شرح زاد
المستقنع للخليل باب صلاة الجمعة
• قال رحمه الله:
باب صلاة الجمعة.
يعني باب تبين فيه ألأحكام التي تتعلق بصلاة الجمعة.
والجمعة: لغة مشتقة من: الجمع الذي هو الاجتماع الذي هو ضد التفرق.
وفي الاصطلاح: لقب لفريضة تؤدى في الاسبوع مرة واحدة ركعتين بشروط مخصوصة
يوم الجمعة.
هكذا عرفوها وهي ولله الحمد واضحة لكل مسلم فضلاً عن طالب العلم.
وصلاة الجمعة مشروعة بالكتاب والسنة وإجماع أمة محمد صلى الله عليه وسلم لم
يخالف في هذا عالم أنها مشروعة مندوب إليها.
ويوم الجمعة هو أفضل أيام الأسبوع كما أن يوم عرفة أو يوم النحر على الخلاف
هو أفضل أيام السنة.
واختلف العلماء في سبب تسمية يوم الجمعة بهذا الاسم على أقوال كثيرة أصح
هذه الأقوال:
- أنه جمع فيه خلق آدم.
سبب الترجيح: أنه روي في هذا المعنى حديث إسناده حسن.
وكانت تسمى في الجاهلية العروبة.
ومما ينبغي أن يفهمه طالب العلن أن صلاة الجمعة صلاة مستقلة ليست هي صلاة
الظهر فلها أحكام مستقلة وصفات وشروط خاصة.
• قال رحمه الله:
تلزم: كل ذكر.
صلاة الجمعة فرض عين وإلى هذا ذهب الجمهور بل حكي إجماعاً.
ونسب القول بأن صلاة الجمعة فرض كفاية إلى الشذوذ والخروج عن الجماعة.
والصواب بلا شك أن صلاة الجمعة فرض عين على كل مسلم وأن الخلاف فيها لا
يشبه الخلاف في صلاة الجماعة كما يتوهمه البعض بل صلاة الجمعة فرض عين هلى
كل مسلم بإجماع الفقهاء إلا من شذ.
قال: تلزم كل ذكر: يعني ولا تلزم المرأة. وكون صلاة الجمعة لا تلزم المرأة
محل إجماع وإن شئت أن نقول اشتراط الذكورية لوجوب الجمعة محل إجماع لأن
المرأة ليست من أهل الجماعة.
والمرأة لا يجب عليها صلاة الجمعة ولا
تنعقد بها مستقلة فلو اجتمع خمسون من النساء وأرادوا أن يصلوا الجمعة
منفردات فصلاة الجمعة بالنسبة لهم باطلة ويجب أن يصلوا ظهراً.
فاشتراط الذكورية شرط وجوب وشرط انعقاد بالنسبة للمنفردات.
• ثم قال رحمه الله:
حر.
المؤلف رحمه الله في سياق بيان شروط الوجوب.
- فالشرط الأول للوجوب الذكورية.
- والشرط الثاني: الحرية.
= ذهب الجمهور إلى أن العبد لا تجب عليه الجمعة. واستدلوا بدليلين:
- الدليل الأول: أن العبد محبوس على سيده ومنافعه لسيده فالوقت ملك لسيده.
- والدليل الثاني: وهو حديث طارق: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
(الجمعة حق واجب على كل مسلم إلا على أربعة: العبد المملوك والمرأة والصبي
والمريض)
وهذا الحديث ضعفه بعض العلماء. سبب التضعيف أن الحافظ أبي داود ذكر أن طارق
رضي الله عنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم ولم يسمع منه. فقالوا الحديث
ضعيف.
=القول الثاني: أن الحديث صحيح لأن غاية ما هنالك أن يكون مرسل صحابي
ومراسيل الصحابة حجة وقد حكي الإجماع على ذلك.
والصواب والله أعلم أن هذا الحديث ثابت وممن صحح هذا الحديث الحافظ البيهقي
وكفى به إماماً رحمه الله.
ومن ذهب إلى تضعيفه من المعاصرين أو من المتقدمين فقوله ليس بصواب فإن هذا
الحديث ثابت ولو كان طارق لم يسمع من النبي صلى الله عليه وسلم ولكنه يجزم
بنسبة هذا الكلام إلى النبي صلى الله عليه وسلم ومراسيل الصحابة حجة بلا
شك.
= القول الثاني: أن الصلاىة تجب على العبد لأن الله سبحانه وتعالى أمر بها
بلفظ عام يشمل العبد وغير العبد وقالوا أن حديث طارق ضعيف.
وإلى هذا ذهبت الظاهرية واختاره الشيخ ابن سعدي.
والصواب مع الجمهور وهو أن صلاة الجمعة لا تجب على العبد وعدم وجوبها على
العبد مذهب الأئمة الأربعة فضلاً عن الجمهور وهو الصواب إن شاء الله لصحة
الحديث.
•
ثم قال رحمه الله:
مكلف مسلم.
يشترط لوجوب صلاة الجمعة أن يكون الإنسان مسلم بالغ عاقل وهي شروط التكليف.
والدليل على اشتراط هذا الشرط من ثلاثة أوجه:
- الأول: الإجماع. فقد أجمعوا على أنه شرط لصحة صلاة الجمعة.
- الثاني: قول النبي صلى الله عليه وسلم:
(رفع القلم عن ثلاثة .. )
- الثالث: قول النبي صلى الله عليه وسلم لمعاذ: (فليكن أول ما تدعوهم إليه
شهادة أن لا إله إلا الله .. ) ثم أمره بفروع الإسلام.
= وذهب بعض الفقهاء إلى أن ذكر هذه الشروط في صلاة الجمعة ليس بصحيح. يعني:
ينبغي أن لا تذكر.
والتعليل: - أن القاعدة تقول: ((أن شرط الشيء هو ما يختص به)) أو بعبارةو
أخرى: ((لا يعتبر الشيء شرطاً في شيء إلا إذا اختص به)) وهذه الشروط شرط
لكل العبادات فأي عبادة لا تصح إلا بهذه الشروط فإذاً هي لا تختص بصلاة
الجمعة.
وهذه القاعدة صحيحة تماماً ولهذا نقول من لم يذكر هذه الشروط مع شروط
الجمعة من الفقهاء أصاب لا لأنها ليست شروطاً ولكن لأنها لا تختص بالجمعة.
• ثم قال رحمه الله:
مستوطن ببناء اسمه واحد ولو تفرق.
يشترط لوجوب الجمعة أن يكون الإنسان مستوطناً وألأن يكون هذا الاستيطان
ببناء ولو تفرق لكن لا بد أن يكون ببناء.
فإن استوطنوا بخيام أو ببيوت الشعر لم تجب عليهم.
مسألة تحديد نوع البناء والمكان الذي يشترط لصحة الجمعة سيأتينا في شروط
الصحة والانعقاد فلا نطيل فيه.
لكن نبقى في شرط الاستيطان يقسم الحنابلة الناس إلى ثلاثة أقسام:
الأول: - مستوطن: وهو من نوى الإقامة الأبدية في هذا المكان بحيث لا ينزح
عنه صيفاً ولا شتاءً.
الثاني: - مقيم: وهو من مكث في مدينة ناوياً أكثر من أربعة أيام.
الثالث: - المسافر: وهو من مكث في مدينة أقل من أربعة أيام.
نأتي إلى الأحكام:
- المستوطن: تجب عليه بالإجماع بشروطها.
- والمقيم: تجب عليه بغيره لا بنفسه.
- والمسافر لا تجب عليه لا بغيره ولا بنفسه.
إذاً لكل قسم من هذه الأقسام الثلاثة حكم خاص.
فالمستوطن تجب عليه والمقيم تجب عليه بغيره لا بنفسه والمسافر لا تجب عليه
لا بغيره ولا بنفسه.
يناءً على هذا:
- من قدم إلى مدينة الرياض ناوياً أن يقيم فيها يوم وهو يوم الجمعة وأذن
لصلاة الجمعة فعند الحنابلة لا تجب عليه لأنه مسافر.
- فإن كان الإقامة أكثر من أربعة أيام فنقول:
- إن أقيمت الجمعة من مستوطنين فيجب عليك أن تصلي معهم وهذا معنى قولهم تجب
عليه بغيره لا بنفسه.
- وإن لم تقم صلاة الجمعة لم يجب عليك أن
تقيمها أنت ولا من معك من المسافرين ولو كانوا يبلغون أربعين.
والمستوطن أمره واضح.
= والقول الثاني: أن الناس ينقسمون إلى قسمين فقط:
- مستوطن.
- ومسافر.
وأن المسافر: تجب عليه تبعاً لغيره مطلقاً. فإذا أقيمت وجب عليه أن يحضر
وأن يصلي فإن لم يفعل فهو آثم.
إذاً القول الثاني: يخالف الحنابلة في مسألتين:
- المسألة الأولى: تقسيم الناس.
- والمسألة الثانية: أن جميع الناس تجب عليهم إذا أقيمت. سواء كان مسافراً
أو غير مسافر فمن كان موجوداً في المدينة وأقيمت صلاة الجمعة فيجب عليهم أن
يحضروها فإن لم يفعلوا أثموا.
إذاً عرفنا الآن معنى قول المؤلف رحمه الله: مستوطن ببناء اسمه واحد ولو
تفرق.
والراجح القول الثاني. لعموم الأدلة.
•
ثم قال رحمه الله:
ليس بينه وبين موضعها أكثر من فرسخ.
يشترط لوجوب صلاة الجمعة أن لا يكون بين المسلم وبين المسجد أكثر من فرسخ.
فإن كان بينه وبين المسجد أكثر من فرسخ لم تجب عليه.
وهذا الشرط خاص بمن كان خارج المدينة.
أما من كان داخل المدينة فيجب عليه أن يجيب بالإجماع سواء كان بينه وبين
الجامع فرسخ أو أكثر أو أربعة أو خمسة فيجب عليه مطلقاً أن يجيب ولو لم
يسمع النداء بالنسبة لصلاة الجمعة وهذا بالإجماع.
إذاً الكلام الآن بالنسبة لهذا الشرط يتعلق بمن كان خارج المدينة.
دليل هذا الشرط:
- قالوا: أن الفرسخ ثبت بالعادة والتجربة أنه يسمع منه النداء في الأحوال
الطبيعية ولا يمكن أن نعلق وجوب الصلاة بسماع النداء الحقيقي لأن سماع
النداء الحقيقي يختلف باختلاف الأحوال:
- فيختلف بوجود الأصوات وعدمها.
- ويختلف بوجود الريح وعدمها.
- ويختلف بمقدار رفع المؤذن صوته وعدمه.
فصارت الأشياء التي تتحكم بسماع الآذان غالباً تكون هذه الثلاثة أشياء.
فقالوا: ربط الوجوب بسماع الآذان لا ينضبط بسبب الاختلاف الحاصل بسبب هذه
القرائن التي تحتف بالآذان فنربطه بما يسمع غالباً. قالوا: وهو فرسخ.
وتقدم معنا: أن ثلاثة فراسخ تساوي ستة عشر كيلو. إذاً الفرسخ خمسة كيلو
ونصف.
فإذا كان الإنسان عن القرية أو عن المسجد بعده خمسة كيلو ونصف فيب عليه فإن
كان ستة لم يجب عليه.
والتقييد بالفرسخ مذهب الأئمة الثلاثة:
أحمد والشافعي ومالك.
لكن بعض الناس يقول أن مذهب مالك أنه يقيد بثلاثة أميال ونحن أخذنا أن
الفرسخ يساوي ثلاثة أميال فصارت الأقوال واحدة فمن العبث أن نقول القول
الأول فرسخ ولقول الثاني ثلاثة أميال فإنها نفس الشيء.
= المهم أن مذهب الأئمة الثلاثة فرسخ.
= القول الثاني: أن من كان خارج المدينة لا تجب عليه الجمعة مطلقاً وهو
مذهب الأحناف.
وهو قول ضعيف لأمرين:
- الأول: عموم الآية: {يا أيها الذين آمنوا إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة
فاسعوا إلى ذكر الله.} وهذا السعي واجب على كل من سمع ولو كان خارج
المدينة.
- الثاني: أن أهل العوالي وقد كانوا خارج المدينة كانوا يُجَمِّعُون مع
النبي صلى الله عليه وسلم.
فإذاً مذهب الأحناف المقابل لمذهب الجمهور ضعيف.
وتحديد الجمهور بفرسخ في الحقيقة ينضبط وجيد ولا تظن أن هذا يتعارض مع
تحديده بسماع النداء ولكنه في الحقيقة ضابط يضبط للإنسان متى يسمع النداء
ومتى لا يسمع ولذلك إذا سألت الآن وقيل لك:
- نحن في استراحة لا ندري هل تجب علينا الجماعة أو لا تجب؟
فتقول: إذا كنتم تسمعون النداء فتجب وإذا كنتم لا تسمعون النداء فلا تجب.
ويجب أن يكون النداء بلا مكبر للصوت.
- فيقول: لا ندري لو كان بلا مكبر هل نسمع أو لا نسمع؟
فتقول الضابط تقريباً هو خمسة كيلوات ونصف.
لأنه مع هذه المسافةو يمكن سماع الآذان. وهذا في الحقيقة ضابط ومريح للناس
كلهم ويضبط لهم متى تجب عليهم صلاة الجمعة ومتى لا تجب.
نرجع إلى كلام المؤلف:
• يقول رحمه الله:
ولا تجب على مسافر: سفر قصر.
المسافر لا تجب عليه صلاة الجماعة.
والدليل على ذلك:
- ان النبي صلى الله عليه وسلم سافر مراراً وتكراراً - سافر للعمرة ثلاث
مرات سوى العمرة التي مع الحج وخرج غازياً صلى الله عليه وسلم نحواً من
عشرين غزاة فمجموع هذه السفريات تقريباً ثلاثة وعشرين سفرة مع حجة الوداع
تكون أربعة وعشرين سفرة وربما لو تتبع الإنسان السيرة وجد عدد أكبر من ذلك
ومع ذلك لم ينقل عنه أحد قط من أصحابه أنه صلى الله عليه وسلم صلى في السفر
أبداً ولا في حجة الوداع.
فهذا دليل على أن صلاة الجمعة لا تجب على
المسافر ولا تشرع له إذا كان مسافراً سائراً وإنما تجب عليه وتشرع له إذا
أقامها غيره.
•
ثم قال رحمه الله:
ولا عبد ولا امرأة.
تقدم معنا الخلاف في العبد وفي المرأة.
وأن المرأة محل إجماع.
وأن العبد محل خلاف. وأن الصواب إن شاء الله أنها لا تجب على العبد.
• ثم قال رحمه الله:
ومن حضرها منهم: أجزأته.
يعني إذا حضر الجمعة المسافر أو العبد أو المرأة فإنها تجزأهم إجماعاً.
والتعليل: - أن الجمعة إنما سقطت عنهم تسهيلاً عليهم وإعذاراً لهم فإذا
حضروها أجزأت عنهم بلا خلاف.
• ثم قال رحمه الله:
ولم تنعقد به.
معنى لم تنعقد بهم أي لم يحسبوا في تكميل العدد المشترط ولا يجوز أن
يقيموها منفردين.
والدليل: - قالوا: أن هؤلاء ليسوا من أهل الوجوب فلا يعتبروا في العدد ولا
يقيموها بدون غيرهم.
بناء على هذا: الطلاب الذين يدرسون في الغرب واجتمعوا في مكان معين وحكمنا
على وضعهم أنهم مسافرون فإنه لا يجوز لهم أن يقيموا الجمعة فإن أقاموها لم
تنعقد بهم. لأنهم ليسوا من أهل الوجوب.
هذا إذا اعتبرناهم مسافرين.
الخلاصة: أن المرأة والعبد والمسافر لا تنعقد بهم ومعنى لا تنعقد بهم أي:
أنهم لا يحسبوا ضمن العدد المشترط ولا يمكن أن يقيموها منفردين.
- أما بالنسبة للمرأة فهو محل إجماع - هذا الذي نقرره. محل إجماع عند
الحنابلة وغيرهم.
- إنما الخلاف في العبد والمسافر.
= والقول الثاني في العبد والمسافر: أنها تنعقد بهم.
الدليل: - أنهم مكلفون تصح منهم الصلاة فتنعقد بهم.
وهذا القول هو القول الصحيح في إكمال العدد بالنسبة للمسافر دون إقامتها
منفردين فلا يشرع.
أما العبد: ففي إكمال العدد منفردين لأنه في رواية عن الإمام أحمد: تنعقد
به ويجوز أن يؤم ولو قلنا بعدم الوجوب. وهي الأرجح.
• ثم قال رحمه الله:
ولم يصح أن يؤم فيها.
يعني: ولا يصح أن يكون العبد إماماً ولا المسافر وبطبيعة الحال ولا المرأة.
- أما إمامة المرأة فتقدم معنا الكلام فيها وأن الجماهير بل إن ابن حزم حكى
الإجماع على أن إمامة المرأة لا تصح.
- أما إمامة العبد والمسافر فالخلاف فيها كالخلاف في مسألة الانعقاد
تماماً. من حيث الأدلة والترجيح.
والصواب. ما تقدم أنه يصح أن يكون إماماً.
لأن من صحة صلاته صحت إمامته.
• ثم قال رحمه الله:
ومن سقطت عنه لعذر: وجبت عليه وانعقدت به.
يعني: إذا سقطت صلاة الجمعة عن شخص لعذر من الأعذار كالمرض ثم حضر المسجد
فإنه إذا حضر المسجد وجبت عليه وأيضاً انعقدت به.
مثاله: لو حضر إلى المسجد تسعةوثلاثون رجلاً والمريض الذي يكمل الأربعين في
البيت ثم تحامل على نفسه ودخل المسجد الجامع حينئذ نقول يجب عليك أن تصلي
ويجب على الناس أن يصلوا لأن العدد انعقد بمجيئك.
التعليل:
- قالوا إنما رفع عنه الوجوب للمشقة الحاصلة بخروجه إلى المسجد فإذا خرج
وأصبح في المسجد فلا مشقة لأنه الآن في المسجد فتجب عليه وهذا صحيح بلا
إشكال.
يستثنى من هذا الحكم صورة واحدة وهي: ما إذا تحامل على نفسه ودخل المسجد
ووجبت عليه وصلوا جماعة ثم طرأ عليه من العذر ما لا يستطيع معه أن يبقى
فحينئذ يرتفع الوجوب مرة أخرى ويجوز له أن يخرج إلى بيته ولو أدى ذلك إلى
إبطال الجمعة بتخلف شرط العدد.
وشرط العدد سيأتينا الكلام عنه وعن ما هيته وأدلته.
• ثم قال رحمه الله:
ومن صلى الظهر ممن عليه حضور الجمعة قبل صلاة الإمام: لم تصح.
يعني إذا وجبت على الإنسان صلاة الجمعة ثم خالف ولم يصل الجمعة فهو آثم هذا
أولاً.
وثانياً: إن صلى الظهر قبل أن يصلي الإمام الجمعة بطلت صلاة الظهر بالنسبة
له. ثم إذا بطلت نقول له: انظر إن كان يمكن أن تدرك الجمعة وجب عليك السعي
إليها وإن قدرت أنه لا يمكن أن تدرك الجمعة لبعد مثلاً فيجب عليك أن تنتظر
إلى أن يصلي الإمام الجمعة ثم تصلي بعد ذلك الظهر.
إذاً ما يريد المؤلف جواز التخلف فإنه إذا تخلف فهو آثم لكن يريد المؤلف أن
يبين حكم صلاة الظهر بالنبة لمن صلاها قبل الإمام وهي تجب عليه.
الدليل: - أنه ترك ما أمر به وفعل ما لا يؤمر به: والنبي صلى الله عليه
وسلم يقول: (كل فعل ليس عليه أمرنا فهو رد) أي مردود باطل.
وهذا الحكم صحيح وما استدل به الحنابلة صحيح.
بناءً على هذا نقول: لمن تخلف عن صلاة
الجمعة وصلى الظهر قبل أن يصلي الناس نقول: - أنت آثم بترك الجمعة. - وصلاة
الظهر التي صليتها باطلة ويجب عليك أن تعيد صلاة الظهر مرة أخرى لأن تلك
الصلاة باطلة. وهذا ما لا يتفطن له كثير من الناس الذين يتركون صلاة الجمعة
- نسأل الله العافية والسلامة - ويصلونها ظهراً في بيوتهم.
• ثم قال رحمه الله:
وتصح: ممن لا تجب عليه.
يعني: إذا صلى من لا تجب عليه صلاة الجمعة إما لكونه عبداً أو لكونه امرأة
أو لكونه مريض أو لأي عذر من الأعذار إذا صلى فصلاته صحيحة ولو كانت قبل
صلاة الجمعة.
التعليل: - أن هذا الرجل صلى ما فرض الله عليه فصلاته صحيحة لأن هذا الرجل
إنما فرض الله عليه الظهر بينما ذاك الرجل - المتخلف - أن ما فرض الله عليه
الجمعة لا الظهر.
• ثم قال رحمه الله:
والأفضل حتى يصلي الإمام.
يعني: والأفضل لمن لم تجب عليه صلاة الجمعة لعذر أن يؤخر صلاة الظهر حتى
يصلي الإمام وعلل الحنابلة ذلك بأنه ربما يزول العذر فتجب عليه صلاة
الجمعة.
إذاً: نقول أن هذا الاستحباب ينبغي أن يقيد بمن يظن زوال العذر مثل ماذا؟
مثل: المريض.
وأما من لا يمكن أن يزول عنه هذا الوصف فلا تتعلق به هذه الأفضلية مثل من؟
مثل: المرأة فإنه لا يتصور فيها هذا الحكم.
مثال آخر: كالمريض الذي لا يتصور أن يشفى بساعة أو بساعتين فهذا أيضاً
نقول: يمكن أن يصلي ولا يشترط أن ينتظر لأنه إذا صلى في أول الوقت فسيحصل
فضيلة الصلاة أول الوقت فلا نأمره بالانتظار إلا إذا ظننا أنه يمكن أن
يشفى.
• قال رحمه الله:
ولا يجوز لمن تلزمه: السفر في يومها بعد الزوال.
يعني لا يجوز للإنسان الذي تلزمه صلاة الجمعة أن يسافر بعد الزوال.
= وهذا مذهب الجمهور.
واستدلوا على ذلك: - بأن هذا السفر يؤدي إلى تضييع الواجب.
= والقول الثاني: أنه لا يجوز السفر في حالين:
- بعد الزوال.
- وإذا سمع النداء ولو كان قبل الزوال.
وهذا القول اختاره الطوفي.
= وهناك قول ثالث: ذكره شيخنا رحمه الله في الممتع ولا أدري من قال به: وهو
أنه يقول: أنه لا يجوز السفر إذا سمع الإنسان النداء فنعلق الحكم بسماع
النداء لا بالزوال.
أي القولين أحوط: (أضيق).
ما اختاره الطوفي أو القول الأخير؟ ما
اختاره الطوفي لأنه يقول: حتى لو لم تزل إذا سمعت النداء. أما إذا زالت فلا
إشكال.
بينما شيخنا يعلقه بالنداء: فإذا زالت الشمس ولم يؤذن وليس في هذه المدينة
إلا مسجد واحد فهل يجوز أن يسافر؟ يجوز.
والصواب في الحقيقة: ما اختاره الطوفي. السبب؟ السبب: أن الزوال هو بحد
ذاته هو سبب الوجوب فإذا زالت الشمس وجبت الصلاة ولو لم تسمع النداء.
ولذلك لو كان الإنسان مسافراً وزالت الشمس ولم يسمع نداءً مطلقاً فهل يجب
عليه أن يصلي الظهر؟ نعم. يجب تتعلق بذمته. كذلك نقول إذا زالت الشمس يوم
الجمعة فقد وجبت صلاة الجمعة عليه سواء سمع النداء أو لم يسمعه.
وفهم من كلام المؤلف رحمه الله أن السفر قبل الزوال جائز. وهو صحيح. فإنه
جائز لكن مع ذلك قال الإمام أحمد رحمه الله: قل من سافر قبل الزوال يوم
الجمعة إلا ويرى ما يكره. يقول هكذا رحمه الله. لكن من حيث الأدلة فالسفر
قبل الزوال جائز.
= والقول الثاني: أن السفر يوم الجمعة جائز قبل وبعد الزوال. وهو مذهب
الأحناف.
واستدلوا: - بقول عمر بن الخطاب رضي الله عنه الجمعة لا تمنع السفر.
والجواب عليه: أولاً ينظر في ثبوته فإن كان ثابتاً. فإنه يحمل على ما كان
قبل الزوال.
والصواب هو ما اختاره الطوفي - كما قلت لكم - لأن السفر في هذه الحالة يؤدي
إلى تضييع الواجب. والله سبحانه وتعالى نهى عن البيع والشراء إذا سمع
النداء فكيف بالسفر فإن السفر من باب أولى أنه يضيع صلاة الجمعة تضييعاً
كاملاً بخلاف البيع والشراء فقد يضيع تضييعاً جزئياً بالتأخير.
وبهذا انتهى الفصل الأول من باب صلاة الجمعة. ونتوقف عند هذا الفاصل .....
.
انتهى الدرس،،،
فصل
[شروط صحة صلاة الجمعة]
قال شيخنا حفظه الله:
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله
وأصحابه أجمعين.
لما أنهى المؤلف الكلام عن شروط الوجوب بدأ بالحديث عن شروط الصحة. وشروطك
الصحة عند الحنابلة أربعة ويأتينا الكلام مفصلاً عن كل شرط من هذه الشروط.
وبدأ المؤلف ببيان شرط ليس من الشروط:
• فقال رحمه الله:
يشترط لصحتها: شروطٌ ليس منها إذن الإمام.
يعني أنه لا يشترط لصحة الجمعة أن يأذن الإمام بالصلاة. بل يجب أن يصلوا
ولو لم يأذن لأنها فريضة ومن شعائر الإسلام الظاهرة فتصلى بكل حال.
والدليل على أن إذن الإمام ليس بشرط:
- الدليل الأول: أن علي بن أبي طالب رضي الله عنه لما حبس عثمان رضي الله
عنه في بيته صلى بالناس الجمعة وأقره عثمان وأقره جميع الصحابة فهو
كالإجماع بينهم مع العلم أنه لم يأذن له بسبب الحبس.
- الدليل الثاني: أن الفتنة بقيت سنين في الشام بين أمير المؤمنين علي بن
أبي طالب رضي الله عنه وأمير المؤمنين معاوية رضي الله عنه وكانوا يصلون
الجمعة في أثناء الفتنة بلا إذن إمام.
فهذا الأمر واضح وأدلته قوية ومن أقوى الأدلة الأثر الثابت عن علي وعثمان
رضي الله عنهما أيام حصر عثمان في البيت.
ثم بدأ رحمه الله بالشرط الأول:
• فقال رحمه الله:
أحدها: الوقت.
الشرط الأول من شروط صحة صلاة الجمعة: الوقت.
وكون الوقت شرط من شروط صحة صلاة الجمعة أمر متفق عليه وبالإجماع ولكن
الخلاف في التفاصيل. أما أن الوقت شرط فهو أمر مجمع عليه:
- لأن الله سبحانه وتعالى بين أن الصلاة مقدرة بأوقات محدودة بها لا يجوز
أن تصلى إلا فيها.
- وأيضاً: للأحاديث التي ستأتينا أثناء الكلام عن الخلاف في وقت الجمعة فإن
هذه الأحاديث جميعاً تدل على اشتراط الوقت من حيث هو أما تحديده فسيأتينا
أنه محل خلاف ,
• قال رحمه الله:
وأوله أول وقت صلاة العيد.
أول الوقت عند الحنابلة يبدأ من نفس الوقت الذي يبدأ منه صلاة العيد وهو
بعد ارتفاع الشمس قدر رمح.
وهذا القول تفرد به الحنابلة من بين الأئمة الأربعة. فهو من المفردات.
ويقسم الحنابلة الوقت إلى:
- وقت جواز.
- ووقت وجوب.
فوقت الجواز يبدأ من ارتفاع الشمس قدر رمح.
ووقت الوجوب من الزوال.
الذي تفرد به الحنابلة هو أن وقت الجواز يبدأ من ارتفاع الشمس قدر رمح.
استدل الحنابلة على هذا بأدلة كثيرة:
- الدليل الأول: أن الصحابة قالوا: (ما كنا نقيل ولا نتغدى إلا بعد
الجمعة). ولا يسمى الغداء ولا القيلولة إلا إذا كانت قبل الزوال.
- الدليل الثاني: قول الصحابة: (كنا نصلي مع النبي صلى الله عليه وسلم ثم
نذهب إلى رواحلنا حين تزول الشمس. يعني أن الصلاة كانت قبل الزوال.
- الدليل الثالث: ما رواه سهل رضي الله عنه أنه قال: (صليت مع أبي بكر قبل
منتصف النهار وصليت مع قريباً من منتصف النهار وصليت مع عثمان حين زالت
الشمس). فكون أبو بكر الصديق وعمر بن الخطاب رضي الله عنهما يصلون قبل
الزوال ويوافقهم جميع الصحابة فهذا دليل على أن هذا الوقت وقت جواز.
وهذا الأثر اختلفوا في تصحيحه وتضعيفه:
= فذهب إلى ضعفه البخاري وابن المنذر.
= وذهب إلى صحته الإمام أحمد حيث احتج به ومال إلى تصحيحه أيضاً الحافظ
الكبير المحقق ابن رجب رحمه الله.
والصواب - إن شاء الله - مع الإمام أحمد وابن رجب فهذا الأثر أثر صحيح يحتج
به. وقال الإمام ابن رجب رحمه الله: والإمام أحمد أعلم برجال هذا الحديث من
البخاري.
= والقول الثاني: أنه لا يجوز أن تصلى الجمعة إلا بعد الزوال.
- لحديث: (أنهم كانوا يصلون مع النبي صلى الله عليه وسلم بعد الزوال).وقد
جاء هذا الفظ عن صحابيين في الصحيح.
= والقول الثالث - والأخير -: أنه تجوز صلاة الجمعة في الساعة السادسة فقط
ولا تجوز في أول النهار.
والساعة السادسة هي الساعة التي تسبق الزوال تماماً.
واستدلوا على هذا:
- بأن الآثار والأدلة التي ذكرها الحنابلة كلها تفيد أن الصلاة كانت قريباً
من الزوال.
فإذا تأملت كل واحد من هذه الأحاديث فستجد أنه تفيد أن صلاته صلى الله عليه
وسلم كانت قبل الزوال وقريباً منه.
- واستدلوا بدليل آخر وهو حديث أبي هريرة رضي الله عنه: (من اغتسل يوم
الجمعة ثم خرج في الساعة الأولى فكأنما قرب بدنة) ثم قال: الساعة الثانية
والساعة الثالثة والرابعة والخامسة ثم بعد الخامسة قال: (فإذا دخل الإمام
.. ) فدل هذا الحديث على أمرين:
- الأمر الأول: أن الإمام يمكن أن يدخل قبل الزوال.
- والأمر الثاني: أن الساعة السادسة قبل الزوال.
وإلى هذا القول ذهب من المحققين ابن قدامة رحمه الله.
وهذا القول هو الصواب. أنه يجوز أن يصلي الإنسان قبل الزوال ولكن في الساعة
السادسة فقط.
فإذا أردنا أن نعرف الساعة السادسة نقسم ما
بين طلوع الفجر إلى الزوال ست ساعات ففي الساعة السادسة تكون هي التي يجوز
فيها أن يصلي.
والقول بجواز الصلاة في الساعة السادسة أيضاً من المفردات كما أن القول
الأول من المفردات وهو رواية عن الإمام أحمد وهو من المفردات.
والذي أراه أن الصلاة تجوز في الساعة السادسة تجوز بلا حرج ولا تردد لصحة
الآثار وكثرتها الدالة على جواز إقامة الجمعة قبل الزوال قريباً من الزوال.
إذاً عرفنا الآن أول وقت صلاة الجمعة.
• ثم قال رحمه الله:
وآخره آخر وقت صلاة الظهر.
يعني ينتهي وقت الجمعة بانتهاء وقت صلاة الظهر وهذا أمر مجمع عليه: أن وقت
صلاة الجمعة ينتهي بانتهاء وقت صلاة الظهر وهذا هو الشيء المتفق عليه بين
أهل العلم. أما متى ينتهي وقت صلاة الظهر فهو محل خلاف وتقدم معنا.
• ثم قال رحمه الله:
فإن خرج وقتها قبل التحريمة: صلوا ظهراً.
يعني: إذا خرج وقت صلاة الجمعة قبل أن يكبر الإمام للتحريمة فقد فاتت
الجمعة ويجب عليهم أن يصلوها ظهراً.
والدليل: من وجهين:
- الأول: الإجماع.
- الثاني: لفوات الشرط. وهو الوقت فإذا فات شرط الوقت وهو شرط صحة لم يمكن
تصحيح صلاة الجمعة فوجب أن يصلوها ظهراً.
وهذا الأمر لا إشكال فيه ولذلك هو محل إجماع.
• ثم قال رحمه الله:
وإلاّ فجمعة.
أي: وإن أدركوا منها قدر التحريمة صحت جمعة فيصلون ركعتين.
= وهذا مذهب الحنابلة.
فإذا كبر قبل خروج الوقت بثلاث دقائق - على سبيل المثال - صحت جمعة.
= والقول الثاني: وهو رواية عن الإمام أحمد أنهم لا يدركون الصلاة جمعة إلا
بإدراك ركعة.
- لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (من أدرك ركعة من الصلاة فقد أدرك
الصلاة) وهذا في الصحيح. وفي رواية خارج الصحيح ضعيفة: (من أدرك ركعة من
الجمعة فقد أدرك الجمعة). لكن الحديث الأول يكفي.
وإلى هذا القول أيضاً ذهب ابن قدامة رحمه الله. وهو الأقرب إن شاء الله.
فإذا لم يدركوا من الوقت قدر ركعة صلوها ظهراً.
•
ثم قال رحمه الله: - مبيناً الشرط الثاني:
الثاني: حضور أربعين من أهل وجوبها.
يشترط لصحة الجمعة: الجماعة - أي العدد -.
ويشترط لهؤلاء: أن يكونوا من أهل الوجوب.
لذلك يقول رحمه الله: من أهل وجوبها. وقد بين رحمه الله أهل الوجوب عند
قوله: (تلزم كل ذكر حر ... ) إلى آخره.
وكونه يشترط لصلاة الجمعة العدد أو الجماعة أمر متفق عليه بين الفقهاء إلا
من شذ ولم يعتبر بقوله.
لكنهم اختلفوا في العدد المشروط - فهم اتفقوا على اشتراط العدد واختلفوا
فيه - على أقوال كثيرة أوصلها الحافظ بن حجر إلى خمسة عشر قولاً نأخذ منها
فقط رؤوس الأقوال القوية:
= فالحنابلة: يرون أنه يشترط حضور أربعين من أهل الوجوب. فإن قَلَّ العدد
عن هذا بواحد لم تصح جمعة.
واستدلوا على هذا:
- بأن أول جمعة صليت بالمدينة صلى فيها أربعون من أهل الوجوب.
والجواب على هذا الدليل: أن هذه الواقعة واقعة عين لا عموم لها فربما لو
كانوا أكثر أو أقل لصحت الصلاة.
والقاعدة الأصولية تقول: ((وقائع الأعيان لا عموم لها)).
- واستدلوا بأحاديث فيها النص على اشتراط حضور أربعين. وكل حديث فيه النص
على اشتراط حضور أربعين فهو ضعيف وبذلك ننتهي من مناقشة كل حديث.
= القول الثاني: وهو مذهب المالكية. قالوا: أنه لابد من حضور اثنار عشر
رجلاً. فإن قَلُّوا عن هذا العدد لم تصح.
واستدلوا على هذا:
- بأن النبي صلى الله عليه وسلم خطب بأصحابه يوماً وقد كانوا ينتظرون عيراً
تقدم من الشام فلما قدمت انفضوا إليها ولم يبلق معه إلا اثنا عشر رجلاً ومع
ذلك صلى بهم الجمعة صلى الله عليه وسلم. فدل على أن هذا العدد هو أقل عدد.
والذين بقوا من الصحابة وهم الاثني عشر هم العشرة المبشرون بالجنة وبلال
وابن مسعود رضي الله عنهم أجمعين وأما الباقون فقد خرجوا.
والجواب عن هذا الحديث: أن هذه واقعة عين أيضاً لا عموم لها أبداً وصادف
مصادفة وجود هذا العدد ولو بقي رجل لم يخرج لصاروا ثلاثة عشر ولو خرج أحد
الاثنا عشر لكانوا إحدى عشر. فهي واقعة عين لاعموم لها قطعاً.
= القول الثالث: أن العدد المشترط ثلاثة: وهو رواية عن أحمد اختارها شيخ
الاسلام.
- لأن أقل الجمع ثلاثة.
- ولقول النبي صلى الله عليه وسلم: (مامن ثلاثة لا تقام فيهم صلاة الجماعة
إلا استحوذ عليهم الشيطان).
والجواب على هذا الحديث: من وجهين:
- الأول: أن مفهوم العدد ضعيف وسيأتيكم في
أصول الفقه أن مفهوم العدد من أضعف المفاهيم.
- الثاني: أن هذا العدد خرج مخرج الغالب وإلا فإنه قد أجمعت الأمة على أن
صلاة الجماعة تحصل باثنين لكن الحديث خرج مخرج الغالب.
= القول الرابع - الأخير: وهو قول للفقيه أبي ثور والنخعي وداود الظاهري
واختاره الشوكاني وعدد من أهل العلم أنه يكفي في الجمعة ما يكفي في
الجماعة. أي يكفي أن يوجد اثنين.
واستدلوا على ذلك:
- أنه لا يوجد دليل يدل على الزيادة عن هذا المقدار وكل عدد قيل فهو تحكم
بلا دليل. فإذا وجد إمام يخطب ورجل واحد يستمع صحت الجمعة.
والراجح والله أعلم هو هذا القول - الرابع - وإليه أيضاً مال ابن حزم.
وهذه المسائل افتراضية ويصعب جداً أن تقع لا سيما بالنسبة للقول الثالث
والرابع - ثلاثة أو اثنين فمتى يحصل أن لا يوجد إلا ذلك لكن هذا هو الراجح
فيما لو حصل هذا الأمر فإن الجمعة يجب أن تقام بوجود اثنين من أهل الوجوب
ولو امتنع أهل القرية كلهم إلا شخصان وجب عليهم أن يقيموا صلاة الجمعة
أحدهما يخطب والآخر يستمع.
• ثم قال رحمه الله:
الثالث: أن يكونوا بقرية مستوطنين.
= يشترط الحنابلة بل الجمهور لصحة إقامة الجمعة. - أن يكون أهل الوجوب
مستوطنون بقرية مبنية. سواء كان البناء من طين أو من جريد النخيل أو من أي
مادة.
- ويشترط أن يجمعهم اسم واحد أي أن تسمى هذه القرية باسم واحد.
- ويكون أهل القرية نازلون في القرية صيفاً وشتاءً لا يظعنون عنها أبداً
ولا يتنقلون.
فإذا وجدت هذه الشروط صحت الجمعة.
والدليل على هذا الشرط:
- أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يأمر الأعراب الذين حول المدينة بصلاة
الجمعة فدل هذا على أن الاستيطان ببناء شرط.
= القول الثاني: أنه لا يصح إقامة الجمعة في القرى بل لا تكون إلا في
الأمصار والمدن لا في القرى.
وهذا مذهب الأحناف.
واستدلوا على هذا:
- بأثر عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه قال: (لا جمعة إلا في الأمصار
الجامعة).
بناء على هذا القول: يحتاج الأحناف أن يبينوا لنا ما هو الضابط في الفرق
بين المدينة أو المصر وبين القرى؟
اختلفوا في ذلك إلى نحو ستة أقوال في تحديد
ذلك. ونحن سنأخذ المشهور عندهم فقط.
- فالمشهور الذي هو المذهب عند الأحناف أن: - أن المصر: كل موضع له قاض
ومفت ووال يقيم الحدود. فإذا وجدت هذه الأشياء اعتبرنا هذا المكان مصر أو
مدينة وإلا فهي قرية.
- الضابط الثاني: وهو المشهور عن أبي يوسف من الأحناف - أن المصر هو الموضع
الذي اجتمع أهله في المسجد الجامع لم يسعهم.
= القول الثالث: - والأخير: أن الجمعة تقام في كل جماعة أقاموا في مكان
واحد ولو بلا بناء ولو كانوا في الخيام بشرط أن لا يتنقلوا لطلب الكلأ
والماء.
وهذا القول اختاره شيخ الاسلام رحمه الله.
والأقرب والله أعلم مذهب الجمهور مع قوة ما اختاره شيخ الاسلام إلا أني أظن
أنه يندر أن يوجد أناس يسكنون سكناً دائماً في خيام بل متى اتخذ الإنسان
الخيمة صار التنقل من صفته ولو أراد أن يتخذ مكاناً للإقامة الدائمة لم
يكتف بالخيمة بل يتخذ بناء.
وشيخ الاسلام رحمه الله نوعية البناء سواء كانت من طين أو من حجر أو من نخل
فهذل ليس له أي علاقة بالحكم إنما المهم أن يكون مقيماً وفي الحقيقة كما
قلت لكم الخلاف بين الجمهور وشيخ الاسلام قد يكون ضيق جداً لأنه يندر أن
يوجد مجموعة من الأعراب يسكنون سكناً دائماً في الخيام في موضع واحد.
والأعراب الآن إذا أرادوا أن يسكنوا في مكان واحد دائماً لابد أن يضعوا
شيئاً أكثر من الخيام فيبنوا بناء ولو كان بسيطاً.
إذاً الأقرب قول الجماهير مع أن الخلاف ضيق بينهم وبين شيخ الاسلام.
وقبل أن ننتقل عن هذه المسألة نسيت أن أذكر لكم تحرير محل النزاع فنقول:
- اتفق الفقهاء كلهم على أن أهل الخيام الذين يتنقلون لا تجب عليه الجمعة
بالإجماع.
- واتفق الفقهاء على أن أهل الصحارى البعيدة عن المدن الذين لم يتخذوها
موطناً وبناءً لا تجب عليهم الصلاة بالإجماع.
واختلفوا فيما عدا هذا مما ذكرته في الأقوال.
إذاً عرفنا الآن أن الاستيطان في قرية شرط صحيح وأن المتنقلون لا يجوز لهم
أن يقيموا الجمعة.
وبناء على هذا:
- كما قلت أهل الخيام لا تجب عليهم الجمعة ولا تصح منهم.
- وأهل السفن لا تجب عليهم الجمعة ولا تصح منهم - خلافاً لما قلته أمس -.
إذاً نقول أهل الخيام وأهل السفن لا تجب
عليهم الجمعة ولا تصح.
- وبالنسبة لأهل السفن الذين يسافرون فأمرهم واضح لأنا أخذنا أن المسافر لا
تنجب عليه.
- وبالنسبة لأهل السفن الذين يمكثون - كما قال أخونا في السؤال - وهو يوجد
فعلاً وكثير - سواء يمكثون لصيد السمك أو للبحث هن شيء معين للتنقيب أو لأي
غرض فلا تجب عليهم صلاة الجمعة ولا تصح منهم لأنهم لم يستوطنوا في بناء
ولأنهم سيرحلون ولو طال بهم الوقت.
أما أهل السفن الذين - كما يفعله بعض الناس اليوم - أنهم إذا ركبوا في
السفينة وهم مسافرون أقاموا الجمعة فهذا لا شك أنه ليس بمشروع وأنهم يجب
عليهم كلهم أن يعيدوها ظهراً لأن المسافر السائر لا إشكال أن الجمعة لا تجب
ولا تصح منه ومن أقامها فقد خالف هدي النبي صلى الله عليه وسلم وهدي الأئمة
الخلفاء الراشدين وهدي عامة الصحابة والسلف لأنهم كانوا لا يقيمون صلاة
الجمعة في السفر.
وكذلك نقول لو وجد الطلاب والعمال الذين يغتربون لا يوجد معهم شخصان مقيمان
مستوطنان ممن تجب عليهم الجمعة فإنه إذا لم يوجد هذان الشخصان فإنه لا يجوز
لهم أن يقيموا الجمعة فإن أقاموها فإنهم يعيدونها ظهرا.
إذاً لابد من مراعاة شرط السفر وشرط الإقامة والاستيطان. وشرطا الإقامة
والاستطيان متفق عليهما ولكن الاختلاف في متى تحصل هذه الإقامة هل لابد من
مصر أو يكفي قرية؟ أو يكفي الخيام إذا كان أهلها لا يتنقلون بها؟.
إذاً عرفنا الآن حدود من تجب عليه صلاة الجمعة ومن لا تجب.
•
ثم قال رحمه الله:
وتصح: فيما قارب البنيان من الصحراء.
معنى هذه العبارة: أنه يجوز للإمام أن يقيم صلاة الجمعة في الصحراء القريبة
من البنيان ولا يجب أن يقيمها داخل المدينة في الجوامع بل يجوز أن يقيم
الجمعة خارج البنيان.
- واستدلوا على هذا بأن النبي صلى الله عليه وسلم أقام العيد خارج البنيان
والجمعة عيد الأسبوع فدل هذا على جواز إقامة الجمعة خارج البنيان قريباً
منه.
= والقول الثاني: أنه لا يجوز أن تقام الجمعة إلا في الجوامع داخل الأمصار.
فإن أقاموها خارج المدينة لم تصح.
والقول الأول هو الصواب.
وعرفنا من عبارة المؤلف أنهم لو أقاموا
الجمعة خارج البنيان بعيداً لم تصح. وهذا صحيح. لأن الذي جاء في السنة
إقامة العيد قريباً من البنيان فإن أقاموها بعيداً عن البنيان لم تصح.
إذاً عرفنا الآن جواز إقامة الجمعة قريباً من البنيان. وعلى القول بالجواز
فإذا أقام الإمام الجمعة خارج البنيان وكان في البلد كبار أو زمنا أو من لا
يستطيع أن يخرج لأي سبب فإنه يجب عليه وجوباً أن ينيب عنه من يصلي الجمعة
بهؤلاء الذين لم يستطيعوا الخروج.
ثم رجع المؤلف إلى الكلام عن شرط العدد:
• فقال رحمه الله:
فإن نقصوا قبل إتمامها: استأنفوا ظهراً.
ولو أنه جعل هذه العبارة بعد الشرط الثاني مباشرة لكان أنسب ولكنه هكذا
صنع.
• قال رحمه الله: فإن نقصوا قبل إتمامها: استأنفوا ظهراً.
معنى هذه العبارة: أنه يشترط وجود العدد في جميع الصلاة فإن تخلف العدد في
جزء من أجزاء الصلاة بطلت واستأنفوها ظهراً عند الحنابلة.
واستدلوا على هذا:
- بأن شرط الشيء يجب أن يوجد فيه جميعاً - كما نقول بالطهارة بالنسبة
للصلاة وستر العورة ... إلخ من شروط الصلاة.
فإن نقص العدد استأنفوها ظهراً: يعني ولا يجوز أن يتموها ظهراً.
فإذا خرج بعض الناس وبخروجه نقص العدد والإمام يصلي وعلم بخروجهم فالواجب
عليه أن يترك هذه الصلاة وأن يستأنف الصلاة ظهراً.
فإن أتم الجمعة ظهراً لم تصح.
انتهى الآن تقرير مذهب الحنابلة.
= القول الثاني: أنه يجوز أن يتموها جمعة مطلقاً وإن نقص العدد في أثنائها.
= القول الثالث: أنه إذا نقص العدد أتموها ظهراً ولا يحتاج أن يستأنفوها.
ولا نريد أن نذكر الأدلة بالنسبة للقول الثاني والثالث لأنهما مرجوحين.
= القول الرابع: أنه إن نقص العدد قبل أن يأتوا بركعة استأنفوها ظهراًَ وإن
نقص العدد بعد أن أتوا بركعة صلوها جمعة.
- لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (من أدرك ركعة من الصلاة فقد أدرك
الصلاة) فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنه أدرك الصلاة فهو حينئذ أدرك
الجمعة.
وهذا القول هو الصواب. أنه يفرق بين أن ينقص العدد قبل ركعة أو بعد ركعة.
وتقدم معنا في كتاب الصلاة أن مقصود الفقهاء إذا قالوا أدرك ركعة أو لم
يدرك ركعة أي ركعة كاملة بسجدتيها.
• ثم قال رحمه الله:
ومن أدرك مع الإمام منها ركعة: أتمها جمعة.
إذا لم يدرك المأموم مع الإمام في صلاة الجمعة إلا ركعة فإنه يتمها جمعة.
واستدل الحنابلة على هذا بدليلين:
- الأول: من أدرك من الصلاة ركعة فقد أدرك الصلاة.
- الثاني: أنه أفتى بهذا عدد من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم لا يعلم
لهم مخالف.
= والقول الثاني: أن من أدرك من الصلاة ركعة فإنه يصليها ظهراً.
- لأنه يشترط لصحة الجمعة حضور الخطبة فمن لم يحضر الخطبة فإنه يصلي
أربعاً. لأن الخطبة - كما سيأتينا - شرط في صحة الجمعة. فإذا لم يدرك شرط
الصحة لم تصح له.
بناءً على هذا القول: جميع الناس الذين يأتون بعد خطبة الإمام نقول لهم: لا
تصح منكم الصلاة جمعة ويجب أن تصلوها أربعاً ظهراً.
والراجح. القول الأول لأن معهم نص صريح وهو من أدرك من الصلاة ركعة فقد
أدرك الصلاة وهذا النص لا يستطيع الإنسان أن يتجاوزه مهما كانت قوة تعليل
القول الثاني.
•
ثم قال رحمه الله:
وإن أدرك أقل من ذلك: أتمها ظهراً.
يعني: وإن أدرك أقل من الركعة فإنه يتم الصلاة ظهراً.
ولإتمامه الصلاة ظهراً شروط ستأتينا في آخر عبارة المؤلف لكن المقصود الآن
أنه إذا لم يدرك ركعة بل أدرك أقل من ركعة فإنه يصليها ظهراً.
واستدلوا:
- بمفهوم النصوص السابقة. إذا يدل مفهوم تلك النصوص على أن من لم يدرك ركعة
وإنما أدرك أقل لم يدرك الصلاة.
= والقول الثاني: لأبي حنيفة أن المأموم يدرك الجمعة بإدراك أي جزء من صلاة
الجمعة ولو لم يدرك إلا التشهد الأخير.
واستدل على هذا:
- بأن كل من لزمه البناء على صلاة إمامه بإدراك ركعة لزمه بإدراك أي جزء
منها كالمسافر يدرك المقيم.
الآن - عند الحنابلة: إذا أدرك المسافر خلف المقيم التشهد الأخير فكم يلزمه
أربعاً. فالأحناف يقولون كذلك هنا إذا أردتم أن تلزموه بأنه باعتبار أنه
أدرك جزءاً من الصلاة يصلي جميع الصلاة فهنا نقول باعتبار أنه أدرك جزءاً
من الصلاة يكون أدرك الصلاة.
والجواب عليه: وهو أن القاعدة منقوضة من أصلها وهو أن المسافر إذا لم يدرك
ركعة مع المقيم لم يجب عليه أن يصلي أربعاً وجاز له أن يصلي ركعتين.
إذاً إلزام أبي حنيقة للحنابلة صحيح لكن
على القول الصحيح لا يلزم هذا الإلزام ونخرج عنه بما ذكرت من أن المسافر
يصلي ركعتين إذا لم يدرك ركعة مع الإمام المقيم.
• ثم قال رحمه الله:
إذا كان نوى الظهر.
يعني: يشترط للمأموم المسبوق في الجمعة الذي لم يدرك ركعة وأمرناه أن
يصليها ظهراً يشترط أن ينوي قبل التحريمة أنها ظهر فإن لم ينو بطلت وأعادها
ظهراً.
التعليل: - قالوا: لوجهين:
- الوجه الأول: أن النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (إنما الأعمال بالنيات)
وهذا دخل وقد نوى أن يصلي الجمعة والجمعة شيء والظهر شيء آخر.
- الوجه الثاني: قالوا: نحن نبني هذا على الأصل السابق وهو أن صلاة الجمعة
صلاة مستقلة وليست هي صلاة الظهر.
- ثالثاً: القاعدة المقررة وهي أنه لا يستطيع الإنسان أن ينتقل بنيته من
معين إلى معين لا سيما في الفرائض وهنا انتقل من معين إلى معين. فالمعين
الأول هو: الجمعة. والمعين الثاني هو: الظهر.
وهذه الأدلة قوية جداً ووجيهة غاية ما تكون الوجاهة.
= والقول الثاني: وهو رواية عن الإمام أحمد: أنه يجوز أن ينويها جمعة ثم
يقلبها إلى الظهر إذا تبين له أنه لم يدرك مع الإمام ما يجزئ في الجمعة.
واستدلوا بأدلة:
- منها: عكس القاعدة السابقة وهي: أن الجمعة هي الظهر ولكنها مقصورة.
وتقدم معنا أن الجمعة مستقلة وليست هي الظهر مقصورة.
- واستدلوا بدليل آخر: وهو المشقة والعنت والحرج الذي يلحق الناس من اشتراط
أن ينوي الظهر فإنك لا تكاد شخصاً من العوام إذا دخل مع الإمام في صلاة
الجمعة ينوي أنها ظهراً وإنما يدخل معه فإن تبين له أنه لم يدرك ولا ركعة
صلاها أربعاً - إن كان أيضاً أنه يفهم هذا الأمر.
إذاً: في إلزام الناس بأنه يجب أن تنويها ظهراً إذا لم تدرك ركعة فأكثر فيه
مشقة ظاهرة.
ومع ذلك أنا أقول أن الراجح مذهب الحنابلة لقوة الأدلة ووضوح الدلالة منها.
ومسألة المشقة والعنت لا تكفي في الحقيقة
لترجيح القول الثاني. ونقول للمتأخر أنت أسأت بهذا التأخر وأنت لست أهلاً
لرفع الحرج لأن الشخص الذي تأخر وترك الخطبة الأولى والثانية والركعة
الأولى والثانية ليس أهلاً أن يراعى فنقول له: إذا دخلت ناوياً الجمعة ثم
تبين لك أنك لم تدرك ولا ركعة يجب عليك أن تعيدها ظهراً ولو كان صلى أربعاً
لأنه دخل بنية الجمعة.
والله أعلم وصلى الله على محمد ...
انتهى الدرس،،،
قال شيخنا حفظه الله:
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله
وأصحابه أجمعين.
• قال المؤلف رحمه الله:
ويشترط: تقدم خطبتين.
فتقدم معنا ذكر ثلاثة شروط من شروط صحة صلاة الجمعة واليوم نبدأ بالشرط
الرابع وهو: اشتراط تقدم خطبتين.
= فيشترط الحنابلة لصحة الجمعة أن يتقدمها خطبة وهذا هو مذهب الجمهور.
فإن لم يكن بين يدي صلاة الجمعة خطبة لم تصح الجمعة.
استدل الجمهور بدليلين:
- الأول: قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة
فاسعوا إلى ذكر الله) فأوجب السعي لذكر الله والذكر في الآية يقصد به خطبة
الجمعة.
- الثاني: النقل المتواتر المستفيض الذي لم يختلف فيه المسلمون أن النبي
صلى الله عليه وسلم كان يخطب قبل صلاة الجمعة خطبتين.
= والقول الثاني: أن الجمعة تصح بلا خطبة. وهو مذهب فئة قليلة من أهل
العلم.
واستدلوا على ذلك:
- بالقياس على عيد الأضحى. حيث لا يشترط لصحته خطبة. والجمعة تشارك عيد
الأضحى في أن كلاً منهما عيد.
والأشبه بالصواب والله أعلم اقول الجمهور ورجحانه بين وهو أن من أقام
الجمعة بلا خطبة بطلت صلاته فإن بقي وقت أعاد خطبة وصلاة وإن لم يبق وقت
صلاها ظهراً.
إذا تقرر أن الخطبة شرط لصحة صلاة الجمعة ننتقل إلى مسألة لا بد منها:
وهي هل يشترط في هذه الخطبة أن تكون خطبتين؟ أو يكتفى بخطبة واحدة؟
= ذهب الحنابلة إلى أنه يشترط أن تكون خطبة الجمعة خطبتين.
استدلوا على هذا:
- بحديث ابن عمر رضي الله عنه أن النبي صلى
الله عليه وسلم: كان يخطب خطبتين يجلس بينهما. وهذا في الصحيحين.
- واستدلوا بدليل آخر فقهي لطيف: أن الخطبتين أقيما مقام الركعتين.
فالإخلال بإحدى الخطبتين إخلال بإحدى الركعتين.
وكون الخطبتين أقيما مقام الركعتين هذا منقول عن عجدد من الصحابة.
= والقول الثاني: أنه يجزئ خطبة واحدة فقط لأن الله أمر بالسعي إلى ذكر
الله والذكر في الآية مطلق يصدق على الخطبة الواحدة.
والراجح القول الأول. سبب الترجيح: (وسيتكرر سبب الترجيح هذا معنا ولذلك
أريد أن تفهموه).
سبب الترجيح: أن الله سبحانه وتعالى أمر بإقامة الخطبة بقوله: (فاسعوا إلى
ذكر الله) أمراً مجملاً عاماً. فجاءت السنة لبيان كيفية إقامة الخطبة.
وبيان الواجب واجب. وصار بيانها في السنة واجب أيضاً.
بناء على هذا إذا خطب الخطيب خطبة واحدة ونزل وصلى. فنقول له: ارجع فاخطب
خطبتين وصلي ركعتين للجمعة فإن لم يبق وقت فصلها ظهراً.
إلا أنا نقول: أن الخطبة واجبة وشرط لصحة الجمعة. ومن شروط صحة الخطبة أن
تكون خطبتين.
وقد سمعت أنه يوجد بعض الناس يخطب خطبة واحدة وهذا لعارض إما لضجره أو
لتأخر الناس أو لأي سبب من الأسباب فيخطب خطبة واحدة وينزل.
فمثل هذا نقول له: يجب أن تعيد صلاة الجمعة. هذا على مذهب القائلين
بالوجوب. وهو الصواب إن شاء الله.
ثم أراد المؤلف رحمه الله أن يبين شروط صحة الخطبة لما كانت هي بذاتها من
شروط صحة الجمعة:
•
فقال رحمه الله:
ومن شرط صحتهما: حمد اللَّه.
= يشترط عند الحنابلة والشافعية لصحة الخطبة أن تشتمل على الحمد فإن لم
تشتمل على الحمد بطلت.
واستدلوا على ذلك:
بما في صحيح مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا خطب حمد الله وأثنى
عليه ثم قال: من يهد الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له.
والدليل الثاني: أن سنة النبي صلى الله عليه وسلم المستفيضة دلت على أنه
صلى الله عليه وسلم كان يفتتح الخطب بالحمد لله.
= والقول الثاني: للأحناف. أنه يجزئ في الخطبة أن يذكر الله تكبيراً أو
تحميداً أو تهليلاً بشرط أن يكون الذكر بنية الخطبة.
بناء على هذا: عند الأحناف - لو صعد
الإنسان المنبر وقال: سبحان الله والحمد لله والله أكبر ولا إله إلا الله
بنية أنه يخطب جمعة ونزل لصحة الخطبة. فينبني على قولهم هذا الأثر.
فإن صعد المنبر وقال: سبحان الله والحمدلله والله أكبر ونزل ولم ينو أنه
يخطب فإن الخطبة لا تصح.
استدلوا على ذلك بعموم الآية. وذكر الله يحصل بهذا المقدار.
= القول الثالث: مذهب المالكية. أنه يشترط في الخطبة أن يطلق عليها خطبة في
لغة العرب ولو بلا تحميد.
بناء على ذلك: لو صعد المنبر وخطب عن موضوع من الموضوعات أي موضوع خطبة
تسمى في لغة العرب خطبة ولم يحمد فيها الله مطلقاً بأن قال: بسم الله
الرحمن الرحيم اعلموا أن كذا وكذا .. عن موضوع معين ذا صبغة موضوعية مستقلة
صحت الجمعة.
فإن صعد المنبر وقال: الحمد لله رب العالمين وتكلم بكلام مفيد لا يعتبر في
لغة العرب خطبة فإن الخطبة حينئذ تبطل.
والراجح مذهب الحنابلة. لما تقدم. ففي الحقيقة أيجاب الحمد في الخطبة من
وجهة نظري أنه صحيح والأدلة تدل عليه ومذهب الحنابلة والشافعية في هذا قوي
وإن رأى بعض المحققين أن في اشتراطه لصحة الجمعة ضعفاً لكن من وجهة نظري
أنه شرط صحيح.
وسيأتينا في آخر شروط الجمعة القول الراجح في الشروط الصحيحة للجمعة إن شاء
الله.
• ثم قال رحمه الله:
والصلاة على رسوله صلى الله عليه وسلم.
يشترط لصحة الخطبة أن يصلي على النبي صلى الله عليه وسلم فإن خطب خطبة
كاملة مستوفاة لم يصل فيها على النبي صلى الله عليه وسلم بطلت.
واستدلوا على ذلك:
- بقاعدة وهي: (أنه كلما وجب ذكر الله وجب ذكر رسوله صلى الله عليه وسلم).
كما في الآذان والشهادتين.
= والقول الثاني: أن الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم ليست بواجبة فإن
تركها ولو عمداً صحت الخطبة.
واستدلوا بدليلين:
الأول: أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يذكر الصلاة على النبي صلى الله
عليه وسلم في الخطبة.
والثاني: أن القاعدة التي ذكروها ليست
بصحيحة فإنه ثبت في الشرع في مواضع كثيرة وجوب ذكر الله بلا ذكر رسوله صلى
الله عليه وسلم: منها: - التسمية على الذبيحة - والتسمية في الأكل -
والتسمية عند الجمار - ومواضع أخرى كثيرة ثبت فيها ذكر الله بلا ذكر رسوله
صلى الله عليه وسلم.
وهذا القول هو الراجح. أن الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم ليست شرطاً
لصحة الجمعة.
• ثم قال رحمه الله:
وقراءَة آية.
أي يشترط في صحة خطبة الجمعة أن يقرأ فيها آية فإن لم يقرأ فيها آية بطلت
الخطبة.
ويشترط في الآية:
أن تكون مفيدة.
وأن لا يقتصر على جزء منها لا يفيد معنىً تاماً.
واستدلوا على هذا:
- بما في مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا خطب الجمعة يقرأ آيات
ويذكر الناس.
= القول الثاني: أن قراءة الآية لا تجب وإنما يستحب لأنه لا دليل على
الوجوب.
وأما الحديث وهو يقرأ آيات ويذكر فلا يراد منه الوجوب بدليل: أنه قال في
الحديث يقرأ آيات وليست آية.
وأجمع الفقهاء كلهم أنه لا يجب أن يقرأ آيات وإنما يجب أن يقرأ عند
القائلين بالوجوب آية وليست آيات.
إذاً الاستدلال بهذا الحديث ليس صحيحاً لأنه لو دل الوجوب لدل على وجوب
قراءة آيات لا آية.
نعم. هو مستحب ومسنون لكن لا دليل على الوجوب والشرطية.
والراجح عدم الوجوب.
• ثم قال رحمه الله:
والوصية بتقوى اللَّه عزوجل.
يقصد المؤلف رحمه الله أن تشتمل الخطبة على موعظة.
والدليل على هذا:
- ما تقدم معنا: وهو قوله: (يقرأ آيات ويذكر الناس) فدل على أن من شأنه صلى
الله عليه وسلم أنه كان يعظ الناس ويذكرهم في الخطبة.
الدليل الثاني: أن المقصود من الخطبة هو الوعظ وتذكير الناس بتقوى الله
فإذا لم تشتمل على المقصود منها بطلت.
وهذا صحيح.
• ثم قال رحمه الله:
وحضور العدد المشترط.
يشترط لصحة الجمعة أن يحضر العدد المشترط على الخلاف في العدد المشترط.
والدليل:
- أن المقصود من الخطبة تذكير الناس وحثهم على تقوى الله وطاعته فإذا لم
يوجدوا لم يحصل الغرض من الخطبة.
- الدليل الثاني: أن الخطبة من الأمور الإضافية التي لا تحصل إلا مضافة إلى
شيء آخر وهو - هنا - وجود الناس.
ويجب أن تلاحظ أنا لا نتحدث هنا عن كمية
العدد وإنما نتحدث عن وجود العدد وتقدم معنا أن وجود العدد شرط بالإجماع
وإنما الخلاف في مقدار العدد.
انتهت شروط الصحة.
القول الراجح في الشروط بعد ما أخذنا الخلاف في كل واحد منها على حدة هو
أنه يشترط لصحة الجمعة ثلاثة أشياء:
- الأول: الحمد. بأن يحمد الله.
- والثاني: اشتمالها على الموعظة.
- الثالث: أن تسمى خطبة عرفاً. وهذا - الشرط - لم يذكره المؤلف رحمه الله
وهو شرط صحيح.
فالشروط على القول الصواب ثلاثة.
- فإذا صعد الإنسان المنبر وقال: الحمد لله رب العالمين اعلموا أنه من يطع
الله يدخله الجنة ومن يعصه يدخله النار. ونزل. فأي الشروط تخلف؟ وأيها
انطبق؟
الحمد وجد. والموعظة كذلك. أما الخطبة فلم توجد فنقول الآن هذه الخطبة
باطلة أنها لا تسمى خطبة عرفاً.
إذاً هذا المثال في الحقيقة هو الذي يوضح مدى انطباق الشروط وتخلف الشروط
لا سيما الشرط الأخير.
فإذا صعد المنبر وحمد الله ووعظ الناس وذكرهم وخطب خطبةً تسمى في العرف
خطبة ونزل فخطبته صحيحة ولو لم يصل على النبي صلى الله عليه وسلم ولو لم
يقرأ آية.
إذاً هذا هو القول الصواب.
ومع ذلك أقول: أنه لا ينبغي مطلقاً لخطيب الجمعة أن يترك قراءة آية. لأنه
في الحقيقة هذا الشرط وإن كان الراجح أنه ليس من شروط الصحة لكن السنة
واضحة جداً بأنه صلى الله عليه وسلم كان في خطبة الجمعة يقرأ آيات أحياناً
تكون آيات في أثناء الخطب وأحياناً تكون الخطبة كلها تفسير لآيات من كتاب
الله فمن الخطأ الإخلال بمثل هذا وهو خلاف الأولى لوجهين:
- الوجه الأول: استفاضة السنة بقراءة آيات.
- والوجه الثاني: أن خطبته حينئذ محل خلاف فمن الفقهاء من يصححها ومنهم من
يبطلها فلا ينبغي للإنسان في مثل هذه العبادة العظيمة أن يعرضها للبطلان
وإنما يستوفي الشروط التي ذكرها الفقهاء رحمهم الله.
هذا إذا أردنا أن نبين ما ينبغي ويجدر بالإنسان. أما إذا أردنا أن نتكلم من
منطلق علمي وفق الأدلة وحسب الراجح فلا يشترط إلا ثلاثة شروط.
ذكر المؤلف رحمه الله هذه الشروط وترك بعض الشروط فنأخذ شرطين:
- الأول: يشترط لصحة خطبة الجمعة دخول الوقت على الخلاف السابق.
- الثاني: يشترط الموالاة بين الخطبتين.
وهذا من المعلوم أنه شرط صحة عند القائلين باشتراط خطبتين وليس بشرط صحة
عند القائلين بأنه يجزئ خطبة واحدة.
بناء على هذا: نقول للإيضاح والبيان: إذا خطب الخطيب - كما يفعله أيضاً بعض
الناس اليوم - قبل الزوال فإن هذه الخطبة عند الجمهور الذين يقولون أن وقت
صلاة الجمعة أنه لا يدخل إلا بعد الزوال تكون باطلة وإذا بطلت الخطبة بطلت
صلاة الجمعة.
إذاً كذلك نقول: إذا أمكن وتيسر أن لا يبدأ الإنسان الخطبة إلا بعد الزوال
فهو أولى وأجدر على أني أقول لكم أن مسألة دخول وقت صلاة الجمعة في الساعة
السادسة عندي ليس فيه أي إشكال والسنة واضحة تماماً فيه بحيث ما يتردد
الإنسان أو يدخله الحرج في ذلك وهذه ليست من المسائل التي يتردد فيها
الإنسان وإن كانت هذه المسألة من مفردات الحنابلة لكن الأدلة التي استدل
بها الإمام أحمد واضحة وجلية ووجه الاستدلال بها قوي جداً فلا إشكال فيها
إن شاء الله.
لكن مع ذلك لو أن الإنسان حرص على أن يؤخر بدأ الخطبة إلى ما بعد الزوال
فلا شك أنه أولى لأن الخطبة الآن تكون صحيحة عند الجماهير.
لما أنهى المؤلف رحمه الله الكلام عن الشروط التي تشترط لصحة خطبة الجمعة
بدأ في الكلام عن الأشياء التي لا تشترط:
• فقال رحمه الله:
ولا يشترط لهما الطهارة.
لا يشترط لصحة الخطبة أن يكون الخطيب على طهارة.
ومقصود الحنابلة بالطهارة هنا: الطهارة الصغرى والكبرى.
بناء عليه يصح أن يخطب الجنب وخطبته صحيحة وصلاته أيضاً صحيحة إذا اغتسل.
استدلوا على أنه لا تشترط الطهارة:
- لأن الخطبة عبارة عن ذكر بين يدي الصلاة فلا يشترط لها طهارة كالآذان
فالآذن ذكر بين يدي الصلاة ومع ذلك لا يشترط له الطهارة فلو أذن الجنب صح
الآذان كذلك خطبة الجمعة ما هي إلا ذكر بين يدي الصلاة.
إذا قرر الحنابلة أن الطهارة الصغرى والكبرى لا تشترط لخطبة الجمعة يدخل
عليهم إشكالان.
- الإشكال الأول: كيف يدخل الجنب.
- والإشكال الثاني: كيف يقرأ القرآن؟
فأجابوا عن هذا الإشكال بأن المكث في
المسجد وقراءة القرآن صحيحة مع الإثم. فيقولون هو آثم ويحرم عليه أن يصنع
ذلك لكن الخطبة صحيحة لأنه لا ارتباط بين الخطبة وبين أن يكون على طهارة.
قال الحنابلة: كمن يصلي وقد سرق درهماً وكان واضعاً له في جيبه صحت فصلاته
صحيحة لأنه لا ارتباط بين هذا الدرهم المسروق وبين الصلاة كذلك هنا قالوا
لا ارتباط بين أن يقرأ آيات أو يمكث في المسجد وهو جنب وبين الخطبة.
فالخطبة أمر آخر.
= والقول الثاني: أنه تشترط الطهارة الصغرى والكبرى قياسياً على تكبيرة
الإحرام لأنه يشترط لصحتها الطهارة الصغرى والكبرى.
هكذا قال الأحناف.
= والقول الثالث: أنه يشترط لصحة خطبة الجمعة الطهارة الكبرى دون الصغرى.
قال ابن قدامة رحمه الله: وهذا أشبه بأصول الإمام أحمد.
ويستثنى على هذا القول من توضأ لأن من توضأ جاز مكوثه في المسجد جاز مكوثه
في المسجد.
والراجح مذهب الحنابلة لأنه لا تعلق بين الخطبة وبين أن يكون على طهارة
ومكثه في المسجد وقراءة الآية هو آثم إذا صنع ذلك لكن الخطبة والصلاة بعد
ذلك صحيحة.
على أنه تقدم معنا أن الجنب على القول الراجح أنه يجوز له أن يقرأ القرآن
فسقط هذا الإشكال وبقي فقط مسألة المكث في المسجد فلو توضأ لسقد هذا
الإشكال أيضاً.
•
ثم قال رحمه الله:
ولا أن يتولاهما من يتولى الصلاة.
لا يشترط في خطبة الجمعة أن لا يخطب إلا من سيصلي بل لو خطب شخص وصلى آخر
صحت الصلاة والخطبة.
الدليل على ذلك:
- أن الخطبة والصلاة منفصلين. كما لو صلى صلاتين.
= والقول الثاني: أنه يشترط لصحة الخطبة أن لا يتولاها إلا من يتولى
الصلاة.
- لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يتولى الخطبة والصلاة.
- والخلفاء كذلك.
والراجح مذهب الحنابلة. لأنه لا يظهر وجه واضح لا شتراط ذلك. إذا الانفصال
بينهما تام.
فإذا خطب رجل ثم صلى آخر لكون الأول يحسن الخطبة والثاني يحسن الصلاة لكان
هذا جائز.
وغاية ما نقول أنه خلاف السنة - ولا ينبغي أن يفعل إذا لم يحتج الإنسان إلى
ذلك - لأن ظاهر السنة أن رجلاً واحداً يتولى الخطبة والصلاة.
ثم انتقل رحمه الله إلى الموضوع الثالث من
مواضيع هذا الدرس وهو سنن الخطبة:
• فقال رحمه الله:
ومن سننها: أن يخطب على منبر
يسن للخطيب ولا يجب أن يخطب من على منبر.
والدليل على هذه السنة من ثلاثة أوجه:
- الأول: أن النبي صلى الله عليه وسلم اتخذ منبراً من ثلاث درج. فكان يخطب
على الدرجة الثالثة ثم لما توفي صلى الله عليه وسلم وقف على الثانية أبوبكر
رضي الله عنه ثم لما توفي وقف عمر رضي الله عنه على الثالثة ثم لما توفي
وقف عثمان رضي الله عنه موقف أبي بكر ثم لما توفي وقف علي رضي الله عنه
موقف النبي صلى الله عليه وسلم.
- الوجه الثاني: الإجماع فإن العلماء أجمعوا على أن اتخاذ المنبر سنة.
- الوجه الثالث: أن صعود الإمام على المنبر أبلغ في تحقيق المقصود من
الخطبة.
فلا شك ولا مرية في أن اتخاذ المنبر سنة.
وينبغي في المنبر أن يكون نحواً من منبره صلى الله عليه وسلم يعني ثلاث
درجات أو أكثر بقليل ولا ينبغي أن يكون أعلى من ذلك تأسياً بالنبي صلى الله
عليه وسلم.
وكون منبر النبي صلى الله عليه وسلم من ثلاث درج:
- إما أن يكون بأمره صلى الله عليه وسلم لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان
في أول الأمر يقف على الأرض بجوار جذع ويخطب ثم قالت له امرأة ألا أصنع لك
منبراً فأذن النبي صلى الله عليه وسلم بذلك وصنع المنبر المنبر من ثلاث
درج.
فإما أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم هو الذي وجه بأن يكون ثلاث درج هذا
احتمال فإن الحديث لم يبين بأن يكون من ثلاث درج.
- أو نقول أنها هي التي وضعت ثلاث درج ولكن النبي صلى الله عليه وسلم أقر
ذلك وخطب عليه.
فهو يعتبر من سنة النبي صلى الله عليه وسلم إما القولية أو الإقرارية.
إذاً لا إشكال في سنية اتخاذ المنبر.
• ثم قال رحمه الله:
أو موضع عال.
يعني: إذا لم يتيسر المنبر الثابت المصنوع لهذا الأمر فإنه يتوخى أن يقف
على موضع عال لكي يتمكن من إسماع الناس وليحصل المقصود من الخطبة.
• ثم قال رحمه الله:
ويسلم على المأمومين إذا أقبل عليهم.
يشرع للإمام إذا صعد المنبر وأقبل على الناس أن يسلم عليهم وهذا الحكم بلا
نزاع عند الحنابلة فليس فيه لا أوجه ولا روايات وإنما كلهم رأوا أن هذا
سنة.
والدليل على أن هذا سنة:
- أحاديث كثيرة: أن النبي صلى الله عليه
وسلم كان إذا صعد المنبر سلم على الناس.
وهذه الأحاديث كلها ضعيفة لا يثبت منها حديث.
= القول الثاني: أن السلام على الناس إذا قابلهم ليس بمشروع.
- لأنه لم ينقل في حديث صحيح.
- واكتفاء بسلام الإمام حين الدخول.
لأن الإمام أولاً يدخل المسجد ويسلم على الناس ثم يصعد على المنبر فقالوا:
السلام الأول يكفي.
ولا يظهر لي في المسألة شيء فهنالك إشكال فيها.
(والنصوص العامة قد يرجح بها لكن الإشكال أنه لم ينقل مع أن ابن عمر نقل
لنا كيف كان يصنع النبي صلى الله عليه وسلم بدقة .... فهذا الوصف الدقيق مع
عدم ذكر السلام محل إشكال.
والأمر يسير ... ولكن ما يظهر لي في المسألة شيء ...
وإذا افترضنا أن الإمام أول ما يلاقي الناس من على المنبر مباشرة فلا إشكال
في السلام ... فهذه تضاف .. فإذا كانت مقابلة الناس مباشرة من على المنبر
فلا إشكال في السلام .. لكن الإشكال إذا دخل وسلم ورد الناس عليه ثم ...
• ثم قال رحمه الله:
ثم يجلس إلى فراغ الأذان.
هذه سنة: أن الإمام إذا صعد المنبر يجلس قبل أن يبدأ بالخطبة.
فهذه سنة وليست بواجبة.
والدليل على ذلك:
- أولاً: مارواه السائب في صحيح البخاري أنه قال: كان الأذان على عهد رسول
الله صلى الله عليه وسلم إذا جلس الخطيب على المنبر.
ففي هذا دليل على أنه كان يجلس بين يدي الأذان.
- ثانياً: أن هذا الأمر تناقلته الأمة سلفاً عن خلف وهو أن الإمام يدخل
ويجلس.
ولا نقول أنه محل إجماع ولكن نقول أن العمل هذا تناقلته الأمة سلفاً عن
خلف.
• ثم قال رحمه الله:
ويجلس بين الخطبتين.
يستحب للخطيب أن يجلس بين الخطبتين.
أي: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يخطب ثم جلس ثم يقوم فيخطب.
هذا دليل الاستحباب.
دليل عدم الوجوب: أن عدداً من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم منهم أمير
المؤمنين علي رضي الله عنه ومنهم المغيرة بن شعبة ومنهم أبي بن كعب كانوا
يسردون الخطبة بلا جلوس .... فإذا أراد الخطيب أن يسرد الخطبة بلا جلوس
فينبغي أن يسكت سكتة لطيفة بين الخطبتين.
= القول الثاني: وهو للشافعية: أن الجلوس واجب.
- لفعله صلى الله عليه وسلم وفعله صلى الله
عليه وسلم خرج بياناً للواجب.
والراجح والله أعلم. مذهب الحنابلة للآثار المروية في الباب وأن كون الخطيب
من الصحابة يفعل هذا الفعل ويقره عليه الناس بلا إنكار فهذا بحد ذاته دليل
قوي على أن الجلوس سنة.
•
ثم قال رحمه الله:
ويخطب قائماً.
يعني: يسن أن يخطب قائماً.
فإن خطب جالساً صحت الخطبة.
أما دليل السنية: - فحديث ابن عمر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه
وسلم كان يخطب قائماً.
وأما دليل عدم الوجوب: - أن عثمان رضي الله عنه ومعاوية رضي الله عنه وعمر
بن العزيز رحمه الله خطبوا وهم جلوس.
= القول الثاني: وجوب الخطبة قائماً. فإن لم يخطب على هذه الصفة التي وردت
عن النبي صلى الله عليه وسلم بطلت الخطبة ولم يحفظ عنه صلى الله عليه وسلم
أبداً أنه خطب جالساً مع الصحة والقدرة.
والراجح. أيضاً الأول. لعموم الآثار. لأنها فعلت على ملأٍ من الناس وحضور
في خطبة الجمعة ...
• ثم قال رحمه الله:
ويعتمد على سيف أو قوس أو عصا.
يسن للإنسان أن يعتمد على أحد ثلاثة أشياء:
1 - عصا.
2 - أو قوس.
3 - أو سيف.
فهذا سنة: إن فعل أثيب وإن ترك صحت الخطبة.
الدليل على هذا:
- حديث الحكم بن حزم رضي الله عنه وهو من الصحابة المقلين أنه رأى النبي
صلى الله عليه وسلم يخطب وهو متكئ على عصا أو قوس.
هذا الحديث ضعفه ابن عساكر فقال: غريب وإسناده ليس بالقوي ... حسب ما ظهر
لي.
بالإضافة إلى هذا له شواهد فيها ضعف ولكن يمكن أن تقوية.
= القول الثاني: فيه تفصيل:
- لا يشرع مطلقاً ... أو القوس يشرع إذا احتاج إليه الإنسان بأن يخطب على
الأرض ولا يشرع إذا لم يحتج إليه الإنسان بأن يخطب على المنبر. لأن النبي
صلى الله عليه وسلم كان يتخذ القوس والعصا في أول الأمر ثم لما اتخذ المنبر
لم ينقل عنه أنه اتخذ عصا ولا قوس.
كان يتخذ العصا في خطبة الجمعة والقوس في الخطبة حال الحرب.
وهذا القول الأخير كله هو الذي يفهم من كلام ابن القيم رحمه الله.
وأخذنا الأدلة على مسألة القوس والعصا أما الأدلة على مشروعية السيف فهو
أنه لم يأت في النصوص أبداً أنه صلى الله عليه وسلم اتكأ على السيف.
وفي حديث ابن الحكم السابق اتكأ على القوس
أو العصا ولم يذكر السيف.
وهذا القول الأخير هو الراجح إذا صح ما قاله ابن القيم رحمه الله وهو أن
النبي صلى الله عليه وسلم لما اتخذ المنبر لم ينقل عنه أنه اتخذ عصا أو
قوس.
وأظن أن ابن القيم يقصد بهذه العبارة أنه لم ينقل أنه اتخذ وإلا لا يوجد
حديث - حسب ما اطلعت عليه - فيه أن النبي صلى الله عليه وسلم اتخذ العصا
أول الأمر فلما اتخذ المنبر لم يتخذ عصا.
هذا التفصيل الذي يذكره ابن القيم لا يوجد في الأحاديث حسب ما أعلم لكن
لعله فهم ذلك من أمرين:
- الأول: أن الحكم جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم في أول الأمر وهذا في
مسند الإمام أحمد أنه جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم في أول الأمر أيام
الفقر قبل الفتوحات.
- الثاني: أنه لم ينقل في الأحاديث الأخرى أن النبي صلى الله عليه وسلم كان
يتخذ عصا بعد أن اتخذ المنبر.
لكن لو قال قائل: أن الأصل أن النبي صلى الله عليه وسلم - إذا صححنا حديث
الحكم - كات يتخذ العصا حين كان يخطب بجوار الجذع فما المانع أنه استصحب
هذا الأمر ولم نحتج إلى نقله مرة أخرى في المنبر؟
فلو قال قائل بهذا لكان له وجه.
فأقول أن الراجح هو كلام ابن القيم إذا ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم لم
يتخذ عصا حين اتخذ المنبر.
إذا ثبت هذا المقدار صح كلام ابن القيم.
أما إذا لم يثبت فالأصل أنه سنة لكن إذا ثبت - كما يقول هو - أنه لم يحفظ
عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه اتخذ عصا لما اتخذ المنبر فكلامه رحمه
الله صحيح.
• ثم قال رحمه الله:
ويقصد تلقاء وجهه.
أي أنه يستحب للإمام إذا صعد المنبر وبدأ الخطبة أن يقصد تلقاء وجهه ولا
يلتفت يميناً ولا شمالاً لأنه هكذا كان يخطب النبي صلى الله عليه وسلم
..... (الآذان).
انتهى الدرس،،،
قال شيخنا حفظه الله:
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله
وأصحابه أجمعين.
• قال المؤلف رحمه الله:
ويقصد تلقاء وجهه.
يعني أنه يسن للخطيب إذا بدأ الخطبة أن يستقبل الناس بوجهه وأن لا يلتفت
يميناً ولا شمالاً.
والدليل على هذا من وجهين:
- الوجه الأول: أن هذا ظاهر السنة: فإنه لم ينقل أن النبي صلى الله عليه
وسلم كان يلتفت يميناً وشمالاً.
- والوجه الثاني: أن هذا أبلغ في الإيصال وفي استواء الناس في استماع
الخطبة لا سيما في القديم فإنه إذا كان يخطب بلا مكبر إذا التفت يميناً لم
يسمعه أهل الشمال وكذلك العكس.
= مسألة: يسن للناس أن يستقبلوا الإمام بوجوههم ولو انفتلوا عن القبلة.
والدليل على هذا:
- أن النبي صلى الله عليه وسلم اتخذ منبراً في جانب المسجد الأيمن وكان
أصحابه رضي الله عنهم يتوجهون إليه حال الخطبة. وهذا كالاجماع.
والتعليل - بعد أن ذكرنا الدليل: أن توجه المستمع للخطبة للإمام أدعى إلى
حسن الإنصات واستيعاب ما يقوله الخطيب.
•
ثم قال رحمه الله:
ويقصر الخطبة.
أي: ويسن للخطيب أن يخطب خطبة قصيرة.
- لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (إن طول صلاة الرجل وقصر خطبته مئنة من
فقهه).
ومعنى مئنة: أي علامة على فقهه ودليل على معرفته.
واليوم كثير من الخطباء يعكس الأمر تماماً: يطيل الخطبة ويقصر الصلاة وهذا
مخالفة للسمنة من وجهين:
- في الخطبة.
- وفي الصلاة.
وكون الإمام يقصر الخطبة يستدعي ذلك أن يتقن الإنسان الإعداد للخطبة لأنه
إذا كان سيخطب خطبة قصيرة فيجب أن يستوفي ما فيها من معاني وما تشتمل عليه
من أحكام في وقتى قصير وهذا يستدعي الدقة أثناء إعداد الخطبة.
والتعليل: أن قصر الخطبة أدعى لا ستيعابها من المأموم وهذا ملاحظ ومشاهد
فإذا خطب الإنسان خطبة قصيرة استوعبها الناس وعرفوا ما فيها وإذا خطب خطبة
طويلة صار بعضها ينسي بعضاً ويخرج الناس قليلي الفائدة.
• ثم قال رحمه الله:
ويدعو للمسلمين.
يسن للإمام أن يدعو للمسلمين.
واستدلوا على هذا بوجهين:
- الوجه الأول: أن ساعة الخطبة ساعة إجابة عند عدد من أهل العلم.
- الوجه الثاني: أنه إذا كان يندب الإنسان أن يدعو للمسلمين خارج الخطبة
ففيها من باب أولى.
وعرف من التعليلين أنه لا يوجد في المسألة
نص أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يدعو للمسلمين إلا أحاديث ضعيفة في هذا
الباب. لكن مع ذلك لم أر خلافاً في استحباب الدعاء فلا أقول أن هذه المسألة
محل إجماع لكني أقول لم أر بعد البحث أحداً من أهل العلم عارض في مسألة
استحباب الدعاء للمسلمين في خطبة الجمعة.
= مسألة: وهل يدعو للإمام؟
اختلفوا في الدعاء للإمام على قولين:
= القول الأول: أنه لا يدعي للإمام.
- لأن الدعاء للإمام بدعة محدثة ليس لها أصل.
= والقول الثاني: أنه يشرع أن يدعى للإمام. واستدلوا على هذا بدليلين:
- الأول: أن في صلاح الإمام صلاح الرعية وهذا مصلحة عظيمة ينبغي أن يسعى
الإنسان في تحصيلها من خلال الدعاء.
- الثاني: أن أبا موسى الأشعري رضي الله عنه كان يدعو لأمير المؤمنين عمر
بن الخطاب رضي الله عنه.
وإلى هذا ذهب الإمام أحمد رحمه الله.
والصواب: أن الدعاء للإمام مشروع لكن يكون أحياناً فلا يديم هذا الأمر لعدم
وروده ولكنه يدعو أحياناً للإمام لما في الدعاء للإمام من ىمصلحة ظاهرة إذ
في صلاحه صلاح الناس.
وبهذا انتهى الكلام عن الشروط وما يتعلق بأحكام وآداب وسنن خطبة الجمعة
وبدأ بفصل آخر.
(كنا سننبه إلى مسألتين نسينا أن ننبه عليهما: من أسئلة الإخوان بالأمس ظهر
لي أنها تحتاج إلى تنبيه وأيضاح.
المسألة الأولى: وهي: تتعلق بقول المؤلف رحمه الله: فإن نقصوا قبل إتمامها
استأنفوا ظهراً:
ذكرت في هذه المسألة ثلاثة أقوال أو أربعة أقوال وذكرت أن اختيار ابن قدامة
أنهم إن نقصوا بعد ركعة أتموها جمعة وقلت أنها: وإلا صلوها ظهراً. فيسأل
الإخوة: هل قولك: وإلا صلوها ظهراً يعني: استأنفوا أو أتموا؟ والصواب أنهم
يستأنفوا فأنا لم أقل هل هم يستأنفون أو يتمون؟ فتلحقون في هذا الموضع أنهم
يستأنفونها ظهراً وبهذا يكون ما رجحنا في هذه المسألو متناسق مع ما رجحناه
في مسألة: وإن أدرك أقل من ذلك أتمها ظهراً إن كان نوى الظهر.
المسألة الثانية: في مسألة قول المؤلف رحمه
الله: ولم تنعقد به. ذكرنا أن الحنابلة يرون أن المسافر والمرأة والعبد لا
تنعقد بهم الصلاة وذكرت أن معنى لم تنعقد بهم الصلاة: أنهم لا يحتسبون في
العدد ولا يقيمونها منفردين. ثم تكلمت عن المسافر والمرأة والعبد.
بالنسبة للمرأة فلا إشكال: لأنني ذكرت أن المرأة محل إجماع.
نأتي إلى مسألة المسافر: قلت أنا: أن الراجح تنعقد بالمسافر وفعلاً هذا هو
الراجح فيما يتعلق بإكمال العدد دون مسألة إقامة الجمعة منفردين.
بقينا في العبد: والعبد: الصواب: أنها تنعقد به سواء إقامتها منفردين أو
إكمال العدد وهذا رواية عن الإمام أحمد أنه حتى على القول بعدم وجوب صلاة
الجمعة على العبد فالراجح مع ذلك أن العبد تنعقد بع بمعنى يكمل به العدد
وتنعقد به بمعنى يقيمونها منفردين فلو اعتزل مجموعة من العبيد في قرية لا
يوجد معهم حر إما للعمل بالزراعة مثلاً أو لأي غرض كان فإنه يشرع لهم مع
ذلك أن يقيموا الجمعة.
فهذا تنبيه على هذين الموضعين ويلحق في موضعه من الشرح.).
فصل
[في صفة صلاة الجمعة، وحكم تعددها، وما يسن في يومها]
• ثم قال رحمه الله:
فصل
يريد المؤلف رحمه الله أن يبين في هذا الفصل ما يتعلق بصفة صلاة الجمعة
وعدد الركعات والسنن الخاصة بيوم وصلاة الجمعة والمسألة المهمة وهي: حكم
تعدد صلاة الجمعة.
بدأ بأهم هذه الأمور وهي: صفة صلاة الجمعة:
• فقال رحمه الله:
والجمعة ركعتان.
اتفق العلماء بلا نزاع من عهد النبي صلى الله عليه وسلم إلى يومنا هذا أن
صلاة الجمعة ركعتان.
وهذا الإجماع يعضده النصوص المتكاثرة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي
الجمعة ركعتين ونقل هذا نقلاً متوتراً فلا إشكال في أن الجمعة ركعتان.
• ثم قال رحمه الله:
يسن أن يقرأ جهراً.
أفاد المؤلف رحمه الله: أن القراءة في صلاة الجمعة تكون جهرية. فيجهر
الإمام بالقراءة ولو كانت صلاة نهارية.
وذلك:
- أولاً: لأن هذه الصلاة عيد.
وثانياً: لأنها صلاة يجتمع لها الناس. وإذا اجتمع الناس لصلاة شرع الجهر
فيها.
هذا فضلاً عن أن السنة المتواترة أن الإمام يجهر بالقراءة في صلاة الجمعة.
ثم بين الموؤلف السنة في السور التي تقرأ
في صلاة الجمعة:
•
فقال رحمه الله:
في الأُولى: ((بِالْجُمْعَةِ))، وفي الثانية: ((بِالْمُنَافِقِيْنَ)).
ثبت في صحيح مسلم عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقرأ
بالجمعة وبالمنافين.
وهذه سنة ثابتة.
والقراءة في صلاة الجمعة جاءت على ثلاثة أوجه:
- الوجه الأول: أن يقرأ بالحمعة وبالمنافقين.
الوجه الثاني: أن يقرأ بالجمعة والغاشية. وهذا أيضاً ثابت في صحيح مسلم من
حديث النعمان رضي الله عنه وقل من يأتي بهذه السنة كأنها من السنن
المتروكة.
- الوجه الثالث: وهي السنة المشهور الأخرى: أن يقرأ بسبح والغاشية وهذا
أيضاً ثابت في صحيح مسلم.
فصارت القراءة على ثلاثة أوجه. يناوب الإنسان بينها تارة يقرأ الجمعة
والمنافقية وتارة الجمعة والغاشية وتارة سبح والغاشية. لأن هذا ثابت في
السنة الصحيحة وذكره مسلم في صحيحه.
• ثم قال رحمه الله:
وتحرم إقامتها: في أكثر من موضع من البلد.
تحرم إقامة الجمعة في أكثر من موضع من البلد.
=وهذا مذهب الجمهور. بل حكي إجماعاً إلا عن عطاء فقط فلم يخالف إلا هو وروي
أن الإمام أحمد أيضاً يرى جواز تعدد الجمعة مطلقاً. لكن القاضي من أصحاب
الإمام أحمد حمل هذه الرواية على الجواز عند الحاجة ورأى أنه لا يصح عن
الإمام أحمد القول بالجواز مطلقاً.
وما ذكره القاضي صحيح إذ أستبعد أن يكون الإمام أحمد يرى جواز تعدد الجمعة
بلا حاجة مطلقاً.
إذاً: ذهب الجماهير بل حكي إجماعاً أنه لا يجوز أن تتعدد الجمعة بلا حاجة
وإنما نقل الخلاف عن اثنين: عطاء. والإمام أحمد وذكرت أنه لا يثبت هذا عن
الإمام أحمد إذ هو موؤل ومحمول على الحاجة.
والدليل على هذا الحكم:
- أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقيم الجمعة في مسجده فقط ولم تتعدد في
عهده ولا في عهد الخلفاء إقامة الجمعة.
ولو كانت الجمعة يجوز أن تتعدد لأقيمت في عهده لألا تتعطل المساجد.
أريد أن أنبه هنا: إلى أن ابن حزم وتابعه الشوكاني يرون الجواز فمن من
الممكن أن يضافا إلى عطاء والإمام أحمد في الرواية عنه. لكن نحن نقول أن
هذا إجماع محفوظ قبل ابن حزم فضلاً عن الشوكاني.
فالإشكال الآن في الحقيقة هو في ابن حزم
وعطاء والإمام أحمد وعرفنا أن ابن حزم متأخر وعرفنا ما يتعلق بالإمام أحمد
فصار المخالف حقيقة هو عطاء.
• ثم قال رحمه الله:
إلاَّ لحاجة.
يعني: أنه يجوز أن تتعدد الجمعة عند وجود الحاجة وذكر الفقهاء ثلاثة أمثلة
للحاجة:
- الأول: وهو أشهر وأغلب الأعذار: الضيق.
- الثاني: خشيت وقوع الفتنة من الإجتماع.
- الثالث: البعد.
فإذا كان المسجد ضيقاً جاز أن نقم الجمعة في جامع آخر.
وإذا صار في اجتماع فئتين من الناس في هذا الميسجد وقوع فتنة كأن يكون
بينهم خلافات أو شقاقات أو أحقاد قديمة وإذا اجتمعوا في هذا المسجد صار ذلك
سبباً لنشوب الفتنة جاز لمجرد ذلك أن نقيم الجمعة في مكان آخر.
والتعليل لجواز إقامة الجمعة: أن الشارع الحكيم إنما شرع الجمعة لما فيها
من التأليف والاجتماع واقتراب القلوب فإذا حصل ضد ذلك من الجمعة صار هذا
سبباً في حواز إقامة الجمعة في جامع آخر.
أما الضيق والبعد فلرفع الحرج.
ولاشك أنهم رحمهم الله أرادوا التمثيل لا الحصر فلو وجد سبب آخر يقتضي جواز
إقامة الجمعة في أكثر من جامع لجاز إقامة الجمعة في أكثر من جامع.
إذاً يقول المؤلف رحمه الله:
وتحرم إقامتها: في أكثر من موضع من البلد إلا لحاجة.
وقوله: إلا لحاجة يقتضي أنه إذا ضاق المسجد فإنه يجوز أن نقيم الجمعة
الثانية ويحرم أن نقيم الجمعة الثالثة.
وإذا لم يتسع المسجد الأول والثاني جاز أن نقيم الجمعة الثالثة دون الجمعة
الرابعة وهكذا .. لأنه يقول لحاجة والحاجة تقدر بقدرها.
الدليل على ذلك:
- استدل الفقهاء على جواز تعدد الجمعة عند الحاجة بدليلين:
- الأول: النصوص العامة الدالة على رفع الحرج.
- الثاني: أن علي بن أبي طالب رضي الله عنه لما كان بالكوفة أقام صلاة
العيد خارج البلد وأقام من يصلي للضعفة والنساء داخل البلد.
ونحن نعلم أن صلاة العيد والجمعة كلاهما من صلاة الأعياد وتتشابه في كثير
من الأحكام لذلك قاس الفقهاء ما ثبت عن علي رضي الله عنه في صلاة العيد في
الجمعة.
إذاً: وتحرم إقامتها: في أكثر من موضع من البلد إلا لحاجة.
- ذكرنا الدليل الأول:
- والدليل الثاني: أن الحاجة دعت إلى تعدد
الجمع في الأمصار ووقع هذا واشتهر وتواتر ولم ينكر فكان كالإجماع من حين
أقيمت الجمعة مرة أخرى انتشر هذا في البلدان الإسلامية وصار عليه عمل الناس
واشتهر ولم ينكر فهو كالإجماع بين الناس لذلك لاتجد أحداً ينكر إقامة
الجمعة الأخرى مع وجود الحاجة.
= والقول الثاني: وإن كان قول فيه ضعف - أنه لا يجوز تعدد الجمعة مطلقاً
ولو مع الحاجة وإنما يحاول الناس التوسع لبعضهم البعض.
واستدلوا على ذلك:
- بأن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله عنهم مع طول صلاتهم
الجمعة لم يصلوها إلا في مسجد واحد.
والجواب على هذا الدليل من وجهين:
- أولاً: أن الحاجة لم تكن موجودة في عهد النبي صلى الله عليه وسلم.
ثانياً: أن في الصلاة مع النبي صلى الله عليه وسلم ميزة لا توجد بعد عهده
وهو أنه المبلغ صلى الله عليه وسلم المباشر عن الرب سبحانه وتعالى فتلقي
الأحكام منه مباشرة مزية لا توجد في ما بعهده من الأئمة والخطباء.
والراجح مذهب الجمهور وهو جواز الإقامة عند وجود الحاجة.
ثم لما قرر المؤلف تحريم تعدد الجمعة ذكر ما يترتب على هذا الحكم:
• فقال رحمه الله:
فإن فعلوا فالصحيحة: ما باشرها الإمام أو أذن فيها.
أي: إذا أقيمت الجمعة في أكثر من جامع بلا حاجة فالجمعة الصحيحة هي التي
باشرها الإمام أي: الجمعة الصحيحة في المسجد الذي صلى فيه الإمام سواء صارت
هذه الصلاة - التي مع الإمام - متقدمة أو متأخرة فهي الصحيحة والأخرى
باطلة.
واستدلوا على هذا بدليلين:
- الأول: أن في تصحيح الأخرى افتيات على الإمام.
- الثاني: أنه لو قيل بتصحيح الأخرى لأمكن لكل أربعين رجلاً أن يفسدوا صلاة
الإمام مع من معه من المسلمين بأن يقيموا هم الجمعة أولاً فتبطل صلاة
الإمام ومن معه.
وهذا مذهب الجماهير وهو أن الصلاة الصحيحة هي التي مع الإمام وهو الصواب.
•
ثم قال رحمه الله:
فإن استويا في إذن أو عدمه: فالثانية باطلة.
يعني: إذا أقيمت صلاة الجمعة في أكثر من جامع بلا حاجة واستويا الجمعتان في
إذن الإمام يعني أنه أذن لكل منهما فالصلاة الصحيحة هي الأولى والصلاة
الباطلة هي الثانية.
وتعرف الأولى: بتقدم تكبيرة الإحرام فأي
الإمامين كبر أولاً فالثانية باطلة.
وقيل تعرف الأولى: بالشروع في الخطبة فأيهما شرع أولاً فالثانية باطلة.
= القول الثاني: أن الصلاة الصحيحة هي الصلاة في الجامع الكبير في وسط
البلد والجوامع في أطراف البلد صلاتهم باطلة سواء تقدمت أو تأخرت صلاة
الجامع الكبير.
وهذا قول في مذهب الحنابلة.
وهذا القول هو الأقرب.
فإذا أقيمت صلاة الجمعة في الجامع الكبير ودعت الحاجة إلى إقامة جمعة أخرى
فأقيمت جمعة ثالثة فالكلام في الجمعة الثالثة كالكلام في الجمعة الثانية.
فإذا افترضنا أن صلاة الجامع الكبير دائماً صحيحة فأي الجمعتين أصح:
= عند الحنابلة يرجع في ذلك إلى الوقت. إلى الأولى. والأولى باعتبار تكبيرة
الإحرام أو باعتبار الشروع.
وهذا هو الصواب بالنسبة للجمعة الثانية والثالثة.
لأنه بالنسبة للجمعة الثانية والثالثة لا يوجد عندنا جامع كبير أو جامع هو
الأصل بحيث أن جوامع أطراف البلد نقول هي التي تبطل والجامع الكبير تصح.
فنرجع في الصورة الثانية إلى مذهب الحنابلة ونقول من أقام الجمعة أولاً صحت
ومن أقام الجمعة ثانياً لم تصح.
وذكر شيخنا رحمه الله في الممتع قولاً آخر وهو:
أن الصلاة الصحيحة هي الأولى: أي هي صلاة الجمعة الذي وجد أولاً والصلاة
الباطلة هي صلاة الجامع الذي وجد ثانياً بغض النظر عن أيهما يكبر أولاً
فإذا بني مسجد في سنة 1427 وبني مسجد في سنة 1428 وإمام المسجد الذي بني في
سنة 1428 كبر أولاً. فأي الجمعتين صحيحة؟ وأيهما الباطلة؟ صلاة الجامع الذي
بني أولاً أصح ولو كبر ثانياً.
وهذا القول قول قوي جداً إلا أني لم أقف على قائل بهذا القول من أهل العلم
أو نص على هذا القول فإن كان أحد من أهل العلم نص عليه فهو قول وجيه وقوي
وإن لم يكن أحد نص عليه فالتفصيل السابق هو الصواب.
• قال رحمه الله:
وإن وقعتا معاً أو جهلت الأُولى: بطلتا.
بلا نزاع عند الحنابلة.
- لأنهم أقاموا جمعة متعددة بلا حاجة في وقت واحد فبطلت الجمعتان.
فإذا بطلت نقول:
- إن أمكن أن تعاد جمعة بأن يجتمعوا في مسجد واحد ويقيموها جمعة وجب أن
يفعلوا وإلا صلوها ظهراً.
المسألة الثانية: أو جهلت الأولى: لحنابلة
يبطلون الثانية. لكن إذا جهلنا أيهما الأولى وأيهما الثانية فعند الحنابلة
تبطل الأولى والثانية.
التعليل: قالوا: لأنا نعلم أن إحدى الجمعتين باطلة ولا يمكن أن نبطل إحدى
الجمعتين تحكماً بلا دليل فبطلتا لأنه لا مزية لأحدهما على الأخرى.
وفي هذه االصورة يجب أن يصلوها ظهراً فقط ولو أمكن أن يصلوها جمعة.
التعليل: أن إحدى الصلاتين صحيحة وبها سقطت الجمعة فلا يمكن أن تصلى مرة
أخرى لأنه لا يجوز أن تتعدد الجمعة فوجب أن يصلوها ظهراً.
فتكون بالنسبة للجماعة التي هي في واقع الأمر الأولى ستكون سنة وتكون
بالنسبة للجماعة التي صلوها ثانياً ظهراً حقيقة.
طبعاً هذه مسائل يحسن بطالب العلم أن يلم بها وإن كان الوقوع لها بعدما
كثرت المساجد وانتشر الإسلام نادر أو متعذر.
فإذا وقعت صار عند طالب العلم معرفة بها.
إذا أقيمت جمعتان بلا لاحاجة ف
ثم لما أنهى الكلام عن ما يتعلق بذات صلاة الجمعة انتقل إلى الكلام عن
السنن المتعلقة بالجمعة.
•
فقال رحمه الله:
وأقل السنة بعد الجمعة: ركعتان وأكثرها ست.
جاءت السنة متنوعة في مسألة صلاة السنة البعدية للجمعة.
- فثبت في صحيح مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي بعد الجمعة
ركعتين في بيته.
- وثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من كان سيصلي بعد الجمعة فليصل
أربعاً). وهذا أيضاً صحيح وفي مسلم.
- السنة الثالثة: في سنن أبي داود أن ابن عمر رضي الله عنه صلى بعد الجمعة
أربعاً ثم صلى ركعتين. ثم ذكر أنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم يفعل ذلك.
والظاهر أن شاء الله أن أسناده صحيح وليس له علة.
فاختلف الفقهاء في التوفيق بين هذه النصوص على عدة أقوال:
= القول الأول: أن المسلم مخير إن شاء يصلي أحياناً أربعاً أو ركعتين أو ست
وهذا مذهب الإمام أحمد.
= والقول الثاني: - من الفقهاء من جمع بشكل آخر فقال: يصلي ست ركعات فنجمع
بين حديث الأربع والركتعتين بأن يصلي ست ركعات.
= القول الثالث: أنه إن صلى في المسجد صلى أربعاً وإن صلى في البيت صلى
ركعتين وإلى هذا ذهب شيخ الاسلام رحمه الله.
والصواب أن نقول: أنه إن صلى في المسجد صلى
أحياناً أربعاً وأحياناً ستاً وإن صلى في البيت صلى ركعتين.
وإذا أراد أن يصلي ستاً فإنه يصلي ركعتين ثم أربع. لما في حديث ابن عمر أنه
صلى ركعتين ثم أربعاً هكذا لفظه.
وقيل: بل يصلي أربعاً ثم ركعتين لأنه إذا صلى ركعتين ثم أربع صارت تشبه
الظهر لأنه سيصلي ركعتي الجمعة ثم ركعتين أشبهت ماذا الظهر.
والصواب في القول الأول لأن حديث ابن عمر وهو عمدة القائلين بسنية الست فيه
أنه صلى ركعتين ثم أربع.
والصلاة ست جاء عن عدد من الصحابة منهم علي بن أبي طالب رضي الله عنه وهو
من الخلفاء الراشدين الذين لهم سنة متبعة.
إذاً قوله ركعتان وأكثرها ست. عرفنا دليل أنه يصلي ركعتين ودليل أنه يصلي
ست ثم عرفنا كيف نوفق بين الأحاديث التي جاءت في هذ الباب.
ولم يتعرض المؤلف للسنة القبلية والصواب أنه ليس للجمعة سنة قبلية محددة
ولكن يندب الإنسان أنه إذا جاء إلى المسجد أن يصلي لما في الأحاديث الصحيحة
التي فيها الندب أن يصلي الإنسان إلى طلوع الإمام وسيأتينا الآن بعض هذه
الأحاديث.
•
ثم قال رحمه الله:
ويسن: أن يغتسل.
يسن أن يغتسل لصلاة الجمعة.
ونريد أن نذكر قبل الخلاف في هذه المسألة تحرير محل النزاع:
أولاً: اتفق الفقهاء كلهم أن غسل الجمعة سنة فهذا القدر لم يختلفوا فيه.
ثانياً: اتفق الفقهاء كلهم على أن من ترك غسل الجمعة فصلاته صحيحة فهذا
القدر لا خلاف فيه.
ثم اختلفوا في حكم غسل الجمعة:
= فمذهب الحنابلة والجماهير بل حكي إجماعاً - حكاه ابن عبد البر وسيأتينا
التعليق على مسألة الإجماع - أنه سنة متأكدة جداً فإن تركها لم يأثم.
واستدلوا على أنه سنة:
- بما استدل به أصحاب القول الثاني وسيأتينا.
واستدلوا على أنها ليست بواجبة:
- بحديث سمرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من توضأ يوم الجمعة فبها
ونعمت ومن اغتسل فالغسل أفضل).
هذا الحديث فيه كلام كثير وفي سماع الحسن عن سمرة خلاف طويل والأقرب أنه
سمع حديث العقيقة فقط وبضعة أحاديث غير محددة ولم يسمع جميع الأحاديث.
والصواب - إن شاء الله - أن هذا الحديث صحيح. وممن صححه الحافظ الكبير أبو
حاتم في العلل نص على أنه صحيح.
= القول الثاني: وهو رواية عن الإمام أحمد
أن غسل الجمعة واجب.
واستدلوا على هذا بأدلة منها:
- الدليل الأول: قول النبي صلى الله عليه وسلم: (غسل الجمعة واجب على كل
محتلم وأن يستاك وأن يتطيب).
والجواب عليه:
أن قوله في الحديث: (واجب) يعني: أنه متأكد وليس المقصود الوجوب الذي يأثم
تاركه بدليل أنه قرنه بالاستياك وبالتطيب وقد أجمع العلماء كلهم على أن
الاستياك والتطيب ليس بواجب.
قال الحافظ بن رجب رحمه الله: الواجب على نوعين:
1 - واجب حتم.
2 - وواجب سنة وفضيلة.
وذكر عن الأئمة ما يدل على أن الواجب ينقسم إلى هذين القسمين.
ويدل أيضاً على أن الوجوب في هذا الحديث ليس على سبيل التأثيم حديث سمرة
السابق.
- واستدلوا: بالحديث الآخر وهو قول النبي صلى الله عليه وسلم: (من أتى
الجمعة فليغتسل). واللام لام الأمر.
والجواب: أن حديث سمرة يصرف الأمر عن الوجوب إلى الندب المتحتم.
- واستدلوا بأن رجلاً دخل وأمير المؤمنين عمر رضي الله عنه يخطب - وفي
رواية أنه عثمان رضي الله عنه - فأنكر عليه أمير المؤمنين عمر تأخره إلى
بداية الخطبة فقال: (لم أزد على الوضوء) فقال عمر رضي الله عنه ألم تعلم أن
النبي صلى الله عليه وسلم أمر بالغسل.
هذا الحديث استدلوا به على الوجوب وهو من وجهة نظري أن (دلالته على الندب
أقرب من دلالته على الوجوب).
وجه ذلك: أولاً: أنا نربأ بعثمان بن عفان رضي الله عنه أن يترك واجباً
فنستبعد على مثله رضي الله عنه أن يترك واجباً.
- ثانياً: لو كان عثمان رضي الله عنه ترك واجباً لكان درجة إنكار عمر رضي
الله عنه أكبر لتركه الواجب لا سيما من رجل مثل عثمان وهو من أكابر
الصحابة.
- ثالثاً: ليس بمستغرب أن ينكر عمر على عثمان ترك سنة فإنه ليس بمستغرب بين
الصحابة لحرصهم على الخير فمجرد الإنكار لا يدل على الوجوب.
الراجح: الراجح بلا إشكال وبلا تردد إن شاء الله أنه: سنة.
سبب الترجيح: أن المسألة كأنها محل إجماع لذلك يقول الحافظ ابن رجب وكذلك
الحافظ بن عبد البر أن العلماء الذين نقل عنهم الوجوب لا يريدون الوجوب
الذي من تركه أثم بل يريدون الوجوب الذي هو على سبيل التأكيد والاستحباب
والأفضلية.
فتكون المسألة بناء على هذا محل إجماع.
وإلى هذا يميل ابن رجب أنها محل إجماع وأن من نقل عنه من أهل العلم الوجوب
فليس مقصوده الوجوب الذي إذا تركه الإنسان أثم.
فإذا ثبت هذا التحقيق الذي أبدع به الحافظ ابن رجب والحافظ بن عبد البر صار
عدم الوجوب أمر واضح جداً وقوي وسديد.
= مسألة: هل الغسل واجب ليوم الجمعة أو لصلاة الجمعة؟
فيه خلاف ونختصر على الراجح:
الراجح: أنه للصلاة لا لليوم. بناء على هذا لا يجب على الصبي مثلاً ولا على
المرأة ولا على كل من لا تجب عليهم صلاة الجمعة أن يغتسلوا.
بدليل:
1 - قول النبي صلى الله عليه وسلم: (من جاء الجمعة فليغتسل).
2 - وقوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الآخر: (من اغتسل غسل الجنابة ثم
أتى الجمعة .. ).
ففي الحديثين تعليق الاغتسال بالذهاب لصلاة الجمعة فدل على أنه يتعلق
بالصلاة لا باليوم ...
انتهى الدرس،،،
قال شيخنا حفظه الله:
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله
وأصحابه أجمعين.
بعد أن انتهينا من الكلام على سنة الاغتسال للجمعة بدأ المؤلف رحمه الله
بعد ذلك ببيان السنن الأخرى:
• فقال رحمه الله:
ويتنظف ويتطيب.
يعني أنه يسن لمن أراد أن يذهب إلى صلاة الجمعة ويتأكد في حقه أن يتنظف وأن
يتطيب.
والأدلة على هذه السنية متكاثرة جداً.
- منها ما تقدم معنا: من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله
عليه وسلم قال: (غسل الجمعة واجب على كل محتلم وأن يستاك وأن يتطيب) وهذا
نص في السنية.
- ومنها: ما تقدم معنا أيضاً أن أهل العلم أجمعوا على سنية التطيب والتنظف.
- ومنها: ما أخرجه البخاري من حديث سلمان رضي الله عنه أن النبي صلى الله
عليه وسلم قال: (ما من رجل يغتسل يوم الجمعة ويتطيب ويتطهر ما استطاع من
الطهور ويدهن ثم يأتي إلى الجمعة ولا يفرق بين اثنين وينصت إلى الإمام إلا
غفر له ما بين الجمعتين). ففي هذا الحديث التأكيد الشديد حيث: ذكر الاغتسال
ثم قال: ويتطهر ما أمكنه من الطهور ثم قال يدهن ويتطيب. وكل هذا تأكيد
لمسألة التنظف والتطيب.
وهذا القدر مما أجمع عليه. وهو من شعائر
الجمعة: أي التنظف. والتطيب وأن يأتي الإنسان إليها مستكملاً أكثر ما
يستطيع من الجمال والطهارة والنظافة.
•
ثم قال رحمه الله:
ويلبس أحسن ثيابه.
أي: ويندب ويستحب للإنسان أن يلبس يوم الجمعة أحسن ما يجد من ثيابه.
والدليل على هذا من وجهين:
- الأول: أن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال للنبي صلى الله
عليه وسلم لو اشتريت حلة للأعياد وأقره النبي صلى الله عليه وسلم. والجمعة
من جملة الأعياد.
- الثاني: أن النبي صلى الله عليه وسلم يروى عنه أنه قال لو أن أحدكم اتخذ
ثوبين لجمعته سوى ثوبي مهنته.
وهذا الحديث وإن كان معناه صحيح إلا أنه معلول.
ولكن يكفي لإثبات هذه السنة الحديث الأول مع أني لم أقف على خلاف بين أهل
العلم في أنه يستحب للإنسان أن يلبس أطيب ما يجد من الثياب في الجمعة.
إذاً مسألة لبس الثياب هذا أمر لا إشكال في ثبوته لا من حيث النصوص ولا من
حيث المعنى ولا من حيث كلام أهل العلم.
والسنة أن يوفق الإنسان في لبسه لبس مجتمعه ما لم يكن اللبس محرماً. فيتجمل
بما يتجمل به أهل البلد ما لم يكن محرماً.
بناء على هذا لا يتعين ثوب معين لا أن يلبس رداء وإزار ولا أن يلبس ثوي ولا
غير ذلك ولا أن يغطي رأسه ولا أن يبقي رأسه مكشوفاً. فكل ذلك لا يتعين
وإنما يتجمل بما يتجمل به أهل البلد ما لم يكن محرماً.
• ثم قال رحمه الله:
ويبكر إليها.
يعني: أنه من المستحب والمسنون أن يبكر الإنسان إلى صلاة الجمعة.
والدليل على هذا من أوجه كثيرة:
- منها حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من
اغتسل يوم الجمعة غسل الجنابة ثم راح فكأنما قرب بدنه ومن راح في الساعة
الثانية فكأنما قرب بقرة ومن راح في الساعة الثالثة فكأنما قرب كبشاً أقرن
ومن راح في الساعة الرابعة فكأنما قرب دجاجة ومن راح في الساعة الخامسة
فكأنما قرب بيضة ثم تحضر الملائكة لسماع الذكر).
فهذا الحديث فيه حث واضح وصريح أن يحضر الإنسان إلى الجمعة مبكراً.
وقوله: (من اغتسل غسل الجنابة ثم راح فكأنما قرب بدنه ..... الخ. يحتمل أن
معنى قوله: (من اغتسل غسل الجنابة: يعني أنه يغتسل كغسل الجنابة.
ويؤخذ من هذا قاعدة: أن جميع الاغسال
المستحبة والواجبة في الشرع صفتها صفة غسل الجنابة.
ويحتمل أن يكون معناه: أنه يتقصد الجماع يوم الجماع ليغتسل غسل جنابة ثم
يذهب إلى المسجد. وهذا المعنى ليس ببعيد. بل قال الإمام أحمد رحمه الله:
وينبغي للرجل أن يطأ زوجته أو أمته صبح الجمعة. فهو فهم من الحديث هذا أي
أنه يغتسل غسل الجنابة الحقيقي.
على كل حال الحديث يحتمل ذلك.
المقصود الآن أن التبكير الذي دل عليه هذا الحديث سنة متفق عليها ويحصل
فيها من المنافع أشياء كثيرة.
ولكن اختلفوا في: متى يبدأ التبكير؟
- فمن العلماء من قال: يبدأ وقت التبكير من طلوع الفجر.
وعلى هذا كأنه يندب الإنسان أن يصلي الفجر في المسجد الذي سيصلي فيه الجمعة
لأنه من المعلوم أنه لن يذهب إلى مسجد الجمعة ويترك صلاة الفجر.
- ومن الفقهاء من قال: بل يبدأ وقت الفضيلة من طلوع الشمس لأنه قبل هذا
الوقت مشغول بصلاة الفجر وبالأذكار وبتطبيق السنة الصحيحة عن النبي صلى
الله عليه وسلم وهي: البقاء في مصلاه إلى طلوع الشمس.
وكأن هذا القول - الثاني أحسن. لأن الإنسان في صدر النهار مشغول بهذه
الوظيفة أي صلاة الفجر والأذكار والبقاء في موضعه.
• ثم قال رحمه الله:
ماشياً.
أي أن المستحب للإنسان أن يذهب إلى صلاة الجمعة ماشياً ولا يركب.
واستدلوا على هذا بقول النبي صلى الله عليه وسلم: (من غسل واغتسل وبكر
وابتكر ومشى ولم يركب ودنا واستمع كان له بكل خطوة أجر سنة صيامها
وقيامها).
هذا الحديث ظاهر إسناده الصحة. والحقيقة ليس له علة واضحة. لكن أشكل على
كثير من أهل العلم أنه لم يأت في جميع السنة حديث صحيح فيه من الأجر ما في
هذا الحديث.
ولذلك بعض العلماؤ استغرب متن الحديث. لأنه يقول: له بكل خطوة أجر سنة قيام
وصيام. وهذا أجر عظيم جداً لم يأت في أي نص ولم يترتب على أي عمل من
الأعمال هذا الأجر ولذلك استغربه بعض الأئمة. لكن من حيث الإسناد صحيح.
ثم مفردات هذا الحديث: من غسل واغتسل ودنا ومشا تشهد لها النصوص الأخرى.
بناء على هذا: نقول يستحب للإنسان أن يمشي ولا يركب إن كان يستطيع إلى هذا
الأمر سبيلاً.
فإن قال الإنسان: - إن ركبت ووصلت إلى
الجامع مبكراً وشرعت في العبادات.
- وإن ذهبت ماشياً تأخر الوقت.
فالأقرب والله أعلم أنه إذا كان يستطيع فإنه يذهب ماشياً لأن المشي في يوم
الجمعة بناء على هذا الحديث مقصود لذاته فيمشي فإذا وصل بدأ بالأعمال
الصالحة المختلفة من الصلاة والقراءة.
- ومن العلماء من قال: إذا ترتب على مشيه أن يتأخر تأخراً ملحوظاً بيناً
فإنه يركب.
والذي يظهر لي: الأول. لكون الشارع نص على مسألة المشي بالذات في صلاة
الجمعة.
• ثم قال رحمه الله:
ويدنو من الإمام.
الدليل على الدنو: - الحديث السابق. لأن فيه: (ودنا واستمع .. ).
ويدل عليه أيضاً عموم الأحاديث الأخرى كقول النبي صلى الله عليه وسلم: (لو
يعلمون ما في النداء والصف الأول ... ). وهذا عام لصلاة الجمعة ولغيرها من
الصلوات.
ومن المعلوم أنه كلما تقدم وصار في الصف الأول صار يدنو من الإمام أكثر.
• ثم قال رحمه الله:
ويقرأ سورة ((الْكَهْفِ)) في يومها.
يندب الإنسان أن يقرأ سورة الكهف يوم الجمعة. وفي الباب نحو ستة أحاديث
كلها ضعيفة وأحسن ,اصح ما في الباب حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن
النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من قرأ سورة الكهف يوم الجمعة أضاء له من
النور ما بين الجمعتين). وله ألفاظ سوى هذا اللفظ كثيرة.
وهذا الحديث الذي هو أصح ما في الباب أيضاً معلول بالوقف وممن أعله بالوقف
الإمام الحافظ النسائي.
ولكن كثير من أهل العلم يرون أن هذا الحديث وإن كان له حكم الوقف فله من
جهة أخرى حكم الرفع لكونه مما لا يقال بالرأي فإنه من المعلوم أنه لا أحد
يعلم أنه يندب الإنسان أن يقرأ في يوم الجمعة سورة الكهف.
ولهذا تتابعت أقوال أهل العلم ولم يشذ منهم أحد أن قراءة سورة الكهف يوم
الجمعة مستحبة ومندوبة وإن كان في الحقيقة في هذا الموضوع يحتاج إلى بحث
أعمق لا سيما إذا نظر الإنسان في مجموع الأدلة فلا يكاد يجد دليلاً سالماً
من العلة يصلح للإعتماد.
لكن لا نريد أن ندخل في هذه المسألة. المهم أن أقوى ما في الباب حديث أبي
سعيد رضي الله عنه وله حكم الرفع قطعاً من جهة الإسناد.
وجماهير أهل العلم يرون استحباب قراءة سورة لكهف يوم الجمعة.
•
ثم قال رحمه الله:
ويكثر الدعاء.
أي أنه ينبغي على المسلم بالذات يوم الجمعة أن يتحرى كثرة الدعاء بأن يكون
دعائه يوم الجمعة أكثر من دعائه في غير هذا اليوم.
وعلة هذا: أن في الجمعة ساعة إجابة فإذا أكثر من الدعاء صار أقرب أن يصيب
هذه الساعة.
والدليل على أن في الجمعة ساعة إجابة: الحديث الصحيح: عن أبي هريرة رضي
الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن في الجمعة لساعة لا يوافقها
مسلم وهو قائم يصلي يسأل خيراً إلا أعطاه الله أياه).
وفي الحديث مسألة قائم يصلي - هذا في البخاري.
فإذا كان في يوم الجمعة ساعة تعتبر ساعة إجابة يجيب الله سبحانه وتعالى
فيها دعاء العبد أدى ذلك إلى أن الإنسان يكثر من الدعاء لعله أن يصيب هذه
الساعة.
واختلف العلماء في تحديد هذه الساعة اختلافاً كثيراً ومتشعباً ومتنوعاً
وذكر الحافظ ابن حجر نحواً من أربعين قولاً في الفتح.
ونقتصر على قولين هما أصح هذه الأقوال:
= القول الأول: وهو الذي ذهب إليه الإمام أحمد رحمه الله أنها آخر ساعة من
العصر. لما ثبت في الحديث الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (تحروها
آخر ساعة من العصر). قال الإمام أحمد رحمه الله: وأكثر الأحاديث على أنها
بعد صلاة العصر.
وتقدم معنا أن الإمام أحمد رحمه الله من أهل الاستقراء التام وإذا كان يقول
أن أكثر الأحاديث على أنها بعد صلاة العصر فهذا له وزنه الثقيل باعتبار أن
الإمام أحمد رحمه الله حافظ بل إنه - كما تقدم معنا - قيل: أنه أحفظ
الأئمة.
وعلى كل حال هو من الحفاظ الذين يستقرئون الأحاديث ويتتبعونها فلكلمته هذه
وزن ثقيل جداً عند من يعرف هذه الصنعة.
= والقول الثاني: أن ساعة الإجابة من صعود الإمام إلى انتهاء الصلاة. وهذا
أيضاً ثابت في صحيح مسلم.
فينبغي على الإنسان أن يتحرا هاتين الساعتين بالدعاء والابتهال والتضرع.
•
ثم قال رحمه الله:
والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم.
الدليل على أن الجمعة يخص بالصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم:
- قوله صلى الله عليه وسلم: (أكثروا عليَّ من الصلاة يوم الجمعة).
وهذا الحديث صححه بعض المتأخرين والصواب
أنه ضعيف وممن ضعفه عدد من الأئمة على رأسهم الإمام البخاري والإمام أبو
حاتم.
- الدليل الثاني: العمومات التي فيها الأمر بالصلاة على النبي صلى الله
عليه وسلم فإنها تشمل أيضاً يوم الجمعة.
وبهذا علمنا أن مسألة الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم يوم الجمعة إنما
يستأنس لها بالأحاديث العامة وأنه ليس في هذه المسألة حديث صحيح خاص.
• ثم قال رحمه الله:
ولا يتخطى رقاب الناس.
ذهب الحنابلة إلى أنه يكره فقط أن يتخطى الإنسان رقاب الناس.
ودليل الكراهة:
- أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى رجلاً يتخطى الرقاب يوم الجمعة فقال له:
(اجلس فقد آذيت).
- والدليل الثاني: أن في تخطيه الرقاب إيذاء للمؤمنين. وإيذاء المؤمنين
ممنوع.
= والقول الثاني: أن تخطي الرقاب محرم فإن تخطى الرقاب فهو آثم.
وهذا القول اختيار شيخ الاسلام ابن تيمية وهو الذي تدل عليه النصوص
والقواعد العامة.
ومتى علم الإنسان أنه إن تخطى الرقاب أثم صار هذا من أسباب التقدم وحضور
الصلاة مبكراً.
• ثم قال رحمه الله:
إلاّ أن يكون إماماً.
إذا كان المتخطي هو الإمام جاز بلا كراهة بشرط أن لا يجد طريقاً آخر يصل من
خلاله إلى المنبر بلا تخطي للرقاب فإن وجد طريقاً آخر حرم عليه أن يتخطى
الرقاب ولو كان إماماً.
والدليل على استثناء الإمام من وجهين:
- الأول: أن الحاجة داعية إلى مثل هذا. وتتعلق به مصلحة إقامة الصلاة.
- الثاني: أن النبي صلى الله عليه وسلم لما أقيمت الصلاة وهو غائب وقام في
الصف تخطى أو تخلص من الصفوف حتى قام في الصف الأول.
وإنما فعل ذلك صلى الله عليه وسلم لأنه الإمام.
• ثم قال رحمه الله:
أو إلى فُرْجَة.
يعني أن من دخل المسجد ورأى فرجة في الصفوف الأمامية جاز له أن يتخطى
الرقاب إلى أن يصل إلى هذه الفُرْجَة بلا كراهة.
والدليل: أن الذين لم يتقدموا إلى هذه الفُرْجَة من المأمومين الذين في
الصوف أسقطوا حق أنفسهم بعدم تقدمهم إلى هذا المكان والشارع حث على تسوية
الصوف والتراص وسد الخلل فإذا لم يقم به هؤلاء فقد أسقطوا حرمتهم.
= والقول الثاني: أنه يجوز التقدم إلى الفرجة بشرط أن تكون في الصف الذي
بين يديه فقط.
وهذا اختيار شيخ الاسلام بن تيمية.
= والقول الثالث: أنه يجوز إذا كان بينه وبين الفرجة صف أو صفين أو ثلاثة
فقط.
= والقول الرابع: أنه لا يجوز مطلقاً. وهو رواية عن الإمام أحمد رحمه الله.
في الحقيقة اختيار شيخ الاسلام يتوافق مع هذه الرواية. وجه ذلك:
أن الشيخ رحمه الله يقول: لا يجوز تخطي الرقاب إلا إذا إلى الفرجة التي بين
يديك والفرجة التي بين يدي ليس فيها تخطي للرقاب. فصار قوله كقول الإمام
أحمد وربما هو رحمه الله يريد هذا - يريد أن يختار هذه الرواية عن الإمام
أحمد وهي المنع مطلقاً.
وهذا القول هو الصواب - المنع مطلقاً ولو وجدت فرجة.
والدليل على ذلك: أن الرجل الذي قال له النبي صلى الله عليه وسلم اجلس فقد
آذيت إنما تقدم ليجلس في فرجة. وهذا هل هو احتمال أو نص؟
هذا احتمال. لأننا نجد اليوم بعض الناس يتقدم لعله يجد فرجة وليس يتقدم
ليجلس في فرجة. فربما كان الرجل كذلك لكن مع ذلك نقول: أنه ولو وجدت فرجة
فإن حرمة الناس الذين تقدموا لا تسقط بقضية أنهم لم يتقدموا وأذيتهم لا
تجوز مع ذلك.
• ثم قال رحمه الله:
وحرم: أن يقيم غيره فيجلس مكانه.
يعني: أنه يحرم أن يقيم الرجل رجلاً آخر ويجلس مكانه فإن فعل فهو آثم وفي
صحة صلاته خلاف.
والدليل على ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم: (لايقيم الرجل الرجل من
مكانه ليجلس فيه).
•
ثم قال رحمه الله:
إلاّ من قدّم صاحباً له في موضع يحفظه له.
يعني: أنه يستثنى من حكم المسألة السابقة ما إذا أرسل الإنسان رجلاً يجلس
في مكان ثم إذا قدم هذا الرجل قام له من مكانه ليجلس فيه.
فهذا جائز لدليلين:
- الأول: أن الذي قام قام باختياره.
- الثاني: أن الشيخ الفقيه الإمام الكبير محمد بن سيرين كان يصنع ذلك. فقد
كان يرسل غلاماً يجلس حتى إذا جاء قام وجلس مكانه.
وأما القائم فإنه يكره له أن يقوم لأن التبرع بالقرب مكروه. ولذلك القاعدة
المشهورة تقول: الإيثار بالقرب مكروه.
إذاً عرفنا الآن حكم الذي سيأتي وحكم الذي سيقوم.
فإن قام الرجل للرجل بلا إرسال - فلو حضر
رجل كبير وقام له رجل آخر بلا اتفاق سابق فإنه ينبغي للإنسان أن لا يجلس
فيه بل ينبغي أن يأمر من قام أن يرجع إلى مكانه وإلى هذا ذهب الإمام أحمد
فإنه دخل الجامع مرة فقام له رجل فأبى الإمام أن يجلس في مكانه وقال له:
ارجع فاجلس في مكانك.
وهذا على سبيل الندب ولو جلس لجاز.
إذاً في الحقيقة نقول: يكره للقائم ولمن أراد أن يجلس أن يفعل هذا. لكن إن
أرسل رجلاً وجلس مكانه فلا مانع على أن هذا لا ينبغي لكن لا نقول أنه لا
يجوز بل يجوز لما ذكرنا من الآأثار عن محمد بن سيرين وهو من التابعين وهو
بنفسه عالم وقوله معتبر وإقرار الناس له في عصر التابعين أيضاً يستدل به مع
أننا لا نقول أن هذا دليل إنما نقول أن غاية ما هنالك أن تكون فتوى لتابعي
لكن يستأنس بها الإنسان.
• ثم قال رحمه الله:
وحرم رفع مصلى مفروش.
يعني أنه يحرم على الإنسان أن يرفع المصلي المفروش الذي وضعه شخص ليأتي بعد
حين ويجلس فيه.
والدليل على التحريم: من وجهين:
- الأول: أن في هذا افتياتاً على من وضع هذا المصلى المفروش.
- الثاني: أنه يقع في رفعه غالباً نزاع بين الرجلين والشارع الحكيم إنما
أمر بالجمعة وحث عليها كما تقدم معنا تأليفاً للقلوب واجتماع الكلمة. فما
كان يسبب عكس هذه الحكمة صار ممنوعاً في الشرع.
= والقول الثاني: أنه يجوز رفع هذا المصلى.
- لأن من وضعه فهو ظالم مغتصب للبقعة.
- ولأن الشارع الحكيم إنما أمر بالتبكير بالأبدان لا بحجز الأمكنة.
- ثالثاً: ولأن هذا يفضي غالباً إلى تخطي الرقاب وهو مكروه عند الحنابلة
ومحرم على الصواب.
إذاً القول الثاني: جواز رفع المصلى لهذه الأدلة الثلاثة.
= القول الثالث: وجوب رفع المصلى على ولي الأمر. يعني أنه يجب على ولي
الأمر أن يرفع هذا المصلى. لأن صاحب المصلى ظالم ومغتصب وعلى ولي الأمر أن
ينكر هذا المنكر. - وولي الأمر: المسؤول سواء كان جهة أو غير ذلك إنما
المهم أن تكون مخولة من ولي الأمر.
وهذا القول - الثالث - اختيار شيخ الاسلام. وهو الصواب.
فما يصنعه بعض الناس اليوم من وضع مصلى
مفروش بعد صلاة الجمعة ثم لا يحضر هو إلا في منتصف النهار أو قريباً من
الزوال هو آثم بهذا الصنيع ومغتصب للبقعة وفي صحة صلاته خلاف بين الفقهاء.
إذاً صار في هذه المسألة - الراجح عكس المذهب تماماً فالمذهب يقولون: وحرم
رفع مصلى. والصواب أنه يجب لكن على ولي الأمر.
• ثم قال رحمه الله:
ما لم تحضر الصلاة.
يعني: أنها حضرت الصلاة فيجوز رفع هذا المصلى.
الدليل: أن الحرمة للمصلي لا لهذا المصلى فإذا لم يحضر رفع هذا المفروش.
وفهم من كلام المؤلف رحمه الله أنه إذا حضرت الصلاة وصاحب المصلى لم يحضر
يحرم أن نصلى فوقه بل يجب أن نرفع هذا المصلى - المفروش - ونصلي في المكان
ولا يجوز أن نصلي على هذا المفروش لأن هذا المفروش مال للغير لا يجوز أن
ننتفع به.
وهذا هو الصحيح: أنه إذا تأخر يجب أن نرفع المصلى المفروش ثم نصلي في
مكانه.
•
ثم قال رحمه الله:
ومن قام من موضع لعارض لحقه ثم عاد إليه قريباً: فهو أحق به.
إذا اتخذ الإنسان مكاناً في صلاة الجمعة ثم قام لعارض سواء كان هذا العارض
جوع أو احتاج إلى قضاء الحاجة أو ليقضي مصلحة تتعلق بأهله طارئة فإنه أحق
بمجلسه لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (من قام من مجلس فهو أحق به إذا رجع
إليه).
لكن اشترط الحنابلة: أن يعود قريباً. فإن تأخر جاز لغيره أن يجلس فيه.
= والقول الثاني: - أنه إن تأخر وهو ما زال في حاجته التي قام من أجلها وجب
أن ينتظر.
- وإن اشتغل بحاجة أخرى جاز للآخرين أن يجلسوا في مكانه.
وهذا قول للحنابلة وليس رواية عن الإمام أحمد رحمه الله.
وهذا القول هو الصواب لأنه ما دام قام لأداء حاجة وهو فيها فإنه ينتظر ولو
تأخر لكن إن اشتغل بغيرها وصار يضيع الوقت بأمور أخرى صار الذين في المسجد
أحق منه بهذه البقعة.
• ثم قال رحمه الله:
ومن دخل والإمام يخطب: لم يجلس حتى يصلي ركعتين يوجز فيهما.
إذا دخل المصلي والإمام يخطب فإنه يصلي ركعتين ولو فاته استماع الخطبة
أثناء صلاته للركعتين.
- لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (من دخل والإمام يخطب فليصل ركعتين).
وهذا القدر متفق عليه وفي رواية لمسلم: (وليوجز فيهما).
فاشتمل هذا الحديث على جميع الأحكام التي
ذكرها المؤلف رحمه الله.
- والدليل الثاني: أن رجلاً دخل والنبي صلى الله عليه وسلم يخطب فقال له:
أصليت قال: لا. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (قم فصل).
- والدليل الثالث: قول النبي صلى الله عليه وسلم إذا دخل أحدكم المسجد فلا
يجلس حتى يصلي ركعتين).
فلا شك إن شاء الله أن من دخل فالسنة في حقه أن يصلي ركعتين ولو كان الإمام
يخطب.
•
ثم قال رحمه الله:
ولا يجوز الكلام: والإمام يخطب.
لا يجوز للإنسان أن يتكلم والإمام يخطب.
- لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا قلت لصاحبك أنصت فقد لغوت).
وإذا كان يحرم على الإنسان أن يأمر بالمعروف وهو قوله: أنصت. فمن باب أولى
أن يتكلم بالكلام المباح.
- ولقول النبي صلى الله عليه وسلم: (من تكلم والإمام يخطب فهو كالحمار يحمل
أسفاراً).
وهذا مذهب الجماهير. أنه يحرم على الإنسان أن يتكلم والإمام يخطب.
- فإن كان المأموم لا يمكن له أن يسكع كلام الخطيب إما لصمم أو لبعد أو لأي
عارض. فإنه أيضاً يجب عليه أن لا يتكلم بكلام مرتفع يسمع.
وهو إحدى الروايتين عن الإمام أحمد رحمه الله.
لكن مع ذلك يجوز له أن يقرأ القرآن أو أن يصلي على النبي صلى الله عليه
وسلم أو أن يذكر الله. قال الإمام أحمد: ولا يرفع بذلك صوته.
إذاً عرفنا أن من لايسمع الخطبة لا يجوز له أن يتكلم مع غيره ولا أن يرفع
صوته بالكلام لكن يجوز له أن يذكر الله في نفسه.
= إذا رأى الإنسان شخصاً يتكلم فإنه بنص الحديث يحرم عليه أن ينهاه عن هذا
المنكر. فلا يجوز له أن يقول له: أنصت أو اسكت. فإن قال فقد لغى.
- لكن هل يجوز أن يشير إليه إشارة بالسكوت؟
في هذا خلاف: والصواب أنه يجوز.
والدليل على ذلك: - ما جاء في الحديث الصحيح أن رجلاً دخل يوم الجمعة
والنبي صلى الله عليه وسلم يخطب فتوجه للنبي صلى الله عليه وسلم وقال
رافعاً صوته: متى الساعة؟
فتركه النبي صلى الله عليه وسلم.
قال الراوي: فأومأ إليه الناس أن اسكت.
ففي هذا الحديث أن الناس أشاروا إليه
بالسكوت والنبي صلى الله عليه وسلم يراهم وهو يخطب ولم ينكر عليهم هذه
الإشارة فدل ذلك على أن إشارة الناس لمن يتكلم ليسكت تجوز ولا تعتبر من
الإخلال بالاستماع للخطبة.
• ثم قال رحمه الله:
إلاّ له أو لمن يكلمه.
يجوز أن يتكلم الإمام.
ويجوز للمأموم أن يتكلم مع الإمام فقط.
والدليل على ذلك: - ما تقدم معنا:
أولاً: النبي صلى الله عليه وسلم قال للرجل: أصليت. فهذا دليل على جواز أن
يخاطب الإمام أحد المأمومين.
وأما الدليل على أن يخطاطب أحد المأمومين الإمام فهو أن رجلاً دخل على
النبي صلى الله عليه وسلم وهو يخطب وقال هلكت الأموال وانقطعت السبل ....
الحديث.
ولم ينكر عليه النبي صلى الله عليه وسلم أنه خاطبه أثناء الخطبة.
فدلت النصوص إذاً على جواز أن يكلم المأموم الإمام أو أن يكلم الإمام من
شاء من المأمومين. ولا أعلم في جواز مخاطبة المأموم للإمام والإمام للمأموم
خلاف.
• ثم قال رحمه الله:
ويجوز قبل الخطبة وبعدها.
يجوز أن يتحدث الإنسان قبل الخطبة ولو بعد دخول الإمام.
ويجوز أن يتحدث بعد الخطبة ولو قبل انصراف الإمام.
والدليل على ذلك:
- أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: من قال لصاحبه أنصت والإمام يخطب. فحدد
المنع في أثناء الخطبة.
- والدليل الثاني: أن المأموم ممنوع من الكلام لينصت فإذا لم يكن الإمام
يخطب لم توجد هذه العلة.
- ثالثاً: أن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان يدخل ويصعد
المنبر ويجلس ويأخذ أصحابه - الصحابة - بالحديث والكلام مع بعضهم إلى أن
يبدأ بالخطبة فينصتون.
فهذا دليل على أن تحدث المأمومين مع بعض قبل أن يبدأ الإمام بالخطبة جائز
ولا حرج فيه. بل لو قيل أن هذا إجماع الصحابة لكان صحيحاً لأن الذين حضروا
خطبة عمر رضي الله عنه هم سادة الصحابة ومع ذلك لم ينكروا على الناس أنهم
يتحدثون.
مسألة:
هل يجوز أن يتحدث الإنسان بين الخطبتين؟
الجواب: فيه خلاف. والصواب أنه يجوز. لما تقدم معنا أن الأحاديث علقت المنع
بخطبة الإمام والإمام الآن لا يخطب ولا يتكلم فيجوز حينئذ أن يتكلم المأموم
مع صاحبه بين الخطبتين.
وبهذا انتهى باب صلاة الجمعة ووقفنا على باب صلاة العيدين.
انتهى الدرس،،،
|