الدراري المضية شرح الدرر البهية

كتاب الحدود
باب حد الزنى
...
كتاب الحدود
باب حد الزاني
إن كان بكرا حرا جلد مائة جلدة وبعد الجلد يغرب عاما وإن كان ثيبا جلد كما يجلد البكر ثم رجم حتى يموت ويكفي إقراره مرة وما ورد من التكرار في وقائع الأعيان فلقصد الإستثبات وأما الشهادة فلا بد من أربعة ولا بد أن يتضمن الإقرار والشهادة التصريح بإيلاج الفرج في الفرج ويسقط بالشبهات المحتملة وبالرجوع عن الإقرار وبكون المرأة عذراء أو رتقاء وبكون الرجل مجبوبا أو عنينا وتحرم الشفاعة في الحدود ويحفر للمرجوم إلى الصدر ولا ترجم الحبلى حتى تضع وترضع ولدها إن لم يوجد من يرضعه ويجوز الجلد حال المرض بعثكال ونحوه ومن لاط بذكر قتل ولو كان بكرا وكذلك المفعول به إذا كان مختارا ويعزر من نكح بهيمة ويجلد المملوك نصف جلد الحر ويحده سيده أو الإمام.
أقول: أما جلد الزاني البكر الحر مائة جلده فلقوله: تعالى {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ} والأحاديث في هذا الباب كثيرة.
وأما التغريب فلحديث أبي هريرة وزيد بن خالد رضي الله عنهما في الصحيحين وغيرهما أن رجلا من الأعراب أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله أنشدك الله إلا قضيت لي بكتاب الله وقال: الخصم الآخر وهو أفقه منه نعم فاقض بيننا بكتاب الله وائذن لي فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "قل" قال: إن ابني كان عسيفا على هذا فزنا بامرأته وإني أخبرت أن على ابني الرجم فافتديت منه بمائة شاة ووليدة فسألت أهل العلم فأخبروني أن على ابني جلد مائة وتغريب عام وأن على امرأة هذا الرجم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "والذي نفسي بيده لأقضين بينكما بكتاب الله الوليدة والغنم رد عليك وعلى ابنك جلد مائة

(2/384)


وتغريب عام واغد يا أنيس - لرجل من أسلم- إلى امرأة هذا فإن اعترفت فارجمها" قال: فغدا إليها فاعترفت فأمر بها رسول الله صلى الله عليه وسلم فرجمت قال مالك: العسيف الأجير وفي البخاري وغيره من حديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قضى فيمن زنى ولم يحصن بنفى عام وإقامة الحد عليه وأخرج مسلم رحمه الله تعالى من حديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "خذوا عني قد جعل الله لهن سبيلا البكر بالبكر جلد مائة وتغريب سنة والثيب بالثيب جلد مائة والرجم" وقد ذهب إلى تغريب الزاني الذي لم يحصن الجمهور حتى ادعى محمد بن نصر في كتاب الإجماع الاتفاق على نفي الزاني البكر إلا عن الكوفيين وقد حكى بن المنذر أنه عمل بالتغريب الخلفاء الراشدون ولم ينكره أحد فكان إجماعا ولم يأت من لم يقل بالتغريب بحجة نيرة وغاية ما تمسكوا به عدم ذكره في بعض الأحاديث وذلك لا يستلزم العدم فاختلف من أثبت التغريب هل تغرب المرأة أم لا فقال: مالك والأوزاعي لا تغريب على المرأة لأنها عورة وظاهر الأدلة عدم الفرق.
وأما جلد الثيب فيما تقدم من الأدلة وغيرها كرجمه صلى الله عليه وسلم لماعز ورجمه صلى الله عليه وسلم لليهودي واليهودية ورجمه للغامدية والكل في الصحيح.
وأما كونه يكفي إقرار مرة فاعلم أن أخذ المقر بإقراره هو الثابت في الشريعة فمن أوجب تكرار الإقرار في فرد من أفراد الشريعة كان الدليل عليه ولا دليل ههنا بيد من أوجب تربيع الإقرار إلا مجرد ما وقع من ماعز من تكرار الإقرار ولم يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أمر أو غيره بأن يكرر الإقرار ولا ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أن إقرار الزنا لا يصح إلا إذا كان أربع مرات وإنما لم يقم على ماعز الحد بعد الإقرار الأول لقصد التثبت في أمره ولهذا قال له صلى الله عليه وسلم: "أبك جنون" ؟ ووقع منه صلى الله عليه وسلم السؤال لقوم ماعز عن عقله وقد اكتفى صلى الله عليه وسلم بالإقرار مرة واحدة كما ثبت في الصحيحين وغيرهما من قوله صلى الله عليه وسلم: "واغد يا أنيس إلى امرأة هذا فإن اعترفت فارجمها" وثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه رجم الغامدية ولم تقر إلا مرة واحدة كما قال: في صحيح مسلم رحمه الله تعالى وغيره وكما

(2/385)


أخرجه أبو داود والنسائي من حديث خالد ابن اللجلاج عن أبيه: أن النبي صلى الله عليه وسلم رجم رجلا أقر مرة واحدة ومن ذلك حديث الرجل الذي ادعت المرأة أنه وقع عليها فأمر برجمه ثم قام آخر فاعترف أنه الفاعل فرجمه وفي رواية أنه عفا عنه والحديث في سنن النسائي والترمذي ومن ذلك رجم اليهودي واليهودية فإنه لم ينقل أنهما كررا الإقرار فلو كان الإقرار أربع مرات شرطا في حد الزاني لما وقع منه صلى الله عليه وسلم المخالفة له في عدة قضايا فتحمل الأحاديث التي فيها التراخي عن إقامة الحد بعد صدور الإقرار مرة على من كان أمره ملتبسا في ثبوت العقل وعدمه والصحو والسكر ونحو ذلك وأحاديث إقامة الحد بعد الإقرار مرة على من كان معروفا بصحة العقل ونحوه.
وأما اعتبار كون الشهود أربعة فذلك لمزيد الإحتياط في الحدود لكونها تسقط بالشبهة ولا وجه للإحتياط بعد الإقرار فإن إقرار الرجل على نفسه لا يبقي بعده ريبة بخلاف شهادة الشهود عليه وهذا أمر واضح وقد ذهب إلى ما ذكرناه جماعة من أهل العلم من الصحابة فمن بعدهم وحكاه صاحب البحر عن أبي بكر وعمر رضي الله عنهما والحسن البصري ومالك وحماد وأبي ثور والبتي والشافعي وذهب الجمهور إلى التربيع في الإقرار.
وأما اعتبار كون الشهود أربعة فلا أعلم في ذلك خلافا وقد دل عليه الكتاب والسنة.
وأما كونه لا بد من التصريح في الإقرار والشهادة بإيلاج الفرج في الفرج فلقوله صلى الله عليه وسلم لماعز: "لعلك قبلت أو غمزت أو نظرت" ؟ فقال: لا يا رسول الله قال: أفنكتها لا يكنى قال: نعم" فعند ذلك أمر برجمه أخرجه البخاري وغيره من حديث ابن عباس وأخرج أبو داود والنسائي والدارقطني من حديث أبي هريرة قال: جاء الأسلمي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فشهد على نفسه أنه أصاب امرأة حراما أربع مرات كل ذلك يعرض عنه فأقبل عليه في الخامسة فقال: "أنكتها" ؟ قال: نعم قال: "كما يغيب المرود في المكحلة والرشأ في البئر" ؟

(2/386)


قال: نعم الحديث وفي إسناده ابن الهصهاص قال البخاري: حديثه في أهل الحجاز ليس يعرف إلا بهذا الواحد وقد وقع من عمر بمحضر من الصحابة في استفصال شهود المغيرة بنحو هذا والقصة معروفة.
وأما كون الحد يسقط بالشبهات فلحديث أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ادرأوا الحدود عن المسلمين ما استطعتم فإن كان له مخرج فخلوا سبيله فإن الإمام إن يخطىء في العفو خير من أن يخطيء في العقوبة" أخرجه الترمذي وقد رواه الترمذي أيضا من حديث الزهري عن عروة عن عائشة وقد أعل الحديث بالوقف وأخرج ابن ماجه من حديث أبي هريرة مرفوعا بلفظ "ادفعوا الحدود ما وجدتم لها مدفعا" وقد روي من حديث علي رضي الله عنه مرفوعا "ادرأوا الحدود بالشبهات" وروى نحوه عن عمر وابن مسعود بإسناد صحيح وفي الباب من الروايات ما يعضد بعضه بعضا ويقويه ومما يؤيد ذلك قوله: صلى الله عليه وسلم: "لو كنت راجما أحدا بغير بينة لرجمتها يعني امرأة العجلاني كما في الصحيحين من حديث ابن عباس.
وأما كونه يسقط الحد بالرجوع عن الإقرار فلحديث أبي هريرة عند أحمد والترمذي أن ماعزا لما وجد مس الحجارة فر يشتد حتى مر برجل معه لحى جمل فضربه به وضربه الناس حتى مات فذكروا ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "هلا تركتموه" قال الترمذي: حديث حسن وقد روى من غير وجه عن أبي هريرة ورجال إسناده ثقات وأخرج أبو داود والنسائي من حديث جابر نحوه وزاد أنه لما وجد مس الحجارة صرخ يا قوم ردوني إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فإن قومي قتلوني وغروني من نفسي وأخبروني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم غير قاتلي فلم ننزع عنه حتى قتلناه فلما رجعنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخبرناه قال: "فهلا تركتموه وجئتموني به" وقد أخرج البخاري ومسلم رحمهما الله طرفا من هذا الحديث وفي الباب روايات وقد ذهب إلى ذلك أحمد والشافعية والحنفية والعترة وهو مروى عن مالك في قول له وقد ذهب ابن ابي ليلى والبتي وأبو ثور ورواية عن مالك وقول للشافعي أنه لا يقبل منه الرجوع عن الإقرار.

(2/387)


وأما سقوطه بكون المرأة رتقاء أو عذراء أو بكون الرجل مجبوبا أو عنينا فلكون المانع موجودا فتبطل الشهادة أو الإقرار لأنه قد علم كذب ذلك قطعا وقد روى أنه صلى الله عليه وسلم بعث عليا لقتل رجل كان يدخل على مارية القبطية فذهب فوجده يغتسل في ماء فأخذ بيده فأخرجه من الماء ليقتله فرآه مجبوبا فتركه ورجع إلى النبي صلى الله عليه وسلم وأخبره بذلك والقصة مشهورة وهذا معناها.
وأما كونها تحرم الشفاعة في الحدود فلما أخرجه أحمد وأبو داود والحاكم وصححه من حديث ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من حالت شفاعته دون حد من حدود الله فهو مضاد الله في أمره" وفي الصحيحين من حديث عائشة في قصة المرأة المخزومية التي سرقت لما شفع فيها أسامة بن زيد فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "أتشفع في حد من حدود الله" وأخرج أحمد أهل السنن وصححه الحاكم وابن الجارود أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لصفوان: لما أراد أن يقطع الذي سرق رداءه فشفع فيه "هلا كان قبل أن تأتيني به" وفي الباب أحاديث.
وأما كونه يحفر للمرجوم إلى الصدر فلكونه صلى الله عليه وسلم أمر أن يحفر للغامدية إلى صدرها وهو في صحيح مسلم رحمه الله وغيره من حديث عبد الله بن بريدة وفي مسلم وغيره أنه حفر لماعز حفرة ثم أمر به فرجم كما في حديث عبد الله بن بريدة في قصة ماعز وأخرجها أحمد وزاد حفرله حفرة فجعل فيها إلى صدره وأخرج أحمد وأبو داود والنسائي من حديث خالد بن اللجلاج عن أبيه أنه اعترف رجل بالزنا فقال: له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أحصنت" ؟ قال نعم فأمر برجمه فذهبنا فحفرنا له حتى أمكننا ورميناه بالحجارة حتى هدأ وقد ثبت في مسلم وغيره من حديث أبي سعيد قال: لما أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نرجم ماعز بن مالك خرجنا به إلى البقيع فوالله ما حفرنا له ولا وثقناه ويؤيد هذا ما وقع في حديث غيره أنه هرب كما تقدم ولكن ترك الحفر له لا ينافي مشروعية الحفر.
وأما كونها لا ترجم الحبلى حتى تضع وترضع ولدها إن لم يوجد من يرضعه

(2/388)


فلحديث سليمان بن بريدة عن أبيه عند مسلم رحمه اللذه وغيره أن النبي صلى الله عليه وسلم جاءته امرأة من غامد من الأزد فقالت: يا رسول الله طهرني فقال: "ويحك ارجعي فاستغفري الله وتوبي إليه" فقالت: أراك تريد أن تردني كما رددت ماعز ابن مالك قال: "وما ذاك قالت: إني حبلى من الزنا قال: أنت قالت: نعم فقال لها: "حتى تضعي ما في بطنك" قال: فكفلها رجل من الأنصار حتى وضعت قال: فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: و ضعت الغامدية فقال: "إذن لا نرجمها وندع ولدها صغيرا ليس له من يرضعه" فقام رجل من الأنصار فقال: إلي رضاعه يا رسول الله قال: فرجمها وأخرج مسلم رحمه الله وغيره من حديث عمران ابن حصين أن امرأة من جهينة أتت النبي صلى الله عليه وسلم وهي حبلى من الزنا فقالت: يا رسول الله أصبت حدا فأقمه علي فدعا نبي الله صلى الله عليه وسلم وليها فقال: "أحسن إليها فإذا وضعت فأتني" ففعل فأمر بها رسول الله صلى الله عليه وسلم فشدت عليها ثيابها ثم أمر بها فرجمت الحديث وقد رويت هذه القصة من حديث أبي هريرة وأبي سعيد وجابر بن عبد الله وجابر بن سمرة وابن عباس رضي الله عنهم وأحاديثهم عند مسلم رحمه الله تعالى وقد اختلفت الروايات ففي بعضها ما تقدم في حديث بريدة وفي بعضها أن النبي صلى الله عليه وسلم أخر رجمها إلى الفطام فجاءت بعد ذلك فرجمت وقد جمع بينهما بمجموعات.
وأما كونه يجوز الجلد حال المرض ولو بعثكال ونحوه فلحديث أبي أمامة بن سهل عن سعيد بن سعد ابن عبادة قال: كان بين أبياتنا رويجل ضعيف مخدج فلم يرع الحي إلا وهو أمة من إمائهم يخبث بها فذكر ذلك سعد بن عبادة لرسول الله صلى الله عليه وسلم وكان ذلك الرجل مسلما فقال: "اضربوه حده فقال: يا رسول الله إنه أضعف مما تحسب لو ضربناه مائة قتلناه فقال: "خذوا له عثكالا فيه مائة شمراخ ثم اضربوه به ضربة واحدة" قال: ففعلوا روا أحمد وابن ماجه والشافعي والبيهقي والدارقطني عن فليح عن أبي سالم عن سهل بن سعد ورواه الطبراني من حديث أبي أمامة عن أبي سعيد الخدري ورواه أبو داود من حديث رجل من الأنصار وأخرجه النسائي من حديث أبي أمامة بن

(2/389)


سهل بن حنيف عن أبيه وإسناد الحديث حسن وقد أخرج مسلم رحمه الله تعالى وغيره من حديث علي رضي الله عنه قال: أن أمة لرسول الله صلى الله عليه وسلم زنت فأمرني أن أجلدها فأتيتها فإذا هي حديثة عهد بنفاس فخشيت إن أجلدها أن أقتلها فذكرت ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فقال: "أحسنت اتركها حتى تماثل" وقد جمع بين هذا الحديث والحديث الأول بأن المريض إذا كان مرضه مرجوا أمهل كما في الحديث الآخر وإن كان مأيوسا جلد كما في الحديث الأول وقد حكي في البحر الإجماع على أنه تمهل البكر حتى تزول شدة الحر والبرد والمرض المرجو فإن كان مأيوسا فقال: الهادي وأصحاب الشافعي أنه يضرب بعثكول إن احتمله وقال: المؤيد بالله والناصر لا يحد في مرضه وإن كان مأيوسا.
وأما كون من لاط بذكر يقتل ولو كان بكرا وكذا المفعول به إذا كان مختارا فلحديث ابن عباس عند أحمد وأبي داود وابن ماجه والترمذي والحاكم والبيهقي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من وجدتموه يعمل عمل قوم لوط فاقتلوا الفاعل والمفعول به" قال ابن حجر: رجاله موثوقون إلا أن فيه اختلافا وأخرج ابن ماجه والحاكم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "اقتلوا الفاعل والمفعول به أحصنا أو لم يحصنا" وإسناده ضعيف قال: ابن الطلاع في أحكامه لم يثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه رجم في اللواط ولا أنه حكم فيه وثبت عنه أنه قال: "اقتلوا الفاعل والمفعول به" رواه عنه ابن عباس وأبو هريرة انتهى وأخرج البيهقي عن علي أنه رجم لوطيا قال الشافعي: وبهذا نأخذ برجم اللوطي محصنا كان أو غير محصن وأخرج أيضا عن أبي بكر رضي الله عنه أنه جمع الناس في حق رجل ينكح كما تنكح النساء فسأل أصحاب رسول الله عن ذلك فكان من أشدهم يومئذ قولا علي ابن أبي طالب قال: هذا ذنب لم تعص به أمة من الأمم إلا أمة واحدة صنع الله بها ما قد علمتم نرى أن نحرقه فاجتمع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم على أن يحرقه بالنار فكتب أبو بكر إلى خالد بن الوليد أن يحرقه بالنار وأخرج أبو داود عن سعيد بن جبير ومجاهد عن ابن عباس في البكر

(2/390)


يوجد على اللوطية يرجم" وأخرج البيهقي عن ابن عباس أيضا أنه سئل عن حد اللوطي فقال: ينظر أعلى بناء في القرية فيرمى به منكسا ثم يتبع الحجارة وقد اختلف أهل العلم في عقوبة اللواط بعد اتفاقهم على تحريمه وأنه من الكبائر فذهب من تقدم من الصحابة إلى أن حده القتل ولو كان بكرا سواء كان فاعلا أو مفعولا به وإليه ذهب الشافعي والناصر والقاسم بن إبراهيم وقد حكى صاحب شفاء الأوام إجماع الصحابة على القتل وحكى البغوي عن الشعبي والزهري ومالك وأحمد وإسحاق وروى عن النخعي أنه قال: لو كان يستقيم أن يرجم الزاني مرتين لرجم اللوطي قال المنذري حرق اللوطية بالنار أبو بكر وعلي وعبد الله ابن الزبير وهشام بن عبد الملك وذهب من عدا من تقدم إلى أن حد اللوطي حد الزاني وقال الشافعي: في الأظهر أن حد الفاعل حد الزنا إن كان محصنا رجم وإلا جلد وغرب وحد المفعول به الجلد والتغريب وفي قول كالفاعل وفي قول يقتل الفاعل والمفعول به وقال: أبو حنيفة يعزر باللواط ولا يجلد ولا يرجم.
وأما كونه يعزر من نكح بهيمة فلكون الحديث المروي عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : "من وقع على بهيمة فاقتلوه واقتلوا البهيمة" أخرجه أحمد وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه فقد روى الترمذي وأبو داود من حديث أبي رزين عن ابن عباس أنه قال: " من أتى بهيمة فلا حد عليه" وقال: إنه أصح من الحديث الأول والعمل على هذا عند أهل العلم وروى أبو يعلى الموصلي من حديث أبي هريرة نحو حديث ابن عباس في القتل ولكن في إسناده عبد الغفار قال ابن عدي أنه رجع عنه وذكر أنهم كانوا لقنوه وقد وقع الإجماع على تحريم إتيان البهيمة كما حكى ذلك صاحب البحر ووقع الخلاف بين أهل العلم فقيل يحد كحد الزاني وقيل يعزر فقط إذ ليس بزنا وقيل يقتل ووجه ما ذكرناه من التعزير أنه فعل محرما مجمعا عليه فاستحق العقوبة بالتعزير وهذا أقل ما يفعل به.

(2/391)


وأما كونه يجلد المملوك نصف جلد الحر فلقوله: تعالى {فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ} [النساء:25] ولا قائل بالفرق بين الأمة والعبد كما حكى ذلك صاحب البحر وقد أخرج عبد الله بن أحمد في المسند من حديث على قال: أرسلني رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أمة سوداء زنت لأجلدها الحد فوجدتها في دمها فأخبرت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "إذا تعالت من نفاسها فاجلدها خمسين" . وهو في صحيح مسلم رحمه الله تعالى كما تقدم بدون ذكر الخمسين وأخرج مالك في الموطأ عن عبد الله بن عياش المخزومي قال: أمرني عمر بن الخطاب في فتية من قريش فجلدنا ولائد الإمارة خمسين خمسين في الزنا وذهب ابن عباس إلأ أنه لا حد على مملوك حتى يتزوج تمسكا بقوله تعالى: {فَإِذَا أُحْصِنَّ} [النساء:25] الآية وأجيب بأن المراد بالإحصان هنا الإسلام.
وأما كونه يحد العبد سيده أو الإمام فلعموم الأدلة الواردة في مطلق الحد وأما سيده فلحديث أبي هريرة في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا زنت أمة أحدكم فتبين زناها فليجلدها الحد ولا يثرب عليها ثم إن زنت فليجلدها ولا يثرب عليها ثم إن زنت الثالثه فليبعها ولو بحبل من شعر" وقد ذهب إلى أن السيد يجلد مملوكه جماعة من السلف والشافعي وذهب العترة إلى أن حد المماليك إلى الإمام إن كان ثم إمام وإلا كان إلى السيد.

(2/392)


باب ما جاء حد السرقة
من سرق مكلفا مختارا من حرز ربع دينار فصاعدا قطعت كفه اليمنى ن ويكفي الإقرار مرة واحدة أو شهادة عدلين ويندب تلقين المسقط ويحسم موضع القطع وتعليق اليد في عنق السارق ويسقط بعفو المسروق عليه قبل البلوغ إلى السلطان لا بعده فقد وجب ولا قطع في ثمر ولا كثر مالم يؤوه الجرين إذا أكل ولم يتخذ خبنة وإلا كان عليه ثمن ما حمله مرتين وضرب نكال وليس على الخائن والمنتهب والمختلس قطع وقد اثبت القطع في جحد العارية.
أقول أما اشتراط التكليف والإختيار فقد تقدم وجهه.
وأما قطع السارق فلقوله تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ} [المائدة:38] الآية وأما اعتبار الحوز فقد استدل على ذلك بما أخرجه أبو داود من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد سأله رجل عن الحريسة التي تؤخذ من مراتعها قال: فيها ثمنها مرتين وضرب نكال وما أخذ من عطنه ففيه القطع إذا بلغ ما يؤخذ من ذلك ثمن المجن قال: يا رسول الله فالثمار وما أخذ منها في أكمامها قال: من أخذ بفمه ولم يتخذ خبنة فليس عليه شيء ومن احتمل فعليه ثمنه مرتين وضرب نكال وما أخذ من أجرانه ففيه القطع إذا بلغ ما يؤخذ من ذلك ثمن المجن وقد أخرجه أيضا أحمد والنسائي والحاكم وصححه وحسنه الترمذي والحريسة التي ترعى وعليها

(2/393)


حرس. وكذا حديث لا قطع في ثمر ولا كثر عند أحمد وأهل السنن، والحاكم وصححه ابن حبان والبيهقي من حديث رافع بن خديج وقد ذهب إلى اعتبار لحرز الأكثر وذهب أحمد إسحاق والظاهرية وطائفة من أهل الحديث إلى عدم اعتباره واستدلوا على عدم الإعتبار وإن كان قيامهم مقام المنع يكفيهم بما أخرجه أحمد وأبو داود وابن ماجه والنسائي ومالك في الموطأ والشافعي والحاكم وصححه من حديث صفوان بن أمية قال: كنت نائما في المسجد على خميصة لي فسرقت فاخذنا السارق فرفعناه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأمر بقطعه فقلت يا رسول الله أفي خميصة ثمن ثلاثين درهما إنا أهبها له قال: فهلا كان قبل أن تأتيني به وأخرج أحمد وأبو داود والنسائي من حديث ابن عمر أن رسول الله قطع يد سارق سرق برنسا من صفة النساء ثمنه ثلاثة دراهم وقد أخرج مسلم رحمه الله تعالى معناه وقد روى نحوه حديث صفوان من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده وضعف إسناده ابن حجر ويجاب عن الاستدلال بهذه الأحاديث على عدم اعتبار الحرز بأن المساجد حرز لما دخل إليها ولو كان على صاحبه فيكون الحرز أعم مما وقع تبينه في كتب الفقه ولكنه يشكل على من اعتبر الحرز حديث قطع جاحد العارية وسيأتي ويمكن أن يكون ذلك خاصا بما ورد فيه فلا يعارض ما ورد في اعتبار الحرز في غيره.
وأما كون نصاب القطع ربع دينار فصاعدا فلحديث عائشة رضي الله عنها في الصحيحين وغيرهما قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقطع يد السارق في ربع دينار فصاعدا وفي رواية لمسلم رحمه الله وغيره أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا تقطع يد السارق إلا في ربع دينار فصاعدا" وفي لفظ لأحمد اقطعوا في ربع دينار ولا تقطعوا فيما هو أدنى من ذلك وكان ربع الدينار يومئذ ثلاثة دراهم والدينار اثنى عشر درهما وفي رواية للنسائي قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تقطع يد السارق فيما دون ثمن المجن" قيل لعائشة ما ثمن المجن قالت: ربع دينار وفي الصحيحين وغيرهما من حديث ابن عمر قال: قطع النبي صلى الله عليه وسلم في مجن ثمنه

(2/394)


ثلاثة دراهم" وقد عرفت أن الثلاثة الدراهم هي صرف ربع الدينار كما تقدم في رواية أحمد قال: الشافعي وربع الدينار موافق لرواية ثلاثة دراهم وذلك أن الصرف على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم اثنا عشر درهما بدينار وهو موافق لما في تقدير الديات من الذهب بألف دينار ومن الفضة باثني عشر ألف درهم وقد ذهب إلى كون نصاب القطع ربع دينار أو ثلاثة دراهم الجمهور من السلف والخلف ومنهم الخلفاء الأربعة وفي المسألة اثنا عشر مذهبا قد أوضحتها في شرح المنتقي وأما ما روي من حديث أبي هريرة في الصحيحين وغيرهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لعن الله السارق يسرق البيضة فتقطع يده ويسرق الحبل فتقطع يده" فقد قال: الأعمش كانوا يرون أنها بيض الحديد والحبل كانوا يرون أن منها ما يساوي ثلاثة دراهم كذا في البخاري وغيره.
وأما كونه يكفي الإقرار مرة واحدة فلما قدمناه في الباب الأول وقد قطع النبي صلى الله عليه وسلم سارق المجن وسارق رداء صفوان ولم ينقل أنه أمره بتكرار الإقرار وأما ما وقع منه صلى الله عليه وسلم من قوله صلى الله عليه وسلم للسارق الذي اعترف بالسرق: " ما أخالك سرقت" قال: بلى مرتين أو ثلاثا فهذا هو من باب الإستثبات كما تقدم وقد ذهب إلى أنه يكفي الإقرار مرة واحدة مالك والشافعية والحنفية وذهبت العترة وابن أبي ليلى وأحمد وإسحاق إلى اعتبار المرتين.
وأما اعتبار شهادة عدلين فلكون السرقة مندرجة تحت ما ورد من أدلة الكتاب والسنة في اعتبار الشاهدين. وأما كونه يندب تلقين المسقط فلحديث أبي أمية المخزومي عند أحمد وأبي داود والنسائي بإسناد رجاله ثقات أن النبي صلى الله عليه وسلم أتى بلص اعترف اعترافا ولم يوجد معه متاع فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما أخالك سرقت" قال: بلى مرتين أو ثلاثا وقد روى عن عطاء أنه قال: كان من مضى يؤتى إليهم بالسارق فيقول: أسرقت قل: لا، وسمي أبا بكر وعمر رضي الله عنهما أخرجه عبد الرزاق وفي الباب عن جماعة من الصحابة.

(2/395)


وأما حسم موضع القطع وتعليق اليد في عنق السارق فلما أخرجه الدارقطني والحاكم والبيهقي وصححه ابن القطان من حديث أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتى بسارق قد سرق شملة فقال: قالوا يا رسول الله إن هذا سرق فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما أخاله سرق" فقال: السارق بلى يا رسول الله فقال : "اذهبوا به فاقطعوه ثم احسموه ثم ائتوني به فقطع فأتي به فقال: تب إلى الله فقال: قد تبت إلى الله فقال: تاب الله عليك" وأخرج أهل السنن وحسنه الترمذي من حديث فضالة بن عبيد قال: أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم بسارق فقطعت يده ثم أمر بها فعلقت في عنقه وفي إسناد الحجاج ابن أرطاه قال: النسائي ضعيف لا يحتج.
وأما كونه يسقط بعفو المسروق عليه قبل البلوغ إلى السلطان لا بعده فلحديث صفوان المتقدم وأخرج النسائي وأبو داود وصححه من حديث عبد الله بن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "تعافوا الحدود فيما بينكم فما بلغني من حد فقد وجب"
وأما كونه لا قطع في ثمر ولا كثر إلخ فلحديث عمرو بن شعيب ورافع بن خديج المتقدمين في أول الباب والكثر جمار النخل أو طلعها و إلزامه بالثمن مرتين تأديب له بالمال ولم يكتف صلى الله عليه وسلم بذلك بل قال: وضرب نكال ليجمع له بين عقوبة المال والبدن والخبنة ما يحمله الإنسان في حضنه وقد تقدم ضبطها وتفسيرها.
وأما كونه ليس على الخائن والمنتهب والمختلس قطع فلحديث جابر عند أحمد وأهل السنن والحاكم والبيهقي وصححه الترمذي وابن حبان عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ليس على خائن ولا منتهب ولا مختلس قطع" وأخرج ابن ماجه بإسناد صحيح من حديث عبد الرحمن بن عوف بنحو حديث جابر وأخرجه ابن ماجه أيضا والطبراني من حديث أنس نحوه.
وأما كونه قد ثبت القطع في جحد العارية فلما أخرج مسلم رحمه الله تعالى

(2/396)


وغيره من حديث عائشة قالت: كانت امرأة مخزومية تستعير المتاع وتجحده فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بقطع يدها وأخرج أحمد والنسائي وأبو داود وأبو عوانة في صحيحه من حديث ابن عمر مثل حديث عائشة وقد ذهب إلى قطع جاحد العارية من لا يشترط الحرز وهم من تقدم وذهب الجمهور إلى أنه لا يقطع جاحد العارية قالوا لأن الجاحد للعارية ليس بسارق وإنما ورد الكتاب والسنة بقطع السارق ويرد بأن الجاحد إذا لم يكن سارقا لغة فهو سارق شرعا والشرع مقدم على اللغة وقد ثبت الحديث من طريق عائشة وابن عمر كما تقدم وكذا من حديث جابر وابن مسعود وغير هؤلاء وقد وقع في رواية من حديث ابن مسعود عند ابن ماجه والحاكم وصححه أنها سرقت قطيفة من بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ووقع في مراسيل حبيب بن أبي ثابت أنها سرقت حليا فيمكن أن تكون هذه المخزومية قد جمعت بين السرقة وجحد العارية"

(2/397)


باب حد القذف
من قذف غيره بالزنا وجب عليه حد القذف ثمانين جلده ويثبت ذلك بإقراره مرة أو شهادة عدلين وإذا لم يتب لم تقبل شهادته فإن جاء بعد القذف بأربعة شهود سقط عنه الحد وكذلك إذا أقر المقذوف بالزنا.
أقول: الدليل على ثبوت حد القذف قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً} وقد أجمع أهل العلم على ذلك وروى مالك عن عبد الله بن عامر بن ربيعة قال: أدركت عمر ابن الخطاب وعثمان بن عفان والخلفاء وهلم جرا فما رأيت أحدا جلد عبدا في فرية أكثر من أربعين واختلفوا هل ينصف للعبد أم لا فذهب الأكثر إلى الأول وذهب ابن مسعود والليث والزهري والأوزاعي وعمر بن عبد العزيز وابن حزم إلى أنه لا ينصف لعموم الآية.
وأما كونه يثبت بإقراره مرة فلكون إقرار المرء لازما له ومن ادعى أنه يشترط ا لتكرار مرتين فعليه الدليل ولم يأت في ذلك دليل من كتاب ولا سنة.
وأما اعتبار شهادة العدلين فكسائر ما يعتبر فيه الشهادة كما اطلقه الكتاب العزيز.
وأما كونه يسقط حد القذف إذا جاء القاذف بأربعة شهود يشهدون على المقذوف أنه زنا فلأن القاذف حينئذ لم يكن قاذفا بل قد تقرر صدور الزنا بشهادة الأربعة فيقام الحد على الزاني وهكذا إذا أقر المقذوف بالزنا فلا حد

(2/398)


على من رماه به بل يحد المقر بالزنا وقد ثبت عنه صلى الله عليه وسلم إنه جلد أهل الإفك كما في مسند أحمد وأبي داود وابن ماجه والترمذي وحسنة وأشار إلى ذلك البخاري في صحيحه فثبت حد القذف بالسنة كما ثبت بالقرآن ووقع في أيام الصحابة جلد من شهد على المغيرة بالزنا حيث لم تكمل الشهادة وذلك معروف ثابت.

(2/399)


باب حد الشرب
من شرب مسكرا مكلفا مختارا جلد على ما يراه الإمام إما أربعين جلدة أو أقل أو أكثر ولو بالنعال ويكفي إقراره مرة أو شهادة عدلين ولو على القىء وقتله في الرابعة منسوخ
فصل: والتعزير في المعاصي التي لا توجب حدا ثابت بحبس او ضرب أو نحوهما ولا يجاوز عشرة أسواط:
أقول: أما اعتبار التكليف والإختيار فقد تقدم دليله.
وأما كون حد الشرب مفوضا إلى نظر الإمام فلما ثبت في الصحيحين من حديث أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم جلد في الخمر بالجريد والنعال وجلد أبو بكر رضي الله عنه أربعين وفي مسلم من حديثه أن النبي صلى الله عليه وسلم أتى برجل قد شرب الخمر فجلد بجريدتين نحو أربعين قال: وفعله أبو بكر فلما كان عمر استشار الناس فقال: عبد الرحمن أخف الحدود ثمانين جلده فأمر به عمر وفي البخاري وغيره من حديث عقبة بن الحارث قال: جيء بالنعمان شاربا فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم من كان في البيت أن يضربوه فكنت فيمن ضربه بالنعال والجريد وفيه أيضا من حديث السائب بن يزيد قال: كنا نؤتى بالشارب في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي إمرة أبي بكر وصدرا من إمرة عمر فنقوم نضربه بأيدينا ونعالنا وأرديتنا حتى كان صدرا من أمرة

(2/400)


عمر فجلد فيها أربعين حتى إذا عتوا فيها وفسقوا جلد ثمانين وفيه أيضا من حديث أبي هريرة نحوه وفي الباب أحاديث يستفاد من مجموعها أن حد السكر لم يثبت تقريره عن الشارع وأنه كان يقام بين يديه على صور مختلفة بحسب ما تقتضيه الحال وفي الصحيحين عن علي رضي الله عنه أنه قال: ما كنت لأقيم حدا على أحد فيموت فأجد في نفسي شيئا إلا صاحب الخمر فإنه لو مات وديته وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يسنه.
وأما كونه يكفي إقراره مرة أو شهادة عدلين فلما تقدم ولعدم وجود دليل على اعتبار التكرار.
وأما كون الشهادة تصح على القىء فلكون خروجها من جوفه يفيد القطع بأنه شربها والأصل عدم المسقط ولهذا حد الصحابة الوليد بن عقبة لما شهد عليه رجلان أحدهما أنه شربها والآخر أنه تقيأها فقال: عثمان رضي الله عنه إنه لم يتقيأها حتى شربها كما في مسلم وغيره.
وأما كون قتله في الرابعة منسوخ فلما رواه الترمذي عن جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم " أن من شرب الخمر فاجلدوه فإن عاد في الرابعة فاقتلوه" قال: ثم أتى النبي صلى الله عليه وسلم بعد ذلك برجل قد شرب في الرابعة فضربه ولم يقتله ومثله أخرج أبو داود والترمذي من حديث قبيصة بن ذؤيب وفيه ثم أتى به يعني في الرابعة فجلده ورفع القتل وفي رواية لأحمد من حديث أبي هريرة فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم بسكران في الرابعة فخلى سبيله.
وأما جواز التعزير في المعاصي وأنه لا يجوز عشرة أسواط فلحديث أبي بردة بن نيار في الصحيحين وغيرهما أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "لا يجلد فوق عشرة أسواط إلا في حد من حدود الله" وأخرج أحمد وأبو داود والنسائي والترمذي وحسنة و قال الحاكم: صحيح الإسناد من حديث بهز بن حكيم أن النبي صلى الله عليه وسلم حبس رجلا في تهمة ثم خلى عنه وأخرج الحاكم له شاهدا من حديث أبي هريرة وفيه أن النبي صلى الله عليه وسلم حبس في تهمة يوما وليلة وقد ثبت

(2/401)


أن عمر أمر أبا عبيدة بن الجراح أن يربط خالد بن الوليد بعمامته لما عزله عن إمارة الجيش كما في كتب السير وسبب ذلك أنه استنكر منه إعطاء شيء من أموال الله وتقدم في باب السرقة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: وضرب النكال.

(2/402)


باب ما جاء في حد المحارب
هو أحد الأنواع المذكورة في القرآن القيل أو الصلب أو قطع اليد والرجل من خلاف أو النفي من الأرض يفعل الإمام منها ما رأى فيه صلاحا لكل من قطع طريقا ولو في المصر إذا كان قد سعى في الأرض فسادا فإن تاب قبل القدرة سقط عنه ذلك.
أقول: هذا ظاهر ما دل عليه الكتاب العزيز من غير نظر إلى ما حدث من المذاهب فإن الله سبحانه قال: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَاداً} فضم إلى محاربة الله ورسوله أي معصيتهما السعي في الأرض فسادا فكان دليلا على أن من عصى الله ورسوله بالسعي في الأرض فسادا كان حده ما ذكره الله في الآية ولما كانت الآية الكريمة نازلة في قطاع الطريق وهم العرنيون كان دخول من قطع طريقا تحت عموم الآية دخولا أوليا ثم حصر الجزاء في قوله: {أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ} [المائدة:33] فخير بين هذه الأنواع فكان للإمام أن يختار ما رأى فيه صلاحا منها فإن لم يكن إمام من يقوم مقامه في ذلك من أهل الولايات فهذا ما يقتضيه نظم القرآن الكريم ولم يأت من الأدلة النبوية ما يصرف ما دل عليه القرآن الكريم عن معناه الذي تقتضيه لغة العرب وأما ما روى عن ابن عباس كما أخرجه الشافعي في مسنده أنه قال: في قطاع الطريق إذا قتلوا وأخذوا المال قتلوا وصلبوا وإذا قتلوا ولم يأخذوا المال قتلوا ولم يصلبوا وإذا أخذوا المال ولم يقتلوا قطعت أيديهم وأرجلهم من خلاف وإذا أخافوا السبيل ولم يأخذوا مالا

(2/403)


نفوا من الأرض فليس هذا الاجتهاد مما تقوم به الحجة عل أحد ولو فرضنا أنه في الحكم التفسير للآية وإن كان مخالفا لها غاية المخالفة ففي إسناده ابن يحيى وهو ضعيف جدا لا تقوم بمثله الحجة وأما ما روى عن ابن عباس أيضا أن الآية نزلت في المشركين كما أخرجه أبو داود والنسائي عنه فذلك مدفوع بأنها نزلت في العرنيين وقد كانوا أسلموا كما في الأمهات ولو سلمنا ماروى عن ابن عباس لم تقم به حجة من قال: باختصاص ما في الآية بالمشركين لما تقرر من أن الإعتبار بعموم اللفظ لا بخصوص السبب على أن في إسناد ذلك علي بن الحسين بن واقد وهو ضعيف وقد ذهب إلى مثل ما ذهبنا إليه جماعة من السلف كالحسن البصري وابن المسيب ومجاهد وأسعد الناس بالحق من كان معه كتاب الله وقد ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في العزنيين أنه فعل بهم أحد الأنواع المذكورة في الآية وهو القطع كما في الصحيحين وغيرهما من حديث أنس والمراد بالصلب المذكور هو الصلب على الجذوع ونحوها حتى يموت إذا رأى الإمام ذلك أو يصلبه صلبا لا يموت فيه فإن اسم الصلب يصدق على الصلب المفضي إلى الموت و الصلب الذي لا يفضي غلى الموت ولو فرضنا أنه يختص بالصلب المفضي إلى الموت لم يكن في ذلك تكرار بعد ذكر القتل لأن الصلب هو قتل خاص.
وأما النفي من الأرض فهو طرده عن الأرض التي أفسد فيها وقيل إنه الحبس وهو خلاف المعنى العربي.
وأما سقوط الحد عنه أن تاب قبل أن يقدر عليه فلنص القرآن بذلك.

(2/404)


باب من يستحق القتل حدا
"هو الحربي والمرتد والساحر والكاهن والساب لله أو لرسوله او للإسلام أو للكتاب أو للسنة والطاعن في الدين والزنديق بعد استتابتهم والزاني المحصن واللوطى مطلقا والمحارب.
أقول: أما الحربي فلا خلاف في ذلك لأوامر الله عز وجل بقتل المشركين في مواضع من كتابه العزيز ولما ثبت عنه صلى الله عليه وسلم ثبوتا متواترا من قتالهم وأنه كان يدعوهم إلى ثلاث ويأمر بذلك من يبعثه للقتال.
وأما المرتد فلقوله صلى الله عليه وسلم: "من بدل دينه فاقتلوه" وهو للبخاري وغيره من حديث ابن عباس وحديث: "لا يحل دم امرىء مسلم إلا بإحدى ثلاث كفر بعد إيمان" الحديث وهو في الصحيحين وغيرهما من حديث ابن مسعود ولحديث أبي معاذ بن جبل فلما قدم عليه ألقى له وسادة وقال: انزل وإذا رجل عنده موثق قال: ما هذا قال: كان يهوديا فأسلم ثم تهود قال: لا أجلس حتى يقتل قضاء الله ورسوله.
وأما الساحر فلكون عمل السحر نوعا من الكفر ففاعله مرتد يستحق ما يستحق المرتد وقد روى الترمذي والدارقطني والبيهقي والحاكم من حديث جندب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم حد الساحر ضربه بالسيف قال الترمذي والصحيح عن جندب موقوفا ثم قال: والعمل على هذا عند بعض أهل العلم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وغيرهم وهو قول مالك بن أنس وقال: الشافعي إنما يقتل

(2/405)


الساحر إذا كان يعمل في سحره ما يبلغ الكفر فإذا عمل عملا دون الكفر فلم ير عليه قتلا انتهى وفي إسناد هذا الحديث إسماعيل ابن مسلم المكي وهو ضعيف وأخرج أحمد وعبد الرزاق والبيهقي أن عمر بن الخطاب كتب قبل موته بشهر أن اقتلوا كل ساحر وساحرة والأرجح ما قاله الشافعي لأن الساحر إنما يقتل لكفره فلا بد أن يكون ما عمله من السحر موجبا للكفر.
وأما الكاهن فلكون الكهانة نوعا من الكفر فلا بد أن يعمل من كهانته ما يوجب الكفر وقد ورد أن تصديق الكاهن كفر فبالأولى الكاهن إذا كان معتقدا لصحة الكهانة ومن ذلك حديث أبي هريرة عند مسلم رحمه الله تعالى وغيره أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من أتى كاهنا أو عرافا فقد كفر بما أنزل على محمد" وفي الباب أحاديث.
وأما الساب لله أو لرسوله أو للإسلام أو للكتاب أو للسنة أو الطاعن في الدين فكل هذه الأفعال موجبة للكفر الصريح ففاعلها مرتد حده حده. وقد أخرج أبو داود من حديث علي رضي الله عنه أن يهودية كانت تشتم النبي صلى الله عليه وسلم وتقع فيه فخنقها رجل حتى ماتت فأبطل رسول الله صلى الله عليه وسلم دمها ولكنه من رواية الشعبي عن علي وقد قيل إنه سمع منه وأخرج أبو داود والنسائي من حديث ابن عباس أن أعمى كانت له أم ولد تشتم النبي صلى الله عليه وسلم فقتلها فأهدر النبي صلى الله عليه وسلم دمها ورجال إسناده ثقات وأخرج أبو داود والنسائي عن أبي برزة قال: كنت عند أبي بكر فتغيظ على رجل فاشتد غضبه فقلت أتأذن لي يا خليفة رسول الله أن أضرب عنقه قال: فأذهبت كلمتي غضبه فقام فدخل فأرسل إلي فقال: ما الذي قلت آنفا قلت ائذن لى أن أضرب عنقه قال: أكنت فاعلا لو أمرتك قلت نعم قال: لا والله ما كان لبشر بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد نقل ابن المنذر الإجماع على أن من سب النبي صلى الله عليه وسلم وجب قتله ونقل أبو بكر الفارسي أحد أئمة الشافعية في كتاب الإجماع أن من سب النبي صلى الله عليه وسلم بما هو قذف صريح كفر باتفاق العلماء فلو تاب لم يسقط عنه القتل لأن حد قذفه القتل وحد القذف لا يسقط بالتوبة وخالفه القفال فقال: كفر بالسب

(2/406)


فيسقط القتل بالإسلام قال: الخطابي لا أعلم خلافا في وجوب قتله إذا كان مسلما انتهى وإذا ثبت ما ذكرناه في سب النبي صلى الله عليه وسلم فبالأولى سب الله تبارك وتعالى أو سب كتابه أو الإسلام أو طعن في دينه وكفر من فعل هذا لا يحتاج إلى برهان.
وأما الزنديق فهو الذي يظهر الإسلام ويبطن الكفر ويعتقد بطلان الشرائع فهذا كافر بالله وبدينه مرتد عن الإسلام أقبح ردة إذا ظهر منه ذلك بقول أو بفعل وقد اختلف أهل العلم هل تقبل توبته أم لا والحق قبول التوبة.
وأما اعتبار الاستتابةة في هؤلاء المذكورين فلحديث جابر عند الدارقطني والبيهقي أن امرأة يقال لها أم رومان ارتدت فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بأن يعرض عليها الإسلام فإن تابت وإلا قتلت وله طريقان ضعفهما ابن حجر وأخرج البيهقي من وجه آخر ضعيف عن عائشة أن امرأة ارتدت يوم أحد فأمر النبي صلى الله عليه وسلم أن تستتاب فإن تابت وإلا قتلت وأخرج أبو الشيخ في كتاب الحدود عن جابر أنه صلى الله عليه وسلم استتاب رجلا أربع مرات وفي إسناده العلاء ابن هلال وهو متروك وأخرج البيهقي من وجه آخر وأخرج الدارقطني والبيهقي أن أبا بكر رضي الله عنه استتاب امرأة يقال: لها أم قرفة كفرت بعد إسلامها فلم تتب فقتلها قال: ابن حجر وفي السير أن النبي صلى الله عليه وسلم قتل أم قرفة يوم قريظة وهي غير تلك وأخرج مالك في الموطأ والشافعي أن رجلا قدم على عمر بن الخطاب رضي الله عنه من قبل أبي موسى فسأله عن الناس فأخبره ثم قال: هل من مغربة خبر قال: نعم رجل كفر بعد إسلامه قال: فما فعلتم به قال: قربناه فضربنا عنقه فقال رضي الله عنه: هل حبستموه ثلاثا وأطعمتموه كل يوم رغيفا واستتبتموه لعله يتوب ويراجع أمر الله اللهم إني لم أحضر ولم أرض إذ بلغني وقد اختلف أهل العلم في وجوب الاستتابة ثم كيفيتها والظاهر أنه يجب تقديم الدعاء إلى الاسلام قبل السيف كما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو أهل الشرك ويأمر بدعائهم إلى إحدى ثلاث خصال ولا يقاتلهم حتى يدعوهم فهذا ثبت في كل كافر فيقال: للمرتد إن رجعت إلى الإسلام وإلا

(2/407)


قتلناك وللساحر والكاهن والساب لله أو لرسوله أو للإسلام أو للكتاب أو للسنة أو الطاعن في الدين أو الزنديق قد كفرت بعد إسلامك فإن رجعت إلى الإسلام وإلا قتلناك فهذه هي الإستتابة وهي واجبة كما وجب دعاء الحربي إلى الإسلام.
وأما كونه يقال: للمرتد بأي نوع من تلك الأنواع مرتين أو ثلاثا أو في ثلاثة أيام أو أقل أو أكثر فلم يأت ما تقوم به الحجة في ذلك بل يقال: لكل واحد من هؤلاء ارجع إلى الإسلام فإن أبي قتل مكانه.
وأما الزاني المحصن واللوطى والمحارب فقد تقدم الكلام فيهم.

(2/408)