شرح زاد المستقنع للخليل

باب القرض
- قال - رحمه الله -:
- باب القرض.
القرض في لغة العرب: القطع.
وفي الاصطلاح الفقهي: دفع مال لمن ينتفع به ويرد بدله.
- قال - رحمه الله -:
- وهو مندوب.
القرض مشروع بالسنة والإجماع.
- أما السنة: فإنه صح أن النبي - صلى الله عليه وسلم - اقترض بكراً.
- وأما الإجماع فقد أجمع أهل العلم على مشروعية القرض وجوازه.
وقوله: (وهو مندوب). يعني: للمقرض.


وفهم من هذا: أن الإنسان إذا طلب منه قرض وامتنع فإنه لم يترك واجباً ولا إثم عليه.
وهذا صحيح بالإجماع.
فالقرض مندوب وليس بواجب. ولا إثم ولا تثريب على من امتنع من الإقراض، إلا أن الإقراض مندوب ومحبوب إلى الشارع.
والدليل على أن الإقراض محبوب:
- حديث ابن مسعود - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (ما من مسلم يقرض مسلماً مرتين إلا كان كصدقة مرة). وهذا الحديث فيه خلاف في صحته.
والأقرب والله أعلم: أنه موقوف على ابن مسعود وممن رجح الوقف الإمام الدارقطني والبيهقي. لكن مع ذلك أقول أن هذا الحديث له حكم الرفع وأن ابن مسعود - رضي الله عنه - لا يقول مثل هذا الحكم التوقيفي إلا عن خبر عن النبي - صلى الله عليه وسلم -.
فإذاً وإن كان موقوفاً فله حكم الرفع.
واستدلوا على أن القرض مندوب بدليل آخر:
- وهو: أن من يقترض فإنه غالباً محتاج لأنه لن يشغل ذمته إلا وهو محتاج.
واستدلوا على أنه مندوب:
- أنه خير من الصدقة من وجه وهو: أنه يلحق طالب الصدقة غضاضة ولا يلحق طالب الدين أو القرض غضاضة.
* * مسألة/ طلب القرض ليس من المسألة المكروهة. كيف وقد اقترض النبي - صلى الله عليه وسلم -.
- ثم قال - رحمه الله -:
- وما يصح بيعه: صح قرضه.
= ذهب الحنابلة والظاهرية إلى أنه كل ما صح بيعه صح قرضه.
ونحن نتحدث الآن عن موضوع مهم وهو ما هي الأشياء التي يجوز أن تقرض.
إذاً الحنابلة والظاهرية هم أوسع المذاهب: فهم يرون أن كل عين يجوز أن تباع يجوز أن تقرض ولو لم يجز السلم فيها.
= القول الثاني في هذه المسألة المهمة: أنه لا يجوز إلا قرض ما يجوز السلم فيه.
واستدلوا على هذا:
- بأن ما لا يجوز السلم فيه لا يمكن أن يضبط فيكون الوفاء به صعب.
وإلى هذا ذهب الشافعية. لكن الشافعية اضطروا أن يستثنوا بعض الأشياء: فقالوا: يجوز فيها القرض ولا يجوز فيها السلم. وهذا الاستثناء يشير إلى ضعف في هذا القول.
= والقول الثالث: وهو أضيق الأقوال: أنه لا يجوز قرض إلا المثليات دون القيميات. ستأتينا ما هي المثليات والقيميات. وهذا القول ضيق جداً وضيق بمعنى الكلمة.
واستدلوا على هذا:


- بأن القيميات يقع التنازع عند تقييمها لسداد القرض فنكتفي بالمثليات.
والصواب إن شاء الله مع الحنابلة والظاهرية: لعموم قوله تعالى: {إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى فاكتبوه} [البقرة/282].والآية عامة. - ولأن النبي - صلى الله عليه وسلم - استسلف بكراً وهو عند أصحاب هذا القول من القيميات وليس من المثليات. فالأقرب إن شاء الله جواز اقتراض كل ما يجوز بيعه.
- ثم قال - رحمه الله -:
- إلاّ بني آدم.
= ذهب الجماهير إلى المنع من اقتراض بني آدم.
واستدلوا على هذا بأمرين:
- الأول: تكريمهم.
- الثاني: أن اقتراض بني آدم قد يؤدي إلى وطء الجارية المحرمة. فإذا إقترض جارية لغيره ربما يطأ هذه الجارية فيكون زنا.
= والقول الثاني: جواز اقتراض الذكور دون الإناث.
= والقول الثالث: جواز إقتراض الذكور والإناث بشرط أن تكون الإناث من محارم المقترض.
= والقول الرابع: الجواز مطلقاً. بلا شرط ولا قيد وهذا الذي نصره ابن حزم.
فهذه أربعة أقوال لكن هذه الأربعة أقوال لا تدل على شدة الخلاف: لأن الجماهير على المنع - جماهير أهل العلم على المنع.
- ثم قال - رحمه الله -:
- ويملك بقبضه.
المؤلف - رحمه الله - يريد أن يبين متى يملك الإنسان القبض.
فقال: (يملك بقبضه) يعني: ولا يملك قبل ذلك. ولو تم العقد فإن الملك لا يكون إلا بالقبض.
= القول الثاني: أن الملك يكون بالعقد ولو لم يقبض.
واستدل هؤلاء وهم المالكية:
- بأن العقود في الشرع يملك المعقود عليه فيها بمجرد العقد قبل القرض.
فالإنسان إذا باع سيارة فامشتري ملك السيارة حتى قبل القبض ولو بقيت السلعة عند البائع.
أما مسألة: هل يبيع أو لا يبيع والضمان؟ هذه مسائل أخرى لكن ملك السلعة انتقل بمجرد العقد.
وهذا القول - الثاني - أضيق من القول الأول.
= القول الثالث - وهو أضيق الأقوال وأشقها: أن القرض لا يملك إلا بالانتفاع به على جهى الاستهلاك بالبيع أو بالأكل أو بغيره.
يعني: لابد أن ينتفع ولابد أن يكون الانتفاع على وجه الاستهلاك.
وهذا غاية في التضييق.
الراجح: يظهر لي في هذه المسألة المهمة التي كثيراً ما ينبني عليها فروع ويكون حل النزاع بمعرفة حكم هذا القرض من حيث الملك.


الذي يظهر لي أن القرض لا يملك إلا بالقبض.
تعليل ذلك: ذكر بعض الفقهاء تعليلاً لطيفاً جداً: وهو قوله: أن القرض عقد يشتمل على معنى المعاوضة والتبرع. فهو معاوضة لأنه سيأخذ بدله وهو تبرع لأنه إرفاق بالمقترض. إلا أن جانب الإرفاق والتبرع فيه يغلب جانب المعاوضة.
وإذا كان جانب التبرع به يغلب جانب [[المعاوضة]] فمن المعلوم أن الاشياء المتبرع بها كالهدية والصدقة والهبة لا تملك إلا بالقبض.
وهو في الحقيقة تعليل فقهي عميق من وجة نظري.
فالأقرب إن شاء الله أنه لا يملك إلا بالقبض ولا يملك قبل ذلك ولو تم العقد.

- ثم قال - رحمه الله -:
- فلا يلزم رد عينه.
هذه المسألة مبنية على المسألة السابقة.
يعني: فإذا كان الملك يتم بالقبض فإنه بعد ذلك لا يملك طلب بعين القرض. لأنه أصبح مملوكاً لمن؟ للمقترض.
ولأن عقد القرض لازم للمقرض. جائز من جهة المقترض. عكس ما قد يتصوره بعض الناس.
صورة المسألة: إذا أقرض زيد عمرو ألف ريال. متى يملك عمرو الألف؟ إذا قبضه.
فإذا قبض عمرو الألف وأصبحت بيده مقبوضة فإن زيد لا يملك الرجوع في القرض. فلو قال: رجعت في القرض. يعني: في عين القرض فإنه لا يملك. وإنما له البدل.
فهذا عين المال المملوكة المقبوضة للمقترض لا يملك المقرض إلزامه بردها بل يملك البدل كما سيأتينا فقط. فهو من هذه الجهة ملزم لا يستطيع أن يرجع المقرض.
لكنه جائز للمقترض فلو قال المقترض: إذا أردت أن ترجع في القرض فهذا عين مبلغك.
قد لا يظهر ثمرة كبيرة للخلاف إذا كان القرض مبالغ نقدية لكن يظهر الفرق الكبير لو كان القرض على أعيان لها قيم مالية فإن الأعيان تختلف فبعضها أجود من بعض.
فلو أراد المقرض أن يرجع فللمقترض أن يقول: لا. لك البدل.
- ثم قال - رحمه الله -: مكملاً لهذا الحكم.
- بل يثبت بدله.
إذاً إذا اقترض الإنسان شيئاً فإن الذي يثبت في ذمته: بدل القرض. وسيأتينا بالتفصيل في كلام المؤلف - رحمه الله - ماذا يرد المقترض؟
- ثم قال - رحمه الله -:
- في ذمته حالاً ولو أجله.
= ذهب كثير من الفقهاء - الجمهور: إلى أن الدين يقع حالاً ولو أجل في العقد. وذكروا أيضاً أنه يقع حالاً ولو سلم أقساطاً. وهذا عجيب.


يعني: لو أن إنساناً يقرض إنساناً كل فترة مائة ريال ألف ريال فهذا القرض أقرض جملة واحدة أو أقساط؟ أقساط. فالفقهاء يقولون إذا أقرض أقساط فإن له أن يطالب بجميع المبلغ دفعة واحدة ولا يتأجل وإلى هذا ذهب الجماهير.
واستدلوا على هذا:
- بأن التأجيل تبرع والتبرع دائماً لا يلزم.

= والقول الثاني: أنه إذا أجل في العقد وجب التأجيل ولزم للمقرض.
وإلى هذا ذهب المالكية واختاره شيخ الاسلام بن تيمية وتلميذه العلامة ابن القيم.
واستدلوا على هذا:
- بالنصوص العامة الدالة على وجوب الوفاء بالعقود والشروط. وهذا من جملة العقود والشروط.
= وذهب بعض الفقهاء إلى أن القرض يتأجل ولو لم يؤجل لكن إذا لم يؤجل فإنه يتأجل فقط إلى وقت عرفي يمكن أن ينتفع المقترض من المبلغ به.
فإذا أقرض زيد عمراً ولم يشترط أجلاً فعند هؤلاء يجب أن ينتظر المقرض إلى أن يمضي وقت يمكن في العرف ان ينتفع المقترض من المال.
وفي الحقيقة هذا القول - الأخير - هو الأقرب إن شاء الله: لأن عقد القرض عقد من العقود التي كما تقدم فيها شائبة المعاوضة وفيها شائبة التبرع لكن أي نفع للمقترض إذا أخذ منه القرض بعد ساعة من القرض؟ أي نفع في هذا القرض؟
لكن مع ذلك الجماهير وغالب أهل العم لا يرون انه يتأجل لا سيما بدون شرط ولو طرفة عين ولا ساعة بل متى طالبه لزمه أن يسدد.
الخلاصة: المسألة التي تهمنا الآن: أنه إذا أجل القرض فالجمهور يرون أنه لا يتأجل والمالكية يرون أنه يلزمه الأجل ويلزم بالانتظار إلى حلول الأجل وأن هذا القول هو الذي تدل عليه النصوص.
- ثم قال - رحمه الله -:
- فإن رده المقترض: لزم قبوله.
يعني: فإن رد المقترض عين القرض لزمه أي: لزم المقرض أن يقبله. بشرط: أن لا يتعيب ولا ينقص.
وسواء ارتفع سعره أو انخفض فإن هذا لا ينظر إليه.
وهذا الحكم في المثليات أما المتقومات فيجب أن يرد القيمة.
إذاً إذا رد المقترض القرض بعينه لم ينقفص ولم يتعيب فيجب وجوباً على المقرض أن يقبله ولو انخفض سعره.
فإذا اقترض خمسين صاعاً من القمح وكان قيمتها خمسون درهماً ثم رده هو بعينه وأصبح سعره يوم الرد أربعين درهماً فيجب وجوباً أن يقبل. أنه رد له عين ماله بلا نقص.


- ثم قال - رحمه الله -:
- وإن كانت مكسرة أو فلوساً، فمنع السلطان المعاملة بها: فله القيمة وقت القرض.
يعني: وإن أقرضه دراهم مكسرة أو أقره فلوساً ثم منع السلطان من التعامل بالدراهم المكسرة والفلوس فحينئذ يجب أن يرد القيمة. وسيأتينا القيمة هل هي يوم القرض أو يوم الرد أو يوم الابطال؟
الدليل:
- قالوا: أن إبطال السلطان للتعامل بالدراهم المكسرة وبالفلوس هو إبطال لماليتها فهو كما لو تلفت وهي لو تلفت لم يجز أن يرجع فيها.
وهذا صحيح ولا إشكال في ذلك: إذا أقرضه دراهم مكسرة كان الناس يتعاملون بها ثم أبطل السلطان العمل بها فإن إبطال السلطان يعني أن هذه الأشياء ليس لها قيمة مالة مطلقاً في عرف الناس: فكيف نلزم المقرض المحسن أن يقبل هذا الرد؟
لكن المؤلف - رحمه الله - يقول: (فله القيمة وقت القرض).
إذا جاء في كلام الفقهاء: (وقت القرض) فيعني: يوم القرض. وقول بعض الفقهاء: (يوم القرض) أوضح وأدق.
= فالحنابلة يرون أنه يجب عليه أن يدفع القيمة يوم القرض.
فإذا كانت قيمة الفلوس يوم اقرض مائة درهم وقيمة الفلوس يوم الإبطال خمسين درهماً فالواجب: مائة. لأن الواجب هو يوم القرض.
لماذا؟ قال الحنابلة: لأنها وجبت - يعني: هذه الفلوس في المثال - في ذمته في ذلك اليوم.
= والقول الثاني: أنها تجب يوم الإبطال فننظر لليوم الذي أبطل فيه السلطان العمل بهذه الفلوس وندفع تلك القيمة.
واستدل هؤلاء:
- بأن الواجب في ذمة المقترض إلى يوم الإبطال: الفلوس أو قيمة الفلوس؟ (نحن نقول: متى تجب القيمة في الفلوس؟ إذا أبطلها السلطان) معنى هذا أنه قبل إبطال السلطان فالواجب الفلوس لأن الفلوس مثلية.
إذاً: مرة أخرى - نقول: هل الواجب في ذمة المقترض إلى يوم الإبطال الفلوس أو قيمة الفلوس؟ الفلوس.
ثم يوم الإبطال صار الواجب في ذمته القيمة.
فهم يقولون نأخذ باقيمة يوم الإبطال لأنها أصبحت في ذمته في ذلك اليوم وقبل ذلك كانت الفلوس هي التي في ذمته.
أي القولين أرجح؟ طبعاً: القول الثالث أنه يوم الرد وهذا ضعيف ضعيف فقهاً ونظراً لكن الإشكال في أنه هل الواجب ذمة المقترض يوم الإبطال أو يوم القرض؟


فيها إشكال في الحقيقة وتردد لأنه إذا ألزمناه بأن يدفع قيمة الفلوس يوم الإبطال ففي هذا نوع من الغضاضة على المقرض والمقرض محسن وهو أعطاه الفلوس - يعني: قيمتها يوم الإقراض مثلاً: مائة. فكيف نلزمه في يوم الإبطال بخمسين فقط. ومن جهة أخرى أن الذي ثبت في ذمة المقترض هو قيمة هذه الفلوس يوم الإبطال فقط لا يوم القرض لأنها إلى يوم الإبطال والواجب في ذمته هو الفلوس فقط. ففيها عندي نوع تردد.
- ثم قال - رحمه الله -:
- ويرد المثل في المثليات والقيمة في غيرها.
هذا المبحث يتعلق بما هو الواجب على المقترض إذا أراد أن يرد فبين المؤلف - رحمه الله - أن الواجب أن يرد المثل في المثليات والقيمة في القيميات. وهذا يستدعي أن نعرف بالضبط ما هي المثليات وما هي القيميات؟
وهذا البحث وهو تحديد مفهوم المثليات: محل خلاف. لكن من الأشياء المفيدة أن تعرف الآن أن الخلاف في المثليات فقط: أنه كلما عرفت المثليات فالقيميات ما سواها.
إذاً الخلاف في الحقيقة في المثليات وتبعاً للخلاف في المثليات يكون الخلاف في القيميات.
= فالحنابلة يرون: أن المثليات هو: كل مكيل وموزن يصح السلم فيه ولا صنعة مباحة فيه.
مثال المثليات عند الحنابلة: الحديد. فالحديد موزون ويصح السلم فيه وليس فيه صنعة مباحة.
فإذا أخذنا الحديد وصنعنا منه أواني خرج عن أن يكون من المثليات وأصبح من القيميات لأنه صار فيه صنعة.
وكذلك الذهب وكذلك الفضة وكل المعادن.
وكذلك كل مكيل أو موزون من الحبوب التي يمكن أن تصنع لتكون خبزاً أو غير ذلك مما يؤكل لا على هيئة الحبوب.
= القول الثاني: أن المثليات هي كل ما لا تختلف آحاده اختلافاً تختلف به أقيامها.
ولا نحتاج أن نقول القيميات لا في القول الأول ولا في القول الثاني لأن القيميات هي ما عدا ذلك على القول الأول وعلى القول الثاني.
= القول الثالث: أن المثليات هي كل ماله شبيه أو نظير أو مثيل ولو لم يتطابق معه تماماً.
وإلى هذا القول ذهب بعض الفقهاء ونصره من المتأخرين شيخ مشائخنا الشيخ السعدي - رحمه الله -.
واستدل على هذا بأدلة:


- الأول: أن عائشة رضي الله عنها لما كسرت آنية أختها من أمهات المؤمنين قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: (إناء بإناء) مع أن الإناء على مقتضى تعريف الحنابلة: قيمي. ومع ذلك جعله النبي - صلى الله عليه وسلم - مثلي.
- وقال أيضاً: في الحديث نفسه: (إناء بإناء وطعام بطعام) والطعام بعد الصنع والطبخ يصبح أيضاً قيمي.
- ولأن النبي - صلى الله عليه وسلم - استسلف بكراً.
وهذا القول الثالث مع قلة القائلين به من الفقهاء إلا أنه ظاهر القوة بسبب الأدلة التي استدل بها من الأحاديث المرفوعة الثابتة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ولا يحول بين الإنسان وبين ترجيحه قلة القائلين به. بل هو في الحقيقة قول قوي وأيضاً فيه تيسير كبير على المتعاملين بالقروض. على أنه قلما يحتاج الإنسان لهذه المباحث. لماذا؟ لأن غالب القروض إنما هي في النقود.
هل سمعتم قروض في غير النقود؟ قل. يوجد لكن قليل جداً.
ولذلك قد لا يحتاج الإنسان لا سيما في وقتنا هذا إلى كثير من هذه البحوث.
- ثم قال - رحمه الله -:
- فإن أعوز المثل: فالقيمة إذاً.
لما قرر المؤلف - رحمه الله - أن الواجب في المثليات: المثل.
قال: (فإن أعوز) يعني فإن لم يستطع المقترض أن ياتي بالمثلي لأي سبب من الأسباب فالواجب حينئذ في ذمته القيمة.
وقول المؤلف - رحمه الله -: (فالقيمة إذاً) يعني يوم الإعواز. فننظر يوم الإعواز كم قيمة هذا المثلي وندفع للمقرض قيمة ما أقرضه.
وهذه المسألة ترجح أي قول من الأقوال السابقة في مسألة إذا أبطل السلطان العمل بالفلوس أو الدراهم المكسرة؟ أنه يوم يوم الإبطال أو يوم القرض؟ في الحقيقة هو يؤيد يوم الإبطال لأن يوم الإبطال مثل يوم الإعواز.
وهذا يؤيد نوعاً ما رجحان المسألة الأولى مع بقاء الإشكال فيها.
المهم أن الواجب القيمة يوم الإعواز ينظر في قيمته وتدفع للمقرض.
((الأذان)).
- ثم قال - رحمه الله -:
- ويحرم: كل شرط جر نفعاً.
أي: للمقرض. أما الشروط التي تجر النفع للمقترض في من الإحسان.
إذاً كل شرط يجر نفعاً للمقرض فهو محرم. وهو الذي يسميه الفقهاء ربا القروض.
بخلاف ربا البيوع الذي تقدم معنا في بيع الأعيان هذا يسمى ربا القروض.


الدليل: استدل العلماء رحمهم الله على تحريم هذه الزيادة وأنها من الربا بعدة أدلة:
- الدليل الأول: الإجماع. فإن هذه المسألة ولله الحمد مجل إجماع لم يختلف فيها فقهاء المسلمين.
- الثاني: استدلوا بآثار صحيحة في البخاري وغيره عن علماء أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - وكلها تدل على أن القرض إذا جر نفعاً فهو ربا.
- أخيراً استدلوا بما روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال:: (كل قرض جر نفعاً فهو ربا) وهذا الحديث فيه ضعف لكن معناه صحيح.
إذاً هذه هي القاعدة: أنه لا يجوز اشتراط نفع سواء كان هذا النفع أعيان أو منافع.
وسواء كان هذا النفع مشروط شرطاً صريحاً أو تواطئوا عليه بلا شرط في العقد. وذلك لعموم الأدلة الدالة على المنع من الزيادة.
لما ذكر المؤلف - رحمه الله - القاعدة العامة وهي تحريم كل قرض جر نفعاً بدأ بالمستثنيات.
- فقال - رحمه الله -:
- وإن بدأ به بلا شرط أو أعطاه أجود أو هدية بعد الوفاء: جاز.
(وإن بدأ به بلا شرط أو أعطاه أجود) إذا بدأ بالنفع الزائد بلا شرط فهو جائز لكن بشرط أن يكون بعد القضاء.
فإن بدأه بدون شرط قبل القضاء فإنه سيأتينا حكمه وماذا يصنع المقرض.
قال: (أو أعطاه أجود) يعني: بلا شرط. ولا نحتاج هنا أن نقول بعد القضاء لأنه إذا أعطاه أجود فقد قضاه.
والدليل على جواز هذه المسألة والتي قبلها:
- أن النبي - صلى الله عليه وسلم - استسلف بكراً ورد رباعاً خياراً وقال: (خيركم أحسنكم قضاء).
فهذا دليل على أنه إذا حصلت الزيادة بلا شرط ولا مواطئة وبعد القضاء فإنه جائز ولا حرج فيه.
ونتوقف عند هذا الحد والله أعلم وصلى الله على نبينا محمد ...


الدرس: (22) من البيع

قال شيخنا حفظه الله:
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.
تقدم معنا الكلام عن القرض الذي جر نفعاً والأدلة التي تدل على تحريم القرض الذي جر نفعاً وأنه من ربا القروض. وكما هي عادة الفقهاء يقررون الحكم ثم يذكرون ما يستثنى من هذا الحكم فذكر المؤلف - رحمه الله - مسائل تستثنى من هذا الحكم.
- يقول - رحمه الله -:
- وإن بدأ به بلا شرط أو أعطاه أجود أو هدية بعد الوفاء: جاز.
هذه ثلاث مسائل:
- المسألة الأولى: أن يبدأ بإعطاء النفع بلا شرط.
- والثانية: أن يقضيه خير مما اعطاه بلا شرط.
- الثالثة: أن يهديه.
دل كلام المؤلف - رحمه الله - أنه إذا أعطاه النفع أو الهدية أو رد أجود مما اقترض فإنه جائز بشرطين:
ـ الشرط الأول: أن يكون بعد الوفاء.
ـ والشرط الثاني: أن يكون بلا شرط.
فإذا أعطاه هذه الأمور بلا شرط وبعد الوفاء: جاز بلا إشكال.
الدليل على ذلك:
- أن إعطاء المقرض هذه الأمور بعد الوفاء لم تصبح بسبب القرض. بل صارت إعطاء مبتدأ به. والمحرم هو ما يأخذه المقرض بسبب القرض.
ثم لما بين المؤلف - رحمه الله - حكم الإعطاء والإهداء والنفع بين إذا تبرع لمقرضه قبل وفائه: يعني: لما بين حكم هذه الأشياء بعد الوفاء أراد أن يبين تفصيل حكم هذه الأشياء قبل الوفاء.
ذكرت لكم أن الدليل أن إعطاء هذه الأشياء بعد القرض يصبح ليس سببه القرض وتعرفون الدليل الثاني ذكرناه لكم في الدرس السابق وهو أن النبي - صلى الله عليه وسلم -: اقترض بكراً ورد رباعياً خياراً وقال: (خيركم أحسنكم قضاء). فهذا دليل على أن ((القضاء)) بعد الوفاء لا إشكال فيه.
إذاً دل على هذا دليل من التعليل وهو دليل مهم ومفيد لأنه ((يكشف)) مسائل أخرى ودليل من السنة.
- ثم قال - رحمه الله -:
- وإن تبرع لمقرضه قبل وفائه بشيء لم تجر عادته به: لم يجز.
إذا أعطاه هدية أو نفعاً قبل الوفاء فينقسم إلى قسمين:
- القسم الأول: أن لا تكون العادة بينهما جرت بالتهادي. فحينئذ يصبح محرماً ويدخل في الحكم السابق وهو ربا القروض.
- القسم الثاني: أن تكون العادة جرت بينهما بالإهداء والتبادل فهو جائز ولا حرج فيه.
استدل الحنابلة على هذا التفصيل:
- بحديث أنس أن النبي - صلى الله عليه وسلم -: أجاز التهادي بينهما إذا جرت العادة بذلك.


وهذا الحديث إسناده ضعيف. ولكن معناه صحيح. والذي دل على صحة معناه أن الصحابة أفتوا بمقتضاه.
وتقدم معنا أن إفتاء الصحابة بمقتضى دليل شرعي وإن لم يجعله بمنزلة المرفوع إلا أنه يقويه ويجعل الاستدلال به مقبولاً إذا انضاف إلى هذه الفتاوى.
- ثم قال - رحمه الله -:
- إلاّ أن ينوي مكافأته أو احتسابه من دينه.
هذا استثناء من الاستثناء. يعني: لا يجوز للمقترض أن يدفع للمقرض هدية قبل الوفاء إذا لم تجر العادة بينهما إلا إذا نوى أن يحتسبه من دينه أو أن يكافأة عليه وقد نص الإمام أحمد - رحمه الله - على هاتين المسألتين. يعني: على جوزا الأخذ. إذا نوى أن يحتسبها من الدين أو أن يكافأه عنها.
والدليل على هذا الاستثناء:
- فتاوى الصحابة. فقد نقل عن أكثر من صحابي - رضي الله عنهم - أنهم أفتوا من أخذ هدية ممن أقرضه لم تجر العادة بينهما به أن يحتسبه من الدين.
فإذا اقترض منه عشرة آلاف وأهداه هدية قيمتها خمسة آلاف صار القرض: خمسة آلاف.
وإذا اقترض منه عشرة آلاف وأعطاه هدية بمبلغ خمسة آلاف ولم يرد أن يحسمها من الدين فأعطاه هدية بخمسة آلاف فكذلك أيضاً هو جائز.
* * مسألة/ إذا قلنا بجوز أخذ الهدية التي لم تجر العادة بها مع نية احتسابه من الدين أو المكافأة: فهل الأفضل مع الجواز أن يأخذ أو أن لا يأخذ؟
الجواب: أنه لا يوجد قاعدة عامة لهذه المسألة. فكونه يأخذ أو لا يأخذ هذا يخضع لملابسات الأحوال، وطبيعة العلاقة بين المقرض والمقترض، والمقصود من الهدية ... إلى آخره. فأحياناً يرى الإنسان أنه من الأنسب أن يقبل ويكافيء. وأحياناً يرى من الأنسب أن لا يقبل مطلقاً.

* * مسألة/ إذا قبل بنية المكافأة أو احتسابه من الدين: فهل الأفضل أن يحتسبه من الدين أو أن يكافيء؟
هذه المسألة تشبه المسألة السابقة وهي أنها تخضع للملابسات والأحوال إلا أني أقول: أن الغالب أن المكافأة خير من خصمها من الدين. لأن في خصم الهدية المهداة من الدين غضاضة على المقترض واضحة بينما المكافأة وإهدائه هدية أخرى قد لا يجد ىمقترض في نفسه غضاضة من قبول الهدية ممن استقرض منه.


فالأولى والأحود غالباً أن يكافيء لا أن يخصم أن الخصم من القرض دائماً ما يشعر بشيء من النقص.
فالأولى العدول عنه إلى الإهداء مقابل الهدية التي أخذها من المقترض.
- ثم قال - رحمه الله -:
- وإن أقرضه أثماناً فطالبه بها ببلد آخر: لزمته.
المقصود (بالبلد الآخر) يعني: غير بلد القرض.
فإذا اقترض زيد من عمرو بالرياض عشرة آلاف وطالبه عمرو بها في مكة وهي أثمان يعني: من النقدين فإنه يلزم (عمرو) أن يسدد القرض ولو في غير بلد الاقتراض وهو في المثال (مكة) يلزمه لزوماً ويجب عليه وجوباً.
واستدل الحنابلة على هذا الحكم:
- بأنه يمكنه السداد بم لا ضرر عليه فيه. فإذا أمكن السداد ولا ضرر عليه لزمه أن يسدد.
* * مسألة/ ويلحق بالأثمان كل ما ليس لنقله مؤونة. فيأخذ نفس الحكم. أي: يلزم المقترض أن يسدد القرض ولو في غير بلد القرض الذي تم عقد القرض فيه بنفس السبب وهو أنه يمكنه الوفاء بلا ضرر عليه.
- ثم قال - رحمه الله -:
- وفيما لحمله مؤونة: قيمته إن لم تكن ببلد القرض أنقص.
يعني: (وفيما لحمله مؤونة) لا يلزمه أن يسدد القرض.
فإذا اقترض شيئاً لحمله مؤونة وطالبه بها في غير بلد القرض لم يلزم المقترض أن يرد القرض.
واستدلوا على هذا بأمرين:
- الأمر الأول: أن في هذا جر نفع للمقترض. لأنه سيكسب أجرة النقل.
- الثاني: أنه ليس في النصوص الشرعية ما يلزم المقترض نقل القرض من بلد لبلد ولو لم يكن بلا مؤونة.
وإنما ألزمناه في الصورة الأولى لأنه لا ضرر عليه وذمته مشغولة.
* * مسألة/ يقول المؤلف - رحمه الله -: (وفيما لحمله مؤونة قيمته) يعني: لما تبين أنه لا يلزمه السداد بين أنه يلزمه قيمة هذا القرض. فيلزم المقترض أن يعطي المقرض قيمة القرض في بلد القرض ما لم تكن القيمة في بلد القرض أكثر. سيأتينا أن المؤلف - رحمه الله - وهم في قوله أنقص.
المهم الآن أن تفهموا الصورة ثم نرجع إلى عبارات المؤلف - رحمه الله -.


إذا اقترض زيد من عمرو خمسة آصع من القمح في الرياض ثم طلبها منه في مكة: فنحن قررنا الآن أنه لا يجب على المقترض أن يوفي هذه الآصع في مكة لأن لحملها مؤونة. كن يجب عليه أن يعطي المقرض قيمة هذه الخمسة آصع ويشترط لهذا الوجوب أن تكون قيمة هذه الخمسة آصع في بلد المقرض ليست أكثر من قيمتها في بلد الإداء.
فإن كانت القيمة في بلد القرض أكثر من قيمتها في بلد الأداء فالواجب عليه أن يعطيه القيمة يشتري بها القرض.
صورة المسألة/ إنسان - كما قلت - اقترض خمسة آصع في الرياض قيمتها مائة ريال فطالبه بها في مكة وقيمتها في مكة خمسون ريالاً فالآن يجب على المقترض أن يدفع القيمة في بلد القرض أو في بلد السداد؟ في بلد السداد. لماذا؟ لأن في بلد السداد أرخص فيذهب ويشتري بخمسين ريالاً خمسة آصع ويسدد. بدل أن يعطيه مائة ريال.
فإذا كانت قيمة الآصع في الرياض مائة ريال وقيمتها في مكة مائة وخمسين ريالاً: فالواجب عليه كم؟ مائة ريال. وهي قيمة القرض في بلد القرض لا في بلد الأداء.
وإذا فهمت المثال فستفهم أن قول المؤلف - رحمه الله - هنا: (إلا أن تكون ببلد القرض أنقص) خطأ لأنها إذا كانت في بلد القرض أنقص فهو من مصلحة المقترض.
ولعل صواب العبارة وكأنه سيكتب المؤلف - رحمه الله -: إن كانت في بلد القرض أنقص. بدون النفي.
على كل حال بغض النظر عن عبارة المؤلف عرفنا الآن الحكم.
إذاً: يتلخص الحكم: - في أنه إذا طلبه قرضاً لحمله مؤونة: فإنه لا يجب عليه أن يوفي ويجب عليه أن يعطي القيمة: ـ إن كانت القيمة في بلد القرض أنقص. أو بعبارة أوضح: (إن لم تكن في بلد القرض أكثر). فإن كانت أكثر فإنه لا يلزمه قيمة ويلزمه القيمة في بلد السداد. هذا ما يتعلق بالسداد. ومن المعلوم كما أشرت مراراً أن غالب القروض الآن من الأثمان ليست مما لحمله مؤونة. وهذا التفصيل إنما هو فيما لحمله مؤونة فقط.
وبهذا انتهينا من باب القرض وننتقل إلى باب الرهن.
وقبل أن ننتقل إلى باب الرهن أريد أن أشير إلى أن القرض ينقسم إلى قسمين من حيثية غير الحيثيات التي ذكرنا تقسيمها الآن: وهذا التقسيم مفيد ليتصور بعض الأحكام:


- القسم الأول للقرض: القرض الحقيقي. وهو: القرض الذي ذكرت تعريفه في أول الباب وتنصرف إليه عبارات الفقهاء.
- القسم الثاني: القرض الحكمي. وهو القرض الذي يثبت في الذمة بسبب النفقة على البهيمة أو على الإنسان مع نية الرجوع. فهذه انفقة تثبت في ذمة المنفق عليه إذا نوى المنفق الرجوع وتصبح في حكم القرض لكنها من القروض الحكمية. يعني: انها أخذت حكم القرض وإن لم تكن في الحقيقة من القروض الني تدخل ضمن التعريف الاصطلاحي الذي ذكره الفقهاء للقروض.
وبهذا يستطيع الإنسان أن يعرف أن مدلول القرض في الشرع أوسع مما يقع في ذهن الطالب أنه فقط إعطاء مال لينتفع به ويرد غيره.

وبهذا انتهى الباب ولله الحمد ونبدأ بباب الرهن.