الدراري المضية شرح الدرر البهية

كتاب الجهاد والسير
مدخل
...
كتاب الجهاد والسير
الجهاد فرض كفايه مع كل بر وفاجر أذا أذن الأبوان وهو مع إخلاص النيه يكفر الخطايا الا الدين ويلحق به حقوق الآدمي ولا يستعان فيه بالمشركين إلا لضرورة ويجب على الجيش طاعة أميرهم إلا في معصية الله وعليه مشاورتهم والرفق بهم وكفهم عن الحرام ويشرع للإمام إذا أراد غزوا أن يوري بغير ما يريده وأن يذكي العيون ويستطلع الأخبار ويرتب الجيوش وينخد الرايات والألويه وتجب الدعوه قبل القتال إلى إحدى ثلاث خصال إما الإسلام أو الجزية أو السيف ويحرم قتل النساء والاطفال والشيوخ الا لضرورة والمثلة والإحراق بالنار والفرار من الزحف إلا إلى فئة ويجوز تبييت الكفار والكذب في الحرب والخداع.
أقول: الجهاد قد ورد في فضله والترغيب فيه من الكتاب والسنه ما هو معروف وقد أفرد ذلك بالتأليف جماعة من أهل العلم وقد أمر الله بالجهاد بالأنفس والأموال وأوجب على عباده أن ينفورا إليه وحرم عليهم التثاقل عنه وصح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: " لغدوة أو روحة في سبيل الله خير من الدنيا وما فيها" وهو في الصحيحين وغيرهما من حديث أنس وثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: "الجنة تحت ظلال السيوف" كما في الصحيحين وغيرهما من حديث أبي موسى وابن أبي أوفى وثبت في صحيح البخاري وغيره أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من أغبرت قدماه في سبيل الله حرمه الله على النار وثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: "رباط يوم في سبيل الله خير من الدنيا وما عليها" كما في الصحيحين من حديث سهل بن سعد وأخرج أهل السنن وصححه الترمذي من حديث معاذ بن جبل أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: من قاتل في سبيل الله فواق ناقة وجبت له الجنة" فناهيك بعمل يوجب الله الجنه لصاحبه ويحرمه على النار ويكون مجرد الغدو إليه والرواح منه خير من الدنيا وما فيها.

(2/439)


وأما كونه فرض كفاية فلما أخرجة أبو داود عن ابن عباس قال : {إِلاّ تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَاباً أَلِيماً} [التوبة:39] {مَا كَانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ} [التوبة:120] إلى قوله: {يَعْلَمُونَ} نسختها الآية التي تلها {وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ} [التوبة:122] وقد حسنه ابن حجر قال: الطبري يجوز أن يكون {إِلاّ تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَاباً أَلِيماً} [التوبة:39] خاصا والمراد به من استنفره النبي صلى الله عليه وسلم فامتنع قال: ابن حجر والذي يظهر أنها مخصوصة وليست بمنسوخة وقد وافق ابن عباس على دعوى النسخ عكرمة والحسن البصري كما روى ذلك الطبري عنهما ومن الأدله الدالة على أنه فرض كفاية أنه كان صلى الله عليه وسلم يغزو تارة بنفسه وتارة يرسل غيره ويكتفي ببعض المسلمين وقد كانت سراياه صلى الله عليه وسلم وبعوثه متعاقبة والمسلمون بعضهم في الغزو وبعضهم في أهله وإلى كونه فرض كفاية ذهب الجمهور وقال: الماوردي أنه كان فرض عين على المهاجرين دون غيرهم وقال: السهيلي كان عينا على الأنصار وقال: ابن المسيب أنه فرض عين وقال: قوم أنه فرض عين في زمن الصحابة.
وأما كونه مع كل بر وفاجر فلأن الأدلة الدالة على وجوب الجهاد من الكتاب والسنة وعلى فضيلته والترغيب فيه وردت غير مقيدة بكون السلطان أو أمير الجيش عادلا بل هذه فريضة من فرائض الدين أوجبها الله على عبادة المسلمين من غير تقيد بزمن أو مكان أو شخص أو عدل أو جور فتخصيص وجوب الجهاد يكون السلطان عادلا ليس عليه أثارة من علم وقد يبلي الرجل الفاجر في الجهاد مالا يبليه البار العادل وقد ورد بهذا الشرع كما هو معروف وأخرج أحمد في المسند في روايه ابن عبد الله وأبو داود وسعيد ابن منصور من حديث أنس قال: قال: رسول الله صلى الله عليه وسلم : "ثلاث من أصل الايمان الكف عمن قال لا إله إلا الله لا تكفره بذنب ولا تخرجة عن الإسلام بعمل والجهاد ماض مذ بعثني الله إلى أن يقاتل آخر أمتي الدجال لا يبطله جور جائر ولا عدل عادل" ولا يعتبر في الجهاد إلا أن يقصد المجاهد بجهاده أن تكون كلمة الله هي العليا كما ثبت في حديث أبي موسى في الصحيحين وغيرهما قال: سئل

(2/440)


رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الرجل يقاتل شجاعة ويقاتل حمية ويقاتل رياء فأي ذلك في سبيل الله قال: من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله.
وأما اعتبار إذن الأبوين فلحديث عبد الله بن عمر قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فاستأذنه في الجهاد فقال : "أحي والداك" ؟ قال: نعم قال: "ففيهما فجاهد" وفي روايه لأحمد وأبي داود وابن ماجه قال: يا رسول الله إني جئت أريد الجهاد معك ولقد أتيت وإن والدي يبكيان قال: "فارجع إليهما فأضحكهما كما أبكيتهما" وقد أخرج هدا الحديث مسلم رحمه الله تعالى من وجه آخر وأخرج أبو داود من حديث أبي سعيد أن رجلا هاجر إلى النبي صلى الله عليه وسلم من اليمن فقال: "هل لك أحد باليمن" ؟ فقال: أبواي فقال: "أذنا لك"؟ قال: لا فقال: "ارجع إليهما فاستأذنهما فإن أذنا لك فجاهد وإلا فبرهما" وصححه ابن حبان وأخرج أحمد والنسائي والبيهقي من حديث معاوية ابن جاهمة السلمى أن جاهمة أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله أردت الغزو وجئتك أستشيرك فقال: "هل لك من أم" ؟ قال: نعم قال: "ألزمها فإن الجنة عند رجليها" وقد اختلف في إسناده اختلافا كثيرا وقد ذهب الجمهور إلى أنه يجب استئذان الأبوين في الجهاد ويحرم إذا لم يأذنا أو أحدهما لأن برهما فرض عين والجهاد فرض كفاية قالوا: وإذا تعين الجهاد فلا إذن ويدل على ذلك ما أخرجه ابن حبان من حديث عبد الله بن عمر قال: جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فسأله عن أفضل الأعمال فقال: "الصلاة" قال: ثم مه قال : "الجهاد" قال: فإن لي والدين قال : "آمرك بوالديك خيرا" قال: والذي بعثك نبيا لأجاهدن ولأتركنهما قال: "فأنت أعلم" قالوا وهو محمول على الجهاد فرض العين أي حيث يتعين على من له أبوان أو أحدهما توفيقا بين الحديثين.
وأما كون الجهاد مع إخلاص النية يكفر الخطايا إلا الدين فلحديث أبي قتادة عند مسلم رحمه الله وغيره أن رجلا قال: يا رسول الله أرأيت إن قتلت في سبيل الله هل تكفر عني خطاياي قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "نعم وأنت صابر محتسب مقبل غير مدبر إلا الدين فإن جبريل عليه السلام قال لي ذلك" وأخرج مثله

(2/441)


أحمد والنسائي من حديث أبي هريرة وأخرج مسلم وغيره من حديث عبد الله بن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " يغفر الله للشهيد كل ذنب إلا الدين فإن جبريل عليه السلام قال: لي ذلك" وأخرج الترمذي نحوه من حديث أنس وحسنه ويلحق بالدين كل حقوق الآدمين من غير فرق بين دم أو عرض أو مال إذا لا فرق بينهما.
وأما كونه لا يستعان في الجهاد بالمشركين إلا لضرورة فلقوله صلى الله عليه وسلم من أراد الجهاد معه من المشركين "ارجع فلن أستعين بمشرك" فلما أسلم استعان به وهو في صحيح مسلم رحمه الله تعالى وغيره من حديث أبي هريرة وأخرج أحمد والشافعي والبيهقي والطبراني نحوه من حديث حبيب ابن عبد الرحمن عن أبيه عن جده ورجال إسناده ثقات وأخرج أحمد والنسائي من حديث أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "لا تستضيئوا بنار المشركين" وفي إسناده أزهر بن راشد وهو ضعيف وبقية إسناده ثقات وأخرج الشافعي من حديث ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم استعان بناس من اليهود يوم خيبر وأخرجه أبو داود في مراسيله من حديث الزهري وأخرجه أيضا الترمدي مرسلا وقد أخرج أحمد وأبو داود وابن ماجه من حديث ذي مخبر قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "ستصالحون الروم صلحا وتغزون أنتم وهم عدوا من ورائكم" وقد ذهب جماعة من العلماء إلى عدم جواز الإستعانة بالمشركين وذهب آخرون إلى جوازها وقد استعان النبي صلى الله عليه وسلم بالمنافقين في يوم أحد وانخزل عنه عبد الله بن أبي بأصحابه وكذلك استعان بجماعة منهم في يوم حنين وقد ثبت في السير أن رجلا يقال: له قزمان خرج مع النبي صلى الله عليه وسلم يوم أحد وهو مشرك فقتل ثلاثه من بني عبد الدار حملة لواء المشركين حتى قال: رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله ليأزر هذا الدين بالرجل الفاجر". وخرجت خزاعة مع النبي صلى الله عليه وسلم على قريش عام الفتح وهم مشركون فيجمع بين الأحاديث بأن الإستعانة بالمشركين لا تجوز إلا لضرورة لا إذا لم تكن ثم ضرورة.

(2/442)


وأما كونه يجب على الجيش طاعة أميرهم إلا في معصية الله فلحديث أبي هريرة في الصحيحين وغيرهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من أطاعني فقد أطاع الله ومن عصاني فقد عصى الله ومن يطع الأمير فقد أطاعني ومن يعص الأمير فقد عصاني وعن ابن عباس في قوله تعالى: {وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ} [النساء:59] قال: نزلت في عبد الله ابن حذافة بن قيس ابن عدي بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم في سرية أخرجه أحمد وأبو داود وهو في الصحيحين وفيهما أيضا من حديث علي قال: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم سرية واستعمل عليهم رجلا من الأنصار وأمرهم أن يسمعوا له ويطيعوا فأغضبوه في شيء فقال: اجمعوا لي حطبا فجمعوا ثم قال: أوقدوا نارا فأوقدوا ثم قال: ألم يأمركم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تسمعوا وتطيعوا فقالوا:بلى قال: فادخلوها فنظر بعضهم إلى بعض وقالوا إنما فررنا إلى رسل الله من النار فكانوا كذلك حتى سكن غضبه وطفئت النار فلما رجعوا ذكروا ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "لو دخلوا لم يخرجوا منها أبدا" وقال: "لا طاعة في معصية الله إنما الطاعة في المعورف" والأحاديث في هذا الباب مثيرة وفيها التصريح بأنه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق وإنما تجب طاعة الأمراء مالم يأمروا بمعصية الله.
وأما كون على الأمير مشاورة الجيش والرفق بهم وكفهم عن الحرام فلدخول ذلك تحت قوله: {وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ} [آل عمران:159] وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يشاور الغزاة معه في كل ما ينوبه ووقع منه في غير موطن وأخرج مسلم وغيره من حديث أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم شاور أصحابه لما بلغه إقبال أبي سفيان والقصة مشهورة وأجاب عليه سعيد بن عبادة بقوله: والذي نفسي بيده لو أمرتنا أن نخيضها البحر لأخضناها وأخرج أحمد والشافعي من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: مارأيت أحدا قط كان أكثر مشورة لأصحابة من رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخرج مسلم رحمه الله وغيره من حديث عائشه قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "اللهم من ولى من أمر أمتي شيئا فرفق بهم فارفق به" وأخرج مسلم رحمه الله تعالى أيضا من حديث معقل

(2/443)


ابن يسار عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ما من أمير يلي أمور المسلمين ثم لا يجتهد لهم ولا ينصح لهم إلا لم يدخل الجنة" وأخرج أبو داود من حديث جابر قال: كان وسول الله صلى الله عليه وسلم يتخلف في السير فيزجي الضعيف ويردف ويدعو لهم وأخرج أحمد وأبو داود من حديث سهل معاذ عن أبيه قال: غزونا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم غزوة وكذا فضيق الناس الطريق فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم مناديا فنادى "من ضيق منزلا أو قطع طريقا فلا جهاد له" وفي إسناده إسمعيل ابن عياش وسهل بن معاذ ضعيف وقد جاءت الأدله المفيدة للقطع بوجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وأحق الناس بذلك الأمراء.
وأما كونه يشرع للإمام إذا أراد غزوا أن يورى بغير ما يريده فلحديث كعب بن مالك عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان إذا أراد غزوة ورى بغيرها وهو في الصحيحين وغيرهما.
وأما كونه يشرع له أن يذكي العيون فلحديث جابر في الصحيحين وغيرهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال يوم الأحزاب "من يأتيني بخبر القوم" ؟ فقال الزبير: أنا الحديث وثبت في صحيح مسلم رحمه الله وغيره أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث عينا ينظر عير أبي سفيان وثبت أنه بعث من يأتيه بمقدار جيش المشركين يوم بدر وغيره وكان يأمر من يستطلع أخبار العدو ويقف في المواضع التي بينه وبينهم وذلك مدون في الكتب الموضوعة في السير والغزوات.
وأما كونه يشرع له أن يرتب الجيوش ويتخذ الرايات والألوية فقد وقع منه صلى الله عليه وسلم من ترتيب جيوشه عند ملاقاته للعدو ما هو مشهور فكان يأمر بعضا يقف في هذا المكان وآخرين في المكان الآخر وقال للرماه يوم أحد: أنهم يقفون حيث عينه لهم ولا يفارقون ذلك المكان ولو تخطفه هو ومن معه الطير" وقد كانت رايات كما في حديث ابن عباس عند الترمذي وأبي داود قال كانت راية رسول الله صلى الله عليه وسلم سوداء ولواؤه أبيض وأخرج أبو داود من حديث سماك بن حرب عن رجل من قومه عن آخر منهم قال: رأيت راية رسول الله صلى الله عليه وسلم صفراء وفي إسناده مجهول وأخرج أهل السنن والحاكم وابن حبان من حديث

(2/444)


جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل مكة ولواؤه أبيض وفي حديث الحارث بن حسان أنه رأى في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم رايات سوداء أخرجه الترمذي وابن ماجه ورجاله رجال الصحيح وفي الباب أحاديث.
وأما كونها تجب الدعوة قبل القتال إلى إحدى الثلاث الخصال المذكورة فلحديث سليمان بن بريدة عن أبيه عند مسلم رحمه الله وغيره قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم "إذا أمر أميرا على جيش أو سرية أوصاه في خاصة نفسه بتقوى الله ومن معه من المسلمين خيرا ثم قال: "اغزوا باسم الله في سبيل الله قاتلوا من كفر بالله غزوا ولا تغلوا ولا تغدروا ولا تمثلوا ولا تقتلوا ولدا وإذا لقيت عدوك من المشركين فادعهم إلى ثلاث خصال أو خلال فأيتهم ما أجابوك فاقبل منهم وكف عنهم وادعهم إلى الإسلام فإن أجابوك فاقبل منهم وكف عنهم ثم ادعهم إلى التحول من دارهم إلى دار المهاجرين وإخبرهم أنهم إن فعلوا ذلك فلهم ما للمهاجرين وعليهم ما على المهاجرين فإن أبوا أن يتحولوا عنها فأخبرهم أنهم يكونون كأعراب المسلمين يجرى عليهم الذي يجرى على المسلمين ولا يكون لهم في الفيء والغنيمة شيء إلا أن يجاهدوا مع المسلمين فإن هم أبوا فسلهم الجزية فإن أجابوك فاقبل منهم وكف عنهم وإن أبوا فاستعن بالله عليهم وقاتلهم" الحديث وقد ذهب الجمهور إلى وجوب تقديم الدعوة لمن لم تبلغهم الدعوة ولا تجب لمن قد بلغتهم وذهب قوم إلى الوجوب مطلقا.
وأما كونه يحرم قتل النساء والأطفال والشيوخ إلا لضرورة فلحديث ابن عمر في الصحيحين وغيرهما قال: وجدت امرأة مقتولة في بعض معازي النبي صلى الله عليه وسلم فنهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قتل النساء والصبيان" وأخرج أبو داود من حديث أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا تقتلوا شيخا فانيا ولا صبيا ولا امرأة" وفي إسناده خالد بن القرز وفيه مقال: وأخرج أحمد وأبو داود والنسائي وابن حبان والحاكم والبيهقي من حديث رباح ابن ربيع أنه قال صلى الله عليه وسلم: "لا تقتلوا ذرية ولا عسيفا" والعسيف الأجير وأخرج أحمد من

(2/445)


حديث ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا تقتلوا الولدان ولا أصحاب الصوامع" وفي إسناده إبراهيم بن إسمعيل بن أبي حبيبة وهو ضعيف وقد وثقه أحمد وأخرج أحمد أيضا والإسماعيلي في مستخرجه من حديث كعب بن مالك عن عمه أن النبي صلى الله عليه وسلم حين بعث إلى ابن أبي الحقيق بخيبر نهى عن قتل النساء والصبيان ورجاله رجال الصحيح وأخرج أحمد والترمذي وصححه من حديث سمرة مرفوعا بلفظ "اقتلوا شيوخ المشركين واستحيوا شرخهم" وقد قيل أنه وقع الاتفاق على المنع من قتل النساء والصبيان إلا إذا كان ذلك لضرورة كأن يتترس بهم المقاتلة أويقاتلون وقد أخرج أبو داود في المراسيل عن عكرمة أن النبي صلى الله عليه وسلم مر بامرأة مقتولة يوم حنين فقال: "من قتل هذه" ؟ فقال رجل: أنا يا رسول الله غنمتها فأردفتها خلفي فلما رأت الهزيمة فينا أهوت إلى قائم سيفي لتقتلني فقتلتها فلم ينكر عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ووصله الطبراني في الكبير.
وأما كونها تحرم المثلة فلما تقدم قريبا في حديث سليمان بن بريدة عن أبيه عن جده وفيه "ولا تمثلوا" وأخرج نحو ذلك أحمد وابن ماجه من حديث صفوان بن عسال وأحاديث النهي عن المثله كثيرة.
وأما تحريم الإحراق بالنار فلحديث أبي هريرة عند البخاري وغيره قال: بعثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في بعث فقال: "إن وجدتم فلانا وفلانا لرجلين فاحرقوهما بالنار" ثم قال: حين أردنا الخروج إني كنت أمرتكم أن تحرقوا فلانا وفلانا وإن النار لا يعذب بها إلا الله فإن وجدتموهما فاقتلوهما" .
وأما تحريق الشجر والأصنام والمتاع فقد ثبت الإذن بذلك عن الشارع إذا كان فيه مصلحة.
وأما تحريم الفرار من الزحف فقد نطق بذلك القرآن قال تعالى: {وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفاً لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنَ

(2/446)


اللَّهِ} [الأنفال:16] وثبت في الصحيحين وغيرهما إن الفرار من الزحف هو من السبع الموبقات ولا خلاف في الجمله وإن اختلفوا في مسوغات الفرار وقد جوز الله سبحانه الفرار إلى فئه وأما التحرف للقتال فهو وإن كان فيه تولية الدبر لكنه ليس بفرار على الحقيقة.
وأما كونه يجوز تبييت الكفار فلحديث الصعب بن جثامة في الصحيحين وغيرهما أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن أهل الدار من المشركين يبيتون فيصاب من نسائهم وذراريهم ثم قال: "هم منهم" وأخرج أحمد وأبو داود والنسائي وابن ماجه من حديث سلمة بن الأكوع قال: بيتنا هوازن مع أبي بكر الصديق وكان أمره علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم والبيات هو الغارة بالليل قال: الترمذي وقد رخص قوم من أهل العلم في الغارة بالليل وكرهه بعضهم قال: أحمد وإسحاق لا بأس أن يبيت العدو ليلا.
وأما جواز الكذب في الحرب فلما ثبت عند مسلم رحمه الله من حديث جابر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما بعث محمد بن مسلمة ليقتل كعب بن الأشرف فقال: يا رسول الله فأذن لي فأقول قال: قد فعلت يعني يأذن له أن يخدعه بمقال: ولو كان كذبا كما وقع منه في هذه القصة وهي أيضا في البخاري وأخرج مسلم رحمه الله تعالى أم كلثوم بنت عقبه قالت: لم أسمع النبي صلى الله عليه وسلم يرخص في شيء من الكذب مما يقول الناس إلا في الحرب والإصلاح بين الناس وحديث الرجل امرأته وحديث المرأة زوجها وهكذا الكذب المذكور هنا هو التعريض والتلويح بوجه من الوجوه ليخرج عن الكذب الصراح كما قاله جماعة من أهل العلم.
وأما جواز الخداع في الحرب فلما في الصحيحين من حديث جابر قال قال: رسول الله صلى الله عليه وسلم "الحرب خدعة" وفيهما من حديث أبي هريرة قال: سمى النبي صلى الله عليه وسلم "الحرب خدعة" قال: النووي: واتفقوا على جواز خداع الكفار في الحرب كيفما أمكن إلا أن يكون فيه نقض عهد.

(2/447)


فصل في تقسيم الغنائم
وما غنمه الجيش كان لهم أربعه أخماسه وخمسه يصرفه الإمام في مصارفه فيأخد الفارس من الغنيمة ثلاثة أسهم والراجل سهما ويستوي في ذلك القوي والضعيف ومن قاتل ومن لم يقاتل ويجوز تنفيل الإمام بعض الجيش وللإمام الصفي وسهمه كأحد الجيش ويرضخ من الغنيمة لمن حضر ويؤثر المؤلفين إن رأى في ذلك صلاحا وإذا رجع ما أخده الكفار من المسلمين كان لمالكه ويحرم الإنتفاع بشيء من الغنيمة قبل القسمة إلا الطعام والعلف ويحرم الغلول ومن جملة الغنيمة الأسرى ويجوز القتل أو الفداء أو المن.
أقول: أما كون ما غنمه الجيش كان لهم أربعه أخماسة وخمسه يصرفه الإمام في مصارفة فلقوله: تعالى {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ} [الأنفال:41] الآية ومن ذلك ما ورد في القرآن الكريم في الفئ والغنيمة وأخرج أبو داود والنسائي من حديث عمرو بن عبسة قال: صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بعير من المغنم فلما سلم أخد وبرة من جنب البعير ثم قال: "ولا يحل لي من غنائمكم مثل هذا إلا الخمس مردود فيكم" وأخرج نحوه أحمد والنسائي وابن ماجه من حديث عبادة بن الصامت وحسنه ابن حجر وأخرج نحوه أيضا أحمد وأبو داود والنسائي ومالك والشافعي من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده وحسنه أيضا ابن حجر وروى نحو ذلك من حديث جبير بن مطعم والعرباض بن سارية.
وأما كونه للفارس ثلاثة أسهم وللراجل سهم فلما ورد في ذلك من الأحاديث منها حديث بن عمر في الصحيحين وله ألفاظ فيها التصريح بأن النبي صلى الله عليه وسلم أسهم للفارس وفرسه ثلاثه أسهم وللراجل سهما وفيهما معنى ذلك حديث أنس رضي الله عنه ومن حديث عروة البارقي ومنها حديث الزبير

(2/448)


نحو ذلك عند أحمد ورجاله رجال الصحيح وحديث أبي رهم عند الدارقطني وأبي يعلى والطبراني ومن حديث أبي هريرة عند الترمذي والنسائي ومن حديث جرير عند مسلم رحمه الله تعالى وغيره وحديث عتبة بن عبد عند أبي داود وحديث جابر وأسماء بنت يزيد عند أحمد وفي الباب أحاديث وقد ذهب إلى ذلك الجمهور وذهب جماعة من أهل العلم إلى أن الفارس يأخذ له ولفرسه سهمين والراجل سهما وتمسكوا بحديث مجمع ابن حارثة عند أحمد وأبي داود قال: قسمت خيبر على أهل الحديبية فقسمها رسول الله صلى الله عليه وسلم على ثمانية عشر سهما وكان الجيش ألفا وخمسمائة فيهم ثلاثمائة فارس فأعطى الفارس سهمين والراجل سهما". وهذا الحديث في إسناده ضعف وقال: أبو داود إن فيه وهما وإنه قال: ثلثمائة فارس وإنما كانوا مائتين.
وأما كونه يستوى في ذلك القوي والضعيف ومن قاتل ومن لم يقاتل فلحديث ابن عباس عند أبي داود والحاكم وصححه أبو الفتح في الاقتراح على شرط البخاري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قسم غنائم بدر بالسواء بعد وقوع الخصام بين من قاتل ومن لم يقاتل ونزول قوله تعالى: {يَسْأَلونَكَ عَنِ الْأَنْفَالِ} [الأنفال:1] وأخرج نحوه أحمد برجال الصحيح من حديث عبادة بن الصامت وأخرج أحمد من حديث سعد بن مالك قال: قلت يا رسول الله الرجل يكون حامية القوم و يكون سهمه وسهم غيره سواء قال: "ثكلتك أمك ابن أم سعد وهل تنصرون وترزقون إلا بضعفائكم" وأخرجه البخاري أيضا والنسائي عن مصعب ابن سعد قال: "رأى سعد أن له فضلا على من دونه" فقال: النبي "هل تنصرون وترزقون إلا بضعفائكم" وأخرج نحوه أحمد وأبو داود والنسائي والترمذي وصححة.
وأما كونه يجوز تنفيل بعض الجيش فلما أخرجه مسلم رحمه الله وغيره من أن النبي صلى الله عليه وسلم أعطى سلمة بن الأكوع سهم الفارس وسهم الراجل جميعها له وأخرج أحمد وأبو داود والترمذي والنسائي وعزاه المنذري في مختصر السنن

(2/449)


إلى مسلم رحمه الله تعالى: أن النبي صلى الله عليه وسلم نفل سعد ابن أبي وقاص يوم بدر سيفا" وقد ذهب إلى ذلك الجمهور. وحكى بعض أهل العلم الإجماع عليه واختلف العلماء هل هو من أصل الغنيمة أو من الخمس وقد ورد في تنفيل السرية حديث حبيب بن أبي سلمة عند أحمد وأبي داود وابن ماجه وصححه ابن الجارود وابن حبان والحاكم أن النبي صلى الله عليه وسلم نفل الربع بعد الخمس في بدأته ونفل الثلث بعد الخمس في رجعتة" وأخرج نحوه أحمد وابن ماجه والترمذي وصححه ابن حبان من حديث عبادة ابن الصامت وأخرج أحمد وأبو داود وصححه الطحاوي من حديث معن ابن زيد قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "لا نفل إلا بعد الخمس" . وفي الصحيحين من حديث ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم كان ينفل بعد أن يبعث من السرايا لأنفسهم خاصة سوى قسمة عامه الجيش والخمس في دلك كله وفيهما أنه نفل بعض السرايا بعيرا بعيرا وفي الباب أحاديث.
وأما كون للإمام الصفي وسهمه كأحد الجيش فلحديث يزيد بن عبد الله بن الشخير عند أبي داود والنسائي وسكت عنه أبو داود والمنذري قال: كنا بالمريد إذ دخل رجل معه قطعة أديم فقرأناها فإذا فيها "من محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بني زهير بن قيس إنكم إن شهدتم أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله وأقمتم الصلاة وآتيتم الزكاة وأديتم الخمس من المغنم وسهم النبي صلى الله عليه وسلم وسهم الصفي أنتم آمنون بأمان الله ورسوله" فقلنا من كتب هذا قال: رسول الله صلى الله عليه وسلم قال المنذري: ورواه بعضهم عن يزيد بن عبد الله وسمى الرجل النمر بن تولب وأخرج أبو داود عن الشعبي مرسلا قال: كان للنبي صلى الله عليه وسلم سهم يدعى الصفي إن شاء عبدا وإن شاء أمة وإن شاء فرسا يختاره قبل الخمس وأخرج أبو داود من حديث ابن عون مرسلا نحوه وأخرج أحمد والترمذي وحسنه من حديث ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم تنفل سيفه ذا الفقار يوم بدر وأخرج أبو داود من حديث عائشة قالت: كانت صفية من الصفي وأخرج أبو داود من حديث أنس نحوه ويعارضه ما في الصحيحين وغيرهما من حديث أنس أيضا قال:

(2/450)


صارت صفية لدحية الكلبي ثم صارت لرسول الله صلى الله عليه وسلم وفي رواية أنه اشتراها منه بسبعة أرؤس.
وأما كونه يرضخ من الغنيمة لمن حضر فلحديث ابن عباس وغيره أنه سأله سائل عن المرأة والعبد هل كان لهما سهم معلوم إذا حضرا البأس فأجاب إنه لم يكن لهما سهم معلوم إلا أن يحذيا من غنائم القوم وفي لفظ أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يغزو بالنساء فيداوين الجرحى ويحذين من الغنيمة.
وأما السهم فلم يضرب لهن وأخرج أبو داود وابن ماجه والترمذي وصححه من حديث عمر مولى أبي اللحم أنه شهد خيبر مع مواليه فأمر له صلى الله عليه وسلم من حرثي المتاع وأخرج أحمد وأبو داود والنسائي من حديث حشرج بن زياد عن جدته أم أبيه أنها خرجت مع النبي صلى الله عليه وسلم غزوة خيبر سادسة ست نسوة فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فبعث إلينا فجئنا فرأينا فيه الغضب فقال: مع من خرجتن وبإذن من خرجتن فقلنا يا رسول الله خرجنا نغزل الشعر ونعين في سبيل الله ومعنا دواء للجرحى ونناول السهام ونسقي السويق قال: قمن فانصرفن حتى إذا فتح الله عليه خيبرا أسهم لنا كما أسهم للرجال قال: فقلت لها يا جدة وما كان ذلك قالت: تمرا وفي إسناده رجل مجهول وهو حشرج وقال: الخطابي إسناده ضعيف لا تقوم به الحجة وأخرج الترمذي عن الأوزاعي مرسلا قال: أسهم النبي صلى الله عليه وسلم للصبيان بخيبر وحديث حشرج كما عرفت ضعيف وهذا مرسل فلا ينتهضان لمعارضة ما تقدم وقد حمل الإسهام هنا على الرضخ جمعا بين الأحاديث وقد اختلف أهل العلم في ذلك فذهب الجمهور إلى أنه لا يسهم للنساء والصبيان بل يرضخ لهم فقط إن رأى الإمام ذلك.
وأما كونه يؤثر المؤلفين إن رأى في ذلك في ذلك صلاحا فلحديث فلحديث أنس في البخاري وغيره أن النبي صلى الله عليه وسلم قسم الغنائم في أشراف قريش تأليفا لهم وترك الأنصار والمهاجرين وهكذا ثبت في الصحيح من حديث ابن مسعود وغيره

(2/451)


أن النبي صلى الله عليه وسلم أعطى الأقرع بن حابس مائة من الإبل وأعطى عيينة مثل ذلك وأعطى أناسا من أشراف العرب والقصة مشهورة مذكورة في كتب السير بطولها والمراد بأشراف قريش أكابر مسلمة الفتح كأبي سفيان ابن حرب وسهيل بن عمرو وحويطب بن عبد العزى وحكيم ابن حزام وصفوان بن أمية.
وأما كونه إدا رجع ما أخده الكفار من المسلمين كان لمالكه فلحديث عمران بن حصين عند مسلم رحمه الله وغيره أن العضباء ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم أصيبت فركبتها امرأة من المسلمين ورجعت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد كانت نذرت أن تنحرها إذا نجاها الله عليها فقال: رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا وفاء بندر في معصية الله ولا فيما لا يملك العبد" وأخرج البخاري وغيره عن ابن عمر أنه ذهب فرس له فأخذه العدو فظهر عليهم المسلمون فرد عليه في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبق عبد له فلحق بأرض الروم وظهر عليهم المسلمون فرده عليه خالد بن الوليد بعد النبي صلى الله عليه وسلم وفي رواية لأبي داود أن غلاما لابن عمر أبق إلى العدو فظهر عليهم المسلمون فرده صلى الله عليه وسلم إلى ابن عمر ولم يقسم وقد ذهب الشافعي وجماعة من أهل العلم أن أهل الحرب لا يملكون بالغلبة شيئا من المسلمين ولصاحبه أخده قبل الغنيمة وبعدها وروى عن علي والزهري وعمرو بن دينار أنه لا يرد أصلا ويخنص به أهل الغنائم وروى عن عمر وسليمان بن ربيعة وعطاء والليثي ومالك وأحمد وآخرين إن وجده صاحبه قبل القسمة فهو أحق به وإن وجده بعد القسمة فلا يأخده إلا بالقيمة وقد روى عن ابن عباس والدارقطني مثل هذا التفصيل مرفوعا وإسناده ضعيف جدا وقد ذهب إلى هدا التفصيل الهدوية والفقهاء السبعة.
وأما كونه يحرم الإنتفاع بشيء من الغنيمه قبل القسمه إلا الطعام والعلف فلحديث رويفع ابن ثابت عند أحمد وأبي داود والدارمي والطحاوي وابن حبان أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا يحل لمؤمن يؤمن بالله واليوم الآخر أن

(2/452)


يتناول مغنما حنى يقسم ولا يلبس ثوبا من فئ المسلمين حتى إذا أخلقه رده فيه ولا أن يركب دابة من فئ المسلمين حتى إذا أعجفها ردها فيه وفي إسناده محمد بن إسحاق وفيه مقال معروف وقال ابن حجر: أن رجال إسناده ثقات وقال: أيضا أن إسناده حسن وأخرج البخاري من حديث ابن عمر قال: كنا نصيب في مغازيل العسل والعنب فنأكله ولا نرفعه وزاد أبو داود فلم يؤخد منهم الخمس وصحح هده الزياده ابن حبان وأخرج أبو داود والبيهقي وصححه من حديث ابن عمر أيضا أن جيشا غنموا في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم طعاما وعسلا فلم يأخد منهم الخمس وأخرج مسلم رحمه الله وغيره من حديث عبد الله ابن المغفل قال: أصبت جرابا من شحم يوم خيبر فالتزمنه فقلت لا أعطي اليوم أحدا من هذا شيئا فالتفت فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم متبسما وأخرج أبو داود والحاكم والبيهقي من حديث ابن أبي أوفى قال: أصبنا طعاما يوم خيبر وكان الرجل يجىء فيأخد منه مقدار ما يكفيه ثم ينطلق وأخرج أبو داود من حديث القاسم مولى عبد الرحمن عن بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قال: كنا نأكل الجرر في الغزو ولا نقسمه حتى إن كنا لنرجع إلى رحالنا وأخرجتنا مملوءة منه وقد تكلم في القاسم غير واحد وقد ذهب إلى جواز الانتفاع بالطعام والعلف للدواب بغير قسمة الجمهور سواء أذن الإمام أو لم يأذن وقال: الزهري لا يؤخذ شيء من الطعام ولا غيره وقال سليمان ابن موسى: يؤخذ إلا أن ينهى الإمام.
وأما كونه يحرم الغلول، فلحديث أبي هريرة في الصحيحين وغير هما في قصة العبد الذي أصابه سهم فقال: الصحابة هنيئا له الشهادة يا رسول الله فقال: "كلا والذي نفس محمد بيده إن الشملة لتلتهب عليه نارا أخدها من الغنائم يوم خيبر لم تصبها المقاسم" قال: ففرغ الناس فجاء رجل بشراك أو بشراكين فقال: يا رسول الله أصبت هذا يوم خيبر فقال: رسول الله صلى الله عليه وسلم: "شراك أو شراكان من نار" و أخرج مسلم رحمه الله من حديث عمر بن الخطاب قال: لما كان يوم خيبر قتل نفر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا:فلان شهيد وفلان

(2/453)


شهيد وفلان شهيد حتى مروا على رجل فقالوا: فلان شهيد فقال: رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كلا إني رأيته في النار في بردة غلها أو عباءة" وأخرج البخاري وغيره من حديث ابن عمر قال: كان على ثقل النبي صلى الله عليه وسلم رجل يقال: له كركرة فمات فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "هو في النار" فذهبوا ينظرون إليه فوجدوا عباءه قد غلها وقد قال: سبحانه {وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [آل عمران:161] وثبت في البخاري وغيره من حديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا ألفين أحدكم يوم القيامة على رقبته فرس على رقبته شاة" الحديث. وقد نقل النووي الاجماع على أنه من الكبائر وقد ورد في تحريق متاع الغال ما أخرجه أبو داود والحاكم والبيهقي من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبا بكر وعمر حرقوا متاع الغال وضربوه وفي إسناده زهير بن محمد الخراساني وأخرج أحمد وأبو داود والترمذي والحاكم والبيهقي من حديث عمر بن الخطاب عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا وجدتم الغال قد غل فاحرقو متاعه واضربوه" وفي إسناده صالح بن محمد ابن زائدة تكلم فيه غير واحد.
وأما كون من جملة الغنيمة الأسرى فلا خلاف في ذلك.
وأما كونه يجوز القتل والفداء والمن فلقوله تعالى: {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ} [الأنفال:67] وقوله تعالى : {فَإِمَّا مَنّاً بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً} [محمد:4] وقد ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم القتل للأساري وأخذ الفداء منهم والمن عليهم ثبوتا متواترا في وقائع ففي يوم بدر قتل بعضهم وأخد الفداء من غالبهم وأخرج البخاري من حديث جبير ابن مطعم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في أسارى بدر: "لو كان المطعم بن عدي حيا ثم كلمني في هؤلاء النتنى لتركتهم له" وفي مسلم من حديث أنس أنه صلى الله عليه وسلم أخذ الثمانين النفر الذين هبطوا عليه وأصحابه من جبال التنعيم عند صلاة الفجر ليقتلوهم ثم إن النبي صلى الله عليه وسلم أعتقهم فأنزل الله عز وجل {وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ} [الفتح:24] الآية وقد ذهب الجمهور إلى أن

(2/454)


الإمام يفعل ماهو الأحوط للإسلام والمسلمين في الأسرى فيقتل أو يأخذ الفداء أو يمن وقال: الزهري ومجاهد وطائفة لا يجوز أخد الفداء من أسرى الكفار أصلا وعن الحسن وعطاء لا يقتل الأسير بل يخير المن والفداء وعن مالك لا يجموز المن بغير فداء وعن الحنفية لا يجوز المن أصلا لا بفداء ولا بغيره

(2/455)


فصل في استرقاق العرب وعدمه
ويجوز استرقاق العرب وقتل الجاسوس وإدا أسلم الحربي قبل القدرة عليه أحرز أمواله وإذا أسلم عبد لكافر صار حرا والأرض المغنومة أمرها إلى الإمام فيفعل الأصلح من قيمتها أو تركها مشتركة بين الغانمين أو بين جميع المسلمين ومن أمنه أحد المسلمين صار أمنا والرسول كالمؤمن ويجوز مهادنة الكفار ولو بشرط وإلى أجل أكثره عشر سنين ويجوز تأييد المهادنة بالجزية ويمنع المشركون وأهل الذمة من السكون في جزيرة العرب.
أقول: أما كونه يجوز استرقاق العرب فلحديث أبي هريرة في الصحيحين وغيرعما أنه كان عند عائشة سبية من بني تميم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أعتقيها فإنها من ولد إسمعيل" وأخرج البخاري وغيره أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: حين جاء وفد هوزان مسلمين فسألوه أن يرد إليهم أموالهم وسبيهم فقال: رسول الله صلى الله عليه وسلم " أحب الحديث إلي أصدقه فاختاروا إحدى الطائفتين إما السبي وإما المال" الحديث وفي الصحيحين وغيرهما من حديث ابن عمر أن جويرية بنت الحارث من سبي المصطلق كاتبت عن نفسها ثم تزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم على أن يقضي كتابها فلما تزوجها قال: الناس أصهار رسول الله صلى الله عليه وسلم فأرسلوا ما بأيديهم من السبي أخرجه أحمد من حديث عائشة وقد ذهب إلى جواز

(2/455)


استرقاق العرب الجمهور وحكى في البحر عن العترة والحنفية أنه لا يقبل مشركي العرب الأ الإسلام أوالسيف واستدل بقوله تعالى : {فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ} [التوبة:5] الآية ولا يخفي أنه لا دليل في الآية على المطلوب ولو سلم ذلك كان ما وقع منه صلى الله عليه وسلم مخصصا لذلك وقد صرح القرآن الكريم بالتخير بين المن والفداء فقال: {فَإِمَّا مَنّاً بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً} [محمد:4] ولم يفرق بين عربي وعجمي واستدلوا بما أخرجه الشافعي والبيهقي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال يوم حنين: "لو كان الإسترقاق جائزا على العرب لكان اليوم إنما هو أسرى" وفي إسناده الواقدي وهو ضعيف جدا ورواه الطبراني من طريق أخرى فيها يزيد بن عياض وهو أشد ضعفا من الواقدي وقد خصت الهدوية عدم جواز الاسترقاق بذكور العرب لا بإناثهم وقد أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم الفدية من ذكور العرب في بدر وهو فرع الاسترقاق وأما قتل الجاسوس فلحديث سلمة بن الأكوع عند البخاري وغيره قال: أتى النبي صلى الله عليه وسلم عين وهو في سفر فجلس عند بعض أصحابه يتحدث ثم انسل فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "اطلبوه فاقتلوه" فسبقهم إليه فقتله فنفلني رسول الله صلى الله عليه وسلم سلبه وهو متقن على قتل الجاسوس الحربي.
وأما المعاهد والذمى فقال: مالك والأوزعي ينتقص عهده بذلك وأخرج أحمد وأبو داود عن فرات بن حبان أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بقتله وكان عينا لأبي سفيان وحليفا لرجل من الأنصار فهو بحلقة من الأنصار فقال: إني مسلم فقال: رجل من الأنصار يارسول الله إنه يقول إنه مسلم فقال: رسول الله صلى الله عليه وسلم إن منكم رجالا نكلهم إلى إيمانهم منهم قرات بن خبان وفي إسناده أبو همام الدلال محمد بن محبب ولا يحتج بحديثه وهو يرويه عن سفيان ولكنه قد روى الحديث المذكور عن سفيان بشر بن السرى وهو ممن اتفق على الاحتجاج به البخاري ومسلم رحمهما الله ورواه عن الثوري ايضا عباد ابن الأزرق العباداني وهو ثقه.
وأما كونه إذا اسلم الحربي قبل القدره عليه أحرز ماله فلحديث صخر بن

(2/456)


عيلة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا أسلم الرجل فهو أحق بأرضه وماله" أخرجة أحمد وأبو داود ورجاله ثقات وفي لفظ أن القول إذا أسلموا أحرزوا أموالهم ودماءهم وأخرج أبو يعلى من حديث أبي هريرة مرفوعا "من أسلم على شيء فهو له" وضعفه ابن عدي بياسين الزيات الراوي له عن أبي هريرة قال: البيهقي إنما يروى عن ابن أبي مليكة عن عروة مرسلا وقد أخرجه عن عروة مرسلا سعيد بن منصور برجال ثقات أن النبي صلى الله عليه وسلم حاصر بني قريضة فأسلم ثعلبة وأسيد بن سعية فأحرز لهما إسلامهما أموالهما وأولادهما الصغار ومما يدل على ذلك الحديث الصحيح الثابت من طرق أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " إذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها" وقد ذهب الجمهور إلى أن الحربي إذا أسلم طوعا كانت له جميع أمواله في ملك فلا فرق بين من أسلم في دار الحرب أو في دار الإسلام.
وأما كونه إذا أسلم عبد الكافر صار حرا فلحديث ابن عباس عند أحمد وابن أبي شيبة قال: أعتق رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الطائف من خرج إليه من عبيد المشركين وأخرجه أيضا سعيد بن منصور مرسلا وقصة أبي بكرة في تدليه من حصن الطائف مذكورة في صحيح البخاري ورواه أبو داود عن الشعبي عن رجل من ثقيف قال: سألنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يرد إلينا أبا بكرة وكان مملوكنا فأسلم قبلنا فقال: "لا هو طليق رسوله" وأخرج أبو داود والترمذي وصححه من حديث علي قال: خرج عبدان إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الحديبية قبل الصلح فكتب إليه مواليهم فقالوا: والله يا محمد ما خرجوا إليك رغبه في دينك إنما خرجوا هربا من الرق فقال: ناس صدقوا يا رسول الله ردهم إليهم فغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: "ما أراكم تنتبهون يا معشر قريش حتى يبعث الله عليكم من يضرب أعناقكم على هذا" وأبى أن يردهم وقال: "هم عتقاء الله عز وجل" وأخرج أحمد عن أبي سعيد الأعشم قال: قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم في العبد إذا جاء وأسلم ثم جاء مولاه فأسلم أنه حر وإذا جاء المولى ثم جاء العبد بعد ما أسلم مولاه فهو أحق به وهو مرسل.

(2/457)


وأما كون الأرض المغنومة أمرها إلى الإمام يفعل الأصلح من تلك الوجوه فلأن النبي صلى الله عليه وسلم قسم أرض قريظة والنضير بين الغانمين وقسم نصف أرض خيبر بين المسلمين وجعل النصف الآخر لما ينزل به الوفود والأمور ونوائب الناس كما أخرجه أحمد وأبو داود من حديث بشير بن يسار عن رجل من الصحابة وأخرج أيضا نحوه أبو داود من حديث سهل بن أبي حثمة وقد ترك الصحابة ما غنموه من الأرض مشتركة بين جميع المسلمين يقسمون خراجها بينهم وقد ذهب إلى ماذكرناه جمهور الصحابة ومن بعدهم وعمل عليه الخلفاء الراشدون وأخرج مسلم رحمه الله وغيره من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "أيما قرية أتيتموها فأقمتم فيها فسهمكم فيها وأيما قرية عصت الله ورسوله فخمسها لله ورسوله ثم هي لكم" .
وأما كون من أمنه أحد المسلمين صار آمنا فلحديث علي رضي الله عنه عند أحمد وأبي داود والنسائي والحاكم عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ذمة المسلمين واحدة يسعى بها أدناهم" وأخرج أحمد وأبو داود وابن ماجه من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده مرفوعا بلفظ "يد المسلمين على من سواهم تتكافأ دماؤهم ويجير عليهم أدناهم ويرد عليهم أقصاهم وهم يد على من سواهم" وأخرجه ابن حبان في صحيحة من حديث ابن عمر مطولا وأخرجه ابن ماجه من حديث معقل بن يسار مختصرا بلفظ المسلمون يد على من سواهم تتكافأ دماؤعم وأخرجه الحاكم من حديث أبي هريرة مختصرا أيضا وأخرجه مسلم رحمة الله من حديث أبي هريره أيضا بلفظ "إن ذمة المسلمين واحدة فمن أخفر مسلما فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين" وهو في الصحيحين من حديث علي رضي الله عنه وأخرجه البخاري من حديث أنس وفي الباب أحاديث وقد أجمع أهل العلم على أن من أمنه أحد من المسلمين صار آمنا قال: ابن المنذر أجمع أهل العلم على جواز أمان المرأة انتهى.
وأما العبد فأجاز أمانة الجمهور.

(2/458)


وأما الصبي فقال: ابن المنذر أجمع أول العلم على أمان الصبي غير جائز انتهى وأما المجنون فلا يصح أمانه بلا خلاف.
وأما كون الرسول كالمؤمن فلحديث ابن مسعود عند أحمد وأبي داود والنسائي والحاكم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: لرسولي مسيلمة "لو كنت قاتلا رسولا لقتلتكما" وأخرج أحمد وأبو داود من حديث نعيم بن مسعود الأشجعي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لهما: "والله لولا أن الرسل لا تقتل لضربت أعناقكما" وقد أخرج أحمد وأبو داود والنسائي وابن حبان وصححه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لأبي رافع لما بعثته قريش إليه: فقال: يا رسول الله لا أرجع إليهم فقال: له رسول الله صلى الله عليه وسلم "إني لا أخيس بالعهد ولا أحبس البرد ولكن ارجع إليهم فإن كان في قلبك الذي فيه الآن يعني الإسلام فارجع" .
وأما كونه تجوز مهادنة الكفار ولو بشرط وإلى أجل أكثره عشر سنين فلحديث أنس عند مسلم رحمه الله وغيره أن قريشا صالحوا النبي صلى الله عليه وسلم فاشترطوا عليه أن من جاء منكم لا نرده عليكم ومن جاء منا رددتموه علينا فقالوا: يا رسول الله أ تكتب هذا قال: "نعم إنه من ذهب منا إليهم فأبعده الله ومن جاء منهم سيجعل الله له فرجا ومخرجا" وهو في البخاري وغيره من حديث المسور بن مخرمة ومروان مطولا وفيه أن مدة الصلح بينه صلى الله عليه وسلم وبين قريش عشر سنين وقد اختلف أهل العلم في جواز مصالحة الكفار على رد من جاء منهم مسلما وفعله صلى الله عليه وسلم يدل على جواز ذلك ولم يثبت ما يقتضي نسخه.
وأما قدر مدة الصلح فذهب الجمهور إلى أنه يجوز أن يكون أكثر من عشر سنين لأن الله سبحانه قد أمرنا بمقاتلة الكفارفي كتابه العزيز فلا يجوز مصالحتهم بدون شيء من جزية أو نحوها ولكنه لما وقع ذلك من النبي صلى الله عليه وسلم كان دليلا على الجواز إلى المدة التي وقع عليها الصلح ولا تجوز الزيادة عليها رجوعا إلى الأصل وهو وجوب مقاتلة الكفار ومناجزتهم الحرب وقد قيل أنها لا تجوز مجاوزة أربع سنين وقيل ثلاثة سنين ولا تجوز مجاوزة سنتين.

(2/459)


وأما كونه يجوز تأييد المهادنة بالجزية فلما تقدم من أمره صلى الله عليه وسلم بدعاء الكفار إلى ثلاث خصال منها الجزية وحديث عمرو بن عوف الأنصاري في الصحيحين وغيرهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث أبا عبيدة بن الجراح إلى البحرين يأتي بجزيتها وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم هو صالح أهل البحرين وأمر عليهم العلاء ابن الحضرمي وأخرج أبو عبيدة عن الزهري مرسلا قال: قبل رسول الله صلى الله عليه وسلم الجزية من أهل البحرين وكانوا مجوسا وأخرج أبوداود من حديث أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث خالدا إلى أكيدر دومة فأخده فأتوا به فحقن دمه وصالحه على الجزية وأخرج أبو عبيد في كتاب الأموال عن الزهري أن أول من أعطى الجزية أهل نجران وكانوا نصارى وقد جعل النبي صلى الله عليه وسلم على أهل اليمن على كل حالم دينارا كل سنة أو قيمته من المعافر يعني أهل الذمة منهم رواه الشافعي في مسنده عن عمر بن عبد العزيز وهو ثابت في حديث معاذ المشهور عند أبي داود وأخرج البخاري وغيره من حديث المغيرة ابن شعبة أنه قال: لعامل كسرى أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نقاتلكم حتى تعبدوا الله وحده أو تؤدوا الجزية وأخرج البخاري عن ابن أبي نجيح قال: قلت لمجاهد ماشأن أهل الشام عليهم أربعة دنانير وأهل اليمن عليهم دينار قال: جعل ذلك من قبيل اليسار وقد وقع الإتفاق على أنها تقبل الجزية من كفار العجم من اليهود والنصارى والمجوس وقال: مالك والأوزعي وفقهاء الشام أنها أقبل من جميع الكفار من العرب وغيرهم وقال: الشافعي بأن الجزية تقبل من أهل الكتاب عربا كانوا أو عجما ويلحق بهم المجوس في ذلك وقد استدل من لم يجوز أخذها إلا من العجم فقط بما وقع في حديث ابن عباس عند أحمد والترمذي وحسنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لقريش: "أنه يريد منهم كلمه تدين لهم بها العرب وتؤدى إليهم بها العجم الجزية يعني كلمة الشهادة" وليس هذا مما ينفي أخذ الجزية من العرب ولا سيما مع قوله صلى الله عليه وسلم في حديث سليمان ابن بريدة المتقدم: "وإذا لقيت عدوك من المشركين فادعهم إلى ثلاث خصال أو خلال" وفيها الجزية.
وأما كونه يمنع المشركون وأهل الذمة من السكون ي حزيرة العرب

(2/460)


فلحديث ابن عباس في الصحيحين وغيرهما أن النبي صلى الله عليه وسلم أوصى عند موته بثلاث: "أخرجوا المشركين من جزيرة العرب وأجيزوا الوفد بنحو ما كنت أجيزهم ونسيت الثالثة" والشك من سليمان الأحول وأخرج مسلم رحمه الله وغيره من حديث عمر أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول " لأخرجن اليهود والنصارى من جزيرة العرب حتى لا أدع فيها إلا مسلما" وأخرج أحمد من حديث عائشة أن آخر ما عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن قال: "لا يترك بجزيرة العرب دينان" وهو من رواية ابن إسحاق قال: حدثني صالح بن كيسان عن الزهري عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة عنها والأدلة هذه قد دلت على إخراج كل مشرك من جزيرة العرب سواء كان ذميا أو غير ذمي وقيل إنما يمنعون من الحجاز فقط استدلالا بما أخرجه أحمد والبيهقي من حديث أبي عبيدة بن الجراح قال: آخر ما تكلم به صلى الله عليه وسلم: "أخرجوا يهود الحجاز وأهل نجران من جزيرة العرب" وهذا لا يصلح لتخصيص العام لما تقرر في الأصول من أن التخصيص بموافق العام لا يصح وقد حكى ابن حجر في فتح البارى عن الجمهور أن الذي يمنع منه المشركون من جزيرة العرب هو الحجاز خاصة قال: وهو مكة والمدينة وما والاهما لا فيما سوى ذلك مما يطلق عليه اسم الجزيرة وعن الحنفية يجوز مطلقا إلا المسجد الحرام وعن مالك يجوز دخولهم الحرم للتجارة وقال: الشافعي لا يدخلون الحرم أصلا إلا بإذن الإمام وذهب الهدوية إلى أنه يجوز الإذن لهم بسكون جزيرة العرب لمصلحة المسلمين.

(2/461)


فصل في قتال البغاة حتى يعودوا إلى الحق
"ويجب قتال البغاة حتى يرجعوا إلى الحق ولا يقتل أسيرهم ولا يتبع مدبرهم ولا يجاز على جريحهم ولا تغنم أموالهم"
أقول: أما وجوب قتلا البغاة فلقوله تعالى: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ} [الحجرات:9] فأوجب سبحانه قتال الطائفة الباغية حتى ترجع إلى أمر الله ولا فرق بين أن يكون البغي من أحد من المسلمين على إمامهم أو على طائفة منهم.
وأما كونه لا يقتل أسيرهم إلى آخر ما ذكرناه فلما أخرجه الحاكم والبيهقي عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لابن مسعود: "يا ابن أم عبد ما حكم من بغى من أمتي؟ قال: الله ورسوله أعلم فقال: رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يتبع مدبرهم ولا يجهز على جريحهم ولا يقتل أسيرهم" وفي لفظ "ولا يذفف على جريحهم ولا يغنم منهم" سكت عنه الحاكم وقال: ابن عدي هذا الحديث غير محفوظ وقال: البيهقي ضعيف وقال: صاحب بلوغ المرام أن الحاكم صححه فوهم لأن في إسناده كوثر بن حكيم وهو متروك وصح عن على من طرق نحوه موقوفا والصحيح أن نادى بذلك منادي على يوم صفين ولم يثبت الرفع وأخرج ابن أبي شيبة والحاكم والبيهقي من طريق عبد خير عن على بلفظ نادى منادي على يوم الجمل ألا لا يتبع مدبرهم ولا يذفف على جريحهم وأخرج سعيد بن منصور عن مروان بن الحكم قال: صرخ صارخ لعلي رضي الله عنه يوم الجمل لا يقتلن مدبر ولا يذفف على جريح ومن أغلق بابه فهو آمن ومن ألقي السلاح فهو آمن وأخرج أحمد في رواية الأثرم واحتج به عن الزهري قال: هاجت الفتنة وأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم متوافرون فأجمعوا أن لا يقاد أحد ولا يؤخذ مال على تأويل القرآن إلا ما وجد بعينه. وأخرج البيهقي عن أبي أمامة قال:

(2/462)


شهدت صفين فكانوا لا يجيزون على جريح ولا يقتلون موليا ولا يلبسون قتيلا وأخرج البيهقي عن علي أنه قال: يوم الجمل إن ظفرتم على القوم فلا تطلبوا مدبرا ولا تجيزوا على جريح وانظروا إلى ما حضروا به الحرب من آله فاقبضوه وما سوى ذلك فهو لورثتهم قال: البيهقي هدا منقطع والصحيح أنه لم يأحذ منه شيئا ولم يسلب قتيلا ويؤيد جميع هذه الآثار أن الأصل في دماء المسلمين وأموالهم الحرمة فلا يحل شيء منها إلا بدليل شرعي والمراد بالإجازة على الجريح والإجهاز والتذفيف أن يتم قتله ويسرع فيه وما حكاه الزهري من الإجماع على عدم القود يدل على أنه لاقصاص في أيام الفتنة.
وقد أخرج هذا الأثر عن الزهري والبيهقي بلفظ هاجست الفتنة الأولى فأدركت يعني الفتنة رجالا ذوي عدد من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ممن شهد معه بدرا وبلغنا أنهم يرون أن هذا أمر الفتنة لا يقام فيه على رجل قاتل في تأويل القرآن قصاص فيمن قتل ولا حد في سبي امرأة سبيت ولا يرى عليها حد ولا بينها وبين زوجها ملاعنة ولا يرى أن يقذفها أحد إلا جلد الحد ويرى أن ترجع إلى زوجها الأول بعد أن تعتد عدتها من زوجها الآخر ويرى أن يرثها زوجها الأول انتهى.
قال: في البحر ولا يجوز سبيهم ولا اغتنام مايجلبوا به إجماعا لبقائهم على الملة وحكى عن أكثر العتره أنه يجوز اغتنام ماجلبوا به من مال وآله حرب وحكى عن النفس الزكية والحنفية أنه لا يغنم منهم شيء

(2/463)


فصل في وجوب طاعة الإمام
وطاعة الأئمة واجبة إلا في معصية الله ولا يجوز الخروج عليهم ما أقاموا الصلاة ولم يظهروا كفرا بواحا ويجب الصبر على جورهم وبذل النصيحة لهم وعليهم الذب عن المسلمين وكف يد الظالم وحفظ

(2/463)


ثغورهم وتدبيرهم بالشرع في الأبدان والأديان والأموال وتفريق أموال الله في مصارفها وعدم الاستئثار بما فوق الكفاية بالمعروف والمبالغة في إصلاح السيرة والسريرة.
أقول: أما وجوب طاعة الأئمة إلا في معصية الله تعالى فلقوله تعالى: {أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ } [النساء:59] والأحاديث المتواترة في وجوب طاعة الأئمة منها ماأخرجة البخاري من حديث أنس مرفوعا اسمعوا وأطيعوا وإن استعمل عليكم عبد حبشي كأن رأسة زبيبة ماأقام فيكم كتاب الله وفي الصحيحين من حديث أبي هريرة عنه صلى الله عليه وسلم من أطاعني فقد أطاع الله ومن عصاني فقد عصى الله ومن يطع الأمير فقد أطاعني ومن يعص الأمير فقد عصاني وفي الصحيحين من حديث ابن عمر عنه صلى الله عليه وسلم على المرء المسلم السمع والطاعة فيما أحب وكره إلا أن يؤمر بمعصية فلا سمع ولا طاعة والأحاديث في هذا الباب كثيرة.
وأما كونه لا يجوز الخروج عليهم ماأقاموا الصلاة ولم يظهروا كفرا بواحا فلحديث عوف بن مالك رضي الله عنه عند مسلم رحمه الله وغيره قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول "خيار أئمتكم الذين تحبونهم ويحبونكم وتصلون عليهم ويصلون عليكم وشرار أئمتكم الذين تبغضونهم ويبغضونكم وتلعنونهم ويلعنونكم" قال: قلنا يا رسول الله أفلا ننابذهم عنذ ذلك قال: " لا ما أقاموا فيكم الصلاة إلا من ولى عليهم وال فرآه يأتي شيئا من معصية الله فليكره مايأتي من معصية ولا ينزعن يدا عن طاعة" وأخرج مسلم رحمه الله أيضا وغيره من حديث حذيفة بن اليمان أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: يكون بعدي أئمة لايهتدون بهديى ولا يستنون بسنتي وسيقوم فيكم رجال قلوبهم قلوب الشياطين في جثمان إنسان قال: قلت كيف أصنع يا رسول الله إن أدركت ذلك قال: تسمع وتطيع وإن ضرب ظهرك وأخذ مالك فاسمع وأطع وأخرج مسلم رحمة الله أيضا من حديث عرفجة الأشجعي قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول " من أتاكم وأمركم جميع على رجل واحد يريد أن يشق عصامكم أو يفرق جماعتكم

(2/464)


فاقتلوه" وفي الصحيحين من حديث عبادة بن الصامت قال: بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في منشطنا ومكرهنا و عسرنا ويسرنا وأثرة علينا وأن لا ننازع الأمر أهله إلا أن تروا كفرا بواحا عندكم فيه من الله برهان" والبواح بالموحدة والمهملة قال: الخطابي معنى قوله: بواحا ظاهرا وأخرج مسلم رحمه الله من حديث أبي هريرة عنه صلى الله عليه وسلم: "من خرج عن الطاعة وفارق الجماعة فميتتة جاهلية" وأخرج رحمه الله نحوه أيضا عن ابن عمر وفي الصحيحين من حديث ابن عمر "من حمل علينا السلاح فليس منا" وأخرجناه أيضا من حديث أبي موسى رضي الله عنه وأخرج مسلم من حديث أبي هريرة وسلمه ابن الأكوع رضي الله عنهما والأحاديث في هذا الباب لا يتسع المقام لبسطها وقد ذهب إلى ماذكرنا جمهور أهل العلم وذهب بعض أهل العلم إلى جواز الخروج على الظلمة أو وجوبه تمسكا بأحاديث الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وهي أعم مطلقا من أحاديث الباب ولا تعارض بين عام وخاص ويحمل ما وقع من جماعة من أفاضل السلف على اجتهاد منهم وهم أتقى لله وأطوع لسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ممن جاء بعدهم من أهل العلم.
وأما كونه يجب الصبر على جورهم فلما تقدم من الأحاديث وفي الصحيحين من حديث ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من رأى من أميره شيئا يكرهه فليصبر فإنه من فارق الجماعة شبرا فمات فميتته جاهيلة" وفيها من حديث أبي هريرة مرفوها: "أعطوهم حقهم فإن الله سائلهم عما استرعاهم" وأخرج أحمد من حديث أبي ذر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: يا أبا ذر كيف بك عند ولاه يستأثرون عليك بهدا الفيء قال: والذي بعثك بالحق أضع سيفي على عاتقي وأضرب حتى ألحقك قال: "أو لا أدلك على ما هو خير لك من ذلك تصبر حتى تلحقني" وفي الباب أحاديث كثيرة.
وأما وجوب بذل النصيحة لهم فلما ثبت في الصحيح من أن "الدين النصيحة لله ولرسوله ولأئمه المسلمين" من حديث تميم الداري بهدا اللفظ والأحاديث الواردة في مطلق النصيحة متواترة وأحق الناس بها الأئمة.

(2/465)


وأما كونه على الأئمة الذب عن المسلمين إلى آخر ما في المختصر فذلك معلوم من أدلة الكتاب والسنه الني لا يتسع المقام لبسطها ولا خلاف في وجوبها جميعا على الإمام وهذه الأمور هي التي شرع الله نصب الأئمة لها فمن أخل من الأئمة والسلاطين بشيء منها فهو غير مجتهد لرعينة ولا ناصح لهم بل غاش خائن وقد ثبت في الصحيحين وغيرهما من حديث معقل بن يسار قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "مامن عبد يسترعيه الله رعية يوم يموت وهو غاش لرعيتة إلاحرم الله عليه الجنة" وفي لفظ لمسلم رحمه الله تعالى ما من أمير يلي أمور المسلمين ثم لا يجتهد لهم ولا ينصح لهم إلا لم يدخل الجنة وأخرج مسلم رحمة الله وغيره من حديث عائشة قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول "اللهم من ولي من أمر أمتي شيئا فرفق بهم فارفق به" وبالجملة فعلى الإمام والسلطان أن يقتدي برسول الله صلى الله عليه وسلم وبالخلفاء الراشدين في جميع ما يأني ويذر فإنه إن فعل ذلك كان اه ما لأئمة العدل من الترغيبات الثابت في الكتاب والسنة وحاصلها الفوز بنعم الدنيا والآخرة.
وإلى هنا انتهى تحرير ما أردنا بعونة الله فله الحمد كثيرا
في يوم السبت لاثنى عشر خلت من جمادى الآخرة سنة عشرين ومائتين وألف من الهجرة النبوية على صاحبها أفضل الصلاة والسلام.
انتهى كلام المؤلف سلمه الله تعالى فرغ من تحريره الحقير محمد بن أحمد الشاطبي عفا الله عنه وعن المؤمنين أجمعين يوم الأربعاء حادى عشر شهر شعبان عام "1338" والحمد لله الذي بنعمتة تتم الصالحات

(2/466)