أحكام النساء - مستخلصا من كتب الألباني

كِتَابُ اَلْحَجِّ
ما يجوز فعله للمحرمة وما لا يجوز
قال رحمه الله:
وأما المرأة فلا تنزع شيئا من لباسها المشروع إلا أنها لا تشد على وجهها النقاب (1) والبرقع أواللثام أوالمنديل ولا تلبس القفازين (2) وقد قال صلى الله عليه وسلم:
" لا تنتقب المرأة المحرمة ولا تلبس القفازين " (3) ويجوز للمرأة أن تستر وجهها بشيء كالخمار أوالجلباب تلقيه على رأسها وتسدله على وجهها. وإن كان يمس الوجه على الصحيح ولكنها لا تشده عليها كما قال ابن تيمية رحمه الله تعالى.
[مناسك الحج ص12]
__________
(1) 1 - هو القناع على مازن الأنف وهو على وجوه: إذا أدنت المرأة نقابها إلى عينها فتلك الوصوصة أو البرقع فإن أنزلته إلى المحجر فهو النقاب فإن كان على طرف الأنف فهو اللثام. وسمي نقاب المرأة لأنه يستر نقابها أي لونها بلون النقاب. انتهى ملخصا من " لسان العرب " (2/ 265 266).
(2) 2 - قال شيخ الإسلام ابن تيمية في " منسكه " (ص 365): (والقفازات غلاف يصنع لليد كما يفعله حملة البزاة ". والبزاة جمع باز. وهو نوع من الصقور يستخدم في الصيد
(3) 3 - متفق عليه " صحيح أبي داود " (1600)

(1/158)


عمرة الحائض
1984 - " طوافك بالبيت، وبين الصفا والمروة يكفيك لحجك وعمرتك ". ... [الصحيحة]
قال رحمه الله:
أخرجه مسلم (4/ 34) وأبو داود (1897) عن عبد الله بن أبي نجيح عن عطاء- وقال مسلم: عن مجاهد - عن عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لها:
فذكره. لفظ عطاء، ولفظ مجاهد: أنها حاضت بـ (سرف)، فتطهرت بعرفة، فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: " يجزيء عنك طوافك بالصفا والمروة عن حجك وعمرتك ". ثم أخرج مسلم وأحمد (6/ 124) من طريق عبد الله بن طاووس عن أبيه عن عائشة " أنها أهلت بعمرة، فقدمت ولم تطف بالبيت حتى حاضت، فنسكت المناسك كلها وقد أهلت بالحج، فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم يوم (النفر): " يسعك طوافك لحجك وعمرتك ". فأبت، فبعث بها مع عبد الرحمن إلى التنعيم، فاعتمرت بعد الحج ".
قلت: فالعمرة بعد الحج إنما هي للحائض التي لم تتمكن من الإتيان بعمرة الحج بين يدي الحج لأنها حاضت كما علمت من قصة عائشة هذه، فمثلها من النساء إذا أهلَّت بعمرة الحج كما فعلت هي رضي الله عنها، ثم حال بينها وبين إتمامها الحيض، فهذه يشرع لها العمرة بعد الحج، فما يفعله اليوم جماهير الحجاج من تفاهتهم على العمرة بعد الحج، مما لا نراه

(1/159)


مشروعا؛ لأن أحدا من الصحابة الذين حجوا معه صلى الله عليه وسلم لم يفعلها. بل إنني أري أن هذا من تشبه الرجال بالنساء، بل بالحيض منهن! ولذلك جريت على تسمية هذه العمرة بـ (عمرة الحائض) بيانا للحقيقة.
2626 - " أردف أختك عائشة فأعمرها من التنعيم، فإذا هبطت الأكمة فمرها فلتحرم، فإنهاعمرة متقبلة ". [الصحيحة]
أخرجه الحاكم (3/ 477) من طريق داود بن عبد الرحمن العطار: حدثني عبد الله بن عثمان بن خثيم عن يوسف بن ماهك عن حفصة بنت عبد الرحمن بن أبي بكر عن أبيها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: فذكره. وسكت عنه. وقال الذهبي: " قلت: سنده قوي ".
قلت: وقد أخرجه أحمد أيضا (1/ 198): حدثنا داود بن مهران الدباغ: حدثنا داود - يعني العطار - به. وأخرجه أبو داود أيضا وغيره وهو في " صحيح أبي داود " برقم (1569). وقد أخرجه البخاري (3/ 478) ومسلم (4/ 35) من طريق أخرى عن عبد الرحمن بن أبي بكر مختصرا.
وكذلك أخرجاه من حديث عائشة نفسها، وفي رواية لهما عنها قالت: فاعتمرت، فقال:
" هذه مكان عمرتك ". وفي أخرى: بنحوه قال: " مكان عمرتي التي أدركني الحج ولم أحصل منها ". وفي أخرى: " مكان عمرتي التي أمسكت عنها ". وفي أخرى: "جزاء بعمرة الناس التي اعتمروا ". رواها مسلم. وفي ذلك إشارة إلى سبب أمره صلى الله عليه وسلم لها بهذه العمرة بعد الحج. وبيان ذلك: أنها كانت أهلت بالعمرة في حجتها مع

(1/160)


النبي صلى الله عليه وسلم، إما ابتداءً أو فسخا للحج إلى العمرة (على الخلاف المعروف)، فلما قدمت (سرف) - مكان قريب من مكة -حاضت، فلم تتمكن من إتمام عمرتها والتحلل منها بالطواف حول البيت، لقوله صلى الله عليه وسلم لها - وقد قالت له: إني كنت أهللت بعمرة فكيف أصنع بحجتي؟
قال: - " انقضي رأسك وامتشطي وأمسكي عن العمرة وأهلي بالحج، واصنعي ما يصنع الحاج غير أن لا تطوفي ولا تصلي حتى تطهري. (وفي رواية: فكوني في حجك، فعسى الله أن يرزقكيها) "، ففعلت، ووقفت المواقف، حتى إذا طهرت طافت بالكعبة والصفا والمرة، وقال لها صلى الله عليه وسلم كما في حديث جابر: "قد حللت من حجك وعمرتك جميعا "، فقالت: يا رسول الله إني أجد في نفسي أني لم أطف بالبيت حتى حججت، وذلك يوم النفر، فأبت، وقالت: أيرجع الناس بأجرين وأرجع بأجر؟ وفي رواية عنها: يصدر الناس بنسكين وأصدر بنسك واحد؟ وفي أخرى: يرجع الناس (وعند أحمد (6/ 219): صواحبي، وفي أخرى له (6/ 165 و266): نساؤك) بعمرة وحجة، وأرجع أنا بحجة؟ وكان صلى الله عليه وسلم رجلا سهلا إذا هويت الشيء تابعها عليه، فأرسلها مع أخيها عبد الرحمن، فأهلت بعمرة من التنعيم.
فقد تبين مما ذكرنا من هذه الروايات - وكلها صحيحة -أن النبي صلى الله عليه وسلم إنما أمرها بالعمرة عقب الحج بديل ما فاتها من عمرة التمتع بسبب حيضها، ولذلك قال العلماء في تفسير قوله صلى الله عليه وسلم المتقدم: " هذه مكان عمرتك " أي: العمرة المنفردة التي حصل لغيرها التحلل منها بمكة، ثم أنشأوا الحج مفردا.

(1/161)


إذا عرفت هذا، ظهر لك جليا أن هذه العمرة خاصة بالحائض التي لم تتمكن من إتمام عمرة الحج، فلا تشرع لغيرها من النساء الطاهرات، فضلا عن الرجال.
ومن هنا يظهر السر في إعراض السلف عنها، وتصريح بعضهم بكراهتها، بل إن عائشة نفسها لم يصح عنها العمل بها، فقد كانت إذا حجت تمكث إلى أن يهل المحرم ثم تخرج إلى الجحفة فتحرم منها بعمرة، كما في " مجموع الفتاوى " لابن تيمية (26/ 92). وقد أخرجه البيهقي في " السنن الكبرى " (4/ 344) بمعناه عن سعيد بن المسيب أن عائشة رضي الله عنها كانت تعتمر في آخر ذي الحجة من الجحفة. وإسناده صحيح. وأما ما رواه مسلم (4/ 36) من طريق مطر: قال أبو الزبير: فكانت عائشة إذا حجت صنعت كما صنعت مع نبي الله صلى الله عليه وسلم. ففي ثبوته نظر، لأن مطرا هذا هو الوراق فيه ضعف من قبل حفظه، لاسيما وقد خالفه الليث بن سعد وابن جريج كلاهما عن أبي الزبير عن جابر بقصة عائشة، ولم يذكرا فيها هذا الذي رواه مطر، فهو شاذ أو منكر، فإن صح ذلك فينبغي أن يحمل على ما رواه سعيد بن المسيب، ولذلك قال شيخ الإسلام ابن تيمية في " الاختيارات العلمية " (ص 119): " يكره الخروج من مكة لعمرة تطوع، وذلك بدعة لم يفعله النبي صلى الله عليه وسلم، ولا أصحابه على عهده، لا في رمضان ولا في غيره، ولم يأمر عائشة بها، بل أذن لها بعد المراجعة تطييبا لقلبها، وطوافه بالبيت أفضل من الخروج اتفاقا، ويخرج عند من لم يكرهه على سبيل الجواز ".
وهذا خلاصة ما جاء في بعض أجوبته المذكورة في "مجموع الفتاوى " (26/ 252 - 263)، ثم قال (26/ 264): "

(1/162)


ولهذا كان السلف والأئمة ينهون عن ذلك، فروى سعيد بن منصور في " سننه " عن طاووس - أجل أصحاب ابن عباس - قال: " الذين يعتمرون من التنعيم ما أدري أيؤجرون عليها أم يعذبون؟ قيل: فلم يعذبون؟ قال: لأنه يدع الطواف بالبيت، ويخرج إلى أربعة أميال ويجيء، وإلى أن يجيء من أربعة أميال [يكون] قد طاف مائتي طواف، وكلما طاف بالبيت كان أفضل من أن يمشي في غير شيء ". وأقره الإمام أحمد. وقال عطاء بن السائب: " اعتمرنا بعد الحج، فعاب ذلك علينا سعيد بن جبير ". وقد أجازها آخرون، لكن لم يفعلوها ... ".
وقال ابن القيم رحمه الله في " زاد المعاد " (1/ 243): " ولم يكن صلى الله عليه وسلم في عمره عمرة واحدة خارجا من مكة كما يفعل كثير من الناس اليوم، وإنما كانت عمره كلها داخلا إلى مكة، وقد أقام بعد الوحي بمكة ثلاث عشرة سنة، لم ينقل عنه أنه اعتمر خارجا من مكة في تلك المدة أصلا، فالعمرة التي فعلها رسول الله صلى الله عليه وسلم وشرعها فهي عمرة الداخل إلى مكة، لا عمرة من كان بها فيخرج إلى الحل ليعتمر، ولم يفعل هذا على عهده أحد قط إلا عائشة وحدها من بين سائر من كان معه، لأنها كانت قد أهلت بالعمرة فحاضت، فأمرها فأدخلت الحج على العمرة وصارت قارنة، وأخبرها أن طوافها بالبيت وبين الصفا والمروة قد وقع عن حجتها وعمرتها، فوجدت في نفسها أن ترجع صواحباتها بحج وعمرة مستقلين فإنهن كن متمتعات ولم يحضن ولم يقرن، وترجع هي بعمرة في ضمن حجتها، فأمر أخاها أن يعمرها من التنعيم تطييبا لقلبها، ولم يعتمر هو من التنعيم في تلك الحجة ولا أحد ممن كان معه " اهـ.

(1/163)


قلت: وقد يشكل على نفيه في آخر كلامه، ما في رواية للبخاري (3/ 483 - 484) من طريق أبي نعيم: حدثنا أفلح بن حميد عن القاسم عن عائشة، فذكر القصة -، وفيه: " فدعا عبد الرحمن فقال: اخرج بأختك الحرم فلتهل بعمرة، ثم افرغا من طوافكما ".
لكن أخرجه مسلم (4/ 31 - 32) من طريق إسحاق بن سليمان عن أفلح به، إلا أنه لم يذكر: " ثم افرغا من طوافكما ". وإنما قال: " ثم لتطف بالبيت ". فأخشى أن يكون تثنية الطواف خطأ من أبي نعيم، فقد وجدت له مخالفا آخر عند أبي داود (1/ 313 - 314) من رواية خالد - وهو الحذاء - عن أفلح به نحو رواية مسلم، فهذه التثنية شاذة في نقدي لمخالفة أبي نعيم وتفرده بها دون إسحاق بن سليمان وخالد الحذاء وهما ثقتان حجتان. ثم وجدت لهما متابعا آخر وهو أبو بكر الحنفي عند البخاري (3/ 328) وأبي داود.
ويؤيد ذلك أنها لم ترد لفظا ولا معنى في شيء من طرق الحديث عن عائشة، وما أكثرها في " مسند أحمد " (6/ 43 و 78 و 113 و 122 و 124 و 163 و 165 و 177 و 191 و219 و 233 و 245 و 266 و 273) وبعضها في " صحيح البخاري " (3/ 297 و 324 و464 و 477 - 478 و 482 و 4/ 99 و 8/ 84) ومسلم (4/ 27 - 34) وكذا لم ترد في حديث جابر عند البخاري (3/ 478 - 480) ومسلم (4/ 35 - 36) وأحمد (3/ 309 و 366) وكذلك لم ترد في حديث الترجمة لا من الوجه المذكور أولا، ولا من الطريق الأخرى عند الشيخين وغيرهما. نعم في رواية لأحمد (1/ 198) من طريق ابن أبي نجيح أن أباه حدثه أنه أخبره من سمع عبد الرحمن بن أبي بكر يقول:

(1/164)


قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ... فذكره نحوه. إلا أنه قال: " فأهلا وأقبلا، وذلك ليلة الصدر "، لكن الواسطة بين أبي نجيح وعبد الرحمن لم يسم، فهو مجهول، فزيادته منكرة، وإن سكت الحافظ في " الفتح " (3/ 479) على زيادته التي في آخره: " وذلك ليلة الصدر "، ولعل ذلك لشواهدها.
والله أعلم.
وجملة القول: أنه لا يوجد ما ينفي قول ابن القيم المتقدم أنه لم يعتمر بعد الحج أحد ممن كان مع النبي صلى الله عليه وسلم سوى عائشة، ولذلك لما نقل كلامه مختصرا الحافظ في " الفتح " لم يتعقبه إلا بقوله (3/ 478): " وبعد أن فعلته عائشة بأمره دل على مشروعيته "! ومن تأمل ما سقناه من الروايات الصحيحة، وما فيها من بيان سبب أمره صلى الله عليه وسلم إياها بذلك تجلى له يقينا أنه ليس فيه تشريع عام لجميع الحجاج، ولو كان كما توهم الحافظ لبادر الصحابة إلى الإتيان بهذه العمرة في حجته صلى الله عليه وسلم وبعدها، فعدم تعبدهم بها، مع كراهة من نص على كراهتها من السلف كما تقدم لأكبر دليل على عدم شرعيتها.
اللهم إلا من أصابها ما أصاب السيدة عائشة رضي الله عنها من المانع من إتمام عمرتها. والله تعالى ولي التوفيق. وإن مما ينبغي التنبه له أن قول ابن القيم المتقدم: " إنما كانت عمره كلها داخلا إلى مكة "، لا ينافيه اعتماره صلى الله عليه وسلم من (الجعرانة)، كما توهم البعض لأنها كانت مرجعه من الطائف، فنزلها، ثم قسم غنائم حنين بها، ثم اعتمر منها.

(1/165)


التلبية
قال رحمه الله:
17 - والنساء في التلبية كالرجال لعموم الحديثين السابقين فيرفعن أصواتهن ما لم يخش الفتنة ولأن عائشة كانت ترفع صوتها حتى يسمعها الرجال فقال أبوعطية: سمعت عائشة تقول: إني لأعلم كيف كانت تلبية رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم سمعتها تلبي بعد ذلك: " لبيك اللهم لبيك. . . " إلخ (1) ... . وقال القاسم بن محمد: خرج معاوية ليلة النفر فسمع صوت تلبية فقال: من هذا؟ قيل: عائشة أم المؤمنين اعتمرت من التنعيم. فذكر ذلك لعائشة فقالت: لوسألني لأخبرته (2) ... .

حكم تغطية الوجه
1022 - قال صلى الله عليه وسلم: (لا تنتقب المرأة المحرمة ولا تلبس القفازين). رواه أحمد والبخاري). صحيح. وهو قطعة عن حديث ابن عمر المتقدم برقم (1012).
__________
(1) 1 - أخرجه البخاري (769 مختصره) والطيالسي (1513) وأحمد (6/ 32 و100 و180 و243)
(2) 2 - رواه ابن أبي شيبة كما في " المحلى " (7/ 94 95) وسنده صحيح وقال شيخ الإسلام في " منسكه ": (والمرأة ترفع صوتها بحيث تسمع رفيقاتها ويستحب الإكثار منها عند اختلاف الأحوال. . .)

(1/166)


1023 - (ماروي عن أسماء: (أنها تغطيه)). ص 246 صحيح. أخرجه مالك (1/ 328 / 16) عن هشام بن عروة عن فاطمة بنت المنذر أنها قالت: (كنا نخمر وجوهنا ونحن محرمات ونحن مع أسماء بنت أبي بكر الصديق).
قلت: وهذا إسناد صحيح. ورواه على بن مسهر عن هشام بن عروة عن فاطمة بنت المنذر عن أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما قالت: (كنا نغطي وجوهنا من الرجال وكنا نمشط قبل ذلك في الاحرام). أخرجه الحاكم (1/ 454) وقال: (صحيح على شرط الشيخين). ووافقه الذهبي وهو كما قالا. وله شاهد من حديث عائشة قالت: (المحرمة تلبس من الثياب ما شاءت إلا ثوبا مسه ورس أو زعفران ولا تتبرقع ولا تتلثم وتسدل الثوب على وجهها إن شاءت). أخرجه البيهقى (5/ 47) بسند صحيح. قلت: وروى ابن الجارود (418) عنها مختصرا بلفظ: (تلبس المحرمة ما شاءت إلا البرقع). وفي سنده يزيد ابن أبى زياد وفيه ضعف كما يأتي في الحديث بعده.
[إرواء الغليل]

بحث قيم في هذه المسألة:
فأقول وبالله وحده أستعين:
لم ينطق بكلمة " الإجماع " في هذه المسألة أحد من أهل العلم فيما بلغني وأحاط به علمي إلا هذا الشيخ وما حمله على ذلك إلا شدته وتعصبه لرأيه وإغماضه لعينيه عن كل ما يخالفه من النصوص فإن الخلاف فيها قديم لا يخلو منه كتاب من الكتب المتخصصة في بحث الخلافيات ولو كان

(1/167)


في وقتي متسع لألفت رسالة خاصة أرد فيها ما تيسر لي من أقوالهم في هذه المسألة ,ولكن لا بد لي من أن أنقل هنا بعضها مما يدل على بطلان الإجماع الذي ادعاه.
فأقول:
الأول: قال ابن حزم في كتابه " مراتب الإجماع " (ص 29) ما نصه: واتفقوا على أن شعر الحرة وجسمها حاشا وجهها ويديها عورة واختلفوا في الوجه واليدين حتى أظفارهما أعورة هي أم لا؟
وأقره شيخ الإسلام ابن تيمية في تعليقه عليه ولم يتعقبه كما فعل في بعض المواضع الأخرى.
الثاني: قال ابن هبيرة الحنبلي في " الإفصاح " (1/ 118 - حلب): واختلفوا في عورة المرأة الحرة وحدها فقال أبو حنيفة: كلها عورة إلا الوجه والكفين والقدمين. وقد روي عنه أن قدميها عورة وقال مالك والشافعي: كلها عورة إلا وجهها وكفيها. وهو قول أحمد في إحدى روايتيه والرواية الأخرى: كلها عورة إلا وجهها خاصة. وهي المشهورة واختارها الخرقي وفاتته رواية ثالثة وهي: أنها كلها عورة حتى ظفرها. كما يأتي مع بيان رد ابن عبد البر لها قريبا.
الثالث: جاء في كتاب الفقه على المذاهب الأربعة " تأليف لجنة من العلماء منهم الجزيري في بحث حد عورة المرأة (1/ 167 - الطبعة الثانية): أما إذا كانت بحضرة رجل أجنبي أو امرأة غير مسلمة فعورتها جميع بدنها ما عدا الوجه والكفين فإنهما ليسا بعورة ,فيحل النظر لهما عند أمن الفتنة "

(1/168)


ثم استثنى من ذلك مذهب الشافعية وفيه نظر ظاهر لما تقدم في " الإفصاح " وغيره مما تقدم ويأتي.
الرابع: قال ابن عبد البر في " التمهيد " (6/ 364) - وقد ذكر أن المرأة كلها عورة إلا الوجه والكفين وأنه قول الأئمة وأصحابهم وقول الأوزاعي وأبي ثور -:
" على هذا أكثر أهل العلم وقد أجمعوا على أن المرأة تكشف وجهها في الصلاة والإحرام وقال أبو بكر بن عبد الرحمن بن الحارث: كل شيء من المرأة حتى ظفرها "
ثم قال ابن عبد البر:
هذا خارج عن أقاويل أهل العلم لإجماع العلماء على أن للمرأة أن تصلي المكتوبة ويداها ووجهها مكشوف ذلك كله منها تباشر الأرض به وأجمعوا على أنها لا تصلى متنقبة ولا عليها أن تلبس قفازين في الصلاة (1) ... وفي هذا أوضح الدلائل على أن ذلك عورة, وجائز أن ينظر إلى ذلك منها كل من نظر إليها بغير ريبة ولا مكروه وأما النظر للشهوة فحرام تأملها من فوق ثيابها لشهوة فكيف بالنظر إلى وجهها مسفرة وقد روي نحو قول أبي بكر هذا عن أحمد بن حنبل (2).
__________
(1) 1 - قلت: وهذا مما خالف فيه التويجري فأوجب على المرأة أن تستر وجهها وكفيها حتى ظفرها في الصلاة إذا كانت تصلي بحضرة الأجانب دون حجة سوى مجرد الدعوى مع مخالفته ما كان عليه النساء في عهده صلى الله عليه وسلم كما سترى في الكتاب في قصة الرجل الذي كان ينظر إلى المرأة في الصلاة (ص 70) مع مخالفته في ذلك لقول ابن عبد البر هذا والإجماع الذي نقله
(2) 2 - قلت: قول أحمد هذا رواه أبو داود أيضا في " مسائل الإمام أحمد " (ص 40)

(1/169)


قلت: وقد كنت نقلت فيما يأتي من الكتاب (ص 89) عن ابن رشد: أن مذهب أكثر العلماء على أن وجه المرأة ليس بعورة وعن النووي مثله وأنه مذهب الأئمة الثلاثة ورواية عن أحمد فبعض هذه الأقوال من هؤلاء العلماء الكبار كافية لإبطال دعوى الشيخ الإجماع فكيف بها مجتمعة؟ وإذا كان الإمام أحمد يقول فيما صح عنه: " من ادعى الإجماع فهو كاذب وما يدريه لعل الناس اختلفوا؟ ". إذا كان هذا قوله فيمن لا يدري الخلاف فماذا كان يقول يا ترى فيمن يدري الخلاف ثم يدعي الإجماع؟
فإن قيل: فمن أين يكون له أن الشيخ يعلم الخلاف المذكور ومع ذلك فهو يتجاهله ويكابر؟
فأقول: علمت ذلك من كتابه الذي رد عليه ثانيا.
أما الأول فإنه نقل (ص 157) عن الحافظ ابن كثير: أن الجمهور فسر آية الزينة بالوجه والكفين أعاد ذلك (ص 234).
وأما الآخر فقد ذكرت في غير موضع من كتابي من قال من العلماء بخلاف إجماعه المزعوم مثل ابن جرير وابن رشد والنووي ومنهم ابن بطال (1) ... الذي نقلت عنه فيما يأتي في الكتاب (ص 63) أنه استدل بحديث الخثعمية أن ستر المرأة وجهها ليس فرضا.
__________
بلفظ: " إذا صلت المرأة لا يرى منها ولا ظفرها تغطي كل شيء منها " وتبناه الشيخ التويجري في كتابه ولم يلتفت إلى الإجماع الذي ذكره ابن عبد البر وعليه العلم من عهد النبي صلى الله عليه وسلم إلى اليوم.
(1) 1 - هو العلامة علي بن خلف القرطبي شرح البخاري في مجلدات مات سنة (449)

(1/170)


تأويل الشيخ لكلام العلماء وتعطيله إياه:
فتجاهل الشيخ ذلك كله ولم يتعرض له بجواب اللهم إلا جوابه الذي يؤكد لكل القراء أنه مكابر عنيد وهو قوله (ص 236):
إن المذهب الذي نسبه الألباني لأكثر العلماء - ومنهم أبو حنيفة ومالك والشافعي وأحمد في رواية عنه - إنما هو في الصلاة إذا كانت المرأة ليست بحضرة الرجال الأجانب
وقلده في هذا القول جمع ممن يمشي في ركابه كابن خلف في " نظارته " وأخيرا محمد بن إسماعيل الإسكندراني في " عودة الحجاب " (3/ 228) وغيرهما كثير والله المستعان.
ونظرة سريعة في قول ابن بطال المذكور يكفي في إبطال جواب الشيخ هداه الله وهذا إن دل على شيء فإنما يدل على أن الشيخ خريت ماهر - ولا فخر - في تضليل قرائه وصرفهم عن الاستفادة من أقوال علمائهم بتأويله إياها وإبطال دلالاتها الصريحة تماما كما يفعل أهل الأهواء بتعطيلهم لنصوص الكتاب والسنة وأقوال الأئمة المتعلقة بالأسماء والصفات الإلهية وهذا شيء يعرفه الشيخ منهم فيبدو أنه قد سرت عدواهم إليه - حفظه الله - ولو في مجال الأحكام هداه الله.
وتأكيدا لهذا الذي ذكرت لا يسعني هنا إلا أن أذكر مذاهب الأئمة الذين افترى الشيخ عليهم بتأويله لكلامهم على خلاف مرادهم فأقول:
__________
كما في " سير الذهبي " (18/ 47)

(1/171)


أولا: مذهب أبي حنيفة:
قال الإمام محمد بن الحسن في " الموطأ " (ص 205 بشرح التعليق الممجد - هندية):
ولا ينبغي للمرأة المحرمة أن تنتقب فإن أرادت أن تغطي وجهها فلتستدل الثوب سدلا من فوق خمارها. وهو قول أبي حنيفة والعمامة من فقهائنا.
وقال أبو جعفر الطحاوي في " شرح المعاني " (2/ 392 - 3):
أبيح للناس أن ينظروا إلى ما ليس بمحرم عليهم من النساء إلى وجوههن وأكفهن وحرم ذلك عليهم من أزواج النبي صلى الله عليه وسلم وهو قول أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد رحمه الله تعالى.
ثانيا: مذهب مالك "
روى عنه صاحبه عبد الرحمن ابن القاسم المصري في " المدونة " (2/ 221) نحو قول الإمام محمد في المحرمة إذا أرادت أن تسدل على وجهها وزاد في البيان فقال:
فإن كانت لا تريد سترا فلا تسدل.
ونقله ابن عبد البر في " التمهيد " (15/ 111) وارتضاه
وقال بعد أن ذكر تفسير ابن عباس وابن عمر لآية: (إلا ما ظهر منها) بالوجه والكفين (6/ 369):
وعلى قول ابن عباس وابن عمر الفقهاء في هذا الباب. (قال:) فهذا ما جاء في المرأة وحكمها في الاستتار في صلاتها وغير صلاتها.

(1/172)


تأمل قوله: " وغير صلاتها ".
وفي " الموطأ " رواية يحيى (2/ 935):
سئل مالك: هل تأكل المرأة مع غير ذي محرم منها أو مع غلامها؟ قال مالك: ليس بذلك بأس إذا كان ذلك على وجه ما يعرف للمرأة أن تأكل معه من الرجال قال: وقد تأكل المرأة مع زوجها ومع غيره ممن يؤاكله.
قال الباجي في " المنتقى شرح الموطأ " (7/ 252) عقب هذا النص:
يقتضي أن نظر الرجل إلى وجه المرأة وكفيها مباح لأن ذلك يبدو منها عند مؤاكلتها.
ثالثا: مذهب الشافعي:
قال في كتابه " الأم " (2/ 185):
المحرمة لا تخمر وجهها إلا أن تريد أن تستر وجهها فتجافي.
وقال البغوي في " شرح السنة " (9/ 23):
فإن كانت أجنبية حرة فجميع بدنها عورة في حق الرجل لا يجوز له أن ينظر إلى شيء منها إلا الوجه واليدين إلى الكوعين وعليه غض البصر عن النظر إلى وجهها ويديها أيضا عند خوف الفتنة.
فهل هذه النصوص - أيها الشيخ - في الصلاة؟
رابعا: مذهب أحمد:
روى ابن صالح في " مسائله " (1/ 319) عنه قال:

(1/173)


المحرمة لا تخمر وجهها ولا تنتقب, والسدل ليس به بأس تسدل على وجهها.
قلت: فقوله: " ليس به بأس " يدل على جواز السدل فبطل قول الشيخ بوجوبه كم بطل تقييده للرواية الأخرى عن الإمام الموافقة لقول الأئمة الثلاثة بأن وجهها وكفيها ليسا بعورة كما تقدم في كلام ابن هبيرة وقد أقرها ابن تيمية في " الفتاوى " (15/ 371) وهو الصحيح من مذهبه كما تقدم عن " الإنصاف " وهو اختيار ابن قدامة كما تقدم في " البحث الأول " وعلل ذلك بقوله:
لو كان الوجه والكفان عورة لما حرم سترهما بالنقاب لأن الحاجة تدعو إلى كشف الوجه للبيع والشراء والكفين للأخذ والإعطاء.
ومثل هذا التعليل ذكر في كثير من الكتب الفقهية وغيرها ك " البحر الرائق " لابن نجيم المصري (1/ 284) وتقدم نحوه عن الشوكاني في أول هذا " البحث الخامس " (27).
ومما سبق يتبن للقراء الكرام أن أقوال الأئمة الأربعة متفقة على تخيير المرأة المحرمة في السدل على وجهها وعدم إيجاب ذلك عليها خلافا للمتشددين والمقلدين هذا من جهة.
ومن جهة أخرى فقد دل قول مالك في " الموطأ " وقول ابن عبد البر: " وغير صلاتها " على بطلان تأويل التويجري المذكور وكذلك تخيير الأئمة المحرمات بالسدل لأن ذلك خارج الصلاة.

(1/174)


فأريد الآن أن أبين لقرائنا الأفاضل علما كتمه المذكورون - أو جهلوه وأحلاهما مر - أن سلف الأئمة رحمهم الله تعالى - فيما سبق - أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها قولا وفعلا.
أما القول: فهو:
(صحيح) " المحرمة تلبس من الثياب ما شاءت إلا ثوبا مسه ورس أو زعفران ولا تتبرقع لا تلثم وتسدل الثوب على وجهها إن شاءت " (1)
أخرجه البيهقي في " سننه " (5/ 47) بسند صحيح وعزاه إليه الحافظ في " الفتح " (4/ 52 - 53) ساكتا عليه فهو ثابت عنده فهو شاهد قوي لحديثها المتقدم في هذا " البحث الخامس " صفحة (27 - 28): " يا أسماء إذا بلغت المرأة المحيض. . . ". وكذلك يشهد له حديثها الآتي.
وأما الفعل فهو ما جاء في حديث عمرتها من التنعيم مع أخيها عبد الرحمن قالت:
" فأردفني خلفه على جمل له قالت: فجعلت أرفع خماري أحسره عن عنقي فيضرب رجلي بعلة الراحلة (2) قلت له: وهل ترى من أحد ..... "
__________
(1) 1 - هذا الأثر أعرض الشيخ عن ذكره لأنه حجة عليه ولما ذكره مؤلف ما سماه ب " فصل الخطاب " (ص 45) من رواية البيهقي هذه أسقط منها موضع الحجة عليهما أيضا: " إن شاءت " لأنها في عدم الوجوب ومن جهله أنه يظن أن الأثر دون هذه الزيادة يفيد الوجوب وإنما يفيد الجواز والزيادة تؤكده وقلده في الإسقاط - مع الأسف - الأخ الإسكندراني (3/ 304) مع أنه عزاه للبيهقي بالجزء والصفحة فهل وصل التقليد إلى هذا الحد أم هو الاشتراك في إثم الإسقاط وكتم الحقيقة؟
(2) 2 - أي سببها والمعنى: أنه يضرب رجل أخته بعود في يده عامدا لها - في صورة من يضرب الراحلة - حين تكشف خمارها عن عنقها غيرة عليها. كذا حققه النووي في

(1/175)


(صحيح).
أخرجه مسلم (4/ 34) والنسائي في " السنن الكبرى " (2/ 223 - المصورة) والطيالسي أيضا في " مسنده " (1561) لكن بلفظ:
فجعلت أحسر عن خماري فتناولني بشيء من يده.
فسقط منه قولها: " عنقي " ورواية مسلم أصح سندا وأرجح متنا كما بينته في " المقدمة " ولذلك لم يعزه الشيخ إلى مسلم وتبعه على ذلك بعض المقلدة - كالمدعو درويش في " فصله " (ص 43) -؛لأنها حجة عليهم من جهة أن الخمار لا يغطي الوجه لغة كما تقدم وكونها معتمرة فلا يجوز لها أن تلثم به كما قالت آنفا فتغطيتها لوجهها بالسدل - كما في بعض الروايات - فعل منها نقول به ولكن لا يدل على الوجوب خلافا لزعم المخالفين.
قلت: فبطل بهذا البيان تأويل الشيخ المذكور لمخالفته أقوال أئمة الفقه المصرحة بجواز الكشف عن الوجه في الصلاة وخارجها بحضرة الرجال ولتعليل بعضهم الجواز بحاجة المرأة إلى البيع والشراء والأخذ والإعطاء وبجواز المؤاكلة أيضا وكل هذه الأقوال يحملها الشيخ على الصلاة وليس بحضرة الرجال فما أبطله من تأويل بل تعطيل. فإنا لله وإنا إليه راجعون.
[الرد المفحم ص 30]
__________
" شرح مسلم "

(1/176)