شرح زاد المستقنع للشنقيطي

شرح زاد المستقنع - باب الهبة والعطية [3]
مما يعزز ترابط الحياة الأسرية عدل الآباء والأمهات بين أولادهما في كلا الجانبين المادي والمعنوي، وقد دلت نصوص الشريعة على وجوب العدل والتسوية بين الأولاد في العطايا ونحوها.
وهناك أحكام خاصة بهذه المسألة، منها: كيفية العدل بين الذكور والإناث، وحكم رجوع الوالد عن هبته لابنه، وغيرها من المسائل المذكورة هنا.


الأحكام المتعلقة بعطية الأولاد
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وصحبه ومن سار على نهجه إلى يوم الدين.
أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله: [فصل: يجب التعديل في عطية أولاده على قدر إرثهم].
شرع المصنف رحمه الله في بيان الأحكام المتعلقة بعطية الأولاد، وقد وردت نصوص الشريعة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيان أحكام عطية الأولاد، وهذه المسألة تعتبر من أهم المسائل نظراً لعموم البلوى بها، وكثرة حاجة الناس إلى معرفة أحكامها، وقد جرت عادة العلماء والأئمة والفقهاء أن يذكروا أحكام هذه المسألة في كتب الحديث والفقه؛ ففي كتب الحديث تُذكر في باب الهبة، ويعتني العلماء رحمهم الله ببيان مسائلها في أحاديث الهبات، كما هو صنيع أئمة الحديث وأصحاب السنن رحمهم الله، وأما الفقهاء فإنهم يذكرون أحكامها ومسائلها في باب العطية والهبة.


حكم رجوع الواهب عن هبته
قال رحمه الله: (ولا يجوز لواهب أن يرجع في هبته اللازمة).
يحرم على من وهب غيره أن يرجع في تلك الهبة، أما الدليل على التحريم فما ثبت في الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (ليس لنا مثل السوء، العائد في هبته كالكلب يقيء ثم يأكل قيئه)، وعند علماء الأصول رحمهم الله قواعد أو أسباب يستدل بها على التحريم، قالوا: ومما يدل على تحريم الشيء وصفه بأشنع الصفات التي لا تجيزها الشريعة ولا ترضى بها، فضرب المثل بالكلب -والعياذ بالله- من أسوأ ما يكون، وإذا كان ليس لنا مثل السوء فمعناه: أن من فعل هذا الفعل فليس على هدي النبي صلى الله عليه وسلم، وليس على شريعته، وليس على سنته صلوات الله وسلامه عليه، وقد أخبر عليه الصلاة والسلام عن أكثر من خرج عن هديه وسنته بهذا الأسلوب، فهو بدل أن يقول: يحرم الرجوع في العطية، جاء بهذه الكلمات: (ليس لنا مثل السوء).
وهذا -كما يسميه العلماء- من الأساليب المؤثرة، وينبغي للداعية والواعظ والمعلم والموجه والمربي أن يختار بعض الكلمات المؤثرة، شريطة ألا تشتمل على الغرور، وألا تشتمل على الخروج عن السنة وهدي النبي صلى الله عليه وسلم، فالنبي عليه الصلاة والسلام ما كان يقول: أيها الناس! لا يجوز الرجوع في الهبة، أو يحرم الرجوع في الهبة، لكنه جاء بهذا الأسلوب النبوي الكريم: (ليس لنا مثل السوء)، فاقشعرت الأبدان ووجلت القلوب ما هو مثل السوء الذي سيذكر؟ وما هو الفعل الذي استوجب أن يوصف بهذه الصفة المذمومة الممقوتة التي تنفر منها النفوس، ولا ترضاها الطباع السليمة؟ قال: (العائد في هبته كالكلب)، فشبهه بالكلب، ثم قال: (يقيء ثم يأكل قيئه)، فوصفه بهذه الصفة، يقول بعض العلماء: نستدل بصدر هذا الحديث على تحريم الرجوع، ونستدل بالتمثيل بقوله: (كالكلب يقيء ثم يأكل قيئه) وأكل الإنسان لقيئه فضلاً عن الكلب محرم عليه؛ لأن القيء نجس، فإذا كان نجساً فمعناه: أن الرجوع اشتمل على محرم، وعلى هذا قالوا: لا يجوز للمسلم أن يرجع في هبته.
ويرد

السؤال
ما هي الحكم التي يمكن أن تستفاد من هذا التحريم؟ يقال: إن هناك حكماً عظيمة؛ لأن الشريعة شرعت الهبة كسباً لمودة القلوب، وإذا أعطى الهبة والعطية والهدية ورجع فيها؛ كان هذا من أبلغ ما يكون جرحاً للنفوس وإيلاماً لها، فإن الإنسان إذا فرح بالعطية ثم يفاجئ بصاحبها يقول: أعطني ما وهبتك؛ فقد أذله وأهانه، وربما أشعره أن قلبه قد تغير عليه بهذا، وأن منزلته قد سقطت، وأن هناك أمراً ما قد بلغه عنه استوجب تغيير الإحسان إلى الإساءة بأخذ هذه الهبة والعطية التي أعطاه إياها.
ثم إن هذه الصفة ليست من صفات الكرام؛ بل هي من صفات اللئام، فإن اللئيم -والعياذ بالله- هو الذي يرجع في هبته؛ لأن الكريم لا يرجع في هبته أبداً، ويختار أن يموت ولا أن يقول لرجل: أعطني ما وهبتك، فالكريم لا يرضى بهذا؛ لأن النفوس الطيبة والمعادن الكريمة الأصيلة مجبولة على الرحمة، وإذا نظر إلى أن أخذ هذه الهبة سيجرح أخاه ويؤلمه؛ اختار أن يُجرح بما ينزل عليه من المصائب والمتاعب، ولا أن يمس مشاعر أخيه، فيوصف بكونه راجعاً في هبته وعطيته.
وللسلف الصالح رحمهم الله قصص عجيبة في هذا، وللفضلاء والأخيار على مر العصور والدهور مواقف كريمة في هذا، فلا يرجع الكريم في عطيته، ولا يرجع في هبته، والمسلم الصالح إذا حدثته نفسه بالرجوع وتذكر أن النبي صلى الله عليه وسلم منعه من ذلك وبيّن له أنه لا يجوز؛ فإنه لن يرجع مهما كلفه ذلك الأمر، ثم يرضى بالله عز وجل عوضاً عن كل فائت.
فمن استغنى بالله عز وجل ورضي بحكم الله واطمأن أن الله سيخلف عليه؛ فإن الله سيعود عليه بكل خير، وقد حدّث بعض العلماء رحمهم الله فقال: ما وجدت أعجب من موقف أحسن فيه بصدقة أو هبة أو هدية، فيحدث عندي الظرف القاهر المؤلم، يقول: حتى لولدي، مع أنه يحل للوالد أن يرجع في هبته لولده، ولكنه يقول: مع ذلك كان من أعظم وأصعب المواقف عليّ، فأمتنع من الرجوع إلا وجدت خلف الله عليّ بأحسن الخلف، مما يعوضه عليَّ في ديني أو دنياي أو أهلي أو مالي أو ولدي.
فلذلك ينبغي على المسلم دائماً أن يسمو بنفسه إلى الكمالات، وأن يربأ بنفسه عن هذه الأمور التي نفر منها النبي صلى الله عليه وسلم وحذر منها، وبيّن أنها ليست على سنته وهديه.
وقد بيّن المصنف رحمه الله أنه لا يجوز الرجوع في الهبة ما لم يقبض الموهوب له الهبة، وقد بينّا هذا بحيث لو قلت لشخص: سأعطيك عشرة أو مائة، وطرأت عندك ظروف جعلتك لا تستطيع أن تعطيه، وقد تقول له: إن شاء الله في السنة القادمة إذا أتيت إلي سأحل لك هذا الموضوع، وأنت تظن أن الأمور والأحوال طيبة، وقدر الله عز وجل أن تغيرت الظروف، فتشرح له ظروفك، والله عز وجل يقول: {مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ} [التوبة:91]، فإذا طرأت عليك الظروف القاهرة التي لا تستطيع أن تمضي هبتك وهديتك، فما دام أنه لم يقبض؛ فمن حقك أن ترجع، ولا يملك هو الهبة إلا بقبضها، أما وقد قبض الهبة وأخذها؛ فإنه يحرم عليك الرجوع؛ لأنه يملكها بالقبض، كما قدمنا وبينّا.


حكم رجوع الأب عن هبته لولده
قال رحمه الله: (إلا الأب) أي: إلا الأب فإن له الرجوع في عطيته لولده من ابن أو بنت، فلو أعطى الوالد ابنه سيارة ثم رجع عنها، أو أعطاه -مثلاً- أرضاً ثم رجع عنها؛ كان من حقه ذلك؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال في حديث السنن: (لا يحل لرجل مسلم أن يعطي العطية ثم يرجع فيها، إلا الوالد مع ولده)، وفي رواية (إلا الأب مع ولده)، وهذا الحديث حسنه غير واحد من العلماء، وهو حديث ثابت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ويدل على أن من حق الوالد أن يرجع في عطيته مع أولاده.
لكن ينبغي التنبيه على مسألة وهي: أن الوالد يجوز له الرجوع في عطيته لولده لعدة أمور: أولاً: أن الولد مع الوالد كالشيء الواحد، وقد بيّن هذا النبي صلى الله عليه وسلم في حديث الصحيحين لما بلغه أن علياً يريد أن يتزوج ابنة أبي جهل، وفهم عليه الصلاة والسلام أن هذا الأمر فيه نوع من الإغاضة والأذية لبنته وله عليه الصلاة والسلام، فرقى المنبر وقال: (والله لا آذن، والله لا آذن، والله لا آذن، إنما فاطمة بضعة مني، يريبني ما رابها، ويؤذيني ما آذاها، والله لا تجتمع بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم وبنت عدو الله).
فالشاهد في قوله: (إنما فاطمة بضعة مني)، والبضعة من الشيء القطعة منه، فإذا كان يريد أن يرجع فكأنه يرجع في ماله هو، ولذلك فلا يجوز للوالد أن يعطي زكاته لولده، ولا يجوز للولد أن يعطي زكاته لوالده؛ لأن الوالد والولد كالشيء الواحد، وإذا ثبت هذا فالأب دلت السنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم على أنه مستثنى، فمن حق الوالد أن يرجع.
ثانياً: أن المحبة التي يكنها الابن لأبيه والبنت لأبيها لا يمكن أن تغيرها مثل هذه الأمور الدنيوية، خاصة مع عظيم الإحسان والفضل في سالف الزمن من الوالدين على الولد من النعمة العظيمة والمنة الجليلة الكريمة، التي لا يمكن أن يدخل معها الشك وسوء الظن، فانظر إلى حكمة الشريعة حينما تحرم الشيء لأسباب، فإذا زالت الأسباب؛ حكمت بحله.
ولذلك قال العلماء رحمهم الله: يجوز للأب أن يرجع في عطيته لابنه وبنته، ويكاد يكون الإجماع بين العلماء على ذلك.
وهناك قول ضعيف وشاذ -خاصة أنه يخالف السنة، والحديث واضح في هذا- يقول: ليس من حق الوالد أن يرجع في عطيته لولده، ويفصل في المنع، لكن الصحيح ما ذكرناه؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أجاز الرجوع، لكن

السؤال
هل الجد والأم ينزلان منزلة الأب؟ من حيث الأم فوجهان: الوجه الأول: بعض العلماء يقول: إن الأم تنزل منزلة الأب؛ لأن المعاني الموجودة في الأب موجودة في الأم، والمفاسد التي تخشى من الرجوع مدفوعة في الأم أكثر منها في الأب؛ لأن إحسان الأم أعظم من إحسان الأب، ولذلك بيّن النبي صلى الله عليه وسلم أنها الأحق بحسن الصحبة، وحقها آكد وأوجب.
الوجه الثاني: قال بعض العلماء: الأم ليست كالأب، كما هو رواية عن الإمام أحمد، ولذلك لما سئل عن هذه المسألة فرق بين الأب والأم، وبيّن أن للأب ولاية على ولده، والأم ليست لها ولاية على الولد، والفرق بين الوالد والوالدة في بعض الأمور التي نص الشرع على التفريق فيها بين الأب والأم يؤكد على أنه يملك الأب الرجوع دون الأم.
ولكن من جهة النظر والمعنى يقوى قول من قال: إن الأم تنزل منزلة الأب.
أما الجد فقد سماه الله أباً فقال: {مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ} [الحج:78]، وقال: {وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَائِي} [يوسف:38]، فسمى الجد أباً، وقد قال عليه الصلاة والسلام في الحسن: (إن ابني هذا سيد)، وهو ابن بنته، وهو عليه الصلاة والسلام جد له، فالجد ينزل منزلة الأب في كثير من أحكام الشريعة.
وبناءً على ذلك قال طائفة من العلماء رحمهم الله: الجد له الرجوع كما للأب أن يرجع.


حكم أخذ الوالد من مال ولده
قال رحمه الله: [وله أن يأخذ ويتملك من مال ولده ما لا يضره ولا يحتاجه] قوله: (وله) أي: للأب.
وقوله: (أن يأخذ ويتملك من مال ولده ما لا يضره ولا يحتاجه)، أما من حيث الحكم بجواز الأخذ من أموال الأولاد فالسنة ثابتة في هذا؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم صح عنه من حديث عائشة في السنن أنه قال: (إن أطيب ما أكلتم من كسبكم، وإن أولادكم من كسبكم)، وفي حديث جابر -وقد اختلف في سنده وحسنه بعض العلماء- في قصة الولد مع والده في قضاء الدين قال: (أنت ومالك لأبيك)، ونظراً لورود السنة بهذا؛ قالوا: للوالد أن يأخذ ويتملك من مال ولده، لكن بشرط ألا يكون هذا الأخذ فيه ضرر على الولد، وألا يكون الولد محتاجاً لهذا المال المأخوذ.
فالزائد عن حاجة الولد لا بأس للوالد بأخذه، فلو كان الولد عنده خمسون ريالاً هي مصاريفه لطعامه وولده، وجاء الوالد يريد أن يأخذها، والولد محتاج إليها، فلا يقال: إن من حق الوالد أن يأخذها؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ابدأ بنفسك وبمن تعول)، وقد جعل إعالته لنفسه في هذا مقدمة على إعالة الغير.
فإذا ثبت هذا فلا يأخذ ما يضره ويحتاج إليه، ويكون أخذ الوالد بالمعروف، فإذا قلنا: إنه يجوز للوالد أن يأخذ من مال ولده، فيأخذ بالمعروف، وهذا أصل في الشريعة أنها إذا أجازت أخذ الحق، فأخذه يكون بالمعروف، ولذلك هند رضي الله عنها لما اشتكت زوجها أنه قصر في نفقتها كما في الصحيحين قال صلى الله عليه وسلم: (خذي من ماله ما يكفيك وولدك بالمعروف)، فللوالد أن يأخذ ويتملك من مال ولده ما لا يضره وما لا يحتاج إليه.
ومن الأسباب التي يضع الله بها البركة في مال الإنسان، وليس هناك سبب بعد طاعة الله عز وجل وأداء حق المال من الزكوات والصدقات، ليس هناك أعظم من بر الوالدين، فالله يضع به البركة في المال، ويجعله سبباً في حسن عاقبة الإنسان في ماله، ولا يأخذ الوالد من مال ولده إلا تأذن الله لذلك الولد بالخير والحسنى في ماله، مع ما ينتظره عند الله من عظيم الأجر.
والقصص في هذا كثيرة، وقد ذكر عن بعض من نعرف من المتأخرين أنه كان من أغنى الناس، وكان إذا اشترى أرضاً أو داراً أو شيئاً وأعجب والده، جاء والده وقال: يا بني! اكتب هذا باسمي، فلا يمكن أن يراجعه بكلمة، بل يكتبه مباشرة باسمه، حتى وضع الله له البركة والخير، فأقر الله عينه في المال والولد، فما من شيء يبارك الله فيه مثل بر الوالدين.
والأحوال في الإحسان للوالدين مختلفة، فالذي يعطي والديه قبل أن يسألاه، والذي يعطي الوالدين في أحلك وأشد الظروف، والذي يراقب الوالدين بحيث لا يجعلهما في حاجة إلى أحد بعد الله سبحانه وتعالى غيره، ويبادلهما بالعطية قبل أن يسألاه، فهذا من خير المنازل عند الله عز وجل، ولا يوفق لذلك إلا الموفق، حتى إن الإنسان يصل رحمه فينسأ له في أثره، ويزاد له في عمره، وهذا في الرحم، فما بالك ببر الوالدين! وقد ذكروا عن بعضهم أنه عمر فوق المائة والثلاثين سنة، حتى سقط حاجباه وهو متماسك ويمشي بقوته، لكنه لا يصبح حتى يذهب إلى آخر خيمة من قرابته ورحمه، وقبل أن يفطر الناس يسقيهم اللبن، فكان يقول: ما زالت الصدقة تبارك لنا في أعمارنا حتى مللنا العيش.
فكيف ببر الوالدين! خاصة في حاجتهم إلى الطعام أو الكساء أو الدابة والسيارة والركوب، أو الخدمة أو العلاج والدواء، أو الحاجة إلى السفر لمصلحة ولقضاء حاجة، فلا يستوجب الإنسان الرحمة والخير من الله سبحانه وتعالى بشيء بعد توحيده مثل بر الوالدين.
فإذا ثبت هذا فعلى الإنسان دائماً أن يحرص على الكمالات، وأن يعلم أنه لا خير في هذا المال ما لم يتق الله عز وجل فيه، ومهما أعطي من الأموال فإن المال لا قيمة له إلا أن يكون في طاعة الله عز وجل، فيكون سبباً في سعادة العبد، ومن ظن أن المال المحض سبب في سعادته حتى يمنع والده منه، ويصبح المال أعز عليه من والده؛ فهذا من شر المنازل عند الله، ولو كان المال سبباً في السعادة لكان أسعد الناس قارون، الذي أوتي الكنوز التي كانت تنوء العصبة أولو القوة بحمل مفاتيح الخزائن التي كان فيها هذا المال والخير، فخسف الله به الأرض فهو يتجلجل فيها إلى يوم القيامة.
فالمال لا يأتي بالسعادة إلا إذا ابتغي به وجه الله، فيأتي بسعادة الدين والدنيا والآخرة، فيتأذن الله سبحانه وتعالى لصاحبه برضاه، فإن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر أن الصدقة والإحسان بالمال يحجب العبد عن سيئته المتقدمة والمتأخرة، ففي الصحيحين أنه قام عليه الصلاة والسلام في غزوة العسرة، فسأل الناس أن ينفقوا في سبيل الله، فجاء عثمان رضي الله عنه وصب الذهب، ثم قام عليه الصلاة والسلام مرة ثانية، فذهب عثمان مرة ثانية وصب الفضة في حجره، فأخذ عليه الصلاة والسلام يقلب الذهب والفضة ويقول: (ما ضر عثمان ما فعل بعد اليوم) لا ما تقدم ولا ما تأخر.
فانظر كيف وهب الله لـ عثمان المال فكان سبباً في سعادته في الإنفاق في الجهاد، والجهاد بعد بر الوالدين، فإذا كان عثمان قد أنفق هذا المال في الجهاد وقال له النبي صلى الله عليه وسلم: (ما ضر عثمان ما فعل بعد اليوم) فإن النبي صلى الله عليه وسلم قد جعل البر مقدماً على الجهاد، ففي الصحيحين من حديث عبد الله بن مسعود قال: (سألت النبي صلى الله عليه وسلم: أي العمل أحب إلى الله؟ قال: الصلاة على وقتها.
قلت: ثم أي؟ قال: بر الوالدين.
قلت: ثم أي؟ قال: الجهاد في سبيل الله).
فإذا أنفق ماله في بر والديه فأجره أعظم، ولا شك أن الوالد إذا نظرت ولمست منه الحاجة إلى المال والمساعدة والمعونة، فلا تقف مكتوف اليد، ومن أسوأ ما يكون أن الوالد يحتاج ويقف في مواقف عصيبة، فيأتي لولده ويذل نفسه لولده ويقول: يا بني! أنا محتاج إلى مال، أحتاج إلى كذا وكذا، فيقول: والله ما عندي يا أبت، والله يشهد من فوق سبع سموات أن عنده المال، وأن المال زائد عن حاجته.
فهذا والله إذا أردت أن ترى محروماً؛ فانظر إلى هذا المحروم من بر والديه، وهذا من العقوق إنسان قادر على أن يفرج كربة والده -بعد الله سبحانه وتعالى- أو والدته ويقف مكتوف اليد تحت إغراء نفس أمارة بالسوء، وشيطان يعده الفقر ويأمره بالفحشاء والمنكر، وزوجة تثبطه عن بر الوالدين وتخذله، وولد مجبنة مبخلة، يؤثر بذلك كله على الإحسان الوالدين وإسداء المعروف إليها، مع أن لهم على الإنسان ديناً ما وفاه، وجميلاً ما كافأه، فلا شك أن هذا من أعظم الحرمان.
فالإنسان يحرص إذا كان يريد مراتب الكمالات أن يجعل لوالديه حظاً من راتبه، ويجعل لوالديه حظاً من الخير الذي يأتيه إذا جاءه، وقد كان البعض إذا جاءته أي هدية أول من يأخذ وأول من يقسم له وأول من يستمتع بهذه الهدية والداه، وهذا لا شك أنه من أعظم التوفيق من الله سبحانه وتعالى للعبد، نسأل الله العظيم أن يجعلنا وإياكم ذلك الرجل.


حكم مساواة الذكر والأنثى في العطية
قوله: (يجب التعديل) هذا الوجوب يشمل الوالدين الأب والأم.
وقوله: (في عطية أولاده) الأولاد هنا يشمل الذكر والأنثى، فيسوي بين الذكر والأنثى، فكما أعطى الذكر يعطي الأنثى، لكن هناك فرق بين التسوية في مطلق العطية وبين التسوية في قدر العطية، فكما أعطى الذكر يعطي الأنثى، لكن القدر الذي أعطاه للذكر يكون مثل حظ الأنثيين؛ لأنها قسمة الله من فوق سبع سموات.
ولذلك قال رحمه الله: (على قدر إرثهم)، فجعل للذكر ضعف ما للأنثى، وهذا استحبه جماهير العلماء رحمهم الله والأئمة والسلف، ومنهم من قال: إنه هو الأصل؛ لأن العدل الذي قامت عليه السموات والأرض قسمة الله التي تولاها في كتابه وعلى لسان رسوله صلى الله عليه وسلم وبهديه، وهو هنا تفضيل الذكر على الأنثى، ونصوص الكتاب والسنة كلها دالة على هذا.
ولا يستطيع أحد أن يرد شيئاً حكم الله به من فوق سبع سموات، فقد خلق آدم بيده، ونفخ فيه من روحه، وأسجد له ملائكته، ثم خلق حواء من بعد ذلك من آدم، وفرَق بين تكريم آدم بالنفخ بالروح وسجود الملائكة له وتشريفه وتكريمه بهذا الفضل العظيم، ثم جعل خلق الأنثى تبعاً للذكر بقوله سبحانه: {وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا} [الأعراف:189]، فهي تبع للرجل، وهي نصوص لا يمكن للإنسان أن يرد فيها حكم الله أو أمر الله سبحانه وتعالى من فوق سبع سموات، فلا يستطيع الفقير أن يقول: لم جعلني ربي فقيراً؟ ولا يستطيع الغني أن يقول: لم جعلني ربي أتعذب بغناي؟ فإن هذا حكم الله {وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ} [القصص:68].
فلذلك وجد التفضيل من حيث الخلق والقدرة وصفة الخلق، وكذلك من حيث التكاليف الشرعية، حتى جعل النبوة في الرجال ولم يجعلها في النساء، فالتفضيل من حيث الحقوق والواجبات والتكاليف لا يمكن لأحد أن يكابر فيها، والنصوص الشرعية واضحة فيه.
وإذا ثبت هذا فالعدل أن يجعل ما للذكر ضعف ما للأنثى، هذا هو حكم الله سبحانه وتعالى: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ} [النساء:11]، ولا يستطيع أحد أن يقول: إن الأنثى تستحق أكثر مما أعطاها الله سبحانه وتعالى؛ فهذه قسمة الله من فوق سبع سموات، وهذا حكمه، وهذا شرعه {وَاللَّهُ يَحْكُمُ لا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ} [الرعد:41] و {لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ} [الأنبياء:23] سبحانه وتعالى علواً عظيماً.
فقوله رحمه الله: (على قدر إرثهم) إشارة إلى ما ذكرناه من أنه يجعل للذكر ضعف ما للأنثى.


الواجب على من فضل بعض أولاده على بعض في العطية
قال رحمه الله: [فإن فضل سوى برجوع أو زيادة].
الفاء للتفريع، فإذا علمت أنه يجب على الوالد أن يسوي بين أولاده في عطيتهم، فيعطي للذكر ضعف ما يعطيه للأنثى، فإنه إذا اختل ذلك فإنه يجب عليه أن يرجع إلى الأصل، فلو أعطى بعضهم ولم يعط البعض الآخر، قلنا له: يجب عليك أن تعطي من حرمت؛ لأن الله عز وجل أوجب عليك العدل، فإما أن تعطي المحروم أو ترجع عن عطيتك لذلك الولد.
مثال ذلك: رجل له ثلاثة من الأولاد، فأعطى أحدهم ولم يعط الآخرَين، ولم تكن العطية لسبب خاص كما سيأتي، فأعطى أحدهم سيارة وهناك أخوان لم يعطهما شيئاً، فنقول له: إما أن تعطي الأخوين سيارة مثل هذه السيارة في قيمتها وقدرها وصفاتها وفضلها، وإما أن تسحب السيارة التي أعطيتها لهذا المفضَّل، فإما أن تعطيهم جميعاً أو تحرمهم جميعاً.
هذا هو ما نص عليه رحمه الله تحقيقاً للأصل الذي أمر الله عز وجل به من العدل؛ لأن العدل لا يتحقق إلا بهذا، إما أن يعطيهم جميعاً فيعدل ويسوي، أو يحرمهم جميعاً فيعدل ويسوي.


حكم إنفاذ عطية من لم يعدل إذا مات
قال رحمه الله: [فإن مات قبله ثبتت] أي: فإن مات قبل أن يرجع، مثال ذلك: لو أن رجلاً أعطى أحد أبنائه الذكور أرضاً، ثم توفي قبل أن يعطي أخويه الباقيين مثلما أعطى أخاهم، فتوفي قبل أن يرجع وقبل أن يسوي ويعطي الآخرين مثله، فالسؤال حينئذٍ: إذا كان الذي أعطيت له الأرض قبضها وحازها وتمت الهبة؛ فحينئذٍ تثبت هذه الهبة، ويلقى هذا الوالد ربه بمظلمة الأخوين، فيلقى الله سبحانه وتعالى بهذا، فإن سامحه ولداه فهما مجزيان خيراً، والله يخلفهما خيراً، وإن أرادا حقهما؛ فإنه مسئول عن هذا الحق، إما أن يعطيهم جميعاً أو يحرمهم جميعاً.
فإذا أدركته ساعته وقبضت روحه -نسأل الله السلامة والعافية- قبل العدل وقبل الرجوع، فإنه حينئذٍ تثبت العطية، ويملك هذا الولد ما أعطاه والده، والأفضل براً لوالده وإدراكاً لحق أخويه أن يستسمح أخويه أو يرضيهما حتى لا تكون على والده تبعة ومسئولية مما فعل.


أدلة وجوب التسوية في العطية بين الأولاد
قال المصنف رحمه الله: (يجب التعديل في عطية أولاده) بين رحمه الله في هذه الجملة أنه يجب على الوالد أن يسوي ويعدل في عطيته لأولاده.
قوله: (ويجب) الواجب: ما يثاب فاعله ويعاقب تاركه.
وبناءً على هذه العبارة فإنه يلزم الوالد إذا أعطى أحد أولاده أن يعطي البقية، والدليل على ذلك عدة نصوص وردت في كتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم، وبسبب هذه النصوص ذهب طائفة من العلماء كما هو مذهب الإمام أحمد في رواية عنه، وكذلك داود الظاهري وإسحاق بن راهويه وطاوس بن كيسان وغيرهم من أئمة السلف رحمهم الله برحمته الواسعة إلى أنه على الوالد والوالدة أن يعدلوا بين أولادهم، ولا يفضلوا بعض الأولاد على بعض، إلا في أحوالٍ مستثناة ومسائل معينة سنذكرها إن شاء الله تعالى.
والجمهور يقولون: لا يجب، إنما يستحب، والأفضل والأكمل إذا كان لك أولاد أن تسوي بينهم في العطية، لكنه ليس بلازم عليك.
واستدل من قال بالوجوب بدليل الكتاب والسنة: أما دليل الكتاب فإن الله سبحانه وتعالى قال في كتابه: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ} [النحل:90]، والعدل يكون في رعية الإنسان، والأبناء والبنات رعية كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح، فيجب على الوالد أن يعدل بينهم؛ لأن الله أمر بهذا العدل، فلو فضل الوالد أحد أولاده على غيره من إخوانه وأخواته، فإن هذا ليس بالعدل.
والدليل على ذلك: أن النبي صلى الله عليه وسلم كما ثبت في الصحيحين من حديث النعمان بن بشير قال: (إني لا أشهد على جور)، فجعل تفضيل بعض الولد على بعض من الجور، والله يقول: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ} [النحل:90]، فإذا كان العدل واجباً مأموراً به فضده الجور والظلم، وهو منهي عنه شرعاً، فإذا دلت السنة على أن تفضيل بعض الولد على بعض ليس من العدل؛ كان ذلك دليلاً على أنه تجب المساواة في العطية بين الأولاد، كما هو مذهب من ذكرنا من العلماء رحمهم الله.
أما الدليل الثاني: فحديث النعمان بن بشير رضي الله عنها، وله قصة ثابتة في الصحيحين؛ (أن أمه عمرة بنت رواحة رضي الله عنها سألت أباه أن يعطيه عطية، فأعطاه عطية، وقالت له: أشهد عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فانطلق والده بشير رضي الله عنه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وسأله أن يشهد على عطيته لولده، فقال صلى الله عليه وسلم: أكل ولدك نحلته مثل هذا؟ قال: لا.
قال: اتقوا الله، واعدلوا بين أولادكم)، وفي رواية: (أشهد على هذا غيري)، وفي رواية: (سووا بين أولادكم)، وفي رواية: (إني لا أشهد على جور)، فهذا كله يدل دلالة واضحة على أنه يجب على الوالد أن يسوي في عطيته وهبته بين أولاده، وألا يفضل أحداً منهم على الآخرين.
ومن خلال هذه النصوص من كتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم قال هؤلاء الأئمة: يجب على الوالد أن يعدل، فهو واجب وفرض عليه، ثم إن العقل يدل على ما دل عليه النقل، فإن الشريعة قامت على جلب المصالح ودرء المفاسد، وقد شرعت العطية زيادة في المحبة وطلباً للقربة والمودة، فإذا كانت العطية لبعض الولد دون بعض توجب الشحناء والبغضاء وإغارة صدور بعضهم على بعض، كان هذا من أعظم المفاسد والشرور؛ لأن من أعظم ما يكون من الشر قطيعة الرحم، وهي بذلك تقطع أواصر المحبة بين أولى الناس بالمحبة، فغن أولى الناس بالمحبة والألفة هم الإخوة والأخوات.
وتشهد بهذا أيضاً أصول الشريعة، كما في قصة يوسف عليه السلام مع إخوته الأسباط {قَالُوا لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلَى أَبِينَا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ} [يوسف:8]، ولذلك قال الله تعالى: {لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُوْلِي الأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى} [يوسف:111]، فالله عز وجل جعلها عبرة لكل والد مع ولده؛ نبهه بها على مشاعر أولاده، ونبهه على ما يكون في نفس ولده من الألم والشجى والحزن إذا فضل أخاه عليه، أو فضل أخته عليه.
ومن هنا نقول: إن النقل والعقل دالان على وجوب التعديل وعدم جواز التفضيل، إلا إذا وجد المبرر الشرعي لذلك التفضيل.
وذهب الجمهور إلى أنه ليس بواجب، فهم يقولون: نحن نسلم بهذا الحديث، ونسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (اتقوا الله واعدلوا)، وهذا أمر، والأمر للوجوب، لكن لما جاءت زيادة في الرواية وهي ثابتة وصحيحة أن النبي صلى الله عليه وسلم ناقش بشيراً فقال له: (أيسرك أن يكونوا لك في البر سواء؟) أي: هل يسرك أن يكونوا بارين لك براً واحداً، فلا يمتنع بعضهم عن البر؟ قالوا: فالسؤال بمثابة التنبيه على العلة والتي من أجلها أمر بالمساواة، فالعلة هي كما أنه يحب أن يكونوا له في البر سواء، فينبغي أن تكون عطيته لهم سواء، وألا يفضل بعضهم على بعض، قالوا: فنصرف النص من ظاهره الموجب للوجوب إلى الندب والاستحباب.
والقول بالوجوب -كما اختاره المصنف رحمه الله- هو أولى القولين بالصواب إن شاء الله تعالى، فيجب على الوالد والوالدة أن يسووا بين أولادهم في العطية، وألا يفضلوا أحداً على أحد، حتى كان السلف الصالح رحمهم الله من أشد الناس في هذا، فقد كانوا يسوون بين الأولاد حتى في القُبلة، فلو قَبَّل ولداً بجوار أخيه قبل أخاه معه، ولا يفضل ولداً على ولد، خشية أن يقع بينهم ما يكون موجباً لدخول الشيطان على القلوب فيفسدها ويقطع أواصر المحبة بين الأقارب.


الأسئلة


حكم الرجوع في الشيء لاختلاف كونه ديناً أو هبة

السؤال
رجل وهب والده مبلغاً من المال، والآن يطالبه عند القضاء بإرجاع ماله، فلو أقر الوالد بأنه أخذ من ولده مالاً، وحصل الخلاف في كونه هبة أو ديناً فما الحكم؟

الجواب
المخرج هو الصدق، قال أحدهم: يا بني! اصدق حيث تظن أن الصدق يضرك؛ فإنه لا يضرك بل ينفعك، ولا تكذب حيث تظن أن الكذب ينفعك؛ فإنه لا ينفعك بل يضرك.
لكن لو رفع إلى القضاء وأقر أنه أخذ هذه الهبة وقبضها، فالقاضي يقضي بثبوت الهبة، وإذا ثبتت الهبة فلا يملك الرجوع فيها، على تفصيل عند العلماء، وهذا يختلف بحسب اختلاف ما يرجحه القاضي.
وبعض العلماء يرى أن الهبة والهدية إذا أعطيت لزمت ولا يملك أحد الرجوع فيها؛ لأن النص فيها واضح، وبيّن فيها النبي صلى الله عليه وسلم حرمة هذا الفعل، وبناءً على ذلك قالوا: لا يملك أن يرجع، وقال بعض العلماء: له الحق أن يرجع ويأثم بالرجوع، لكن من حقه أن يأخذ المال، وهذا يختلف بحسب اختلاف ما يرجحه القاضي في هذه المسألة.
والله تعالى أعلم.


الفرق بين الإتمام والقضاء للمسبوق في الصلاة

السؤال
إذا أدركت الركعة الثالثة والرابعة مع الإمام، فهل تكون في حكم وهيئة الأولى والثانية بالنسبة لي من حيث قراءة الفاتحة وسورة؟

الجواب
هذه المسألة فيها خلاف بين العلماء رحمهم الله: فبعض العلماء يقول: ما أدركت مع الإمام فاعتبره أول صلاتك، فإذا أدركت الركعتين الأخيرتين فتقرأ بعد الفاتحة سورة، وقد ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قرأ فيهما بعد الفاتحة سورة الإخلاص، وبعض العلماء يقول: بل صلاتك مع الإمام هي الأخيرة؛ لأنك ستقضي ما فاتك، والصحيح أنه إذا سلم الإمام فيتم ولا يقضي، وبناءً على ذلك تكون صلاته مع الإمام هي الأولى.
وعلى هذا فإن الأولى والأقوى أنه يعتبرها أول صلاته، فيقرأ الفاتحة ويقرأ بعدها سورة.
والله تعالى أعلم.


وجوب شكر الله تعالى على نعمه

السؤال
إذا كانت النعم تتوالى على العبد ولا يحدث لها شكراً، فهل هذا استدراج من الله؟

الجواب
إن شكر الله سبحانه وتعالى على نعمه من أعظم الأسباب التي توجب محبة الله للعبد، ولذلك أثنى الله من فوق سبع سماوات على عبده نوح، فقال: {إِنَّهُ كَانَ عَبْدًا شَكُورًا} [الإسراء:3]، وأخبر سبحانه وتعالى عن عظيم فضل الشكر، وأنه من ذكره سبحانه وتعالى، ومن عبادته وطاعته وتوحيده، بل وأحب الله الشكر وأحب الشاكرين، وتأذن بالمزيد لأهله {لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ} [إبراهيم:7]، وتأذن بوضع البركة لعبده، فما من عبد يشكر الله في نعمة إلا بارك الله له فيها.
وأحب الله الشكر؛ لأنه إقرار واعتراف بفضله سبحانه، ومدح وثناء وتمجيد لله عز وجل، والله يحب المدح ويحب أن يثنى عليه سبحانه بالذي هو أهله، وهذا من حقوقه سبحانه على عباده، أنه يشكر سبحانه على ما أسدى وأولى، فالذي يشكر الله وحده يوقن ويؤمن بأن هذه النعمة والفضل كله لله سبحانه وتعالى، ومن أعظم مقامات العبودية أن يستشعر العبد نعمة الله جل جلاله عليه.
ولذلك لما رأى سليمان عليه السلام عرش بلقيس ما قال: انظروا كيف أصبحنا! انظروا كيف أصبحت المسافات البعيدة قريبة إلينا! أو تقدمنا أو تطورنا، أو كذا إنما رجف قلبه لله سبحانه وتعالى، وكان أول ما نطق به {هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ} [النمل:40]، أي: ليس بحولي ولا بقوتي، ولكن بفضل الله وحده لا شريك له.
فهنيئاً ثم هنيئاً لكل عبد شاكر، إذا دخل إلى بيته فرأى الأمن والأمان في أهله وولده قال: {هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ} [النمل:40] اللهم لك الحمد، اللهم لك الشكر هنيئاً لعبد إذا أنعم الله عليه بالعافية فنظر إلى مريض أو سقيم قال في قرارة قلبه وبلسانه مناجياً ربه: {هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ} [النمل:40]، هنيئاً لعبد شاكر لن تمضي عليه طرفة عين إلا وهو متفكر متدبر في نعم الله وآلاء الله التي تترى عليه صباح مساء، فإن هذه المنن والنعم والخير هي رزق من الله وحده لا شريك له.
والشكر طريق الخير والبركة للعبد في الدنيا والآخرة، وأسعد الناس في هذه الدنيا هو من شكر الله؛ لأن الله لا يعطي الشكر إلا لأصلح عباده، ولا تجد عبداً شكوراً إلا وجدته صالحاً؛ لأن الإنسان لا يعطى نعمة الله سبحانه وتعالى إلا بفضل من الله سبحانه وتعالى، والله أعلم حيث يضع فضله {ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ} [المائدة:54].
ومن الشكر أن يشكر العبد ربه على أعظم النعم وأجلها وهي نعمة الإسلام، فنحمد لله الذي لم يجعل سجودنا لحجر ولا لشجر ولا لبقر ولا قبر، ولم يجعلنا نعتقد فيما سواه سبحانه، بل جعل قلوبنا له وحده لا شريك له، فهذه أعظم نعمة أنعم الله عز وجل بها على عبده، وأعظم منة يمتن بها سبحانه علينا {بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلإِيمَانِ} [الحجرات:17]، ولا نعمة فوق هذه النعمة، فمن أعظم الشكر أن تستشعر هذه النعمة العظيمة، وتقول: اللهم لك الحمد على نعمة الإسلام.
وقف عبد الله بن عمر رضي الله عنه وأرضاه على الصفا فقال: اللهم إنك قلت في كتابك: {ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} [غافر:60] اللهم كما وهبتني نعمة الإسلام؛ فلا تسلبها مني حتى تتوفاني عليها وأنت عني راض.
فانظر إلى هذا الصحابي الجليل لما أعظم نعمة الله عليه بالإسلام؛ شكر الله عليها، وانظروا إلى عباد القبور والأشجار والأحجار والأبقار {يَدْعُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَضُرُّهُ وَمَا لا يَنْفَعُهُ ذَلِكَ هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ * يَدْعُوا لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ لَبِئْسَ الْمَوْلَى وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ} [الحج:12 - 13].
وتصور لو أن الإنسان -والعياذ بالله- في بيئة تعكف على هذه الأصنام والأوثان، كيف سيكون حاله؟! فاللهم لك الحمد على نعمة الإسلام، وقد فضَّل الله هذه النعمة وزادها أن جعلك في خير الأديان وأحبها إلى الله سبحانه وتعالى، فجعلك من أتباع خير رسله وأفضل رسله، صلوات الله وسلامه عليه.
ومما زادني شرفاً وتيهاً وكدت بأخمصي أطأ الثريا دخولي في ندائك يا عبادي وأن صيرت أحمد لي نبيا فلم يعطك نعمة التوحيد فقط، بل وجعل شريعتك أفضل الشرائع التي تتبعها وتسير على نهجها وتهتدي بهدي نبيها صلوات الله وسلامه عليه، فمن الشكر أن تستمسك بالسنة، وأن تستمسك بهدي النبي صلى الله عليه وسلم، وأن تمتثل لهذا الهدي، وأن تحب كل شيء يدعوك إليه، من العلماء العاملين والمتمسكين بالسنة من السلف الصالح لهذه الأمة والتابعين لهم بإحسان، فتحبهم وتشهد مجالسهم، وتدعو لهم بخير، شكراً لله على نعمه.
ومن أعظم النعم التي أنعم الله عز وجل عليك بها: نعمة وجود الرغبة في العلم وطلب العلم وتيسير ذلك، فكم من مريض على الفراش أو على الأسرة يتمنى أن يجلس في مجالس العلم، وكم من جاهل في بادية أو جبل أو نجد أو وهد يتمنى أنه جالس بين يدي العالم، فقل: الحمد لله على فضله ومنه وكرمه أن يتصل سندك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن طريق عالم أخذ العلم عن أهله، فإن هذه نعمة وفضل من الله سبحانه وتعالى.
وكذلك أيضاً من أعظم النعم التي تستوجب الشكر: نعمة الوالدين، والله يقول: {أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ} [لقمان:14]، فجعل الله شكر الوالدين مقروناً بشكره سبحانه وتعالى، فكلما دخلت على والدك أو والدتك شكرت نعمتهما بعد نعمة الله عز وجل.
ولذلك كان أبو هريرة رضي الله عنه يقول: السلام عليكِ يا أماه ورحمة الله وبركاته، رحمك الله كما ربيتيني صغيراً، فتقول له: وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته، رحمك الله كما بررتني كبيراً.
فهكذا يكون الإنسان شاكراً لنعمة الله عز وجل عليه.
ولذلك أثنى الله على خليله وحبه إبراهيم صلوات الله وسلامه عليه، فقال سبحانه: {شَاكِرًا لِأَنْعُمِهِ} [النحل:121]، فجعله أمة قانتاً لله حنيفاً ولم يكن من المشركين، لما أثنى عليه بثناء التوحيد، مع أنه إذا كان حنيفاً ولم يكن من المشركين فالحنيفية قائمة على الشكر، ومع ذلك خص الله الشكر بقوله: {شَاكِرًا لِأَنْعُمِهِ} [النحل:121].
فالله سبحانه وتعالى جعل الخير كله في الشكر، فيشكر الإنسان ربه، ويعترف أن هذه النعمة من الله وحده لا شريك له، ويعتقد الفضل لأهل الفضل؛ كوالديه، ومن علمه، ومن أسدى إليه معروفاً، كما إذا تولى رعايته وهو صغير، كأن ينشأ يتيماً، وله أخ قام عليه أو قريب، فمثل هذه الأمور من نعم الدين والدنيا ينبغي شكرها، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: (من لا يشكر الناس لا يشكر الله) أي: لم يشكر الله شكراً كاملاً من لم يشكر الناس، فمن شكر الله أن يشكر الناس؛ لأن الله جعل الناس سبباً من أسباب رحمته بعبده، فالله لا يحب نكران الجميل، وكفر النعمة، وجحد الفضل يجلس الإنسان مع والديه ثم يكفر نعمة الوالدين، أو يجلس مع قريبه الذي رباه وقام عليه أو أخوه الأكبر الذي أحسن إليه حتى إذا شب وكبر كأن لم يكن هناك إحسان أو فضل، نسأل الله السلامة والعافية.
فمن أسوأ ما يكون من العبد كفره للنعمة ونكرانه للجميل، فلا يجوز للمسلم أن يكون بهذه المنزلة الممقوتة، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: (حفظ العهد من الإيمان).
وكذلك مع العلماء والأئمة والسلف الصالح نقرأ كتبهم ونتعلم وننال فضلهم، ثم بعد ذلك نجلس نسلب هؤلاء العلماء أو نتتبع سقطاتهم وأخطاءهم على سبيل التشنيع بهم، فهذا من كفران النعم، بل نقول: رحمهم الله برحمته الواسعة، وأجزل لهم المثوبة، ونذكرهم بالجميل، ونتحدث بفضلهم ونشيد بمآثرهم، اعترافاً بفضلهم وطلباً لرحمة الله سبحانه وتعالى لهم.
قال صلى الله عليه وسلم: (حفظ العهد من الإيمان)، وقد كان رسول الأمة صلى الله عليه وسلم مع علو منزلته ودرجته يذكر فضل خديجة بعد موتها، ومن أعظم الشكر أن تذكر فضل الإنسان بعد موته وذهابه، فذكر فضل خديجة رضي الله عنها يوماً (فقالت عائشة رضي الله عنها: ألم يبدلك الله خيراً منها، ألم تكن عجوزاً أبدلك الله خيراً منها، فغضب عليه الصلاة والسلام فقال: لا والله) قسماً أقسم به صلوات الله وسلامه عليه، وفاءً وبراً وصدقاً (لا والله، ما أبدلني الله خيراً منها)، وقد كان بعض العلماء يستدل به على أن خديجة أفضل من عائشة رضي الله عنها (لا والله، ما أبدلني الله خيراً منها، آمنت بي إذ كذبني الناس، وصدقتني وكذبني الناس، وواستني بنفسها ومالها، ما أبدلني الله خيراً منها).
كان بعض مشايخنا رحمة الله عليه له زوجة قامت على حاله وشأنه، فلما كبر وكبرت؛ جاءه أحد المشايخ من زملائه وقال له: يا شيخ! هلا تزوجت الثانية، فقال: أما أنا فقد أصبحت من الحطمة، ولكن أين الوفاء؟ وحتى لو كانت لي قوة فأين الوفاء؟ وكيف أكسر خاطر زوجتي في آخر حياتي؟ وهذا لا يعني أن نترك التعدد، بل المراد حفظ العهد، فإنه رأى أن زوجته قد ينكسر قلبها وخاطرها بهذا، وقد رزقه الله الولد والذرية.
فالشاهد: أن الإنسان يحفظ عهد الزوجة، ويحفظ عهد الأخ والأخت والابن، وكل من أسدى له معروفاً يشكر معروفه بعد شكر فضل الله عز وجل عليه بالإحسان وذكر الجميل، وألا يكفر هذه النعمة، فيستبدلها بالإساءة ونحو ذلك، فهذا كله مما لا يحبه الله ويرضاه.
ولذلك كان نبي الأمة صلى الله عليه وسلم إمام وقدوة الشاكرين، غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، فقام حتى تفطرت قدماه، فقالت له أم المؤمنين رضي الله عنها وأرضاها: (لم تصنع هذا وقد غفر الله لك ما


حكم التداوي بما حرم الله عز وجل

السؤال
ما حكم التداوي بما حرم الله تعالى إذا استعمل كل طريقة للعلاج ولم تنفع، مثل التداوي بشحم الخنزير؟

الجواب
اختصاراً: لا يجوز التداوي بما حرم الله؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن لله لم يجعل شفاء أمتي بما حرم عليها)، ولذلك فلا يحوز التداوي بشحم الخنزير، ولا يجوز التداوي بأي شيء من الخنزير، وقال بعض العلماء: إنه يجوز التداوي به؛ لقوله سبحانه: {إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ} [الأنعام:119]، لكن هذا محل نظر؛ لأن الحقيقة التي ينبغي أن يتنبه لها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله جعل لكل داء دواء إلا الموت والهرم)، فلم يجعل لهما دواءً كما صح عنه عليه الصلاة والسلام.
فإذا ثبت أن لكل داء دواء، فليعلم من يبحث عن الدواء أنه إذا لم يجد دواءً فليس العيب في عدم وجدانه، إنما العيب أنه لم يجد طبيباً يعرف الدواء والداء، ولذلك فلا يرخص، وقد يستعجل بعض العلماء ويفتي بأنه مضطر، والنبي صلى الله عليه وسلم أخبر أنه ما أنزل من داء إلا وله دواء، عرفه من عرفه وجهله من جهله، فأصبح الخطأ والتقصير في البحث ممن هو حاذق في علاج هذه الأمور.
وكثير من الأمور كنا نمنع الناس منها، وهي محرمة، وإذا بنا نتفاجأ بعد مدة برجل يأتي ويقول: الحمد لله اتقيت الله فجعل الله لي فرجاً ومخرجاً، فإذا بي أجد علاجاً في كذا، أو أجد دواءً في كذا، فما اتقى الله عبد إلا جعل الله له من كل هم فرجاً، ومن كل داء دواءً، فالإنسان يحتسب، ويحرص على سؤال أهل الخبرة والعلماء بالطب الحاذقين به، فإن الله سبحانه وتعالى سيلهمه ما هو أنجع وأنفع لدائه وبلائه.
والله تعالى أعلم.
وصلى الله على محمد وآله وصحبه.


حكم هدية الطالب لمعلمه أو الموظف لمديره

السؤال
أشكلت عليّ مسألة: ما حكم قبول الهدية من الطالب لمعلمه أو من الموظف لمديره؟

الجواب
باسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على خير خلق الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه.
أما بعد: فمن كان في عمل أو وظيفة، وقام بهذا العمل والوظيفة، فلا يجوز له أن يقبل من الناس شيئاً، وقد ثبت عنه عليه الصلاة والسلام (أنه أرسل رجلاً على الصدقات، فجاء فقال للنبي صلى الله عليه وسلم: هذا لكم وهذا لي -أي: هذه الصدقات وهذه هدايا خاصة بي- فقام عليه الصلاة والسلام خطيباً وقال: ما بالي أستعمل الرجل على مال الله عز وجل، ثم يأتي ويقول: هذا لكم وهذا لي، هلا قعد في بيت أمه فينظر أيهدى له أم لا!).
فدل على أن هذه الهدية جاءت بسبب العمل، وجاءت بسبب المصلحة المتعلقة بجماعة المسلمين، ومن هنا عتب عليه النبي صلى الله عليه وسلم، وبيّن عليه الصلاة والسلام عدم استحقاقه؛ لأنها جاءت تابعة للعمل، وقد نص جماهير السلف والخلف والأئمة رحمهم الله على أنه لا يجوز للإنسان أن يقبل الهدية على عمله.
وكان عمر بن عبد العزيز رحمه الله يقول: (كانت الهدية على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم هدية، أما اليوم فإنها رشوة)، يعني أنه كانت النفوس أولاً طيبة وتعطي لله وفي الله، ولكن لما دخلت الدواخل وكثرت المصالح، وأصبح الإنسان يفعل الفعل وهو يجعل الدنيا أكبر همه -نسأل الله السلامة والعافية- ولا يجعل الآخرة أكبر همه -إلا من رحم الله- خاف العبد الصالح وتورع من هذا.
فالمعلم والموظف ومن في حكمهما لا يجوز لهم أن يأخذوا الهدية، إلا من شخص كان يهدي إليه قبل العمل والوظيفة، فإذا كان الشخص يهاديك من قبل فلا بأس بقبول هديته؛ لأنه لا يختلف الحال؛ لأن هذه الهدية لا شبهة فيها.
وأيضاً: لا يجوز لك أن تقبل دعوته الخاصة، بحكم أنه ليس الأمر موقوفاً على الهدايا؛ بل قد يدعوك إلى وليمة خاصة، فإذا بالموظفين ومن تحته يصنعون الولائم ويتملقونه، وفي الحديث: (من أكل طعام قوم ذل لهم)، فلو كان أضعف موظف عند الإنسان ودعاه إلى طعامه كسر عينه، ولم يستطع أن يقف في وجه يوماً من الأيام؛ لأن النفوس مجبولة على الحياء ممن أحسن إليها، والورع والذي يخاف الله ويتقيه يبتعد عن هذه الأمور كلها.
وللسلف الصالح رحمهم الله في ذلك أروع المواقف، حتى ذكروا عن هارون الرشيد رحمه الله برحمته الواسعة أنه دخل عليه قاضٍ من قضاة السلف رحمهم الله فقال: أنا بالله ثم بأمير المؤمنين أناشدك الله أن تقبل كتابي.
فقد كان قاضياً وإذا قبل الخليفة الكتاب فمعناه أنه قد أقاله من القضاء.
فقال له هارون: لا أقبل حتى تقص لي السبب الذي من أجله امتنعت من القضاء.
فقال: يا أمير المؤمنين! إني عرضت عليّ قضية من القضايا، فجاءني رجل عظيم غني ثري ومعه خصمه، قال: فنظرت في القضية فإذا بها تحتاج إلى تأمل ونظر، فلم أبت فيها، ووعدت الخصمين أن يعودا إليّ بعد أيام، قال: فسمع الغني أني أحب التمر، فذهب واشترى وجمع تمراً من أنفس وأجود أنواع التمر، ثم فوجئت بكاتبي قد دخل عليّ بذلك التمر، فقلت له: ويحك ما هذا؟! قال: هذا من فلان بن فلان.
فأمرت بجلد الكاتب وطردته، ورددت العطية إلى صاحبها، ووبخته وعزرته.
قال: ثم لما حضر عندي الخصمان بعد هذا الفعل، قال: والله يا أمير المؤمنين ما أن جلسا بين يديّ -مع هذا الاحتياط- ما استويا في عيني.
قال بعض العلماء: كان بعض مشايخنا رحمة الله عليه يقول: يحتمل أن معنى قوله: (ما استويا في عيني) أنه وجد أن هذا الغني لما تكلف المال واشترى ثم رده عليه أنه انكسر، فجاءه شيء من الرحمة، أو أنه ما زال حانقاً غضبان على هذا الذي رشاه، وتوقع أنه يفعل مع غيره كفعله، ونظر إلى جرأته مع أنه عزره، لكن لا زال قلبه يحدثه أنه يستحق أكثر من ذلك، فلما جلسا في القضية لم يستطع أن يراهما بمنزلة واحدة، فسأله أن يعفيه من القضاء.
هذه هي منزلة الورع، فقد كان السلف رحمهم الله يخافون خوفاً شديداً من الهبات والهدايا والعطايا، والإنسان إذا أراد النجاة فيحرص كل الحرص على الأمانة، وإذا جاء إلى وظيفة أو عمل أو تدريس فلا يسأل الأجر إلا من الله سبحانه وتعالى.
والله سبحانه وتعالى هو الذي يتولى جزاءه، وهو الذي يتولى مكافأته {مَا عِنْدَكُمْ يَنفَدُ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ بَاقٍ} [النحل:96]، وأنعم بالجزاء إذا كان من الله سبحانه وتعالى، وأنعم بالعطية إذا كانت من الله، وانظر إلى حالك حينما يأتيك مخلوق ضعيف يقدم لك عرضاً من الدنيا، فتنظر إلى ما عند الله وما عند المخلوق، فتؤثر ما عند الله على ما عند المخلوق.
وقد تكون في أمس الحاجة إلى هذا الشيء الذي يعرض عليك فترده، فيعوضك الله سبحانه وتعالى من حسن الخلف ما لم يخطر لك على بال، فليس هناك أعظم من مكافأة الله لعبده، وهذا شيء نقوله بألسنتنا، لكن يعرف لذة ذلك وطعمه وقدره من عرفه، فالمعاملة مع الله رابحة، ولا يظن الإنسان أنه إذا أصبح عفيفاً في عمله أو وظيفته أو تدريسه فإنه سيخسر؛ فإن المعاملة مع الله عز وجل ليست فيها خسارة أبداً، فهم يرجون تجارة لن تبور، والحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف، إلى أضعاف كثيرة لا يعلمها إلا الله.
قال بعض العلماء: إن الله سبحانه وتعالى بعد أن ذكر أن الحسنة بعشرة أمثالها في أكثر من آية، وذكر أنها كمثل حبة من سنبل أنبتت سبع سنابل في كل سنبلة مائة حبة، قال: {وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ} [البقرة:261]، قالوا: يضاعف بالتوحيد والإخلاص؛ لأن الشخص الذي تعرض عليه هدية غالية الثمن وهو فقير محتاج، ليس كالشخص الذي تعرض عليه هدية وهو غني غير محتاج، ولأن الشخص الذي تعرض عليه الهدية والرشوة من قوي قادر، ليس كالشخص الذي تعرض عليه وهو قوي قادر من ضعيف، فتحصل المضاعفة والفضل من الله سبحانه وتعالى على قدر البلاء.
فإذا جاءك الطالب يريد أن يعطيك الهدية فلا يجوز لك أخذها، ولا يجوز للمدرس أن يقبل من طلابه عطية ولا هبة ولا هدية، وهذا -كما ذكرناه- نص عليه العلماء رحمهم الله لورود السنة به؛ لأنك تؤدي عملاً واجباً عليك؛ ولأن فتح هذا الباب يفتح على الناس كثيراً من البلاء، فيحابي صاحب الهدية ويجامل، ولذلك يجب على الإنسان أن يبتعد عن هذه الأمور نصيحة لله ولرسوله عليه الصلاة والسلام ولعامة المسلمين، فيما هو مربوط به من المصالح العامة للمسلمين.
والله تعالى أعلم.


كيفية العدل بين الزوجات مع الاختلاف في عدد الأولاد

السؤال
من كان له بيتان وأعطى كل بيت مصارفه التي يحتاجها، فهل هذا عدل أم أن العدل أن يساوي في العطية، كأن يخصص مبلغاً متساوياً بين البيتين، ولو لم يكن في البيتين نفس العدد من الأبناء؟

الجواب
العدل بين الزوجات واجب شرعاً، وأجمع العلماء رحمهم الله على وجوب العدل بين الزوجات، أما طريقة العدل فعندنا أصول، وعندنا فروع، فالزوجات أصول، والأولاد فروع، فالزوجة التي لا ولد لها لها حكم يخالف حكم الزوجة التي لها ولد، فإذا جاء يعطي فيقدر المبلغ للرأس الذي هو الأصل ويقدر مبلغاً للأولاد، فإذا كان يعطي الزوجة مائتين على الرأس، والولد يقدر نفقته في كل شهر مثلاً مائة إذا كان عنده مصاريف للدراسة، وإذا لم يكن عنده مصاريف قدرها بخمسين.
فحينئذٍ الزوجة التي لا ولد لها يعطيها مائتين، والزوجة التي لها ولد يعطيها مائتين لها هي، ثم أولادها يفضل بينهم بحسب النفقات، فالولد الذي تصرف عليه أمه في ملبسه ومطعمه ودراسته ليس كالولد الذي يصرف عليه في مطعمه وملبسه فقط.
هذا من حيث الأصل، فالأولاد يقدر نفقتهم في الطعام والشراب، ويعطي أمهم ذلك، فإذا كان يعطي الولد خمسين ريالاً، وعندها ولدان، فيعطيها مائة ريال، فتصبح مائتين لها ومائة لأولادها، إذاً هذه المرأة لها ثلاثمائة، والمرأة الثانية ليس لها ولد فيعطيها مائتين فقط، فيكون قد عدل بين الزوجات.
فإن ولدت الثانية؛ فحينئذٍ ينظر إلى ولد هذه وإلى ولد هذه وما يحتاجه من النفقة، فإذا كان كل واحدة عند ولادتها يحتاج ولدها إلى ملبس أو علاج أو أي شيء، كان العدل بالعطية من جهة الأسباب والضرورة، فالتي عندها ولد ينفق عليه في ملبسه أو حضانته أو نحو ذلك، وإذا ولدت الثانية عاملها مثلما يعامل ولد الأولى، وهذا العدل لا نقول له من البداية يعطي هذه مثلما يعطي تلك؛ لأن هذه لها سبب خاص، فيعدل بين الزوجتين في حال الولادة، ويعطي هذه مثلما يعطي هذه.
فحينئذٍ يكون قد عدل بينهن، وليس المراد أنه مثلاً لو ولدت خديجة، وعائشة لم تلد، فأعطى خديجة خمسين، فنقول له: أعطِ عائشة خمسين، فهذا خطأ، ويخطئ فيه بعض طلاب العلم، فالأسباب الخاصة العدل فيها إذا طرأ مثلها عند الأخرى، فيكون عادلاً بين زوجاته وأولاده في في الأصل وفيما يطرأ على الأصل، في الأصل من حيث النفقة كالطعام والشراب فيعطيهم مثل بعضهم ويسوي بينهم.
لكن عند بعض العلماء خلاف في مسألة اختلاف الأماكن، فقد تكون امرأة في منطقة العيشة فيها رخيصة، وامرأة في منطقة العيشة فيها غالية، فيقولون: يجب عليه أن يعدل بإسكانهما معاً في المكان الذي فيه عيشة رخيصة أو عيشة غالية، فإذا لم يتيسر له ذلك عامل في النفقة بحسب الحال، فيعطي لهذه التي في العيشة الغالية بما يتناسب مع حالها غنىً وفقراً، على الأصل المقرر في النفقات، ويعطى تلك في العيشة الرخيصة بما يتناسب مع حالها، فمثلاً: متوسط الحال في العيشة الغالية تكون نفقة الولد مائتين، والأعلى ثلاثمائة، والأدنى مائة، فأعطاها مائتين، وفي العيشة الدنيا يكون الأعلى مائة والأوسط خمسين والأدنى مثلاً عشرين، فيعطيها خمسين، فيكون قد سوى في العطية بحسب البيئة وبحسب المكانة.
وعلى هذا فإذا عدل واتقى الله سبحانه وتعالى فأعطى الزوجات وسوى بينهن في القدر والعطية، وأعطى عند الأسباب والموجبات؛ فإنه حينئذٍ يكون قد برئت ذمته وسلم إن شاء الله من التبعة.
والله تعالى أعلم.


شرح زاد المستقنع - كتاب الوقف [4]
من المسائل المتعلقة بالوقف التقييد والإطلاق، فعندما يطلق الواقف في وقفه فيلزم العمل بإطلاقه، وإن قيد وجب العمل بقيده، ومن المسائل التي يدخل فيها التقييد والإطلاق ما يتعلق بدخول الذكور والإناث، وكذلك دخول البطن الثاني من الأولاد مع البطن الأول، ودخول أهل البيت والقرابة والمساكين وغيرهم.


وجوب العمل بشروط الواقف
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على خير خلقه أجمعين، وعلى آله وصحبه ومن سار على نهجه إلى يوم الدين، أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله تعالى: [فصل: ويجب العمل بشرط الواقف في جمعٍ وتقديم وضد، ذلك واعتبار وصفٍ وعدمه، وترتيب ونظر وغير ذلك] قوله: (ويجب العمل بشرط الواقف) أي يجب على من تولى نظارة الوقف أن يعمل بالشرط الذي اشترطه المُوقف.
فالواقف إذا اشترط شروطاً، أو وضع أمارات وعلامات معينة للاستحقاق في وقفيته؛ فالواجب العمل بذلك، ولا يجوز إخراج هذه الشروط ولا العبث بها، وذلك بإجماع العلماء رحمهم الله؛ فإن عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه لما كتب وصيته وفيها وقفيته لأرضه التي بخيبر جعل النظارة لأم المؤمنين حفصة رضي الله عنها وأرضاها، ثم من بعدها للأرشد والعدل من الذرية، وجعل شروطاً في صرف الوقف وعُمل بها، وجرى العمل عند أئمة الإسلام وقضاة المسلمين على أن شروط الواقف ينبغي العمل بها، ولا يجوز تعطيلها، ولا تبديلها، ولا تغييرها، ولا تحريفها.
ولذلك قال المصنف: (يجب) فعبر بالوجوب الذي يدل على إثم من خالفه، فلا يجوز أن يُتصرف في هذه الشروط، إلا إذا قضى القاضي في أحوال مستثناة سيأتي إن شاء الله بيانها، أما من حيث الأصل فالواجب العمل بهذه الشروط وتنفيذها، والشروط تختلف من حيث الأصل، فالذي يُوقِفُ الأرض أو غيرها قد يشترط النظارة لشخص معين، وقد يشترط جهة معينة يُصرَف إليها الوقف، وقد يشترط في هذا الصرف صفات معينة.
ثم إذا جعل الوقف لطائفة أو لجماعة، فإما أن يُعمم وإما أن يخصص، وإما أن يُطلق، وإما أن يقيد، ثم التقييد تارة يكون بالترتيب فيقول مثلا: ًعلى أولادي، ثم أولاد أولادي، ثم أولاد أولاد أولادي إلى أن ينقطع نسلي، أو إلى أن لا يبقى أحد من ذريتي، فهذا مستغرق لذريته، وربما يُخرج هذا الوقف بالشرط عن ذريته إلى جهة أخرى فيقول: هذا الوقف لأولادي ثم أولاد أولادي، فإذا ماتوا فإلى الفقراء والمساكين من بعدهم، فيجعل الوقف بالنسبة لذرِّيته للبطن الأول والثاني، ولا يجعل للثالث استحقاقاً.
وقد يجعل شرطاً من جهة الصرف، فيخصّه ببعض الذرِّية دون بعض، فيخصَّه بالذكور دون الإناث، أو العكس فيجعله للإناث دون الذكور يقول: داري هذه وقف على بناتي للمطلقات منهن، وهذا أثر عن الزبير ويحكى عن عبد الله بن الزبير رضي الله عنهما أنه أوقف داره على المطلقات ومن كانت أرملة من ذريته.
فالشاهد من هذا أن شرط الوقف معمولٌ به، والإجماع منعقد على أنه يجب على الناظر أن ينفِّذ هذه الشروط، ويجب على القاضي أن يُلزم بها الناظر، وإذا ظهر من الناظر إخلالٌ بهذه الشروط أو تغييرٌ لها؛ فإن القاضي يُلزمه شرعاً بالعمل بهذه الشروط إلا في الأحوال المستثناة.
ويجب على من ولي الوقف أن يعمل بشرط الواقف تعميماً وتخصيصاً، وتقييداً وإطلاقاً، وترتيباً على الصفات، وعلى الأحوال، كل ذلك يجب أن يُتقيد به وأن لا يُغيَّر ولا يُبدَّل.
قوله: [في جمع وتقديم] الجمع كأن يقول: أولادي، وأولاد أولادي، فإذا قال: أولادي وأولاد أولادي، فمذهب طائفة من العلماء أن البطن الأول والثاني يستوون، مثلاً لو كان له ابنان زيدٌ وعمرو، فتوفي زيد وبقي عمرو، فذرية زيد تستحق مع وجود عمهم؛ لأن الوقفية مشركة حيث جمع بين البطنين الأول والثاني.
لكن إذا قال: على أولادي ثم أولاد أولادي، فثم هنا فرّق بها بين البطن الأول والبطن الثاني، وحينئذٍ ينبغي أن يُركَّز على الشرط الذي اشترطه، ولا يجوز أن يأخذ أحداً من الدرجة الثانية مع وجود أحد من الدرجة التي قبلها.
وهكذا لو جمع وقال: على أولادي.
فهذا جمع يشمل الذكور والإناث والخناثى، حتى ولو كان فيهم خناثى فإنهم يستحقون من الوقف لأنهم أولاد له، والله سمى الولد للذكر والأنثى {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ} [النساء:11]، فالولد في لغة العرب يشمل الذكر والأنثى، فجمع بين الذكر والأنثى فقال: على أولادي، لكن ممكن أن يقول: هذه الدار وقف على بناتي، فحينئذٍ فرَّق بين الذكر والأنثى، فجعل الاستحقاق للأنثى دون الذكر، فله أن يجمع وله أن يفرِّق.
قوله: (وتقديم): أي: كأن يقول على أولادي ثم أولاد أولادي، هذا ترتيب، وإذا جعل الوقف على الترتيب وجب التقيُّد بهذا الترتيب، فلا يُعطَى المؤخر مع وجود المقدم، أو مع وجود من هو أعلى منه مرتبة.
قوله: [وضد ذلك] أي: ضد الجمع التفريق.
قوله: [واعتبار وصف] أي: لو قال مثلاً: للمريض من أولادي، أو الفقير، أو المطلقة من بناتي، أو قال على الفقراء على المساكين على طلبة العلم على الغرباء، هذه كلها أوصاف ينبغي أن يتقيد بها، ولا يجوز أن يغيرها الناظر، بل يصرف على هذا القيد الذي ذكره الواقف.
قوله: [وعدمه] أي: عدم التقييد، كما لو قال: على أولادي، ولم يقيد لا بذكر ولا بأنثى.
قوله: [وترتيب] أي: كذلك إذا لم يرتب فإنه في هذه الحالة يبقى الجميع على حد سواء، فإذا قال: أوقفت هذه المزرعة على أن تكون غلتها لأولادي والمساكين؛ فحينئذٍ جمع بين أولاده والمساكين، ولو قال: على أولادي ثم المساكين من بعدهم، فحينئذ لا نعطي المساكين إلا إذا عُدم أولاده.
فإذاً نعمل بالجمع والتفريق، ونعمل أيضاً بالأوصاف وعدمها، فإذا جاءت خالية من الأوصاف فإننا نبقي الوقف على عمومه وشموله.
فالمقصود من هذا أنه يلزم الناظر أن يتقيد بشرط الواقف على الصفة التي ذكرها في وقفيته.
قوله: [ونظرٍ] أي: هكذا النظارة، لو قال: نظارة هذا الوقف لي، فهذا شرط يستحقه وتكون له النظارة، فإذا قال: ثم للأرشد فالأرشد من أولادي، فحينئذٍ تكون للأرشد، أو قال: للأعلم من ذريتي، فحينئذ تكون للأعلم، والدليل على ذلك أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه لما كتب كتابه في الوقف، جعل النظارة لابنته حفصة رضي الله عنها وأرضاها ثم للأرشد من ذريته.
فهذا يدل على أن من حق الواقف أن يخص النظارة، وأن يجعلها لبعض الموقوف عليهم، سواءً كانوا من الموقوف عليهم أو كانوا من غيرهم، فقد يقول: هذا البيت وقف على أولادي والناظر عمهم فلان، وقد يجعل رجلاً أجنبياً فيقول: النظارة لفلان -وهو غريب وليس بقريب- ولذريته من بعده، فحينئذٍ تكون النظارة على الشرط الذي ذكره الواقف.
قوله: [وغير ذلك] أي: (وغير ذلك) من الأمور التي يذكرها الواقف؛ لأنه إذا اشترط فله على ربه ما اشترط، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم لـ ضباعة رضي الله عنها: (أهلِّي واشترطي وقولي: فإن حبسني حابس فمحلي حيث حبسني، فإن لك على ربك ما اشترطت).
وهذا دليل على أن العبد إذا اشترط على ربه، وكان الشرط شرعياً فإن له ذلك الشرط، فإذا جعل الناظر شروطاً في الوقف فإنه ينبغي التقيُّد بها، مثل أن يقسم الوقف أثلاثاً، ويقول هذا الثلث أشترط أن يكون للقرابة بشرط أن يكونوا بحاجة، أو يكونوا أيتاماً، أو تكون أرملة من النساء، ونحو ذلك من الأمور التي يضيفها الواقف.


الوقف المطلق
من أوقف لا يخلو إما أن يشترط، وإما أن يترك الشرط، فإذا اشترط في وقفه شروطاً، وكانت هذه الشروط شرعية؛ وجب العمل بها والتقيد بما فيها، وقد بينا وجه ذلك وأنه يُلزم ناظر الوقف بتنفيذ هذه الشروط، وصرف مستحقات الوقف على ضوء ما اشترطه الواقف.
وإذا حصل الإخلال بما تقدَّم من التقييد؛ فإن الناظر يتحمل المسئولية، ويكون حينئذٍ ضامناً لكل ما يترتب على هذا الإخلال والصرف الذي لم يقع على الوجه المعتبر.
بقي السؤال عن الحالة الثانية: وهي أن يصدر الوقف خالياً من الشروط، وهذه الحالة تعتبر حالة إطلاق، بمعنى أن يَنُص على الوقف دون أن يقيد، ودون أن يشترط؛ فالحكم حينئذٍ أنه يبقى المطلق على إطلاقه، ولا يمكننا أن نضيف قيوداً، ولا أن نضيق واسعاً، فإذا أطلق صاحب الوقف عملنا بإطلاقه؛ لكن هذا الإطلاق في بعض الأحيان تترتب عليه بعض المسائل.
ومن هنا بيّن المصنف رحمه الله أنه إذا حصل الإطلاق عمل به، فلو قال: وقفت هذه المزرعة على أولادي.
استوى في ذلك الغني والفقير، فنعطي أولاده، سواء كانوا من الأغنياء أم كانوا من الفقراء، كذلك يستوي ذكرهم وأُنثاهم، فنعطي الذكر ونعطي الأنثى؛ لأنه سوى بينهم وشرّك فقال: أولادي، فيستوي الذكور والإناث والخناثى فكلهم يدخلون في هذا، ويُصرف لهم من مستحق الوقف.
وهكذا إذا قال: وقفت هذه المزرعة وثمرتها تصرف على المساكين، فإننا نصرفها على كل من يصدُق عليه أنه مسكين، سواء كان في غاية الصلاح كالصالحين، أو كان في المستوى العام لعموم المسلمين، بخلاف الحالات الأُول فإنه إذا قال: وقفت داري على أولادي الذكور؛ تَقيَّد الوقف بهم، ولو قال: وقفت داري على المطلقات من بناتي، فحينئذٍ يختص بالمطلقات، أو قال: أوقفت داري على أولادي الأفقه منهم، يُقدَّم الأصلح أو يقدم الأرشد وهكذا.


كيفية توزيع عطاء الوقف بين الأولاد
إذا أطلق وقال: داري وقفٌ على أولادي، فإنا نُسَوِّي بين الأولاد جميعاً، حتى إن الولد الذي يكون من الصغار ولم يبلُغ يدخل في هذا، بل بمجرد أن يولد يثبت استحقاقه في الوقف، ويكون له نصيبه، ويقسم الوقف بينهم بالسوية.
فمثلاً لو أن مزرعة أوقفها على أولاده، وفيها مثلاً مائة صاع، وله من الولد خمسة، فإننا نقسم المائة صاع بين الخمسة بالسوية، لا نفضِّل الذكر على الأنثى، ولا نعطي الكبير دون الصغير، ولا نخص الصالح دون غيره، بل يستوي الجميع في هذا الاستحقاق؛ لأنه أطلق وقال: على أولادي.
ومن هنا قال بعض العلماء: إنه لو قال: وقفت داري على أولادي، وأولاد أولادي، ونسلي إلى أن ينقطع أو على عقبي حتى ينقطع، فقد سوَّى بين الطبقات، فالبطن الثاني يدخل مع البطن الأول لأنه لم يرتب، فلو قال: أوقفت داري هذه على أولادي.
فإنه لو كان له ولدان: محمد وعلي، وخلّف محمد ثلاثة؛ فإن الثلاثة يقاسمون أباهم وعمهم؛ لأنه قال: أوقفت على أولادي؛ لكن في الحالات الأُوَل التي سبقت الإشارة إليها يقول: على أولادي ثم أولاد أولادي، فحينئذٍ لا يشارك البطن الثاني البطن الأول، وتختص القسمة بالبطن الأول دون الثاني؛ لكن إذا قال: أوقفت داري، أو مزرعتي على أولادي فإن انقطع نسلي أو انتهى عقبي فللمساكين، فحينئذٍ يستوي جميع أولاده كما سيأتي إن شاء الله في مسألة الولد وشموله للبطون، وسيذكرها المصنف رحمه الله.
بين المصنف في هذه العبارة أن الإطلاق يخالِف التقييد، وهذا كله عمل بما كان من الواقف، ويؤكِّد ما تقدم أننا ملزمون بما فعله الواقف، إن قيد أو اشترط وجب علينا الوقوف عند قيده وشرطه، وإن أطلق ولم يقيد فإننا نبقى على هذا الإطلاق، ويرد السؤال في مسألة من هذه المسائل، وهو: إذا أطلق وصعُب علينا أن نشمل الجميع، فهل نخص البعض دون البعض؟ هذا سيأتي الكلام عليه، لكن القاعدة العامة أننا في التقييد نتقيد بما قيّد، وفي الإطلاق نعمل بالمطلق على إطلاقه.
قوله: [وضدهما].
استوى الغني والذكر مع ضدّهما، يعني ضد الغني وهو الفقير، وضد الذكر وهو الأنثى، فالإناث من الولد ضد الذكور، فنسوّي بينهم، ولا نفضِّل الذكور على الإناث.
وهذا قول عامة أهل العلم رحمهم الله؛ أن من قال وقفت مزرعتي هذه على أولادي، فإننا نقسم غلة المزرعة بين أولاده بالسويّة، ولا نفضّل الذكر على الأنثى، لكن استحب طائفة من السلف رحمهم الله، ونص عليه غير واحد من الأئمة وهو الحق إن شاء الله، أن يقسم بين أولاده بقسمة الله تبارك وتعالى، فيجعل حظ الذكر ضِعف حظ الأنثى؛ لأن الله سبحانه وتعالى جعل هذه القسمة من فوق سبع سماوات، وهي قسمة العدل الحكيم الخبير اللطيف الذي هو أعلم بعباده سبحانه وتعالى، ولا أعدل من الله.
وهذا لحكمة بالغة، فإن الله حمّل الرجال المسئولية عن النساء، فالأصل في المرأة أن ترعى بيتها، وأن تقوم على ولدها، وأن تقر في قرارها، والعمل مخالفٌ للأصل؛ لأن الله نص في كتابه فقال: {وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا} [الأعراف:189].
فالأصل في الخلقة والشرعة أن التعب للرجال، ولذلك قال: {فَلا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى} [طه:117]، ولم يقل: (فتشقيا)؛ لأن الرجل هو المسئول، وهو المتحمل لتبعة النفقة والقيام على المرأة، فإذا كان هذا هو الأصل فإن الله سبحانه وتعالى جعل الحق في النفقة على الرجال، ولم يجعله على النساء.
فتبين أن التبعات والأمور التي يتحملها الرجال أكثر من الأمور التي تتحملها النساء، وإذا كان الأمر كذلك؛ فالله عز وجل جعل نصيب الرجل ضِعف نصيب الأنثى، فإذا أراد أن يُعطي ولده فإنه يجعل للذكر مثل حظ الأنثيين، ويقول مثلاً: وقفت مزرعتي هذه على أولادي وللذكر مثل حظ الأنثيين، فيفضِّل بينهم بتفضيل الله عز وجل، والله سبحانه فضل جنس الرجال على جنس الإناث، ولذلك خلق آدم بيده، وأسجد له ملائكته، ونفخ فيه من روحه، ثم بعد ذلك خلق منه حواء، فجعل الرجل هو الأصل، وكل مؤمن مطالب بالتسليم، وينبغي أن يرضى بهذا الحكم وأن يذعن له، وأن يسلِّم بهذه القضية التي ليست مثار جدلٍ أو نقاش.
لأن هذا التفضيل حكمٌ من الله، ولا يستطيع أحد أن يقول: لماذا خلقني الله قصيراً وخلق غيري طويلاً؟ لماذا خلقني فقيراً وخلق غيري غنياً؟ فالله يفضِّل وله الحكمة التامة البالغة، والله يحكم ولا معقب لحكمه، ففضل هذا الجنس على هذا الجنس.
فنحن نفضِّل بتفضيل الله عز وجل، ولا يغض هذا ولا يُنقص مكانة المؤمنة أبداً، بل عليها أن تسلم، فإذا أراد الوالد أن يُوقف على هذا الوجه فإنه يعدل بين أولاده، ويجعل نصيب الذكر ضعف نصيب الأنثى؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (اتقوا الله واعدلوا بين أولادكم).
ومن هنا كان مذهب طائفة من العلماء أن عطية الولد ضعف عطية الأنثى، وهذا لا شك أنه معتبر من حيث الأصول الشرعية.
والمصنف رحمه الله يقول: إنه يستوي الذكر والغني وضدّهما، يعني ضد الذكر وضد الغني، فيستوي غنيهم وفقيرهم، فلو قال: مزرعتي هذه وقف على ولدي، وكان له ولدان أحدهما غني والثاني فقير، فإننا نعطي الغني مثلما نعطي الفقير، ونعطي الفقير مثلما نعطي الغني، ولا نفضِّل أحدهما على الآخر.


من تكون له نظارة الوقف عند الإطلاق
قال رحمه الله: [والنظر للموقوف عليه] من أوقف شيئاً إما أن يجعل لنظارته شروطاً يحددها ويبينها، فيقول: والنظارة لهذا الوقف للأرشد فالأرشد من أولادي، ففي هذه الحالة يستحق النظارة من توفر فيه شرط الرشد فيقدَّم الأرشد.
لكن إذا أَطلق وقال: هذه المزرعة وقفٌ على أولاده وسكت، ولم يذكر لمن تكون النظارة، ولم يحدد من هو الناظر ولم يضع شروطاً ولا صفاتٍ ولا أمارات معينة لمن نجعله ناظراً على وقفه، فإنه في هذه الحالة تكون النظارة للموقوف عليه.
بمعنى أن الأشخاص الذين أَوقف عليهم هذه المزرعة هم الذين لهم حق النظر؛ لأنهم هم القائمون على الوقف، وهم المالكون لثمرته، وهم الذين سيمحضون هذا الوقف النصيحة، فهم أولى وأحق بالنظر في مصالحه، وليس هناك أصلح مِن نظر الإنسان بنفسه فيما هو له؛ لأنه لا يغش نفسه غالباً؛ ولأنه سيحرص على ما فيه مصلحة نفسه، ومصلحة من معه.
فلو أوقف الوالد على ولدين فالنظر لهما، لا يستبد أحدهما دون الآخر، ولا يتصرف أحدهما في الوقف دون إذن الآخر، فهما شركاء في هذا الاستحقاق؛ لكن لو أنهم اتفقوا على أن يفوضوا شخصاً منهم، فقالوا نحن خمسة، وهذا الوقف يحتاج إلى شخص واحد متفرغ؛ فنحن وكلنا وفوضنا فلاناً، فحينئذٍ يكون من فوّضوه متصرفاً أصالةً عن نفسه، ووكالة عن غيره، فهو في هذه الحالة الذي له حق النظارة برضا الجميع واختيارهم.
فالنظر للموقوف عليهم إن كانوا معينين فلا إشكال في ذلك، إذا كانوا معينين كقوله مثلاً: أوقفت داري هذه على أولادي، وأولاده عشرة، تفاهموا فيما بينهم وجعلوا ناظراً، أو كان العشرة كلهم يديرون هذا الوقف ومصالح الوقف لا إشكال.
لكن المشكلة إذا كان الموقوف علمه جهة من الجهات، كأن يقول: وقفت مزرعتي هذه على المساكين، فلا يمكن أن يكون كل المساكين نظراء على هذا الوقف، وذلك من الصعوبة بمكان، وقد يتعذر هذا، ففي هذه الحالة يختار القاضي بعضهم للقيام على مصلحة الوقف على التفصيل الذي ذكرناه.


مسائل الوقف على الأولاد
قال رحمه الله: [وإن وقف على ولده أو ولد غيره ثم على المساكين، فهو لولده الذكور والإناث بالسوية، ثم ولد بنيه دون بناته؛ كما لو قال: على ولد ولده وذرّيته لصلبه] فقوله رحمه الله: (وإن وقف على ولده أو ولد غيره ثم على المساكين، فهو لولده الذكور والإناث بالسوية) فيه مسائل: المسألة الأولى: إذا قال على ولدي.
المسألة الثانية: إذا قال: على ولد فلان.
المسألة الثالثة: إذا قال: على ولدي ثم على المساكين.


دخول الذكور والإناث في الوقف على القرابة وأهل البيت والقوم
قال رحمه الله: [والقرابة وأهل بيته وقومه يشمل الذكر والأنثى من أولاده وأولاد أبيه وجدِّه وجد أبيه] أي: فإن قال: وقف على أقربائي وأهل بيتي، أو أهلي، أو وقفٌ على المسكين من أهلي، أو على المحتاج من أهلي، فإنه يشمل الذكور والإناث.
يقال إن أهل أصلها: آل، وهذا قول سيبويه من أئمة اللغة، وأُبدلت الهمزة هاءً.
وأهل الإنسان، وآل الإنسان، وقرابة الإنسان تشمل فروعه من الأصول.
وقومه كذلك، إن قال: للضعفاء، للفقراء، لطلبة العلم من قومي، فإنه يستوي فيه الذكور والإناث، إلا أن يَخُص، ولذلك قال: [يشمل الذكر والأنثى من أولاده] أي: لأن الآل لا تختص بالذكور دون الإناث، قال صلى الله عليه وسلم: (إنها لا تحل لمحمد ولا لآل محمد)، والإجماع قائم على أن قوله: (آل محمد)، شاملة للذكور والإناث، وأهل مثل آل، فلو قال: على أهل بيتي؛ فإنها تشمل الإناث، وفي حديث الكساء أنه عليه الصلاة والسلام جلّل فاطمة رضي الله عنها وجعلها من أهل البيت، وهي من أهل بيته بالإجماع.
فأهل بيت الإنسان وآله وقرابته يستوي فيهم الذكور والإناث، قال تعالى: {رَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ} [هود:73]، فالخطاب متوجه لزوجة إبراهيم عليها السلام لما عجبت من أمر الله عز وجل فقيل لها: {رَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ} [هود:73].
فأهل الإنسان تطلق على الزوجة {فَقَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَارًا} [طه:10]، تُطلق الأهل بمعنى البيت خاصة، سواء كان للزوجة وأولادها ومن هو قريب من ذلك كالخدم والحشم، وتُطلق بمعنى العموم، ويقال: أهل الإنسان ومرادهم كل من يمت إليه بالقرابة والصلة.
وقوله: (وأولاد أبيه): وهم من يجتمعون معه في الأصول، فيشمل ذلك أعمامه وعماته الأشقاء، وهم الذين شاركوا أباه في أصليه، والعمة لأب، والعمة لأم من حيث الأصل، لكن بالنسبة لمن فوقهم يختص بالأصول وهو جد أبيه ومَن علا.
قال: [وجد أبيه] أي: جد أبيه، وجد جده، ونحو ذلك؛ لأنها كلها أصول وتدخل في آله وقرابته.
قال رحمه الله: [وإن وُجدت قرينة تقتضي إرادة الإناث أو حرمانهن عُمل بها] يريد إناثه؛ كان يقول: بيتي وقف على المطلقة من بناتي، أو على المطلقة من ذريتي، أو على المطلقة من نسلي، أو وقفٌ على المحتاجة من قرابتي، هذا يخص الإناث دون الذكور، فالذكر لا يستحق في هذه الحالة، ولا يدخل.
وأُثر عن بعض الصحابة رضوان الله عليهم أنه أوقف على الإناث من ذريته، وهذا قول لبعض العلماء، فيرى أنه يجوز تخصيص بعض الولد عند الموجب، وفي النفس منه شيء، لكن عمل به بعض الصحابة رضوان الله عليهم، ويؤثر عن الزبير وابنه عبد الله بن الزبير رضي الله عن الجميع أنه خشي على بناته فجعله للمطلقة والأرملة؛ لأن الذكر يستطيع أن يكافح، ولكن الأُنثى إذا طُلِّقت أو مات عنها زوجها خُشي عليها.
فيوقف على المحتاجة من ذريته إذا طُلِّقت أو أصبحت أرملة خوفاً عليها من العار، وهذا يجوزه بعض العلماء؛ لأنهم يقولون: يجوز أن يَخُص الوالد بعض ولده للعوز والحاجة، مثل أن يكون ابنه -لا قدر الله- مشلولاً، فيجوز أن يعطيه ما لا يُعطي الصحيح، ولو كان ابنه طالب علم يحتاج إلى نفقة خاصة أعطاه نفقة طالب علم، فهذا التفضيل للسبب، فيرى أنه إذا فضّل بعض ولده بالوقف عليهم لسبب، أو مثلاً جعل للذكور حظاً، وجعل للإناث حظاً، فأوقف على الذكور داراً، وأوقف على الإناث مزرعةً وعدل بينهم، فهذا له وجهه.
الشاهد أنه إذا قيّد بالأنثى؛ فإنه يعمل بتقييده، سواء كان ذلك بأمارة، أو كان صريحاً، فقال: للمطلقة أو للأرملة إذا رُمِّلت، فإن قال: للمطلقة فإنه يكون مقيداً بالمطلقة ولا يشمل الكل، وإذا قال: للأرملة، أو قال: التي لا زوج لها، إذا قال: التي لا زوج لها فهذا أعم، لأنه يشمل الصغيرة التي لم تتزوج بعد، فمن حقها أن تسكن، ومن حقها أن تأكل من هذا الوقف، لكن إذا قال: للمطلقة؛ فلا بد أن تكون زُوِّجت ثم بعد ذلك طلِّقت، ويُراعى في هذا وجود الحاجة إلى الستر.


دخول الإناث في الوقف دون أولادهن إذا عنى الواقف ببني فلان القبيلة
قال رحمه الله: [إلا أن يكونوا قبيلة فيدخل فيه النساء دون أولادهن].
وذلك على التفصيل السابق، أنه إذا شركت بين الذكور والإناث فتعتبر البطن الأول وتلغي ذرية الإناث من البطن الثاني بنفس التفصيل، ثم البطن الثاني تعطي الذكور والإناث مستويين، ثم تلغي البطن الثالث من بنات البطن الثاني، وهكذا يصبح الحكم مطرداً في جميع البطون.


اشتراك الذكر والأنثى
فالعلماء كلهم متفقون على أن من قال: على ولدي أنه يشمل الذكور والإناث؛ لأن العرب عندما تُطلِق هذا اللفظ تريد به الإناث مع الذكور {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ} [النساء:11].
فشرّك سبحانه وتعالى بين الذكر والأنثى تحت مسمى الولد، فدل على أن الولد يشمل الذكور والإناث معاً، وهكذا الخناثى فإن الخنثى المُشْكِل يدخل في الولد.
فإذاً المسألة الأولى أنه إذا قال: على ولدي، فجميع أولاده وجميع نسله من الذكور والإناث داخلون في هذا، هذا كله في البطن الأول.
والولد إما أن يكون من البطن الأول، وإما أن يكون من غيره، والبطن الأول هو الولد المباشر الذي هو ولدك مباشرةً ذكراً كان أو أنثى، فالبطن الأول هو أول ما أنجب الإنسان، ويليه بعد ذلك البطن الثاني، وهو ابن الابن، وبنت البنت، وبنت الابن، وابن البنت، هذا البطن الثاني الذي بينك وبينه واسطة.
وهذه الواسطة هي فرع من البطن الأول، إما ذكر وإما أنثى، يتمحّض ذكوراً أو يتمحّض إناثاً، أو يجمع بينهما، يتمحض ذكوراً كابن ابنك، ويتمحض إناثاً مثل بنت بنتك، ويجمع بينهما ابن البنت وبنت الابن، والبطن الثاني فيه التفصيل، فالبطن الأول لا إشكال أنه إذا قال: وقفت داري على ولدي أن الذكور والإناث داخلون، وأنهم مستوون في الاستحقاق كما قدمنا.


دخول البطن الثاني وما بعده مع البطن الأول في الانتفاع بالوقف عند الإطلاق
لكن البطن الثاني فيه تفصيل وفيه مسائل: المسألة الأول: هل إذا قال: وقفتُ على ولدي.
يدخل البطن الثاني ومن بعده أو يختص بالبطن الأول؟ فمثلاً: لو أن رجلاً قال: وقفت مزرعتي هذه على أولادي ثم على المساكين، فأولاده الذين هم من صلبه مباشرة لا إشكال أنهم مستحقون؛ لكن الإشكال: متى ننتقل للمساكين؟ هل قوله: (أولادي) يشمل جميع نسله حتى ينقطع، أو يختص بالبطن الأول ثم نحكم بانتقال الوقف وصيرورته إلى المساكين؟ لهذه المسألة وجهان عند العلماء، فالمنصوص عن الإمام أحمد رحمه الله أنه سُئِل عن هذه المسألة فنص على أن ولد الولد يدخل في حكم الولد، وأن من قال: على أولادي.
فإننا نُلحق أولاد البطن الثاني بأولاد البطن الأول، ولا ينتقل للمساكين إلا إذا انقطع نسله أو انتهى عقبه.
وهناك وجه ثانٍ وقول ثانٍ لبعض العلماء، يقول: إذا قال: وقفت على أولادي أو على ولدي ثم على المساكين؛ فإنه حينئذٍ ينتقل الوقف إلى المساكين بعد موت البطن الأول.
وعلى هذا القول يكون قوله: (أولادي) خاص بالبطن الأول فقط، فلا نلحق أولاد الأولاد مكان الأولاد ولا ينزّلون منزلتهم.
والصحيح الأول، وهو أنه إذا قال: وقفت على ولدي فإنه يلتحق ولد الولد حتى ينقطع نسله وعقبه، ثم بعد ذلك ينتقل إلى المساكين كما سبق، لكن كل هذا الخلاف محلّه ألا يأتي بقيد أو بعبارة تدل على أنه يريد ولد الولد، فإذا قال مثلاً: على أولادي إلى أن ينقطع نسلي ثم على المساكين، أو يقول: على أولادي والمساكين من بعدهم إذا لم يوجدوا، أو على أولادي فإن انقطع عقبهم فللمساكين؛ فحينئذٍ لا إشكال، والإجماع منعقد على أننا ننزِّل الطبقة الثانية بعد الطبقة الأولى، وهكذا بالنسبة للطبقات.
هذه المسألة الأولى، نخرج منها بخلاصة وهي أن من قال: وقفت على أولادي ثم على المساكين، أن الانتقال إلى المساكين لا يكون إلا بعد انتهاء الولد، بحيث ينقطع نسله وعقبه.
وهذا على الصحيح من أقوال العلماء، فإن وجدت قرينة فقولٌ واحد أنه لا يُنتقل إلى المساكين إلا بعد انقطاع النسل كقوله: على أولادي فإذا انقطع نسلهم فعلى المساكين.


اشتراك البطن الثاني وما بعده مع الأول في الانتفاع بالوقف
المسألة الثانية: إذا قال: وقفت على أولادي، وقلنا: إن البطن الثاني يستحق، يرد

السؤال
متى نحكم بدخول البطن الثاني مع البطن الأول؟ فلو قال: مزرعتي هذه وقفٌ على ولدي ثم على المساكين؛ وقلنا إن البطن الثاني يستحق كما يستحق البطن الأول؛ لكن هل هو على الترتيب أو على التشريك؟
و
الجواب
أنه على التشريك وأنه إذا قال: وقفت مزرعتي هذه على أولادي، فإننا نُلحِق البطن الثاني بالأول، والبطن الثالث أيضاً بهم، فجميعهم ولدٌ له، فبمجرد ما يُولد من البطن الثاني أو الثالث يستحق، وكل من يولد من هذه البطون مشترك في الاستحقاق؛ لأنه قال: (على أولادي) وقد سبق أن قلنا: فإن أطلق استوى الذكر والغني وضده، أي: يستوي الجميع في الاستحقاق.
فائدة المسألة: لو كان له محمد وعبد الله -من البطن الأول- ثم زيد وعمرو من البطن الثاني -أولاد عبد الله- في هذه الحالة تُقسم الثمرة بين الأربعة، وندخل البطن الثاني مع البطن الأول ولو ولد الساعة؛ لأنه شرك بين أولاده ولم يرتِّب، وأطلق في هذا التشريك، فنقول: البطن الثاني مشترك مع البطن الأول.
فلو أن زيد بن عبد الله الذي هو البطن الثاني تزوج وخلف أحمد، فإن أحمد يشارك أعمامه، ويشارك عم أبيه وجده في القسمة.
إذاً: لا ننتظر للبطن الثاني في استحقاقه موت البطن الأول، ولا ننتظر للبطن الثالث في استحقاقه موت البطن الثاني؛ لأنه شرك وأطلق، فهؤلاء كلهم يُنزّلون منزلة واحدة.
إذاً لو قال: على أولادي ثم المساكين من بعدهم، فإننا نحكم بأن أولاده يستحقون: الذكر والأنثى، البطن الأول والبطن الثاني والثالث، فلا يختص ببطن دون آخر ما لم يقل: الأقرب فالأقرب، أو: البطن الأول ثم الذي يليه ثم الذي يليه.
فإذا قال بالترتيب، كأن يقول: وقفت على أولادي من البطن الأول، فإن مات منهم أحد نُزِّل ولده منزلته، فحينئذٍ يكون أيضاً دخول للبطن الثاني مع البطن الأول لكن بالترتيب، وبالشرط أنه يُنزّل منزلة والده، وحينئذٍ نقسم على القسمة الأصلية، فإذا كان له ثلاثة أولاد نقسمه على ثلاثة، وتُصبح خطوط الإرث على الثلاثة هذه، وكل ورثة من بطن يُنزّلون منزلة أصلهم.
وعلى هذا فلو قال لنا: وقفت على أولادي ثم المساكين، أو على ولدي فلان، مثلاً شخص يكون عنده ذرية، ويريد أن يتصدق بالثلث على قريب، لما فيه من صلة الرحم، ولأن الصدقة عليه أعظم ثواباً، فقال: وقفت مزرعتي هذه -وهي تساوي الثلث- على ولد عمي صالح، فكل ذرية عمه صالح يدخلون في هذا الوقف، يستوي ذكورهم وإناثهم، هذا بالنسبة للبطن الأول، وبالنسبة للبطن الثاني فإنه يشارك البطن الأول، وكذلك البطن الثالث مثلما تقدم.


اختصاص أولاد الذكور في البطن الثاني وما بعده دون أولاد الإناث
يبقى السؤال في مسألة تشريك البطن ذكوراً وإناثاً، ففي البطن الأول يشرِّك بين الذكر والأنثى، وفي البطن الثاني يخُص الاستحقاق بأولاد الذكور دون أولاد الإناث، مثلاً: إذا كان له محمد، وعبد الله، وصالح، وفاطمة، فكلهم يشتركون ويُقسم الاستحقاق على أربعة يستوي فيه الذكور والإناث.
فإذا أنجبت فاطمة فإن أولادها لا يستحقون؛ لأن أولادها أولادٌ لغيره وليسوا ولداً له.
بنونا بنو أبنائنا وبناتنا بنوهن أبناء الرجال الأباعد ولذلك يُنسب للرجل ولا ينسب للمرأة كما هو معلوم، فحينئذٍ يشرك بين الذكر والأنثى في الطبقة الأولى، ثم ينظر في الطبقة الثانية التي هي البطن الثاني إلى ذرية الذكور دون ذرية الإناث، ثم هذا البطن الثاني وهم أولاد محمد وعبد الله وصالح يستوي ذكورهم وإناثهم، لكن الأنثى منهم لو أنجبت بطناً ثالثاً لا يكون له استحقاق في الوقف لأنه ليس من ولد الميت، إنما يختص ولده بالذكر والأنثى، وولد الذكر المحض.
كما أنه في الميراث لا يرث ابن البنت إلا من جهة ذوي الأرحام، وهذه مسألة سيأتي تفصيلها إن شاء الله في كتاب الفرائض، فما جعل الله عز وجل لهم استحقاقاً وإرثاً، لا فرضاً ولا تعصيباً من حيث الأصل، فابن البنت ابن لوالده الذي هو غريب عن الواقف، ولا يعتبر آخذاً حكم ابن الابن.
إذاً المسألة الثانية أننا نجعل أولاده مستوين ذكوراً وإناثاً بالنسبة للبطن الأول، وفي البطن الثاني نعطي الوقف لذرّية الذكور من البطن الأول، دون ذرية الإناث سواء كانوا ذكوراً أو إناثاً، فلو أن البنت أنجبت ابناً أو أنجبت بنتاً فالحكم واحد؛ لأن ابن البنت ابناً للغير، ولو أنه يُنسب إليه تجوُّزاً أو مسامحة، كقوله عليه الصلاة والسلام: (إن ابني هذا سيد)، فهذا من باب المسامحة.
وقال عليه الصلاة والسلام في النعمان بن مقرن رضي الله عنه: (ابن بنت القوم منهم).
فهذا كله مسامحة، لكن في حكم الله عز وجل في الاستحقاقات {قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا} [الطلاق:3].
ولذلك تجد نسبة هذا الولد من البنت إلى أصلٍ ثان وهو أصل أبيه، ولا ينسب إلى والد أمه الذي هو الجد، فالذكور لهم حكم والإناث لهن حكم، وسلسلة النسبة والإضافة متعلقةٌ في حكم الدنيا بالآباء دون الأمهات.


لا ينتقل الوقف على الولد إلى المساكين بموت البطن الأول
قال رحمه الله: [وإن وقف على ولده أو ولد غيره، ثم على المساكين].
بقي

السؤال
لو قال: على ولدي ثم المساكين، أو على أولادي ثم المساكين، كلمة (ثم) تقتضي الترتيب، فنحن لا نحكم بانتقال الوقف من ولده إلى المساكين إلا بعد انقطاع النسل والذرية، فإذا انقطعت ذريته، أو انقطع عقبه فإننا نحكم بأن الوقف قد صار إلى المساكين، أو قال: إلى الفقراء، أو قال: إلى طلبة العلم، أو غير ذلك، أو مثلاً لبني عمي، فهذا ينتقل على حسب ما اشترط صاحب الوقف.
إذا قال: على ولدي أو ولد فلان، فالمصنف رحمه الله أدخل مسألة ولد فلان، يعني أن الحكم لا يختص بولده هو، فلو قال: على ولد عمي صالح، فحينئذ ننظر إلى أولاد عمه صالح ونشرّك بين البطن الأول والبطن الثاني، ونسوي بين الذكور والإناث في البطن الأول، ونلحق البطن الثاني بالبطن الأول إذا كان من ذرية الذكور دون الإناث على التفصيل الذي تقدم بيانه.
[ثم على المساكين فهو لولده الذكور والإناث بالسوية] أي: ما لم يُفضِّل فلو قال: (لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ)، فقد فضل.
قال: [ثم ولد بنيه دون بناته] هذا البطن الثاني.
إذاً لو قال: على ولده، وعنده محمد وعبد الله وصالح، لم يُنجب من هؤلاء الثلاثة إلا محمد، فالذين أنجبهم محمد نسوِّي ذكورهم وإناثهم، لأنهم يدلون بذكر، لكن بالنسبة للأنثى من محمد فليس لذريتها ونفسها استحقاق في الوقف.


حالات تنزيل أفراد البطن الثاني مكان أفراد البطن الأول وعدم تنزيلهم
[كما لو قال على ولد ولده وذريته لصلبه] يريد المصنف أن يشير إلى المسألة الخلافية وهي: هل إذا قال على ولدي.
اختص الحكم بالبطن الأول، أو يشمل البطن الأول والثاني، فقال: إنه لا فرق بين أن يقول: على أولادي، أو أولادي وأولاد أولادي.
لكن في الغالب أنه إذا قال: على أولادي ثم أولاد أولادي، فحينئذٍ لا نعطي البطن الثاني مع وجود البطن الأول.
مثال: لو قال: هذه المزرعة وقف على ولدي، ثم ولد ولدي، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم.
نقول: نشرِّك بين أولاده في البطن الأول، فلو جاء البطن الثاني يبقى محبوساً ولا يأخذ شيئاً في الوقف حتى يموت البطن الأول كله، ولو مات واحدٌ من البطن الأول ذكراً كان أو أنثى قُسِم نصيبه على البقية.
ولو قال: مزرعتي هذه وقف على ولدي، ثم ولد ولدي، فلو كان له من الولد في الصلب ابنان ذكران فنقسم الوقف بينهما، ولو أنجب أحدهما ولم ينجب الآخر، أو أنجب الاثنان فلا ننظر في ذريتهما ولا ننظر في البطن الثاني؛ لأنه قال (ثم)، فالبطن الأول هو المسئول عنه، والبطن الثاني غير مسئول عنه؛ لأنه لم يصل الاستحقاق إليهم.
فلو توفي واحد من الولدين أخذ الثاني النصيب كاملاً، فإذا توفي هذا الثاني من البطن الأول نَزَل الاستحقاق للبطن الثاني، واستحق أصحاب البطن الثاني بالتفصيل الذي ذكرناه في مسألة الذكور والإناث إذا كان عنده ذكور وإناث في البطن الأول.
إذاًَ: إذا قال: على ولدي ثم ولد ولدي، أو أولادي ثم أولاد أولادي، أو أولادي ثم الذين يلونهم، أو: ثم مَن بعدهم، فكل هذا ينبه على أنه لا يُنزِّل البطن الثاني منزلة البطن الأول إلا بعد انتهاء وانقراض البطن الأول.


اختصاص الذكور بالوقف عند قوله: (على بنيّ أو بني فلان)
قال رحمه الله: [ولو قال على بنيه أو بني فلان اختص بذكورهم إلا أن يكونوا قبيلة فيدخل فيه النساء دون أولادهن من غيرهم] فقوله رحمه الله: (ولو قال على بنيه أو بني فلان اختص بذكورهم) بعد أن بين المصنف رحمه الله اللفظ الذي يقتضي العموم بقوله (أولادي) شَرَع فيما يقتضي التخصيص، فلو قال: على بَنِيّ، أو أبنائي، أو على بناتي، فحينئذٍ يَختَص بالبنين إن نص عليهم، ويختص بالإناث إن سماهن.
إذاً فالابن لا يشمل الذكر والأنثى، وإنما يختص بالذكور دون الإناث، وعلى هذا مذهب العلماء قاطبة رحمهم الله.
لكن لو قال: على بني فلان، أو على الفقراء من بني سلمة، أو من بني زياد، أو من بني عمرو، فلفظة (بني) هذه تطلق على القبيلة فيستوي ذكورها وإناثها؛ لأن العُرف واللغة يقتضي ذلك، ولقد ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم في حديث الرمي أنه جعل البنوة شاملة للذكور والإناث، تقول: هؤلاء من بني عبد الله.
قال صلى الله عليه وسلم: (الأنصار وجهينة ومزينة وغفار وأسلم وبنو عبد الله من غطفان) غطفان هي مُطير الموجودة الآن، وبنو عبد الله فخذ منهم، وكانوا في زمن النبي صلى الله عليه وسلم كانوا أشبه بالقبيلة، قال: (وبنو عبد الله من غطفان موالي الله ورسوله) كما في الصحيح، فسماهم قال: (بنو عبد الله) وشرّك، وهذا مُقتضٍ لتشريك الذكور والإناث؛ لأنهم أسلموا وكان لهم بلاء في الإسلام.
فالبنوة تُطلق على القبيلة ويُراد بها العموم والشمول، فتشمل الذكور والإناث، تقول: بنو فلان فتشمل ذكورهم وإناثهم، إن قال: بنو عمي، بَنِيّ، بنو خالي، بنو أخوالي، هذا كله يختص بالذكور، لا يشمل الذكور والإناث معاً، لكن إذا قال: بنو فلان وهي قبيلة فإننا نحكم بالتشريك بين الذكور والإناث؛ لأن هذا اللفظ وإن كان يختص بالذكور دون الإناث؛ لكنه يطلق ويُتجوّز فيه فيعم الذكر والأنثى.


الوقف على جماعة يمكن حصرهم
قال رحمه الله: [وإن وقف على جماعة يمكن حصرهم وجب تعميمهم والتساوي] وذلك كما لو قال: على ولدي، وولده -مثلاً- عشرون، أو يبلغون الأربعين أو الخمسين؛ فحينئذٍ نقسم على الأربعين والخمسين لأنه أَمكن حصرهم، لكن إذا قال: وقفت داري هذه على طلبة العلم أو: وقفت ثمرة بستاني هذا صدقة على المساكين، أو على الفقراء، وكان بموضعٍ فيه حاجة وفيه عوز، ولا يمكن حصر الفقراء فيه.
فقد عرفنا أنه إذا أطلق أطلقنا، وإذا قيد قيدنا، وعملنا بما يقول والتزمنا ما اشترطه الواقف فيما بينه وبين ربه، لكن الإشكال أننا في بعض الأحيان إذا أردنا أنا نُعمِّم أو نعمل بالمطلق لا نستطيع استيعاب الكل، والأصل الشرعي يقتضي أنه يجب استيعاب الكل، فلو قال: على ولدي؛ فإنه يجب قسمة هذا الوقف على الولد، ولا يجوز تخصيص بعض الولد دون بعض، ومن هنا يكون الناظر آثماً شرعاً، وظالماً معتدياً لحدود الله إن حجب بعض الورثة وبعض المستحقين مع علمه باستحقاقهم، بل يجب عليه أن يسوِّي بين الجميع إذا سوَّى بينهم الواقف.
فهذا الذي بينه وبين الله، فالواقف أخرج من ذمته هذا الوقف على هذا الوجه، وجعله مُمَلكاً -على القول بأن غلته مملوكة للموقف عليهم- لهؤلاء الذين سماهم، فلا يجوز حرمان بعضهم، وهذا تعد لحدود الله.
لكن لو أن الجهة التي خُصت بالوقف لا يمكن حصرُها، ولو جئنا نحصر الفقراء والمساكين لم نستطع، مثل بلد فيها فقر شديد أو قال: على طلبة العلم، وطلاب العلم كثيرون جداً، فيجوز تخصيص بعضهم دون بعض، لكن يُرجع في هذا إلى القاضي، ويجوز للناظر إذا عدم القاضي أن يجتهد ويتقي الله في اجتهاده.
فمثلاً إذا قال: أوقفت غلة هذا البستان على أولادي، ولا يمكن حصر أولاده؛ فقام الناظر بحصر المحتاجين فقدّم المحتاجين على غير المحتاجين، فهذا تصرف حكيم، والقاضي لو كان مكانه لتصرف بذلك؛ لأنه إذا أصبح الوقف عاماً للجميع ولا يمكن تعميم الجميع؛ والذين سيتضررون إن حرموا هم المحتاجون، فحينئذٍ نقول: لما كان الغني غير محتاجٍ، ويصعب حصر الأغنياء مع الفقراء، قُدِّم الفقراء على الأغنياء؛ لأن سبيلهم أعظم ثواباً وأعظم أجراً، فيُعطون ويُصرف لهم.
ولو كان المحتاجون أيضاً لا يمكن حصرهم، كالمحتاجين من طلبة العلم، وممكن أن يكون هناك طلبة علم في ثغر أعظم بلاءً من غيرهم، فنُقدِّم هؤلاء الذين هم أعظم بلاءً، مثلاً طالب العلم الذي له عشر سنوات في طلب العلم نقدمه على طالب العلم المبتدئ، وطالب العلم الذي ينضبط في الدروس نقدمه على طالب العلم الذي لا يأتي الدرس إلا في الأسبوع فيُفضَّل بين المستحقين بتفضيل شرعي، ومبرر صحيح، ولا بأس بذلك؛ لأنه إذا تعذر حصر الكل صُرف إلى الأولى فالأولى، كما قال المصنف رحمه الله: [وإلا جاز التفضيل والاقتصار على أحدهم] أي: جاز أن يُفضل بعضهم، أو الاقتصار على أحدهم، مع أنه من حيث الأصل يُراعى شمولية الوقف للأكثر ما أمكن.


الأسئلة


استخلاف المسبوق في الصلاة

السؤال
إمامٌ طرأ عليه عذر فقدم رجلاً من خلفه وكان هذا المقدّم مسبوقاً بركعة، فكيف يصنع، خصوصاً أن وراءه من أدرك الصلاة مع الإمام من بدايتها؟

الجواب
هذا هو الفقه، خذوها قاعدة، الإمام عندنا فيه سنة وعندنا أصل، وكثير من المسائل تتفرع على السنة والأصل، والأصل العام مستنبط من السنة، لكن المراد بالسنة هنا الحديث الخاص: (إنما جعل الإمام ليؤتم به).
أما الأصل فإنك مطالب بعدد من الركعات في الصلاة لا تزيد عليه ولا تنقص منه، فما الحكم إذا قدم مسبوقاً؟ إذا فرضناً أنه مسبوق بركعة، في هذه الحالة يصلي ويُتم الصلاة كفعل الإمام، فإذا بقيت له الركعة الباقية ثبت أهل المسجد يتشهدون، وقام لوحده، وأتم الركعة ثم تشهد، ومن هم خلفه يطولون في الدعاء والمسألة حتى ينتهي من الركعة، ثم يتشهد ثم يسلِّم بهم.
لأن النبي صلى الله عليه وسلم لما صلى صلاة الخوف، ثَبَتت الطائفة الأولى وتشهّدت، ثم أتم بالطائفة الثانية الركعة، ثم جلس يتشهد فقامت الطائفة الثانية وأتمت لنفسها، ثم تشهد بالطائفتين وسلم؛ عليه الصلاة والسلام.
هذه أحوال طارئة، ولأن النبي صلى الله عليه وسلم في حال الخوف كانت عنده ركعات زائدة على ركعات المأمومين، ومن هنا أخذ العلماء أنه إذا اختل الأمر فاحتاج المأموم أن يزيد، أو احتاج الإمام أن يزيد، فحينئذٍ يترك الإمام على زيادته ويبقى المأموم معذوراً.
تخرجت على هذه مسألة ما إذا زاد الإمام، وأنت تعلم أنه في الخامسة تبقى في التشهد ولا تتابعه، ولا أعرف أحداً من أهل العلم يقول إنه إذا قام الإمام للخامسة قام المأموم وراءه، هذا لا يقول به إلا بعض المتأخرين ولا أدري من أين جاء به.
والأصل يقتضي أن تبقى؛ لأن الله أمرك بأربع ركعات، ولم يأمرك بإحداث خامسة ولا سادسة، وأمرك بمتابعة إمامٍ في الصلاة لا فيما هو خارج عن الصلاة، والخامسة ليست من الصلاة، وأنت تعتقدها خارجة من الصلاة، ولا يجوز لك أن تتعبد الله عز وجل بها، لذلك لا يجوز لك أن تأتم بإمام إلى قبلة غير القبلة التي تراها.
وإذا كان هذا في الشرط فكيف في الركن؟ فإذاً: من حيث الأصل الإمام تتابعه في الحدود الشرعية، فإذا زاد الخامسة معذوراً لسهوٍ، أو معذوراً لنقصٍ، ثَبَتّ متشهداً حتى يُتم خامسته ثم تتابعه في التشهد.
يبقى السؤال: لماذا لا تُتم وتسلم؟ لو أتممت وسلّمت لنفسك لا نقطعت عن الجماعة وفات أجر الجماعة؛ لأن الجماعة من التكبير إلى التسليم.
ففائدة المسألة: أنك تثبت حتى تبقى فيسلِّم بك، ولذلك فهذان الأمران: الإحرام والتسليم، من سبق الإمام فيهما بطلت صلاته؛ لأنهما أعظم ما في الإمام من أركان، بخلاف بقية الأركان: فإذا ركع قبله رجع فتدارك، وإذا سجد قبله رجع، إلا إحرامٌ وسلام، فإن سبق المأموم الإمام فيهما بطل اقتداؤه، أي: بطل كونه مأتماً به.
فالحاصل أن تبقى معه وتكون القاعدة المعروفة: ما جاز لعذر بطل بزواله، وما أبيح للضرورة يُقدَّر بقدرها.
فهو مضطرٌ إلى زيادة ركعة، وأنت تنفصل عنه بقدر الزيادة، فإذا أتم الركعة وجلس للتشهد تبقى وراءه، وترجع إلى الأصل وهو أنك ملزم بمتابعته، وليس عندك دليل يُجيز لك أن تنفصل عنه وتتم وتتشهد؛ لكن إذا كان الأمر بالعكس، فمثلاً لو كان الذين وراء الإمام جاءوا مسبوقين، فالحكم واضح وهو أنهم يتموا وراء الإمام، ثم إذا تشهد وسلم قاموا وأتموا ما سبقهم فيه الإمام وخليفته.
وأما إذا جاء المأمومون كلهم مع بعض في الركعة الثالثة، والإمام حصل له عذر فقدم أحدهم، تابعوه متابعة كاملة لأن صلاته وصلاتهم واحدة، لكن يبقى الإشكال في الركعتين الأخيرتين، لأنه لو صلى وراء الإمام لجلس بعد الثالثة بالنسبة للإمام، لكن هنا لا يجلس بعد الثالثة، وإنما يقوم ويأتي بالركعتين الأخيرتين تامة، ويتابعه المأمومون.
وفي هذه المسالة عشر مسائل مبسوطة، أعني مفرّعة، لأنها تختلف في الرباعية والثنائية والثلاثية بحسب اختلاف السبق والتأخر عن الإمام.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.


الجمع بين جواز الوقف على الوارث وعدم جواز الوصية لوارث

السؤال
أشكلت علي مسألة، وهي تخصيص الوقف على البنات دون الأولاد أو العكس مع مسألة عدم الوصية للوارث.


الجواب
باسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على خير خلق الله وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد: فالوصية شيء، والوقف شيء آخر، فالوقف منجَّز، والوصية موقوفة على الموت، والوقف لا رجعة فيه، والوصية يملك الإنسان الرجوع فيها ما لم يمت كما سيأتي تفصيله في باب الوصية.
الوقف شيء والوصية شيء آخر، فالوقف يكون في الحياة، يقول: أوقفته على ولدي.
ويسري في حياته، لكن نحن عندما نقول بالوقف، نقول: إنه يجوز أن يجعل للإناث، ويجعل للذكور؛ لكن بالعدل، لو أنه أَوقف على الذكور، وأوقف على الإناث، وعدل بين الذكور والإناث فلا إشكال.
فلو أن رجلاً حصل له مُوجب ورأى بناته يُطلَّقن ويتعرّضن للأذية والإضرار فأَوقف لهن، ونظر أن هذا من النصيحة والرعاية لولده، وحسن التفقد لهم، فذكوره بخير، وأبناؤه بخير، ولكن إناثه وبناته في ضيعة إذا لم يترك لهن مأوىً يحفظهن، ولم يترك لهن بيتاً يأوين إليه خاصة في الظروف التي تطرأ، فهذا له مُبرر ويكون قد فعله لسبب شرعي ومصلحة معتبرة.
وهذا يختاره الوالد وطائفة من أهل العلم رحمهم الله، وعمل به طائفة من الصحابة، لكن نقول: يعدل، وإذا وُجد الموجب للتّفضيل من حيث الخوف، خاصة عند فساد الزمان، فهذا شيء يلقى الله عز وجل به.
ويستقيم على مذهب من يقول: يجوز تفضيل بعض الولد على بعض عند وجود الموجب، والشريعة حينما تجعل الأنثى في هذه الحالة، إنما يدل ذلك على عظيم رعايتها للإناث، وعظيم إحسانها للمرأة، فالمرأة ينظر لها بطبيعتها الفطرية، ولا يُنظر لها خارجاً عن طبيعتها الفطرية، ومن أخرج المرأة عن طبيعتها الفطرية فقد كلّفها ما لا تطيق، فإن قصد إكرامها فوالله لقد أهانها، وإن قصد الرحمة بها فقد عذبها، وإن قصد إعزازها فقد أذلها؛ لأنه لا كرامة، ولا عزة، ولا رفعة، ولا رحمة بالمرأة إلا من حيث شرع الله جل جلاله.
فإذا نظر إلى أنها تُحفظ من الضيعة إذا طُلِّقت، أو أصبحت أرملة، أو أصبحت في حاجة، وقصد شرع الله عز وجل من حسن النصيحة لبناته، وتذكّر أن النبي صلى الله عليه وسلم لفت النظر إليهن: (ما من مسلم يكون له ثلاث من البنات فيحسن تأديبهن إلا كن له حجاباً من النار.
قالت امرأة: يا رسول الله! واثنتين؟ قال: واثنتين) فبين فضل حسن الرعاية للبنت.
البنت تحتاج إلى رعاية أكثر مما يحتاجه الذكر، فإذا كان خص الأنثى بهذا، وفضّلها بهذا، خاصة إذا نظر إلى أن أولاده كافحوا، وعندهم ما يسدهم ويكفيهم، فهذا وجه لبعض العلماء، ولكني لا أُفتي به، أنا أقول: هذا وجه لبعض أهل العلم، وله سلف، وخاصة أن ابن الزبير والزبير نفسه حُكي عنه هذا، واختاره بعض العلماء، لكن من تورع وتحفظ وترك الأمر لقسمة الله عز وجل من فوق سبع سماوات، وتركه ميراثاً شرعياً؛ فلا شك أنه قد أصاب وأحسن، والله تعالى أعلم.


إصلاح الوقف من نصيب الموقوف عليهم كل على قدر نصيبه

السؤال
ترك والدٌ لأولاده بيتاً، فاحتاج البيت إلى إصلاح، فهل تدفع الأنثى نصف ما يدفعه الذكر؟

الجواب
لاشك في هذا أن الغنم بالغرم، والخراج بالضمان، فالأنثى تدفع في الخسارة نصف ما يدفعه الذكر، وتأخذ في الناتج نصف ما يأخذه الذكر، لا تظلم ولا تُظلم، فكما أنها في الربح والناتج تأخذ نصفه، كذلك في الخسارة يلزمها في إصلاح البيت نصف ما يدفعه الذكر، فإذا احتيج لإصلاح البيت إلى ثلاثة آلاف، أو ثلاثين ألفاً وهناك ذكر وأنثى فإن الذكر يدفع عشرين ألفاً وتدفع الأنثى عشرة آلاف من الثلاثين ألفاً، ويدفع الذكر ألفين وتدفع الأنثى ألفاً إذا كان الإصلاح بثلاثة آلاف.
فالذكر يدفع ضعف ما تدفعه الأنثى في حال الغرم، كما يأخذ ضعف ما تأخذه في حال الغنم، والقاعدة: (أن الغنم بالغرم والخراج بالضمان)، والله تعالى أعلم.


تعيين حصة لناظر الوقف

السؤال
لو عيّن الواقف ناظراً لوقفه واتفق على عشر نتاجه من المزرعة، فهل هذا التصرف صحيح أم أنه مبني على الجهالة والغرر، إذ لا يُعلم كم سيكون نتاج المزرعة؟

الجواب
باسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على خير خلق الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد: فالأفضل في ناظر الوقف أن يحتسب في نظارته وأن يأكل بالمعروف، وهذا هو المحفوظ في حديث عمر رضي الله عنه في الصحيحين أنه جعل لمن ولي النظارة على وقفه أن يأكل بالمعروف غير متأثل ولا مُتموّل، وقد تقدّم معنا.
لكن إذا جعل للناظر نصيباً، أو قال الناظر: أريد نصيباً، وكانت مصالح الوقف والأمور التي يلي نظارتها تحتاج منه إلى كلفة وعناء ومشقة، وربما تحبسه عن الرزق، وتحبسه عن مصالحه، فلا بأس أن يجعل القاضي له نصيباً، فإذا جعل له الواقف فلا إشكال، كأن قال الواقف: وقد جعلت عُشر الوقف لمن ولي النظارة.
وإذا ثبت أنه يأخذ العشر أو الربع أو الثمن أو الخمس أو ما سمى الواقف فالسؤال: هل هذا يعتبر جهالة؟ الواقع من حيث الأصل أن النسبة فيها نوع جهالة، فثمن الغلّة أو ربع الغلة أو خمس المحصول، لا يُشَك أنه جهالة؛ لأنه وإن كان معلوم النسبة لكنه مجهول القدر، فإننا لا ندري كم سيكون الربع في هذه السنة؟ مثلاً لو أُجر الوقف بمليون، أو أن المصالح الموجودة في الوقف تُدِر المليون، عُشرها مائة ألف، لكن تأتي السنة الثانية يكون عشرها مثلاً عشرة آلاف ريال بحيث تكون المصالح كلها مائة ألف مثلاً، ويكون عُشرها عشرة آلاف، فإذاً لا يمكن أن يُعلم قدر هذا العشر.
فبعض العلماء يجعله مخرَّجاً على المساقاة مُلحقاً بها؛ لأن الشيء إذا تعذر الإجارة عليه في الغلة المعينة يُصار إلى تحديد النسبة احتياجاً، وبعضهم يقول: بل نقيسه على المساقاة والمزارعة والمضاربة، وهذا مسلك الحنابلة والشافعية رحمهم الله الذين يعتبرون أن المضاربة شركة، وأنها ليست بخارجة عن الأصل، ولكن الحنفية والمالكية كما تقدم معنا في باب الإجارات والمضاربة لا يصححون القياس على هذا الوجه، لكنه قد يُغتفر بوجود الحاجة في مثل هذا، والله تعالى أعلم.
لكن لا يُشك أن السنة أولى، فمن يلي نظارة الوقف لا يُقال: له العشر، ولا الربع، ولا الثمن، ولا الخمس، بل يقال له: أنه يأكل بالمعروف، هذا هو الذي فعله عمر، وقضى به النبي صلى الله عليه وسلم، لكن لو أن القاضي حكم أنه يأخذ العشر فإنه يُعمل به؛ لأن حكم القاضي يرفع الخلاف، وقد ذكر بعض مشايخنا رحمة الله عليهم أنه قد اصطلح في هذا الزمان على أن يأخذ الناظر العشر، لكثرة الفساد، وقل أن يوجد المحتسب الذي يعمل في الوقف بدون أن يأخذ شيئاً، ويأكل بالمعروف.
ثم إذا وجد من يقول: أريد أن آكل بالمعروف؛ يصير المعروف منكراً، فيأخذ كل شيء ويقول: والله هذا ما فيه شيء، فكلما جاءت غلّة أكلها، وقال: أنا الناظر، ويرى أن هذا هو المعروف.
ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: (لا يعرف معروفاً ولا ينكر منكراً إلا ما أشرب من هواه)، والدنيا فتنة، خاصة في الأوقات التي تكون غلات الأوقاف فيها كبيرة، لكن لو وضع العشر -وهذا ما يسمى بالمصلحة المرسلة- وألزم به، وأصبح يُتَابع في التسعة الأعشار متابعة دقيقة، ويعرف كيف أخذها وأين صرفها، فهذا يكون أكثر ضبطاً في كثير من المسائل.
لكن هذا كما ذكرنا اجتهاد، وله وجهه، وإذا قضى به القاضي عُمل به على وفق ما ذكرناه، والله تعالى أعلم.


شرح زاد المستقنع باب الهبة والعطية [4]
من المسائل المتعلقة بالهبة والعطية: تصرف الوالد فيما وهبه لولده، سواء كان بعد رجوعه عن الهبة أو قبله، وسواء كان التصرف ببيع أو عتق أو إبراء، فكل حالة لها حكمها الشرعي، ويلحق بهذه المسألة حكم تصرف الوالد في مال ولده، وحكم مطالبة الولد لوالده بدينه ونحوه وهذه المسائل كلها مفصلة في هذه المادة.


أنواع التصرفات المالية للوالد في مال ولده
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد: فقد تقدم معنا في المجلس الماضي بيانُ جملة من المسائل والأحكام التي تتعلق برجوع الوالد في هبته إذا وهب أحد أولاده، وبينا أن السنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ثبتت بجواز رجوع الوالد في هبته، ومن أسباب هذا الرجوع، ومن الحِكَم التي يمكن أن تستفاد من هذا الرجوع: أن الأب يستدرك ظلمه لأولاده فيما لو أعطى بعضهم ومنع البعض، فأجازت الشريعة له الرجوع حتى يستدرك هذا، كما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم حينما منع والد النعمان بن بشير - وهو بشير - رضي الله عنه وأرضاه عن تخصيص بعض ولده بالعطية.
ثم بعد ذلك بينا مسألة استحقاق الأب في مال ابنه، وبينا أن النبي صلى الله عليه وسلم صحت عنه السنة بمشروعية أخذ الوالد من مال ولده، حتى قال عليه الصلاة والسلام: (إن أطيب ما أكلتم من كسبكم، وإن أولادكم من كسبكم).
وبينا أن في ذلك الخير الكثير للولد، وأن الله يضع البركة في مال الولد إذا أحسن إلى والده، فمكَّنه من ماله وأكل الوالد من مالِه بالمعروف، فهذا من خير وأعظم ما يكون للولد براً لوالده.
فقد بينا أن من حق الوالد أن يأكل من مال ولده، لكن يرد

السؤال
هل من حق الوالد أن يبيع أملاك ولده، وأن يتصرف فيها فيهبها للغير؟! أو إذا كان للولد دَين على آخرين فأراد الوالد أن يسامحهم ويبرئهم من الديون نيابةً عن ولده بدون إذن الولد هل له ذلك؟!
و
الجواب
إن كان هناك إذن ووكالة من الولد فلا إشكال، وقد تقدم أن الوكالة موجبة للإذن وصحةِ التصرف في حدود ما أذن به الموكل لوكيله؛ لكن الكلام أن يأتي الوالد إلى مال ولده ويتصرف فيه بالبيع، أو يشتري بمال ولده شيئاً، أو يبرئ مديوناً، ونحو ذلك من التصرفات المالية والتي تكون بعوض وبدون عوض.
فمن الممكن أن يتصرف الوالد في مال ولده بالعوض، كأن يبيع سيارة ولده بعشرة آلاف مثلاً، فهذا تصرف بعقد فيه عوض، وقد يكون هذا أيضاً في المنافع، ومن أمثلته: أن يكون للولد عمارة، فيقوم الوالد بتأجير عمارته، أو أن يكون له مزرعة فيؤجرها، فهل هذه التصرفات التي بعوض صحيحة أو غير صحيحة؟ النوع الثاني من التصرفات: تصرفات بدون عوض، مثل: الهبة، كأن رأى مالاً لولده فأخذ منه وأعطاه لشخص آخر، وقال: هذا هبة أو هدية أو عطية.
أو كأن يأتي شخص إلى والد صاحب المال فيقول له: إن له عليّ عشرة آلاف، وأنا ضائق الحال وفي شدة وكربة، أو قال: لك نصفها، أو ربعها، أو ثلثها، فالتصرف بإسقاط الدين كله أو أغلبه أو أقله تصرف بدون عوض؛ لأن الوالد لم يقبض عوضاً لقاء هذا الشيء الذي تبرع به.
وكما تكون التصرفات بدون عوض في الهبات تكون أيضاً في العتق، وفي القديم كان يُملك الرقيق، ويكون للولد أرقاء، فيقول الوالد لعبيد ولده: أنتم أحرار، أو يا فلان أعتقتك، أو أنت حر، ونحو ذلك.
فأصبحت هناك نوعان من التصرفات: تصرفات بعوض، وتصرفات بدون عوض، فإن تصرف الوالد في مال ولده بما ذكرنا فإنه لا يخرج من حالتين: إما أن يقر الولد والده على تصرفه ويجيزه ويمضيه فلا إشكال، فحينئذٍ يمضي والتصرف معتبر؛ لأنه أشبه بما تقدم معنا في مسألة تصرف الفضولي، وبينا أن تصرف الفضولي يعتبر من العقود الموقوفة، والعقد الموقوف ينقسم إلى أقسام من حيث الصحة وعدمها، ومن حيث النفاذ وعدمه، وهذا الثاني منه العقد الموقوف والعقد النافذ.
فالعقد الموقوف تبقيه حتى تسأل صاحب الحق: هل أنت راضٍ بهذا التصرف أم لا؟ فإن أمضاه صح، وإلا فلا.
والإشكال: إذا اعترض الولد على تصرف والده، فقال: لم آذن لك ببيع العمارة، وهذه العمارة أريدها، أو قال: لم آذن لك أن تسامحه في الدين، وأنا محتاج لهذا الدين، أو أن هذا الرجل لا يستحق أن يسامح، أو نحو ذلك، فإذا امتنع الولد من إمضاء تصرفات الوالد؛ فهل تصرفات الوالد صحيحة أم غير صحيحة؟ هذا ما شرع المصنف رحمه الله ببيانه، فأصبحت الأفكار مرتبة كالآتي: أولاً: تكلم عن الهبات، وبين أحكامها، ثم دخل في نوع خاص من الهبات وهو هبة الوالد لولده، وبين أحكامها من حيث الاعتبار، ومن حيث الصحة، ومن حيث الرجوع.
وبعد أن فرغ من هذا تكلم على مسألة جواز أخذ الوالد من مال ولده، وينبغي لطالب العلم أن يفرق بين مسألة جواز الأخذ من مال الولد، وبين التصرف في مال الولد.
فجواز الأخذ كأن يأتي ويجد -مثلاً- عشرة آلاف فيأخذ منها ألفاً، أو يقول: يا بني أعطني نصف راتبك، أو ربع راتبك أو ألفين من راتبك ونحو ذلك، أو كأن تكون للولد مزرعة فيأتي ويأخذ من رطبها وثمارها ونحو ذلك، أو يكون الأخذ في المنافع، مثل أن تكون هناك سيارة للولد، فيركبها الوالد لقضاء مصالحه أو نحو ذلك، فهذه كلها بينا أنها جائزة، لكن مسألة التصرفات المرتبطة بالعقود، وذلك بأن يتولى الوالد عن ولده عقوداً، فيمضي عقوداً عن الولد، سواء كانت عقود معاوضات مالية من البيع والشراء، أو كانت عقود إرفاقات كالقرض والهبة ونحو ذلك.
قال رحمه الله: [فإن تصرف في ماله].
قوله: (فإن تصرف) أي: الوالد، (في ماله) أي: في مال الولد، والتصرف في مال الولد كما ذكرنا: إما بعوض وإما بغير عوض.
وقوله رحمه الله: (إن تصرف في ماله) أخرج غير الأموال، كأن يطلق زوجة الولد، فالنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (إنما الطلاق لمن أخذ بالساق)، وقد بينا أحكام تطليق الوالد عن ولده، وفصلنا بين الصغير وغير الصغير، والمميز والذي لا يميز، لكن الكلام هنا في الأموال فقط.


حكم تصرف الوالد فيما وهبه لولده
قال رحمه الله: [ولو فيما وهبه له].
قوله: (ولو) هذه إشارة إلى خلاف مذهبي، أي: ولو كان التصرف في مال كان الوالد قد وهبه لولده، مثال ذلك: قال: يا بني! هذه المزرعة وهبتها لك، وقد بينا أنه إذا قال: وهبتها؛ فلا تلزم الهبة إلا بالقبض، فإذا أخذ الولد هذه المزرعة وقبضها وتم القبض، وحكم بانتقال اليد فأصبحت المزرعة ملكاً للولد، فحينئذٍ يرد

السؤال
لو أن الوالد يوماً من الأيام جاء وتصرف فيما وهبه لولده، فما الحكم؟
و
الجواب
أن الوالد إذا تصرف فيما وهبه لولده لا يخلو من حالتين: الحالة الأولى: أن يتصرف بعد الرجوع، فيقول: رجعت عن هبة بستاني، أو يفعل فعلاً مع نيته أنه رجع، فقد بينا أنه يشرع للوالد أن يرجع في هبته، فإذا كان التصرف بعد الرجوع فلا إشكال في جواره؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أثبت للوالد الحق في الرجوع في هبته لولده.
لكن الإشكال إذا تصرف فيما وهبه له قبل الرجوع، فقال رحمه الله: (ولو فيما وهبه له)، فهناك قول بجواز التصرف مطلقاً في كل ما وهبه له، وكأن هذا التصرف يعتبر رجوعاً في الهبة، وهذه هي الحالة الثانية.
وزيادة في الإيضاح عندنا صورتان: الصورة الأولى: أن يقول: هذه المزرعة هبة لك، فقال: قبلت، وقبض المزرعة، وحكمنا بلزوم الهبة، وكتب صكها باسم الولد، وفي يوم من الأيام قام الوالد فباع المزرعة التي وهبها.
فإن كان قد قال: رجعت عن هبتي، وبعد أن قال: رجعت عن هبتي باعها، أو قال: يا بني! هذه المزرعة التي وهبتها لك أنا راجع عن هبتي، أو قال: أيها الإخوان -وهناك عنده شهود- اشهدوا أني رجعت عن هبتي المزرعة لولدي، وقد بعتها لفلان، فإن وقع فلا إشكال أنه وقع التصرف بالبيع بعد الرجوع في الهبة، والبيع صحيح، وتصبح المزرعة راجعة للوالد وسقط حق الولد.
والدليل: أن السنة أثبتت أنه يحق للوالد أن يرجع عن هبته.
الصورة الثانية: أن يقول: بعت هذه المزرعة.
وكان قد وهبها لولده، ولم يثبت رجوعاً لا بالقول ولا بالفعل المقترن بالنية، فحينئذٍ لا يصح هذا التصرف.
أو قال: أوقفتها، فهذا تصرف بغير عوض، ولا يصح، أو قال: بدل أن يأخذها ولدي فلان قد وهبتها لفلان، للولد الآخر، فلا يصح، ما دام أنه لم يثبت رجوعاً قبل تصرفه في مال ولده الموهوب.


تصرف الوالد فيما وهبه لولده بيعاً أو عتقاً أو إبراءً
قال رحمه الله: [ببيع أو عتق أو إبراء].
قوله: (ببيع) قلنا: التصرفات إما أن تكون بعوض وإما أن تكون بدون عوض، والذي بدون عوض إما أن يكون بين المخلوق والمخلوق، وإما أن يكون بين المخلوق والخالق.
وقوله: (ببيع) هذا تصرف بعوض.
وقوله: (أو عتق) هذا بدون عوض فيما بين المخلوق والخالق؛ لأنه يعتق لوجه الله.
وقوله: (أو إبراء) تصرف بدون عوض فيما بين المخلوق والمخلوق، وانظر إلى دقة العلماء رحمهم الله، حينما قال المصنف: (ببيع) الفقيه يعرف أن المصنف لا يريد البيع وحده؛ بل يريد جميع عقود المعاوضات المالية التي تندرج تحت البيع، مثل: الإجارة، فلو سألك سائل وقال: والد وهب عمارة لولده، ثم لم يرجع عن هبته وأجرها قبل الرجوع، فما الحكم؟! فتقول: الإجارة باطلة، إلا إذا أجازها الولد، فهذا لا إشكال فيه، فهي باطلة إذا كان الولد امتنع منها.
أو قال: وهب سيارة لولده ثم أجر هذه السيارة، فهذا تصرف بعوض وهو الإجارة، فتقول: لا يصح، ما دام أنه لم يثبت رجوعه، وتدرج جميع عقود المعاوضات تحت هذه الصورة، حتى ولو شارك -جعلها شركة- أو ضارب بها فجعلها قراضاً، فأعطاه مالاً ثم بعد ذلك أمر الغير أن يضارب به، فجميع تصرفات المعاوضات المالية إذا تصرف الوالد فيما وهبه لولده قبل الرجوع باطلة.
وقوله: (أو عتق) كأن أعطاه عبيداً، ثم جاء وقال: هؤلاء العبيد أحرار لوجه الله، قبل أن يثبت رجوعاً بالقول أو بالفعل المصحوب بالنية، فحينئذٍ نقول: هذا تصرف من الوالد فيما وهبه لولده، ولم يثبت رجوعه؛ فلا يصح هذا التصرف.
أو يكون الولد نفسه يملك عبيداً، فجاء الوالد وقال: أنتم أحرار لوجه الله، أو قال: يا فلان -وكان من عبيد ولده- أنت حر أعتقتك كفارة عن ظهار أو قتل، أو غير ذلك مما يوجب العتق، فهذا كله لا يصح.
وقوله: (أو إبراء) هذا فيما بين المخلوق والمخلوق، والإبراء: أن تبرئ المديون، والبراءة من الشيء توجب خلو التبعة والمسئولية عن الشخص من ذلك الشيء، فإذا قلت: أنا بريء من هذا الشيء، فحينئذٍ لست بمسئول عنه وليست عليك تبعة.
ويستخدم الإبراء في الحقوق، وذلك أن كل شخص ثبت لك عليه حق؛ فإن ذمته تبقى مرهونة مشغولة بهذا الحق حتى يؤديه، ولا يفك إلا بسداده أو تبرئة منك.
فالإبراء أن تقول: أسقطت حقي، سامحتك عن الدين، عفوت عنك، أبرأتك، أبرأت ذمتك من الدين، ونحو ذلك من الإبراءات.
فإذا أبرأ الوالد المديون لولده، فهناك صورتان: الصورة الأولى: أن يكون الوالد قد أعطى مالاً لولده فأقرضه الولد لشخص، مثلما يقع في بعض الأحيان بين الإخوة، كأن يعطي الوالد الأولاد جميعهم كل واحد عشرة آلاف ريال، فيستقرض زيد من محمد العشرة الآلاف التي له، فالعشرة آلاف في الأصل ملك للوالد وهبها لمحمد ولده، فلما استقرضها زيد من محمد أصبحت ذمة زيد مشغولة لأخيه محمد، فلو قال الوالد يوماً من الأيام: يا زيد! دين محمد عليك أنت منه بريء، أو أبرأتك من هذا الدين، أو لا دين عليك، أو أسقطته، أو عفوت عنك، فهذا إبراء من الوالد في مال ولده الذي وهبه له ولم يثبت رجوعه عنه، فهذا الإبراء ساقط.
الصورة الثانية: أن تكون العشرة آلاف ملكاً لمحمد في الأصل، من ماله ولم يعطها له والده، فقام محمد وأعطاها ديناً لشخص، فجاء الوالد وأبرأ ذلك الشخص، فقد قلنا: ليس من حقه إلا إذا أجاز ذلك محمد، ولا يصح هذا التصرف بالإبراء.
والإبراءات لها باب واسع، حتى في مسألة القصاص، فلو جنى شخص على شخص فقطع يده، فقال المجني عليه: لا أريد القصاص لكن أريد نصف الدية؛ لأن اليد فيها نصف الدية، فجاء الوالد وقال: عفوت عنك هذا النصف، أو أسقطت عنك هذا النصف، أو عفوت عن دين ولدي، فلا يملك الوالد الإبراء، وليس من حقه أن يبرئ عن مال ولده.
قال بعض العلماء: حتى ولو كان صغيراً؛ لأن الوالد يلي مال ولده بالمعروف، وفي الإبراءات والعفو إضرار بمصلحة الولد، ولذلك قلنا: لا يصح الإبراء.
فلو عفا الوالد عن جانٍ جنى على ولده فقطع يده، فقال الولد: أريد القصاص، أريد أن تقطع يده كما قطع يدي، أو تقطع أصبعه كما قطع أصبعي، أو تقطع رجله كما قطع رجلي، أو أي جناية يمكن فيها القصاص، فإذا ثبت حق الولد في هذه الجناية وجاء الوالد وقال: سامحت هذا الجاني، فليس ذلك من حقه؛ لأن الإبراء إنما يكون للولد وليس للوالد، وسيأتي -إن شاء الله- تفصيل هذه المسائل في مسألة العفو عن الحقوق في الدماء والقصاص.
لكن إذا كان الوالد هو ولي الدم، فقيل له: هل تريد القصاص أو الدية؟ فقال: أريد الدية وعفا عن القصاص، فهذا يصح، وإن قال: لا أريد دية ولا قصاص قد عفوت لوجه الله فيصح؛ لأنه ولي الدم، أما إذا كان ولي الجناية وولي الحق في الجناية حياً عاقلاً له حق التصرف؛ فحينئذٍ لا يملك الوالد أن يدخل عليه وأن يتصرف بإسقاط حقه في الجناية.


حكم أخذ الوالد ما وهبه لولده قبل الرجوع في هبته
قال رحمه الله: [أو أراد أخذه قبل رجوعه].
أي: أراد أخذ المال الذي وهبه قبل أن يثبت رجوعه -كما قدمنا-، كأن يكون قد وهبه سيارة ثم قال: أريد السيارة التي أعطيتك إياها، وذلك قبل أن يثبت رجوعها بالقول أو بالفعل، فبعض العلماء يقول: إذا قال له: أعطني السيارة؛ صار هذا بمثابة الرجوع ويكفي، ولا يشترط أن يكون معه النية.
وقوله: [أو تملكه بقول أو نية].
قلنا: الرجوع يثبت للواهب ملكية العين التي وهبها، فإذا قال: رجعت عن هبتي؛ رجعت الهبة ملكاً له، أي: تثبت الملكية للواهب، وحينئذٍ إذا كان التصرف قبل ثبوت الملكية بالرجوع، لم يصح إلا أن يأذن الولد، وأما إذا ثبتت ملكيته أو ثبت رجوعه وتصرف بعد ذلك؛ صح البيع وثبت.
والعلماء يضعون هذه المسائل لأهميتها، ولوقوع الخصومات فيها، كرجل -مثلاً- وهب ابنه مزرعة، ثم باع هذه المزرعة في غيبة ولده لشخص ما، ثم توفي الوالد وجاء الشخص الذي اشترى يطالب بهذه المزرعة، فحينئذٍ القاضي إذا ثبتت ملكية الولد للمزرعة وثبتت الهبة؛ لا بد أن يثبت رجوع الوالد عن هبته، ولا يصحح هذا البيع إلا بعد ثبوت الرجوع، فهذه كلها مسائل يحتاج إليها خاصة إذا وقعت هناك استحقاقات، وأكثر ما تقع إذا توفي الوالد أو جُن -نسأل الله السلامة والعافية-.
وقوله رحمه الله: [وقبض معتبر].
كما ذكرنا: أنه يشترط في صحة الهبة وجود القبض، والقبض قلنا: مما ترك الشرع ضابطه للعرف، والقبض يختلف باختلاف الشيء، واختلاف العرف، واختلاف الأزمنة والأمكنة، فكل ما عده الناس قبضاً وحيازة حكم بكونه قبضاً وحيازة، كما يقال في الحرز في السرقات -كما سيأتينا في كتاب الجنايات-: أن حرز كل مال على حسب العرف، وهذا مما يدرجه العلماء رحمهم الله تحت القاعدة المشهورة: العادة محكمة.
فقال المصنف: (قبض معتبر)، وقد يكون هناك قبض غير معتبر، وهو الذي يكون بدون إذن الواهب، وقد بينا هذا، فالقبض المعتبر هو الذي أذن فيه الواهب، فإذا ثبتت الهبة وثبت القبض بإذن الواهب صحت وثبتت الهبة، وأصبح المال الموهوب ملكاً للموهوب له.
أما لو كان قبضاً غير معتبر، كأن قال له: يا بني! وهبتك مزرعتي، فقال: يا أبتي! أعطني إياها، أعطني مفاتيح المزرعة حتى أتصرف فيها، فقال: انتظر إلى نهاية الأسبوع، ثم قبل نهاية الأسبوع توفي الوالد، فلا تثبت الهبة؛ لأنه لم يحدث فيها قبضاً معتبراً.
إذاً: لابد أن يكون هناك قبض معتبر، كما جاء في الصحيح عن أبي بكر رضي الله عنه أنه لما حضرته الوفاة قال لابنته عائشة رضي الله عنها أم المؤمنين: (أي بنية! إني كنت قد نحلتك عشرين وسقاً جاداً، فلو أنك احتزتيه -وفي رواية: جديتيه- لكان ملكاً لك اليوم، أما وإنك لم تفعلي ذلك؛ فأنت اليوم وإخوتك فيه سواء).
فدل على اشتراط القبض، ومن هنا أجمع العلماء على أنه لا تثبت ملكية الهبة للموهوب له إلا بالقبض المعتبر.
وقوله: [لم يصح بل بعده].
أي: لم يصح تصرف الوالد بما ذكر آنفاً، لكن يصح إذا وقع بعد الرجوع حصول القبض المعتبر كما سيأتي.
فإذا كان قد باع السيارة بعد أن أثبت رجوعه عن هبته لولده؛ فإنه يصح بيعه، ولو باع العمارة التي وهبها لولده بعد أن أشهد أو أثبت رجوعه عن هبتها؛ فحينئذٍ يصح بيعه وتصح إجارته ويصح سائر تصرفه؛ لأن المال رجع لملكه.


حكم مطالبة الولد لوالده بدين أو نحوه
قال رحمه الله: [وليس للولد مطالبة أبيه بدين ونحوه].
قوله: (وليس للولد) أي: ليس من حق الولد أن يطالب أباه بمال ديناً كان أو غيره، إلا النفقة التي أوجبها الله عز وجل على الوالد لولده.
وقد بين المصنف رحمه الله في هذه العبارة أنه لا يجوز للولد أن يطالب والده بالحقوق المالية التي تجري بينه وبين والده، ومن أمثلة ذلك: القرض، فلو أنه اقترض الوالد من الولد مالاً، ثم تأخر الوالد في السداد، فقام الولد بمطالبة والده، قال المصنف: ليس للولد أن يطالب، وإذا قلت: ليس له، فيتفرع على هذا أنه لا يجوز، ويحكم بإثم الولد إذا فعل ذلك؛ لأن الله يقول: {وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} [البقرة:83] أي: أحسنوا إلى الوالدين إحساناً، وهذا من أبلغ ما يكون وصية حينما جاء بالمصدر (إحساناً)، وكأنه يحتم على الولد أن يكون مع والده على سبيل الإحسان لا على سبيل الإساءة.
ومن الإساءة أن يطالب والده بدين، ومن أعظم الإساءة أن يطالبه في القضاء أو يشتكيه أو يخاصمه، فهذا ليس من الإحسان في شيء، وليس من البر الذي أوصى الله به الأولين والآخرين، وحث عليه عباده أجمعين، حتى ولو كان الوالد من الكافرين، فقد أمر به وحتمه وقرنه بتوحيده سبحانه وتعالى تعظيماً لشأن البر.
ويشمل هذا المطالبة الفردية فيزعج والده، يقول: أعطني ديني، يا أبتي تأخرت! يا أبتي أعطني مالي! يا أبتي كذا فليس من حقه، حتى ولو تلطّف في المطالبة فلا يطالبه: (أنت ومالك لأبيك) كما جاء في حديث السنن.
وهذا كله مفرع على الأصل من أن الواجب على الولد أن يحسن إلى والده لا أن يسيء إليه.
وأيضاً: هناك حقوق للوالد على ولده، وإحسان لا يستطيع الولد أن يجازيه ويكافئه، إلا أن يجد والده رقيقاً فيشتريه ويعتقه، فيفك رقبته من الرق كما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم، لكن هذا الإحسان الذي قام به الوالد على ولده منذ صغره، وهذا البذل الذي كان يبذله على ولده بدون حساب، لا يمكن أن يكافئه عليه، وليس من شرع الله عز وجل أن يقف يوماً من الأيام يضيق على والده في حطام من الدنيا، فيقول له: أعطني الدين! يا أبتي تأخرت! يا أبتي سدد! يا أبتي أنا محتاج! فهذا كله -والعياذ بالله- من العقوق، ومما يوجب الله عز وجل بسببه محق البركة من المال، فإن هذا من كفران النعمة، والله تعالى قد أخبر في كتابه أنه يجازي كل كفور، فيسلبه بركة ماله، ولربما سلبه نعمة المال، فأصبح المال نقمة ووبالاً عليه -نسأل الله السلامة والعافية-.
والخلاصة: أن المطالبة غير جائزة، فتثبت أولاً: أنه لا يجوز أن يطالبه لا فردياً ولا أمام الناس، وأمام الناس أشد وأعظم.
ثانياً: تثبت أنه يأثم، فيحكم بإثمه إذا طالبه، وأن هذا من العقوق والأذية والإضرار.
ثالثاً: لو تقدم إلى القضاء وطالب والده بالمال؛ فإن دعواه تسقط؛ لأن الدعوى من أصلها غير ثابتة وغير معتبرة شرعاً، فليس فيها استحقاق؛ إذ ليس للولد حق على والده أن يطالبه بمثل هذا.
وقوله: (وليس للولد مطالبة أبيه) بعض العلماء يقول: ليس له مطالبة والديه، فيشمل الأب والأم، وحق الأم آكد، لكن بعض أهل العلم خص الأب لورود النص فيه؛ لأن الأب دائماً يتكفل بالنفقات، ولا شك أن السنة بينت أن الأم لها حق أعظم من حق الوالد، قال كما جاء في الحديث: (يا رسول الله! من أحق الناس بحسن صحابتي؟ قال: أمك، قال: ثم من؟ قال: أمك، قال: ثم من؟ قال: أمك، قال: ثم من؟ قال: أبوك)، فجعل حق الوالد بعد ثلاثة حقوق للأم.
ولذلك قالوا: إنه لو توفي والداه وأراد أن يحج عنهما؛ بدأ بالأم قبل الأب؛ وذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر ببرها، ولو تعارض حق الأم والأب؛ قدم حق الأم على حق الأب، وهذا لثبوت السنة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أكد ذلك فقال: (أمك، قال: ثم من؟ قال: أمك، قال: ثم من؟ قال: أمك، قال: ثم من؟ قال: أبوك)، وهذا كله يدل على عظيم حقها، وعظيم ما لها من المعروف العظيم، فإذا أثبتت السنة للوالد شيئاً وأمكن من حيث النظر في العلة إلحاق الأم؛ فإن الأم أولى به.
لكن بعض العلماء يقول: إن هذه المسألة فيها خصوصية، وقد سبق التنبيه على هذا، وهي رواية عن الإمام أحمد، أنه جعل الرجوع للأب دون الأم، وقد بينا أن الصحيح أن الأم تملك الرجوع كما يملكه الأب؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم علل بقوله: (أيسرك أن يكونوا لك في البر سواء؟) وهذه علة مشتركة بين الأم والأب.
وقد بينا وجه هذه المسألة، حتى إن الظاهرية مع أنهم يتمسكون بظاهر النص قالوا: الأب والأم في هذا سواء، ونص على ذلك الإمام ابن حزم رحمه الله في المحلى.
والشاهد من هذا: أن المصنف نص على الأب، والأم تلتحق به وتأخذ حكمه.
وقوله: (بدين ونحوه).
كذلك الأم لا يجوز للولد أن يطالبها بدين نسأل الله السلامة والعافية، نعوذ بالله العظيم وبوجهه الكريم أن نقف هذا الموقف، أو يبتلينا وذريتنا بذلك، من يستطيع أن يقول لأمه ويطالبها بدين؟! قد يكون في بعض الأحيان لا يتحمل أن يرى أمه في ضائقة حتى يأتي ويجثو عند قدميها ويبذل ما يملك من ماله، كل هذا فداء لهذه الأم، فهو وماله فداء لهذه الأم الكريمة التي ربت وأحسنت، وقدمت الكثير الذي لا يمكن أن تجازى عليه إلا من الله سبحانه وتعالى، الذي يجزي الإحسان بأحسن منه.
نسأل الله العظيم بأسمائه الحسنى وصفاته العلى أن يجزي والدينا عنا أحسن ما جزى والداً عن ولده.
وقوله: (بدين ونحوه) ونحوه مثل: الأروش التي تكون في الجنايات وغيرها، والمصنف رحمه الله ذكر الدين على الأصل، ويتبع هذا كل ما فيه استحقاق، فلا يطالب فيه الولد والده.
فلو سكن الوالد في عمارة الولد؛ فلا يأتي ويقول له: ادفع أجرة هذا المسكن، أو ركب معه فيما يؤجره للناس فقال له: ادفع الأجرة مثلك مثل الناس، أو نحو ذلك، فلا يطالبه بدين ونحوه، أي: من الأشياء التي فيها استحقاقات.


حكم حبس الوالد لنفقة ولده الواجبة عليه
قال رحمه الله: [وحبسه عليها].
أي: أن يطلب من القاضي أن يحبسه، وهذا كما قيل: إذا لم يكن إلا الأسنة مركباً فما حيلة المضطر إلا ركوبها فإذا كان هناك أب ظالم مانع لنفقة ولده، وأصبح الولد يخشى على نفسه أن يقع في الحرام أو الآثام، فقال: يا أبتي -بالمعروف- أعطني حقي، فلم يمكنه من حقه، ثم قال له: يا أبتي! أعطني حقي، فسأله وحاول معه فلم يعطه حقه، فحينئذٍ له أن يشارعه إلى القضاء، وأن يطالب القاضي بحبسه حتى ينفق عليه بالمعروف.
ومن حق الزوجة أيضاً أن تشارع زوجها وتطلب من القاضي حبسه حتى ينفق عليها، وهذا كله من الحقوق الواجبة، فإن الحقوق الواجبة من النفقات تحكم الشريعة فيها، وإذا حكم القاضي بأن النفقة وجبت لفلان على فلان، فالواجب على من وجبت عليه النفقة وهو قادر على بذلها أن يبذلها، فإذا امتنع وطلبه القاضي فقال له: ادفع، وقال: ما أنا بدافع فمن حق القاضي أن يسجنه حتى يدفع الحق الواجب عليه، ويبذل لأولاده حقوقهم ويعطيهم ما فرض الله عليه إعطاءهم.
فإذا طالب الولد القاضي بذلك كان من حقه؛ لأنه قد يصل إلى مقام الضرورة إذا لم يعط النفقة، وهكذا الزوجة من حقها أن تطالب ولو بسجن الزوج حتى يبرئ ذمته من الحق الواجب عليه.
وتشدد الشريعة في النفقات يدل على عظمة وكمال هذه الشريعة، فالمشاكل التي تعج بها المجتمعات من السرقات والاعتداء على أموال الناس، كثير منها يقع بسبب إضاعة الحقوق كما ذكرنا.
فإذا كان الذي يماطل منع ذا الحق حقه، فإن هذا قد يدفع الممنوع من حقه أن يلتمس وجوهاً محرمة، وسبلاً مشبوهة، فيطلب الحرام، وقد يتعامل بالمعاملات المحرمة، فالشريعة تقفل هذه الأبواب، وقد تأتي إلى شخص يقع في حرام فتقول له: لم تفعل هذا؟! فيقول: أنا مضطر ليس عندي من حيلة، وقد تقع المرأة -والعياذ بالله- في الزنا، فيقال لها: لماذا؟ فتقول: لئلا يضيع أولادي.
ولذلك شدد الشرع في هذا، وزجر كل من يمتنع من النفقات حتى ولو بالحبس، حتى ولو كان والداً فيسجن بحق ولده، ولا شك أن هذا من أكمل ما يكون في زجر الناس وإيقاف كل إنسان عند حدوده، وإلزاماً لما فرض الله عليه مما يعود بالخير على الأفراد والمجتمعات.
والوالد نفسه يأمن من الشر والبلاء من هذا، ولهذا فإن المجتمعات الغربية والمجتمعات الكافرة كثيراً ما يقع الاعتداء من الأولاد على الوالدين بسبب الظلم في الحقوق، سواء في حقوق النفقة وغيرها.
وإنما نبهنا على هذا الأمر لأنه قد يستغرب الإنسان كيف يحبس الولد والده بسبب النفقة؟! وينبغي لكل طالب علم بل للناس عامة أن يعلموا علم اليقين أن أي حكم في شرع الله عز وجل وفي الفقه الإسلامي مستنبط من كتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم فيه قوة وفيه شدة، فلن تستطيع أن تدرك الحكم الموجودة فيه إلا إذا خالفت هذا الحكم ونظرت إلى الأسباب المترتبة على عكسه.
ولذلك قد تجد الابن يعق والده، ولربما يقتله -والعياذ بالله- بسبب الدينار والدرهم، وقد وقع في بعض المسلمين -نسأل الله العافية والسلامة- أن والداً كان ظالماً بخيلاً، فكان يهضم أولاده وزوجته، وقد فتح الله عليه من أموال الدنيا الشيء الكثير، فلما بلغ هذا البخيل الظالم لولده سكرات الموت، قام ولده وجثا على صدر أبيه، وانتزع دفتر الشيكات من صدره، فقال له: اذهب -نسأل الله السلامة والعافية- إلى كذا وكذا من غضب الله عز وجل، فلم يرحم والده في آخر عمره، ولم يرحم حالته تلك، وهي حالة تنكسر فيها القلوب القاسية وتلين فيها مما ترى، وليس شيء بعد الدين أعز من الوالدين، وبعدما أمر بتقديمه على الوالدين ليس هناك أحد أعز عليه من والديه.
وصدق قول الرسول صلى الله عليه وسلم -وهو الصادق المصدوق- حينما قال: (ما الفقر أخشى عليكم، ولكن أخشى عليكم ما يفتح الله من زهرة الدنيا، فتنافسوها كما تنافسها من قبلكم، فتهلككم كما أهلكتهم)، فهلاك الناس بالدنيا والمال، ولذلك لا ينبغي التساهل في هذا، فالشريعة تحكم بما يزجر؛ لأنه ربما يأتيك شخص بشبهة ويقول: كيف تأمر الشريعة ببر الوالدين، وتجيز للولد أن يحبس والده في النفقة؟! فقل: نعم، هذا أمر له تبعات وله آثار وله تداعيات مترتبة عليه، والشريعة دائماً تنظر إلى العواقب، ولذلك قال الله عز وجل: {أفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ} [النساء:82]، ودبر الشيء: آخره، فإذا كنت تنظر إلى آخر الشيء فمعنى ذلك أنك قد أحطت بالشيء، وإذا بلغ النظر أنك استوعبت الشيء إلى أن وصلت إلى آخره فقد تم نظرك في هذا الشيء.
فكل حكم مستنبط من كتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم التي يقول فيها: (لقد أوتيت القرآن ومثله معه) تنظر إلى دبره وعواقبه وآثاره فيما لو عكس هذا الحكم من حيث السلب، وفيما لو حكمنا بهذا الحكم من جهة الإيجاب، فلا ترى حكماً أتم من حكم الله عز وجل، ولا أحسن من الله حكماً لقوم يوقنون، ولقوم يعقلون، ولقوم يفقهون، ولقوم يدركون، ففيه الخير وكل الخير، فنسأل الله العظيم أن يرزقنا حسن التدبر في شرعه وحكمه.


حكم مطالبة الولد والده بنفقته الواجبة عليه
قال رحمه الله: [إلا بنفقته الواجبة عليه].
قوله: (إلا): استثناء، والاستثناء: إخراج بعض ما يتناوله اللفظ، فأخرج من اللفظ الذي سبق حالة النفقة، فالنفقة من حق الولد أن يطالب والده بها، ومن حقه أن يطالب الوالد بذلك ولو بالقضاء؛ لأن هذا يضر بالولد كثيراً؛ فالله عز وجل أوجب على الوالد أن ينفق على ولده، وفرض عليه ذلك، وإذا كان ملزَماً بذلك؛ فلا يجوز له أن يضيع حق الله في ولده، قال صلى الله عليه وسلم: (كفى بالمرء إثماً أن يضيع من يعول)، يقول بعض مشايخنا رحمة الله عليهم: علوم الاجتماع كلها في قوله عليه الصلاة والسلام: (كفى بالمرء إثماً أن يضيع من يعول)، فلا يمكن لمجتمع أن يسعد إلا بهذا الحديث.
فلو أن كل من يعول قليلاً أو كثيراً يقوم بحقوق الإعالة كما ينبغي لما حدثت مشكلة؛ لأن المشاكل كلها تقع بسبب تضييع حق الإعالة، سواء كانت زوجة أو أولاداً، وحتى إنه يضيع من يعول بالسهر، فيضيع الإنسان حق زوجته، فيضيع حق أولاده في مراجعتهم ومذاكرتهم ومتابعتهم في دروسهم، وفي أصحابهم وقرنائهم، وكل المشاكل إنما نشأت من عدم القيام بحق من استرعاك الله عليهم، وحينما يقوم كل راعٍ بحق رعيته تحل كل المشاكل، فما أبلغ قوله عليه الصلاة والسلام! وما أحسنه وما أجمله وما أجله وأكمله! (كفى بالمرء إثماً) بمجرد أن تسمع هذه الكلمة إذا بالنفوس تقشعر والقلوب ترجف ومن الذي يتحمل أن يلقى الله بالإثم والوزر سواء كان في الدين أم في الدنيا؟! والإثم لا يزال سبباً في هلاك الإنسان ودماره، حتى لربما تسبب في سوء خاتمته -والعياذ بالله-، ولربما تسبب في أن يكون قبرُ الإنسان حفرةً من حفر النار -والعياذ بالله-، ولربما تسبب في شقائه الأبدي بدخول نار جهنم خالداً مخلداً فيها بالإثم أو الشرك أو الكفر ونحو ذلك مما يوجب الخروج من الملة، فالإثم سبب كل بلاء وعناء، ولذلك قال تعالى: {وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ} [النساء:79].
هذا الإثم يقول عنه الرسول صلى الله عليه وسلم: (كفى بالمرء إثماً أن يضيع من يعول)، فالوالد جعل الله عليه حق النفقة لأولاده، وجعله قائماً على بيته، يأمرهم بما أمر الله وينهاهم عما نهى الله عنه، فمن حقوقهم المادية: أن ينفق عليهم بالمعروف، فإذا امتنع الوالد مع القدرة على الإنفاق فحينئذٍ ظلم وجار، ومن حق الولد أن يقول له: يا أبتي! أعطني حق النفقة؛ لأن الولد لو لم يطالب والده بحقه لربما وقع في الحرام، ولربما تعرض للسرقة، ولربما تعرض للفواحش بسبب عدم وجود النفقة -عياذاً بالله- والسنة دلت على هذا، ومن ذلك قصة الثلاثة الذين أطبق عليهم الغار، وفيهم الرجل الذي أراد الزنا بالمرأة فإنه لم يتمكن من الزنا إلا لما احتاجت إلى المال.
وهذه حكم نبهت عليها الشريعة، ونبهت عليها السنة الغراء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فبين عليه الصلاة والسلام أن من أعظم الإثم إضاعة من يعول، فإذا ضيع الوالد ولده ولم ينفق عليه، كان من حق الولد أن يطالب والده بالنفقة.
وقوله: (إلا بنفقته الواجبة عليه) هناك نفقة واجبة ونفقة مستحبة، فإذا كان طعام الولد وشرابه وكسوته في حدود المائة، فلا مانع أن يزيد ويحسن إلى ولده، ومما يضع الله فيه البركة للإنسان، ويحسن به العاقبة في الأمور كلها دائماً ألا يبقى على قدر الفرض الواجب الدائم؛ بل يسمو إلى الكمال، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: (رحم الله امرءاً سمحاً إذا باع، سمحاً إذا اشترى، سمحاً إذا قضى، سمحاً إذا اقتضى).
فإذا أراد أن ينفق على أولاده فالنفقة واجبة ومستحبة، والنفقة الواجبة التي يكون بها السداد ويحصل بها سد الحاجة والكفاية، والنفقة المستحبة إذا وسع الله عليك وسعت على ولدك.
ولا يجلس الإنسان يدقق في ولده ويحاسبه على الصغير والكبير، قد تكون المحاسبة في حدود معقولة، لكن إذا رأى أن الله بسط عليه وأحسن إليه، فكما أحسن الله إليك تحسن، ولذلك قيل لـ قارون: {وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ} [القصص:77].
فتحسن إلى ولدك، ومن المجرب المعروف ما ذكره العلماء بالتجربة: أنك لن تجد رجلاً في بيته يعامل زوجته وأولاده بالسماحة واليسر، ولا يشعرهم بالتضييق والعناء، سمحاً إذا أعطى، وسمحاً إذا أخذ، وسمحاً إذا أمر، وسمحاً إذا نهى، وسمحاً إذا جاد؛ إلا وجدت أموره ميسرة مكفياً من الله سبحانه وتعالى، فكما تدين تدان، ومثلما عاملت الناس يعاملك الله، فلا تجد منه سبحانه إلا الرفق والإحسان والحلم؛ بل أضعاف أضعاف ما ترجوه.
فالنفقة المستحبة: هي الفضل والزيادة على النفقة الواجبة.
فلو أن والداً أعطى ولده المائة، وهي سد الحاجة والكفاية، والولد يريد أن يدرس ويريد الزيادة فقال: أريد مائة وعشرين، أو أريد مائة وخمسين، فإنه يطالب فوق المائة بالعشرين والخمسين، وهي في قدر المستحب وليس في قدر الواجب، فهذا ليس من حقه أن يطالب به، لكن إذا أراد أن يتفاهم مع والده على أن والده يكرمه ويزيده؛ فهذه شئون بين الولد ووالده، فيلاطفه ليحاول أن يعطيه القدر الزائد، فمثلاً: ولد أعطاه والده مائة وهو يريد مائة وعشرين، فتلطف مع والده حتى يعطيه العشرين، وبحث عن أمور مؤثرة والمفاتيح التي تفك قفل والده، فهذا ليس بالمحرم.
أما النفقة المستحبة فالأمر فيها واسع، فإن الإنسان إذا كان بينه وبين أحد ود ومحبة وأراد أن يوسع عليه، وكان بينهما من الأخوة، وبين الوالد وولده من الصفاء والنقاء ما يطلب فيه الولد الأكثر دون أن يعنت الوالد، فلا بأس بذلك.
قال رحمه الله: [فإن له مطالبته بها].
أي: بالنفقة الواجبة.


الأسئلة


حكم استدانة الولد لتلبية متطلبات والده الضرورية

السؤال
أحياناً يطلب مني الوالد أكثر مما أطيق، كأن يطلب زيادة على ما أعطيه، ولا أجد قدرة على ذلك، فهل أستدين وألبي رغبته؟

الجواب
هذا الحقيقة فيه تفصيل، فمن حيث الأصل لست بملزم، لكن هناك ظروف تطرأ على الوالد، وهذه الظروف صعبة؛ كعلاج ضروري، وهذا العلاج بخمسمائة ريال، وحدود النفقة التي تعطيها أنت للوالد مثلاً مائتا ريال، لكن العلاج هو محتاج إليه الآن، ولو أنك استدنت الخمسمائة وفرجت -بعد الله- كربة أبيك، ثم استعنت بعد ذلك على سدادها من راتبك دون أن تقع في حرج وضيق، فهذا من أفضل وأكمل ما يكون، وتحتسب ذلك عند الله.
فمن حيث الأفضل والأكمل أقول لك: لن تعدم من الله عز وجل الخير والبركة ما دمت باراً لوالدك، وأكمل ما يكون البر في الشدائد، أما من حيث الواجب فلا يجب عليك الشيء الزائد عن حاجتك، والزائد عن قدرتك، والذي لا تستطيع: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة:286].
لكن كن على علم ويقين أن الله لن يضيعك، وأن الله سيفتح لك من أبواب البركة والخير ما لم يخطر لك على بال، فما وجدنا البر سيئ العاقبة أبداً؛ بل إن البار في أحسن الأحوال وأكمل ما يكون عليه المآل في الدنيا والآخرة، ولذلك تجد البار ما يسلك طريقاً إلا سهله الله له، ولن يقرع باباً إلا فتحه الله في وجهه ميسرة أموره.
وأنت إذا أخذت الأمر بالدقة وقلت: أنا لا أستطيع! أنا لا أريد! لا تحملني ما لا أطيق! وكفحته في وجهه، وأنت ترى ظرفاً قاهراً وأموراً تحتاج منك أن تكون الابن الأكمل والأفضل، وأن تسمو بنفسك إلى معالي الأمور، وتحس عندها أن الله يسمعك، وأن الله يراك، وأن من أعظم ما يكون من الخير سرور تدخله على مسلم، فكيف بوالديك؟!! فإذا ألزمت نفسك الشدة وأنت متوكل على الله، مفوض أمرك إلى الله؛ فإن الله لن يخيبك، فسيفتح الله لك من اليسر والمعونة والتوفيق، ويربط على قلبك وييسر لك من أمرك ما لم يخطر لك على بال، والله حتى ولو أصبحت في ضيق لكن الله سيبارك لك في عيشك، وليقرنّ الله عينك عاجلاً أو آجلاً، وليجمعن الله لك بين حسن العاقبة من برك وحسن النظر في أهلك وولدك غداً، فمن برّ والديه برّه أبناؤه وبناته، وقرّ الله عينه بالبر حياً وميتاً.
فلا يظن الإنسان أنه إذا وقف عند الحدود الواجبة أنه يعدل عند الله المعونة إذا خاطر بماله ووقته لا؛ بل إن الله يعينه ويوفقه.
وأياً ما كان فليس بفرض، ولكن الأفضل والأكمل أن تحتسب، ونسأل الله عز وجل أن يمدنا وإياكم بعونه وحوله، والله تعالى أعلم.


تفسير قاعدة (العادة محكمة)

السؤال
نرجو منكم توضيح هذه القاعدة: العادة محكمة؟

الجواب
العادة محكمة هي إحدى القواعد الخمس التي قام عليها الفقه الإسلامي، وهي: الأمور بمقاصدها، والمشقة تجلب التيسير، والضرر يزال، واليقين لا يزال بالشك، والعادة محكمة.
والعادة مأخوذة من العود؛ لأن الإنسان إذا اعتاد شيئاً رجع إليه مرة بعد مرة، ولذلك سمي العيد عيداً؛ لأنه يتكرر ويعود إليه الإنسان في كل عام مرتين.
والمراد بالعادة: ما اعتاده أهل العرف الإسلامي، وعند العلماء ضوابط، فليس كل عادة في بلد يحتكم إليها، وليس كل شيء يعتاده الناس يحتكم إليه ويعمل به، فالشريعة جاءت بأشياء حكم فيها بأحكام معينة، وحددت هذه الأحكام، وفصلت فيها، فمثلاً: بينت مقادير الزكوات، وفرضت على الناس أداءها، فبينت زمانها والأصناف التي تجب فيها، ومن تدفع إليه الزكاة، والأوقات التي تجب إلى آخره.
لكن هناك أشياء أوجبتها وتركت تقديرها لأعراف المسلمين، وهناك أشياء دعت إليها واستحبتها وتركت تقديرها لأعراف المسلمين، والسبب في هذا: أن العقول جعلها الله نوراً للناس، ولذلك جعل الله نور العقل ونور الوحي، فالشخص تكمل عليه نعمة الله إذا جمع بين نور الشرع ونور العقل الذي وهبه، كما قال تعالى: {نُورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ} [النور:35].
فالذي عنده عقل سليم لا يفعل إلا الشيء السليم؛ لأن العقل يعقل ويمنع عما لا يحمد، فالمسلَّم من حيث الأصل أن الناس في الأعراف الإسلامية في الغالب يعتادون أجمل الأشياء وأكملها وأحسنها، فإذا جئنا -مثلاً- إلى عرف بلد إسلامي فوجدناهم اعتادوا أمراً، وهذا الأمر نحتاجه لتقدير حكم أو ضبط شيء أمر الشرع بضبطه بعرف الناس؛ رجعنا إليه، فنجد النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (إن مما أدرك الناس من كلام النبوة الأولى: إذا لم تستحِ فاصنع ما شئت) وهذا يعتبر من خوارم المروءة، فإذا جئت تبحث ما هي المروءة تقول: المروءة أن يكون الإنسان في أكمل وأحسن الأحوال التي تليق به في خاصته، فالعالم له وضع، وطالب العلم له وضع، وعامة الناس لهم وضع.
فمثلاً: الأكل في المطعم أمام الناس، أو مثلاً: الأكل في الشارع، فقد يأتي شخص ويأخذ طعامه ويضعه في فمه أمام الناس، فهذا لا يمكن أن يقبل من عالم أن يأتي أمام الناس ويأكل إلا في أمور مستثناة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم شرب القدح أمام الصحابة، وأكل أمام الصحابة للتعليم في السفر، فهذه أمور مستثناة، لكن في داخل المدينة وبإمكانه أن يأكل في بيته، فيخرج طعامه أمام الناس في السوق أو في المجامع ويجلس أمامهم، فهذا يسقط المروءة، ومع أنه مباح وجائز، لكن الناس إذا رأوا هذا الشيء استهجنوه، وليس له حكم في الشريعة، فإن الشريعة لم تحرم علينا أن نأكل، فالأكل جائز، لكن الأكل أمام الناس بهذا الشكل أصله مباح: وما أبيح وهو في العيان يقدح في مروءة الإنسان فنقول: هذا مردود، ولا نقبله منك أيها العالم، ولا نقبله منك يا طالب العلم؛ لأن عادة المسلمين وعرفهم لا يقبلون هذا.
ولو خرج إنسان بملابسه الداخلية، أو بملابس النوم، فهو أمر مباح، فإنه يجوز للشخص أن يخرج بالقميص، ولا بأس به، لكن في عرفنا وما اعتاده الناس أن هذا يزري بالإنسان، ولا شك أن هذا الشيء من خوارم المروءة.
قالوا: لأن الإنسان الذي لا يبالي بالناس ليس عنده عقل، فكونه يخرج أمام الناس لابساً هذا اللبس الذي لا يليق إلا أن يلبسه داخل البيت، يدل على نقصان عقله، فانخرمت مروءته، لكن هذا الحكم ما أخذناه من نص من الكتاب والسنة، لكن أخذناه من أعراف المسلمين الكاملة الفاضلة.
وإذا جاء شخص وجلس أمام الناس وهو -مثلاً- من أعيان الناس وكبارهم، فيحتاج إلى أن يكون على وقار وعلى سمت وعلى جلالة قدر تليق به؛ كالعالم، وطالب العلم، فجلس يضحك ويفعل الأمور التي لا تليق به، ويتهكم ويستخف، أو يأتي بالنكت ويسخر من هذا ويضحك من هذا، ويمزح مع هذا، فماذا نعد هذا؟! تجد عامة الناس العاقل منهم ينظر إليه نظرة غريبة، مع أنه لم يفعل محرماً، فاللهو مباح، والضحك مباح، لكن من مثله في هذا المكان بهذه الصفة لا يليق، فيعتبر خارماً للمروءة، لكن لما حكمنا بكونه لا يليق ليس بنص من الكتاب ولا من السنة، ولكن من عرف المسلمين وعادتهم الكريمة التي جبلوا فيها على أحسن وأكمل وأفضل ما يكون عليه الناس، ولأن الله اختار لهم أفضل الأديان وأحسنها، فاختار لهم أحسن العادات.
ومن هنا تتخرج مسألة لبس المرأة للقصير أمام النساء، فالذي يحدث من بعض من يلبس على الناس دينهم ومن أنصاف المتعلمين يقول: عورة المرأة مع المرأة كعورة الرجل مع الرجل، وعورة الرجل ما بين السرة والركبة، إذاً تكشف المرأة ساقيها، ولها الحق أن تكشف عن صدرها وتلبس الملابس العارية؛ لأنها مباحة، ولا يوجد دليل على التحريم.
فنقول: إن هذا الشيء من حيث الأصل العام أن عورة المرأة مع المرأة من جهة حد التحريم الأصلي، لكن لا يقتضي هذا الهجوم على عادات الناس ومكارم الأخلاق، وسل العادات الحميدة من النفوس الطيبة التي ألفت هذه العادات، وسنّ القدوة السيئة حتى يقتدى بها الغير والتي تفتح شراً على المجتمع، هذا هو الذي يعاتب عليه، وهذا الذي يمنع منه، فالمرأة التي تأتي كاشفة عن ساقيها ساقطة المروءة، سقطت عدالتها، وهذا ذكره العلماء، وبينوا أن الأمور المباحة إذا فعلت في العيان في الحفلات وفي مجامع الناس أوجبت سقوط المروءة، ودلت على نقصان عقل الإنسان، وقد تدل على نقصان دينه.
وعندما تجد الشخص يأتي ويقول لهم: هذا الفعل ليس فيه شيء، واتركوا بناتنا يفعلن هذا الشيء، واتركوا نساءنا يفعلن! هذا إنسان يريد أن يهدم المجتمع، ويريد أن يقوض العادات الكريمة المستقيمة.
والشاب الآن حينما يأتي وهو رجل فيأتي كاشفاً عن فخذيه ويقول: هناك من العلماء من يقول: إن العورة هي السوءتان فقط، وأن الفخذ ليست بعورة، فيأتي أمام مجامع الناس لابساً هذا اللباس معتدياً على حرمات المسلمين؛ لأن للمسلمين حرمة، فليس من حق أحد أن يكشف محاسنه فيفتن الغير بها؛ لأن هذا أمام الناس، ولو كان في بيته فهو حر في نفسه، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم مع هذا كله: (الله أحق أن يستحيا منه) حتى مع كون الإنسان وحيداً، وفي الحديث قيل للنبي عليه الصلاة والسلام: (يا رسول الله! عورتنا ما نأتي منها وما نذر؟ قال: احفظ عورتك إلا من زوجك أو ما ملكت يمينك، قالوا: يا رسول الله! أحدنا يكون خالياً، قال: الله أحق أن يستحيا منه)، وقال في الحديث الصحيح: (إن معكم من لا يفارقونكم)، وهم الملكان الكرام الكاتبون، الذين يعلمون ما تفعلون: (إن معكم من لا يفارقونكم فاستحيوهم وأكرموهم).
ثم الشاب الذي يأتي فيكشف عن فخذه لا ينبغي أن يسكت عليه الغير، فحينما تراه تأتي وتنصحه بالتي هي أحسن.
وقد رأيتُ شاباً ذات مرة بهذه الصفة فناديته وقلت: يا أخي! أولاً: هذا الذي تفعله ليس من حقك شرعاً، فليس من حقك شرعاً أن تكشف شيئاً مما يوجب الفتنة لغيرك.
ثانياً: أنا أريد أن أسألك سؤالاً: لما رأيتني بالثوب ورأيتني بهذا اللباس ناشدتك الله هل ترى في ثوبي عيباً؟ قال: لا.
قلت: لبسك لهذا الشيء طعنٌ في هذا الشيء، أنت في أمة كاملة وفي بلد قدوة للأمة كلها تنظر إليهم النظرة الفاضلة الكاملة، وتعتدي على مكارم العادات ومحاسن العادات! ومن ناحية شرعية: لا إشكال في كونه يقلد الغرب، وهذا سنأتي عليه، وقد بينته له بعد ذلك، وبينت له أن لبسك لهذا اللباس تبعاً لغيرك يدل على انهزامك، وأنك تبع للغير، (من أحب قوماً حشر معهم) وأنت خيرت بين لباسين: - لباس الكمال والفضيلة.
- ولباس النقص والذي يقود إلى الرذيلة.
فهل هناك عاقل يرضى لنفسه أن يلبس هذا اللباس؟! إن هذا اعتداء على قيم الناس.
ثم الرجل الواحد والمرأة الواحدة التي تأتي في الحفلة وتلبس لباساً فيه نوع من الاشتهار، يدخل في لباس الشهرة، وقد جاء في الحديث: (ومن لبس لباس شهرة ألبسه الله ثوباً من نار)، نسأل الله السلامة والعافية، ومن لبس لباس الشهرة شهَّر الله به في الدنيا والآخرة.
فالحذر! والله لا ترضى المسلمة أنها تربت في بيت ترى فيه أمها كاشفةً عن فخذيها، والمرأة التي تكشف عن فخذيها أمام بناتها وأمام المجتمع تسأل نفسها: لو أنها استفاقت يوماً من الأيام وقد رأت أمها كاشفة فخذها هل ترضى ذلك لأمها؟! فكيف ترضاه لبناتها؟! فنحن لا ننظر إلى القدوة، مع أن القدوة لها أثر.
إذاً: (العادة محكَّمة) قاعدة صحيحة، ويرجع إليها في تقدير النفقات، فالنفقة الزوجية يُرجَع فيها إلى العادة، ونقول: إذا كنتَ غنياً تقدِّر بنفقة الغنى، وإذا كنتَ فقيراً تقدِّر بنفقة الفقر، وإذا كنتَ متوسطاً بنفقة الوسط، والمهور يُرجَع فيها إلى مهر المثل، وهذا من الرجوع إلى القاعدة والاحتكام إلى العادة، وقس على ذلك.
لكن الذي يُنبَّه عليه: أنه لا يحتَكَم إلى العادة الخاطئة، ولذلك قالوا: لو تعارف الناس على أمر محرم انتشر بين المسلمين فأصبح عادةً لم يرتبط به حكمٌ شرعي، حتى قالوا: لو اعتادوا -مثلاً- على حلق اللحى وأصبح عادةً فإن هذا لا يُحتكم إليه؛ لأن شرط العادة: أولاً: أن تكون في المشروع، لا في الممنوع.
ثانياً: أن تطرد اطراداً في أغلب الناس أو أكثر الناس، خاصة إذا شملت المجتمع كله، فهذا مما يُحتكم إليه ويثبت العمل به.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد.


حكم تصرف الوالد في مال ابنه من الرضاعة

السؤال
هل يحق للوالد التصرف في مال ابنه من الرضاعة؟

الجواب
باسم الله، الحمد لله، والصلاة والسلام على خير خلق الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد: فالرضاعة لا توجب ما ذكرناه من الحكم، ولذلك فليس من حق الوالد أن يتصرف بمال ولده من الرضاعة، فإنه يختص الحكم فيما يكون من النسب، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: (يحرم من الرضاعة ما يحرم من النسب)، فجعل الحكم بالمحرمية، فدل على أن بقية الأحكام لا تأخذ فيها الرضاعة حكم النسب، والله تعالى أعلم.


حكم أخذ الولد دينه لأبيه المتوفى من تركته

السؤال
إذا مات الأب وللابن عنده دين فهل يسقط أم يطالب إخوته أم يأخذه من التركة؟

الجواب
هذا على ما تقدم، من حيث الأصل: أن الوالد إذا أخذ الدين من ولده وهو يريد سداده، فالمنبغي على الورثة ما دام أن هذا هو الأصل وهو المستصحب أن يسددوا عن والدهم، خاصة وأنه يكون فيه نوع من التفضيل، ويتحمل فيه الولد الذي دين تبعة ذلك الدين أكثر من غيره، فحينئذٍ يسدد له الدين، وأما إذا كان الوالد قد امتنع عن السداد مع القدرة، وفهم منه عدم إرادته للسداد، فلا إشكال، وحكمه حكم ما ذكرناه، والله تعالى أعلم.


متى تسقط نفقة الوالد على ولده

السؤال
النفقة تجب من الوالد لولده، فمتى يزول هذا الوجوب، هل بمجرد بلوغ الابن؟

الجواب
إذا بلغ الولد وكان قادراً على الكسب، قادراًَ على أن يعول نفسه، ويقوم بكفايتها؛ سقطت النفقة عن الوالد، وحينئذٍ فلا يلزم الوالد بالنفقة على ولده، مثال ذلك: إذا بلغ ووجد وظيفة أو وجد عملاً؛ فحينئذٍ تسقط النفقة عن الوالد ويقوم الولد بإعالة نفسه.
أو كان الولد عنده قوة ويستطيع أن يعمل عملاً أو يتكسب بالعمل المباح، فحينئذٍ يتكسب، وللوالد أن يقول له: اذهب وتكسب، فإذا قصر وامتنع من التكسب كان من حق الوالد أن يمتنع من النفقة عليه ما دام قادراً على الكسب، فالشريعة لا تدعو إلى البطالة، ولا تعين على البطالة.
ومن هنا ننبه على أن من أفضل ما يكون للإنسان أن يربي الوالد ولده دائماً على الكسب باليد؛ لأنه خُلُق الأنبياء الذين اختار الله لهم الكسب الطيب، ولذلك أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن أنبياء الله صلوات الله وسلامه عليهم أكلوا من كسب أيديهم، فداود كان في الحدادة يأكل من كسب يده، وكذلك يحيى وزكريا عليهم الصلاة والسلام، فهذا كله لا ينقص قدر الإنسان.
والشاب الذي تجده يكدح ويتعب من أول شبابه، ويستفتح حياته بأن يكون متوكلاً على الله، آخذاً بالسبب؛ فإن الله يبارك له في صحته، ويبارك له في وقته، ويبارك له في ماله وكسبه، لكن إذا نشأ عالة على والده، يحمل والده النفقة، ولو كان الوالد راضياً بذلك، فإن هذا لا تحمد عقباه، وليس بالأكمل والأفضل.
بل على الإنسان دائماً أن يسعى في طلب المباح، وقد أخبرني الوالد رحمه الله: أن جدي كان يحفظهم القرآن من وقت الحر إلى طلوع الشمس، فكان يوقظهم من السحر، وكان رحمة الله عليه كثير التهجد والعبادة، حتى إن العمات الآن يقلن: لا يأتي قبل الفجر بساعة ونصف إلا وهن مستيقظات؛ لأنه عودهن من الصغر رحمة الله عليه.
فمما كان من سيرته: أنه كان إذا صلّى الفجر يجلس مع أولاده إلى الإشراق، وإذا أشرقت الشمس أخذ الألواح التي يحفظون بها -كانوا يكتبون القرآن فيجمعون بين حفظه بالكتابة والرسم والتلقي والسماع-، فإذا طلعت الشمس سحب هذه الألواح منهم وأمرهم أن يذهبوا لكسب العيش، فيذهبون، ومن المعروف أنهم كانوا في بادية، فيذهبون ويطلبون القوت، ولم تكن هناك أعمال لهم، فالذي يذهب يحتطب، والذي يذهب ويقوم على رعي الغنم ومراعي الإبل، المهم ألا يبقى عاجزاً، وألا يبقى عالة.
وقد كان عنده من الخدم ما يسد حاجته، لكن لابد أن يكدح كل شخص منهم ويلتمس رزقه، ولا يكون عالة على غيره، فهذا هو الأكمل والأفضل؛ أن يعود الوالد ولده، وإذا نشأ الشباب على هذا الشعور فإنهم سيجدون المال الطيب بالكسب المباح الذي ليس فيه شبهة ولا حرام، ويبارك الله لهم في أوقاتهم.
ولذلك تجد الشاب الذي يتعود على البطالة وعلى والديه لم يهنأ له العيش، حتى إنك تجد الواحد منهم تصب في حجره عشرات الألوف وهو من أنكد الناس -نسأل الله العافية والسلامة- ومن أبأسهم حالاً، وتجده في أشد ما يكون من الضيق والعناء.
ولذلك ينبغي البعد عن هذه البطالة، وعلى الإنسان أن يبحث عن الكسب الطيب الذي يصون به نفسه وماء وجهه عن سؤال الناس أو الحاجة إلى الناس، قيل لـ إبراهيم بن أدهم -وهو من عباد الناس الصالحين وقد كان في البحر في سفينة، فأصابتهم الريح، فمالت السفينة وكادت أن تغرق، ثم نجاهم الله عز وجل، فقيل: (يا إبراهيم! ألم تر إلى هذه الشدة وهذه الكربة؟ فقال رحمه الله: إنما الشدة الحاجة إلى الناس).
فالذي لا يتعود على الكسب بيده، ولا يتعود على طلب رزقه، وسؤال الله المعونة، فإنه سيكون في أسوأ الأحوال، فليس هناك أشد من أن يقف الإنسان أمام الغير ليسأله حاجة من حوائج الدنيا، فنسأل الله العظيم ألا يجعل لنا ولكم إلى لئيم حاجة، والله تعالى أعلم.