اختلاف
الأئمة العلماء بَاب الْجِهَاد
اتَّفقُوا على أَن الْجِهَاد فرض على الْكِفَايَة إِذا قَامَ بِهِ قوم من
الْمُسلمين سقط عَن
(2/299)
باقيهم، وَلم يأثموا بِتَرْكِهِ.
وَاتَّفَقُوا على أَن من لم يتَعَيَّن عَلَيْهِ الْجِهَاد فَإِنَّهُ لَا
يخرج إِلَّا بِإِذن أَبَوَيْهِ إِن كَانَا حيين مُسلمين.
وَكَذَلِكَ إِذا كَانَ عَلَيْهِ دين فَلَيْسَ لَهُ أَن يُسَافر إِلَّا
بِإِذن غَرِيمه.
وَاتَّفَقُوا على أَنه يجب على أهل كل ثغر أَن يقاتلوا من يليهم من
الْكفَّار، فَإِن عجزوا ساعدهم من يليهم وَيكون ذَلِك على الْأَقْرَب
فَالْأَقْرَب، مِمَّن يَلِي ذَلِك الثغر.
وَاتَّفَقُوا على أَنه إِذا التقى الزحفان وَجب على الْمُسلمين الْحَاضِرين
الثَّبَات وَحرم عَلَيْهِم الِانْصِرَاف والفرار إِذْ قد تعين عَلَيْهِم،
إِلَّا أَن يكون متحرفا لقِتَال أَو متحيزا إِلَى فِئَة أَو يكون الْوَاحِد
مَعَ ثَلَاثَة أَو الْمِائَة مَعَ ثلثمِائة فَإِنَّهُ أُبِيح لَهُم
الْفِرَار، وَلَهُم الثَّبَات لَا سِيمَا مَعَ غَلَبَة ظنهم بالظهور.
(2/300)
وَاتَّفَقُوا فِيمَا أعلم على وجوب
الْهِجْرَة عَن ديار الْكفْر لمن قدر على ذَلِك.
وَاخْتلفُوا فِي جَوَاز إِتْلَاف مواشي أهل دَار الْحَرْب إِذا أَخذهَا
الْمُسلمُونَ وَلم يُمكنهُم إخْرَاجهَا إِلَى دَار الْإِسْلَام وَخَافَ
أَهلهَا اخذها مِنْهُم.
فَقَالَ مَالك وَأَبُو حنيفَة: يجوز إتلافها إِذا خَافُوا أَن يَأْخُذهَا
الْمُشْركُونَ فَيذْبَح الْحَيَوَان وَيحرق الْمَتَاع وَيكسر السِّلَاح.
وَقَالَ أَحْمد وَالشَّافِعِيّ: لَا يجوز عقرهَا إِلَّا لأكله.
وَاتَّفَقُوا على أَن النِّسَاء مِنْهُم مَا لم يقاتلن، فَإِنَّهُم لَا
يقتلن إِلَّا أَن يكن ذَوَات رَأْي قتلن.
وَاتَّفَقُوا على أَنه إِذا كَانَت للأعمى والمقعد وَالشَّيْخ الفاني،
وَأهل الصوامع مِنْهُم رَأْي وتدبير وَجب قَتلهمْ.
وَاخْتلفُوا فيهم إِذا لم يكن لَهُم رَأْي وتدبير.
فَقَالَ أَحْمد وَأَبُو حنيفَة وَمَالك: لَا يجوز قَتلهمْ.
وَعَن الشَّافِعِي قَولَانِ، أظهرهمَا: أَنه يجوز قَتلهمْ.
وَاخْتلفُوا فِيمَن لم تبلغه الدعْوَة هَل على قَاتله دِيَة؟
(2/301)
فَقَالَ أَبُو حنيفَة وَمَالك وَأحمد: لَا
تلْزمهُ الدِّيَة.
وَقَالَ الشَّافِعِي: يلْزم قَاتله الضَّمَان، فَإِن كَانَ الْمَقْتُول
ذِمِّيا فثلث الدِّيَة، وَإِن كَانَ مجوسيا فثمانمائة دِرْهَم.
وَاخْتلفُوا فِي العَبْد الْمُسلم إِذا أَمن شخصا.
فَقَالَ الشَّافِعِي وَأحمد وَمَالك: يمْضِي أَمَانه سَوَاء أذن لَهُ
سَيّده فِي الْقِتَال أم لم يَأْذَن لَهُ.
وَقَالَ أَبُو حنيفَة: لَا يَصح أَمَانه إِلَّا أَن يكون سَيّده أذن لَهُ
فِي الْقِتَال. وَاخْتلفُوا هَل تثبت الْحُدُود فِي دَار الْحَرْب على من
وجدت مِنْهُ أَسبَابهَا؟
فَقَالَ أَحْمد وَمَالك وَالشَّافِعِيّ: تثبت عَلَيْهِم الْحُدُود إِذا
فعلوا أَسبَابهَا سَوَاء كَانَ فِي دَار الْحَرْب إِمَام أم لم يكن.
وَقَالَ أَبُو حنيفَة: لَا تثبت إِلَّا أَن يكون فِي دَار الْحَرْب إِمَام.
ثمَّ اخْتلف موجبوا الْحَد على من أَتَى سَببه فِي دَار الْحَرْب فِي
اسْتِيفَائه.
فَقَالَ مَالك وَالشَّافِعِيّ: يَسْتَوْفِي فِي دَار الْحَرْب.
(2/302)
وَقَالَ أَحْمد: لَا يَسْتَوْفِي فِي دَار
لِحَرْب حَتَّى يرجع إِلَى دَار الْإِسْلَام.
وَقَالَ أَبُو حنيفَة: إِن كَانَ فِي دَار الْحَرْب إِمَام مَعَ جَيش من
الْمُسلمين أَقَامَ عَلَيْهِم الْحُدُود فِي عسكره قبل القفول فَإِن كَانَ
أَمِير سريه لم يقم الْحُدُود، فَإِن لم يقم الْحُدُود على من فعل
أَسبَابهَا فِي دَار الْحَرْب حَتَّى دخلُوا دَار الْإِسْلَام، فَإِنَّهَا
تسْقط عَنْهُم كلهَا إِلَّا الْقَتْل فَإِنَّهُ يضمن الْقَاتِل الدِّيَة
فِي مَاله عمدا كَانَ أَو خطأ.
وَاتَّفَقُوا على أَنه إِذا تترس الْمُشْركُونَ بِالْمُسْلِمين جَازَ
لبَقيَّة الْمُسلمين الرَّمْي ويقصدون الْمُشْركين.
ثمَّ اخْتلفُوا فِيمَا إِذا أصَاب أحدهم مُسلما فِي الْحَال.
فَقَالَ مَالك وَأَبُو حنيفَة: لَا تلْزمهُ دِيَة وَلَا كَفَّارَة.
وَقَالَ الشَّافِعِي قَولَانِ، أَحدهمَا: تلْزمهُ الْكَفَّارَة بِلَا
دِيَة، وَالْآخر: الدِّيَة وَالْكَفَّارَة مَعًا.
وَفِي تَفْصِيل هذَيْن الْقَوْلَيْنِ بَين أَصْحَابه خلاف طَوِيل.
وَعَن أَحْمد رِوَايَتَانِ كَذَلِك، أظهرهمَا: أَن الْكَفَّارَة لَازمه
لَهُ خَاصَّة.
وَاخْتلفُوا فِي استرقاق من لَا كتاب لَهُ وَلَا شُبْهَة كتاب، كعبدة
الْأَوْثَان، وَمن عبد مَا اسْتحْسنَ.
فَقَالَ أَبُو حنيفَة: يجوز استرقاق الْعَجم من عَبدة الْأَوْثَان دون
الْعَرَب.
وَقَالَ أَحْمد فِي إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ، وَالشَّافِعِيّ يجوز ذَلِك،
وَسَوَاء فِي ذَلِك الْعَجم وَالْعرب.
(2/303)
وَقَالَ مَالك استرقاقهم على الْإِطْلَاق،
إِلَّا قُريْشًا خَاصَّة.
وَعَن أَحْمد رِوَايَة أُخْرَى: لَا يجوز ذَلِك على الْإِطْلَاق.
بَاب فِي الْغَنِيمَة
اتَّفقُوا على أَن مَا حصل فِي أَيْديهم من الْغَنِيمَة من جَمِيع
الْأَمْوَال عينهَا وعروضها سوى الْأَرَاضِي فَإِنَّهُ يُؤْخَذ مِنْهُ
الْخمس.
ثمَّ اخْتلفُوا فِيمَن يقسم هَذِه الْخمس؟
فَقَالَ أَبُو حنيفَة: يقسم على ثَلَاثَة أسْهم، سهم لِلْيَتَامَى، وَسَهْم
للْمَسَاكِين، وَسَهْم لِابْنِ السَّبِيل يدْخل فُقَرَاء ذَوي الْقُرْبَى
فيهم دون أغنيائهم.
فَأَما سهم النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَهُوَ خمس
الله، وَخمْس رَسُوله، وَهُوَ خمس وَاحِد، وَقد سقط بِمَوْت النَّبِي -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كَمَا سقط الصفي، وَسَهْم ذَوي
الْقُرْبَى كَانُوا يستحقونه فِي
(2/304)
زمن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّم َ - بالنصرة وَبعده لَا سهم لَهُم، وَإِنَّمَا يستحقونه بالفقر
خَاصَّة، وَيَسْتَوِي فِيهِ ذكرهم وأنثاهم.
وَقَالَ مَالك: هَذَا الْخمس لَا يسْتَحق بِالتَّعْيِينِ بشخص دون شخص
وَلَكِن النّظر فِيهِ إِلَى الإِمَام يصرفهُ فِيمَن يرى وعَلى من يرى من
الْمُسلمين، وَيُعْطى الإِمَام الْقَرَابَة من الْخمس والفيء وَالْخَرَاج
والجزية بِالِاجْتِهَادِ.
وَقَالَ أَحْمد وَالشَّافِعِيّ: يقسم الْخمس الْمَذْكُور على خَمْسَة
أسْهم: سهم للرسول وَهُوَ بَاقٍ لم يسْقط بِمَوْتِهِ - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَسَهْم لبني هَاشم وَبني الْمطلب خَاصَّة دون بني
نَوْفَل وَبني عبد منَاف، وَإِنَّمَا هُوَ مُخْتَصّ ببني هَاشم وَبني
الْمطلب لأَنهم ذووا الْقُرْبَى غنيهم وفقيرهم فِيهِ سَوَاء، إِلَّا أَن
للذّكر مِنْهُم مثل حَظّ الْأُنْثَيَيْنِ، وَلَا يسْتَحقّهُ أَوْلَاد
الْبَنَات مِنْهُم، وَسَهْم لِلْيَتَامَى، وَسَهْم للْمَسَاكِين، وَسَهْم
لأبناء السَّبِيل، وَهَؤُلَاء الثَّلَاثَة يسْتَحقُّونَ بالفقر وَالْحَاجة
لَا بِالِاسْمِ.
(2/305)
ثمَّ اخْتلفَا فِي سهم الرَّسُول إِلَى من
يصرف؟
فَقَالَ الشَّافِعِي: يصرف فِي الْمصَالح من إعداد السِّلَاح، والكراع،
وَعقد القناطر، وَبِنَاء الْمَسَاجِد، وَنَحْو ذَلِك.
فَيكون حكمه حكم مَال الْفَيْء.
وَعَن أَحْمد رِوَايَتَانِ، أحداهما كَهَذا الْمَذْهَب وَهِي الَّتِي
اخْتَارَهَا الْخرقِيّ.
وَالْأُخْرَى: يصرف إِلَى أهل الدِّيوَان وهم الَّذين نصبوا أنفسهم
لِلْقِتَالِ وانفردوا للثغور وسدها يقسم فيهم على قدر كفاياتهم.
وَاتَّفَقُوا على أَن أَرْبَعَة أَخْمَاس الْغَنِيمَة تقسم على من شهد
الْوَقْعَة إِذا كَانَ من أهل الْقِتَال.
وَاتَّفَقُوا على أَن الرجل لَهُ سهم وَاحِد.
ثمَّ اخْتلفُوا فِي الْفَارِس وسهمه.
فَقَالَ مَالك وَأحمد وَالشَّافِعِيّ: لَهُ ثَلَاثَة أسْهم سهم لَهُ وسهمان
لفرسه بِشَرْط أَن يكون فرسا عتيقا.
وَقَالَ أَبُو حنيفَة: يسْتَحق سَهْمَيْنِ، سَهْما لَهُ وَسَهْما لفرسه،
وَأما الهجين:
(2/306)
فَقَالَ أَبُو حنيفَة وَالشَّافِعِيّ
وَأحمد وَمَالك فِي إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَن أَحْمد: هُوَ كالعتيق
لَهُ سَهْمَان إِلَّا أَن مَالِكًا يشْتَرط إجَازَة الإِمَام لَهُ،
وَكَذَلِكَ قَوْلهم فِي (المقرف) البرذون.
وَعَن أَحْمد رِوَايَة أُخْرَى: يُسهم لما عدا الْعَتِيق سهم وَاحِد.
وَاتَّفَقُوا على أَنه إِذا كَانَ مَعَ الْفَارِس فرس وَاحِد أسْهم لَهُ،
فَإِن كَانَ مَعَه فرسَان.
فَقَالَ أَبُو حنيفَة وَمَالك وَالشَّافِعِيّ: لَا يُسهم إِلَّا لفرس
وَاحِد.
وَقَالَ أَحْمد: يُسهم لفرسين وَلَا يُزَاد على ذَلِك وَوَافَقَهُ على
ذَلِك أَبُو يُوسُف وَهِي روايه عَن مَالك.
وَاخْتلفُوا هَل يُسهم للبعير؟
فَقَالَ الشَّافِعِي وَأَبُو حنيفَة: لَا يُسهم لَهُ.
وَقَالَ أَحْمد؛ يُسهم لَهُ سهم وَاحِد.
(2/307)
وَاتَّفَقُوا على أَنهم إِذا قسموا
الْغَنِيمَة وحازوها ثمَّ اتَّصل بهم مدد، لم يكن للمدد فِي ذَلِك حِصَّة.
ثمَّ اخْتلفُوا فِيمَا إِذا اتَّصل بهم المدد بعد تقفي الْحَرْب وَقبل
الْحِيَازَة لَهَا إِلَى دَار الْإِسْلَام أَو بعد أَن أخذوها وَقبل
قسمتهَا.
فَقَالَ أَبُو حنيفَة: يُسهم لَهُم مَا لم يحز الْغَنِيمَة إِلَى دَار
الْإِسْلَام ويقتسموها.
وَقَالَ أَحْمد وَمَالك: لَا يُسهم لَهُم على كل حَال.
وَعَن الشَّافِعِي قَولَانِ، أَحدهمَا: يُسهم لَهُم، وَالثَّانِي: لَا
يُسهم لَهُم.
وَاتَّفَقُوا على أَن الْغَنِيمَة الَّتِي هَذِه أَحْكَامهَا هِيَ كل مَا
قَاتل المسملون عَلَيْهِ أَو أوجفوا عَلَيْهِ بخيل أَو ركاب.
وَاتَّفَقُوا على أَن من حضرها من مَمْلُوك أَو امْرَأَة أَو ذمِّي أَو
صبي، رضخ لَهُ على مَا يرَاهُ الإِمَام وَلَا يُسهم لَهُم.
(2/308)
وَاخْتلفُوا فِي السَّلب.
فَقَالَ أَبُو حنيفَة: أَن شَرطه الإِمَام للْقَاتِل فَهُوَ لَهُ وَإِن لم
يشرط ذَلِك لَهُ لم ينْفَرد بِهِ.
وَقَالَ مَالك: إِن شَرطه الإِمَام كَانَ لَهُ من الْخمس فَإِن كَانَت
قِيمَته تفي بِقدر الْخمس اسْتحق جَمِيعه، وَإِن كَانَت قِيمَته أَكثر
مِنْهُ اسْتحق مِنْهُ بِقدر الْخمس وَلَا يسْتَحقّهُ من أصل الْغَنِيمَة
وَإِن لم يَشْتَرِطه الإِمَام فَلَا حق لَهُ.
وَقَالَ الشَّافِعِي وَأحمد فِي إِحْدَى روايتيه: يسْتَحق الْقَاتِل سلب
مقتوله من أصل الْغَنِيمَة سَوَاء شَرط الإِمَام ذَلِك أَو لم يشرطه.
وَعَن أَحْمد رِوَايَة أُخْرَى وَهِي: اعْتِبَار إِذن الإِمَام وانه
للْقَاتِل مَعَ إِذْنه، فَإِن لم يَأْذَن فِيهِ لم ينْفَرد بِهِ.
وَاخْتلفُوا فِي قسْمَة الْغَنَائِم فِي دَار الْحَرْب.
فَقَالَ مَالك وَالشَّافِعِيّ وَأحمد: يجوز.
وَقَالَ أَبُو حنيفَة: لَا يجوز، وَقَالَ أَصْحَابه: إِن لم يجز الإِمَام
حمولة جَازَ قسمهَا خوفًا أَن لَا تصل إِلَى الْغَانِمين حُقُوقهم.
وَاتَّفَقُوا على أَن الإِمَام لَو قسمهَا فِي دَار الْحَرْب نفذت
الْقِسْمَة.
وَاخْتلفُوا فِي الطَّعَام والعلف وَالْحَيَوَان تكون فِي دَار الْحَرْب
هَل يجوز اسْتِعْمَاله من غير أذن الإِمَام؟
(2/309)
فَقَالَ أَبُو حنيفَة وَأحمد فِي إِحْدَى
الرِّوَايَتَيْنِ: لَا بَأْس بِأَكْل الطَّعَام والعلف وَالْحَيَوَان فِي
دَار الْحَرْب بِغَيْر إِذن الإِمَام وَإِن خرج مِنْهُ شَيْء إِلَى دَار
الْإِسْلَام، كَانَ غنيمَة قل أَو كثر.
وَعَن أَحْمد رِوَايَة أُخْرَى: يرد مَا فضل إِن كَانَ كثيرا وَلَا يرد إِن
كَانَ يَسِيرا.
وَقَالَ الشَّافِعِي: إِن كَانَ كثيرا لَهُ قيمَة رد، وَإِن كَانَ ندرا
فَقَوْلَانِ.
وَحكى الطَّحَاوِيّ عَن مَالك وَالشَّافِعِيّ: أَن مَا خرج إِلَى دَار
الْإِسْلَام فَهُوَ غنيمَة.
وَاخْتلفُوا فِيمَا إِذا قَالَ الإِمَام: من أَخذ شَيْئا لَهو لَهُ.
فَقَالَ أَبُو حنيفَة: هُوَ شَرط يجوز للْإِمَام أَن يشرطه إِلَّا أَن
الأولى أَن لَا يفعل.
وَقَالَ مَالك: يكره لَهُ ذَلِك ابْتِدَاء لِئَلَّا يشوب قصدا الْمُجَاهدين
فِي جهادهم إِرَادَة الدُّنْيَا. فَإِن شَرطه الإِمَام لزم وَكَانَ من
الْخَمْسَة لَا من أصل الْغَنِيمَة وَكَذَلِكَ النَّفْل عِنْده كل من
الْخمس.
(2/310)
وَقَالَ الشَّافِعِي: لَيْسَ بِشَرْط لَازم
فِي أظهر الْقَوْلَيْنِ لَهُ.
وَقَالَ أَحْمد: هُوَ شَرط صَحِيح.
وَاتَّفَقُوا على أَن للْإِمَام أَن يفضل بعض الْغَانِمين على بعض قبل
الْأَخْذ والحيازة.
وَاخْتلفُوا فِيمَا إِذا نفل الإِمَام من الْغَنِيمَة بعد الْحِيَازَة
إِلَى دَار الْإِسْلَام.
فَقَالَ أَبُو حنيفَة وَمَالك: يَصح من الْخمس بعد الْحِيَازَة.
وَقَالَ الشَّافِعِي وَأحمد فِي إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ: لَا يجوز
التَّنْفِيل بعد الْحِيَازَة.
وَعَن أَحْمد رِوَايَة أُخْرَى: أَنه يجوز.
وَاتَّفَقُوا على أَن الإِمَام مُخَيّر فِي الْأُسَارَى بَين الْقَتْل
والإسترقاق.
ثمَّ اخْتلفُوا فِي الإِمَام هَل هُوَ مُخَيّر فيهم بَين الْفِدَاء والمن
وَعقد الذِّمَّة؟
فَقَالَ مَالك وَالشَّافِعِيّ وَأحمد: هُوَ مُخَيّر فيهم أَيْضا بَين
الْفِدَاء بِالْمَالِ
(2/311)
وبالأسارى، وَبَين الْمَنّ عَلَيْهِم.
وَقَالَ أَبُو حنيفَة: لَا يمن وَلَا يفادى.
فَأَما عقد الذِّمَّة.
فَقَالَ مَالك وَأَبُو حنيفَة: هُوَ مُخَيّر فِي عقد الذِّمَّة عَلَيْهِم
وَيَكُونُونَ أَحْرَار.
وَقَالَ الشَّافِعِي وَأحمد: لَيْسَ لَهُ ذَلِك لأَنهم قد ملكوا.
بَاب فِي الْأَرَاضِي المغنومة
وَاخْتلفُوا فِي الْأَرَاضِي المغنومة عنْوَة كالعراق ومصر هَل يقسم بَين
غانميها أم لَا؟
فَقَالَ أَبُو حنيفَة: الإِمَام بِالْخِيَارِ بَين أَن يقسمها على غانميها
وَبَين أَن يقر أَهلهَا فِيهَا وَيضْرب عَلَيْهِم خراجا، وَبَين أَن يصرف
أَهلهَا عَنْهَا وَيَأْتِي بِقوم آخَرين فيقلهم إِلَيْهَا وَيضْرب
عَلَيْهِم الْخراج، وَلَيْسَ للْإِمَام أَن يقفها على الْمُسلمين
أَجْمَعِينَ وَلَا على غانميها.
وَقَالَ مَالك فِي رِوَايَة عَنهُ: لَيْسَ للْإِمَام أَن يقسمها الْبَتَّةَ
بل تصير بِنَفس الظُّهُور عَلَيْهَا وَقفا على الْمُسلمين.
(2/312)
وَعنهُ رِوَايَة أُخْرَى: أَن الإِمَام
مُخَيّر بَين قسمتهَا ووقفها لمصَالح الْمُسلمين.
وَقَالَ الإِمَام الشَّافِعِي: يجب على الإِمَام قسمتهَا بَين جمَاعَة
الْغَانِمين كَسَائِر الْأَمْوَال، إِلَّا أَن تطيب أنفسهم بوقفها على
الْمُسلمين، وَتسقط حُقُوقهم مِنْهَا فَيتْرك قسمتهَا، ويقفها على
الْمُسلمين.
وَقد رُوِيَ عَنهُ فِيمَا حَكَاهُ صَاحب الشَّامِل أَنه قَالَ: لَا أعرف
مَا أَقُول فِي أَرض السوَاد إِلَّا بِظَنّ مقرون إِلَى علم.
وَعَن أَحْمد ثَلَاث رِوَايَات، إِحْدَاهُنَّ: أَن للْإِمَام أَن يفعل مَا
فِيهَا مَا يرَاهُ الْأَصْلَح من قسمتهَا بَين غانميها أَو أنفاقها على
جمَاعَة الْمُسلمين وَهِي أظهر الرِّوَايَات.
وَالثَّانيَِة: لَا يملك الإِمَام قسمتهَا بل تصير وَقفا على جمَاعَة
الْمُسلمين بِنَفس الظُّهُور كإحدى الرِّوَايَتَيْنِ عَن مَالك.
وَهِي اخْتِيَار عبد الْعَزِيز من أَصْحَاب أَحْمد.
وَالثَّانيَِة: كمذهب الشَّافِعِي سَوَاء.
بَاب فِي تَقْدِير الْخراج والجزية.
وَاخْتلفُوا فِي قدر الْخراج.
(2/313)
فَقَالَ أَبُو حنيفَة: فِي جريب الْحِنْطَة
قفيز ودرهمان وَفِي جريب الشّعير قفيز وَدِرْهَم.
وَقَالَ الشَّافِعِي: فِي جريب الْحِنْطَة أَرْبَعَة دَرَاهِم، وَفِي
الشّعير دِرْهَمَانِ. وَلَا يُؤْخَذ مِنْهُمَا شَيْء غير ذَلِك.
وَقَالَ أَحْمد فِي اظهر الرِّوَايَات عَنهُ: فِي جريب الشّعير
وَالْحِنْطَة فِي كل وَاحِد مِنْهُمَا قفيز وَدِرْهَم.
والقفيز الْمَذْكُور: هُوَ ثَمَانِيَة أَرْطَال بالحجازي وَيكون سِتَّة عشر
رطلا بالعراقي.
وَأما جريب النّخل.
فَقَالَ أَبُو حنيفَة: فِيهِ عشرَة دَرَاهِم.
وَاخْتلف أَصْحَاب الشَّافِعِي فَقَالَ بَعضهم: فِيهِ عشرَة دَرَاهِم،
وَمِنْهُم من قَالَ: فِيهِ ثَمَانِيَة دَرَاهِم.
وَقَالَ أَحْمد: فِيهِ ثَمَانِيَة دَرَاهِم.
وَأما جريب الْكَرم.
فَقَالَ أَبُو حنيفَة وَأحمد: فِيهِ عشرَة دَرَاهِم.
وَاخْتلف أَصْحَاب الشَّافِعِي، فَمنهمْ من قَالَ: فِيهِ ثَمَانِيَة
دَرَاهِم، وَمِنْهُم من قَالَ: بل عشرَة دَرَاهِم.
وَأما جريب الشّجر والقصب وَهُوَ الرّطبَة.
فَقَالَ أَبُو حنيفَة: فِيهِ خمس دَرَاهِم.
(2/314)
وَقَالَ أَحْمد وَالشَّافِعِيّ: بل فِيهِ
سِتّ دَرَاهِم.
وَأما جريب الزَّيْتُون.
فَقَالَ الشَّافِعِي وَأحمد: فِيهِ اثْنَي عشر درهما.
وَأما أَبُو حنيفَة: فَلم يُوجد عَنهُ نَص فِي تَقْدِير الْوَاجِب على جريب
الزَّيْتُون، بل على مَا يحْتَملهُ على وَجه لَا يزِيد على نصف الرجل.
وَقَالَ مَالك: لَيْسَ على ذَلِك جَمِيعه تَقْدِير، والمرجع فِيهِ إِلَى
قدر مَا تحتمله الأَرْض من ذَلِك لاخْتِلَاف فِي حواصلها، ويجتهد الإِمَام
فِي تَقْدِير ذَلِك مستعينا عَلَيْهِ بِأَهْل الْخِبْرَة مِنْهُ.
وَاخْتِلَافهمْ هَذَا هُوَ رَاجع إِلَى اخْتِلَاف الرِّوَايَات عَن عمر بن
الْخطاب أَمِير الْمُؤمنِينَ. فَإِنَّهُم كلهم إِنَّمَا عولوا فِي ذَلِك
على مَا وظفه.
قَالَ أَحْمد: وَأَصَح حَدِيث رُوِيَ فِي أَرض السوَاد وَأَعْلَى حَدِيث
شُعْبَة، عَن عَمْرو بن مَيْمُون فِيمَا رَوَاهُ عَن أَحْمد بن جَعْفَر بن
مُحَمَّد.
قَالَ الْوَزير: وَاخْتِلَاف الرِّوَايَات فِيهِ كُله صَحِيح وَإِنَّمَا
اخْتلف لأجل النواحي.
وَاخْتلفُوا هَل يجوز للْإِمَام أَن يزِيد فِي الْخراج على مَا وظفه عمر
أَو ينقص مِنْهَا، وَكَذَلِكَ فِي الْجِزْيَة؟
(2/315)
فَأَما أَبُو حنيفَة: فَلَيْسَ عَنهُ نَص
فِي ذَلِك إِلَّا مَا ذكره الْقَدُورِيّ حاكيا عَنهُ فِي مُخْتَصره بعد ذكر
الْأَشْيَاء الْمعِين عَلَيْهَا الْخراج بِوَضْع عمر.
فَقَالَ: وَمَا سوى ذَلِك من أَصْنَاف الْأَشْيَاء يوضع عَلَيْهَا بِحَسب
الطَّاقَة، فَإِن لم تطق الأَرْض مَا وضع عَلَيْهَا نَقصهَا الإِمَام.
وَاخْتلف صَاحِبَاه فَقَالَ أَبُو يُوسُف: لَا يجوز للْإِمَام النُّقْصَان
وَلَا الزِّيَادَة مَعَ الِاحْتِمَال.
وَقَالَ مُحَمَّد: يجوز للْإِمَام الزِّيَادَة وَالنُّقْصَان مَعَ
الِاحْتِمَال.
فَأَما الزِّيَادَة مَعَ عدم الِاحْتِمَال فَلَا يجوز إِجْمَاعًا مِنْهُمَا
وَالنُّقْصَان مَعَ أَن الأَرْض تحمل الْوَظِيفَة: لَا يجوز عِنْدهمَا
جَمِيعًا.
فَأَما الزِّيَادَة مَعَ الِاحْتِمَال للوظيفة فَهِيَ مَسْأَلَة الْخلاف
بَينهمَا.
وَعَن الشَّافِعِي: أَنه يجوز للْإِمَام الزِّيَادَة، وَلَا يجوز لَهُ
النُّقْصَان.
فَأَما أَحْمد فَعَنْهُ ثَلَاث رِوَايَات، إِحْدَاهُنَّ: أَنه يجوز
للْإِمَام الزِّيَادَة على مَا ذكرنَا إِذا احتملت الأَرْض وَالنُّقْصَان
مِنْهُ إِذا لم تحْتَمل الأَرْض.
وَالثَّانيَِة: يجوز لَهُ الزِّيَادَة مَعَ الِاحْتِمَال، وَلَا يجوز لَهُ
النُّقْصَان، وَالثَّالِثَة: لَا يجوز الزِّيَادَة وَلَا النُّقْصَان.
وَأما مَالك فَهُوَ على أَصله من رد ذَلِك إِلَى اجْتِهَاد الْأَئِمَّة على
قدر مَا تحتمله
(2/316)
الأَرْض مستعينا فِيهِ بِأَهْل الْخِبْرَة.
قَالَ الْوَزير: وَلَا يعرف إِن أحدا مِنْهُم يَقُول: أَن المقاطعة الَّتِي
تضرب على الأَرْض مِنْهَا الْمبلغ الَّذِي لَا يزِيد فِي وَقت وَلَا ينقص
مِنْهُ أَن ذَلِك جَائِز، وَلَا يجوز أَن تضرب على الأَرْض مَا يكون فِيهِ
هضم لحقوق بَيت المَال رِعَايَة لآحاد النَّاس وَلَا يجوز أَن يضْرب على
الأَرْض من الْخراج مَا يكون فِيهِ إِضْرَارًا بأرباب الأَرْض تحميلا لَهَا
من ذَلِك مَا لَا تطِيق.
فمدار الْبَاب أَن يحمل الأَرْض مَا تُطِيقهُ، وَأَن لَا يتبع ذَلِك غَيره
مِمَّا لم يَأْذَن فِيهِ الشَّرْع بِحَال وَأرى أَن مَا قَالَه أَبُو
يُوسُف فِي كتاب الْخراج الَّذِي صنفه للْإِمَام هَارُون الرشيد هُوَ
الْجيد، وَذَلِكَ أَنه قَالَ: وَأرى أَن يكون لبيت المَال فِي الْحبّ خمسان
وَفِي الثِّمَار الثُّلُث.
بَاب فِي فتح مَكَّة
اخْتلفُوا هَل فتحت مَكَّة عنْوَة أَو صلحا.
(2/317)
فَقَالَ أَبُو حنيفَة وَمَالك وَأحمد فِي
أظهر الرِّوَايَتَيْنِ عَنهُ: أَنَّهَا فتحت عنْوَة.
وَقَالَ الشَّافِعِي وَأحمد فِي الرِّوَايَة الْأُخْرَى: فتحت صلحا.
وَاتَّفَقُوا على أَن الصَّبِي وَإِن قَاتل لَا يكمل لَهُم سهم بل يرْضخ
لَهُ.
إِلَّا مَالِكًا فَإِنَّهُ قَالَ: إِذا راهق وأطاق الْقِتَال وَأَجَازَهُ
الإِمَام كمل لَهُ السهْم، وَإِن لم يبلغ.
وَاخْتلفُوا هَل يستعان بالمشركين على قتال أهل الْحَرْب أَو يعانون على
عدوهم؟
فَقَالَ مَالك وَأحمد: لَا يستعان بهم وَلَا يعانون على الْإِطْلَاق.
وَاسْتثنى مَالك فَقَالَ: إِلَّا أَن يَكُونُوا خدما للْمُسلمين فَيجوز.
وَقَالَ أَبُو حنيفَة: يستعان بهم، ويعانون على الْإِطْلَاق، مَتى كَانَ
حكم الْإِسْلَام هُوَ الْغَالِب الْجَارِي عَلَيْهِم، فَإِن كَانَ حكم
الشّرك هُوَ الْغَالِب كره.
(2/318)
وَقَالَ الشَّافِعِي: يجوز ذَلِك
بِشَرْطَيْنِ، أَحدهمَا: أَن يكون بِالْمُسْلِمين قلَّة، وبالمشركين
كَثْرَة.
وَالثَّانِي: أَن يعلم من الْمُشْركين حسن رَأْي فِي الْإِسْلَام وميل
إِلَيْهِ فَإِن استعين بهم رضخ لَهُم، وَلَا سهم عِنْده لَهُم.
إِلَّا أَن أَحْمد فِي إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ قَالَ: يُسهم لَهُم.
وَقَالَ الشَّافِعِي: إِن استؤجروا وأعطوا من بَيت المَال (من مَال) لَا
مَالك لَهُ معِين.
وَقَالَ فِي مَوضِع آخر: يرْضخ لَهُم من الْغَنِيمَة.
قَالَ الْوَزير: وَأرى ذَلِك نَحْو الجزي وَالْخَرَاج.
وَاخْتلفُوا هَل يُسهم لتجار الْعَسْكَر وأجرائهم إِذا شهدُوا الْوَقْعَة،
وَإِن لم يقاتلوا.
فَقَالَ أَبُو حنيفَة وَمَالك: لَا يُسهم لَهُم حَتَّى يقاتلوا.
وَقَالَ أَحْمد وَالشَّافِعِيّ: يُسهم لَهُم وَإِن لم يقاتلوا
(2/319)
وَعَن الشَّافِعِي قَول أخر وَهُوَ: أَنهم
لَا يسْتَحقُّونَ شَيْئا، وَإِن قَاتلُوا.
وَاخْتلفُوا هَل تصح الِاسْتِنَابَة فِي الْجِهَاد؟
فَقَالَ أَبُو حنيفَة وَالشَّافِعِيّ وَأحمد: لَا تصح بِجعْل وَلَا تبرع
وَلَا بِأُجْرَة، وَسَوَاء تعين على المستنيب أم لم يتَعَيَّن.
وَقَالَ مَالك: تصح إِذا كَانَ بِجعْل وَلم يكن الْجِهَاد مُتَعَيّنا على
النَّائِب كَالْعَبْدِ وَالْمَرْأَة.
وَاتَّفَقُوا على أَنه لَا يجوز لأحد الْغَانِمين أَن يطَأ جَارِيَة من
السَّبي قبل الْقِسْمَة.
فَقَالَ أَبُو حنيفَة: لَا حد عَلَيْهِ بل عُقُوبَة، وَلَا يثبت النّسَب،
وَولده مَمْلُوك يرد فِي الْغَنِيمَة، وَعَلِيهِ الغفر عَن الْإِصَابَة.
وَقَالَ مَالك: يحد وَهُوَ زَان.
وَقَالَ الإِمَام الشَّافِعِي وَأحمد: لَا حد عَلَيْهِ وَيلْحق بِهِ
النّسَب إِن جَاءَت بِولد، وَيكون الْوَلَد حرا وَعَلِيهِ قيمتهَا
وَالْمهْر يرد فِي الْغَنِيمَة.
ثمَّ اخْتلف فِي صُورَة وَاحِد من الْمَسْأَلَة وَهِي هَل تصير أم ولد؟
(2/320)
فَقَالَ أَحْمد: تصير أم ولد.
وَعَن الشَّافِعِي فِي ذَلِك قَولَانِ.
وَاخْتلفُوا فِيمَا إِذا كَانَ الْمُسلمُونَ فِي سفينة فَوَقَعت فِيهَا
النَّار.
فَقَالَ أَبُو حنيفَة وَمَالك فِي إِحْدَى روايتيه وَالشَّافِعِيّ: إِذا لم
يرجوا النجَاة فِي الْإِلْقَاء وَالصَّبْر، فهم بِالْخِيَارِ بَين أَن
يصبروا أَو يلْقوا أنفسهم فِي المَاء.
وَقَالَ أَحْمد: إِن رجو النجَاة فِي إِلْقَاء أنفسهم فِي المَاء وَلم
يرجوها فِي الْبَقَاء فِي السَّفِينَة فَإِنَّهُم يلقون أنفسهم فِي
النَّار.
وَإِن رجوا الْبَقَاء فِي السَّفِينَة مَعَ النجَاة وَلم يرجوها فِي المَاء
ثبتوا فِيهَا وَلم يلْقوا بِأَنْفسِهِم فِي المَاء، وَإِن اسْتَوَى رجاؤهم
لكل وَاحِد مِنْهُم فعلوا أَيهمَا شَاءُوا وَإِن اعتدل الْأَمْرَانِ
عِنْدهم فَأَيْقنُوا بِالْهَلَاكِ فيهمَا أَو غلب ذَلِك فِي ظنهم فَفِيهِ
رِوَايَتَانِ عَنهُ أظهرهمَا: أَنه لَا يجوز لَهُم إِلْقَاء أنفسهم فِي
المَاء إِذا لم يَرْجُو بِهِ النجَاة، وَهُوَ مَذْهَب مُحَمَّد بن الْحسن
وَهِي إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَن مَالك، وَالرِّوَايَة الْأُخْرَى: هم
بِالْخِيَارِ إِن شَاءُوا ثبتوا مكانهم، وَإِن شَاءُوا القوا أنفسهم فِي
المَاء.
وَاخْتلفُوا فِيمَا إِذا فر بعير من دَار الْحَرْب إِلَى دَار السَّلَام.
وَكَذَلِكَ اخْتلفُوا فِي الْحَرْبِيّ إِذا دخل بِغَيْر أَمَان.
فَقَالَ أَبُو حنيفَة وَمَالك وَالشَّافِعِيّ: يكون الْجَمِيع فَيْئا
للْمُسلمين إِلَّا أَن الشَّافِعِي قَالَ: إِلَّا أَن يسلم الْحَرْبِيّ قبل
أَن يُؤْخَذ فَلَا سَبِيل عَلَيْهِ. وَقَالَ أَحْمد: هُوَ لمن أَخذه
خَاصَّة فيهمَا.
وَاخْتلفُوا فِي هَدَايَا الْأُمَرَاء هَل يختصون بهَا أَو تكون كَبَقِيَّة
مَال الْفَيْء؟
(2/321)
فَقَالَ مَالك فِيمَا حَكَاهُ ابْن
الْقَاسِم إِذا أهْدى إِلَى أَمِير الْجَيْش هَدِيَّة قبلهَا وَكَانَت
غنيمَة فِيهَا الْخمس كَسَائِر الْغَنَائِم.
وَكَذَلِكَ إِذا أهدوا إِلَى قَائِد من قواد الْمُسلمين لِأَن ذَلِك على
وَجه الْخَوْف، وَإِن أهدوا الْعَدو إِلَى رجل من الْمُسلمين لَيْسَ بقائد
وَلَا أَمِير فَلَا بَأْس أَن يَأْخُذهَا وَتَكون لَهُ دون أهل الْعَسْكَر
وَهَذَا قَول الْأَوْزَاعِيّ.
وَقد رَوَاهُ مُحَمَّد بن الْحسن عَن أبي حنيفَة.
وَقَالَ أَبُو يُوسُف: مَا أهْدى ملك الرّوم فِي دَار الْحَرْب إِلَى
أَمِير الْجَيْش فَهُوَ لَهُ خَاصَّة، وَكَذَا مَا يُعْطي الرَّسُول، وَلم
يذكر عَن أبي حنيفَة خلافًا.
وَقَالَ الشَّافِعِي فِي رِوَايَة الرّبيع عَنهُ فِي كتاب الزَّكَاة وَإِذا
أهْدى وَاحِد من الْقَوْم للوالي هَدِيَّة فَإِن كَانَت بِشَيْء نَالَ
مِنْهُ حَقًا أَو بَاطِلا، فَحَرَام على الْوَالِي قبُولهَا وَأَخذهَا
لِأَنَّهُ حرَام عَلَيْهِ أَن يستعجل على أَخذ الْحق وَقد ألزمهُ الله
ذَلِك لَهُم، وَحرَام عَلَيْهِ أَن يَأْخُذ لَهُم بَاطِلا، والجعل عَلَيْهِ
حرَام، فَإِن أهْدى إِلَيْهِ من غير هذَيْن المعنين
(2/322)
أحد من أهل ولَايَته تفضلا أَو تشكرا،
فَلَا يقبلهَا. وَإِن قبلهَا كَانَت مِنْهُ فِي الصَّدقَات لَا يَسعهُ
عِنْدِي غَيره، إِلَّا أَن يُكَافِئهُ عَلَيْهَا بِقدر مَا يَسعهُ أَن يتجر
لَهَا وَإِن كَانَت من رجل لَا سُلْطَان لَهُ وَلَيْسَ بِالْبَلَدِ الَّذِي
بِهِ سُلْطَان شكرا على حسن كَانَ مِنْهُ فَأحب إِلَيّ إِن قبلهَا
يَجْعَلهَا لأجل الْولَايَة أَو يدع قبُولهَا وَلَا يَأْخُذ على الْخَيْر
مُكَافَأَة، وَإِن أَخذهَا فتمولها لم يحرم عَلَيْهِ عِنْدِي.
وَعَن أَحْمد رِوَايَتَانِ، إِحْدَاهمَا: لَا يخْتَص بهَا من أهديت
إِلَيْهِ بل هِيَ غنيمَة فِيهَا الْخمس كَسَائِر الْغَنَائِم.
وَالْأُخْرَى: يخْتَص بهَا الإِمَام.
بَاب فِي شَرط الزَّاد وَالرَّاحِلَة للْجِهَاد
وَاخْتلفُوا هَل من شُرُوط الْجِهَاد والزاد وَالرَّاحِلَة؟
فَقَالَ الشَّافِعِي وَأحمد وَأَبُو حنيفَة: من شَرطه الزَّاد
وَالرَّاحِلَة.
وَقَالَ مَالك: لَيْسَ من شَرطه الزَّاد وَالرَّاحِلَة، وَيتَصَوَّر
الْخلاف مَعَه فِيمَا إِذا تعين الْجِهَاد على أهل بلد وَبينهمْ وَبَين
مَوضِع الْجِهَاد مَسَافَة تبيح الْقصر فَلَا يجب عِنْدهم إِلَّا على من
يملك زادا وراحلة يبلغانه إِلَى مَوضِع الْجِهَاد وَعِنْده يجب
(2/323)
وَاتَّفَقُوا على أَن الغال من الْغَنِيمَة
قبل حيازتها إِذا كَانَ لَهُ فِيهَا حق فَإِنَّهُ لَا يقطع.
ثمَّ اخْتلفُوا فِي الغال من الْغَنِيمَة وَهُوَ مِمَّن لَهُ حق فِيهَا هَل
يحرق رَحْله وَيحرم سَهْمه؟
فَقَالَ أَبُو حنيفَة وَالشَّافِعِيّ وَمَالك: لَا يحرق رَحْله وَلَا يحرم
سَهْمه بل يعْذر.
وَقَالَ أَحْمد: يحرق رَحْله الَّذِي مَعَه فِي غزاته إِلَّا الْمُصحف
وَمَا كَانَ فِيهِ روح من الْحَيَوَان وَمَا هُوَ جنَّة لِلْقِتَالِ
كالسلاح رِوَايَة وَاحِدَة.
وَهل يحرم سَهْمه عَنهُ؟ فِيهِ رِوَايَتَانِ، إِحْدَاهمَا: يحرم سَهْمه،
وَالْأُخْرَى: لَا يحرم سَهْمه.
وَاخْتلفُوا فِي مَال الْفَيْء هَل يُخَمّس وَهُوَ مَا اخذ من مُشْرك لأجل
الْكفْر بِغَيْر قتال كالجزية الْمَأْخُوذَة عَن الرؤوس وَالْأَرضين باسم
الْخراج وَمَا تَرَكُوهُ فَزعًا وهربوا، وَمَال الْمُرْتَد إِذا قبل فِي
ردته، وَمَال من مَاتَ مِنْهُم، وَلَا وَارِث لَهُ، وَمَا
(2/324)
يُؤْخَذ مِنْهُم فِي الْعشْر إِذا
اخْتلفُوا إِلَى بِلَاد الْمُسلمين وَمَا صولحوا عَلَيْهِ
فَقَالَ أَبُو حنيفَة وَأحمد فِي الْمَنْصُوص عَنهُ من روايتيه: هُوَ
للْمُسلمين كَافَّة، فَلَا يُخَمّس وجميعه لمصَالح الْمُسلمين.
وَقَالَ مَالك: كل ذَلِك فِي غير مقسوم يصرفهُ الإِمَام فِي مصَالح
الْمُسلمين بعد أَخذ حَاجته مِنْهُ.
وَقَالَ الشَّافِعِي: يُخَمّس وَقد كَانَ ملكا لرَسُول الله - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، وَبعد مَا يصنع بِهِ بعد وَفَاته فِيهِ
عَنهُ قَولَانِ، أَحدهمَا للْمصَالح.
وَالثَّانِي للمقاتلة.
وَاخْتلف قَوْله فِيمَا يُخَمّس مِنْهُ، فالجديد من قوليه: أَن يُخَمّس
جَمِيعه، وَالْقَدِيم: لَا يُخَمّس إِلَّا مَا تَرَكُوهُ فَزعًا وهربوا.
وَعَن أَحْمد رِوَايَة أُخْرَى ذكرهَا الْخرقِيّ فِي مُخْتَصره: أَن مَال
الْفَيْء يُخَمّس جَمِيعه على ظَاهر كَلَامه.
وَاخْتلفُوا فِيمَا فضل من مَال الْفَيْء بعد الْمصَالح مَا يصنع بِهِ؟
فَقَالَ الشَّافِعِي وَأَبُو حنيفَة: لَا يجوز صرف فاضله إِلَّا إِلَى
الْمصَالح أَيْضا.
وَقَالَ مَالك وَأحمد: يشْتَرك فِيهِ الْغَنِيّ وَالْفَقِير.
(2/325)
وَاتَّفَقُوا على أَن الْجِزْيَة تضرب على
أهل الْكتاب وهم الْيَهُود وَالنَّصَارَى.
وَكَذَلِكَ على ضرب الْجِزْيَة على الْمَجُوس.
وَاخْتلفُوا فيهم هَل هم أهل كتاب أَو شُبْهَة كتاب؟
فَقَالَ أَبُو حنيفَة وَمَالك وَأحمد: لَيْسُوا أهل كتاب وَإِنَّمَا هم
شُبْهَة كتاب.
وَعَن الشَّافِعِي قَولَانِ، أَحدهمَا أَنهم أهل كتاب.
وَالثَّانِي: كمذهب الْجَمَاعَة.
وَاخْتلفُوا فِيمَن لَا كتاب لَهُ وَلَا شُبْهَة كتاب كعبدة الْأَوْثَان من
الْعَرَب والعجم، هَل تُؤْخَذ مِنْهُم الْجِزْيَة أم لَا؟
فَقَالَ أَبُو حنيفَة: لَا تقبل إِلَّا من الْعَجم مِنْهُم دون الْعَرَب.
وَقَالَ مَالك: تُؤْخَذ من كل كَافِر عَرَبيا كَانَ أَو عجميا إِلَّا من
مُشْركي قُرَيْش خَاصَّة.
وَقَالَ الشَّافِعِي وَأحمد فِي أظهر الرِّوَايَتَيْنِ: لَا تقبل
الْجِزْيَة من عَبدة الْأَوْثَان على الْإِطْلَاق عربيهم وعجميهم.
(2/326)
وَالرِّوَايَة الْأُخْرَى عَن أَحْمد كمذهب
أبي حنيفَة فِي اعْتِبَار الْأَخْذ من الْعَجم مِنْهُم خَاصَّة.
وَاخْتلفُوا فِي تَقْدِير الْجِزْيَة.
فَقَالَ أَبُو حنيفَة وَأحمد فِي أظهر رواياته: هِيَ مقدرَة الْأَقَل
وَالْأَكْثَر فعلى الْفَقِير المعتمل اثْنَي عشر درهما، وعَلى الْمُتَوَسّط
أَرْبَعَة وَعِشْرُونَ درهما، وعَلى الْغَنِيّ ثَمَانِيَة وَأَرْبَعُونَ
درهما.
وَعَن أَحْمد رِوَايَة أُخْرَى:: أَنَّهَا موكولة إِلَى رَأْي الإِمَام
وَلَيْسَت بمقدرة.
وَعنهُ رِوَايَة ثَالِثَة: تتقدر الْأَقَل مِنْهَا دون الْأَكْثَر.
وَعنهُ رِوَايَة رَابِعَة: إِنَّهَا فِي أهل الْيمن خَاصَّة مقدرَة
بِدِينَار دون غَيرهم اتبَاعا للْخَبَر الْوَارِد فيهم.
وَقَالَ مَالك فِي الْمَشْهُور عَنهُ: يتَقَدَّر على الْغَنِيّ وَالْفَقِير
جَمِيعًا أَرْبَعَة دَنَانِير، أَو أَرْبَعِينَ درهما لَا فرق بَينهمَا.
(2/327)
وَقَالَ الشَّافِعِي: الْوَاجِب دِينَار
يَسْتَوِي فِيهِ الْفَقِير والغني والمتوسط.
وَاخْتلفُوا فِي الْفَقِير من أهل الْجِزْيَة إِذا لم يكن معتملا وَلَا
شَيْء لَهُ.
فَقَالَ أَبُو حنيفَة وَمَالك وَأحمد: لَا يُؤْخَذ مِنْهُ شَيْء.
وَعَن الشَّافِعِي فِي عقد الْجِزْيَة على من لَا كسب لَهُ وَلَا يتَمَكَّن
من الْأَدَاء قَولَانِ، أَحدهمَا: يخرج من بِلَاد الْإِسْلَام وَلَا تشتغل
بِهِ عرضة الْبِلَاد مجَّانا،
وَالثَّانِي: أَنه مُقَرر وَلَا يخرج، فعلى هَذَا القَوْل الثَّانِي فِي
تَقْرِيره مَا حكمه عَنهُ فِيهِ ثَلَاث أَقْوَال، أَحدهَا: كَقَوْل
الْجَمَاعَة.
وَالثَّانِي: يجب عَلَيْهِ ويحقن دَمه بضمانها وَيُطَالب بهَا عِنْد
الْيَسَار.
وَالثَّالِث: إِذا جَاءَ آخر الْحول وَلم يبدلها ألحق بدار الْحَرْب.
وَاخْتلفُوا فِي الَّذِي إِذا مَاتَ وَعَلِيهِ الْجِزْيَة؟
فَقَالَ أَبُو حنيفَة وَأحمد: تسْقط بِمَوْتِهِ.
وَقَالَ الشَّافِعِي وَمَالك: لَا تسْقط وَهُوَ اخْتِيَار ابْن حَامِد من
أَصْحَاب أَحْمد.
وَاخْتلفُوا هَل تجب الْجِزْيَة بآخر الْحول أَو بأوله؟
فَقَالَ أَبُو حنيفَة: تجب بأوله وَله الْمُطَالبَة بهَا بعد عقد
الذِّمَّة.
(2/328)
وَقَالَ مَالك فِي الْمَشْهُور عَنهُ،
وَالشَّافِعِيّ وَأحمد: تجب بِآخِرهِ، وَلَا يملك الْمُطَالبَة بهَا بعد
عقد الذِّمَّة حَتَّى تمْضِي السّنة، فَإِن مَاتَ أثْنَاء السّنة؟
فَقَالَ أَبُو حنيفَة وَأحمد: تسْقط عَنهُ أَيْضا.
وَقَالَ مَالك وَالشَّافِعِيّ: تُؤْخَذ جِزْيَة مَا مضى من السّنة من
مَاله.
وَاخْتلفُوا فِيمَا إِذا وَجَبت عَلَيْهِ الْجِزْيَة فَلم يؤدها حَتَّى
أسلم.
فَقَالَ مَالك وَأَبُو حنيفَة وَأحمد: سَقَطت عَنهُ الْجِزْيَة
بِإِسْلَامِهِ وَكَذَلِكَ لَو كَانَت جِزْيَة سنتَيْن لم يؤدها، ثمَّ أسلم
قبل الْأَدَاء، فَإِنَّهَا تسْقط عَنهُ، وَسَوَاء كَانَ إِسْلَامه فِي
أثْنَاء الْحول أَو بعد تَمَامه.
وَقَالَ الشَّافِعِي: لَا يُسْقِطهَا الْإِسْلَام بعد الْحول، وَله فِي
أثْنَاء الْحول قَولَانِ.
وَاخْتلفُوا فِيمَا إِذا دخلت عَلَيْهِ سنة من سنة، وَلم يؤد الأولى، هَل
تسْقط جِزْيَة السّنة الْمَاضِيَة بالتداخل أم تجب جِزْيَة السنتين؟
فَقَالَ أَبُو حنيفَة: تسْقط الأولى بالتداخل.
وَقَالَ مَالك وَالشَّافِعِيّ وَأحمد: لَا تسْقط الأولى وَتجب عَلَيْهِ
جِزْيَة سنتَيْن.
وَاتَّفَقُوا على أَن الْجِزْيَة لَا تضرب على نسَاء أهل الْكتاب، وَلَا
على صبيانهم حَتَّى يبلغُوا، وَلَا على عبيدهم وَلَا على مَجْنُون وَلَا
على ضَرِير وَلَا شيخ فان، وَلَا
(2/329)
على أهل الصوامع إِلَّا إِنَّهُم اخْتلفُوا
من هَذِه الْجُمْلَة فِي نسَاء بني تغلب وصبيانهم خَاصَّة، هَل تُؤْخَذ
مِنْهُم مَا يُؤْخَذ من رِجَالهمْ؟
فَقَالَ أَبُو حنيفَة: يُؤْخَذ من نِسَائِهِم خَاصَّة دون صبيانهم.
وَقَالَ مَالك وَالشَّافِعِيّ: لَا يُؤْخَذ من نِسَائِهِم وَلَا من صبيانهم
وهم كغيرهم فِي ذَلِك.
وَقَالَ أَحْمد تُؤْخَذ من نِسَائِهِم وصبيانهم جَمِيعًا، كَمَا تُؤْخَذ من
رِجَالهمْ.
وَاتَّفَقُوا على إِنَّه إِذا عوهد الْمُشْركُونَ عهدا وفى لَهُم بِهِ.
إِلَّا أَبَا حنيفَة فَإِنَّهُ شَرط فِي ذَلِك بَقَاء الْمصلحَة، فَمَتَى
اقْتَضَت الْمصلحَة الْفَسْخ نبذ إِلَيْهِم عَهدهم وَفسخ.
وَاتَّفَقُوا فِيمَا أعلم انه لَا يجوز نقضه إِلَّا بعد نبذه وَاخْتلفُوا
فِي مُدَّة الْعَهْد.
فَقَالَ أَبُو حنيفَة وَأحمد: يجوز ذَلِك على الْإِطْلَاق.
إِلَّا أَن أَبَا حنيفَة قَالَ: مَتى وجد الإِمَام قُوَّة نبذ إِلَيْهِم
عَهدهم وَفسخ.
وَقَالَ مَالك وَالشَّافِعِيّ: لَا يجوز أَكثر من عشر سِنِين.
(2/330)
وَاتَّفَقُوا فِي الْمَرْأَة من
الْمُشْركين إِذا خرجت على بِلَاد الْإِسْلَام فِي مُدَّة عهد بَين
الإِمَام وَبَين أهل الْحَرْب، وَقد كَانَ الإِمَام شَرط لَهُم أَن من
جَاءَ مِنْهُم مُسلما رددناه على أَنَّهَا لَا ترد.
ثمَّ اخْتلفُوا فِي مهرهَا.
فَقَالَ أَبُو حنيفَة وَمَالك وَأحمد: لَا يرد مهرهَا أَيْضا.
وَعَن الشَّافِعِي قَولَانِ، أَحدهمَا: يرد مهرهَا، وَالثَّانِي: كمذهب
الْجَمَاعَة.
وَاخْتلفُوا فِيمَا إِذا مر الْحَرْبِيّ بِمَال للتِّجَارَة على بِلَاد
الْمُسلمين هَل يُؤْخَذ مِنْهُ شَيْء؟
فَقَالَ أَبُو حنيفَة: لَا يُؤْخَذ مِنْهُم إِلَّا أَن يَكُونُوا يؤخذون
منا.
وَقَالَ مَالك وَأحمد: يُؤْخَذ مِنْهُم الْعشْر، إِلَّا أَن مَالِكًا
قَالَ: يُؤْخَذ الْعشْر مِنْهُم إِذا كَانَ دُخُولهمْ بِأَمَان مُطلق وَلم
يكن اشْترط عَلَيْهِم شَيْئا، فَإِن كَانَ اشْترط عَلَيْهِم أَكثر من
الْعشْر عِنْد دُخُولهمْ أَخذ مِنْهُم.
وَقَالَ الشَّافِعِي: إِن اشْترط عَلَيْهِم ذَلِك يَعْنِي الْعشْر جَازَ
أَخذه، وَإِلَّا فَلَا يُؤْخَذ.
وَمن أَصْحَابه من قَالَ: يُؤْخَذ مِنْهُم الْعشْر وَإِن لم يشْتَرط.
وَاخْتلفُوا فِي الذِّمِّيّ إِذا تجر من بلد إِلَى بلد.
(2/331)
فَقَالَ مَالك: يُؤْخَذ فِي الذِّمِّيّ
الْعشْر كلما تجر وَإِن تجر فِي السّنة مرَارًا.
وَقَالَ الشَّافِعِي: لَا يُؤْخَذ إِلَّا أَن يشْتَرط، فَإِن لم يشْتَرط لم
يُؤْخَذ.
وَقَالَ أَبُو حنيفَة وَأحمد: يُؤْخَذ من أهل الذِّمَّة نصف الْعشْر، وَقد
اعْتبر أَحْمد وَأَبُو حنيفَة النّصاب فِي ذَلِك.
فَقَالَ أَبُو حنيفَة: نصابه فِي ذَلِك كنصاب مَال الْمُسلم.
وَقَالَ أَحْمد: النّصاب فِي ذَلِك للحربي خَمْسَة دَنَانِير، وللذمي عشرَة
دَنَانِير.
بَاب نقض الْعَهْد
وَاخْتلفُوا فِيمَا ينْتَقض بِهِ عهد الذِّمِّيّ.
فَقَالَ الشَّافِعِي وَأحمد وَمَالك: ينْتَقض عَهده بِمَنْع الْجِزْيَة،
ويأبى أَن تجْرِي عَلَيْهِ أَحْكَام الْإِسْلَام إِذا حكم حاكمنا عَلَيْهِ
بهَا.
وَقَالَ أَبُو حنيفَة: لَا ينْتَقض عَهدهم إِلَّا أَن يكون لَهُم مَنْعَة
يُحَاربُونَ بهَا، أَو يلْحقُوا بدار الْحَرْب.
فَإِن فعل أحدهم مَا يجب عَلَيْهِ تَركه والكف، وَعِنْدَهُمَا فِيهِ ضَرَر
على الْمُسلمين أَو أجارهم فِي مَال أَو نفس وَذَلِكَ أحد ثَمَانِيَة
أَشْيَاء:
الِاجْتِمَاع على قتال الْمُسلمين، أَو أَن يَزْنِي بِمسلمَة أَو يُصِيبهَا
باسم نِكَاح، أَو يفتن مُسلما عَن دينه، أَو يقطع عَلَيْهِ الطَّرِيق، أَو
يأوي الْمُشْركين جاسوسا، أَو
(2/332)
يعاون على الْمُسلمين بِدلَالَة، وَهُوَ
أَن يُكَاتب الْمُشْركين بأخبار الْمُسلمين، أَو يقتل مُسلما أَو مسلمة
عهدا فَهَل ينْتَقض عُهْدَة بذلك أم لَا؟
فَقَالَ أَبُو حنيفَة: لَا ينْتَقض عَهده بِهَذِهِ الْأَشْيَاء
الثَّمَانِية وَلَا بالأمرين الْمَذْكُورين قبل، إِلَّا أَن يكون مَنعه
فيغلبون على مَوضِع ويحاربونا، أَو يلْحقُوا بدار الْحَرْب.
وَقَالَ الشَّافِعِي: مَتى قَاتل الْمُسلمين انْتقض عَهده سَوَاء شَرط
عَلَيْهِ تَركه فِي العقد أم لم يشرط، فَإِن فعل مَا سوى ذَلِك من
الْأَشْيَاء السَّبْعَة الْمَذْكُورَة فَإِن لم يشْتَرط عَلَيْهِم الْكَفّ
عَن ذَلِك فِي العقد لم ينْتَقض الْعَهْد، وَإِن شَرط عَلَيْهِم الْكَفّ
عَن ذَلِك فِي العقد فَفِيهِ لأَصْحَابه وَجْهَان:
أَحدهمَا: أَنه لَا ينْتَقض بِهِ الْعَهْد.
وَالثَّانِي: ينْتَقض بِهِ الْعَهْد.
وَقَالَ مَالك لَا ينْتَقض عَهدهم من ذَلِك بِالزِّنَا بالمسلمات، وَلَا
بالإصابة لَهُنَّ باسم النِّكَاح. وينتقض بِمَا سوى ذَلِك إِلَّا فِي قطعهم
للطريق فَإِن ابْن الْقَاسِم
(2/333)
خَاصَّة من أَصْحَابه قَالَ: ينْتَقض
عَهدهم بذلك.
وَعَن أَحْمد رِوَايَتَانِ، أظهرهمَا: أَن عَهدهم ينْتَقض بِهَذِهِ
الْأَشْيَاء الثَّمَانِية الْمَذْكُورَة.
سَوَاء كَانَت اشْترطت عَلَيْهِم أم لم تكن.
وَالرِّوَايَة الثَّانِيَة: لَا ينْتَقض الْعَهْد إِلَّا بالامتناع من بذل
الْجِزْيَة، وَجرى أحكامنا عَلَيْهِم أَو بِأَحَدِهِمَا فَإِن فعل أحدهم
مَا فِيهِ غَضَاضَة ونقيضه على الْإِسْلَام وَهِي أَرْبَعَة أَشْيَاء. -
ذكر الله تَعَالَى بِمَا لَا يَلِيق بجلاله. - أَو ذكر كِتَابه الْمجِيد. -
أَو ذكر دينه القويم. - أَو ذكر رَسُوله الْكَرِيم بِمَا لَا يَنْبَغِي.
فَهَل ينتقص الْعَهْد بذلك أم لَا؟
قَالَ أَحْمد: ينْتَقض الْعَهْد بذلك، سَوَاء شَرط ترك ذَلِك عَلَيْهِم أم
لم يشرط.
وَقَالَ مَالك: إِذا سبوا الله أَو رَسُوله أَو دينه أَو كِتَابه بِغَيْر
مَا كفرُوا بِهِ، فَإِنَّهُ
(2/334)
ينْتَقض عَهدهم بذلك، وَسَوَاء شَرط
عَلَيْهِم تَركه أَو لم يشرط.
وَقَالَ أَكثر أَصْحَاب الشَّافِعِي: إِذا فعل من ذَلِك شَيْئا فَحكمه حكم
مَا فِيهِ ضَرَر للْمُسلمين.
وَهِي الْأَشْيَاء السَّبْعَة، فَإِن لم يشْتَرط فِي العقد الْكَفّ عَنهُ،
لم ينْتَقض الْعَهْد.
وَإِن شَرط الْكَفّ عَنهُ فعلى الْوَجْهَيْنِ.
وَقَالَ أَبُو إِسْحَاق الْمروزِي: حِكْمَة حكم الثَّلَاثَة الأولى وَهِي
الِامْتِنَاع عَن الْتِزَام الْجِزْيَة والتزام أَحْكَام الْمُسلمين
والاجتماع على قِتَالهمْ. وَقَالَ أَبُو حنيفَة: لَا ينْتَقض الْعَهْد
بِشَيْء من ذَلِك إِلَّا أَن يكون لَهُم مَنْعَة يقدرُونَ مَعهَا على
الْمُحَاربَة، أَو يلْحقُوا بدار الْحَرْب.
وَاخْتلفُوا فِيمَن انْتقض عُهْدَة مِنْهُم بِمَا ينْتَقض بِهِ عِنْد كل
مِنْهُم على أَصله، مَاذَا يصنع بِهِ؟
فَقَالَ أَبُو حنيفَة: مَتى انْتقض عَهدهم أُبِيح قَتلهمْ مَتى قدر
عَلَيْهِم.
وَقَالَ مَالك فِي رِوَايَة ابْن وهب وَابْن نَافِع وَهُوَ الْمَشْهُور
عَنهُ: أَنهم يقتلُون ويسبون كَمَا فعل رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - ببني أبي الْحقيق.
وَقَالَ الشَّافِعِي فِي أحد قوليه وَهُوَ الْأَظْهر، وَأحمد: لَا يرد من
انْتقض عَهده مِنْهُم إِلَى مأمنه.
(2/335)
وَالْإِمَام فِيهِ مُخَيّر بَين الاسترقاق
وَبَين الْقَتْل.
وَقَالَ الشَّافِعِي فِي القَوْل الآخر: يلْحق بمأمنه.
وَاتَّفَقُوا على أَنه يمْنَع الْكَافِر من دُخُول الْحرم.
إِلَّا أَبَا حنيفَة فَإِنَّهُ قَالَ: يجوز لَهُ دُخُوله وان يُقيم فِيهِ
مقَام الْمُسَافِر وَلَا يستوطنه، وَيجوز عِنْده دُخُول الْوَاحِد مِنْهُم
الْكَعْبَة أَيْضا.
ثمَّ اخْتلفُوا هَل يمْنَع الْكَافِر وَالذِّمِّيّ من استيطان الْحجاز
وَهِي مَكَّة وَالْمَدينَة واليمامة ومخالفيها؟
قَالَ الْأَصْمَعِي: سمي مجَازًا لِأَنَّهُ حاجز بَين تهَامَة ونجد.
فَقَالَ أَبُو حنيفَة: لَا يمْنَع.
وَقَالَ الشَّافِعِي وَأحمد وَمَالك: يمْنَع.
وَمن دخل مِنْهُم تَاجِرًا أَقَامَ ثَلَاثَة أَيَّام ثمَّ انْتقل وَلَا
يُقيم إِلَّا بِإِذن الإِمَام.
(2/336)
وَاخْتلفُوا فِيمَا سوى الْمَسْجِد
الْحَرَام من الْمَسَاجِد.
فَقَالَ أَبُو حنيفَة: يجوز دُخُولهَا للْمُشْرِكين بِلَا إِذن.
وَقَالَ الشَّافِعِي: لَا يجوز لَهُم دُخُولهَا إِلَّا بِإِذن الْمُسلمين.
وَقَالَ مَالك وَأحمد: لَا يجوز لَهُم الدُّخُول بِحَال.
وَاتَّفَقُوا على أَنه لَا يجوز لَهُم إِحْدَاث كَنِيسَة وَلَا بيعَة فِي
المدن والأمصار فِي بِلَاد الْإِسْلَام.
ثمَّ اخْتلفُوا هَل يجوز إِحْدَاث ذَلِك فِيمَا قَارب المدن؟
فَقَالَ مَالك وَأحمد وَالشَّافِعِيّ: لَا يجوز أَيْضا.
وَقَالَ أَبُو حنيفَة: إِن كَانَ الْموضع قَرِيبا من الْمَدِينَة بِحَيْثُ
يكون حكمه حكم الْمصر بِحَيْثُ يجوز فِيهِ صَلَاة الْجُمُعَة أَو
الْعِيدَيْنِ، وَهُوَ قدر ميل أَو أقل، وَهُوَ ثلث فَرسَخ فَلَا يجوز فِيهِ
إِحْدَاث ذَلِك، وَإِن كَانَ الْموضع أبعد من هَذَا الْمِقْدَار جَازَ.
فَأَما إِذا كَانَ بَين الْبيُوت وَكَانَ ذَلِك الْموضع دون ثلث فَرسَخ
فَهُوَ فِي حكم الْبَلَد لَا يجوز إِحْدَاث البيع فِيهِ.
وَاخْتلفُوا فِيمَا تشعث من بيعهم وكنائسهم فِي دَار الْإِسْلَام أَو تهدم،
هَل يرم أَو يجدد بِنَاؤُه؟
فَقَالَ أَبُو حنيفَة وَالشَّافِعِيّ: يجوز وَاشْترط أَبُو حنيفَة فِي
الْجَوَاز أَن يكون ذَلِك فِي أَرض فتحت صلحا، فَأَما إِن كَانَت أَرض
عنْوَة فَلَا يجوز.
فَإِن كَانَت فِي الصَّحَارِي، ثمَّ صَارَت مصرا، ثمَّ خربَتْ البيع
وَالْكَنَائِس فَظَاهر مذْهبه يَقْتَضِي أَنهم يمْنَعُونَ من إِعَادَتهَا
بيعا أَو كنائس بل على هَيْئَة الْبيُوت والمساكن.
وَيمْنَعُونَ أَيْضا من صلَاتهم فِيهَا واجتماعهم.
وَقَالَ أَحْمد فِي اظهر رواياته: لَا يجوز لَهُم ذَلِك بمرمة وَلَا
تَجْدِيد بِنَاء على الْإِطْلَاق.
وَهِي اخْتِيَار أَكثر أَصْحَاب أَحْمد، وَمن أَصْحَاب الشَّافِعِي أَبُو
سعيد
(2/337)
الاصطخري، وَأَبُو عَليّ بن أبي هُرَيْرَة وَغَيرهمَا، وَالرِّوَايَة
الثَّانِيَة عَن أَحْمد: يجوز عمَارَة مَا تشعث مِنْهَا بالمرمة، فإمَّا
إِن استولى عَلَيْهَا الخراب فَلَا يجوز بناؤها.
وَهِي اخْتِيَار الْخلال من أَصْحَابه.
وَالثَّالِثَة عَنهُ: جَوَاز ذَلِك على الْإِطْلَاق. |