من
اللبن فإن الرضاع يثبت من غير أن ينظر إلى عدد واستدلوا: بالإطلاق في قوله
تعالى: ((وأمهاتكم اللاتي أرضعنكم)) فالآية مطلقة فبمجرد الرضاع يثبت
الحكم.
واستدلوا: بحديث عقبة بن الحارث وأنه تزوج أم يحي بنت إهاب، فأتته امرأة
فقالت: إني أرضعت عقبة والتي تزوج، فأتي النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال
له ذلك، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: (كيف وقد قيل) ففارقها عقبة
فنكحت رجلاً غيره) رواه البخاري.
فقد أثبت النبي - صلى الله عليه وسلم - هذا الحكم بمجرد ثبوت الرضاع وأجاب
أهل القول الأول عن هذه الأدلة: بأنها مطلقة وأن السنة قد قيدتها وبينت أن
الرضاع المحرم هو خمس رضعات.
وذهب أهل الظاهر وهو رواية عن الإمام أحمد:
أن الرضاع المحرم هو ثلاث رضعات.
أدلتهم هي:
ما ثبت في مسلم من حديث عائشة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (لا
تحرم المصة والمصتان) ومن حديث أم الفضل: " لا يحرم الإملاجة أو
الإملاجتان" وهذه من الأدلة التي يرد بها على أهل القول الثاني.
وأما الجواب عن استدلالهم أي أهل الظاهر، فأن يقال: ما ذكرتموه مفهوم، فإن
قوله: " لا تحرم المصة والمصتان" فمفهومه أن الثلاث تحرم، وكذلك "لا تحرم
الإملاجة والإملاجتان" فإن مفهومه أن الثلاث تحرم.
لكن عندنا منطوق وهو حديث عائشة وأن الرضاع المحرم هو خمس رضعات معلومات.
والمنطوق مقدم على المفهوم، كما هو مقرر في أصول الفقه إذن الصحيح ما ذهب
إليه الحنابلة والشافعية من أن الرضاع المحرم هو خمس رضعات معلومات.
واختلف أهل العلم فيما يسمى رضعة:
فالمشهور في المذهب أنه إذا مص الثدي فتركه باختياره أو بغير اختياره فإنها
تحسب رضعة.
فلو أنه امتص الثدي ثم انتقل إلى الثدي الآخر، أو قطعه لتنفس أو لعطاس،
ونحو ذلك فإنها تحسب رضعة أخرى.
والقول الثاني في المسألة: وهو مذهب الشافعية وهو وجه في مذهب الإمام أحمد
واختاره الشيخ عبد الرحمن السعدي أن الرضعة المحرمة هي الرضعة الكاملة التي
يترك معها مص الثدي باختياره.
وأما إذا تركه بغير اختياره كأن ينتقل من ثدي إلى ثدي آخر أو أن يتركه
لتنفس أو نحو ذلك فإن مجموع ذلك يسمى رضعة واحدة فرجوعه إلى الثدي بين
التنفس أو العطاس لا يعتبر رضعة ثانية بل كلاهما رضعة واحدة.
وهذا هو القول الراجح وهو الذي يدل عليه العرف فإن الرجل لا يعد قد أكل
أكلتين أو ثلاثاً إذا كان قطع أكله لتنفس أو لانتقال إلى طعام آخر أو لشرب
ماء أو عطاس أو نحو ذلك بل لائق في العرف إلا أكلاً أكلةً واحدة.
قال: [في الحولين] .
فالرضاع المحرم إنما يكون في الحولين.
قالوا: لقوله تعالى: ((والوالدات يرضعن
أولادهن حولين كاملين لمن أراد أن يتم الرضاعة)) .
ولما روى الدارقطني أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (لا رضاع إلا في
الحولين) وهذا هو مذهب الجمهور.
واختار شيخ الإسلام وهو قول بعض السلف أن الرضاع المحرم ما يكون قبل الفطام
سواء كان ذلك في الحولين أو بعدهما فلو أنه فطم بعد سنة من ولادته ثم رضع
فإن هذا الرضاع ليس بمعتبر عند شيخ الإسلام.
ولو أنه تأخر فطامه إلى ما بعد الحولين فرضع بعد الحولين فإن الرضاع معتبر
إذن العبرة بالفطام سواء كان هذا في الحولين أو بعدهما وهذا هو القول
الراجح، ويدل عليه أدلة منها:-
ما ثبت في الصحيحين أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (انظرن إخوتكن
فإنما الرضاعة من المجاعة) أي حيث كان اللبن يسد جوعته وينشر عظمه وينبت
لحمه.
ويدل عليه أيضاً وهو أصرح دلالة، ما ثبت في سنن الترمذي بإسناد صحيح وصححه
الترمذي وغيره، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (لا يحرم من الرضاع
إلا ما فتق الأمعاء في الثدي وكان قبل الفطام) .
والشاهد قوله: (وكان قبل الفطام) .
وقوله: (في الثدي) أي في زمن الرضاع، وفي صحيح مسلم أن النبي - صلى الله
عليه وسلم - قال: (إن إبراهيم رضي الله عنه مات في الثدي فجعل الله له
مرضعاً في الجنة) .
والجواب عما استدل به أهل القول الأول:-
أن قوله: (يرضعن أولادهن حولين كاملين) هذا بناءً على الغالب، فالغالب في
الرضاع أن يكون في الحولين.
وأما حديث: (لا رضاع إلا في الحولين) فالصواب وقفه على ابن عباس رضي الله
عنه كما رجح ذلك الدارقطني وابن عدي.
فالصحيح ما اختاره شيخ الإسلام.
وذهب أهل الظاهر إلى أن رضاع الكبير مؤثر، فلو رضع ابن عشر أو ابن ثلاثين
فإن الرضاع مؤثر.
وهو قول أم المؤمنين عائشة.
ودليله: ما رواه مسلم في صحيحه، أن إبنة
سهل زوج أبي حذيفة سألت النبي - صلى الله عليه وسلم - فذكرت له أن سالماً
مولى أبي حذيفة قد بلغ مبلغ الرجال وعقل ما عقلوا، وأنها ترى أن في نفس أبي
حذيفة من ذلك شيئاً) وفي رواية: أنه ذو لحية " فقال النبي - صلى الله عليه
وسلم - ارضعيه تحرمي عليه".
قالوا: فهذا يدل على أن رضاع الكبير مطلقاً مؤثر.
وهو قول أم المؤمنين عائشة وأبى ذلك سائر أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم
- كما في صحيح مسلم، وقلن: ما نرى إلا أنها رخصة أرخصها النبي - صلى الله
عليه وسلم - لسالم خاصة) .
وما أجابته نساء النبي - صلى الله عليه وسلم - هو جواب الجمهور، فقالوا:
هذا الحديث خاص بسالم.
إذن هي عندهم: خصوصية عين.
واختار شيخ الإسلام وتلميذه ابن القيم أن الخصوصية خصوصية وصف لا عين.
وهو القول الراجح في المسألة إذ الأصل عدم الخصوصية ولو أن امرأة أخذت
لقيطاً فربته عندها فبلغ مبلغ الرجال واعتاد على الدخول عليها وشق عليه أن
يستغني عنهم فلها أن ترضعه وإن كان ابن عشرين سنة كما هو اختيار شيخ
الإسلام وهو القول الراجح.
قال: [والسعوط والوجور] .
السُعوط: أن ينقط الحليب في الأنف.
والوجور: هو أن يصب الحليب في فيه أي في الطفل فيثبت الحكم.
وكذلك لو جُِبن عند الجمهور.
وفي أصح قولي العلماء وهو مذهب الشافعية ووجه عند الحنابلة قالوا: ولو حقن
في دبره، فكل ذلك يثبت به التحريم وذلك لأن هذا الفعل من سعوط أو وجور أو
حقنة أو تجبين يحصل به ما يحصل بالرضاع من الفائدة، والحكم يدور مع علته
وجوداً وعدماً.
قال: [ولبن الميتة] .
كذلك لبن الميتة يثبت به التحريم كما هو مذهب الجمهور خلافاً للشافعي وذلك
لأنه رضاع.
فلو أنه رضع أربع رضعات وهي حيه، ثم رضع منها الخامسة وهي ميتة فغن هذا
الرضاع مؤثر لأنه يسمى رضاع ولأنه يحصل بهذا اللبن من الميتة ما يحصل من
لبن الحية.
وهذا القول هو الراجح وهو مذهب جمهور العلماء.
قال: [والموطوءة بشبهة أو بعقد فاسد] .
فإذا وطئت المرأة بشبهة كأن يطأ الرجل امرأة يظنها زوجته فينتج عن هذا
الوطء حمل وثاب من هذا الحمل لبن، فإذا رضع طفل من هذا اللبن، فإن هذه
الموطوءة بشبهة تكون أماً له، والواطء يكون أباً له.
كذلك الموطوءة بعقد فاسد، وذلك لأنه لبن ويحصل منه ما يحصل من لبن الموطوءة
بنكاح صحيح.
ولأن النسب يثبت فيثبت الرضاع فإن الرضاع يتفرع عن النسب.
قال: [أو باطل] .
فالموطوءة بعقد باطل كمن نكح امرأة في عدتها فحملت فثاب عن هذا الحمل لبن،
فرضع منه الطفل فالحكم يثبت لأنه قد رضع من هذه المرأة وهي ذات لبن ويحصل
من لبنها ما يحصل من لبن غيرها.
قال: [أو زنا محرم] .
فلو زنى بامرأة فحملت فثاب عن هذا الحمل لبن فكذلك.
يثبت حكم الرضاع.
لكن في المسألتين الأخيرتين لا يكون الزاني ولا الناكح نكاحاً باطلاً لا
يكون أباً له من الرضاع عن الثيب فكما أن النسب لا يثبت فكذلك الرضاع.
قال: [وعكسه البهيمة] .
اتفاقاً: فلبن البهيمة لا يثبت به التحريم باتفاق أهل العلم.
قال: [وغير حبلى ولا موطوءة] .
إذا رضع من امرأة بكر لم توطأ، أو رضع من امرأة موطوءة وهي غير حبلى إذن
فيها لبن لكنه لم يثب من حمل، فإنه لا يثبت به التحريم هذا هو المشهور في
المذهب.
وذهب الجمهور وهو راوية عن الإمام أحمد أنه مؤثر للتحريم قالوا: لأنه رضاع
فيدخل في قوله تعالى: ((وأمهاتكم اللاتي أرضعنكم)) .
وأما الحنابلة: فقالوا: ليس بلبن بل هو رطوبة متولدة فلا يكون قد امتص
لبناً بل امتص رطوبة متولدة، فلا ينبت لحماً ولا ينشز عظماً
ومرجع هذه المسألة إلى أهل الخبرة.
وإن كان من حيث النظر، ما ذهب إليه الحنابلة هو الراجح في هذه المسألة فلا
يثبت أن اللبن الذي يكون في المرأة غير الحامل لا يثبت أن فيه فائدة فينشز
عظماً أو ينبت لحماً.
لكن إن قرر أصحاب الخبرة من الأطباء أن
اللبن الذي يكون في غير الحامل أن فيه النفع الذي يكون في لبن الحامل فيكون
له نفس الحكم أي يكون مؤثراً للتحريم لأن الحكم يدور مع علة وجوداً وعدماً
فالذي يترجح الآن هو ما ذهب إليه الحنابلة.
قال المؤلف رحمه الله: [فمتى أرضعت امرأة طفلاً صار ولدها في النكاح والنظر
والخلوة والمحرمية] .
فمتى أرضعت امرأة طفلاً بالشروط المتقدمة صار ولدها في النكاح أي في تحريم
النكاح قال تعالى: ((وأمهاتكم اللاتي أرضعنكم وأخواتكم من الرضاع)) .
ويصير ولدها أيضاً في إباحة النظر والخلوة والمحرمية لأنها فرع عن تحريم
النكاح بسبب مباح.
ويدل عليه ما ثبت في الصحيحين عن عائشة أن أفلح أخا أبي القعيس جاء يستأذن
عليها بعد الحجاب قالت: فأبيت أن آذن له فلما جاء رسول الله - صلى الله
عليه وسلم - أخبرته بالذي صنعته فأمرني أن آذن له علي وقال: " إنه عمك".
فهذا يدل على إباحة الخلوة ونحوها من النظر.
إذن: يحرم النكاح ويباح له الخلوة، والنظر والمحرمية.
ولا يترتب على الرضاع شيء من الأحكام التي تترتب على النسب من إرث أو نفقة
أو ولاية أو غير ذلك بل لا يترتب عليه لا النكاح وما يتفرع عنه من جواز
النظر والخلوة وثبوت المحرمية.
قال: [وولت من نسب لبنها إليه بحمل أو طء] .
أي وصار المرتضع ولد من نسب لبنها إليه.
وفي مسلم من حديث عائشة المتقدم، أنها قالت يا رسول الله إنما أرضعتني
المرأة ولم يرضعني الرجل فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - تربت يمينك: "
فقد أنكر عليها النبي - صلى الله عليه وسلم - ذلك فاللبن للرجل، وعليه فثبت
له الأبوة من الرضاع، ولذا قال المؤلف هنا: " وولد من نسب لبنها إليه بحمل
أو وطء" أي صار المرتضع ولد من نسب لبنها إليه بحمل أو وطء.
مسألة:
إذا كان له امرأتان فأرضعت إحداهما الطفل
رضعتين، وأرضعت الأخرى الطفل ثلاثا، فمجموع إرضاعهما خمس رضعات، هنا: لا
إشكال في أن الأمومة لا تثبت لأن كل واحدة منهما لم يرضع هذا الطفل خمس
رضعات معلومات، لكن هل يثبت الأبوة من الرضاع أم لا؟.
القول الأول: أن الأبوة لا تثبت.
قالوا: لأنه رضاع لم يثبت الأمومة فلم يثبت الأبوة.
القول الثاني: أن الأبوة تثبت وهو القول الراجح.
وذلك لأن الأبوة إنما تثبت له لأن الطفل قد رضع من لبنه، فاللبن الذي في
امرأته ليس له، وقد ثبت أن هذا الطفل راضع من لبنه خمس رضعات معلومات وليست
الأبوة فرعاً عن الأمومة كما هو ظاهر القول الأول، بل الأبوة أصل منفرد،
فليس ثبوت أبوته لثبوت أمومة المرأة وإنما لكون هذا الطفل قد رضع من لبنه.
أما لو كان الرضاع من بناته، كأن يكون له خمس بنات مثلاً فترضع كل واحدة
منهن الطفل رضعة واحدة، فإن الأمومة لا تثبت كما تقدم.
وهل تثبت للأب الجدودة من الرضاع أم لا؟
هنا لا تثبت وذلك لأن اللبن ليس له، وثبوت الجدودة له من الرضاع متفرعة عن
ثبوت الأمومة لبناته فالفرعية هنا متحققة بخلاف الفرعية في المسألة الأولى.
مسألة:
وهي المسألة المتقدمة.
لو أن امرأة أرضعت طفلاً رضعتين من لبن زوجها ثم طلقها ثم تزوجت آخر فأرضعت
هذا الطفل ثلاث رضعات من لبن الزوج الآخر هنا الأبوة لا تثبت وذلك لأن
الزوجين كليهما لم يرتضع هذا الطفل من لبن أحدهما خمس رضعات معلومات.
وأما المرأة فقد رضع منها خمس رضعات، فتكون المرضعة أماً له، وأما الزوجان
فليس أحد منهما أباً له.
مسألة:
إذا طلق الرجل امرأته وفيها لبن فتزوجهاآخر، فرضع الطفل من لبنها بعد
الزواج الجديد فهل يكون ابناً من الرضاع للأول أو الثاني؟
في هذه المسألة تفصيل فللمسألة أربعة أحوال.
الحال الأولى: ألا يزيد اللبن ولا تلد المرأة حملت أو لم تحمل أو يزيد ولا
تحمل.
فلو أن رجلاً طلق امرأته وفيها لبن فتزوجت
آخر ولم يزد اللبن على ما هو عليه بسبب النكاح الجديد سواء حملت أم لم تحمل
ما لم تلد منه.
أو زاد اللبن بعد الزواج الثاني لكنها لم تحمل.
فهنا يكون ابناً من الرضاع للأول لأن اللبن على ما هو عليه.
الحال الثانية: أن يزيد اللبن بسبب الحمل من الثاني.
فهنا يكون ابناً لهما جميعاً لأن اللبن مشترك بينهما.
الحالة الثالثة: أن تلد من الثاني، ويأتي اللبن بعد الولاد فهنا وقد اتفق
العلماء على أن اللبن يكون للثاني، وأن الولادة فاصلة.
الحال الرابعة: ألا تلد من الثاني لكنها قد حملت منه، واللبن قد انقطع قبل
الحمل ثم نشأ بعد الحمل.
بمعنى تزوجت الثاني فانقطع اللبن من الأول، ثم حملت من الثاني فنشأ لبن
جيد.
فهنا في المسألة قولان لأهل العلم هما وجهان في المذهب.
القول الأول: أنه يكون لهما معاً، وأن الحمل يكون قد أعاد اللبن.
القول الثاني: أنه يكون للثاني منهما دون الأول.
وهذا هو الراجح وصوبه صاحب الإنصاف.
وذلك لأن انقطاعه ظاهر في زوال حكمه، كما أن نشوءه بسبب الحمل ظاهر في أنه
للثاني.
قال: [ومحارمه محارمه] .
أي وصار محارم الأب من الرضاع محارم المرتضع فالأب من الرضاع له محارم وهم
آباؤه وأمهاته وأجداده وجداته وأعمامه وعماته وأخواله وخالته وأبناؤه
وبناته وإخوانه وأخواته، فهؤلاء كلهم يكونون محارم للمرتضع.
فإذا كان الأب من الرضاع له بنت، فإنها تكون أختاً لهذا المرتضع.
وإذا كان لهذا الأب من الرضاع أخ فإنه يكون عماً للمرتضع وهكذا.
قال: [ومحارمها محارمه] .
محارم المرضعة محارم للمرتضع فأم المرضعة تكون جدته وأختها تكون خالته،
وأخوها يكون خال وابنها يكون أخاه وهكذا.
قال: [دون أبويه وأصولهما وفروعهما] .
فلا يتأثر بالتحريم إلا المرتضع وفروعه،
أما أبواه وأصولهما وفروعهما وهم الحواشي فلا يتأثرون بالتحريم فلا يتأثر
بالتحريم إلا المرتضع وفروعه أبناؤه وبناته فابن المرتضع تكون المرضعة جدة
له من الرضاع، ويكون صاحب اللبن جداً له من الرضاع.
وأما إخوان المرتضع وأخواته، وأعمامه وعماته وآباؤه وأمهاته فلا دخل لهم
بهذا الرضاع.
وهذا باجماع العلماء.
قال: [فتباح المرضعة لأبي المرتضع] .
فأبو المرتضع هو من الأصول، فيجوز له أن يتزوج المرضعة التي أرضعت ابنه.
قال: [وأخيه من النسب] .
فيجوز لأخي المرتضع من النسب أن يتزوج أم المرتضع وابنتها أو خالتها أو
عمتها.
وذلك لأن التحريم لم يتعلق به ولم يتصل به.
قال: [وأمه وأخته من النسب لأبيه وأخيه من الرضاع] .
فيجوز أن يتزوج أبوه من الرضاع أمه من النسب ونحوه أن يتزوج أخوه من الرضاع
أخته من النسب وهكذا.
فما ذكره المؤلف هنا من باب التمثيل.
مسألة:
هل يحرم من الرضاع ما يحرم من المصاهرة أم لا؟
بمعنى: هل تحرم عليكم أم زوجتك من الرضاع أي لك زوجة ولها أم من الرضاع فهل
تحرم عليك؟ وهل تحرم عليك زوجة أبيك من الرضاع وهل تحرم عليك زوجة ابنك من
الرضاع وهل تحرم عليك ابنة زوجك من الرضاع؟
جماهير أهل العلم على أنه يحرم من الرضاع ما يحرم من المصاهرة وحكى ذلك
إجماعاً.
وتوقف في ذلك شيخ الإسلام فيه وقال: " إن كان أحد قد قال بعدم التحريم فهو
أقوى".
ونصر ذلك تلميذه ابن القيم أي القول بأنه لا يحرم من الرضاع ما يحرم من
المصاهرة.
وهذا القول هو الراجح في هذه المسألة، وأن التحريم من الرضاع لا يتعدى إلى
المصاهرة، وذلك لقوله تعالى: ((وأحل لكم ما وراء ذلكم)) ولم يرد دليل أنه
يحرم من الرضاع ما يحرم من المصاهرة.
والنبي - صلى الله عليه وسلم - إنما قال: " يحرم من الرضاع ما يحرم من
النسب" وفرق بين النسب وبين المصاهرة، وقد قال تعالى: ((وهو الذي خلق من
الماء بشراً فجعله نسباً وصهراً)) .
ومما يدل على هذا أن الله قال في كتابه
الكريم: ((وأمهات نسائكم وربائبكم اللاتي من نسائكم)) وقوله: ((وحلائل
أبنائكم الذين من أصلابكم)) وهذا الإطلاق لا يدخل فيه زوجة الابن من الرضاع
ولا أم الزوجة من الرضاع ولا بنت الزوجة من الرضاع يدل على ذلك أن النية
قال قبل ذلك: ((وأمهاتكم اللاتي أرضعنكم وأخواتكم من الرضاعة)) فلم يكتف
بقوله، (حرمت عليكم أمهاتكم) عن قوله: ((وأمهاتكم اللاتي أرضعنكم)) .
ولم يكتف بقوله: ((وأخواتكم)) عن قوله: ((وأخواتكم اللاتي أرضعنكم)) .
فدل على أن الأخت إذا أطلقت فلا تدخل فيها الأخت للرضاع وكذلك أمهات النساء
إذا أطلقن فلا يدخل فيهن أمهات النساء من الرضاع،
هذا هو القول الراجح في هذه المسألة وقد نصر هذا القول ابن القيم، ونفى أن
يكون فيه إجماع، وهو من الإجماع الظني، وغاية ما فيه عدم معرفة الخلاف.
مسألة:
اللبن المشوب بالماء هل يثبت به التحريم أم لا؟
الجواب: إن كان اللبن ظاهراً ويحصل به ما يحصل باللبن غير المشوب من كونه
ينشز العظم وينبت اللحم فإنه يثبت به، فإذا شربه كانت رضعة.
مسالة:
كره الإمام أحمد رحمه الله أن تسترضع الفاجرة والكافرة والحمقاء.
وقد ورد عن عمر وعمر بن عبد العزيز أنهما قالا: " اللبن يشبه" كما في سنن
البيهقي.
قال المؤلف رحمه الله: " كان يقال الرضاع يُغير الطباع".
فلما يخشى من تأثر الرضيع بالمرضعة فإنها يكره أن تسترضع الحمقاء أو
المشركة أو الفاجرة.
وفي أبي داود والحديث مرسل أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى أن نسترضع
الحمقاء.
مسألة:
المشهور في مذهب الإمام أحمد: أن الرضاع يثبت بشهادة امرأة ثقة.
فإذا شهدت امرأة ثقة بالرضاع فإنه يثبت هذا هو المشهور في المذهب وهو مذهب
أهل الظاهر.
وقال الأحناف: لا يثبت إلا بشهادة رجل وامرأتين وقال الشافعية: لا يثبت إلا
بشهادة أربع نسوة.
وقال المالكية: لا يثبت إلا بشهادة امرأتين.
وأصح هذه الأقوال القول الأول وهو مذهب أهل
الظاهر ودليله ما تقدم في قصة عقبة بن الحارث وهي ثابتة في البخاري، أن
النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (كيف وقد زعمت أنها أرضعتكما) .
قال الشعبي: " كان القضاة أي من السلف يفرقون بين الرجل والمرأة بشهادة
المرأة الواحدة في الرضاع" ا. هـ.
فهو مذهب جمهور السلف.
والحاجة داعية لذلك فإن الرضاع الغالب فيه ألا تشهد فيه إلا المرأة الواحدة
أو المرأتان.
قال: [ومن حرمت عليه ابنتها فأرضعت طفلة حرمتها عليه وفسخت نكاحها منه إن
كانت زوجته] .
انظر شرح هذه العبارة في آخر هذا الدرس.
قال: [وكل امرأة أفسدت نكاح نفسها برضاع قبل الدخول لا مهر لها] .
هذه المسألة في إفساد المرأة نكاح نفسها، وهذه المسألة وإن كانت نادرة لكن
وقوعها ممكن.
وصورة هذه المسألة: أن يكون للرجل امرأتان، امرأة كبرى وامرأة صغرى،
والمرأة الصغرى لا تزال في الحولين فترضع زوجته الكبرى زوجته الصغرى،
فحينئذ تكون الصغرى ابنةً له من الرضاع، والكبرى تكون أم زوجته من الرضاع
فتحرم عليه المرآتان جميعاً، "تراجع لأن الأولى عقد بها".
وأما الثانية فلأنها أم زوجته من الرضاع، فهذا على قول الجمهور.
فإذا أفسدت المرأة نكاح نفسها وكان ذلك قبل الدخول فلا مهر لها وذلك لأن
الفرقة قد أتت من جهتها.
قال: [وكذا إن كانت طفلة فدبت فرضعت من نائمة] .
كذلك إن كانت له زوجة وهي طفلة فدبت هذه الطفلة فرضعت من نائمة كأمه أو
أخته فإنها تحرم عليه لأنها تكون أخته أو ابنة أخته من الرضاع، فتحرم عليه.
فهذه لا مهر لها لأن الفرقة من قبلها.
قال: [وبعد الدخول مهرها بحاله] .
أما إذا كان هذا الإفساد بعد الدخول فإن المهر لها بحاله وذلك لأن المهر
يستقر بالدخول.
إذن: إذا أفسدت نكاحها بنفسها وكان ذلك قبل الدخول فلا مهر لها، وأما بعد
الدخول فلها المهر هذا هو مذهب الجمهور أهل العلم.
والقول الثاني في المسألة: وهو اختيار شيخ
الإسلام رحمه الله أن خروج البضع عليه متقوم فهي قد أخرجت بفعلها من ملكية
هذا الرجل والبضع متقوم، وعليه فتقوم المرأة بكراً وتقوم ثيباً والفارق
بينهما يكون للزوج ولا شك أن هذا هو العدل وهذا هو الأصح.
فعلى ذلك تقوم بكراً وثيباً فيقال: مهرها وهي بكر مائة ألف، ومهرها وهي ثيب
خمسون ألفاً فالفارق بينهما خمسون ألفاً، فهذه الخمسون ألفاً تلزم المرأة
تدفعها للرجل لأنها أخرجت بضعها من زوجها بغير حق.
تراجع ولعله للزوجة.
قال: [وإن أفسده غيرها فلها على الزوج نصف المسمى قبله وجميعه بعده] .
فالمسألة المتقدمة حيث كان المفسد هو المرأة نفسها.
وأما هنا فالمفسد هو غيرها.
فإذا أفسده غيرها فلها على الزوج نصف المسمى قبل الدخول وجميعه بعده لأن
الفرقة لم تأت من قبلها ولا فعل لها في فسخ النكاح فيثبت لها الحق من المهر
فإن كانت لم يدخل بها فلها نصف المهر المسمى وإن كانت قد دخل بها فلها
المهر كاملاً.
قال: [ويرجع به الزوج على المفسد] .
فالزوج يعطي المهر، إما نصفه حيث كان لم يدخل بها وإما جميعه حيث دخل بها،
ويرجع على المفسد فالمفسد الذي حصلت هذه الفرقة بسببه وهي المرضعة يرجع
الزوج عليها بذلك وذلك لأن الإفساد جاء من قبلها أي من قبل هذه المرضعة.
قال: [ومن قال لزوجته أنت أختي لرضاع بطل النكاح فإذا كان هذا قبل الدخول
وصدقته فلا مهر لها] .
فمثلاً عقد على المرأة ولم يدخل بها ثم قال: " أنت أختي من الرضاع" وصدقته
المرأة فلا مهر لها، وذلك لأنهما قد اتفقا على بطلان هذا النكاح، والنكاح
الباطل لا مهر فيه.
قال: [وإن أكذبته فلها نصفه] .
إذا قالت له: " أنت كاذب" فلها نصف المهر، أي قبل الدخول، وذلك لأن هذا
القول منه فيه إسقاط حقها فلم يلزمها قبوله بلا بينة.
أما إذا كانت هناك بينة فيلزمها قبوله وهذا ظاهر لكن الكلام هنا حيث لا
بينة.
قال: [ويجب كله بعده] .
سواء صدقته أو أكذبته، فإذا كان ذلك أي
قوله لها: " أنت أختي من الرضاع" بعد الدخول فلها المهر كاملاً سواء صدقته
أو أكذبته.
وذلك لاستقرار المهر بالدخول.
لكن إن مكنته من نفسها فاستحل فرجها وهي تعلم أنها أخته من الرضاع وطاوعته
ومكنت نفسها له فهي زانية والزانية لا مهر لها.
إذن: هنا حيث كانت جاهلة أو مكرهة فلها المهر بما استحل من فرجها.
قال: [وإن قالت هي ذلك وأكذبها فهي زوجته حكماً] .
إذا قالت المرأة لزوجها: "أنت أخي من الرضاع" فأكذبها فهي زوجته حكماً أي
في الظاهر.
وذلك لأن قولها بإسقاط حقه لا يلزمه قبوله فهو قول منها في فسخ النكاح
والنكاح حق له، وهذا القول يترتب عليه إسقاط حقه فيسح النكاح، فلم يلزمه
القبول فحينئذ تكون زوجته في الحكم الظاهر.
وأما في الباطن فإما أن تكون صادقة في نفس الأمر وإما أن تكون كاذبة.
فإن كانت صادقة فالنكاح باطل ويجب عليها أن تفتدي نفسها منه وألا تمكنه من
نفسها.
وأما إن كانت كاذبة في قولها فالنكاح صحيح في الظاهر وفي الباطن.
قال: [وإذا شك في الرضاع أو كماله أو شكت المرضعة ولا بينة فلا تحريم] .
إذا شك في الرضاع ولا بينة فلا يدري هل ثبت هذا الرضاع أم لم يثبت؟
أو شك في كماله ولا بينة لا يدري هل أرضعته خمساً أم أربعاً أو لا يدري هل
أرضعته قبل الفطام أو بعده، وعلى القول المرجوح لا يدري هل أرضعته في
الحولين أو بعدهما.
أو شكت المرضعة في ثبوته أو كماله ولا بينة فإنه لا تحريم في الكل.
وذلك لأن الأصل عدم الرضاع، والأصل هو الحل قال تعالى: ((وأحل لكم ما وراء
ذلكم)) واليقين لا يزول بالشك.
أما شرح قول المؤلف: [ومن حرمت عليه ابنتها فأرضعت طفلة حرمتها عليه، وفسخت
نكاحها منه إن كانت زوجته] .
من حرمت عليه ابنتها كالأم والأخت وبنت الأخت وبنت الأخ ونحوهما فأرضعت
طفلة فإنها تحرمها عليه وتفسخ نكاحها منه إن كان قد تزوجها.
فمثلاً: الأخت ابنتها من النسب محرمة على
أختها فإذا أرضعت طفلة فإنها تحرمها على أخيها.
" كتاب النفقات"
النفقات: جمع نفقة وهي في اللغة: الدراهم ونحوها.
وأما في اصطلاح الفقهاء فهي: إعطاء من يمونه ما يكفيه قوتاً ومسكناً وكسوة
وما يتبع ذلك.
قال: [يلزم الزوج نفقة زوجته] .
إجماعاً قال تعالى: ((لينفق ذو سعة من سعته ومن قدر عليه رزقه فلينفق مما
آتاه الله)) .
وقال تعالى: ((اسكنوهن من حيث سكنتم من وجدكم)) .
وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كما في الصحيحين من حديث هند بنت
عتبة: (خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف) .
وقال - صلى الله عليه وسلم -: (ولهن عليكم رزقهن وكسوتهن بالمعروف) رواه
مسلم.
وفي أبي داود والنسائي وابن ماجه بإسناد جيد أن النبي - صلى الله عليه وسلم
- لما سئل عن حق الزوجة على زوجها، قال: (أن تطعمها إذا طعمت وتكسوها إذا
أكتسيت) الحديث.
فقد دل كتاب الله وسنة نبيه وإجماع العلماء على وجوب النفقة على الزوجة
سواء كانت الزوجة موسرة أم معسرة.
قال: [قوتاً وكسوة وسكناها بما يصلح لمثلها] .
قوتاً: من أدم أو لحم أو غير ذلك.
وكسوة وسكنى بما يصلح لمثلها في العرف لقوله - صلى الله عليه وسلم -: (خذي
ما يكفيك وولدك بالمعروف) وفي الحديث الآخر: (ولهن عليكم رزقهن وكسوتهن
بالمعروف) .
قال: [ويعتبر الحاكم ذلك بحالهما عند التنازع] .
فإذا تنازع الزوجان في النفقة فإن الحاكم أي القاضي يعتبر ذلك بحالهما
جميعاً أي بحال الزوج وحال الزوجة فالاعتبار بحاليهما جميعاً، وبيان ذلك:-
قال: [فيفرض للموسرة تحت الموسر قدر كفايتها] .
وكذلك في الصورة الثانية والثالثة يفرض قدر كفايتها، فالكفاية واجبة في
المسائل كلها لقوله - صلى الله عليه وسلم - لهند: " خذي ما يكفيك".
وقال الشافعي: تأخذ مدين من قمح إن كانت تحت موسر ومداً إن كانت تحت معسر
ومداً ونصف إن كانت تحت متوسط.
وهذا القول ضعيف ولا دليل عليه.
والجمهور على أنها تأخذ الكفاية سواء كانت
تحت موسر أو معسر أو متوسط.
لكن الطعام يختلف باختلاف الإعسار واليسار وأما الكفاية فإنها تأخذها.
قال: [من أرفع خبز البلد أدمه، ولحماً عادة الموسرين بمحلهما] .
فمرجع ذلك إلى العادة، وهذا الكلام من المؤلف إيضاح لما جرت العادة به
عندهم.
قال: [وما يلبس مثلها من حرير وغيره، وللنوم فراش ولحاف وإزار ومخدة،
وللجلوس حصير جيد وزلي] .
الزلي: نوع من الحصر.
وهذا كله لما جرت العادة عندهم به.
وأما نحن فيختلف الأمر عندنا فالأرز واللحم أرفع القوت وما يتبع ذلك من
فواكه وخضروات ونحوها وغرف النوم وما يتبعها والمساكن أيضاً.
فالمقصود: أن لها أرفع المساكن وأرفع المطاعم وأرفع الفرش وأرفع الألبسة.
قال: [وللفقيرة تحت الفقير من أدنى خبز البلد وأدم يلائمه وما يلبس مثلها
وما يجلس عليه] .
وما قوله [يلائمه] أي يلائم الحال.
قال [وللمتوسطة مع المتوسط، والغنية مع الفقير وعكسهما ما بين ذلك عرفاً] .
فإذا كانت متوسطة مع متوسط، أو هي غنية وزوجها فقير، أو هي فقيرة وزوجها
غني فحينئذ يكون الوسط لأن الاعتبار بحال الزوجين معاً.
هذا هو المشهور في مذهب الإمام أحمد.
وقال المالكية والأحناف، بل الاعتبار بحال الزوجة فإذا كانت الزوجةغنية
فيجب على زوجها أن يكسوها وأن يطعمها وأن يسكنها ما يكون للأغنياء وإن كان
هو فقيراً او متوسطاً.
وإن كانت فقيرة فينفق عليها نفقة الفقراء ولو كان غنياً.
قالوا: لحديث: (خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف) .
وقال الشافعية وهو قول في مذهب الإمام أحمد: إن الواجب أن ينظر إلى حال
الزوج فإن كان الزوج موسراً فنفقة موسر، وإن كان معسراً فنفقة معسر، وإن
كان متوسطاً فنفقة متوسط.
واستدلوا: بقوله تعالى: ((لينفق ذو سعة من سعته ومن قدر عليه رزقه فلينفق
مما آتاه الله)) .
وهذا القول هو القول الراجح وهو ظاهر
القرآن وأما حديث هند بنت عتبة، فهي قضية عين، وأبو سفيان رضي الله عنه كان
من الأغنياء.
قال: [وعليه مؤنة نظافة زوجته] .
فما يكون من ماء يحتاج إليه للنظافة أو سدر وغيره من أدوات التنظيف وأجره
الماشطة والمشط ونحو ذلك مما تحتاج إليه في التنظيف فإنه يجب على الزوج
وذلك لجريان العادة به.
وعللوا هذا أيضاً بتعليل فيما يظهر لي أنه ضعيف فقالوا: إنها كالدار
المستأجرة، فكما أن المستأجر يجب عليه أن ينظف داره فكذلك يجب عليه أن يقوم
بمؤنة تنظيف زوجته وهذا فيما يظهر لي تعليل ضعيف.
قال: [دون خادمها] .
فالخادم الذي يكون للزوجة لا يجب على الزوج أن ينفق عليه للتنظيف وذلك لأن
التنظيف غير مراد فيه.
وقيل: بل يلزم، والأظهر: أن هذه المسألة راجعة إلى العرف فإن حكم العرف
بذلك وجب وإلا فلا.
ويجب على الزوج إن كانت المرأة من جرت العادة والعرف بأن يخدم مثلها فيجب
عليه الخادم، كأن تكون من ذوي الأقدار العالية أو أن تكون مريضة، تحتاج إلى
من يخدمها وهذا لقوله تعالى: ((وعاشروهن بالمعروف)) ولا شك أن هذا من
المعروف.
فإذا كانت من يخدم مثلها بأن تكون من ذوي الأقدار أو أن تكون مريضة فيجب
عليه أن يخدمها.
فإن قالت المرأة: أنا أخدم نفسي وأعطني الأجرة، فهل يجب عليه ذلك؟
الجواب: لا يجب عليه ذلك، وذلك لأن الأجرة عليه فكان الخادم له دية، ولأن
إخدامها يوفر هذه المرأة لحقوق زوجها وأيضاً فيه إعلاء لقدرها وفيه توفير
لها لزوجها لتقوم بحقوقه.
ولا يجب عليه أن يملكها الخادم بل يجب عليه أن يأتي بمن يخدمها وإن لم يكن
ذلك على سبيل التمليك.
وفي قوله: [وعليه مؤنة نظافة زوجته] .
ظاهره أنه ليس عليه مؤنة تزيينها فليس عليه
أن يعطيها مالاً للكحل أو لتزيين الوجه أو للبس الحلي أو للطيب ونحو ذلك
مما تتزين به المرأة وهذا هو المذهب وذلك لأن حق الاستمتاع بالمرأة له فلا
يجب عليه ما يدعو إلى الاستمتاع بها والتزيين يدعوه إلى الاستمتاع بها.
وهناك وجه في المذهب، إن ذلك واجب عليه.
والذي يترجح أن هذه المسألة راجعة إلى العرف وكون ذلك يراد للاستمتاع ليس
ذلك مختصاً بالاستمتاع بل المرأة أيضاً نحتاج إلى التزين وإن كان هذا ليس
للزوج فإنها تحتاج للتزيين والتجمل عند بنات جنسها.
قال: [لا دواء وأجرة طبيب] .
لا يجب عليه أن يعطيها مالاً لطبيب استأجرته، ولا أن يدفع لها مالاً لتشتري
به الدواء.
قالوا: لأن ذلك من الحاجيات غير المعتادة، وإنما يكون لعارض وعلله بعضهم
بتعليل ضعيف وهو أن يقال: إن المرأة كالدار المستأجرة فإذا فسد شيء من
الدار المستأجرة كأن يسقط شيء من أطرافها فلا يجب عليه أن يصلح ذلك.
ولا شك أن هذا تعليل ضعيف، فكيف تقاس المرأة بالدار المستأجرة وقد أمر الله
بمعاشرتها بالمعروف.
والقول الثاني في المسألة وهو قول في المذهب: وجوب ذلك على الزوج، وهو
ظاهر.
لأن ذلك من المعاشرة بالمعروف وقد قال تعالى: ((وعاشروهن بالمعروف)) فليس
من المعاشرة بالمعروف أن تمرض المرأة فلا يأتي لها بطبيب ولا يدفع له أجره.
وقد قال تعالى: ((ولهن مثل الذي عليهن بالمعروف)) .
فالصحيح وجوب ذلك عليه.
قال رحمه الله: " فصل " [ونفقة المطلقة الرجعية وكسوتها وسكناها كالزوجة] .
فالمطلقة الرجعية لها النفقة ولها السكنى كالزوجة قال تعالى: ((لا تخرجوهن
من بيوتهن ولا يخرجن إلا أن يأتين بفاحشة مبينة)) .
ولأن الرجعية زوجة، وفي النسائي قال النبي - صلى الله عليه وسلم - من حديث
فاطمة بنت قيس: (إنما السكنى والنفقة لمن تملك الرجعة) .
قال: [ولا قسم لها] .
كما تقدم في الكلام على القسم بين النساء في كتاب عشرتهن.
قال: [والبائن بفسخ أو طلاق لها ذلك إن
كانت حاملاً] .
البائن بفسخ كالمختلعة أو البائن بطلاق وهي من بُت طلاقها لها النفقة إن
كانت حاملاً.
لقوله تعالى: ((وإن كن أولات حمل فأنفقوا عليهن حتى يضعن حملهن)) .
وفي مسند أحمد وسنن أبي داود في حديث فاطمة بنت قيس أن النبي - صلى الله
عليه وسلم - قال: (لك النفقة إن كنت حاملاً) – وظاهر كلام المؤلف – وهو
المذهب- أنه لا نفقة لها ولا سكنى إن لم تكن حاملاً، وهو الذي دل عليه حديث
فاطمة بنت قيس ففي صحيح مسلم قالت طلقني زوجي ثلاًثاً فلم يجعل لي النبي -
صلى الله عليه وسلم - سكنى ولا نفقة)
وقد قال تعالى: ((لا تخرجوهن من بيوتهن ولا يخرجن)) وقال: ((لا تدري لعل
الله يحدث بعد ذلك أمراً)) وهذا يدل على أن قوله: ((لا تخرجوهن من بيوتهن))
في الآية إنما هي في المطلقة الرجعية بدليل قوله: ((لا تدري لعل الله يحدث
بعد ذلك أمراً)) أي رجعة، والمطلقة البائن لا يمكن أن يحدث أمر فقد بت
طلاقها.
قال: [والنفقة للحمل لا لها من أجله] .
هذه النفقة التي تجب للمطلقة البائن الحامل، هي للحمل فقط لا لها من أجله،
هذا هو المشهور في المذهب.
قالوا: لأن النفقة تجب لوجوده أي الحمل، ولا تجب بعدمه، فدل ذلك على أن
النفقة للحمل.
وعليه: لو أنه لم ينفق عليها للحمل ومضى الزمن ولم تنفق هي بنية الرجعة ولم
تستدن هي لتنفق على نفسها بنية الرجعة فإن النفقة تسقط لأن النفقة للحمل،
والحمل ولد فحينئذ تكون من باب النفقة على الأقارب وليست من باب النفقة على
الزوجات، والنفقة على الأقارب تسقط بمضى الزمان، فلو أن رجلاً لم ينفق على
ابنه فإنا لا نأمره بأن ننفق عليه فيما مضى من الزمان إلا أن يكون قد أتفق
عليه بنية الرجوع وعن الإمام أحمد رحمه الله: أن النفقة لها من أجله أي
للحامل من أجل الحمل.
قالوا: بدليل أنها تجب عند اليسار والإعسار
والنفقة على الأقارب لا تجب عند العسر بخلاف الزوجة فإنها تجب الإنفاق
عليها في حال الإعسار واليسار.
واختار شيخ الإسلام رحمه الله الجمع بين القولين، فقال: النفقة للحمل ولها،
وهو الصحيح لأن العلتين المتقدمتين قويتان.
وعليه فالراجح أنها للحمل ولها.
والمعنى يدل على ذلك أما كونها للحمل فهو ظاهر لأن الحمل ولدله فالإنفاق
على الحامل ينتفع به ولده.
بل بقاء ولده موقوف على النفقة على الحامل.
وأما كونه لها فلأنها تتكلف حمله وتلحقها المشقة في ذلك فكان لها أيضاً.
إذن الصحيح، أنها له بدليل أن النفقة تسقط بعدمه وتجب بوجوده.
وهو لها بدليل وجوب النفقة في الإعسار واليسار وعليه فتجب للناشز وعليه
أيضاً لا تسقط بمضي الزمان لأنها لها ونفقة المرأة لا تسقط بمضي الزمان.
قال: [ومن حبست ولو ظلماً أو نشزت أو تطوعت بلا إذنه بصوم أو حج أو أحرمت
بنذر حج أو صوم أو صامت عن كفارة أو قضاء رمضان مع سعة الوقت، أو سافرت
لحاجتها ولو بإذنه سقطت النفقة] .
فالنفقة تسقط في هذه المسائل.
أما المسائل الأولى، فلأن النفقة في مقابل تمكينها نفسها لزوجها وهنا لم
تمكن نفسها له.
وأما المسألة الأخيرة، وهي قوله (أو سافرت لحاجتها ولو بإذنه) فلأنها منعت
نفسها منه بسبب من غير جهته.
هذا هو المشهور في المذهب في هذه المسائل كلها.
والقول الثاني في المسألة: وهو اختيار الشيخ السعدي وهو الصحيح في هذه
المسألة، أن نفقة الزوجة لا تسقط إلا حيث نشزت أو عصت.
وأما ما سوى ذلك فإنها لا تسقط وذلك لأن الأصل هو وجوب النفقة على الزوجة
ولا دليل على إسقاطها ولا نسلم أن النفقة تجب في مقابل تمكينها نفسها له
بدليل أن النفقة تجب للمريضة التي لا يستطيع زوجها أن يطئها وتجب للنساء،
فليس هذا في مقابل تمكينها نفسها له بل تجب النفقة بالزوجية.
وقول المؤلف: [أو صامت عن كفارة أو قضاء رمضان مع سعة الوقت] .
بخلاف ما لو كان الوقت غير متسع كأن تصوم
القضاء من رمضان في آخر شعبان، فهنا لا تسقط نفقتها على المذهب وذلك عليها
شرعاً.
وقد تقدم أن الراجح عدم سقوطها مطلقاً إلا إذا نشزت أو عصت.
قال: [ولا نفقة ولا سكنى لمتوفي عنها] .
تقدم البحث في هذه المسألة وأن الراجح وجوب السكنى دون النفقة.
قال: [ولها أخذ نفقة كل يوم من أوله] .
للمرأة أن تأخذ نفقة كل يوم من أوله، فمثلاً: ما يكفيها من الأرز ومن الخبز
ومن الأدم ونحو ذلك فإنها تأخذه من أول النهار وذلك لأنه أول وقت الحاجة.
وهذا القول فيه نظر ظاهر وذلك لأن العادة لم تجر بمثل هذا بل يرجع في هذا
إلى العرف والعادة.
قال: [لا قيمتها] .
فلا يجب عليه أن يعطيها القيمة، فلو قالت له: ((آخذها دراهم)) فإن ذلك لا
يجب عليه.
ولا أصل لتقويم الطعام بالدراهم لا في كتاب الله ولا في سنة رسول الله ولا
في أقوال الصحابة ولا التابعين ولا أتباعهم ولا نص عليه أحد من أئمة
الإسلام)) كما قرر هذا ابن القيم.
قال: [ولا عليها أخذها] .
فلو قال الرجل: أنا أعطيك الدراهم، فقدر لها مائة ريال في كل يوم، فلا
يلزمها قبول ذلك.
وهذا ظاهر وذلك لأن الواجب لها ما جرت العادة به، والعادة جارية بالطعام لا
بقيمته.
ولأنها تحتاج من يشتري لها بهذه الدراهم الطعام.
قال: [فإن اتفقا عليه أو على تأخيرها أو تعجيلها مدة طويلة أو قليلة جاز] .
إذا اتفقا على القيمة، أو اتفقا على تأخيرها بأن تأخذها في آخر السنة، أو
اتفقا على تعجيلها بأن تأخذها في أول السنة، سواء كان هذا التعجيل أو
التأخير مدة طويلة أو قليلة جاز ذلك.
وذلك لأن الحق لهما فلا يعدوهما.
قال: [ولها الكسوة كل عام مرة في أوله] .
فالكسوة تجب في أول كل عام.
وقيل في أول الصيف كسوة الصيف، وفي أول الشتاء كسوة الشتاء.
والصحيح وهو قول في المذهب: أن ذلك يجب بقدر الحاجة وتبعاً للعرف.
"يقدر الحاجة"، بمعنى أنها لو لم تبل
كسوتها فلا يجب عليه أن يعطيها في العام الجديد كسوة أخرى، ولو بليت كسوتها
فيجب عليه أن يعطيها كسوة جديدة ولو كان ذلك قبل نهاية العام.
فالصحيح أنها تجب بقدر الحاجة وهي تتبع العرف، وهو اختيار الشيخ السعدي،
وذلك لقوله تعالى: ((وعاشروهن بالمعروف)) فمرجع هذه المسائل على العرف.
قال: [وإذا غاب ولم ينفق لزمته نفقة ما مضى] .
رجل غاب سنة عن امرأته فلم ينفق عليها فيجب أن يعطيها نفقة ما مضى وهي نفقة
سنة أو نفقة سنتين أو نفقة ثلاث سنين.
وهذا ظاهر وذلك لأن النفقة تجب لها مع الإعسار واليسار فلم تسقط بمضى
الزمان، فهي حق لها كالأجرة، تجب مع الإعسار واليسار فلم يسقط ذلك بمضى
الزمان.
قال: [وإن انفقت في غيبته من ماله فبان ميتاً غرّمها الوارث ما أنفقته بعد
موته] .
امرأة غاب زوجها فأنفقت في غيبته من ماله فبان ميتاً فإن الوارث يغرمها ما
انفقته بعد موته وذلك لتبين عدم استحقاقها لأنها بموت زوجها لا نفقة لها.
وعليه فللوارث أن يغرفها ما مضى.
وتقدم أن الصحيح أن المتوفي عنها زوجها لها السكنى والنفقة وعليه فالنفقة
مدة اعتدادها في بيت زوجها واجبة في تركته. [يراجع هذا الترجيح بناء على
ماسبق] .
مسألة:
لو أن رجلاً انفق على مطلقته البائن يظنها حاملاً فبانت حائلاً أي ليست
بحامل، فله أن يرجع في النفقة وذلك لتبين عدم استحقاقها.
والعكس فلو أنه لم ينفق عليها يظنها حائلاً فبانت حاملاً فإنها ترجع إليه
بالنفقة وذلك لتبين استحقاقها.
قال رحمه الله: [فصل: ومن تسلم زوجته أو بذلت نفسها ومثلها يوطأ وجبت
نفقتها] .
ذكر المؤلف شرطين لوجوب النفقة على الزوجة:-
الشرط الأول: التسليم، والمراد به التسيلم التام وذلك بأن تبذل المرأة
نفسها لزوجها.
فإن امتنعت من ذلك أو امتنع وليها أو تساكتاً بعد العقد أي الزوجان فلم
تبذل ولم يطلب فلا نفقة وهذا الشرط لا خلاف فيه بين أهل العلم.
الشرط الثاني: أن تكون هذه المرأة ممن يوطأ
مثلها أي من حيث السن، وهذا شرط عند جمهور أهل العلم وهي في المشهور في
المذهب، بنت تسع سنين.
والصحيح ما تقدم: وأن السن غير مؤثر هنا بل متى كانت المرأة يمكن وطؤها
سواء كانت بنت ثمان سنين أو بنت تسع أو بنت عشر أو بنت أثنى عشرة سنة وهذا
يختلف باختلاف النساء واختلاف الطبائع.
فالصحيح أن هذا لا ارتباط له بالسن وهو قول في المذهب فلو بذلت نفسها أو
بذلها أولياؤها وهي صغيرة لا يوطء مثلها فلا نفقة، هذا هو مذهب الجمهور
وذلك لأن لها حالاً أخرى يمكنه أن يستمتع بها استمتاعاً كاملاً والحال
الأخرى حيث كانت كبيرة.
بخلاف ما لو كانت رتقاء أو عريضة أو نفساء أو حائض فإنه يجب عليه أن ينفق
عليها عند جمهور العلماء.
والقول الثاني في المسألة وهو قول الثوري وقول في مذهب أحمد أن المرأة إذا
ثبت التسليم التام ببذلها نفسها أو ببذل الأولياء لها فإن النفقة تجب وإن
كانت لا يوطء مثلها.
وهذا هو القول الراجح في المسألة.
وذلك لأن الأصل وجوب النفقة على الزوجة ولا تسقط لها. وتعذر الوطء لعجزها
لا لمعصيتها ونشوزها.
والمراد بالتام في قولنا التسليم التام، أن يكون التسيلم غير مقيد بقيد لم
يشترط في العقد.
فلو قالت المرأة لا أسلم نفسي لزوجي إلا في بيتي أو في بيت أبي أو في بلدي
ونحو ذلك ولم يشترطا في العقد على ذلك فإن النفقة تسقط لأن التسليم ليس
تسليماً تاماً.
أما إذا كان التسليم تاماً أو كأن مقيداً لكنها قد اشترطت ذلك في العقد
فحينئذ تجب النفقة ومثال ذلك مالو قيدته بشيء يشهد العرق به فإن النفقة تجب
لها.
قال: [ولو مع صغر زوج وجبه ومرضه وعنته] .
وهذا ظاهر، لأن عدم الوطء من جهته وليس من جهتها وأما هي فقد سلمت المعوض
له.
قال: [ولها منع نفسها حتى تقبض صداقها الحال] .
فللمرأة أن تمنع نفسها من زوجها بألا تمكنه من وطئها حتى تقبض صداقها
الحال.
فالتسليم المتقدم: أن تسلم نفسها له في
داره وأما المقصود هنا بمنع نفسها، أن تمنع نفسها من أن يطئها.
وكذلك لها أن تمتنع من التسليم التام الذي يترتب عليه الوطء، لها ذلك حتى
تقبض صداقها الحال.
فلها أن تمنع نفسها حتى تقبض صداقها الحال وذلك لئلا تفوت عليها منفعة
بضعها، فإنه إذا جامعها فقد فاتت عليها منفعة البضع بحيث لا يمكنها استدراك
ذلك.
وأما الصداق المؤخر المؤجل، فليس لها أن تمنع نفسها من زوجها حتى تأخذه
وذلك لأن رضاها بتأجيله متضمن لرضاها بالوطء قبل تسلمه.
قال: [فإن سلمت نفسها طوعاً ثم أرادت المنع لم تملكه] .
فإذا سلمت امرأة نفسها طوعاً لا كرهاً فليس لها بعد ذلك أن تمتنع عن زوجها،
قالوا: لأن هذا التسليم منها قد استقر به العوض وهو المهر برضا المسلم فلم
تمكن من استعادة المعوض بعد ذلك كالمبيع.
فإذا سلم صاحب السلعة، سلمها المشتري ولم يقبض الثمن بعد فإنه لا يمكن بعد
التسليم من أخذ السلعة مرة أخرى فكذلك هنا فهذه المرأة قد سلمت نفسها
لزوجها فأستقر بذلك المهر وكان ذلك برضا منها فلم تمكن بعد ذلك من الامتناع
كالمبيع هذا مذهب الجمهور وهو أحد الوجهين في المذهب، وهو المشهور في
المذهب.
والقول الثاني في المسألة: وهو قول أبي حنيفة والوجه الثاني في المذهب أن
المرأة لها أن تمنع زوجها من وطئها بعد لك.
قالوا: لأن التسليم يوجبه عقد النكاح فلا فرق بين التسليم الأول والتسليم
الثاني، فكما جاز لها أن تمتنع من التسليم الأول فلها أن تمتنع من التسليم
الثاني.
ويفارق هذا المبيع: بأن التسليم مستمر أي باستمرار وطئها.
بخلاف المبيع أي السلعة فإنها حيث استلمت أصبحت ملكاً للمشتري في المرة
الأولى.
وأما هنا: فالانتفاع ببعضها مستمر فكان امتناعها بعد ذلك لحفظ حقها جائزاً
لها.
ولأنها إنما مكنت نفسها بناءً على أنه سيعطيها صداقها وقد منعها صداقها
فكان لها أن تعود إلى الامتناع وهذا القول أظهر لقوة تعليله.
ولها حيث منعت نفسها بحق، لها النفقة فلو
أن امرأة قالت: (لا أسلم نفسي لك حتى تعطيني صداقي الحال فلم يعطها فيجب
عليه أن ينفق عليها في زمن الامتناع لأنه بحق والأصل وجوب النفقة على
الزوجة وهنا المرأة لم تعص ولم تنشز وإنما امتنعت من الوطء لحفظ حقها وأخذ
صداقها فكان هذا الامتناع بحق.
قال: [وإذا أعسر الزوج بنفقة القوت أو الكسوة أو ببعضها أوالمسكن فلها فسخ
النكاح] .
إذا أعسر زوج المرأة بنفقة القوت أو بنفقة الكسوة أو ببعض ذلك أو كان ينفق
عليها يوماً ويعجز في اليوم الآخر، أو عجز عن للمسكن فلها فسخ النكاح وإن
كانت عالمة بإعساره قبل العقد.
إذن للمرأة أن تفسخ النكاح بسبب عسر الزوج سواء كان هذا العسر طارئاً على
الزوج أو كان معسراً أي بأن تكون عالمة بإعساره قبل الزواج، هذا هو مذهب
الجمهور.
واستدلوا بقوله تعالى: ((فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان)) وبقوله: ((ولا
تمسكوهن ضراراً لتعتدوا)) .
واستدلوا: بما روى الدارقطني عن سعيد بن المسيب أنه قال في الرجل لا يجد ما
ينفق على امرأته قال: (يفارقها) فقيل له (سنة) فقال (سنة) وهذا مرسل صحيح.
وقال الأحناف وهو اختيار ابن القيم واختاره من متأخري الحنابلة الشيخ عبد
الرحمن بن سعدي، أن المرأة ليس لها أن تفسخ النكاح حيث اعسر الزوج.
ومن باب أولى إذا كان معسراً في الأصل ثم نكحته وهي تعلم بإعساره ورضيت
بذلك.
واستدلوا: بأن الفقر كان كثيراً في عصر الصحابة رضي الله عنهم بل كان العسر
أضعاف اليسر بل أضعاف مضاعفة ولم يمكن النبي - صلى الله عليه وسلم - امرأة
قط من الفسخ بسبب عسر زوجها.
قالوا: والعسر واليسر مطيتان يمتطيهما أكثر الناس فالناس يتقلبون بين عسر
ويسر، فلو مكنت المرأة من الفسخ لحصل فساد كبير.
قالوا: وقد قال تعالى: ((ومن قدر عليه رزقه فلينفق مما آتاه الله لا يكلف
الله نفساً إلا ما آتاها)) .
وهذا القول الراجح في المسألة.
إلا أن يكون ثمت ضرر على المرأة بأن تكون
المرأة فقيرة غير قادرة على التكسب.
أما إذا كانت المرأة غنية أو قادرة على التكسب من غير أن يترتب على ذلك
أذىً لها فإنه ليس لها أن تفسخ وأما إذا كان هناك ضرر عليها بأن كانت فقيرة
غير قادرة على التكسب فإنها لها الفسخ فقد قال - صلى الله عليه وسلم -: (لا
ضرر ولا ضرار) وقد قال تعالى: ((ولا تمسكوهن ضراراً لتعتدوا)) .
وأما أثر سعيد بن المسيب فليس فيه الفسخ مطلقاً فيحمل هذا على ثبوت الضرر.
على أن الصحيح كما قرر ابن القيم، أنه موقوف على أبي هريرة حيث قال كما في
البخاري: (والمرأة تقول اطعمني أو طلقني) ومثل هذا عن أبي هريرة ليس فيه أن
لها حق الفسخ لكن فيه الخبر من أن المرأة تطالب بالطلاف أو الإنفاق.
فالصحيح مذهب الأحناف وهو اختيار ابن القيم من أن المرأة لا تمكن من الفسخ
حيث أعسر زوجها إلا أن يترتب على ذلك ضرر عليها فيدفع الضرر عنها بحق الفسخ
لها.
وأما إذا كانت غنية أو قادرة على التكسب فليس لها الفسخ وعليه فليس للزوج
أن يمنعها من التكسب بل تمكن من ذلك.
وظاهر كلام الفقهاء، أنها إن اختارت البقاء وصبرت على عسر زوجها فليس له أن
يمنعها من التكسب مطلقاً ولو كانت غنية وذلك لأنها محبوسة عليه بشرط أن
ينفق عليها لكن هذا القول فيه نظر، فلا يتبين أن المرأة تمكن من التكسب بلا
إذن وليها ولو كانت غنية بل إذا كانت فقيرة فنعم، وأما إن كانت غنية فلا
تمكن من ذلك إلا بإذن الزوج وذلك لوجوب طاعة الزوج وهذا الوجوب لا مسقط له،
فحق الزوج على زوجته أن تطيعه وحيث كانت غنية فلا مسقط لهذا الحق.
والمشهور في مذهب أحمد: أنها تمكن من الفسخ على الفور وعند الشافعية أنها
تمكن من الفسخ على التراخي وضربوا لذلك ثلاثة أيام.
وعند المالكية ضربوا لذلك شهراً.
والصحيح أنها لا تمكن من الفسخ مطلقاً بل تلزم بالبقاء إلا أن يكون ثمت
ضرر، فإن كان ثمت ضرر فإن ذلك على الفور ليدفع عنها الضرر.
قال: [فإن غاب ولم يدع لها نفقة وتعذر
أخذها من ماله واستدانتها عليه فلها الفسخ بإذن الحاكم] .
فإذا غاب الزوج ولم يدع لزوجته نفقة، وتعذر عليها أخذها من ماله، بأن يكون
له محل أودار لها إبجاب أو نحو ذلك. وتعذر أن ستدين على زوجها فلها الفسخ
بإذن الحاكم.
وهذا بناءاً على المسألة المتقدمة فلها الفسخ أيضاً للإعسار لأن النفقة قد
تعذرت.
وقوله: " بإذن الحاكم" وذلك لأن هذه المسألة من المسائل المتنازع فيها
فاشترط فيها إذن القاضي ليثبت الإعسار ثم يفسخ.
والجمهور على أنه فسخ وليس بطلاق في المسألتين كلتيهما.
فإذا فرق بين المرأة وزوجها لإعساره أو كونه غائباً ولم يترك لها نفقة فإن
هذه الفرقة فسخ وليست بطلاق فلا تحسب تطليقة.
وعليه فلا يرجع إليها إلا بعقد جديد، فمثلاً فسخت اليوم ثم تيسرت حاله فإنه
لا يرجع إليها إلا بعقد جديد ولا تحسب عليه تطليقة.
وهنا مسائل:-
المسألة الأولى:
أن المرأة إذا كان زوجها موسراً فلها إن ماطل، أن تأخذ نفقتها ونفقة خادمها
ونفقة أولادها بالمعروف من غير إذنه ولا علمه.
لقوله - صلى الله عليه وسلم -??لهند: (خذي?ما يكفيك وولدك بالمعروف) متفق
عليه.
وهكذا كل سبب ظاهر لا يحتاج إلى إثبات فكذلك كحق الضيف وغير ذلك من الحقوق
الظاهرة، وحق القريب كأن يأخذ الابن من مال والده حيث كان الأب لا ينفق
عليه وهكذا.
وأما إذا كان السبب غير ظاهر بل يحتاج إلى إثبات كالدين فليس له أن يأخذ
ذلك لقوله - صلى الله عليه وسلم -???أدّ الأمانة إلى من ائتمنك ولا تخن من
خانك) .
إذن الأخذ من مال الغير حيث كان له فيه حق:-
لا يخلو هذا الحق إما أن يكون ظاهراً أو
خفياً فإذا كان حقك ظاهراً فلك أن تأخذ وإن لم يعلمه وإن كان خفياً فليس لك
أن تأخذ إلا بإذنه وعلمه، فلو أن رجلاً أخذ منك ديناً ثم وضع عندك أمانة
وكان قد كتم دينك أو ماطل فيه، فليس لك أن تأخذ من ماله الذي أئتمنك عليه،
ليس لك أن تأخذ حقك منه وذلك لأن السبب خفي وليس بظاهر.
وهكذا ما يعتقده بعض الناس من حقه في بيت المال، فيأخذ على سبيل الخفية
وهذا لا يجوز.
فعلى التسليم بثبوت حقه في ذلك - ولا يسلم - لو سلم لذلك فإن هذا وجه خفي
فحينئذ يكون محرماً فقد قال - صلى الله عليه وسلم -???أد الأمانة إلى من
أئتمنك ولا تخن من خانك) .
فلا بد أن يكون السبب ظاهراً لا خفياً كما قرر هذا شيخ الإسلام ابن تيمية
وغيره وهذه المسألة تسمى بمسألة الظفر أي الظفر بالحق.
?المسألة الثانية:
??????إذا مضى زمن لم ينفق فيه الرجل على امرأته فهل تسقط النفقة أم لا
تسقط؟
الجواب: جمهور العلماء على أنها لا تسقط وهو الصحيح الذي يدل عليه أثر عمر
بن الخطاب ففي البيهقي أن عمر كتب إلى أمراء الأجناد في رجال غابوا عن
نسائم أن يأخذوهم بأن ينفقوا أو يطلقوا، فإن طلقوا بعثوا بنفقة ما حبسوا)
إذن نفقة الزوجة لا تسقط بمضى الزمان.
??المسألة الثالثة:
??إذا اختلف الزوج وزوجته في النفقة فأنكرت المرأة النفقة ولا بينة لأحد
منهما.
فالمشهور في المذهب أن القول قول الزوجة لأن الأصل معها إذ الأصل عدم
النفقة.
والقول الثاني: وهو مذهب مالك واختيار شيخ الإسلام وتلميذه ابن القيم، أن
القول قول الزوج إذا شهد له العرف وهو القول الراجح وذلك لأن الأصل الذي
ذكره الحنابلة معارض بالظاهر، فالظاهر حين شكت الزوجة أن زوجها لا ينفق
عليها فما تطعمه وأجرة، مسكنها وغير ذلك من الزوج، فحينئذ تعارض عندنا ظاهر
الحال والأصل، وظاهر الحال أقوى من الأصل، هذا إذا شهد بذلك العرف.
وأما إذا لم يشهد بذلك العرف كأن لا يكون
العرف على ذلك فنقول بالأصل وهو ما تقدم.
" باب نفقة الأقارب"
?????قال: [تجب أو تتمتها لأبويه وإن علوا، ولولده وإن سفل حتى ذوي الأرحام
منهم] .
?أجمع أهل العلم على وجوب النفقة على الوالدين ووجوب النفقة على الولد.
قال تعالى: ((وبالوالدين إحساناً)) .
قال - صلى الله عليه وسلم -????أفضل ما يأكل الرجل من كسبه، وإن ولده من
كسبه) .
وفي الصحيحين أن النبي - صلى الله عليه وسلم -?قال لهند بنت عتبة: (خذي ما
يكفيك وولدك بالمعروف) .
إلا أن مالكاً لم يوجبها إلا أن يكون الوالد والداً على المباشرة وكذلك
الولد، وأما مع الواسطة كالجد أو الجدة أو ابن الابن أو بنت الابن ونحوهم
فإن الإمام مالك لم يوجب ذلك.
والصحيح ما ذهب إليه الجمهور لظاهر الأدلة: (وبالوالدين إحساناً) فالجد
والد والجدة والدة، ??خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف) . فإبن الابن ولد، وبنت
الابن بنت وهكذا.
?وقد قال - صلى الله عليه وسلم -????إن ابني هذا سيدُ) قال أبو بكر وكما في
صحيح البخاري: "الجد والد"
إذن النفقة واجبة على الوالدين وإن علو وعلى الأولاد وإن نزلوا حتى ذوي
الأرحام منهم.
فمثلاً: أم أب الأم هذه من ذوي الأرحام، وهي تجب لها النفقة وبنت البنت من
ذوي الأرحام كما تقدم في كتاب الفرائض فتجب لهم النفقة وإن كانوا من ذوي
الأرحام أي ليسوا من ذوي الفرض ولا التعصيب.
فلا يشترط في النفقة على الأصول، (وهم الوالدان وإن علوا) ولا الفروع (وهم
الأولاد وإن نزلوا) لا?يشترط الإرث فسواء كانوا وارثين أم لم يكونوا كذلك
فإن النفقة واجبة عليهم لعمومات الأدلة الشرعية وقد تقدم بعضها.
قال: [حجبه معسر أو لا] .
????سواء حجبه معسر أو لا، وذلك لأن الإرث ليس بشرط.
فمثلاً: إذا كان له جد أو أب وأبوه معسر
فتجب عليه النفقة وإن كان ليس بوارث، فالوارث هنا هو الأب، فإن ابن الابن
لا إرث له مع الابن، فهنا يجب عليه أن ينفق على جده وإن كان الأب موجوداً
وهو الوارث وذلك لأن الإرث ليس بشرط.
أو لم يحجبه: كأن يكون له جدً أب أب ويكون أبوه ميتاً وذلك لما تقدم لأن
الإرث ليس بشرط.
فالمقصود: أنه سواء كان محجوباً بمعسر أم لم يكن كذلك فالنفقة واجبة.
فالقاعدة: أن النفقة على الأصول والفروع واجبة سواء كانوا وارثين أم لم
يكونوا كذلك.
قال: [ولكل من يرثه بفرض أو تعصيب لا برحم سوى عمودي نسبه] .
??عمود: النسب هما الأصول والفروع.
فالنفقة واجبة لكل من يرثه بفرض أو تعصيب لا برحم سوى عمودي النسب.
فقد تقدم الكلام على عمودي النسب.
وهنا الكلام فيما سوى عمودي النسب من الحواشي والولاء هنا يقول: تجب لكل من
يرثه بفرض أو تعصيب لا برحم فالقاعدة في الحواشي: أن النفقة واجبة بشرط
الإرث، فإن كنت ترثه لو مات فيجب عليك أن تنفق عليه، وإلا فلا.
???فمثلاً: له أخ وهذا الأخ له أبناء، فهنا لا يرث أخاه لوجود أبنائه فلا
يجب عليه أن ينفق وأما إذا كان له أخ هو يرثه فإن النفقة واجبة له، إذن
القاعدة في الحواشي أن النفقة واجبة بشرط الإرث أي بأن يكون المنفق يرث
المنفق عليه.
قال: [سواء ورثه الآخر كأخ أولاً كعمة وعتيق] .
????أي سواء كان الآخر وهو المنفق عليه يرث كأن يكون المنفق عليه أخاً.
أو كان لا يرث كأن يكون عمه أو عتيقاً.
فالشرط في وجوب النفقة هو أن يكون المنفق وارثاً للمنفق عليه، ولا ننظر هل
يرث المنفق عليه، المنفق أم لا، بل سواء ورثه أم لم يرثه.
هذا هو المشهور في مذهب الإمام أحمد.
وقال الأحناف: وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم، تجب
النفقة للحواشي مطلقاً سواء كان المنفق وارثاً أم لم يكن وارثاً.
إذن الحنابلة لا يوجبون النفقة على الحواشي
إلا إذا كان المنفق وارثاً فلا يوجبوها للخال ولا للأخ إذا كان له أبناء
وهكذا.
ويستدلوا بقوله تعالى: ((وعلى الوارث مثل ذلك)) .
وأما الأحناف واختيار شيخ الإسلام وتلميذه ابن القيم فقالوا بوجوبها للخال
وغيره من ذوي الأرحام.
واستدلوا بعمومات الأدلة الدالة على وجوب النفقة على الأقارب قال تعالى:
((وبالوالدين إحساناً وبذي القربى)) وقال تعالى: ((وآت ذا القربى حقه)) .
?وقال - صلى الله عليه وسلم -?كما في الصحيحين لما قيل له: (من أحق الناس
بصحابتي؟ قال: "أمك" قيل ثم من؟ قال: " أمك" قيل ثم من؟ قال: " أمك" قيل ثم
من؟ قال: " أبوك ثم أدناك فأدناك".
وفي الترمذي وأبي داود نحوه وفيه (ثم الأقرب فالأقرب) فهذه أدلة عامة بوجوب
النفقة على الأقارب سواء كانوا وارثين أم لم يكونوا وارثين وهذا هو القول
الراجح في المسألة.
وأما قوله تعالى: ((وعلى الوارث مثل ذلك)) فهذا فيه أن الإرث سبب يقتضي
النفقة وليس فيه أن الرحم لا يقتضي ذلك.
وعليه فهناك سببان للنفقة:
الإرث وقد دل عليه قوله تعالى: ((وعلى الوارث مثل ذلك)) .
وهناك سبب آخر وهو الرحم دلت عليه الأدلة الشرعية.
قال: [بمعروف] .???لقوله تعالى: ((وعلى المولود له رزقهن وكسوتهن
بالمعروف)) فتجب النفقة بالمعروف.
قال: [مع فقر من تجب له وعجزه عن تكسب] .
????هذا شرط لابد منه.
فلا بد أن يكون المنفق عليه، فقيراً عاجزاً عن التكسب أما لو كان غنياً أو
قادراً على التكسب أي يمكنه أن يصنع صنعة ونحو ذلك فلا تجب النفقة له لكن
لو كان العمل الذي يعمله الأب لا يليق بالمسلم أن يترك أباه يعمله بأن يكون
عملاً ممتهناً فيكد والده وهو غني قادر على التكسب فلا شك أن هذا من
القطيعة وأنه من العقوق وأن ذلك لا يجوز.
إذن: لابد أن يكون فقيراً ليس بيده مال حاصل ولا متحصل بصناعة أو غيره.
لكن مثل الوالد والوالدة لو قدرا على
التكسب بمهنة ممتهنة عند الناس وهو قادر على أن ينفق عليهما وهما من ذوي
الشرف أو دون ذلك فليس مناسباً لهما العمل به، فليس له أن يتركهما يعملان
هذا العمل وذلك لأن هذا من عقوق الوالدين.
قال: [إذا فضل عن قوت نفسه وزوجته ورقيقه يومه وليلته وكسوة وسكنى من حاصل
أو متحصل] .
هذا هو الشرط الثاني: وهو غنى المنفق، لا بد أن يكون المنفق غنياً وذلك بأن
يكون له مال يفضل عن قوت نفسه وقون زوجته ورقيقه يومه وليلته إذن قال - صلى
الله عليه وسلم -????كفى بالمرء إثماً أن يضيع من يقوت) .
من حاصل: أي من مالٍ بيده.
أو متحصل: كصنعة ونحوها.
قال: [لا من رأس مال وثمن ملك وآلة صنعة] .
فلا نأمره أن ينفق على قريبه من رأس ماله، كأن يكون له تجارة ومعاشه قائم
على هذه التجارة فلا يأمره أن يأخذ من رأس المال لينفق على أقاربه.
كذلك لا نأمره أن يبيع شيئاً من ملكه حيث يتضرر بذلك ولا أن يبيع آلة
الصنعة، لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -????لا ضرر ولا ضرار) .
إذن: يشترط أن يكون المنفق غنياً وذلك بأن يكون حق المال الذي أوجبنا أن
ينفقه على قريبه أن يكون فاضلاً عن قوته وقوت ولده وقوت زوجته وقوت رقيقه
وأن يكون من مال حاصل أو متحصل فلا يكون من رأس ماله ولا من ثمن ملكه ولا
من ثمن صنعته لحصول الضرر عليه بذلك.
ومقتضى تعليلهم أنه لو لم يكن يتضرر بذلك كأن يكون له رأس مال، ورأس?المال
فائض عن القدر المناسب كأن تكون هذه التجارة يكفيها عشرة آلاف وقد وضع فيها
عشرين ألفا حينئذ يأخذ من رأس المال لأنه لا يتضرر.
قال: [ومن له وارث غير أب فنفقته عليهم على قدر إرثهم] .
الحنابلة: يشترطون في الحواشي أن يكون المنفق وارثاً للمنفق عليه.
فالأب له حكم آخر، وأما من له وارث غير أب فإنه ينفق عليه على قدر إرثه.
فالأب: ينفق وحده على أولاده لقوله - صلى الله عليه وسلم -?لهند: (خذي ما
يكفيك وولدك بالمعروف) .
فالأب يستقل بالنفقة فإنها واجبة عليه.
وأما سوى الأب فإنه ينفق بقدر إرثه، وقد ضرب المؤلف لذلك مثالاً.
?فقال: [فعلى الأم الثلث، والثلثان على الجد] .
فلو كان هناك فقير وله أم وجد، فإن ثلث نفقته تجب على الأم، والثلثان
الآخران يجبان على الجد لأن إرثهم منه كذلك.
قال: [وعلى الجدة السدس والباقي على الأخ] .
????فلو كان هناك فقير وله جدة وأخ، فإن سدس النفقة تجب على الجدة والباقي
تجب على الأخ وذلك لأن إرثهم منه كذلك.
وهنا مسألتان:
المسألة الأولى: أن ما ذكره المؤلف هو المشهور في المذهب وأن الواجب أن
تكون النفقة بقدر الإرث.
والقول الثاني في المسألة وهو اختيار ابن القيم: أن النفقة مختصة بالعصبة.
فالأم لا تنفق والجدة لا تنفق وهكذا، فالنفقة مختصة بالعصبة أي حيث كان
هناك عصبة.
في المسألة الأولى إذا كان هناك فقير وله أم وجد فإن النفقة لا تجب إلا على
الجد، وهذا هو مذهب الشافعي ورواه أحمد وهو القول الراجح في هذه المسألة
وذلك لأن الشارع لم يوجب النفقة على الأم بل أوجبها على الأب في قوله: (خذي
ما يكفيك وولدك بالمعروف) ، وهذا يدل على أن النفقة تختص بالعصبة وأما من
ليسوا بعصبة فإن النفقة لا تجب عليهم.
المسألة الثانية: أن المذهب أنه إن كان الباقون غير قادرين على النفقة فلا
يجب عليه أن ينفق إلا بقدر إرثه.
مثال هذا:
لو كان هناك فقير وله أم وجد، فذكر المؤلف أنه يجب على الأم ثلث النفقة
وعلى الجد الباقي.
فإذا كان الجد معسراً لا مال له، والأم غنية، فلا يجب على الأم إلا الثلث،
هذا هو المشهور في المذهب.
وعن الإمام أحمد: أنه يجب على الكل، بمعنى إذا قسمنا النفقة على من يرثه من
ذوي رحمه، فوجدنا أن بعضهم قادر وبعضهم غير قادر فإنا نوجب النفقة كلها على
القادرين وهذا هو الصحيح وذلك لأن الأدلة العامة تدل على وجوب المواساة
إنما تكون بالتمام، وأما أن يكون بالبعض فلا بل لابد أن يعطيه ما يكفيه.
قال: [والأب ينفرد بنفقة ولده] .
دون أمه وهو قول الجمهور واختيار ابن القيم لقوله تعالى: ((وعلى المولود له
رزقهن وكسوتهن بالمعروف)) ، ولقوله - صلى الله عليه وسلم -: (خذي ما يكفيك
وولدك بالمعروف) .
قال: [ومن له ابن فقير وأخ موسر فلا نفقة له عليهما] .
????لو أن رجلاً له ابن فقير وأخ موسر، فلا نفقة له عليهما وذلك لأن الابن
فقير فاختل فيه شرط وهو غنى المنفق وأما الأخ الموسر فلا تجب عليه النفقة
في المشهور من المذهب، لأنه لا يرث فهو محجوب بالابن الفقير وقد تقدم أن
الصحيح وجوب النفقة عليه من قبل الأخ.
قال: [ومن أمه فقيرة وجدته موسرة فنفقته على الجدة] .
?فمن كانت أمه فقيرة وجدته موسرة، فإن نفقته تجب على الجدة مع أنها لا ترث
مع الأم، وذلك لأن عمودي النسب لا يشترط فيهم الإرث، والجدة من عمودي
النسب.
قال: [ومن عليه نفقة زيد فعليه نفقة زوجته] .
??فإذا أوجبنا النفقة على الأب على ولده فكذلك ينفق على زوجته وذلك لأن هذا
من تمام حاجته.
وكذلك يجب عليه أن ينكحه إن كان قادراً على ذلك لأنه من تمام حاجته، وهذا
هو المشهور في المذهب.
قال: [كطئر لحولين] .
????الطئر: هي المرضعة.
أي يجب الإنفاق على المرضعة لحولين: لقوله تعالى: ((والوالدات يرضعن
أولادهن حولين كاملين لمن أراد أن يتم الرضاعة وعلى المولود له رزقهن
وكسوتهن بالمعروف???إلى أن قال سبحانه: ((وعلى الوارث مثل ذلك)) .
فإذا أرضعت امرأة ولده فإنه ينفق عليها.
قال: [ولا نفقة مع اختلاف دين إلا بالولاء] .
?????هذا شرط ثالث في وجوب النفقة وهو اتفاق الدين فلا يجب عليه أن ينفق
على أبيه الكافر ولا على ولده الكافر ولا أخيه الكافر.
فيشترط اتفاق الدين في وجوب النفقة، إلا في الولاء وذلك لثبوت الإرث مع
الولاء، فإذا كان عتيقه كافراً فإنه يجب عليه أن ينفق عليه، هذا هو المشهور
في المذهب.
وقال الأحناف: وهو رواية عن الإمام أحمد بل
تجب النفقة مع شرط اتفاق الدين إلا في عمودي النسب.
فالأب ينفق?عليه وإن كان كافراً، والولد ينفق عليه وإن كان كافرا، وأما
الأخ فلا ينفق عليه إلا أن يكون مسلماً.
وقيل وهو قول في المذهب: بل لا يشترط مطلقاً اتفاق الدين وهذا هو القول
الراجح وهو الذي تدل عليه عمومات الأدلة.
وقد قال تعالى في عمودي النسب: ((وإن جاهداك على أن تشرك بي ما ليس لك به
علم فلا تطعمهما وصاحبتهما في الدنيا معروفاً)) ، وهكذا قوله: ((وبالوالدين
إحساناً)) وقوله ((وآت ذا القربى حقه)) فالأدلة عامة في الكافر والمسلم
فيجب عليه أن ينفق على عمودي نسبه وعلى الحواشي وإن كانوا كفاراً.
نعم: إذا كان من المحاربين للإسلام فإنه لا ينفق عليه وذلك لأن الحربي
المقصود إتلاف نفسه لا إبقاؤه، والنفقة تحفظ نفسه فحينئذ الاتفاق عليه
يخالف مقصود الشارع.
قال: [وعلى الأب أن يسترضع لولده] .
أي يجب على الأب أن يسترضع لولده لقوله تعالى: ((وإن تعاسرتم فسترضع له
أخرى)) أي إن حصل التعاسر بين الأب وأم الطفل الرضيع، فسترضع له أخرى أي
استرضعوا له أخرى.
قال: [ويؤدي الأجرة] .
لقوله تعالى: ((وعلى المولود له رزقهن وكسوتهن بالمعروف)) إلى أن قال:
(وعلى الوارث مثل ذلك)) . فيجب على الأب أن يطلب مرضعة لولده ويدفع الأجرة
لها.
قال: [ولا يمنع أمه ارضاعه] .
سواء كانت تحته أو بائناً منه فلا يحل له أن يمنعها من إرضاعه لقوله تعالى:
(والوالدات يرضعن أولادهن)) ولأنها أشفق عليه فهي أحق به من غيرها.
قال: [ولا يلزمها إلا لضرورة كخوف تلفه] .
فلا يلزم الأم أن ترضع ولدها فليس ذلك واجباً عليها إلا أن يخاف تلفه،
بمعنى أن يأبى قبول ثدي غير أمه فحينئذ يتحتم أن يرضع من أمه فيجب عليها أن
ترضعه سواء كانت بائناً أو تحته، هذا هو مذهب جمهور العلماء.
والمسألة على الصحيح فيها تفصيل وهو أن
يقال وأما إن كانت بائناً أي قد فسخت أو خلعت ثلاثاً فلا يجب باتفاق
العلماء ويدل عليه قوله تعالى: ((وإن تعاسرتم فسترضع له أخرى)) أي أن حصل
التعاسر بين أب الطفل وأمه فحينئذ سترضع له مرضعة أخرى.
وأما إن كانت زوجة فكذلك عند الجمهور أي أنها لا تلزم بذلك فليس واجباً
عليها.
واختار شيخ الإسلام وهو قول ابن أبي ليلى من الفقهاء أن ذلك واجب عليها.
واستدل بقوله تعالى: ((والوالدات يرضعن أولادهن)) وهذا خبر بمعنى الأمر.
ولأن هذا هو العرف والصحيح ما ذكره شيخ الإسلام وأن الأم يجب عليها أن ترضع
ولدها والجمهور على أن أم الطفل، وهي زوجة وأنها إن أرضعت فلها أن تطالب
بالأجرة، وهذا هو قول ضعيف.
وقد اختار شيخ الإسلام مع وجوبه على الأم عدم ثبوت الأجرة لقوله تعالى:
((وعلى المولود له رزقهن وكسوتهن بالمعروف وهي لها الرزق والكسوة بمقتضى
الزوجية.
قال: [ولها طلب أجرة المثل، ولو أرضعه غيرها مجاناً] .
قال تعالى: ((فإن أرضعن لكم فأتوهن أجورهن)) وقال تعالى: ((فإن تعاسرتم
فسترضع له أخرى)) .
فإذا كانت أم الطفل بائناً منها فلا يجب عليها أن ترضعه إلا أن تخاف تلفه.
وإن أرضعته فلها أن تطالب بأجرة المثل، ليست أجرة زائدة عن المثل، ولو كان
هناك متبرع كأن تكون أم الزوج أو أخته تقول: أنا أرضع الطفل فلحق الأم في
الرضاع تقدمها على هذه المتبرعة ولها الأجرة لما تقدم من قوله تعالى:
((فإذا أرضعن لكم فآتوهن أجورهن)) .
قال: [بائناً كانت أو تحته] .
تقدم الكلام عليه.
قال: [وإن تزوجت آخر فله منعها من إرضاع ولد الأول] .
فللزوج الثاني أن يمنع المرأة أن ترضع ولدها من الزوج الأول.
وذلك لأن هذا أي الإرضاع يفوت استمتاعه بها.
قال: [ما لم يضطر إليها] .
فإذا اضطر الولد إليها كأن يأبى إلا ثديها فحينئذ يجب عليها أن ترضعه وليس
لزوجها الثاني منعها من ذلك.
أو أن تكون شرطت ذلك في العقد كأن تقول وهي
يعقد عليها على الزوج الثاني اشترط الإرضاع لولدي فالمسلمون على شروطهم.
إذن: إذا أضطر الطفل إلى ذلك أو شرطت ذلك في العقد وإلا فإنه له أن يمنعها
من إرضاع ولدها من الزوج الأول وذلك لتفويت تمام استمتاعه بها.
هذا الفصل في النفقة على المملوك:
قال: [وعليه نفقة رقيقه طعاماً وكسوة وسكنى] .
على السيد نفقة رفيقه طعاماً وكسوة وسكنى بالمعروف ففي صحيح مسلم أن النبي
- صلى الله عليه وسلم - قال: (للملوك طعامه وكسوته ولا يكلف من العمل إلا
ما يطيق) .
والواجب أن تكون النفقة بالمعروف أي ما يليق بالمملوك وما تعارف الناس أنه
نفقة للملوك.
والمستحب أن يطعمه من جنس طعامه وأن يكسوه من جنس كسوته وأن يسكنه من جنس
سكناه.
ففي الصحيحين أن النبي - صلى الله عليه وسلم -?قال: (إخوانكم خولكم) - أي
خدمكم - جعلهم الله تحت أيديكم، فأطعموهم مما تأكلون وألبسوهم مما تلبسون،
ولا تكلفوهم ما يغلبهم فإن كلفتموهم فأعينوهم) .
قال: [وألا يكلفه مشقاً كبيراً] .
????لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -????ولا يكلفه من العمل إلا ما يطيق)
لقوله: (ولا تكلفوهم ما يغلبهم فإن كلفتموهم فأعينوهم) .
???فلا يحل له أن يكلفه مشقاً كبيراً أي ما يكون فيه مشقة ظاهرة عليه.
وله أن يؤدبه بالضرب غير المبرح إذا أذنب، وكذلك يجتنب الوجه قياساً على
ضرب الزوجة والولد.
وفي صحيح مسلم أن أبا مسعود ضرب غلاماً له فقال النبي - صلى الله عليه وسلم
-????اعلم أبا مسعود أن الله أقدر عليك منك على هذا الغلام) .
فلا يحل ضربه إلا أن يذنب فيضرب ضرباً غير مبرح، أو يوبخه ويجتنب الوجه
لنهي النبي - صلى الله عليه وسلم -?كما في صحيح مسلم وغيره عن ضرب الوجه.
?قال: [وإن اتفق السيد ورقيقه على المخارجة جاز] .
والمخارجة: هي ما يجعله السيد على رقيقه كل يوم أو كل شهر أو كل سنة.
كأن يقول له: " اعمل واحضر لي في كل يوم
عشرة دراهم، أو اعمل واحضر لي في كل شهر مائة درهم، أو اعمل واحضر لي في كل
سنة ألف درهم وهكذا".
وهي جائزة لما ثبت في الصحيحين أن النبي - صلى الله عليه وسلم -?حجمه أبو
طيبة فأمر له النبي - صلى الله عليه وسلم -?بصاعين من طعام وكلم له أهله
فوضعوا فيه من خراجه) .
فهذا إقرار من النبي - صلى الله عليه وسلم -?على المخارجة فهذا يدل على
جوازها.
لكن لا تحل المخارجة حيث خشي عليه كأن يخارج المرأة التي لا صنعة لها فيؤدي
إلى زناها أو يخارج الصبي فيؤدي ذلك إلى سرقته.
ففي?موطأ مالك أن عثمان رضي الله عنه قال: (لا تكلفوا الأمة غير ذات الصنعة
الكسب فإنكم متى كلفتموها كسبت بفرجها، ولا تكلفوا الصبي الكسب فإنه إن لم
يجد سرق) .
وظاهر كلام المؤلف - ولا نزاع في هذا كما ذكر صاحب الإنصاف ولم أر فيه
خلافاً بين أهل العلم من غير الحنابلة- أن المخارجة لا تصح إلا حيث اتفقا
على ذلك أي لابد من رضا الطرفين وهما السيد والعبد المملوك، وذلك لأن
المخارجة عقد معاوضه فاشترط فيه الرضا كالكتابة، فكما أن العبد لا يلزم
بالمكاتبة فكذلك لا يلزم الرقيق بالمخارجة لأنه عقد معاوضة.
وله ما فضل، وإلا لما كان هناك فائدة من التقدير فإذا قال له: " اعمل واحضر
لي في كل يوم عشرة دارهم" فمعنى ذلك أن ما فضل فهو للعبد وإلا فلا فائدة من
التقدير.
ويشترط في المخارجة أن يفضل للعبد ما ينفقه به على نفسه.
كأن يقول له: " اخارجك على عشرة دراهم" وهذا العبد لا يكسب في اليوم إلا
عشرة دراهم.
قال: [ويريحه وقت القائلة والنوم والصلاة وجوباً] .
فيريحه في وقت القائلة، والنوم في الليل، والصلاة المفروضة وذلك لدفع الضرر
عنه، وقد قال- صلى الله عليه وسلم -????لا ضرر ولا ضرار) .
قال: [ويركبه في السفر عٌقبةً] .
???????عقبة) أي نوبةً.
ففي السفر يركبه عقبه أي تارة يمشي وتارة يركب وذلك لئلا يشق عليه ولئلا
يكلفه ما لا يطيقه.
أي يركبهم تارة ويمشيهم تارة.
قال: [وإن طلب نكاحاً زوجة أو باعه] .
????لقوله تعالى: ((وأنكحوا الأيامى منكم والصالحين من عبادكم وإمائكم)) .
قال: [وإن طلبته أمة وطئها أو زوّجها أو باعها] .
????فإذا طلبت أمته النكاح فإنه يطؤها " أي السيد" ليدفع عنها ضرر شهوتها
أو يزوجها أو يبيعها.
??فصل النفقة على البهيمة"
قال: [وعليه علف بهائمه وسقيها وما يصلحها] .
فيجب عليه علف بهائمه وسقيها وما يصلحها.
لما ثبت في الصحيحين أن النبي - صلى الله عليه وسلم -?قال: (عذبت امرأة في
هرة حبستها حتى ماتت فلا هي أطعمتها ولا هي أسكنتها تأكل من خشاش الأرض) .
قوله " ما يصلحها" أي من دواء، ونحو ذلك.
قال: [وألا يحملها ما تعجز عنه] .
????لما في ذلك من الضرر عليها.
قال: [ولا يجلب من لبنها ما لغير ولدها] .
لقوله - صلى الله عليه وسلم -????لا ضرر ولا ضرار) .
ولا يلعنها لما ثبت في صحيح مسلم: أن النبي - صلى الله عليه وسلم -?كان في
سفر فلعنت امرأة ناقة فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -????خذوا ما عليها
وربوها فإنها ملعونة) .
ويظهر لي أن هذا من باب التعزيز المالي.
كذلك لا يحل له أن يسم بهيمة مع الوجه، أما في غير الوجه فلا بأس بذلك عند
الحاجة إلى ذلك كأن يسمها ليميزها عن غيرها من البهائم أو أن يكون الفخذ من
القبيلة أو العشيرة أن يكون لهم وسماً خاصاً لهم لكن لا يكون ذلك في الوجه
بأن يكون على العتيق أو على صفحة الظهر ونحو ذلك.
ويدل على ذلك ما ثبت في مسلم أن النبي - صلى الله عليه وسلم -????لعن من
وسم الوجه وضربه ونهى عن ذلك) .
قال: [فإن عجز عن نفقتها?أجبر على بيعها أو إجارتها أو ذبحها إن أكلت] .
???فإذا عجز عن نفقة دوابه وكانت مما يؤكل فإنه يخير بين ثلاث.
إما أن يبيعها، وإما أن يؤجرها وإما أن يذبحها، وأما إن كانت مما لا يؤكل
فإنه يخير بين: أن يبيعها أو يؤجرها.
فإن أبى ذلك فعل الحاكم الأصلح أي فعل
القاضي ما هو الأصلح من بيع أو إجارة أو ذبح، وذلك لأن إبقاءها مع ترك
الإنفاق عليها ظلم، والظلم تجب إزالته.
مسألة:
???الصحيح أن الخصي أي خصي البهيمة لا بأس به وذلك لما فيه من تطييب اللحم
ففيه مصلحة ومنفعة للآدمي.
??باب الحضانة"
???الحضانة: الحضن وهو: الصدر والعضدان وما بينهما.
وأما اصطلاحاً: فهي حفظ صغير ونحوه عما يضره وتربيته بما يصلحه.
قال رحمه الله: [تجب لحفظ صغير ومعتوه ومجنون] .
???فهي واجبة باتفاق أهل العلم، وذلك لأن في الحضانة إنجاءه من الهلكة فإن
في عدم ذلك ضياعة وهلاكه، وهي واجبة لحفظ صغير ونحوه من معتوه ومجنون.
قال: [والأحق بها أم] .
????فالأحق بالحضانة الأم، لقوله - صلى الله عليه وسلم -?فيما رواه أحمد
وأبو داود بإسناد حسن أنه قال لأم: (أنت أحق به ما لم تنكحي) ، فالأم أحق
بحضانته ما لم تنكح وسيأتي الكلام على ما إذا نكحت الأم.
قال: [ثم أمهاتها القربى فالقربى] .
الأم أحق من أم أم الأم.
قال: [ثم أب ثم أمهاته كذلك ثم جد ثم أمهاته كذلك ثم أخت لأبوين ثم لأم ثم
لأب] .
فالأخت مقدمة في المذهب على الأخت لأب.
قال: [ثم خالة لأبوين ثم لأم ثم لأب، ثم عمات كذلك] .
أي عمه لأبوين ثم عمة لأم ثم عمة لأب.
قال: [ثم حالات أمه ثم خالات أبيه ثم عمات أبيه ثم بنات إخوانه وأخواته ثم
بنات أعمامه وعماته ثم بنات أعمام أبيه وبنات عمات أبيه ثم لباقي العصبة
الأقرب فالأقرب] .
??فبعد ذلك يكون لباقي العصبة الأقرب فالأقرب، فالأخوة مقدمة على العمومة.
قال: [فإن كانت أنثى فمن محارمها] .
????فإذا كانت المحضونة أنثى فيشترط أن يكون الحاضن من محارمها.
فإذا كانت أنثى قد تم بها سبع سنين فيشترط أن يكون الحاضن من محارمها سوى
ابن عمها، فإن لم يكن من محارمها فإنه يدفعها إلى امرأة ثقة تقوم بشأنها أو
يدفعها إلى نسائه، لكن لا يكون هو الحاضن المباشر لها ما لم يكن محرماً
لها.
قال: [ثم لذوي أرحامه] .
????ثم بعد ذلك لذوي أرحام الأب وذوي أرحام للأم، للرحم التي ثبت معها
الإرث.
قال: [ثم لحاكم] .
?????لعموم ولايته، هذا كله هو المشهور في مذهب الإمام أحمد، وفيه أنهم
يقدمون جهة الأمومة على جهة الأبوة، ولذا فإنهم يقدمون الخالة لأم على
الخالة لأب، ويقدمون العمة لأم على العمة لأب، ويقدمون أم الأم على أم
الأب، وهكذا.
?واستدلوا: بأن النبي - صلى الله عليه وسلم -?قال: (أنت أحق به ما لم
تنكحي) فمقدم الأم على الأب، فدل على أن جهة الأمومة مقدمة على جهة الأبوة.
وعن الإمام أحمد وهو اختيار شيخ الإسلام وتلميذه ابن القيم، أن جهة الأبوة
مقدمة على جهة الأمومة.
وعليه فالأخت لأب تقدم على الأخت لأم، والعمة تقدم على الخالة، وأم الأب
تقدم على أم الأم وهكذا.
وهذا هو القول الراجح في هذه المسألة، وذلك لأن قاعدة الشرع تقديم جهة
الأبوة على جهة الأمومة في مسائل الإرث ومسائل النكاح?وغيرها ولا يعهد عن
الشرع تقديم جهة الأمومة على جهة الأبوة ألبتة، كما قرر هذا ابن القيم.
ولأن جهة الأبوة في الغالب أحرص على حفظ الطفل، لأن العار الذي يلحقه يلحق
جهة أبوته لا جهة أمومتة، فالبنت مثلاً لو لحقها شيء في عرضها فإن الذي
يتأثر بذلك إنما هم أقاربها?من جهة أبيها لا أقاربها من جهة أمها، ولا شك
أن هذا يؤوي إلى حرص عظيم على الشرف وعلى غير ذلك.
وأما الاستدلال بقوله - صلى الله عليه وسلم -????أنت أحق به ما لم تنكحي)
فقد قدم الأم على الأب.
فيجاب عنه أن يقال: نعم الأم تقدم على الأب، والعمة تقدم على العم، كذلك
الخالة تقدم على الخال وبنت العم تقدم على ابن العم وهكذا، لا لأن جهة
الأمومة مقدمة على جهة الأبوة ولكن لأن الأنثى مقدمة على الذكر، فإذا كانت
جهة القرب واحدة والدرجة واحدة فإن الأنثى مقدمة على الذكر.
ففي الحديث الجهة واحدة وهي جهة الأبوة،
وقد قدمت الأم على الأرب لمعنى الأنوثة فإن المرأة أقوم بمقاصد الحضانة
وأشفق على الطفل وأصبر عليه، فلذا قدمت الأنثى.
ويحصل على القول الأول اضطراب كثير وتناقض ظاهر كما قرر هذا ابن القيم رحمه
الله تقريراً طويلاً في زاد المعاد فقد أفاض بذكر الاضطراب في مذاهب أهل
العلم الذين يقدمون جهة الأمومة على جهة الأبوة.
ونحتاج إلى الجواب عن قوله - صلى الله عليه وسلم -????الخالة بمنزلة الأم)
والحديث ثابت في الصحيحين حيث تنازع في ابنة حمزة ثلاثة، على بن أبي طالب،
وزيد بن حارثة، وجعفر بن أبي طالب علي بن أبي طالب: ابن عمها، وجعفر بن أبي
طالب ابن عمها، وزيد بن حارثة أخو حمزة من الرضاعة.
وكان تحت علي فاطمة بنت ابن عم بنت حمزة، وكانت تحت جعفر بن أبي طالب أسماء
بنت عميس وكانت خالة بنت حمزة، فقضى النبي - صلى الله عليه وسلم -?لجعفر بن
أبي طالب وقال: " الخالة بمنزلة الأم".
والجواب عن هذا: " أن هذه القضية ليس فيها منازعة عمه، فالمسألة قضية عين.
وقوله - صلى الله عليه وسلم -????الخالة?بمنزلة الأم) ليس على ظاهره، بدليل
أن الأب مقدم على الخالة، وبدليل أن أم الأم مقدمة على الخالة بالاتفاق ولو
كانت الخالة بمنزلة الأم مطلقاً لما قدمت أم الأم عليها ولما قدم الأب
عليها، فدل على أن الخالة بمنزلة الأم في هذه القضية أي القضية المتقدم
ذكرها.
فالصحيح ما تقدم وهو اختيار شيخ الإسلام من أن جهة الأبوة مقدمة على جهة
الأمومة.
قال: [وإن امتنع من الحضانة أو كان غير أهل انتقلت إلى من بعده] .
إذا امتنع من له الحضانة، وله أن يمتنع لأن الحضانة حق له وليست حقاً عليه
في أصح قولي العلماء، فحينئذ تنتقل الحضانة إلى من بعده.
وقد اختلف أهل العلم في الحضانة هل هي حق
له أي للحاضن وعليه فله أن يتنازل عنها، وله أخذ الأجرة على خدمة الطفل إن
كان له أب، كالأم تأخذ أجرة على حضانة ابنتها إن كانت مطلقة، أم هي حق
عليه.
والصحيح أنها حق له وليست حقاً عليه، بدليل قوله - صلى الله عليه وسلم
-????أنت أحق به ما لم تنكحي) .
???والقولان هما قول في مذهب أحمد ومالك والراجح وهو اختيار ابن القيم وهو
المشهور في المذهب أنها حق للحاضن وليست حقاً عليه، ولذا فله أن يتنازل لكن
ليس معنى ذلك أن يستمر التنازل من شخص إلى آخر حتى يضيع الطفل، بل المراد،
أن له أن يتنازل إلى من بعده حيث كان هناك من يقوم بالطفل، ولم يترتب على
هذا التنازل تضييع واهلاك له.
??فإذا امتنع عن الحضانة أو كان غير أهل للحضانة كأن يكون فاسقاً أو كافراً
أو رقيقاً فإنها تنتقل إلى من بعده، لأن من بعده أحق بها ممن يليه وهكذا.
قال: [ولا حضانة لمن فيه رق] .
????فالحضانة لا تكون لمن فيه رق، فليس له حق في الحضانة في مذهب جمهور
العلماء.
وقال المالكية وهو اختيار ابن القيم وابن سعدي: إن له حقاً في الحضانة.
قالوا: إذ لا دليل يدل على إسقاط حقه عنها.
ولأنه أشفق من غيره فالأم إذا كانت رقيقة هي أشفق من الأب وإن كانت رقيقة.
والأرجح في هذه المسألة هو قول الجمهور من أنه لا حضانه لمن فيه رق.
وذلك لأن النبي - صلى الله عليه وسلم -?قال للمرأة: (أنت أحق به ما لم
تنكحي) فأسقط حقها بالنكاح وذلك لحق الزوج فإن المرأة تشتغل بحق زوجها
فكانت أحق به ما لم تنكح، وكذلك الرقيق مشغول بحق سيده ولا شك أن شغله بحق
سيده أعظم من شغل المرأة بحق زوجها.
قال: [ولا لفاسق] .
فالفاسق وإن كان أباً فلا حق له في الحضانة.
وذلك: لأنه لا يوثق بحضانته ولأن في حضانته ذريعة فساد الطفل وتربيته على
مساوئ الأخلاق، فلم يكن للفاسق حق في الحضانة، هذا هو مذهب جماهير أهل
العلم.
واختار ابن القيم وهو اختيار ابن سعدي من
متأخري الحنابلة، أن الفاسق له حق في الحضانة وقد قيدوا هذا في كلامهم
بالوالد وهذا هو الذي يقتضيه تعليلهم.
قالوا: وهو عليه العمل المستمر في الأعصار والأمصار وأن الحضانة تكون
للوالد أباً كان أو أماً وإن كان فاسقاً.
ولأن الناس في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم -?لم يكونوا يخلون من الفسق
ومع ذلك فلم يثبت أن النبي - صلى الله عليه وسلم -?نزع الحضانة عن أحمد ممن
ثبت فيه فسق، ولو كان هذا ثابتاً لنقل نقلاً بيناً ولأن الوالد وإن كان
فساقاً أعظم شفقة على ولده من غيره.
والذي يترجح لي من هذه المسألة والله أعلم، أن مرجع ذلك إلى نظر القاضي،
إذا رأى القاضي أن هذا الفاسق وإن كان أباً رأى أن حضانته مؤثرة على الابن،
وأن هناك من يقوم بالحضانة سواء كأن تكون له عمة أو يكون جد، أو أم أم أو
أم أب، فحينئذ يأخذ الحق من الأب إلى غيره حيث رأى ذلك.
وأما إن رأى أن المصلحة في إبقائه، وأن الأب مع فسقه فإنه يصونه عن مساوئ
الأخلاق ويقوم بتربيته مع فسقه أو أن يكون في نقل الحضانة عن الأب إفساد له
وتضييع له فحينئذ تكون المصلحة في إبقائه مع والده والله أعلم.
قال: [ولا لكافر على مسلم] .
فالكافر لا حضانة له على مسلم، لقوله تعالى: ((ولن يجعل الله للكافرين على
المؤمنين سبيلاً)) .
ولإن الكافر أبعد من استحقاق الفاسق، فالجمهور منعوا استحقاق الفاسق
للحضانة فهذا أولى ولأن الفتنة بالأب الكافر أو الأم الكافرة عظيمة جداً
فإن في ذلك فتنته عن دينه، وقد قال - صلى الله عليه وسلم -????فأبواه
يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه) .
ولا شك أن هذا القول ظاهر.
فعلى ذلك الكافر لا حضانة له، لا سيما بعد تمييزه أي حيث صار الطفل مميزاً
وأصبح متعلم يتلقى ويتعلم ويربى وإلا فإن المنع ظاهر مطلقاً.
قال رحمه الله: [ولا لمزوجة بأجنبي من محضون من حين عقد] .
لا حضانة للأم أو غيرها إن كانت متزوجة
بأجنبي من المحضون.
ومفهومه أن الأم وغيرها لا يسقط حقها في الحضانة إن تزوجت بقريب من الطفل
المحضون، ويدل عليه ما تقدم من قوله - صلى الله عليه وسلم -????الخالة
بمنزلة الأم) .
ولأن القريب له حق في الحضانة وله شفقة للقرابة تحمله على رعاية الطفل.
قال صاحب الفروع: ويتوجه إن كان الزوج ذا رحم وما هو ببعيد. ا. هـ.
أي ليس هذا القول ببعيد وهو كما قال.
فإذا تزوجت المرأة بذي رحم من المحضون كأن يتزوج المرأة، من ابن خالة زوجها
أو ابن خالته ونحو هؤلاء من ذوي الأرحام فكذلك لا يسقط حقها من الحضانة
وذلك لما تقدم لأن الرحم تحمله على رعاية هذا الطفل.
وله حق في الحضانة كما تقدم، كما أن لهم شفقة تحملهم على رعاية الطفل.
أما إذا تزوجت بأجنبي ليس بذي قرابة كما هو المشهور في المذهب وليس بذي رحم
كما وجه صاحب الفروع فإن حقها في الحضانة يسقط.
ويدل عليه قوله - صلى الله عليه وسلم -????أنت أحق به ما لم تنكحي) .
وظاهر اطلاق المؤلف في قوله???ولا لزوجة بأجنبي) أنها إذا تزوجت بأجنبي فلا
حق لها في الحضانة مطلقاً ولو رضي الزوج بأن تكون حاضنة لابنها.
واختار ابن القيم واختاره أيضاً ابن سعدي: أن الأم أحق إذا رضي الزوج وهكذا
كل من لها حق في الحضانة فهي أحق حيث كان الأمر كذلك أي إذا رضي الزوج.
وذلك لأن حقها إنما سقط لحق الزوج فإذا رضي الزوج بإسقاط حقه في حضانة هذه
المرأة فلا وجه لاسقاط حقها، وهذا هو القول الراجح.
?قال الشيخ عبد الرحمن بن سعدي: " وهو قياس المذهب في جميع الحقوق".
قوله: [من حين العقد] .
?????فإذا تزوجت المرأة فإن حقها بالحضانة يسقط من حين العقد، فبمجرد ما
يعقد عليها، فلا حق لها في الحضانة وهو ظاهر قول النبي - صلى الله عليه
وسلم -????أنت أحق به ما لم تنكحي) وهذا هو مذهب الجمهور واختيار ابن
القيم.
وقال المالكية: بل يكون ذلك بالدخول فلا يسقط حقها إلا بالدخول.
وذلك لأن شغلها بزوجها إنما يكون حينئذ أي
إذا دخل بها.
?والراجح هو الأول وهو مذهب الجمهور لظاهر قول النبي - صلى الله عليه وسلم
-????أنتِ أحق به ما لم تنكحي) .
ولأن العقد مظنة الإنشغال بأن تنشغل بالاستعداد لزوجها.
?قال: [فإن زال المانع رجع إلى حقه] .
فإذا زال المانع رجع كل إلى حقه.
فالفاسق إذا تاب رجع إلى حقه في الحضانة، والكافر إذا أسلم رجع إلى حقه في
الحضانة’
والمرأة المزوجة بأجنبي إذا طلقت ولو كان الطلاق رجعياً رجع حقها في
الحضانة، والعبد إذا اعتق رجع حقه في الحضانة.
وذلك لوجود السبب وزوال المانع.
قال: [وإن أراد أحد أبويه سفراً طويلاً إلى بلد بعيد ليسكنه وهو وطريقه
آمنان فحضانته لأبيه] .
???إذا أراد أحد أبويه لغير اضطرار سفراً طويلاً وهو السفر الذي تقصر فيه
الصلاة، إلى بلد بعيد ليسكنه فليس السفر لحاجة بل ليسكنه وهذا البلد وطريقه
آمنان فإنه حضانته تكون لأبيه، فإذا أراد الأب أن يسافر، ولم يقصد الضرار
لكن لو قصد الضرار بالمرأة كأن يكون الحق لها فيريد أن يسافر ليأخذ حقها
فحينئذ يعاقب بنقيض قصده ولا يمكن من أخذ الأحق من صاحبه بهذه الحيلة فإذا
كان الحق للأم وأراد الأب أن يسافر سفراً طويلاً وهذا السفر يقصد منه سكنى
البلد التي يسافر إليها، وتلك البلدة آمنة وطريقها آمن فحضانته لأبيه.
كذلك?لو أرادت الأم أن تسافر إلى بلد لتسكنه وهذه البلدة آمنة وطريقها في
السفر آمن فحضانته لأبيه.
وذلك لأن الأب في بلد آخر وحينئذ فتكون الحضانة له.
قالوا: لأن الأب هو الذي يؤدب ولده وهو الذي يحفظ نسبه فكان أولى بالحضانة،
هذا هو القول الأول وهو المشهور في المذهب?
والقول الثاني: وهو رواية عن الإمام أحمد: أن الحق للأم، وهو القول الراجح
في المسألة.
لقوله - صلى الله عليه وسلم -????أنتِ أحق
به ما لم تنكحي) والحديث فيه إطلاق فهي أحق به مطلقاً ما لم تنكح سواء
سافرت إلى بلد آخر أم لم تسافر، سافر الأب أم لم يسافر فالحديث مطلق إلا أن
تقتضي مصلحة الطفل ذلك مثلاً: أراد أن يطلق امرأته، وهي من بلد فيها فسق
وفجور، فأرادت أن تسافر إلى بلدها وهذا يضر بالطفل، وقد يضيع نسبه فحينئذ
لا تمكن من السفر.
وتكون الحضانة للأب وذلك لمصلحة الطفل.
إذن: الحق للأم ما لم تقتض المصلحة أن يكون الحق للأب.
قال: [وإن بعد السفر لحاجة أو قرب لها أو للسكنى فلأمه] .
إذا بعد السفر وكان للحاجة لا للسكنى أو كان السفر قريباً، أي سفر لا تقصر
فيه الصلاة، وكان ذلك لحاجة كأن يسافر لتجارة أو أن تسافر الأم لعلاج ونحو
ذلك فحينئذ تكون الحضانة للأم كما قال المؤلف هنا وهو قول في المذهب.
والمشهور في المذهب: أنها تكون للمقيم منهما وذلك لما في السفر من الأضرار
بالطفل.
والراجح: أنها للأم وذلك لإطلاق قول النبي - صلى الله عليه وسلم -????أنتِ
أحق به ما لم تنكحي) .
فإذا سافر سفراً قريباً أي لا تقصر فيه الصلاة للسكنى، فإن الحق يكون للأم
لقوله - صلى الله عليه وسلم -????أنتِ أحق به ما لم تنكحي) .
فإذا سافر سفراً قريباً أي لا تقصر فيه الصلاة للسكنى، فإن الحق يكون للأم
لقوله - صلى الله عليه وسلم -????أنتِ أحق به ما لم تنكحي) وهو المشهور في
المذهب.
قال: [وإذا بلغ الغلام سبع سنين عاقلاً خير من أبويه، فكان مع من أختار
منهما] .
إذا بلغ الغلام سبع سنين أي تم له سبع سنين فشرع في الثامنة فإنه يخير بين
أمه وأبيه فكان مع من اختار منهما لما ثبت عند الخمسة وصححه الترمذي وهو
كما قال أن امرأة قالت يا رسول الله إن زوجي يريد أن يذهب بابني وقد نفعني
وسقاني من بئر أبي عنبه، فجاء زوجها، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم
-???يا غلام هذا أبوك وهذه أمك فخذ بيد أيهما شئت فأخذ بيد أمه فانطلقت به)
.
هذا الحديث فيه أن الغلام إذا تم له سبع
فإنه يخير بين والديه، والطفل لا يسمى غلاماً إلا بعيد التمييز إذا تم له
سبع سنين والغلام يقال للذكر فإن اختار أباه كان عند أبيه ليلاً ونهاراً،
لكن لا يمنعه من زيارة أمه لما في ذلك من العقوق.
وإن اختار أمه فإنه يكون عندها ليلاً ويكون عند أبيه نهاراً ليعلمه ويؤدبه.
وله أن يغير اختياره، فيختار أباه، بعد أن اختار أمه ويختار أمه بعد ذلك
وهكذا وذلك لأن الاختيار هنا للتشهي لأنه قال: " فخذ بيد أبيهما شئت ".
قال: [ولا يقر بيد من لا يصونه ويصلحه] .
فلا يقر المحصنون بيد من لا يصونه ولا يصلحه ولو كان أباه وذلك لفوات مقصود
الحضانة، فإن مقصود الحضانة رعاية الطفل وتأديبه والقيام بمصالحه ودفع
المضار عنه، وإذا كان هذا لا يصونه ولا يصلحه فقد فات مقصود الحضانة.
ولذا فإن ما تقدم من الترجيح لأحد الأبوين حيث كانت مصلحة الطفل ثابتة في
حضانته عنده، أما إذا كان معطلاً للحضانة ولا يقوم بها وقد يكون يؤذي الطفل
أو يفوت عليه بعض المصالح أو تكون عنده امرأة زوجة فتضر بنات ضرتها وتؤديهن
ولا تقوم بما يصحلهن فإنها تنقل الحضانة إلى الأم فيكون المرجوح راجحاً.
قال: [وأبو الأنثى أحق بها بعد السبع] .
?????فالتخيير المتقدم إنما هو في الغلام.
وأما الأنثى فالأب أحق بها بعد السبع، فإذا تم للأنثى سبع سنين وشرعت في
الثامنة فلا تخير وإنما تكون عند أبيها وذلك لأن الأب أحفظ لها وأغير عليها
هذا هو المشهور في المذهب.
?والقول الثاني في المسألة وهو مذهب الجمهور وهو اختيار ابن القيم: أنها
تكون عند الأم، وهذا هو الراجح.
لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -????أنتِ أحق به ما لم تنكحي) .
والحديث فيه إطلاق وفيه عموم ولا يستثنى فيه إلا ما تقدم في الغلام، وأما
الأنثى فهي?داخلة في قوله: (أنتِ أحق به ما لم تنكحي) .
ولأن الأم أعلم بما يصلح ابنتها وأقوم بتربيتها وتعليمها ما تحتاج إليه من
شؤون النساء.
فالأرجح أنها تكون عند الأم وهذا كما تقدم
ما لم تكن الأم معطلة للقيام بالحضانة.
أو تفوت عليها مصالح ونحو ذلك فحينئذ يرجح الأب.
والأنثى لا تخير لوجهين:-
الوجه الأول: ضعف الرغبة في البنت، بخلاف الغلام فإن الرغبة فيه قوية.
فالبنت إذا اختارت أمها فإن هذا يقلل رغبة أبيها بها ويزهده بها، وكذلك إذا
اختارت أباها فإن هذا يزهد أمها بها، بخلاف الغلام.
الوجه الثاني: أن في تخييرها منافاة لكونها?تقر في بيتها، فإنها تختار من
شائت وهذا يجعلها تنتقل من بيت أبيها إلى بيت أمها وهكذا.
قال: [ويكون الذكر بعد رشده حيث شاء] .
فالذكر بعد أن يبلغ ويرشد يكون حيث شاء، فإن شاء عند أمه وإن شاء عند أبيه،
وذلك لأنه لا حضانة عليه.
فهو الذي يقوم بشأن نفسه.
قال: [والأنثى عند أبيها حتى يتسلمها زوجها] .
????فالأنثى تبقى عند أبيها حتى يتسلمها زوجها، وهذا على القول المتقدم، من
أن الأنثى أبوها أحق بها.
والصحيح أن الأنثى أمها أحق بها بعد السبع وعليه فتكون عند أمها حتى تتزوج.
|