الدرر البهية والروضة الندية والتعليقات الرضية

 (الكتاب الأول: كتاب الطهارة)

(1/85)


قال - رضي الله عنه -:
بسم الله الرحمن الرحيم
أحمد من أمرنا بالتفقه في الدين، وأشكر من أرشدنا إلى اتباع سنن سيد المرسلين، وأصلي وأسلم على الرسول الأمين، وآله الطاهرين وأصحابه الأكرمين.
(1 - كتاب الطهارة)
(1 - باب)
(هذا الباب قد اشتمل على مسائل:
الأولى: الماء طاهر ومطهر) : ولا خلاف في ذلك، وقد نطق بذلك الكتاب والسنة، وكما دل الدليل على كونه طاهرا، مطهرا، وقام على ذلك الإجماع، كذلك يدل على ذلك الأصل، والظاهر (1) ، والبراءة (2) ، فإن أصل عنصر الماء طاهر مطهر بلا نزاع، وكذلك الظهور يفيد ذلك، والبراءة الأصلية عن مخالطة النجاسة له مستصحبة:
(لا يخرجه عن الوصفين) : أي: عن وصف كونه طاهرا، وعن وصف كونه مطهرا (إلا ما غير ريحه أو لونه أو طعمه من النجاسات) .
__________
(1) هو الصفة الظاهرة.
(2) هو بقاء ما كان على ما عليه كان.

(1/87)


هذه المسألة الثانية من مسائل الباب، وهي أنه لا يخرج الماء عن الوصفين إلا ما غير أحد أوصافه الثلاثة من النجاسات لا من غيرها، وهذا المذهب هو أرجح المذاهب وأقواها.
والدليل عليه ما أخرجه أحمد - وصححه - وأبو داود والترمذي وحسنه، والنسائي وابن ماجة والدارقطني والبيهقي والحاكم (1) ، وصححه أيضا يحيى بن معين وابن حزم من حديث أبي سعيد، قال: " قيل: يا رسول الله! أنتوضأ من بئر بضاعة؟ وهي بئر يلقى فيها الحيض (2) ولحوم الكلاب والنتن، فقال رسول الله [صلى الله عليه وسلم] : " الماء طهور لا ينجسه شيء "، وقد أعله ابن القطان باختلاف الرواة في اسم الراوي له عن أبي سعيد واسم أبيه، وليس ذلك بعلة (3) ، وقد اختلف في أسماء كثيرة من الصحابة والتابعين على أقوال، ولم يكن ذلك موجبا للجهالة، على أن ابن القطان نفسه قال بعد ذلك الإعلال: وله طريق أحسن
__________
(1) رواه أحمد (3 / 31) ، وأبو داود (67) ، والترمذي (66) ، والنسائي (1 / 174) ، والدارقطني (1 / 29) ، والبيهقي (1 / 257) .
وقد نقل الحافظ في " التلخيص الحبير " (1 / 24) تصحيح أحمد، وابن معين، وابن حزم.
ولم يروه ابن ماجة ولا الحاكم من حديث أبي سعيد.
(2) جمع حيضة؛ وهي الخرقة التي تتقي بها المرأة دم الحيض (ش) .
(3) • بلى، فإن الراوي المشار إليه قال فيه ابن القطان: " لا يعرف له حال ولا عين "، وقال الحافظ: " مستور "؛ فالاختلاف في اسمه يشير إلى جهالته، ولولاها لم يضر الخلاف المذكور؛ لما ذكره الشارح.
فالعلة ما ذكرنا من الجهالة، لا ما أراد أن يصوره الشارح من الاختلاف.
نعم، الحديث صحيح بلا ريب، فإن له طرقا وشواهد يقطع من وقف عليها بصحته، وقد ذكرت بعضها في " صحيح سنن أبي داود " رقم (59) (ن) .
قلت: وانظر " تقريب التهذيب " (4313) .

(1/88)


من هذه، ثم ساقها عن أبي سعيد.
وقد قامت الحجة بتصحيح من صححه من أولئك الأئمة.
وله شواهد، منها: حديث سهل بن سعد عند الدارقطني (1) ، ومن حديث ابن عباس عند أحمد وابن خزيمة وابن حبان (2) ، ومن حديث عائشة عند الطبراني في " الأوسط "، وأبي يعلى، والبزار، وابن السكن (3) ؛ كلها بنحو حديث أبي سعيد.
وأخرجه بزيادة الاستثناء الدارقطني (4) ، من حديث ثوبان بلفظ: " الماء طهور لا ينجسه شيء؛ إلا ما غلب على ريحه أو لونه أو طعمه "، وأخرجه أيضا مع الزيادة ابن ماجة والطبراني (5) ، من حديث أبي أمامة بلفظ: " إن الماء طهور إلا إن تغير ريحه أو لونه أو طعمه بنجاسة تحدث فيه "؛ وفي إسنادهما من لا يحتج به.
وقد اتفق أهل الحديث على ضعف هذه الزيادة، لكنه قد وقع الإجماع
__________
(1) في " سننه " (1 / 29) .
(2) رواه أحمد (1 / 235) ، وابن خزيمة (91) ، وابن حبان (116 - زوائده) .
(3) رواه الطبراني في " الأوسط " (2093) ، وأبو يعلى في " مسنده " (118 - المقصد العلي ") ، والبزار (1 / 132 - " كشف الأستار ") .
وقال الهيثمي في " مجمع الزوائد " (1 / 214) : " ورجاله ثقات ".
ونقل الحافظ في " التلخيص الحبير " (1 / 17) رواية ابن السكن له في " صحاحه ".
(4) في " سننه " (1 / 28) .
(5) رواه ابن ماجة (521) ، والطبراني في " الكبير " (7503) ، و " الأوسط " (744) .
وقال الهيثمي في " المجمع " (1 / 214) : " وفيه رشدين بن سعد، وهو ضعيف ".

(1/89)


على مضمونها؛ كما نقله ابن المنذر، وابن الملقن في " البدر المنير (1) "، والمهدي في " البحر (2) "، فمن كان يقول بحجيّة الإجماع (3) كان الدليل عنده على ما أفادته تلك الزيادة هو الإجماع؛ ومن كان لا يقول بحجيّة الإجماع كان هذا الإجماع مفيداً لصحة تلك الزيادة، لكونها قد صارت مما أُجمع على معناها وتُلقّي بالقبول، فالاستدلال بها لا بالإجماع.
(وعن الثاني ما أخرجه عن اسم الماء المطلق من المغيرات الطاهرة (4)) :
هذه المسألة الثالثة من مسائل الباب، ووجه ذلك أن الماء الذي شرع لنا التطهير به هو الماء المطلق الذي لم يضف إلى شيء من الأمور التي تخالطه، فإن خالطه شيء أوجب إضافته إليه، كما يقال: ماء ورد، ونحوه، فليس هذا الماء المقيد بنسبته إلى الورد - مثلاً - هو الماء المطلق الموصوف بأنه طهور في الكتاب العزيز بقوله سبحانه: {ماء طهورا} [الفرقان: 48] ، وفي السنة المطهرة بقوله [صلى الله عليه وسلم] : " الماء طهور " (5) ، فخرج بذلك عن كونه مطهراً، ولم يخرج به عن كونه طاهراً، لأن الفرض أن الذي خالطه طاهر، واجتماع الطاهرين لا يوجب
__________
(1) • وكذا في " خلاصة البدر المنير " (2 / 2) ، وقال فيه: " وقول الرافعي: " إن ماءها كنُقاعة الحنّاء " غريب "؛ يعني: لا يُعلم من رواه، كما نص عليه في المقدمة. (ن) .
قلتُ: وهو في أصله: " البدر المنير " (1 / 59) .
(2) انظر " الإجماع " (10) لابن المنذر، و " البحر الزخار " (1 / 31) للمهدي.
(3) والبحث في مسألة الإجماع طويل الفروع، كثير الذيول، أشرتُ إلى نُبذة منه في تعليقي على كتاب " حصول المأمول من علم الأصول " (ق 85) للمؤلف، يسّر الله تمامه.
(4) كالصابون والعطر، ونحوهما.
(5) تقدم تخريجه.

(1/90)


خروجهما عن الوصف الذي كان مستحقاً لكل واحد منهما قبل الاجتماع (1) .
قال في " حجة الله البالغة " (2) : وأما الوضوء من الماء المقيد الذي لا يطلق عليه اسم الماء بلا قيد فأمر تدفعه الملة بادي الرأي، نعم؛ إزالة الخبث به محتمل، بل هو الراجح (3) .
وقد أطال القوم في فروع موت الحيوان في البئر، والعشر في العشر (4) ، والماء الجاري، وليس في كل ذلك حديث عن النبي [صلى الله عليه وسلم] البتة {
وأما الآثار المنقولة عن الصحابة والتابعين كأثر ابن الزبير في الزنجي (5) ، وعلي بن أبي طالب - رضي الله تعالى - عنه في الفأرة (6) ، والنخعي والشعبي في نحو السِّنَّور (7) ، فليست مما يشهد له المحدثون بالصحة، ولا مما اتفق عليه جمهور أهل القرون الأولى.
وعلى تقدير صحتها يمكن أن يكون ذلك تطييباً للقلوب وتنظيفاً للماء، لا من جهة الوجوب الشرعي، كما ذُكر في كتب المالكية (8) ، ودون نفي هذا
__________
(1) وهو الطهارة لكل منهما.
(2) (1 / 185) ، للعلامة وليّ الله الدِّهلويّ.
(3) وفي ذلك نظر وبحث؛ فانظر " المجموع " (1 / 95) .
(4) أي: أن يكون البئر عشرة أذرع في عشرة أذرع} وانظر " فتح القدير " (1 / 92) للكمال ابن الهُمام.
(5) رواه البيهقي في " السنن الكبرى " (1 / 266) ، والطحاوي في " شرح معاني الآثار " (1 / 17) .
(6) رواه عبد الرزاق في " المصنف " (1 / 82) .
(7) رواه الطحاوي في " شرح معاني الآثار " (1 / 17) .
وانظر " المجموع " (1 / 16) للنووي.
(8) انظر " الذخيرة " (1 / 173) للقرافي.
وقولهم: " دون ذلك خَرْط القتاد ": مثل يُضرب للأمر الصعب الممتنع.

(1/91)


الاحتمال خَرْط القَتاد " اه.
وبالجملة؛ فليس في هذا الباب شي يُعتد به ويجب العمل عليه، وحديث القلتين (1) أثبت من ذلك كله بغير شبهة.
ومن المحال أن يكون الله تعالى شرع في هذه المسائل لعباده شيئاً زيادة على ما لا ينفكون عنه من الارتفاقات - وهي مما يكثر وقوعه وتعم به البلوى -، ثم لا ينص عليه النبي [صلى الله عليه وسلم] نصاً جلياً، ولا يستفيض في الصحابة ومن بعدهم، ولا حديث واحد فيه. والله أعلم. انتهى.
قلت: وقد أطال الحافظ ابن حجر - رحمه الله تعالى - في تخريج حديث القُلّتين والكلام عليه جرحاً وتعديلاً، لفظاً ومعنى: في كتابه " تلخيص الحبير " في تخريج أخبار الرافعي الكبير " (2) إطالةً حسنةً فليرجع إليه (3) .
(ولا فرق بين قليل وكثير) : هذه المسألة الرابعة من مسائل الباب، والمراد بالقلة والكثرة ما وقع من الاختلاف في ذلك بين أهل العلم، بعد إجماعهم
__________
(1) هو قوله [صلى الله عليه وسلم] : " إذا بلغ الماء قُلّتين لم يحمل الخبَث "، وسيأتي بيان الحكم عليه، والإشارة إلى طرقه ورواياته.
(2) الصواب في اسمه: " التلخيص الحبير ".
والبحث فيه (1 / 16 - 20) ، وانظر أصله: " البدر المنير " (2 / 87 - 112) لابن الملقّن.
(3) • ويتلخص من كلامه [يعني الحافظ ابن حجر] أنه حديث صحيح، وقد صرح بذلك في " الفتح " (1 / 277) ، وهو الحق، وصححه أيضا الحاكم، وابن منده، وابن خزيمة، وابن حبان، والطحاوي، والنووي، والذهبي، فلا التفات إلى قول من ضعّفه، لأنه وهم نشأ من عدم تتبع طرق الحديث.
وقد تكلمت عليه بما يُجلّي هذه الحقيقة في " صحيح سنن أبي داود " رقم (56) . (ن) .

(1/92)


على أن ما غيّرت النجاسة أحد أوصافه الثلاثة ليس بطاهر.
فقيل: إن الكثير ما بلغ قلتين، والقليل ما كان دونهما؛ لما أخرجه أحمد، وأهل " السنن "، والشافعي، وابن خزيمة، وابن حبان، والحاكم، والدارقطني، والبيهقي، وصححه الحاكم على شرط الشيخين (1) من حديث عبد الله بن عمر بن الخطاب - رضي الله تعالى عنهما -، قال: " سمعت رسول الله [صلى الله عليه وسلم] وهو يُسأل عن الماء يكون في الفلاة (2) من الأرض، وما ينوبه من السباع والدواب؟ فقال: " إذا كان الماء قُلَّتين لم يحمل الخبث ".
وفي لفظ أحمد: " لم ينجسه شيء ".
وفي لفظ لأبي داود: " لم ينجس ".
وأخرجه بهذا اللفظ (3) ابن حبان والحاكم، وقال ابن مندة: إسناد حديث القُلّتين على شرط مسلم (4) . انتهى.
ولكنه حديث قد وقع الاضطراب في إسناده ومتنه، كما هو مبين في مواطنه، وقد أجاب من أجاب عن دعوى الاضطراب (5) .
__________
(1) رواه أحمد (2 / 27) ، وأبو داود (63) ، والترمذي (67) ، والنسائي (1 / 175) ، وابن ماجه (517) ، والشافعي في " الأم " (1 / 18) ، وابن خزيمة (92) ، وابن حبان (117) ، والحاكم (1 / 132) ، والدارقطني (1 / 13) ، والبيهقي في " السنن الكبرى " (1 / 260) .
(2) هي الصحراء. (ش) .
(3) يُريد: لفظ أحمد.
(4) ذكر ذلك عنه ابن الملقّن في " البدر المنير " (2 / 91) ، وعنه الزيلعي في " نصب الراية " (1 / 107) .
(5) • وخلاصة الجواب أن الحديث صحيح إسناده، والاضطراب المزعوم فيه لا يضر، وأن متنه بلفظ: " قلتين "، وما يخالفه؛ إما شاذ، أو ضعيف لا ينهض لمعارضة النص الصحيح. (ن)
قلت: وانظر " إرواء الغليل " (23) .

(1/93)


وقد دلّ هذا الحديث على أن الماء إذا بلغ قُلّتين لم يحمل الخبث، وإذا كان دون القُلّتين فقد يحمل الخبث، ولكنه كما قيد حديث: " الماء طهور لا ينجسه شيء " بتلك الزيادة التي وقع الإجماع عليها؛ كذلك يقيد حديث القلتين بها، فيقال: إنه لا يحمل الخبث إذا بلغ قلتين في حال من الأحوال إلا في حال تغير بعض أوصافه بالنجاسة، فإنه حينئذ قد حمل الخبث بالمشاهدة وضرورة الحس، فلا منافاة بين حديث القلتين وبين تلك الزيادة المجمع عليها.
وأما ما كان دون القلتين فهو مظنة لحمل الخبث، وليس فيه أنه يحمل الخبث قطعاً وبتّاً، ولا أن ما يحمله من الخبث يخرجه عن الطهورية، لأن الخبث المخرج عن الطهورية هو خبث خاص، وهو الموجب لتغير أحد أوصافه أو كلها، لا الخبث الذي لم يغير.
وحاصله: أن ما دل عليه مفهوم حديث القلتين من أن ما دونهما قد يحمل الخبث لا يُستفاد منه إلا أن ذلك المقدار إذا وقعت فيه نجاسة قد يحملها، وأما أنه يصير نجساً خارجاً عن كونه طاهراً فليس في هذا المفهوم ما يفيد ذلك، ولا ملازمة بين حمل الخبث والنجاسة المخرجة عن الطهورية، لأن الشارع قد نفى النجاسة عن مطلق الماء، كما في حديث أبي سعيد المتقدم وما شهد له، ونفاها عن الماء المقيد بالقلتين - كما في حديث عبد الله بن عمر المتقدم أيضاً -، وكان النفي بلفظ هو أعم صيغ العام، فقال في الأول: " لا ينجسه شيء "، وقال في الثاني أيضا - كما في تلك الرواية -: " لم ينجسه شيء "، فأفاد ذلك أن كل ماء يوجد على وجه الأرض طاهر، إلا ما ورد فيه التصريح بما يخصص هذا العام، مصرحاً بأنه يصير الماء نجساً، كما وقع في تلك الزيادة التي وقع الإجماع عليها، فإنها وردت بصيغة الاستثناء من ذلك الحديث،

(1/94)


فكانت من المخصصات المتصلة بالنسبة إلى حديث أبي سعيد، ومن المخصصات المنفصلة بالنسبة إلى حديث عبد الله بن عمر - رضي الله تعالى عنهما - على القول الراجح في الأصول؛ وهو: أنه يُبنى العام على الخاص مطلقاً، فتقرر بهذا أنه لا منافاة بين مفهوم حديث القلتين وبين سائر الأحاديث، بل يقال فيه: إن ما دون القلتين إن حمل الخبث حملاً استلزم تغير ريح الماء أو لونه أو طعمه، فهذا هو الأمر الموجب للنجاسة والخروج عن الطهورية، وإن حمله حملاً لا يغير أحد تلك الأوصاف فليس هذا الحمل مستلزماً للنجاسة.
وقد ذهب إلى تقدير الماء القليل بما دون القلتين، والكثير بهما: الشافعي - رحمه الله - وأصحابه رحمهم الله -، وذهب إلى تقدير القليل بما يظن استعمال النجاسة باستعماله، والكثير بما لا يظن استعمال النجاسة باستعماله ابن عمر ومجاهد، وقد روي أيضا عن الشافعية - رحمهم الله -، والحنفية، - رحمهم الله -، وأحمد بن حنبل - رحمه الله -، ولا أدري: هل تصح هذه الرواية أم لا؟ ! فمذاهب هؤلاء مُدونّة في كتب أتباعهم، من أراد الوقوف عليها راجعها.
واحتج أهل هذا المذهب بمثل قوله - تعالى -: {والرُّجْز (1) فاهْجُر} ، وبخبر الاستيقاظ، وخبر الولوغ، وأحاديث النهي عن البول في الماء الدائم، وهي جميعها في " الصحيح "، ولكنها لا تدل على المطلوب، ولو فرضنا أن لشيء منها دلالة بوجه ما، كان ما أفادته تلك الدلالة مقيداً بما تقدّم؛ لأن التعبد إنما هو بالظنون الواقعة على الوجه المطابق للشرع، على أنه لا يبعد أن يقال: إن العاقل لا يظن استعمال النجاسة باستعمال الماء إلا إذا خالطت الماء
__________
(1) {الرجز} ؛ قرئ بضم الراء وكسرها؛ ومعناه العذاب، والمراد بهجر العذاب: هجر أسبابه، فلا حجة في الآية على ما ادعوا. (ش)

(1/95)


بجِرمها أو بريحها أو بلونها أو بطعمها مخالطة ظاهرة توجب ذلك الظن.
ولا شك ولا ريب أن ما كان من الماء على هذه الصفة ينجس، لأن المخالطة إن كانت بالجِرم فالمتوضئ مستعمل لعين النجاسة، وإن كانت المخالطة بالريح أو اللون أو الطعم فلا مخالفة بين هذا المذهب وذلك المذهب الذي رجحناه.
والحاصل: أنهم إن أرادوا بقولهم: إن ظُنّ استعمال النجاسة باستعماله فهو القليل، وإن لم يظن فهو الكثير: ما هو أعم من عين النجاسة وريحها ولونها وطعمها: فلا مخالفة بين هذا المذهب وذلك المذهب الذي رجحناه إلا من جهة أن هؤلاء اعتبروا المظنّة وأهل المذهب الأول اعتبروا المَئنّة، ولكن لا يخفى أن المظنة إذا كانت هي الصادرة من غير أهل الوسوسة والشكوك، فهي لا تكاد تخالف المِئنّة (1) في مثل هذا الموضع، وإن أرادوا استعمال العين فقط أو عدم استعمال العين فقط، فهو مذهب مستقل غير ذلك المذهب، ولكن الظاهر أنهم أرادوا المعنى الأول، ويدل على ذلك أنه قد وقع الإجماع على أن ما غيّر لون الماء، أو ريحه، أو طعمه من النجاسات أوجب تنجيسه - كما تقدم تقريره -، فأهل هذا المذهب من جملة القائلين بذلك لدخولهم، في الإجماع، بل هو مصرِّح لحكاية الإجماع في " البحر ".
فتقرر بهذا أنهم يريدون المعنى الأول، أعني الأعم من العين والريح واللون والطعم ثبوتاً وانتفاء، وحينئذ؛ فلا مخالفة بين المذهبين، لأن أهل المذهب الأول لا يخالفون في أن استعمال المطهر لعين النجاسة مع الماء موجب
__________
(1) المِئنّة: العلامة. (ش)

(1/96)


لخروج الماء عن الطهورية خروجاً زائداً على خروجه عند استعمال ما فيه مجرد الريح أو اللون أو الطعم؛ فتأمل هذا فهو مفيد، بل مجموع ما اشتمل عليه هذا البحث في الجمع بين المذاهب المختلفة في الماء، وبين الأدلة الدالة عليها على هذه الصورة التي لخصتها مما لم أقف عليه لأحد من أهل العلم، وهذه المسألة هي من المضايق التي يتعثر في ساحاتها كل محقق، ويتبلّد عند تشعب طرائقها كل مدقق.
وقد حررها الماتن في سائر مؤلفاته (1) تحريرات مختلفة لهذه العلة، وأطال الكلام عليها في " طيب النشر في المسائل العشر ".
وقد استدل بعض أهل العلم بمثل حديث: " استفت قلبك وإن أفتاك المفتون "، ومثل حديث: " دع ما يريبك إلى ما لا يريبك "، ولا يستفاد منهما إلا أن التورع عند الظن من الإقدام أولى.
وأهل هذا المذهب يوجبون العمل بذلك الظن حتماً وجزماً، وقد عرفت أن أدلة المذهب الأول على الوجه الذي لخصناه تدل على المذهب الثاني، فإبعاد النُّجعة إلى مثل حديث: " استفت قلبك " و: " دع ما يريبك " ليس كما ينبغي {
فإن قيل: إنه قصد الاستدلال على مجرد العمل بالظن من غير نظر إلى هذه المسألة، فيقال: أدلة العمل بالظن في الكتاب والسنة أكثر من أن تحصر، وأكثر منها أدلة النهي عن العمل به، وهكذا التعويل على حديث الولوغ والاستيقاظ ونحو ذلك لا يفيد.
وقد حُكي في تحديد الماء الكثير أقوال، منها: أن الكثير هو المستبحر}
وقيل: ما إذا حُرِّك طرفه لم يتحرك الطرف الآخر {
وقيل: ما كان مساحة مكانه كذا} وقيل غير ذلك!
__________
(1) ك " نيل الأوطار "، و " وبل الغمام "، و " السيل الجرار "، و " الفتح الرباني ".

(1/97)


وهذه الأقوال ليس عليها أثارة من علم، بل هي خارجة عن باب الرواية المقبولة والدراية المعقولة.
(وما فوق القلتين وما دونهما) : قدَّر الشافعي الماء الذي لا ينجس بوقوع النجاسة ما لم يتغير بالقلتين وقدَّرهما بخمس قِرب، وفسرها أصحابه بخمس مئة رطل، وقدّره الحنفية بالغدير الكبير الذي لا يتحرك جانب منه بتحريك الآخر، والعشر في العشر. كذا في " المسوى شرح الموطأ ".
وقال في " حجة الله البالغة ": " ومن لم يقل بالقلتين اضطر إلى مثلهما في ضبط الماء الكثير - كالمالكية -، أو الرخصة في آبار الفلوات من نحو أبعار الإبل " انتهى.
ويدفع ذلك ما مر من عدم الفرق بين ما دون القلتين وما فوقهما مع الدليل عليه.
وإن شئت زيادة التفصيل فعليك ب " الفتح الرباني في فتاوى الشوكاني "؛ ففيها ما يشفي العليل ويسقي الغليل
( [حكم الماء الراكد] )
(ومتحرك وساكن) : وجه ذلك أن سكونه - وإن كان قد ورد النهي عن التطهير به (1) حالة -؛ فإن ذلك لا يخرجه عن كونه طهوراً؛ لأنه يعود إلى وصف كونه طهوراً بمجرد تحركه.
__________
(1) كذا في الأصل؛ ولم يرد في الحديث النهي عن التطهير بالماء الساكن؛ إنما ورد النهي عن الانغماس فيه للجنب، كما سيذكر المؤلف بعض ألفاظه.
وفرق كبير بينهما؛ بل في الحديث التصريح بالتطهير به بالتناول في كلام أبي هريرة - راويه -. (ش)
• قلت: ولعله سقط منه قوله: " كونه ساكناً "؛ كما يدل عليه السباق والسياق. (ن)

(1/98)


وقد دلّت الأحاديث على أنه لا يجوز التطهير بالماء الساكن ما دام ساكناً، كحديث أبي هريرة - رضي الله تعالى عنه - عند مسلم وغيره: أن النبي [صلى الله عليه وسلم] قال: " لا يغتسلنّ أحدكم في الماء الدائم وهو جنب "، فقالوا: يا أبا هريرة! كيف يفعل؟ قال: يتناوله تناولاً.
وفي لفظ لأحمد وأبي داود: " لا يبولن أحدكم في الماء الدائم، ولا يغتسل فيه من جنابة ".
وفي لفظ للبخاري: " لا يبولن أحدكم في الماء الدائم الذي لا يجري، ثم يغتسل فيه ".
وفي لفظ للترمذي (1) : " ثم يتوضأ منه ".
وغير هذه الروايات التي يفيد مجموعها النهي عن البول في الماء الدائم على انفراده، والنهي عن الاغتسال فيه على انفراده، والنهي عن مجموع الأمرين.
ولا يصح أن يقال: إن روايتي الانفراد مقيدتان بالاجتماع؛ لأن البول في الماء على انفراده لا يجوز، فأفاد هذا أن الاغتسال والوضوء في الماء الدائم من دون بول فيه غير جائز، فمن لم يجد إلا ماء ساكنا، وأراد أن يتطهر منه؛ فعليه أن يحتال قبل ذلك بأن يحركه، حتى يخرج عن وصف كونه ساكناً، ثم يتوضأ منه.
وأما أبو هريرة؛ فقد حمل النهي على الانغماس في الماء الدائم، ولهذا لما سئل: كيف يفعل؟ قال: يتناوله تناولاً، ولكنه لا يتم ذلك في الوضوء،
__________
(1) • وكذا أحمد (رقم 7517، 7518) ؛ وسنده صحيح. (ن)

(1/99)


فإنه لا انغماس فيه، بل هو يتناوله تناولاً من الابتداء، فالأوْلى تحريك الماء قبل الشروع في الطهارة، ثم يتطهر (1) به.
وقد ذهب الجمهور إلى خلاف ما دلت عليه هذه الروايات، فلم يفرقوا بين المتحرك والساكن، ومنهم من قال: إن هذه الروايات محمولة على الكراهية فقط! ولا وجه لذلك.
وقد قيل: إن المُستبحر مخصوص من هذا بالإجماع.
والراجح أن الماء الساكن لا يحل التطهر به ما دام ساكناً، فإذا تحرك عاد له وصفه الأصلي، وهو كونه مطهراً.
وهذه هي المسألة الخامسة من مسائل الباب.
( [حكم الماء المستعمل] :)
(ومستعمَل وغير مستعمَل) : هذه المسألة السادسة من مسائل الباب، وقد وقع الاختلاف بين أهل العلم في الماء المستعمل لعبادة من العبادات؛ هل يخرج بذلك عن كونه مُطهِّراً أم لا؟
فحُكي عن أحمد بن حنبل والليث والأوزاعي والشافعي ومالك - في إحدى الروايتين عنهما -، وأبو حنيفة - في رواية عنه -: أن الماء المستعمل غير مطهِّر، واستدلوا بما تقدم من حديث النهي عن الاغتسال في الماء الدائم.
ولا دلالة له على ذلك؛ لأن علة النهي عن التطهير به ليست كون ذلك الماء
__________
(1) هذا لا يطابق معنى الحديث، وليس المقصود من التشريع إلا صيانة الماء عن القذر والنجس، وأبو هريرة فهم الحديث كما ينبغي أن يفهم. (ش)

(1/100)


مستعملاً؛ بل كونه ساكناً، وعلة السكون لا ملازمة بينها وبين الاستعمال.
واحتجوا أيضاً بما ورد من النهي عن الوضوء بفضل وضوء المرأة (1) ، ولا تنحصر علة ذلك في الاستعمال، كما سيأتي تحقيقه - إن شاء الله تعالى -، فلا يتم الاستدلال بذلك لاحتماله، ولو كانت العلة الاستعمال؛ لم يختص النهي بمنع الرجل من الوضوء بفضل المرأة والعكس، بل كان النهي سيقع من الشارع لكل أحد عن كل فضل.
ومن جملة ما استدلوا به: أن السلف كانوا يكملون الطهارة بالتيمم عند قلة الماء، لا بماء ساقط منه.
وهذه حجة ساقطة لا ينبغي التعويل على مثلها في إثبات الأحكام الشرعية، فعلى هذا المستدل أن يوضح: هل كان هذا التكميل يفعله جميع السلف أو بعضهم؟
والأول: باطل.
والثاني: لا يُدرى من هو؟ {فليبين لنا من هو؟}
على أنه لا حجة إلا الإجماع عند من يحتج بالإجماع.
وقد استدلوا بأدلة هي أجنبية عن محل النزاع؛ مثل حديث غسل اليد ثلاثاً بعد الاستيقاظ قبل إدخالها الإناء، ونحوه.
__________
(1) • يشير إلى حديث: " نهى رسول الله [صلى الله عليه وسلم] أن تغتسل المرأة بفضل الرجل، أو الرجل بفضل المرأة، وليغترفا جميعاً " رواه أبو داود، والنسائي بسند صحيح، والنهي فيه للتنزيه؛ لحديث ابن عباس قال: اغتسل بعض أزواج النبي [صلى الله عليه وسلم] في جفنة، فجاء النبي [صلى الله عليه وسلم] ليتوضأ منها أو يغتسل، فقالت له: يا رسول الله! إني كنت جنباً، فقال: " إن الماء لا يجنب " رواه أبو داود وغيره بسند صحيح. (ن)

(1/101)


فالحق: أن المستعمل طاهر ومطهر؛ عملاً بالأصل، وبالأدلة الدالة على أن الماء طهور.
وقد ذهب إلى هذا جماعة من السلف والخلف، ونسبه ابن حزم إلى عطاء، وسفيان الثوري، وأبي ثور، وجميع أهل الظاهر، ونقله غيره عن الحسن البصري، والزهري، والنخعي، ومالك، والشافعي، وأبي حنيفة - في إحدى الروايات عن الثلاثة المتأخرين -.
والحق: أن الماء لا يخرج عن كونه طهوراً بمجرد استعماله للطهارة؛ إلا أن يتغير بذلك ريحه أو لونه أو طعمه، وقد كان الصحابة يكادون يقتتلون على ما تساقط من وضوئه [صلى الله عليه وسلم] ، فيأخذونه ويتبركون به، والتبرك به (1) يكون بغسل بعض أعضاء الوضوء كما يكون بغير ذلك.
والحاصل: أن إخراج ما جعله الله طهوراً عن الطهورية لا يكون إلا بدليل.
__________
(1) وهذا التبرك خاص بالنبي [صلى الله عليه وسلم] ، ولا يجوز إلحاق غيره به؛ لعدم مساواة غيره له [صلى الله عليه وسلم] .
وما تفعله بعض الفِرق الصوفية - وكثير من العامة - من ذلك؛ فهو غير جائز البتّة، بل قد يؤدي إلى الشرك - عياذاً بالله تعالى -.

(1/102)


(باب النجاسات)
(فصل)
( [تعريف النجاسة] :)
(والنجاسات) : جمع نجاسة، وهي: كل شيء يستقذره أهل الطبائع السليمة ويتحفظون عنه، ويغسلون الثياب إذا أصابها؛ كالعَذِرة والبول.
( [أنواع النجاسات] :)
(1 -[بول الآدمي وغائطه] :)
(هي غائط الإنسان مطلقاً وبوله) بالأدلة الصحيحة المفيدة للقطع بذلك، بل نجاستهما من باب الضرورة الدينية، كما لا يخفى على من له اشتغال بالأدلة الشرعية، وبما كان عليه الأمر في عصر النبوة، ولا يقدح في ذلك التخفيف في تطهيرهما في بعض الأحوال.
أما الغائط: فكما في حديث أبي هريرة: أن رسول الله [صلى الله عليه وسلم] قال: " إذا وطئ أحدكم بنعله الأذى؛ فإن التراب له طهور "؛ وفي لفظ: " إذا وطئ الأذى بخفيه؛ فطورهما التراب ".
رواهما أبو داود - رحمه الله -، وابن السكن، والحاكم، والبيهقي.

(1/103)


وقد اختُلف فيه على الأوزاعي (1) .
وأخرج أحمد، وأبو داود، والحاكم، وابن حبان من حديث أبي سعيد: أن النبي -[صلى الله عليه وسلم]- قال: " إذا جاء أحدكم المسجد؛ فليقلب نعليه ولينظر فيهما، فإن رأى خبثاً فليمسحه بالأرض، ثم ليصلّ فيهما ".
وقد اختُلف في وصله وإرساله، ورجح أبو حاتم في " العلل " الموصول (2) .
وأخرج أهل " السنن " عن أم سلمة مرفوعاً بلفظ: " يطهِّره ما بعده " (3) .
وعن أنس عند البيهقي بسند ضعيف بنحوه.
وكذلك عن امرأة من بني عبد الأشهل عند البيهقي (4) - أيضا -.
فإن جعل التراب مع المسح مطهراً لذلك لا يُخرجه عن كونه نجساً بالضرورة؛ إذ اختلاف وجه التطهير لا يُخرج النجس عن كونه نجساً.
__________
(1) • وقد بيَّنت الخلاف المشار إليه في كتابي " صحيح سنن أبي داود " رقم (410) ؛ لكن الحديث صحيح، فقد رواه أبو داود أيضا من حديث عائشة بمعناه، وسنده صحيح، كما بينته هناك رقم (411) ، وحسَّنه المنذري في " مختصره ". (ن)
(2) • قلت: وسنده صحيح على شرط مسلم، وكذلك صححه الحاكم ووافقه الذهبي، وصححه النووي أيضا، وقد تكلمت على سند الحديث في " صحيح سنن أبي داود " رقم (658) ، وله فيه شاهد مرسل صحيح. (ن)
(3) • وهو حديث صحيح كما بينته في " صحيح السنن " رقم (407) . (ن)
(4) • لقد أبعد المصنف النُّجعة، فالحديث رواه أبو داود، وابن ماجة أيضا، وإسناده صحيح كما بينته في " صحيح السنن " رقم (408) . (ن)

(1/104)


وأما التخفيف في تطهير البول؛ فكما ثبت أن النبي [صلى الله عليه وسلم] أمر بأن يُراق على بول الأعرابي ذَنوب (1) من ماء.
وهو في " الصحيحين " وغيرهما من حديث أبي هريرة وأنس - رضي الله عنهما -.
(2 -[طهارة بول ما يؤكل لحمه] :)
وأما ما عدا غائط الآدمي وبوله من الأبوال والأزبال؛ فلم يحصل الاتفاق على شيء في شأنها، والأدلة مختلفة:
فورد في بعضها ما يدل على طهارته كأبوال الإبل؛ فإنه ثبت في " الصحيحين " وغيرهما: أن النبي [صلى الله عليه وسلم] أمر العُرَنيين بأن يشربوا من أبوال الإبل.
ومن ذلك حديث: " لا بأس ببول ما يؤكل لحمه "؛ وهو حديث ضعيف أخرجه الدارقطني من حديث جابر - رضي الله عنه -؛ والبراء رضي الله عنه، وفي إسناده عمرو بن الحصين العقيلي؛ وهو ضعيف جداً لا تقوم بمثله الحجة (2) .
وورد ما يدل على نجاسة الرَّوث: ما أخرجه البخاري (3) وغيره: أنه قال [صلى الله عليه وسلم] في الروثة: " إنها رِكْس "؛ والركس النجس.
وقد نقل التيمي أن الروث مختص بما يكون من الخيل والبغال والحمير.
ولكن زاد ابن خزيمة في رواية: " إنها ركس؛ إنها روثة حمار ".
__________
(1) في الأصل (ذنوباً) وهو خطأ.
والذنوب: الدلو. (ش)
(2) بل كذبه أحمد بن حنبل. (ش)
(3) • في " صحيحه " (1 / 206 - 207) ، وكذا أحمد (رقم 3685) . (ن)

(1/105)


ومعظم ما استدل به القائلون بالتعميم في النجاسة؛ لا ينطبق على غير الخارج من الآدمي.
وحديث الروثة لا يستلزم التعميم.
وحديث عمار قد أطبق من رواه على أنه من الضعف بمكان يسقط به عن درجة الاعتبار؛ لأنه من رواية ثابت بن حماد، عن علي بن زيد بن جدعان، والأول: مجمع على تركه، والثاني: مجمع على ضعفه؛ فلا ينتهض بمثله حجة على التعميم (1) .
واحتجوا بإذنه [صلى الله عليه وسلم] بالصلاة في مرابض الغنم، وبإذنه بشرب أبوال الإبل، وهما صحيحان.
ولا حكم للمعارضة بنهيه [صلى الله عليه وسلم] عن الصلاة في معاطن الإبل؛ لأن النهي معلل بأنها ربما تؤذي المصلِّي (2) ، فلا يستلزم ذلك عدم طهارة أزبالها وأبوالها،
__________
(1) هو حديث رواه الدارقطني، والبزار، والبيهقي وغيرهم؛ ولفظه: " إنما تغسل ثوبك من البول والغائط والمني والدم والقيء ".
قال الدارقطني: " لم يروه غير ثابت بن حماد، وهو ضعيف جدّاً ".
وقال البيهقي: " هذا باطل لا أصل له؛ ثابت متهم بالوضع ".
انظر شرحنا على " التحقيق " في المسألة رقم (23) . (ش)
(2) • هذا التعليل لا أصل له في السنة، وإنما جاء فيها قوله [صلى الله عليه وسلم] : " صلوا في مرابض الغنم، ولا تصلوا في أعطان الإبل؛ فإنها خُلقت من الشياطين ".
رواه ابن ماجه، والطحاوي، وأحمد، والبيهقي، والطيالسي عن عبد الله بن مُغفَّل، وإسناده صحيح كما بينته في " الثمر المستطاب ".
وله شاهد من حديث البراء بسند صحيح كما بينته هناك؛ وفيه: " صلوا فيها - يعني: مرابض الغنم -؛ فإنها بركة "، وقد رواه الخطيب في " الموضح " (2 / 97) . (ن) .

(1/106)


كما أن تعليل الصلاة في مرابض الغنم بأنها بركة، لا يستلزم أن الصلاة إنما كانت لأجل كونها بركة؛ فإن مثل ذلك لا يُسوِّغ مباشرة ما ليس بطاهر.
(3 -[روث الحيوانات] :)
فالحق الحقيق بالقبول: الحكم بنجاسة ما ثبتت نجاسته بالضرورة الدينية - وهو بول الآدمي وغائطه -، وأما ما عداهما؛ فإن ورد فيه ما يدل على نجاسته - كالروثة -؛ وجب الحكم بذلك من دون إلحاق، وإن لم يرد؛ فالبراءة الأصلية كافية في نفي التعبد بكون الشيء نجساً من دون دليل؛ فإن الأصل في جميع الأشياء الطهارة، والحكم بنجاستها حكم تكليفي تعم به البلوى، ولا يحل إلا بعد قيام الحجة.
قال الماتن - رحمه الله تعالى -: " ولا يخفى عليك أن الأصل في كل شيء أنه طاهر؛ لأن القول بنجاسته يستلزم تعبد العباد بحكم من الأحكام، والأصل عدم ذلك، والبراءة قاضية بأنه لا تكليف بالمحتمل حتى يثبت ثبوتاً ينقل عن ذلك، وليس من أثبت الأحكام المنسوبة إلى الشرع بدون دليل بأقل إثماً ممن أبطل ما قد ثبت دليله من الأحكام، فالكل إما من التقول على الله - تعالى - بما لم يقل، أو من إبطال ما قد شرعه لعباده بلا حجة ".
(4 -[نجاسة بول الرضيع] :)
(إلا الذكر الرضيع) : لحديث: " يُغسل من بول الجارية، ويُرش من بول الغلام "، أخرجه أبو داود - رحمه الله تعالى -، والنسائي - رحمه الله تعالى -، وابن ماجه، والبزار، وابن خزيمة، من حديث أبي السمح - خادم رسول الله [صلى الله عليه وسلم]-، وصححه الحاكم.

(1/107)


وأخرج أحمد، والترمذي - وحسنه -، من حديث علي - رضي الله عنه -: أن النبي [صلى الله عليه وسلم] قال: " بول الغلام الرضيع يُنضح، وبول الجارية يُغسل ".
وأخرجه - أيضا - ابن ماجه، وأبو داود بإسناد صحيح عن علي موقوفاً (1) .
وأخرج أحمد، وأبو داود، وابن ماجه، وابن خزيمة، وابن حبان، والطبراني من حديث أم الفضل لُبابة بنت الحارث، قالت: بال الحسين بن علي في حِجر النبي [صلى الله عليه وسلم] ، فقلت: يا رسول الله! أعطني ثوبك والبس ثوباً غيره، حتى أغسله، فقال: " إنما يُنضح من بول الذكر، ويُغسل من بول الأنثى ".
وثبت في " الصحيحين "، وغيرهما من حديث أم قيس بنت مِحصن: أنها أتت بابن لها صغير لم - يأكل الطعام - إلى رسول الله [صلى الله عليه وسلم] ، فبال على ثوبه، فدعا بماء، فنضحه ولم يغسله.
وفي " صحيح البخاري " من حديث عائشة، قالت: أُتي رسول الله [صلى الله عليه وسلم] بصبي يُحنِّكه، فبال عليه، فأتبعه الماء.
وفي " صحيح مسلم " عنها، قالت: كان يؤتى بالصبيان، فيبرِّك عليهم ويحنِّكهم، فأتي بصبي، فبال عليه، فدعا بماء، فأتبعه بوله ولم يغسله.
فهذا تصريح بأنه لم يغسله، فيكون إتباعه الماء مجرد النضح، كما وقع في الحديثين الآخرين، أو مجرد صب الماء عليه من دون غسل.
__________
(1) • قلت: وأخرجه أبو داود مرفوعاً أيضا، وسنده صحيح مرفوعاً وموقوفاً، وقد بينت ذلك في " صحيح سنن أبي داود " رقم (401، 402) . (ن)

(1/108)


وبالجملة: فالتصريح منه [صلى الله عليه وسلم] بالقول بما هو الواجب في ذلك؛ هو الأوْلى بالاتِّباع؛ لكونه كلاماً مع أمته، فلا يعارضه ما وقع من فعله؛ على فرض أنه مخالف للقول.
( [أقوال الفقهاء في تطهير بول الرضيع] :)
وقد ذهب إلى الاكتفاء بالنضح في بول الغلام لا الجارية جماعة؛ منهم: علي، وأم سلمة، والثوري، والأوزاعي، والنخعي، وداود، وابن وهب، وعطاء، والحسن، والزهري، وأحمد، وإسحاق ومالك - في رواية -.
وهذا هو الحق الذي لا محيص عنه.
وذهب بعض أهل العلم - وقد حُكي عن مالك، والشافعي، والأوزاعي - إلى أنه يكفي النضح فيهما، وهذا فيه مخالفة لما وقع في هذه الأحاديث الصحيحة من التفرقة بين الغلام والجارية.
وذهب الحنفية - رحمهم الله -، وسائر الكوفيين إلى أنهما سواء في وجوب الغسل، وهذا المذهب كالذي قبله - في مخالفة الأدلة -.
وقد استدل أهل هذا المذهب الثالث بالأدلة الواردة في نجاسة البول على العموم، ولا يخفاك أنها مخصصة بالأدلة الخاصة المصرحة بالفرق بين بول الجارية والغلام.
وأما ما قيل من قياس بول الغلام على بول الجارية: فلا يخفاك أنه قياس في مقابلة النص، وهو فاسد الاعتبار.

(1/109)


وقد شدّد (1) ابن حزم فقال: إنه يرش من بول الذكر - أي ذكر كان - {وهو إهمال للقيد المذكور سابقاً، بلفظ -: " بول الغلام الرضيع يُنضَح "، والواجب حمل المطلق على المقيد.
قال في " الحُجّة ": " قد أخذ بالحديث أهل المدينة وإبراهيم النخعي، وأضجع فيه القول محمد فلا تغتر بالمشهور بين الناس ".
قلت: قال الشافعي - رحمه الله تعالى -: يُنضح من بول الغلام ما لم يطعم، ويغسل من بول الجارية ".
فسّره البغوي بأن بول الصبي نجس، غير أنه يُكتفى فيه بالرش، وهو أن ينضح الماء عليه بحيث يصل إلى جميعه، فيطهّر من غير مَرْس ولا دلك.
وقال أبو حنيفة - رحمه الله تعالى -: يغسل منهما سواء.
ويتجه أن يقال من جانب أبي حنيفة - رحمه الله تعالى -: إن المراد بالنضح الغسل الخفيف، وبالغسل المرس والدلك.
وأصل المسألة: أن التطهير إنما يكون بإزالة عين النجاسة وأثرها، وبول الجارية أغلظ وأنتن، فاحتيج فيه إلى زيادة المرس. كذا في " المُسوى ".
وأقول: أحاديث التخصيص ههنا صحيحة، لا شك في ذلك ولا ريب، فما الذي دعاهم إلى الوقوع في مضيق التأويل المتعسف، الذي لا يسوغ ارتكاب مثله مع وجود السعة؟}
__________
(1) قوله: " شدّد "؛ هكذا بالأصل مصلحاً {ولعله: " شذّ "؛ فليتأمل} (ش)

(1/110)


وهذا كلام عاطل الجِيد عن الفائدة بمرة؛ لأن هذا المعنى قد استُفيد من العام، ثم إهدار لفائدة المغايرة بالمرة، وحكم على كلام من أوتي جوامع الكلم - وكان أفصح العرب -، بما يلحقه بكلام من هو من العيّ بمنزلة تُوقعه في الكلام القاصر عن رتبة الفصاحة والبلاغة.
وقد ذكر في " النهاية " ما يفيد أن النضح يأتي بمعنى الغسل.
قلت: قد يَرِد في مثل ذلك نادراً إذا اقتضاه المقام، وههنا وقع مقابلاً للغسل، فكيف يصح تفسيره به؟ {
وقد أطبق أئمة اللغة أن النضح هو الرش، فيجب حمله على ذلك إذا لم تقم قرينة على إرادة غيره، فكيف إذا كان الكلام لا يصح إلا بالحمل على ذلك المعنى الأعم الأغلب؟} وإلا كان الكلام حشواً.
وإن كان استعظام قائل قد قال بوجوب غسل البول؛ فليس أحد أعظم منزلة ولا أكبر قدراً من رسول الله [صلى الله عليه وسلم] ، فأقل الأحوال أن يجعل لكلامه مزيّة على غيره من علماء أمّته، فيكون كلامهم مردوداً إلى كلامه.
وليت أن المشغوفين بمحبة مذاهب الأسلاف جعلوه كأسلافهم، فسلكوا فيما بين كلامه وكلامهم طريقة الإنصاف، ولكنهم في كثير من المواطن يجعلون الحظ لأسلافهم، فيردون كلامه [صلى الله عليه وسلم] إلى كلامهم، فإن وافقهم فبها ونعمت، وإن لم يوافقهم فالقول ما قالت حَذام (1) .
فإن أنكرتَ هذا؛ فهات؛ أبِنْ لي ما الذي اقتضى هذه التأويلات
__________
(1) من أمثال العرب المشهورة، والمراد عدم الحيْدَة عن كلامه [صلى الله عليه وسلم] .

(1/111)


المتعسفة، وردّ أحاديث التخصيص الصحيحة؟ {مع تسليمهم أن الخاص مقدم على العام، وأن يُبنى العام على الخاص}
وهذا مشتهر في الأصول اشتهار النهار.
(5 -[لُعاب الكلب] :)
(ولعاب كلب) : قد ثبت في " الصحيحين " وغيرهما من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -: أن رسول الله [صلى الله عليه وسلم] قال: " إذا شرب الكلب في إناء أحدكم؛ فليغسله سبعاً ".
وثبت - أيضاً - عندهما وغيرهما مثله من حديث عبد الله بن مغفل، فدل ذلك على نجاسة لعاب الكلب؛ وهو المطلوب هنا.
والكلام في الخلاف بين من عمل بظاهر هذه الأدلة ومن اكتفى بالتثليث معروف، وليس ذلك مما يقدح في كونه نجساً؛ لأن محل الدليل على النجاسة هو إيجاب الغسل، وهكذا لا يتعلق بما نحن بصدده زيادة التغليظ بالتتريب، كما وقع في أحاديث الباب في " الصحيحين " وغيرهما؛ فإنه ليس المقصود ههنا إلا إثبات كون اللعاب نجساً، لا بيان كيفية تطهيره، فلذلك موضع آخر.
والحاصل: أن الحق ما قضى به رسول الله [صلى الله عليه وسلم] من التسبيع والتتريب، وليس من شرط التعبد الاطِّلاع على علل الأحكام التي تعبَّدَنا الله بها - على ما هو الراجح -، وقد صح لنا الأمر منه [صلى الله عليه وسلم] بالغسل على الصفة المذكورة بالأحاديث الصحيحة، ولم نجد عنه ما يدلنا على خلاف هذا الحكم، فلا يحل تحويل الشرع المتقرر بأقوال علماء الأمة، سواء كان القول المخالف منسوباً إلى

(1/112)


جميعهم أو إلى بعضهم، وقد حفظ الله هذه السنة بأقوال جماعة من علماء الأمة، كما هو معروف في كتب الخلاف والفقه وشروح السنة.
ومن أغرب ما يراه من ألهمه الله رشده وحبب إليه الإنصاف؛ ما يقع في كثير من المواطن - من جماعة - من ذلك عن الشريعة بمعزل، والميل عن الحكم الثابت بشرع أوضح من الشمس؛ من دون سبب يقتضي ذلك - كما فيما نحن بصدده -، وفيما سلف في بول الصبي، وأشباه هذا ونظائره لا تحصى؛ والله المستعان.
(5 -[الرّوث] :)
(وروث) : الدليل على نجاسته ما تقدمت الإشارة إليه من قوله [صلى الله عليه وسلم] في الروثة: " إنها ركس "؛ والركس - في اللغة -: النجس؛ فالروثة نجس، وهو المطلوب.
وقد قدمنا كلام التيمي في تخصيص ذلك بروث الخيل والبغال والحمير.
(6 -[دم الحيض] :)
(ودم حيض) : الدليل على ذلك ما ثبت عند أحمد، وأبي داود، والترمذي من حديث خولة بنت يسار، قالت: يا رسول الله {ليس لي إلا ثوب واحد، وأنا أحيض فيه؟ قال: " فإذا طهرت فاغسلي موضع الدم، ثم صلي فيه " قالت: يا رسول الله} إن لم يخرج أثره؟ قال: " يكفيك الماء، ولا يضرك أثره ".

(1/113)


وفي إسناده ابن لهيعة (1) .
وأخرج أحمد، وأبو داود، والنسائي، وابن ماجه، وابن خزيمة، وابن حبان من حديث أم قيس بنت محصن مرفوعاً بلفظ: " حُكّيه بضِلَع (2) واغسليه بماء وسِدْر ".
قال ابن القطان: إسناده في غاية الصحة (3) .
وفي " الصحيحين " وغيرهما من حديث أسماء بنت أبي بكر - رضي الله تعالى عنهما -، قالت: جاءت امرأة إلى النبي [صلى الله عليه وسلم] ، فقالت: إحدانا يصيب ثوبها من دم حيض؛ فكيف تصنع؟ قال: " تحتُّه، ثم تقرصه بالماء، ثم تنضحه، ثم تصلي فيه ".
فالأمر بغسل دم الحيض وحكّه بضِلع يفيد ثبوت نجاسته، وإن اختلف وجه تطهيره، فذلك لا يخرجه عن كونه نجساً.
__________
(1) • قلت: لكن رواه عنه عبد الله بن وهب - أيضاً - عند البيهقي، وحديث ابن لهيعة إذا كان من رواية العبادلة عنه، وهم: ابن وهب، وابن المبارك، وعبد الله بن يزيد المقري، فالحديث صحيح، ولذلك أوردته في " صحيح أبي داود " (رقم 389) . (ن) .
(2) بكسر الضاد المعجمة وفتح اللام؛ أي: بعود، والأصل فيه: الضلع - باللام الساكنة -: ضلع الجنب، وقيل للعود الذي فيه انحناء وعرض: ضلع؛ تشبيهاً بالضلع الذي هو واحد الأضلاع.
قاله في " اللسان ".
وقال ابن الأعرابي: الضلع ههنا: العود الذي فيه الاعوجاج.
وفي بعض الروايات: " بضلع " بفتح الصاد المهملة، وإسكان اللام -، وهو الحجر، وزعم ابن دقيق العيد أن الأول تصحيف! وهو خطأ. (ش) .
(3) • وقال الحافظ في " الفتح " (1 / 266) : " وإسناده حسن "، وهو قصور؛ فالسند صحيح لا علة فيه، ولذلك أوردته في " صحيح أبي داود " (رقم 388) مصححاً. (ن)

(1/114)


وأما سائر الدماء؛ فالأدلة فيها مختلفة مضطربة، والبراءة الأصلية مستصحبة، حتى يأتي الدليل الخالص عن المعارضة الراجحة أو المساوية. (1)
ولو قام الدليل على رجوع الضمير في قوله - تعالى -: {فإنه رجس} إلى جميع ما تقدم في الآية الكريمة - من الميتة والدم المسفوح ولحم الخنزير -؛ لكان ذلك مفيداً لنجاسة الدم المسفوح والميتة، ولكنه لم يرد ما يفيد ذلك، بل النزاع كائن في رجوعه إلى الكل أو إلى الأقرب؟ ! والظاهر رجوعه إلى الأقرب - وهو لحم الخنزير؛ - لإفراد الضمير، ولهذا جزمنا ههنا بنجاسة لحم الخنزير دون الميتة، والدم الذي ليس بدم حيض، ولا سيما وقد ورد في الميتة ما يفيد أنه لا يحرم منها إلا أكلها، كما ثبت في " الصحيح " بلفظ: " إنما حُرِّم من الميتة أكلها ".
ومن رام تحقيق الكلام في الخلاف الواقع في مثل هذا الضمير المذكور في الآية؛ فليرجع إلى ما ذكره أهل الأصول في الكلام على القيد الواقع بعد جملة مشتملة على أمور متعددة.
(7 -[لحم الخنزير] :)
(ولحم خنزير) : الدليل على نجاسته ما قدمنا قريباً من الآية الكريمة.
__________
(1) هذا خطأ من المؤلف والشارح؛ فإن نجاسة دم الحيض ليست لأنه دم الحيض، والمتتبع للأحاديث يجد أنه كان مفهوماً أن الدم نجس - ولو لم يأت لفظ صريح بذلك -، وقد كانوا يعرفون ما هو قذر نجس بالفطرة الطاهرة. (ش) .
• قلت: وقد نقل القرطبي في " تفسيره " (2 / 221) اتفاق العلماء على نجاسة الدم.
قلت: وفيه نظر، فقد صح أن ابن مسعود نحر جزوراً فأصابه من دمه، فقام وصلى وعليه الدم. أخرجه الطبراني. (ن)

(1/115)


( [الأدلة على طهارة المنِيّ] :)
(وفيما عدا ذلك خلاف) : وأما المني؛ فاحتجوا على نجاسته بأمور:
الأول: حديث عمار، وقد سلف عدم صلاحيته للاحتجاج.
والثاني: بما ورد عن جماعة من الصحابة، وذلك لا تقوم به حجة؛ لأنه لم يكن إجماعاً ولا مرفوعاً.
والثالث: بما ورد في المَذْي (1) من الأمر بغسل الفرج والأُنثيين.
ويجاب عنه: أنه إثبات لنجاسة المني بقياس؛ لأنهما متغايران، على أنه يمكن أن يكون التغليظ في المذي؛ إما لكونه يخرج غالباً مختلطاً بالبول، أو لأنه ليس بأصل للنسل.
ويلزم أن يطهُر بالنضح؛ لما ورد عند أبي داود، والترمذي - وصححه - من حديث سهل بن حُنَيْف بلفظ: " يكفيك أن تأخذ كفاً من ماء، فتنضح به حيثما ترى أنه (2) أصاب من ثوبك " (3) .
وأما الجواب عن حديث أمره [صلى الله عليه وسلم] لعائشة بفرك المني؛ بأن المراد به الفرك قبل الغسل، لا مجرد الفرك فقط! فهذا خلاف ما تقتضيه المقابلة للفرك بالغسل.
__________
(1) • كان اللائق ذكر المذْي في النجاسات المنصوصة عليها، لورود الأمر بغسله، كما يشير المؤلف نفسه إلى ذلك. (ن)
(2) أي المدى. (ش)
(3) • قلت: وسنده حسن كما بينته في " صحيح أبي داود " (رقم 204) . (ن)

(1/116)


وكان أقرب من هذا أن يجاب: بأن الفرك لم يكن بأمره [صلى الله عليه وسلم] ؛ إنما قالت عائشة: كنت أفركه من ثوب رسول الله [صلى الله عليه وسلم]- كما في كتب الحديث -.
والأمر الرابع: أن النبي [صلى الله عليه وسلم] كان يغسل موضع المني من ثوبه؛ ويجاب عنه: بأن هذا فعل لا يصلح لإثبات النجاسة المستلزم لوجوب الإزالة، مع احتمال أن يكون غسله تقذُّراً لما فيه من مخالفة النظافة.
وأما فرك عائشة لمنيِّه [صلى الله عليه وسلم] من ثوبه حال صلاته بأنه (1) لم يعلم بذلك: فالجواب عنه بأنه لو كان نجساً لما أقره الله على ذلك، كما ثبت في حديث خلع النعل بعد دخوله في الصلاة لإخبار جبريل له بذلك.
وقد قدمت لك أن الحكم بكون الشيء نجساً لا يُقبل إلا بدليل تقوم به الحجة؛ غير معارض بما هو أنهض أو مساوٍ؛ لأن الحكم بكون الشيء نجساً يستلزم تعبد العباد بحكم من أحكام الشرع تعم به البلوى.
وقد أوردت في " مِسك الختام شرح بلوغ المرام " حجج المختلفين، ورجّحت هناك ما رجّحت، وظهر لي الآن أن القيام في مقام المنع هو الذي ندين به عند الله.
وفي " سُبُل السلام ": والحق أن الأصل الطهارة، والدليل على القائل بالنجاسة، فنحن باقون على الأصل.
وذهب الحنفية - رحمهم الله - إلى نجاسة المني كغيرهم، ولكن قالوا: يطهره الغسل، أو الفرك، أو الإزالة بالخِرقة، أو الإذخرة؛ عملاً بالحديثين،
__________
(1) لعله: وأنه. (ش)

(1/117)


وبين الفريقين القائلين بالنجاسة والقائلين بالطهارة مجادلات ومناظرات واستدلالات طويلة استوفيناها في حواشي " شرح العمدة ". انتهى
( [الأصل في الأشياء الطهارة] :)
(والأصل الطهارة فلا ينقل عنها إلا ناقل صحيح لم يعارضه ما يساويه أو يقدم عليه) : لأن كون الأصل الطهارة معلوم من كليات الشريعة المطهرة وجزئياتها، ولا ريب أن الحكم بنجاسة شيء يستلزم تكليف العباد بحكم من أحكام الشرع، والأصل البراءة من ذلك، ولا سيما من الأمور التي تعم بها البلوى، وقد أرشدنا رسول الله [صلى الله عليه وسلم] إلى السكوت عن الأمور التي سكت الله - تعالى - عنها، وأنها عفو؛ فما لم يرد فيه شيء من الأدلة الدالة على نجاسته؛ فليس لأحد من عباد الله تعالى أن يحكم بنجاسته بمجرد رأي فاسد، أو غلط في الاستدلال، كما يدعيه بعض أهل العلم من نجاسة ما حرّمه الله - تعالى -، زاعماً أن النجاسة والتحريم متلازمان.
وهذا الزعم من أبطل الباطلات، فالتحريم للشيء لا يدل على نجاسته بمطابقة ولا تضمن ولا التزام (1) ؛ فتحريم الخمر والميتة والدم لا يدل على نجاسة ذلك، وكأن الشارع قد علم وقوع مثل هذا الغلط لبعض أمته، فأرشدهم إلى ما يدفعه قائلاً: " إنما حُرِّم من الميتة أكلها " (2) ، ولو كان مجرد تحريم شيء
__________
(1) هي أنواع الدلالات المنطقية.
(2) هذا فهم خطأ، ولم يقصد الشارع بالحصر - إذا سلمنا أن " إنما " تدل على الحصر - أنها ليست نجسة؛ فإن الصحابة - رضي الله عنهم - فهموا نجاسة الميت بكل أجزائها مما علموه من الشريعة، فأعلمهم أن المحرم أكلها، وأما الانتفاع بجلدها؛ فجائز بعد دباغه؛ ولذلك ورد مرفوعاً من حديث ابن عباس: " إذا دُبغ الإهاب فقد طهر " رواه مسلم.
ورواه الحاكم بلفظ: " دباغه يذهب بخبثه - أو نجسه أو رجسه - "، وهو صحيح لا علة له، وله ألفاظ أخرى تدل على أن الميتة نجسة، انظر شرحنا على " التحقيق " لابن الجوزي مسألة رقم (17) . (ش)

(1/118)


مستلزماً لنجاسته؛ لكان مثل قوله - تعالى -: {حرمت عليكم أمهاتكم} إلى آخره دليلاً على نجاسة النساء المذكورات في الآية!
( [المسلم طاهر حياً وميتاً] :)
والمسلم لا ينجس حيّاً ولا ميتاً، كما ثبت ذلك عنه [صلى الله عليه وسلم] في " الصحيح "، وهكذا يلزم نجاسة أعيان وقع التصريح بتحريمها وهي طاهرة بالاتفاق (1) ، كالأنصاب والأزلام وما يُسكر من النبات والثمرات بأصل الخلقة.
فإن قلت: إذا كان التصريح بنجاسة شيء أو رجسيَّته أو ركسيَّته يدل على أنه نجس - كما قلت في نجاسة الروثة ولحم الخنزير - فكيف لم تحكم بنجاسة الخمر لقوله - تعالى -: {إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس} ؟} قلت: لما وقع الخمر ههنا مقترناً بالأنصاب والأزلام كان ذلك قرينة صارفة لمعنى الرِّجسيّة إلى غير النجاسة الشرعية.
( [نجاسة المشرك] :)
وهكذا قوله - تعالى: {إنما المشركون نجس} : لما جاءت الأدلة الصحيحة المقتضية لعدم نجاسة ذوات المشركين، كما ورد في أكل ذبائحهم وأطعمتهم، والتوضؤ من آنيتهم والأكل فيها، وإنزالهم المسجد: كان ذلك دليلاً على أن المراد بالنجاسة المذكورة في الآية غير النجاسة الشرعية، بل قد ورد (2) البيان من الشارع
__________
(1) • في نقل هذا الاتفاق نظر؛ فقد ذهب ابن حزم إلى تنجيس المذكورات في الآية. (ن)
(2) • قلت: في الجزم بورود هذا الحديث نظر قوي، لأنه من رواية الحسن البصري مرسلاً، وأخرجه أبو داود في " المراسيل "، وابن أبي شيبة، وعبد الرزاق.
ومراسيل الحسن ضعيفة، قالوا: إنها كالريح، وروي عنه، عن عثمان بن أبي العاص مسنداً، =

(1/119)


لذلك بما لا يحتاج إلى زيادة، فقال في وفد ثقيف لما أنزلهم المسجد: " ليس على الأرض من أنجاس القوم شيء؛ إنما أنجاسهم على أنفسهم "، فهذا يدل على أن تلك النجاسة حُكمية لا حِسِّيّة، والتعبد إنما هو بالنجاسة الحسية.
وأما ما ورد فيه ما يدل على نجاسته - ولكنه قد عورض بما هو أرجح منه -: فلا شك أن يتعين العمل بالأرجح، فإن عورض بما يساويه؛ فالأصل عدم التعبد بما يتضمن ذلك الحكم، حتى يرد مورداً خالصاً عن شَوْب المعارضة، أو راجحاً على ما عارضه.
وبالجملة: فالواجب على المنصف أن يقوم مقام المنع، ولا يتزحزح عن هذا المقام إلا بحجة شرعية.
قال في " سبل السلام ": " والحق أن الأصل في الأعيان الطهارة، وأن التحريم لا يلازم النجاسة؛ فإن الحشيشة محرمة طاهرة، وكل المخدرات والسمومات القاتلة لا دليل على نجاستها، وأما النجاسة فيلازمها التحريم فكل نجس محرم ولا عكس، وذلك لأن الحكم في النجاسة هو المنع عن ملامستها على كل حال، فالحكم بنجاسة العين حكم بتحريمها، بخلاف الحكم بالتحريم؛ فإنه يحرم لبس الحرير والذهب؛ وهما طاهران ضرورة شرعية وإجماعاً، إذا عرفت هذا: فتحريم الحُمُر والخمر - الذي دلت عليه النصوص - لا يلزم منه نجاستها، بل لا بد من دليل آخر عليه؛ وإلا بقيا على الأصول
__________
= دون قوله: " وليس على الأرض من أنجاس القوم شيء "، وزاد: " ليكون أرق لقلوبهم "، وهو مخرج في " ضعيف أبي داود " (529) . (ن)
قلت: وانظر " مصنف عبد الرزاق " (1650) ، و " نصب الراية " (4 / 270) ، و " البناية شرح الهداية " (4 / 274 - الطبعة الهندية) ، و " شرح فتح القدير " (8 / 496) .

(1/120)


المتفق عليها من الطهارة، فمن ادعى خلافه فالدليل عليه ". انتهى.
وقد أوضح الماتن في مصنفاته: ك " شرح المنتقى " و " وبل الغمام حاشية شفاء الأوام " هذه المباحث المتعلقة بالنجاسة ما لا يحتاج الناظر في ذلك إلى النظر في غيره؛ فليراجع.
(فصل [تطهير النجاسات] )
( [الاقتصار على ما ورد في الشرع] :)
(ويطهر ما يتنجس بغسله) ؛ أي: بإسالة الماء عليه، ثم إن ورد فيه شيء عن الشارع؛ كان الواجب الاقتصار في صفة التطهير على ذلك الوارد، من دون مخالفة بزيادة عليه أو نقصان عنه، كما ورد في أن النعل إذا تلوث بالنجاسة طهر بمسحه، وقد تقدم ما يدل على ذلك، وتقدم - أيضا - ما ورد في كيفية تطهير ما ينجس بدم الحيض وبلعاب الكلب.
وبالجملة: فكل ما علمنا الشارع كيفية تطهيره؛ كان علينا أن نقتصر على تلك الكيفية، وأما ما ورد فيه عن الشارع أنه نجس ولم يرد فيه بيان كيفية تطهيره؛ فالواجب علينا إذهاب تلك العين.
(حتى لا يبقى لها عين ولا لون ولا ريح ولا طعم) : لأن الشيء الذي يجد الإنسان ريحه أو طعمه - قد بقي فيه - جزء من العين، وإن لم يبق جرمها ولونها؛ إذ انفصال الرائحة لا يكون إلا عن وجود شيء من ذلك الشيء الذي له الريح، وكذلك وجود الطعم لا يكون إلا عن وجود شيء من ذلك الشيء الذي له الطعم.

(1/121)


( [تطهير النعل بالمسح] :)
(والنعل بالمسح) وكذلك الخف؛ لأنه جسم صلب لا يتخلل فيه النجاسة، والظاهر أنه عام في الرطبة واليابسة، فيطهر من النجاسة التي لها جرم بالدلك.
ثم إن النبي [صلى الله عليه وسلم] لما علم حدوث الشكوك في الطهارات فيما يأتي من الزمان، وأطلعه الله على ما يأتي به المصابون بالوسوسة من التأويلات التي ليس لها في الشريعة أساس: أوضح هذا المعنى إيضاحا ينهدم عنده كل ما بنوه على قنطرة الشك والخيال، فقال: " إذا جاء أحدكم المسجد؛ فلينظر نعليه، فإن كان فيها خبث فليمسحه بالأرض، ثم ليصل فيهما ".
ولفظ أحمد وأبي داود: " إذا جاء أحدكم إلى المسجد؛ فليقلب نعليه ولينظر فيهما، فإن رأى خبثا فليمسحه بالأرض، ثم ليصل فيهما ".
فانظر هذه العبارة الهادمة لكل شك، فإنه - أولا - بين لهم أنهم إذا وجدوا النجاسة في النعلين وجودا محققا؛ فعلوا المسح بالأرض، ثم أمرهم بالصلاة في النعلين ليعلموا بأن هذه هي الطهارة التي تجوز الصلاة بعدها.
( [تلبيس الشيطان على الموسوسين] :)
ثم ترى أحدهم يلعب به الشيطان حتى يصير ما هو فيه نوعا من الجنون! فيغسل يده أو وجهه مرة بعد مرة، حتى يبلغ العدد إلى حد يضيق عنه الحصر، مع دلك شديد، وكلفة عظيمة، واستغراق للفكر، وهو يعلم بأن ذلك العضو لم تصبه نجاسة مغلظة ولا مخففة، فلا يزال في تعب ونصب

(1/122)


ومزاولة، لا يشك من رآه أنه لم يبق عنده من العقل بقية، ثم إذا فرغ من العضو الأول بعد جهد جهيد؛ شرع في العضو الثاني ثم كذلك، وكثير منهم من يدخل محل الطهارة قبل طلوع الفجر ولا يخرج إلا بعد طلوع الشمس، فما بلغ الشيطان هذا المبلغ من أحد من العصاة؛ لأنه عذب نفسه في معصية لا لذة فيها للنفس ولا رفعة للقدر، وصار بمجرد مجاوزة الثلاث الغسلات - كما قال رسول الله [صلى الله عليه وسلم] فيمن تجاوزها -: " ... فقد أساء وتعدى وظلم "، فجمع له [صلى الله عليه وسلم] بين هذه الثلاثة أنواع، ثم لم يقنع منه بهذا، حتى صيره تاركا للفريضة التي ليس بين العبد وبين الكفر إلا تركها، كما ثبت في الحديث الصحيح عن جابر بلفظ: قال رسول الله [صلى الله عليه وسلم] : " بين الرجل وبين الكفر ترك الصلاة " أخرجه مسلم، وأحمد، وأبو داود، والترمذي، وابن ماجة.
وأخرج أهل " السنن "، وأحمد من حديث بريدة، قال: سمعت رسول الله [صلى الله عليه وسلم] يقول: " العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة، فمن تركها فقد كفر ".
وأخرج الترمذي عن عبد الله بن شقيق العقيلي قال: " كان أصحاب محمد [صلى الله عليه وسلم] لا يرون شيئا من الأعمال تركه كفر؛ غير الصلاة ".
فانظر كيف صار هذا الموسوس - بنص رسول الله [صلى الله عليه وسلم]- مسيئا متعديا ظالما كافرا (1) ، إن بلغ إلى الحد الذي ذكرناه، فهذا باعتبار ما له عند ربه.
وأما باعتبار ما له عند الخلق؛ فأقل الأحوال أن يقال: مجنون يلعب به الشيطان في مخالفة شريعة الرحمن، ف {خسر الدنيا والآخرة ذلك هو الخسران المبين} ، ومع هذا؛ فهو يعذب نفسه بأشد العذاب، وكثيرا ما يفضي
__________
(1) انظر رسالة " حكم تارك الصلاة " لشيخنا الألباني - بتعليقي وتقديمي.

(1/123)


به ذلك إلى علة كبيرة تكون سببا لهلاكه، فيلقى ربه قاتلا لنفسه في معصية، فلا يراح رائحة الجنة، كما ثبت عنه [صلى الله عليه وسلم] فيمن قتل نفسه (1) ، وهذه المحنة يقع فيها العالم والجاهل.
فمن كان جاهلا؛ اعتذر لنفسه بأعذار شيطانية قد استزله الشيطان بها؛ فمنهم من يقول: لم أتيقن كمال الثلاث الغسلات في كل عضو {وهو قد غسل ذلك العضو مئات} {
ومنهم من يقول: أريد أن أغسل غسلا مشروعا، لا تبقى شعرة ولا بشرة إلا وقد شملها الغسل والدلك} فتراه يقلب يديه ورجليه ويدلك كل موضع منه في مقدار الجثة (2) دلكا فظيعا، فيشرع بالأنملة، ثم يدلك جزءا بعد جزء، حتى يفرغ من الأصبع، ثم يأخذ في الأخرى، ثم كذلك؛ فلا يفرغ من غسل يده؛ إلا بعد مدة طويلة، ثم يلعب به الشيطان، فيشككه فيما قد غسله أنه لم يغسله، فيعود إليه، ثم كذلك، فلا يكمل الثلاث الغسلات في زعمه؛ إلا بعد أن يبلغ بنفسه إلى حد يرحمه من رآه.
ومن كان عالما؛ يعترف بأن هذا الفعل مخالف للشريعة، وأنه وسوسة شيطانية، وهو أقبح الرجلين؛ فإنه ممن أضله الله على علم، ونادى على نفسه بأنه منقاد لطاعة شيطانه في مخالفة خالقه، مستغرق بعبادة عدو الله إبليس، لم يبق فيه بقية تزجره عن معصيته، فلم يستحي من الله؛ فيحمله الحياء على إيثار الرحمن على الشيطان، ولم يستحي من الناس؛ فيردعه حياؤه عن
__________
(1) قارن ب " غاية المرام " (453) ، و " صحيح الجامع " (6457) .
(2) لعله: الحبة (ش) .

(1/124)


التحدث لعباد الله بأنه قد اشتغل عن ربه بطاعته الشيطان {وفي مثل هذا قال رسول الله [صلى الله عليه وسلم] : " إذا لم تستحي فاصنع ما شئت ".
والحاصل: أن هذه المحنة قد عمت وطمت؛ عند كل فرد من أفراد العباد منها جزء من الأجزاء وإن قل} والكل من طاعة الشيطان ومخالفة الرحمن، والناجي من ذلك هو الكبريت الأحمر وعنقاء مغرب، والغراب الأبقع (1) .
ومن أنكر هذا فليجرب نفسه، ويعمل بمثل هذا النص الثابت عنه [صلى الله عليه وسلم] في مسح الأذى الذي يعلق بالنعل في الأرض، ثم يصلي فيه، وينظر عند ذلك كيف يجد نفسه؟ {مع أن ذلك هو المهيع الذي لا يرجح المجتهد سواه، إن أنصف من نفسه فليصدق فعله قوله، وإن كان مقلدا فله بالأئمة الأسلاف قدوة، وهم الأقل من القائلين بذلك، وهيهات ذاك؛ فإن الشكوك والخيالات قد جعلها الشيطان ذريعة يقتنص بها من لم يقع في شباكه المنصوبة للمتهتكين من العصاة المستهترين بمحبتها؛ لأنه وجد قوما لا تطمح أنفسهم إلى شرب الخمور وارتكاب الفجور، فحفر لهم حفيرة جمع لهم فيها بين خزي الدنيا والآخرة؛ فهم أشقى أتباعه.
اللهم} أعذنا من نزعات الشيطان، وأجرنا من خزي الدنيا وعذاب الآخرة.
( [التطهير بالاستحالة] :)
(والاستحالة مطهرة) ؛ أي: إذا استحال الشيء إلى شيء آخر، حتى كان
__________
(1) أمثلة تقال لندرة الشيماء.

(1/125)


ذلك الشيء الآخر مخالفا للشيء الأول - لونا وطعما وريحا -، كاستحالة العذرة رمادا.
وقد أوضحت ذلك في كتابي " دليل الطالب " فليراجع، وحققه الماتن في " وبل الغمام "، و " السيل الجرار "، وغيرهما.
(لعدم وجود الوصف المحكوم عليه) يعني: فقدْ فقدَ الوصف الذي وقع الحكم من الشارع بالنجاسة عليه، وهذا هو الحق.
والخلاف في ذلك معروف.
( [تطهير ما لا يمكن غسله] :)
(وما) كان (لا يمكن غسله) من المتنجسات كالأرض والبئر (ف) تطهيره (بالصب عليه أو النزح منه حتى لا يبقى) أي: لا يوجد (للنجاسة أثر) ؛ لأنها لو كانت باقية لكان التعبد بإذهابها باقيا، ولكن هذا إنما يكون في مثل النجاسة التي لها جرم ولون؛ وأما مثل البول؛ فقد ورد عن الشارع أن تطهيره بأن يصب عليه ذنوب من ماء، فإن وقع ذلك صارت الأرض المتنجسة - بالبول - طاهرة.
أقول: البول على الأرض يطهره مكاثرة الماء عليه، وهو مأخوذ مما تقرر عند الناس قاطبة: أن المطهر الكثير يطهر الأرض، وأن المكاثرة تذهب بالرائحة المنتنة، وتجعل البول متلاشيا كأن لم يكن.
في " المسوى ": قال الشافعي - رحمه الله تعالى -: " إذا أصاب الأرض بول أو غيره من النجاسة المائعة، فصب عليها الماء حتى غلبها؛ طهرت،

(1/126)


والغسالة طاهرة إذا لم يكن فيها تغير، ولكنها لا تطهر، وفرق بين ورود النجاسة على الماء وورود الماء على النجاسة ".
وعند الحنفية - رحمهم الله تعالى - الغسالة نجسة، والأرض لا تطهر بصب الماء حتى تزول عنها الغسالة. انتهى.
( [الأصل في التطهير هو الماء] :)
(والماء هو الأصل في التطهير فلا يقوم غيره مقامه إلا بإذن من الشارع) : لأن كون الأصل في التطهير هو الماء، قد وصف بذلك في الكتاب والسنة وصفا مطلقا غير مقيد، بل قوله [صلى الله عليه وسلم] : " الماء طهور " يرشد إلى ما ذكرنا إرشادا تشهد له قواعد علم المعاني وعلم الأصول، فإذا ثبت عن الشارع أن تطهير شيء من النجاسات يكون بغير الماء - كمسح النعل بالأرض ونحو ذلك -؛ كان الماء غير متعين في تطهير تلك النجاسة بخصوصها، بل نقتصر عليه هناك، ويتعين الماء فيما عداها، وهذا هو الحق.
وقد ذهب الجمهور إلى أن الماء هو المتعين في تطهير النجاسات، وذهب أبو حنيفة - رحمه الله تعالى - وأبو يوسف - رحمه الله تعالى - إلى أنه يجوز التطهير بكل مائع طاهر.
ويرد على الجمهور بما ثبت عن الشارع تطهيره بغير الماء إن كانوا يقولون: إن الماء يتعين في مثل ذلك.
ويرد على أبي حنيفة - رحمه الله تعالى - ومن معه بأن إثبات مطهر لم يرد عن الشارع أو تطهير على غير الصفة الثابتة عنه مدفوع.

(1/127)


(3 - باب قضاء الحاجة)
والحاجة: كناية عن خروج البول والغائط، وهو مأخوذ من قوله [صلى الله عليه وسلم] : " إذا قعد أحدكم لحاجته "، وعبر عنه الفقهاء ب (باب الاستطابة) ؛ لحديث: " ولا يستطيب بيمينه "، والمحدثون ب (باب التخلي) ؛ مأخوذ من قوله: " إذا دخل أحدكم الخلاء "، والتبرز من قوله: " البراز في الموارد ".
والكل من العبارات صحيح.
( [آداب قضاء الحاجة] :)
(1 - أن يستتر) :
(على المتخلي الاستتار) : فينبغي أن يبعد؛ لئلا يسمع منه صوت أو يشم منه ريح أو يرى منه عورة.
( [2 - أن لا يرفع ثوبه حتى يدنو من الأرض] :)
(ولا يرفع ثوبه حتى يدنو من الأرض) عند قضاء الحاجة، ويستتر بمثل حائش نخل مما يواري أسفل بدنه، " ... فمن لم يجد إلا أن يجمع كثيبا من رمل فليستدبره؛ فإن الشيطان يلعب بمقاعد بني آدم " (1) ، وذلك لأن الشيطان جبل على أفكار فاسدة وأعمال شنيعة. كذا في " الحجة ".
__________
(1) " سلسلة الأحاديث الضعيفة " (1028) .

(1/128)


وذلك لما ورد من الأدلة الدالة على وجوب ستر العورة عموما وخصوصا؛ إلا عند الضرورة، ومنها قضاء الحاجة، فلا يكشف عورته إلا عند القعود.
وقد أخرج أحمد، وأبو داود، وابن ماجة، وابن حبان، والحاكم، والبيهقي من حديث أبي هريرة بلفظ: " من أتى الغائط فليستتر ".
( [3 - أن يبعد في المذهب أو يدخل الكنيف] :)
(والبعد) : لما أخرجه أهل " السنن " - وصححه الترمذي - من حديث جابر - رضي الله عنه -، قال: خرجنا مع النبي [صلى الله عليه وسلم] في سفر، فكان لا يأتي البراز حتى يغيب فلا يرى.
ولفظ أبي داود: كان إذا أراد البراز انطلق حتى لا يراه أحد.
ورجاله رجال الصحيح؛ إلا إسماعيل بن عبد الملك الكوفي، ففيه مقال يسير.
(أو دخول الكنيف) ؛ يعني: إذا أراد أن يقضي الحاجة في البنيان، وهناك كنيف؛ فليس عليه إلا أن يدخله، وإن قرب من الناس؛ لما سيأتي من حديث ابن عمر.
( [4 - أن يترك الكلام] :)
(و) أما (ترك الكلام) : فلحديث: " لا يخرج الرجلان يضربان الغائط كاشفين عورتهما يتحدثان؛ فإن الله يمقت على ذلك " (1) ؛ أخرجه أحمد، وأبو
__________
(1) ضعفه شيخنا في " تمام المنة " (58) .

(1/129)


داود، وابن ماجة من حديث أبي سعيد.
وأخرج نحوه ابن السكن (1) - وصححه - من حديث جابر - رضي الله تعالى عنه -.
( [5 - أن لا يصطحب ما فيه اسم الله] :)
(و) أما ترك (الملابسة لما له حرمة) : فلحديث أنس - رضي الله عنه - عند أهل " السنن " - وصححه الترمذي، والمنذري، وابن دقيق العيد - بلفظ: كان النبي [صلى الله عليه وسلم] إذا دخل الخلاء ينزع خاتمه.
ولم يأت من ضعفه (2) بما تقوم به الحجة في التضعيف.
( [6 - أن لا يتخلى في الموارد والظل والطرق] :)
(وتجنب الأمكنة التي منع عن التخلي فيها شرع) : كالتخلي في ظل الناس وطريقهم ومتحدثهم والماء الدائم، فقد ورد في ذلك أحاديث:
منها حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - عند مسلم - رحمه الله تعالى -، وأحمد - رحمه الله تعالى -، وأبي داود - رحمه الله تعالى -، قال: " اتقوا اللاعنين "، قالوا: وما اللاعنان يا رسول الله؟ {قال: الذي يتخلى في طريق
__________
(1) أورد إسناده ابن القطان في " بيان الوهم والإيهام " (5 / 260) وجوده}
مع أنه في إسناده يحيى بن أبي كثير!
ورواه الطبراني في " الأوسط " (344 - مجمع البحرين) ؛ من حديث أبي هريرة، وفي إسناده - أيضا - يحيى بن أبي كثير.
(2) بل هو ضعيف؛ فانظر " إرواء الغليل " (48) ، و " مختصر الشمائل المحمدية " (75) .

(1/130)


الناس أو في ظلهم "؛ وافهم أن الحكمة الاحتراز عن لعنهم وتأذيهم.
ومنها حديث معاذ بن جبل عند أبي داود، وابن ماجة، والحاكم، وابن السكن - وصححاه -، قال: قال رسول الله [صلى الله عليه وسلم] : " اتقوا الملاعن الثلاث: البراز في الموارد، وقارعة الطريق، والظل ".
وقد أعل (1) بأنه من رواية أبي سعيد الحميري عن معاذ - ولم يسمع منه -.
وفي الباب أحاديث فيها مقال.
( [7 - أن لا يبول في الجحر] :)
ومن الأمكنة التي نهى الشارع عنها: الجحر؛ لحديث عبد الله بن سرجس، قال: نهى رسول الله [صلى الله عليه وسلم] أن يبال في الجحر.
أخرجه أحمد، والنسائي، وأبو داود، والحاكم، والبيهقي.
وقد أعل بأنه من رواية قتادة عنه - ولم يسمع منه -، ولكنه قد صحح سماعه منه علي بن المديني، وصحح الحديث ابن خزيمة وابن السكن (2) .
والجحر؛ قد يكون مأوى حية أو مثلها، فتخرج وتؤذي.
( [8 - أن لا يبول في مستحمه] :)
ومنها ما أخرجه أحمد - رحمه الله تعالى -، وأهل " السنن " من حديث عبد الله بن مغفل، عن النبي [صلى الله عليه وسلم] ، قال: " لا يبولن أحدكم في مستحمه، ثم
__________
(1) ولكنه حسن في الشواهد، انظر " الإرواء " (62) ، و " المشكاة " (355) .
(2) انظر ترجيح تضعيفه في " تمام المنة " (ص 61 - 62) .

(1/131)


يتوضأ فيه؛ فإن عامة الوسواس منه " (1) .
ومنها ما أخرجه مسلم - رحمه الله تعالى -، وأحمد - رحمه الله تعالى - والنسائي - رحمه الله تعالى - وابن ماجة - رحمه الله تعالى - عن جابر - رضي الله تعالى عنه -: أن النبي [صلى الله عليه وسلم] نهى أن يبال في الماء الراكد.
(أو عرف) : وجهه أنهم يتأذون بذلك، وما كان ذريعة إلى ما لا يحل، فهو لا يحل.
( [9 - ترك استقبال واستدبار القبلة] :)
(وعدم الاستقبال والاستدبار للقبلة) : قد ورد في ذلك أحاديث:
منها ما في " الصحيحين " وغيرهما من حديث أبي أيوب بلفظ: " إذا أتيتم الغائط؛ فلا تستقبلوا القبلة ولا تستدبروها، ولكن شرقوا أو غربوا "
وأخرج نحوه مسلم وغيره من حديث أبي هريرة - رضي الله تعالى عنه -، ومن حديث سلمان - أيضا -.
وابن ماجة، وابن حبان من حديث عبد الله بن الحارث بن جزء، وأبو داود من حديث عبد الله بن مغفل، والدارمي في " مسنده "، من حديث سهل بن حنيف.
( [أقوال العلماء] :)
وقد اختلف أهل العلم في ذلك على ثمانية أقوال، استوفاها الماتن في
__________
(1) الحديث حسن؛ إلا فقرة الوسواس؛ فلا شاهد لها؛ فانظر " تمام المنة " (ص 63) .

(1/132)


" نيل الأوطار ".
وقد استدل من لم يمنع من ذلك بما أخرجه الجماعة من حديث ابن عمر، قال: رقيت يوما على بيت حفصة - رضي الله تعالى عنها -، فرأيت النبي [صلى الله عليه وسلم] على حاجته مستقبل الشام مستدبر الكعبة "، وجعلوا هذا الحديث ناسخا لأحاديث النهي.
ومن جملة ما استدلوا به: حديث جابر - رضي الله تعالى عنه - عند أحمد - رحمه الله تعالى -، وأبي داود - رحمه الله تعالى -، والترمذي - رحمه الله تعالى؛ وحسنه - وابن ماجة - رحمه الله تعالى -، والبزار - رحمه الله تعالى -، وابن الجارود - رحمه الله تعالى -، وابن خزيمة - رحمه الله تعالى -، وابن حبان - رحمه الله تعالى -، والحاكم - رحمه الله تعالى -، والدارقطني - رحمه الله تعالى -، قال: نهى النبي [صلى الله عليه وسلم] أن نستقبل القبلة ببول، فرأيته قبل أن يقبض بعام يستقبلها.
قد نقل الترمذي عن البخاري - رحمه الله تعالى - تصحيحه، وصححه - أيضا - ابن السكن، وحسنه - أيضا - البزار.
ولا يخفى أنه قد تقرر في الأصول: أن فعله [صلى الله عليه وسلم] لا يعارض القول الخاص بالأمة، فما وقع منه [صلى الله عليه وسلم] لا يعارض النهي عن الاستقبال والاستدبار للقبلة (1)
__________
(1) كلا بل يعارضه، وقد أمرنا باتباعه والاقتداء به [صلى الله عليه وسلم] .
وما زعمه الشارح - تبعا للمؤلف في " نيل الأوطار "؛ من أنه تقرر في الأصول ... الخ - دعوى لا دليل عليها، ومرجعها إلى ادعاء الخصوصية في بعض أفعاله، وهي لا تقبل ممن يدعيها إلا بدليل صريح.
والحق أن النهي عن الاستقبال أو الاستدبار منسوخ بحديث جابر. (ش)
قلت: انظر مناقشة شيخنا الألباني لهذه المسألة في " تمام المنة " (59 - 61) ؛ فقد رجح مطلق النهي.

(1/133)


فإن قلت: حديث عائشة - رضي الله تعالى عنها - عند أحمد - رحمه الله تعالى -، وابن ماجة - رحمه الله تعالى -، قالت: ذكر لرسول الله [صلى الله عليه وسلم] أن ناسا يكرهون أن يستقبلوا القبلة بفروجهم؟ فقال: " أو قد فعلوها؟ {حولوا مقعدتي قبل القبلة "، قلت: لو صح هذا لكان صالحا للنسخ؛ لأن النبي [صلى الله عليه وسلم] فعله لقصد التشريع للأمة، ولمخالفة من كان يكره الاستقبال.
ولكنه لم يصح؛ فإن في إسناده خالد بن أبي الصلت: قال ابن حزم: هو مجهول، وقال الذهبي في " الميزان " في ترجمة خالد بن أبي الصلت: إن هذا الحديث منكر (1) .
وقد استدل من خصص المنع من الاستقبال والاستدبار للقبلة بالفضاء بما أخرجه أبو داود - رحمه الله تعالى -، والحاكم - رحمه الله تعالى -، عن مروان الأصفر - رضي الله عنه -، قال: رأيت ابن عمر أناخ راحلته؛ مستقبل القبلة يبول إليها، فقلت: يا أبا عبد الرحمن} أليس قد نهي عن ذلك؟ ! فقال: بلى، إنما نهي عن هذا في الفضاء، فإذا كان بينك وبين القبلة شيء يسترك فلا بأس.
وقد حسن (2) الحافظ في " الفتح " إسناده، ولكنه إنما يكون هذا دليلا إذا كان قد سمع من النبي [صلى الله عليه وسلم] ما يفيد تخصيص ذلك النهي السابق.
وأما إذا كان مستنده إنما هو مجرد فهمه من فعله [صلى الله عليه وسلم] في بيت حفصة
__________
(1) خالد بن أبي الصلت ثقة وثقه ابن حبان. (ش)
قلت: والحديث في " سلسلة الأحاديث الضعيفة " (947) مضعف بست علل؛ فلتنظر.
(2) وفي إسناده الحسن بن ذكوان؛ قال الحافظ: " صدوق يخطئ ويدلس ".
وقد عنعنه.

(1/134)


- رضي الله عنها -: فلا يكون هذا الفهم حجة، ومع الاحتمال لا ينتهض للاستدلال.
قال الشافعي - رحمه الله -: الاستقبال والاستدبار محرمان في الصحراء لا في البنيان، ووجه الجمع عنده تنزيل النهي والإباحة على حالتين.
وقال أبو حنيفة - رحمه الله تعالى -: مكروهان فيهما سواء، ووجه الجمع عنده أن النهي للتنزيه، والفعل لبيان الجواز في الجملة.
كذا في " المسوى ".
قال في " سبل السلام: اختلف العلماء فيها على خمسة أقوال: أقربها: يحرم في الصحارى دون العمران؛ لأن أحاديث الإباحة وردت في الإباحة فحملت عليه، وأحاديث النهي عامة، وبعد تخصيص العمران بأحاديث فعله التي سلفت: بقيت الصحراء على التحريم، وقد قال ابن عمر: إنما نهي عن ذلك في الفضاء، فإذا كان بينك وبين القبلة شيء يسترك فلا بأس. رواه أبو داود وغيره.
وهذا القول ليس بالبعيد؛ لبقاء أحاديث النهي على بابها، وأحاديث الإباحة كذلك. انتهى.
وروي عن عائشة عند الترمذي: أن النبي [صلى الله عليه وسلم] لم يبل قائما.
وروي عن عمر عند الترمذي (1) : أن النبي [صلى الله عليه وسلم] نهاه أن يبول قائما.
__________
(1) برقم (12) ، وأعله بعبد الكريم بن أبي المخارق.

(1/135)


وروى الحاكم: أن بوله [صلى الله عليه وسلم] قائما كان لمرض؛ لكن ضعفه الدارقطني، والبيهقي، فلم يكن صالحا لحمل بوله على حال الضرورة، فالأولى أن يقال: إن فعله [صلى الله عليه وسلم] لبيان الجواز، وإن البول من قيام مكروه فقط، وفعله للمكروه لبيان حكم شرعي جائز.
ولا ريب أن البول من قيام: من الجفاء (1) والغلظة والمخالفة للهيئة المستحسنة، مع كونه مظنة لانتضاح البول وترشرشه على البائل وثيابه، فأقل أحوال النهي مع هذه الأمور: أن يكون البول من قيام مكروها.
وهذا على فرض أن فعله [صلى الله عليه وسلم] لقصد التشريع حتى يكون لبيان الجواز، ويكون صارفا للنهي، فإن لم يكن كذلك؛ فالنهي باق على حقيقته، والبول من قيام من خصائصه (2) ، ولكن بعد ثبوت النهي من طريق صحيحة أو حسنة (3) {
وقد أوضح ذلك شيخنا العلامة الشوكاني في " شرح المنتقى ".
( [10 - أن يستجمر بثلاثة أحجار] :)
(وعليه الاستجمار بثلاثة أحجار طاهرة) ؛ أي: مسحات؛ لأنها لا تنقي
__________
(1) روى البيهقي (2 / 285) عن ابن مسعود - بسند صحيح - أنه قال: من الجفاء أن يبول الرجل قائما.
وهذا محمول على عدم أمن الرشاش.
(2) ليس هناك دليل على إثبات أنه من خصائصه [صلى الله عليه وسلم] ، ولا تقبل دعوى ذلك إلا بدليل، - كما سبق - (ش)
(3) وأنى ذلك؟!
وقد قال الحافظ ابن حجر في " الفتح " (1 / 283) : " ولم يثبت عن النبي [صلى الله عليه وسلم]- في النهي عن البول قائما - شيء ".

(1/136)


غالبا بأقل من ثلاثة أحجار؛ لما في " صحيح مسلم " وغيره من حديث سلمان: أن النبي [صلى الله عليه وسلم] نهى عن الاستجمار بأقل من ثلاثة أحجار، وعن الاستنجاء برجيع أو عظم.
وأخرج أحمد - رحمه الله تعالى -، والنسائي - رحمه الله تعالى -، وأبو داود - رحمه الله تعالى -، وابن ماجة - رحمه الله تعالى - والدارقطني - رحمه الله تعالى -؛ وقال: إسناده صحيح حسن - من حديث عائشة - رضي الله عنها -، أن رسول الله [صلى الله عليه وسلم] قال: " إذا ذهب أحدكم إلى الغائط؛ فليستطب بثلاثة أحجار؛ فإنها تجزيء عنه ".
وأخرج نحوه أبو داود، والنسائي من حديث أبي هريرة.
وأخرج أحمد، وأبو داود، والنسائي - رحمه الله تعالى -، وابن ماجة - رحمه الله تعالى -، من حديث أبي هريرة - رضي الله تعالى عنه -: أن النبي -[صلى الله عليه وسلم]- كان يأمر بثلاثة أحجار، وينهى عن الروثة والرمة.
وأخرج ابن خزيمة، وابن حبان، والدارمي، وأبو عوانة في " صحيحه "، والشافعي - رحمهم الله تعالى - من حديث أبي هريرة - رضي الله تعالى عنه - أيضا بلفظ: " وليستنج أحدكم بثلاثة أحجار ".
وفي الباب أحاديث غير ما ذكرناه.
ثم اعلم أنه قال الشيخ أحمد ولي الله المحدث الدهلوي في " المسوى شرح الموطأ ": قال الشافعي - رحمه الله تعالى -: " الاستنجاء واجب، والمراد ثلاث مسحات ".

(1/137)


وقال أبو حنيفة - رحمه الله تعالى -: سنة، والمراد الإنقاء.
وقال الشافعي: لا يجوز الاقتصار على أقل من ثلاثة أحجار، وإن حصل الإنقاء بما دونها، فإن لم يحصل يجب أن يزيد حتى يحصل، فإن حصل بعدها بشفع يستحب أن يختم بالوتر.
وقال أبو حنيفة - رحمه الله تعالى -: " يسن الإنقاء ولا يستحب الإيتار ".
وتأويل الحديث عنده: أن المراد بالإيتار هو التثليث، كنى به عن الإنقاء، ويستحب الاستنجاء بالماء من غير وجوب.
عن عمر بن الخطاب: " يتوضأ بالماء لما تحت إزاره ".
قلت: معنى الوضوء ههنا الغسل والتنظيف؛ وعليه عامة أهل العلم. انتهى.
وورد كيفية استعمال الثلاث في حديث ابن عباس - رضي الله عنه -: " حجران للصفحتين (1) ، وحجر للمسربة " - بسين مهملة وراء مضمومة أو مفتوحة -: مجرى للحدث من الدبر.
( [11 - أن يستجمر بما يقوم مقام الأحجار فيما عدا المنهي عنه] :)
(وما يقوم مقامها) : للضرورة؛ أي: إذا لم توجد الأحجار، ما لم يكن ذلك الغير مما ورد النهي عنه - كالروثة والرجيع والعظم -، فإنه لا يجوز ولا يجزيء.
__________
(1) أي: لما يصيبهما.

(1/138)


قال في " الحجة ": لأنه طعام الجن، وكذا سائر ما ينتفع به، ويستحب الجمع بين الحجر والماء (1) .
وأقول: لا شك أن الاستنجاء بالماء أفضل من الاستنجاء بالحجارة من دون ماء؛ لأنه أقطع للنجاسة، فلا تبقى بعده عين للنجاسة ولا ريح، بخلاف الاستنجاء بالحجارة - وهو الاستجمار -، فإذا لم يبق جزء من عين النجاسة بقي أثر من آثارها، وإذا لم يبق شيء من الآثار بقيت الريح، ومع هذا؛ فهو من السنن كما ثبت في الأحاديث الصحيحة مقرونا بما لا خلاف في مشروعيته، إنما الشأن في كونه يجب على من قضى الحاجة - إذا أراد القيام إلى الصلاة - أن يستنجي بالماء، ولا يكفيه الاستجمار بالأحجار ثم يتوضأ وضوء الصلاة ثم يصلي.
والاستدلال على الوجوب بحديث أهل قبا، لا يخفى أن غاية ما فيه تخصيصهم بالأمر بذلك دون غيرهم، فإن سائر الصحابة كانوا إذ ذاك لا يستنجون بالماء، ولهذا خص الله أهل قباء بالثناء، ثم لم يرد أنه [صلى الله عليه وسلم] أمر غير أهل قبا بذلك.
وقد ذهب إلى أنه يكفي الأحجار: ابن الزبير، وسعد بن أبي وقاص، والشافعية، والحنفية، كما حكى ذلك في " البحر الزخار " عنهم.
بل حكى - أيضا - عن عطاء أن غسل الدبر محدث.
وعن سعيد بن المسيب: ما يفعله إلا النساء.
__________
(1) لا دليل على هذا.

(1/139)


هكذا في " البحر ".
وروى عنه أنه كان يقول: إذن لا يزال في يدي نتن - يعني: إذا غسل فرجه بالماء -.
ويدل على عدم الوجوب أحاديث الأمر بالاستجمار.
وما ورد - من أن ثلاثة أحجار ينقين المؤمن - لم يصح {
والحاصل: أنه لا نزاع في كون الماء أفضل؛ إنما النزاع في أنه يتعين ولا يجزيء غيره، وهذا كله على فرض ثبوت قوله في حديث أهل قبا: " ذلكموه فعليكموه "} ولكنه لم يثبت في شيء من كتب الحديث؛ بل الذي في " الجامع " عن أنس: ان النبي [صلى الله عليه وسلم] قال لأهل قبا: " إن الله قد أحسن الثناء عليكم؛ فما ذاك "؟ ، قالوا: نجمع في الاستجمار بين الأحجار والماء.
قال في " الجامع ": ذكره رزين (1) .
وفي " التلخيص " (2) عن البزار في " مسنده " قال: نبأنا عبد الله بن شبيب: نبأنا أحمد بن محمد بن عبد العزيز، قال: وجدت في كتاب أبي: عن الزهري، عن عبيد الله بن عبد الله بن العباس، قال: نزلت هذه الآية في أهل قبا: {فيه رجال يحبون أن يتطهروا والله يحب المطهرين} ، فسألهم رسول الله [صلى الله عليه وسلم] ؟ قالوا: إنا نتبع الحجارة الماء.
قال البزار: لا نعلم أحدا رواه عن الزهري؛ إلا محمد بن عبد العزيز،
__________
(1) وكل ما يذكره رزين من زياداته ( {) : فلا أصل له}
(2) " التلخيص الحبير " (رقم 151) ، و " مختصر زوائد البزار " (150) كلاهما للحافظ ابن حجر.

(1/140)


ولا عنه إلا ابنه. انتهى.
ومحمد بن عبد العزيز ضعفه أبو حاتم، فقال: ليس له ولأخويه - عمران وعبيد الله - حديث مستقيم.
وعبد الله بن شبيب - أيضا - ضعيف.
وأصل الحديث في " سنن أبي داود "، " والترمذي "، وابن حبان في " صحيحه " من حديث أبي هريرة.
وليس في شيء هنا الجمع بين الأحجار والماء، فمحل الاستدلال على وجوب الاستنجاء بالماء - هو قوله لهم: " فعليكموه " (1) : إغراء لهم على الفعل بمعنى: الزموه - لم يثبت حتى يثبت ما دل عليه.
( [الأدلة على الاستنجاء بالأحجار للقبل أو الدبر] )
واعلم أن الأدلة في هذه المسألة غير مقيدة بكون الأحجار المذكورة للفرج الأعلى أو الأسفل أو لهما جميعا؛ إذ يصدق قوله (2) [صلى الله عليه وسلم] : وأن يستنجي أحدنا بأقل من ثلاثة أحجار؛ على من أراد أن يستنجي بعد البول فقط، أو بعد الغائط فقط، أو بعدهما.
وكذلك قوله (3) [صلى الله عليه وسلم] وكان يأمرنا بثلاثة أحجار؛ يصدق على كل ذاهب
__________
(1) انظر " صحيح سنن ابن ماجة " (285) ، و " المشكاة " (369) .
(2) صوابه: قول الصحابي؛ لأن هذا حكاية منه عن نهيه [صلى الله عليه وسلم] . (ش)
(3) هذا كالذي قبله. (ش)

(1/141)


إلى الغائط سواء ذهب إلى البول فقط، أو إلى الغائط فقط، أو لهما.
والمراد بالغائط في قوله [صلى الله عليه وسلم] : " إذا أتى أحدكم الغائط ": المكان المطمئن، لا نفس الخارج، كما صرح به أئمة اللغة.
وكذلك قوله: " وليستنج أحدكم بثلاثة أحجار ": شامل لكل قاض للحاجة - سواء ذهب إلى البول فقط، أو الغائط فقط، أو ذهب إليهما جميعاً -.
وكذلك قوله [صلى الله عليه وسلم] : " فليذهب معه بثلاثة أحجار يستطب بهنّ؛ فإنها تجزئ عنه ": يتناول من بال فقط، كما يتناول من تغوّط فقط.
وكذلك قوله [صلى الله عليه وسلم] : " فليستنج بثلاثة أحجار ": يصدق على كل قاض للحاجة كما عرفت.
وكذلك حديث: أمرنا رسول الله [صلى الله عليه وسلم] أن لا نجتزئ بأقل من ثلاثة أحجار، وقوله: " وأعدوا النبل (1) ".
إذا تقرر هذا: علمت أنه شرع الاستجمار لمن بال، كما شرع لمن تغوط، وأن يكون بثلاثة أحجار: ولم يَرِدْ ما يخالف هذا من شرع ولا لغة ولا اشتقاق.
والاستنجاء: هو غسل البدن عن الأذى بالماء ومسحه بالحجر؛ كما صرح به صاحب " النهاية "، وصاحب " الصحاح "، " والقاموس ".
__________
(1) رواه عبد الرزاق عن الشعبي - مرسلاً -؛ كما في " التلخيص الحبير " (139) ، و " الكنز " (9 / 365) .
وقال النووي في " المجموع " (2 / 93) : " ليس بثابت ".

(1/142)


والاستجمار عندهم: استعمال الجِمار والتمسح بالجِمار - وهي الأحجار الصغار -، وهو استعمال من غير تقييد.
قال في " القاموس ": استجمر: استنجى. انتهى.
وهو - كما لا يخفى - يصدُق على من استنجى بها للفرج الأعلى أو الأسفل أو لهما.
وكذلك تصدق الاستطابة على مسح الذكر والفرج.
قال في " النهاية ": الاستطابة والإطابة: كناية عن الاستنجاء، وسمي بها من الطيب؛ لأنه يطيب جسده بإزالة ما عليه من الخبث بالاستنجاء؛ أي: يطهره.
ومثل ذلك في " الصحاح "، و " القاموس ".
ثم قد وردت أحاديث فيها مجرد الأمر بثلاثة أحجار من غير ذكر استنجاء ولا استطابة ولا استجمار؛ ولا نزاع في صدقها على الذاهب إلى البول كما تصدق على الذاهب إلى الغائط.
وحينئذ تعلم أنه شرع لمن بال أن يستجمر بالأحجار عقب البول، كما شرع لمن تغوط أن يفعل ذلك، ولا ينافي ذلك حديث: " إذا بال أحدكم فلينتر ذكره ثلاثاً "؛ كما أخرجه أحمد، وابن ماجه، والبيهقي من حديث عيسى بن يزداد، عن أبيه.
وقد قال ابن معين: لا يعرف عيسى ولا أبوه.

(1/143)


وقال الثوري: اتفقوا على أنه ضعيف.
وقال أبو حاتم: حديثه مرسل:
لأن الحديث - وإن كان مما لا تقوم به الحجة (1) - لكنه يمكن الجمع بينه وبين أحاديث الاستجمار؛ إذ الاستجمار إنما هو المسح بالجِمار لما تلوث بالبول أو الغائط من خارج الفرج أو الذكر، لا لاستخراج ما كان داخلهما، فالنتر والاستجمار مختلفان - مفهوماً وصدقاً وزماناً ومكاناً وصفة -، فكيف يجعل أحدهما معارضاً للآخر؟ {لا سيما وحديث النتر بمكان من الضعف لا تقوم به الحجة على فرض انفراده، فكيف يؤخذ به وتترك أحاديث الاستجمار المتواترة تواتراً معنوياً عند من له أدنى ممارسة للفن؟}
وقد أوضحت ذلك في " دليل الطالب على أرجح المطالب "؛ فليراجع.
(12 -[الاستعاذة عند دخول الكنيف] :)
(وتُندب الاستعاذة عند الشروع) ؛ أي: الدخول؛ لأن الحشوش مُحتضَرة (2) يحضرها الشياطين؛ لأنهم يحبون النجاسة، ووجهه ما أخرجه الجماعة من حديث أنس - رضي الله تعالى عنه -، قال: كان النبي [صلى الله عليه وسلم] إذا دخل الخلاء قال: " اللهم {إني أعوذ بك من الخبث والخبائث ".
وقد روى سعيد بن منصور في " سننه ": أنه كان [صلى الله عليه وسلم] يقول: " اللهم} إني أعوذ بك من الخبث والخبائث "، وإسناده على شرط مسلم.
__________
(1) انظر " سلسلة الأحاديث الضعيف " (1621) .
(2) وفي هذا المعنى حديث صحيح؛ فانظر " سلسلة الأحاديث الصحيحة " (1070) .

(1/144)


(13 -[أن يستغفر ويحمد بعد قضاء الحاجة] :)
(والاستغفار والحمد بعد الفراغ) : لأنه وقت ترك ذكر الله - تعالى - ومخالطة الشياطين، والدليل عليه ما أخرجه ابن ماجه - رحمه الله تعالى - بإسناد صالح (1) من حديث أنس - رضي الله تعالى عنه -، قال: كان النبي [صلى الله عليه وسلم] إذا خرج من الخلاء قال: " الحمد لله الذي أذهب عني الأذى (2) ".
وأخرج نحوه النسائي - رحمه الله تعالى -، وابن السني - رحمه الله تعالى -، من حديث أبي ذر - رضي الله تعالى عنه - ورمز السيوطي - رحمه الله تعالى - لصحته (3) - وأخرج أحمد - رحمه الله تعالى -، وأبو داود - رحمه الله تعالى -، والترمذي - رحمه الله تعالى -، وابن ماجه - رحمه الله تعالى - من حديث عائشة - رضي الله تعالى عنها - قالت: كان النبي [صلى الله عليه وسلم] إذا خرج من الخلاء قال: " غفرانك ".
وصححه ابن حبان - رحمه الله تعالى -، وابن خزيمة - رحمه الله تعالى -، والحاكم - رحمه الله تعالى -.
__________
(1) بل هو ضعيف؛ فانظر " الإرواء " (53) ، و " تخريج الأذكار " (1 / 218) .
(2) في " نيل الأوطار " بزيادة: " وعافاني ". (ش)
(3) ورموز السيوطي غير موثوقة، فتنبّه.

(1/145)


(4 - باب الوضوء)
(الفصل الأول: فرائض الوضوء] )
( [متى فُرض الوضوء؟] :)
فُرض مع الصلاة قبل الهجرة بسنة، وهو من خصائص هذه الأمة بالنسبة لبقية الأمم، لا لأنبيائهم.
(1 -[التسمية إذا ذكر] :)
(يجب على كل مكلَّف) : لمن أراد الصلاة وهو مُحْدِث أو جنب (أن يسمي) ؛ وجه وجوب التسمية ما ورد من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -، عن النبي [صلى الله عليه وسلم] ، أنه قال: " لا صلاة لمن لا وضوء له، ولا وضوء لمن لم يذكر اسم الله عليه "؛ أخرجه أحمد - رحمه الله تعالى -؛ وأبو داود - رحمه الله تعالى -؛ وابن ماجه - رحمه الله تعالى -، والترمذي - رحمه الله تعالى -، في " العلل "، والدارقطني - رحمه الله تعالى -، وابن السكن - رحمه الله تعالى -، والحاكم - رحمه الله تعالى -، والبيهقي - رحمه الله تعالى -، وليس في إسناده ما يُسقطه عن درجة الاعتبار.
وله طرق أخرى (1) من حديثه عند الدارقطني - رحمه الله تعالى -
__________
(1) جمعها أخونا الفاضل الشيخ أبو إسحاق الحُويني في جزء مفرد عنوانه: " كشف المخبوء بثبوت التسمية عند الوضوء "، وهو مطبوع.

(1/146)


والبيهقي - رحمه الله -.
وأخرج نحوه أحمد - رحمه الله تعالى -، وابن ماجه - رحمه الله تعالى - من حديث سعيد بن زيد - رضي الله عنه -، ومن حديث أبي سعيد - رضي الله عنه -.
وأخرج آخرون نحوه من حديث عائشة - رضي الله عنها -، وسهل بن سعد - رضي الله عنه - وأبي سبرة - رضي الله عنه -، وأم سبرة - رضي الله عنها -، وعلي - رضي الله عنه -، وأنس - رضي الله عنه -.
ولا شك ولا ريب أنها جميعاً تنتهض للاحتجاج؛ بها، بل مجرد الحديث الأول ينتهض للاحتجاج لأنه حسن، فكيف إذا اعتضد بهذه الأحاديث الواردة في معناه؟ {
ولا حاجة للتطويل في تخريجها فالكلام عليها معروف، وقد صرح الحديث بنفي وضوء من لم يذكر اسم الله، وذلك يفيد الشرطية التي يستلزم عدمها العدم، فضلاً عن الوجوب؛ فإنه أقل ما يستفاد منه (1) .
__________
(1) الحديث الأول ضعيف؛ لأنه من رواية يعقوب بن سلمة الليثي، عن أبيه، عن أبي هريرة
قال البخاري: لا يعرف له سماع من أبيه، ولا لأبيه من أبي هريرة.
ووقع الإسناد للحاكم في " المستدرك ": " يعقوب بن أبي سلمة "} وزعم أنه الماجشون؛ فصححه لذلك، وتعقبه الذهبي وغيره بأنه خطأ، والصواب: " يعقوب بن سلمة الليثي "! ولو سُلّم أنه الماجشون؛ فإن أباه أبا سلمة - واسمه دينار - مجهول الحال، وعلى كل فالحديث ضعيف.
وباقي الأحاديث التي ذكرها الشارح لا تصلح للاحتجاج؛ لأنها ضعيفة جداً، ولذلك قال أحمد ابن حنبل: لا أعلم في هذا الباب حديثاً له إسناد جيد.
وليس لمن قال بموجب التسمية في الوضوء - على أنها شرط فيه - دليل صحيح، والحق أنها سنة. (ش) .
قلت: ومناقشة هذا الكلام تراها في جزء " كشف المخبوء ... " الذي ذكرته آنفاً.

(1/147)


(إذا ذكر) : تقييد الوجوب بالذِّكر؛ للجمع بين هذه الأحاديث وبين حديث: " من توضأ وذكر اسم الله عليه كان طهوراً لجميع بدنه، ومن توضأ ولم يذكر اسم الله عليه كان طهوراً لأعضاء وضوئه " (1) ؛ أخرجه الدارقطني - رحمه الله تعالى -، والبيهقي - رحمه الله - من حديث ابن عمر - رضي الله عنه -، وفي إسناده متروك.
ورواه الدارقطني - رحمه الله تعالى -، والبيهقي - رحمه الله تعالى - من حديث ابن مسعود - رضي الله عنه -، وفي إسناده - أيضا - متروك.
ورواه أيضا الدارقطني - رحمه الله تعالى -، والبيهقي - رحمه الله تعالى - من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -، وفيه ضعيفان.
وهذه الأحاديث لا تنتهض للاستدلال بها، وليس فيها أيضا دلالة على المطلوب من أن الوجوب ليس إلا على الذِّكر، ولكنه يدل على ذلك أحاديث عدم المؤاخذة على السهو والنسيان، وما يفيد ذلك من الكتاب العزيز، فقد اندرجت تلك الأحاديث الضعيفة تحت هذه الأدلة الكلية، ولا يلزم مثل ذلك في الأعضاء القطعية، وبعد هذا كله: ففي التقييد بالذكر إشكال.
قال في " الحجة البالغة ": قوله [صلى الله عليه وسلم] : " لا وضوء لمن لا يذكر الله " هذا الحديث لم يُجمع أهل المعرفة بالحديث على تصحيحه، وعلى تقدير صحته؛ فهو من المواضع التي اختلف فيها طريق التلقي من النبي [صلى الله عليه وسلم] فقد استمر المسلمون يحكون وضوء النبي [صلى الله عليه وسلم] ،
__________
(1) انظر تعليق شيخنا على " المشكاة " (428) .

(1/148)


ويعلّمون الناس ولا يذكرون التسمية، حتى ظهر زمان أهل الحديث (1) ، وهو نص على أن التسمية ركن أو شرط، ويمكن أن يجمع بين الوجهين بأن المراد هو التذكر بالقلب (2) ؛ فإن العبادات لا تقبل إلا بالنية، وحينئذ يكون صيغة: " لا وضوء " على ظاهرها.
نعم؛ التسمية أدب كسائر الآداب - لقوله [صلى الله عليه وسلم]-: " كل أمر ذي بال لم يبدأ باسم الله فهو أبتر " (3) ، وقياساً على مواضع كثيرة.
ويحتمل أن يكون المعنى: لا يكمل الوضوء، لكن لا أرتضي مثل هذا التأويل؛ فإنه من التأويل البعيد الذي يعود بالمخالفة على اللفظ. انتهى.
وأقول: قد تقرر أن النفي في مثل قوله: " لا وضوء ... " يتوجه إلى الذات إن أمكن، فإن لم يمكن؛ توجه إلى الأقرب إليها - وهو نفي الصحة -؛ فإنه أقرب المجازيْن، لا إلى الأبعد - وهو نفي الكمال -، وإذا توجه إلى الذات - أي: لا ذات وضوء شرعية، أو إلى الصحة -: دل على وجوب التسمية؛ لأن انتفاء التسمية قد استلزم انتفاء الذات الشرعية، أو انتفاء صحتها؛ فكان تحصيل ما يُحصِّل الذات الشرعية، أو صحتها واجباً، ولا يتوجه إلى نفي الكمال إلا لقرينة؛ لأن الواجب الحمل على الحقيقة، ثم على أقرب المجازات إليها إن تعذر الحمل على الذات، ثم لا يحمل على أبعد المجازات إلا لقرينة.
يمكن أن يقال: إن القرينة - ههنا - المسوِّغة لحمل النفي على المجاز الأبعد
__________
(1) ونِعْم الزمان هو!
(2) أما هذا: فلا.
(3) وهو حديث ضعيف من سائر طرقه؛ فانظر " الإرواء " (1) و (2) .

(1/149)


هي ما أخرجه الدارقطني والبيهقي عن ابن عمر، قال: قال رسول الله [صلى الله عليه وسلم] : " من توضأ وذكر اسم الله على وضوئه كان طهوراً لجسده، ومن توضأ ولم يذكر اسم الله على وضوئه كان طهوراً لأعضائه "؛ وسنده ضعيف (1) .
(2 -[المضمضة والاستنشاق] :)
(ويتمضمض ويستنشق) : وجهه أنهما من جملة الوجه الذي ورد القرآن الكريم بغسله، وقد بين النبي [صلى الله عليه وسلم] ما في القرآن بوضوئه المنقول إلينا، ومن جملة ما نقل إلينا المضمضة والاستنشاق، فأفاد ذلك أن الوجه المأمور بغسله من جملة المضمضة والاستنشاق.
وقد ورد الأمر بذلك كما أخرجه الدارقطني - رحمه الله - من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -، قال: أمر رسول الله [صلى الله عليه وسلم] بالمضمضة والاستنشاق (2) .
وثبت في " الصحيحين " من حديث أبي هريرة - رضي الله تعالى عنه - أيضا - أن النبي [صلى الله عليه وسلم] قال: " إذا توضأ أحدكم؛ فليجعل في أنفه ماءً ثم لينتثر ".
وثبت عند أهل " السنن " - وصححه الترمذي، رحمه الله تعالى - من حديث لقيط بن صبرة - رضي الله تعالى عنه - بلفظ: " ... وبالغ في الاستنشاق؛ إلا أن تكون صائماً (3) ".
__________
(1) فلا قرينة - إذا -!!
(2) وهو حديث معلول؛ فانظر " سنن البيهقي " (1 / 52) .
(3) رواه أيضا الشافعي وأحمد وابن الجارود وابن خزيمة وابن حبان والحاكم البيهقي، وصححه الحاكم ووافقه الذهبي، وصححه أيضا البغوي وابن القطان.
ورواه أيضا الدولابي بلفظ: " وبالغ في المضمضة والاستنشاق إلا أن تكون صائماً ".
قال ابن القطان: وهذا سند صحيح.
ورجحه على الرواية الأخرى التي ليس فيها ذكر المضمضة. (ش)

(1/150)


وأخرج النسائي - رحمه الله تعالى - من حديث سلمة بن قيس - رضي الله تعالى عنه -: " إذا توضأت فانتثر ".
وأخرجه الترمذي - رحمه الله تعالى - أيضاً.
وفي رواية من حديث لقيط بن صَبِرة - رضي الله تعالى عنه - المذكور: " إذا توضأت فمضمض "؛ أخرجها أبو داود بإسناد صحيح.
وقد صحح حديث لقيط - رضي الله تعالى عنه - الترمذي - رحمه الله تعالى -، والنووي - رحمه الله تعالى -، وغيرهما؛ ولم يأت من أعلّه بما يقدح فيه.
وقد ذهب إلى وجوب المضمضة والاستنشاق أحمد - رحمه الله تعالى -، وإسحاق - رحمه الله تعالى -، وبه قال ابن أبي ليلى - رحمه الله تعالى -، وحماد بن أبي سليمان - رحمه الله تعالى (1) -.
وذهب جماعة من أهل العلم إلى أن الاستنشاق واجب في الغسل والوضوء، والمضمضة سنة فيهما.
حكى هذا المذهب النووي - رحمه الله تعالى - في " شرح مسلم " عن أبي ثور - رحمه الله تعالى -، وأبي عبيد - رحمه الله تعالى -، وداود الظاهري،
__________
(1) من الأدلة القوية على وجوب المضمضة والاستنشاق؛ أن غسلهما داخل في غسل الوجه؛ لأنهما عضوان منه، وقد واظب عليهما النبي [صلى الله عليه وسلم] ، فالتحق عمله بالأمر الوارد في القرآن بغسل الوجه بياناً له.
قال الحافظ ابن حجر في " الفتح ": لم يحك أحد ممن وصف وضوءه -[صلى الله عليه وسلم]- على الاستقصاء أنه ترك الاستنشاق؛ بل ولا المضمضة؛ وهو يَرد على من لم يوجب المضمضة ". (ش) .

(1/151)


وابن المنذر - رحمه الله تعالى -، ورواية عن أحمد - رحمه الله تعالى -.
وقد روى غيره مثل ذلك عن أبي حنيفة - رحمه الله تعالى -، والثوري - رحمه الله تعالى -، وزيد بن علي - رحمه الله تعالى -.
وذهب مالك - رحمه الله تعالى -، والشافعي - رحمه الله تعالى -، والأوزاعي - رحمه الله تعالى -، والليث - رحمه الله تعالى -، والحسن البصري - رحمه الله تعالى -، والزهري - رحمه الله تعالى -، وربيعة - رحمه الله تعالى -، ويحيى بن سعيد - رحمه الله تعالى -، وقتادة - رحمه الله تعالى -، والحكم بن عتيبة - رحمه الله تعالى -، ومحمد بن جرير الطبري - رحمه الله تعالى -، إلى أنهما غير واجبين، واستدلوا على عدم الوجوب بحديث: " عشر من سنن المرسلين ... " - وهو حديث صحيح (1) -، ومن جملتها المضمضة والاستنشاق.
ورد بأنه لم يرو بلفظ: " عشر من السنن "، بل بلفظ: " عشر من الفطرة ... " (2) ، وعلى فرض وروده بذلك اللفظ: فالمراد بالسنة الطريقة، وهي تعم الواجب، لا ما وقع في اصطلاح أهل الأصول، فإن ذلك اصطلاح حادث، وعرف متجدد لا تحمل عليه أقوال الشارع!
وهكذا يجاب عن استدلالهم بحديث ابن عباس - رضي الله تعالى عنه - بلفظ: " المضمضة والاستنشاق سنة "؛ أخرجه الدارقطني - رحمه الله تعالى -، وإسناده ضعيف (3) .
__________
(1) لا؛ فقد رواه ابن عدي (3 / 13) بلفظ: " عشر من السنة ... "، بسند ضعيف.
(2) رواه مسلم (261) عن عائشة.
(3) انظر " التلخيص الحبير " (1 / 77 - الطبعة الأولى) .

(1/152)


والمراد بالسنة في اصطلاح الشارع وأهل عصره: ما دل عليه دليل من قوله [صلى الله عليه وسلم] أو فعله أو تقريره، ولهذا جعلت السنة مقابلة للقرآن، فهذه اللفظة أعم من المدعى، فإنها تطلق على الواجب كما تطلق على المندوب، فيقال مثلا: الدليل على هذا الحكم من السنة.
ولا يقال: إن الحقيقة الشرعية مقدمة على اللغوية؛ لأن المراد بالسنة - كما عرفت - في لسان الشارع، ليس ما اصطلح عليه الفقهاء وأهل الأصول؛ فتأمل!
(3 -[غسل الوجه] :)
(ثم يغسل جميع وجهه) : والمراد بالوجه ما يسمى وجهاً عند أهل الشرع واللغة.
ووجوب غسل الوجه لا خلاف فيه في الجملة، وقد قام عليه الدليل كتابا وسنة.
(4 -[غسل اليدين مع المرفقين] :)
(ثم يديه مع مرفقيه) : هو نص القرآن الكريم والسنة المطهرة، ولا خلاف في ذلك، وإنما وقع الخلاف في وجوب غسل المرفقين معهما، ومما يدل على وجوب غسلهما جميعا حديث جابر - رضي الله تعالى عنه - عند الدارقطني - رحمه الله تعالى -، والبيهقي - رحمه الله تعالى -: أن النبي [صلى الله عليه وسلم] أدار الماء على مرفقيه، ثم قال: " هذا وضوء لا يقبل الله الصلاة إلا به "؛ وفي إسناده ضعيفان هما: عباد بن يعقوب، والقاسم بن محمد بن عبد الله بن محمد بن عقيل (1) .
__________
(1) انظر " إرواء الغليل " (85) .

(1/153)


ولكن يغني عن هذا الضعيف ما في " صحيح مسلم " من حديث أبي هريرة - رضي الله تعالى عنه -: أنه توضأ ثم غسل يده، حتى شرع في العضد. ثم قال: رأيت رسول الله [صلى الله عليه وسلم] يتوضأ هكذا.
وفي رواية الدارقطني - رحمه الله تعالى - من حديث عثمان - رضي الله عنه -: أنه غسل وجهه ويديه، حتى مس أطراف العضدين؛ قال الحافظ: وإسناده حسن.
وأخرج البزار والطبراني (1) من حديث ثعلبة بن عباد، عن أبيه - مرفوعاً -: ثم غسل ذراعيه، حتى يسيل الماء على مرفقيه.
وهذا بيان لما في القرآن، فأفاد أن الغاية داخلة فيما قبلها.
(5 -[مسح الرأس] :)
(ثم يمسح رأسه) : ولا خلاف فيه - في الجملة -، وإنما وقع الخلاف: هل المتعين مسح الكل؟ أم يكفي البعض؟ وما في الكتاب العزيز قد وقع الخلاف في كونه يدل على مسح الكل أم البعض، والسنة الصحيحة وردت بالبيان، وفيها ما يفيد جواز الاقتصار على مسح البعض في بعض الحالات، كما في " صحيح مسلم "، وغيره من حديث المغيرة - رضي الله عنه -: أنه [صلى الله عليه وسلم] توضأ، ومسح بناصيته وعلى العمامة.
وأخرج أبو داود (2) - رحمه الله تعالى - من حديث أنس - رضي الله
__________
(1) قال الهيثمي في " المجمع " (1 / 224) : " ورجاله موثقون ".
(2) برقم (147) ؛ وفي سنده جهالة.

(1/154)


عنه -: أنه [صلى الله عليه وسلم] أدخل يده من تحت العمامة، فمسح مقدم رأسه ولم ينقض العمامة.
وقد ثبت في الأحاديث الصحيحة: أنه مسح رأسه فأقبل وأدبر.
وهذه هي الهيئة التي استمر عليها [صلى الله عليه وسلم] ، فاقتضى هذا أفضلية الهيئة التي كان [صلى الله عليه وسلم] يداوم عليها - وهي مسح الرأس مقبلا ومدبرا -، وإجزاء غيرها في بعض الأحوال.
ولا يخفى أن قوله - تعالى -: {وامسحوا برؤسكم} لا يفيد إيقاع المسح على جميع الرأس كما في نظائره من الأفعال؛ نحو: ضربت رأس زيد، وضربت برأسه، وضربت زيداً، وضربت يد زيد، فإنه يوجد المعنى اللغوي في جميع ذلك بوجود الضرب على جزء من الأجزاء المذكورة، وهكذا ما في الآية.
وليس النزاع في مسمى الرأس - لغة - حتى يقال: إنه - حقيقة - في جميعه، بل النزاع في إيقاع المسح عليه، وعلى فرض الإجمال: فقد بينه الشارع تارة بمسح الجميع، وتارة بمسح البعض، بخلاف الوجه؛ فإنه لم يقتصر على غسل بعضه في حال من الأحوال، بل غسله جميعا، وأما اليدان والرجلان؛ فقد صرح فيهما بالغاية للمسح والغسل.
فإن قلت: إن المسح ليس كالضرب الذي مثلت به؛ قلت: لا ينكر أحد من أهل اللغة أنه يصدق قول من قال: مسحت الثوب - أو بالثوب -، أو مسحت الحائط - أو بالحائط -، على مسح جزء من أجزاء الثوب أو الحائط، وإنكار مثل هذا مكابرة.

(1/155)


وقد أوضح ذلك شيخنا العلامة الشوكاني في " حاشية الشفاء " وغيرها؛ فليراجع.
( [مسح الأذنين] :)
(مع أذنيه) : وجهه ما ثبت في الأحاديث الصحيحة: أنه [صلى الله عليه وسلم] مسحهما مع مسح رأسه، وقد ثبت عنه [صلى الله عليه وسلم] بلفظ: " الأذنان من الرأس " من طرق يقوي بعضها بعضا (1) .
(ويجزئ مسح بعضه) قال الشافعي - رحمه الله تعالى -: الفرض أدنى ما يطلق عليه اسم المسح.
وقال أبو حنيفة - رحمه الله تعالى -: مسح ربع الرأس.
وقال مالك: مسح جميع الرأس.
في " سفر السعادة " (2) : وكان يمسح جميع رأسه أحيانا، وأحيانا يمسح على العمامة، وأحيانا يمسح على الناصية والعمامة، ولم يقتصر على مسح بعض الرأس أبدا، وكان يمسح الآذان ظاهرا وباطنا، ولم يثبت في مسح الرقبة حديث. انتهى.
__________
(1) بل كل طرقه ضعيفة، والضعيف لا حجة فيه وإن اعتضد بمئة ضعيف مثله؛ إلا ما كان ضعفه من قبل حفظ الراوي، فهذا يقويه ما يتابعه فيه غيره ممن هو مثله أو أقوى منه. (ش) .
قلت: بل الحديث حسن، وطرقه ترفعه إلى الحسن؛ فانظر " السلسلة الصحيحة " (1 / 1 / 81 - 93) و (1 / 2 / 903 - 906) .
(2) وهو كتاب نفيس جدا، وقد نشرناه بفضل الله وحسن توفيقه. (ش)

(1/156)


( [المسح على العمامة] :)
(والمسح على العمامة) أو غيرها مما هو على الرأس، فقد ثبت ذلك عنه [صلى الله عليه وسلم] من حديث عمرو بن أمية الضمري عند البخاري - رحمه الله تعالى - وغيره، ومن حديث بلال - رضي الله عنه - عند مسلم - رحمه الله تعالى - وغيره، ومن حديث المغيرة - رضي الله عنه - عند الترمذي - رحمه الله، وصححه -.
وليس فيه المسح على الناصية، بل هو بلفظ: ومسح على الخفين والعمامة.
وفي الباب أحاديث غير هذه:
منها عن سلمان - رضي الله عنه - عند أحمد - رحمه الله تعالى -، وعن ثوبان - رضي الله عنه - عند أبي داود وأحمد - رحمه الله - أيضا.
والحاصل: أنه قد ثبت المسح على الرأس وحده، وعلى العمامة وحدها، وعلى الرأس والعمامة، والكل صحيح ثابت.
وقد ورد في حديث ثوبان - رحمه الله - ما يشعر بالإذن بالمسح على العمامة مع العذر، وهو عند أحمد - رحمه الله -، وأبي داود (1) - رحمه الله -: أنه [صلى الله عليه وسلم] بعث سرية، فأصابهم البرد، فلما قدموا على النبي [صلى الله عليه وسلم] شكوا إليه ما أصابهم من البرد، فأمرهم أن يمسحوا على العصائب والتساخين؛ وفي إسناده راشد بن سعد؛
__________
(1) رواه أحمد (5 / 277) ، وأبو داود (146) .

(1/157)


قال الخلال في " علله ": إن أحمد - رحمه الله - قال: لا ينبغي أن يكون راشد ابن سعد سمع من ثوبان - رضي الله عنه - لأنه مات قديما (1) .
(6 -[غسل الرجلين] :)
(ثم يغسل رجليه) : وجهه ما ثبت عنه [صلى الله عليه وسلم] في جميع الأحاديث الواردة في حكاية وضوئه؛ فإنها جميعها مصرحة بالغسل، وليس في شيء منها أنه مسح؛ إلا في روايات لا تقوم بمثلها الحجة، ويؤيد ذلك قوله [صلى الله عليه وسلم] للماسحين على أعقابهم: " ويل للأعقاب من النار " - كما ثبت في " الصحيحين " وغيرهما -.
ومما يؤيد ذلك وقوع الأمر منه [صلى الله عليه وسلم] بغسل الرجلين، كما في حديث جابر - رضي الله عنه - عند الدارقطني (2) - رحمه الله -.
ويؤيده - أيضا - قوله [صلى الله عليه وسلم] : " فمن زاد على هذا أو نقص (3) فقد أساء وظلم "؛ وهو حديث رواه أهل " السنن "، وصححه ابن خزيمة - رحمه الله -، ولا شك أن المسح بالنسبة إلى الغسل نقص.
وكذلك قوله [صلى الله عليه وسلم] : " هذا وضوء لا يقبل الله الصلاة إلا به "، وكان في ذلك الوضوء قد غسل رجليه.
وكذلك قوله [صلى الله عليه وسلم] للأعرابي: " توضأ كما
__________
(1) انظر " جامع التحصيل " (ص 174) .
(2) في " سننه " (1 / 107) ، وقد ضعفه النووي في " المجموع " (1 / 417) .
(3) زيادة: " أو نقص ": لا تصح؛ فانظر " فتح الباري " (1 / 233) ، و " عون المعبود " (1 / 229) .

(1/158)


أمرك الله " (1) ، ثم ذكر له صفة الوضوء؛ وفيها غسل الرجلين.
وهذه أحاديث صحيحة معروفة، وهي تفيد أن قراءة الجر إما منسوخة أو محمولة على أن الجر بالجوار (2) ؛ وقد ذهب إلى هذا الجمهور.
قال النووي: ولم يثبت خلاف هذا عن أحد يعتد به في الإجماع.
وقال الحافظ - رحمه الله - في " الفتح ": إنه لم يثبت عن أحد من الصحابة - رضي الله تعالى عنهم - خلاف ذلك؛ إلا عن علي - رضي الله تعالى عنه -، وابن عباس - رضي الله عنه -، وأنس - رضي الله عنه -، وقد ثبت الرجوع منهم عن ذلك.
وروى سعيد بن منصور عن عبد الرحمن بن أبي ليلى - رحمه الله -، قال: اجتمع أصحاب رسول الله [صلى الله عليه وسلم]- رضي الله عنهم - على غسل القدمين.
وقالت الإمامية (3) : الواجب مسحهما.
وقال محمد بن جرير، والحسن البصري - رحمه الله -، والجبائي: إنه مخير بين الغسل والمسح.
وقال بعض أهل الظاهر: يجب الجمع بين الغسل والمسح.
__________
(1) رواه أبو داود (861) عن رفاعة بن رافع بسند صحيح.
وانظر " نصب الراية " (1 / 367) .
(2) كما قال ابن زنجلة في " حجة القراءات " (ص 223) ، ثم قال: " كما يقال: هذا جحر ضب خرب ".
(3) وهم الشيعة الجعفرية الإثنى عشرية {}

(1/159)


ولم يحتج من قال بوجوب المسح إلا بقراءة الجر؛ وهي لا تدل على أن المسح متعين؛ لأن القراءة الأخرى ثابتة بلا خلاف، بل غاية ما تدل عليه هذه القراءة هو التخيير، لو لم يرد عن النبي [صلى الله عليه وسلم] ما يوجب الاقتصار على الغسل.
أقول: الحق أن الدليل القرآني قد دل على جواز الغسل والمسح؛ لثبوت قراءة النصب والجر ثبوتاً لا ينكر (1) .
وقد تعسف القائلون بالغسل فحملوا الجر على الجوار، وأنه ليس للعطف على مدخول الباء في مسح الرأس، بل هو معطوف على الوجوه، فلما جاور المجرور انجر.
وتعسف القائلون بالمسح، فحملوا قراءة النصب على العطف على محل الجار والمجرور في قوله: {برؤسكم} (2) ، كما أن قراءة الجر عطف على لفظ المجرور.
وكل ذلك ناشئ عن عدم الإنصاف عند عروض الاختلاف، ولو وجد أحد القائلين بأحد التأويلين اسما مجرورا في رواية ومنصوبا في أخرى مما لا يتعلق به الاختلاف، ووجد قبله منصوبا لفظا ومجرورا: لما شك أن النصب عطف على المنصوب والجر عطف على المجرور، وإذا تقرر هذا؛ كان الدليل القرآني قاضيا بمشروعية كل واحد منهما على انفراده، لا على مشروعية الجمع بينهما؛ وإن قال به قائل - فهو من الضعف بمكان؛ لأن الجمع بين الأمرين لم يثبت في شيء من الشريعة -.
__________
(1) سيرجح المصنف - بعد أن الغسل - فقط - هو الواجب.
وأما كلامه - هنا -: فمتعلق بالدلالة اللغوية.
(2) هذا هو الصحيح من جهة العربية، وليس فيه تعسف. (ش) .

(1/160)


انظر الأعضاء المتقدمة على هذا العضو من أعضاء الوضوء؛ فإن الله سبحانه شرع في الوجه الغسل فقط، وكذلك في اليدين، وشرع في الرأس المسح فقط؛ ولكن الرسول [صلى الله عليه وسلم] قد بين للأمة أن المفروض عليهم هو غسل الرجلين لا مسحهما، فتواترت الأحاديث عن الصحابة في حكاية وضوئه [صلى الله عليه وسلم] ، وكلها مصرحة بالغسل، ولم يأت في شيء منها المسح إلا في مسح الخفين، فإن كانت الآية مجملة في الرجلين باعتبار احتمالها للغسل والمسح؛ فالواجب الغسل بما وقع منه [صلى الله عليه وسلم] من البيان المستمر جميع عمره (1) .
وإن كان ذلك لا يوجب الإجمال؛ فقد ورد في السنة الأمر بالغسل ورودا ظاهرا؛ ومنه الأمر بتخليل الأصابع؛ فإنه يستلزم الأمر بالغسل؛ لأن المسح لا تخليل فيه، بل يصيب ما أصاب، ويخطئ ما أخطأ.
والكلام على ذلك يطول جدا.
والحاصل: أن الحق ما ذهب إليه الجمهور؛ من وجوب الغسل وعدم إجزاء المسح (1) .
قال في " الحجة البالغة ": ولا عبرة بقوم تجارت بهم الأهواء، فأنكروا غسل الرجلين متمسكين بظاهر الآية (2) ؛ فإنه لا فرق عندي بين من قال بهذا القول، وبين من أنكر غزوة بدر وأحد - مما هو كالشمس في رابعة النهار -.
نعم؛ من قال بأن الاحتياط (3) الجمع بين الغسل والمسح، أو أن أدنى
__________
(1) انظر التعليق السابق.
(2) على إحدى القراءتين.
(3) وبابه واسع!!

(1/161)


الفرض المسح - وإن كان الغسل مما يلام أشد الملامة على تركه -؛ فذلك أمر يمكن أن يتوقف فيه العلماء حتى تنكشف جلية الحال. انتهى.
قلت: ويدفعه ما تقدم من الدليل على عدم إجزاء المسح والجمع بينه وبين الغسل؛ فلا فائدة للتوقف في ذلك.
(مع الكعبين) ؛ أي: مع القدمين للآية - وهما العظمان الناتئان عند مفصل الساق والقدم -؛ فالكلام في ذلك كالكلام في المرفقين، ولكنه لم يثبت في غسلهما عنه [صلى الله عليه وسلم] مثل ما ثبت في المرفقين، وإذا تقرر أنه لا يتم الواجب إلا بغسلهما: ففي ذلك كفاية مغنية عن الاستدلال بدليل آخر.
( [شروط المسح على الخفين] :)
(1 -[أن يلبسهما على طهارة] :)
(وله المسح على الخفين) ، ويشترط في المسح عليهما: أن يكون أدخل رجليه فيهما وهما طاهرتان.
قال الشافعي - رحمه الله -: يشترط كمال الوضوء عند اللبس.
وقال أبو حنيفة - رحمه الله -: عند الحدث.
ومسح أعلى الخف فرض، ومسح أسفله سنة عند الشافعي - رحمه الله -.
وقال أبو حنيفة - رحمه الله -: لا يمسح إلا الأعلى.
وبالجملة: فوجهه ما ثبت تواتراً عن النبي [صلى الله عليه وسلم] من فعله وقوله.

(1/162)


وقد قال الإمام أحمد - رحمه الله -: فيه أربعون حديثا، وكذلك قال غيره.
وقال ابن أبي حاتم - رحمه الله -: إنه رواه عن النبي [صلى الله عليه وسلم] من الصحابة (رض) (1) أحد وأربعون رجلا.
وقال ابن عبد البر - رحمه الله -: أربعون رجلا.
وقال ابن منده: إن الذين رووه من الصحابة - رضي الله تعالى عنهم - عن النبي [صلى الله عليه وسلم] ثمانون رجلا.
ونقل ابن المنذر عن ابن المبارك - رحمه الله -، أنه قال: ليس في المسح على الخفين عن الصحابة رضي الله عنهم اختلاف؛ لأن كل من روي عنه منهم إنكاره فقد روي عنه إثباته.
وقد ذكر أحمد - رحمه الله - أن حديث أبي هريرة - رضي الله تعالى عنه - في إنكار المسح باطل.
وكذلك ما روي عن عائشة - رضي الله عنها - وابن عباس - رضي الله عنه - قد أنكره الحفاظ، ورووا عنهم خلافه.
وكذلك ما روي عن علي - رضي الله عنه - أنه قال: سبق الكتاب الخفين؛ فهو منقطع.
وقد روى عنه مسلم - رحمه الله -، والنسائي - رحمه الله - القول بالمسح
__________
(1) اختصار (رضي الله عنه) . (ش)

(1/163)


عليهما بعد موت النبي [صلى الله عليه وسلم] .
وقد روى الإمام المهدي (1) في " البحر " عن علي - رضي الله عنه - القول بمسح الخفين.
وقد ثبت في " الصحيح " من حديث جرير - رضي الله عنه -: أنه [صلى الله عليه وسلم] مسح على الخفين؛ وإسلام جرير - رضي الله تعالى عنه - كان بعد نزول المائدة؛ لأن آية المائدة نزلت في غزوة المريسيع.
وقد روى المغيرة - رضي الله عنه - عن النبي [صلى الله عليه وسلم] المسح على الخفين، وأنه فعل ذلك في غزوة تبوك، وتبوك متأخرة عن المريسيع بالاتفاق.
وقد ذكر البزار - رحمه الله - أن حديث المغيرة - رضي الله عنه - هذا رواه عنه ستون رجلا.
وبالجملة: فمشروعية المسح على الخفين أظهر من أن يطول الكلام عليهما، ولكنه لما كثر الخلاف فيها وطال النزاع؛ اشتغل الناس بها، حتى جعلها بعض أهل العلم من مسائل الاعتقاد.
(2 -[أن يكون المسح مؤقتا] :)
وقد ورد توقيت المسح بثلاثة أيام للمسافر، وبيوم وليلة للمقيم.
قال ابن القيم - رحمه الله - في " إعلام الموقعين " (2) : سئل رسول الله [صلى الله عليه وسلم]
__________
(1) هو من أئمة الزيدية!
وكتابه هو " البحر الزخار الجامع لمذاهب علماء الأمصار "، وانظر (1 / 70) - منه -.
(2) وهو كتاب نادر المثال، وقد وفقنا الله لنشره، والحمد لله. (ش)

(1/164)


عن المسح على الخفين؟ فقال: " للمسافر ثلاثة أيام وللمقيم يوما "، وسأل رسول الله [صلى الله عليه وسلم] أبي بن عمارة - رضي الله عنه -، فقال: يا رسول الله! أمسح على الخفين؟ قال: " نعم "، قال: يوما؟ قال: " ويومين "، قال: وثلاثة أيام؟ قال: " نعم، وما شئت ". ذكره أبو داود (1) - رحمه الله -.
وطائفة قالت: هذا مطلق، وأحاديث التوقيت مقيدة، والمقيد يقضي على المطلق انتهى.
وأما مسح الرقبة؛ فقد ورد من الروايات ما يصلح للتمسك به على مشروعية مسح الرقبة (2) ، وقد بسطه المجتهد الرباني في " شرح المنتقى " (3) ، وقد كاد يقع الإجماع بين أهل المذاهب على أنه بدعة.
(3 -[النية] :)
(ولا يكون وضوءاً شرعياً إلا بالنية لاستباحة الصلاة) ؛ لحديث: " إنما الأعمال بالنيات " وهو في " الصحيحين " وغيرهما، وورد من طرق بألفاظ.
قال في " التلخيص ": لم يبق من أصحاب الكتب المعتمدة - رحمهم الله - من لم يخرجه؛ سوى مالك - رحمه الله -، فإنه لم يخرجه في " الموطأ "، وإن كان ابن دحية - رحمه الله - وهم في ذلك، وادعى أنه في " الموطأ " (4) .
__________
(1) (158) ، وابن ماجه (557) .
وقد ضعفه أبو داود - عقب روايته -.
(2) وقال ابن القيم في " زاد المعاد " (1 / 49) : " ولم يصح عنه في مسح العنق حديث البتة ".
انظر " السلسلة الضعيفة " (69) و (744) .
(3) " نيل الأوطار " (1 / 163 - 164) .
(4) بل هو في " الموطأ " (982 - رواية محمد بن الحسن الشيباني) .

(1/165)


قال الهروي: كتب هذا الحديث عن سبع مئة نفر من أصحاب يحيى بن سعيد.
قلت: تتبعته من الكتب والأجزاء، حتى مررت على أكثر من ثلاثة آلاف جزء، فما استطعت أن أكمل له سبعين طريقا، هذا ما كنت وقفت عليه؛ ثم إن في " المستخرج لابن منده " - رحمه الله - عدة طرق، فضممتها إلى ما عندي، فزادت على ثلاث مئة طريق. انتهى.
فإن كان المقدر عاما (1) فهو يفيد أنه لا يثبت العمل الشرعي إلا بها، وإن كان خاصا؛ فأقرب ما يقدر الصحة، وهي تفيد ذلك.
قال في " الفتح ": " وقد اتفق العلماء على أن النية شرط في المقاصد، واختلفوا في الوسائل ".
ومن ثم خالفت الحنفية - رحمهم الله - في اشتراطها للوضوء، ورد ابن القيم - رحمه الله - على الحنفية - رحمهم الله - بأحد وخمسين وجها في " إعلام الموقعين " فليرجع إليه.
وقد نسب القول بفرضية النية إلى الشافعي - رحمه الله -، ومالك - رحمه الله -، والليث - رحمه الله -، وربيعة - رحمه الله -، وأحمد بن حنبل - رحمه الله -، وإسحاق بن راهويه - رحمه الله -.
( [فصل: سنن الوضوء] )
(1 -[التثليث] )
(ويستحب التثليث) : وجهه ما ثبت في الأحاديث الصحيحة: أنه
__________
(1) • أي: لا عمل إلا بالنية، ولما كان هذا متروك الظاهر، لأن الذوات غير منتفية -؛ قيده الشارع بالعمل الشرعي، وإن كان خاصاً بالأعمال - الأعمال الصالحة - كما يدل عليه سياق الحديث. (ن)

(1/166)


[صلى الله عليه وسلم] غسل كل عضو ثلاث مرات، وبيّن أن الواجب مرة واحدة.
(في غير الرأس) : لأن الأحاديث الواردة بتثليث سائر الأعضاء وقع التصريح فيها بإفراد مسح الرأس، ولا تقوم الحجة بما ورد في تثليثه (1) .
( [بيان حكم الترتيب] :)
وأما الترتيب: فمن جملة ما استدل به القائل بوجوب الترتيب: أن الآية مجملة باعتبار أن (الواو) لمطلق الجمع على أي صفة كان؛ فبيّن النبي [صلى الله عليه وسلم] للأمة أن الواجب من ذلك هيئة مخصوصة هي المروية عنه، وهي مرتبة.
وأيضا؛ الوضوء الذي قال فيه [صلى الله عليه وسلم] : " لا يقبل الله الصلاة إلا به " كان مرتبا (2) ؛ والحديث المذكور - وإن كان في جميع طرقه مقال -؛ لكنها يقوي بعضها بعضا؛ ويؤيده ما أخرجه أحمد وأبو داود وابن ماجه وغيرهم مرفوعا عن أبي هريرة: " إذا توضأتم فابدؤا بميامنكم " (3) :
قال ابن دقيق العيد: هو خليق بأن يصح.
وقد حقق الكلام على هذا شيخنا العلامة الشوكاني في " شرح المنتقى ".
(2 -[إطالة الغرة والتحجيل] :)
(وإطالة الغرة والتحجيل) : لثبوته في الأحاديث الصحيحة، كقوله [صلى الله عليه وسلم] :
__________
(1) قارن ب " نصب الراية " (1 / 34) للزيلعي.
(2) قارن ب " سلسلة الأحاديث الصحيحة " (1 / 1 / 523 - 525) .
(3) انظر " صحيح سنن ابن ماجه " (323) .

(1/167)


" إن أمتي يُدعون يوم القيامة غرا محجلين من آثار الوضوء " (1) ، فمن استطاع منكم أن يطيل غرته فليفعل.
(3 -[السواك] :)
(وتقديم السواك استحباباً) : وجهه الأحاديث المتواترة من قوله [صلى الله عليه وسلم] وفعله، وليس في ذلك خلاف.
قال في " الحجة ": " قوله [صلى الله عليه وسلم] : " لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك عند كل صلاة "؛ معناه: لولا خوف الحرج لجعلت السواك شرطا للصلاة كالوضوء؛ وقد ورد بهذا الأسلوب أحاديث كثيرة جدا؛ وهي دلائل واضحة على أن لاجتهاد النبي [صلى الله عليه وسلم] مدخلاً في الحدود الشرعية، وأنها منوطة بالمقاصد، وأن رفع الحرج من الأصول التي بُني عليها الشرائع.
وقول الراوي في صفة تسوكه [صلى الله عليه وسلم] : يقول: أع أع؛ كما يتهوع.
أقول: ينبغي للإنسان أن يبلغ بالسواك أقاصي الفم، فيخرج بلاغم الحلق والصدر، والاستقصاء في السواك يذهب بالقُلاع ويصفي الصوت ويطيب النكهة ". انتهى.
(4 -[غسل الكفين ثلاثاً] :)
(وغسل اليدين إلى الرسغين ثلاثا قبل الشروع في غسل الأعضاء المتقدمة) :
__________
(1) رواه البخاري (136) ، ومسلم (246) .
وأما ما بعده: فمدرج؛ فانظر " الضعيفة " (1030) .

(1/168)


لحديث أوس بن أوس الثقفي، قال: رأيت رسول الله [صلى الله عليه وسلم] توضأ، فاستوكف ثلاثاً "؛ أي: غسل كفيه، أخرجه أحمد - رحمه الله -، والنسائي - رحمه الله -.
وثبت في " الصحيحين " من حديث عثمان - رضي الله عنه -: " فأفرغ على كفيه ثلاث مرات يغسلهما ".
وثبت نحو ذلك عن جماعة من الصحابة - رضي الله عنهم - يروونه عن النبي [صلى الله عليه وسلم] .
(فصل: [نواقض الوضوء] )
(1 -[خروج شيء من أحد السبيلين] :)
(وينتقض الوضوء بما خرج من الفرجين من عين أو ريح) : فقد وردت الأدلة بذلك مثل حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - الثابت في " الصحيحين " وغيرهما، قال: قال رسول الله [صلى الله عليه وسلم] : " لا يقبل الله صلاة أحدكم إذا أحدث حتى يتوضأ "، وقد فسره أبو هريرة - رضي الله عنه - لما قال له رجل: ما الحدث؟ قال: فساء أو ضراط.
ومعنى الحدث أعم مما فسره به، ولكنه نبه بالأخف على الأغلظ.
ولا خلاف في انتقاض الوضوء بذلك.
(2 -[الجماع] :)
(وبما يوجب الغسل) في الجماع، ولا خلاف في انتقاضه به أيضا.

(1/169)


(3 -[نوم المضطجع] :)
(ونوم المضطجع) : وجهه أن الأحاديث الواردة بانتقاض الوضوء بالنوم كحديث: " من نام فليتوضأ " مقيدة بما ورد أن النوم الذي ينتقض به الوضوء هو نوم المضطجع، وقد روي من طرق متعددة، والمقال الذي فيها ينجبر بكثرة طرقها (1) ؛ وبذلك يكون الجمع بين الأدلة المختلفة.
وفي ذلك ثمانية مذاهب استوفيناها في " مسك الختام شرح بلوغ المرام "، واستوفاها الماتن في " نيل الأوطار شرح منتقى الأخبار "، وذكر الأحاديث المختلفة وتخريجها، وترجيح ما هو الراجح.
قال الشافعي - رحمه الله -: النوم ينقض الوضوء إلا نوم ممكِّن مقعدته.
__________
(1) • هذه الدعوى باطلة؛ فإن شرط انجبار الحديث بكثرة الطرق؛ أن لا يكون فيها متهم أو متروك؛ كما بينه النووي وغيره في (مصطلح الحديث) .
ويدلك على ذلك أنه كم من حديث له من الطرق أكثر من هذا بكثير؛ ومع ذلك فقد ظلوا يحكمون عليها بالضعف؛ وهذا الحديث لا يوجد فيه هذا الشرط؛ على قلتها - أعني: طرقه -، وهي ثلاثة:
الأول: حديث ابن عباس، وله أربع - بل خمس - علل بيناها في " الأحاديث الضعيفة " التي جردناها من " سنن أبي داود " رقم (26) .
الثاني: حديث عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده؛ قال الشوكاني في " النيل " (1 / 170) : " وفيه مهدي بن هلال؛ وهو متهم بوضع الحديث، ومن رواية عمر بن هارون البلخي؛ وهو متروك، ومن رواية مقاتل بن سليمان؛ وهو متهم ".
الثالث: حديث حذيفة؛ أخرجه البيهقي (1 / 120) ، وقال: " ينفرد به بحر بن كنيز السقاء؛ وهو ضعيف ولا يحتج بروايته ".
فمثل هذه الطرق لا ينجبر بها الحديث؛ بل تزيده وهنا على وهن. (ن) .
قلت: وانظر " تمام المنة " (99) .

(1/170)


وقال أبو حنيفة - رحمه الله -: لو نام قائماً أو قاعداً أو ساجداً؛ لا وضوء عليه، حتى ينام مضطجعاً أو متكئاً ".
كذا في " المسوى ".
(4 -[أكل لحم الإبل] :)
(وأكل لحم الإبل) : وجهه قوله [صلى الله عليه وسلم]- لما قيل له: أنتوضأ من لحوم الإبل؟ - قال: " نعم "، وهو في " الصحيح " من حديث جابر بن سمرة - رضي الله عنه -.
وقد روي - أيضا - من طريق غيره.
وذهب الأكثرون إلى أنه لا ينقض الوضوء، واستدلوا بالأحاديث التي نسخت الأحاديث الواردة في الوضوء مما مست النار.
ولا يخفى أنه لم يصرح في شيء منها بلحوم الإبل حتى يكون الوضوء منها منسوخاً.
وقد ذهب إلى انتقاض الوضوء بأكل لحوم الإبل أحمد بن حنبل - رحمه الله -، وإسحاق بن راهويه - رحمه الله -، ويحيى بن يحيى - رحمه الله، وابن المنذر - رحمه الله -، وابن خزيمة - رحمه الله -، والبيهقي - رحمه الله -، وحكي عن أصحاب الحديث - رحمهم الله -، وحكي عن جماعة من الصحابة - رضي الله عنهم - كما قال النووي رحمه الله.
قال البيهقي - رحمه الله - حكي عن بعض أصحابنا عن الشافعي

(1/171)


- رحمه الله - أنه قال: إن صح الحديث في لحوم الإبل قلت به، قال البيهقي - رحمه الله -: قد صح فيه حديثان حديث جابر بن سمرة - رضي الله عنه -، وحديث البراء - رضي الله عنه -.
قال في " الحجة ": " وأما لحم الإبل فالأمر فيه أشد، لم يقل به أحد من فقهاء الصحابة - رضي الله عنهم - والتابعين - رضي الله عنهم - ولا سبيل إلى الحكم بنسخه، فلذلك لم يقل به من يغلب عليه التخريج (1) ، وقال به أحمد (رح) (2) ، وإسحاق (رح) ؛ وعندي أنه ينبغي أن يحتاط فيه الإنسان. والله أعلم ".
وقد أطال ابن القيم (رح) في " إعلام الموقعين " (3) في إثبات النقض به.
أقول: الإنصاف في هذا أن لحوم الإبل ناقضة للوضوء، وحديث النقض من الصحة بمكان يعرفه من يعرف هذا الشأن: أخرجه مسلم و " أهل السنن "، وصححه جماعة من غيرهم؛ ولم يأت عنه [صلى الله عليه وسلم] ما يخالف هذا من قول أو فعل أو تقرير، وإلى هذا التخصيص ذهب جماعة من أهل العلم - كما تقدم -.
ومن أراد الاطلاع على مذاهب العلماء وأدلتهم في هذه المسألة؛ فهي مستوفاة في مؤلفات شيخنا العلامة الشوكاني.
وأما حمل الوضوء على غسل اليد؛ فالواجب علينا حمل ألفاظ الشارع
__________
(1) أي: ذكر الأدلة، والترجيح بينها.
(2) اختصار (رحمه الله) . (ش)
(3) • (2 / 97 - 100) . (ن)

(1/172)


على الحقائق الشرعية إن وجدت، وهي ههنا موجودة؛ فإنه في - لسان الشارع وأهل عصره -؛ لغسل أعضاء الوضوء لا لغسل اليد فقط.
ولم يصح من أحاديث الغسل قبل الطعام وبعده شيء (1) .
(5 -[القيء] :)
(والقيء) : وجهه ما روي عنه [صلى الله عليه وسلم] : أنه قاء فتوضأ (2) ؛ أخرجه أحمد (رح) ، و " أهل السنن " (رح) .
قال الترمذي: هو أصح شيء في الباب.
وصححه ابن منده (رح) .
وليس فيه ما يقدح في الاحتجاج به، ويؤيده أحاديث، منها: حديث عائشة - رضي الله تعالى عنها -، عنه [صلى الله عليه وسلم] : " من أصابه قيء أو رعاف أو قلس أو مذي؛ فلينصرف فليتوضأ "؛ وفي إسناده إسماعيل بن عياش؛ وفيه مقال (3) .
وفي الباب عن جماعة من الصحابة - رضي الله تعالى عنهم -، والمجموع ينتهض للاستدلال به.
وقد ذهب إلى ذلك أبو حنيفة (رح) ، وأصحابه (رح) .
__________
(1) انظر " السلسلة الضعيفة " (168) .
(2) استحباباً، لا وجوباً؛ وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية؛ كما في " الاختيارات العلمية " (16) .
(3) انظر " نصب الراية " (1 / 38) .

(1/173)


وذهب الشافعي (رح) وأصحابه (رح) إلى أنه غير ناقض، وأجابوا عن أحاديث الوضوء من القيء بأن المراد بها غسل اليدين! ولا يخفى أن الحقيقة الشرعية مقدمة.
وفي " الحجة البالغة ": قال إبراهيم (رح) بالوضوء من الدم السائل والقيء الكثير، والحسن (رح) بالوضوء من القهقهة في الصلاة، ولم يقل بذلك آخرون، وفي كل حديث لم يُجمع أهل المعرفة بالحديث على تصحيحه.
والأصح في هذه أن من احتاط فقد استبرأ لدينه وعرضه، ومن لا: فلا سبيل عليه في صراح الشريعة.
والدم السائل والقيء الكثير ملوثان للبدن مبلدان للنفس، والقهقهة في الصلاة خطيئة تحتاج إلى كفّارة، فلا عجب أن يأمر الشارع بالوضوء من هذه، ولا عجب أن يأمر ويرغب فيه من غير عزيمة.
وفي " المسوى ": قال الشافعي - رحمه الله -: خروج النجاسة من غير الفرجين لا يوجب الوضوء.
وقال أبو حنيفة - رحمه الله -: يوجبه بشرطه. انتهى (1) .
__________
(1) الأحاديث المروية في نقض الوضوء بالقيء ضعيفة، لا تصلح للاحتجاج، وكذلك ما ورد في النقض بخروج النجاسة من غير السبيلين.
وأما أحاديث نقض الوضوء بالقهقهة؛ فإنها من أضعف الحديث، بل حكم كثير من الحفاظ بأنها موضوعة.
والحق أن ليس شيء من هذا ناقضاً للوضوء. (ش)

(1/174)


( [القلس والرعاف] :)
(ونحوه) والمراد بنحو القيء: هو القلس والرعاف، والخلاف في القلس كالخلاف في القيء.
قال الخليل (1) : هو ما خرج من الحلق ملء الفم أو دونه - وليس بقيء -.
وفي " النهاية ": القلس ما خرج من الجوف، ثم ذكر مثل كلام الخليل.
وأما الرعاف فقد ذهب إلى أنه ناقض أبو حنيفة - رحمه الله -، وأبو يوسف - رحمه الله -، ومحمد - رحمه الله -، وأحمد بن حنبل - رحمه الله -، وإسحاق - رحمه الله -، وقيدوه بالسيلان.
وذهب ابن عباس - رضي الله عنه -، ومالك - رحمه الله -، والشافعي - رحمه الله - وروي عن ابن أبي أوفى - رضي الله عنه -، وأبي هريرة - رضي الله عنه -، وجابر بن زيد - رضي الله عنه -، وابن المسيب - رحمه الله -، ومكحول - رحمه الله -، وربيعة - رحمه الله - إلى أنه غير ناقض.
وأجابوا عن دليل الأولين بما فيه من المقال، وبالمعارضة بمثل حديث: أن النبي [صلى الله عليه وسلم] احتجم، فصلى ولم يتوضأ، ولم يزد على غسل محاجمه؛ رواه الدارقطني (2) - رحمه الله -، وفي إسناده صالح بن مقاتل، وهو ضعيف.
ويُجاب عن الأول بأنه ينتهض بمجموع طرقه (3) ، وعن المعارضة بأنها غير
__________
(1) هو الفراهيدي؛ الإمام المشور.
(2) (1 / 51) ، وضعفه النووي في " المجموع " (2 / 42) .
(3) أما هذا: فلا!

(1/175)


صالحة للاحتجاج، وبأن دم الرعاف غير دم الحجامة فلا يبعد أن يكون لخروجه من الأعماق تأثير في النقض.
في " المسوى " قال الشافعي - رحمه الله -: الرعاف والحجامة لا ينقضان الوضوء.
وقال أبو حنيفة - رحمه الله -: ينقضان إذا كان الدم سائلاً.
وقال مالك - رحمه الله -: الأمر عندنا أنه لا يتوضأ من رعاف ولا دم ولا من قيح يسيل من الجسد، ولا يتوضأ إلا من حدث يخرج من ذكر أو دبر أو نوم. (1) انتهى.
أقول: قد اختلف أهل العلم في انتقاض الوضوء بخروج الدم، وجميع ما هو نص في النقض أو عدمه لم يبلغ إلى رتبة تصلح للاحتجاج بها، وقد تقرر أن كون الشيء ناقضاً للوضوء لا يثبت إلا بدليل يصلح للاحتجاج؛ وإلا وجب البقاء على الأصل؛ لأن التعبد بالأحكام الشرعية لا يجب إلا بإيجاب الله أو رسوله، وإلا فليس بشرع.
ومع هذا؛ فقد كان الصحابة - رضي الله عنهم - يباشرون مع معارك القتال ومجاولة الأبطال في كثير من الأحوال ما هو من الشهرة بمكان أوضح من الشمس، فلو كان خروج الدم ناقضاً: لما ترك [صلى الله عليه وسلم] بيان ذلك مع شدة الاحتياج إليه، وكثرة الحامل عليه.
ومثل الدم القيء في عدم ورود دليل يدل على أنه ناقض، وغاية ما
__________
(1) وهذا هو الصواب، والله تعالى أعلم.

(1/176)


هناك حديث إسماعيل بن عياش، وفيه من المقال ما لا يخفى.
(6 -[مس الذكر] :)
(ومس الذكر) : وقد دل على ذلك حديث بسرة بنت صفوان - رضي الله عنها -، أن النبي [صلى الله عليه وسلم] قال: " من مس ذكره فلا يصلي حتى يتوضأ "؛ رواه أحمد - رحمه الله -، وأهل " السنن " - رحمهم الله -، ومالك - رحمه الله -، والشافعي - رحمه الله -، وابن خزيمة - رحمه الله -، وابن حبان - رحمه الله -، والحاكم - رحمه الله -، وابن الجارود.
وصححه أحمد - رحمه الله -، والترمذي - رحمه الله -، والدارقطني - رحمه الله -، ويحيى بن معين - رحمه الله -، والبيهقي - رحمه الله -، والحازمي - رحمه الله -، وابن حبان - رحمه الله -، وابن خزيمة - رحمه الله -.
قال البخاري: هو أصح شيء في هذا الباب.
وفي الباب أحاديث عن جماعة من الصحابة - رضي الله عنهم -؛ منهم: جابر - رضي الله عنه -، وأبو هريرة - رضي الله عنه -، وأم حبيبة - رضي الله عنها -، وعبد الله بن عمر - رضي الله عنهما -، وزيد بن خالد - رضي الله عنه -، وسعد بن أبي وقاص - رضي الله عنه -، وعائشة - رضي الله عنها -، وابن عباس - رضي الله عنهما -، ابن عمرو - رضي الله عنهما -، والنعمان بن بشير - رضي الله عنه -، وأنس - رضي الله عنه -، وأبي بن كعب، ومعاوية بن حيدة (1) - رضي
__________
(1) في الأصل: معاوية بن أبي حيدة؛ وهو خطأ. (ش)

(1/177)


الله عنه -، وقبيصة - رضي الله عنه -، وأروى بنت أُنيس (1) - رضي الله عنها - (2) .
وحديث بسرة - رضي الله عنها - بمجرده أرجح من حديث طلْق بن علي - رضي الله عنه - عند أهل " السنن " - رحمهم الله - مرفوعاً، بلفظ: الرجل يمس ذكره أعليه وضوء؟ فقال [صلى الله عليه وسلم] : " إنما هو بضعة منك "؛ فكيف إذا انضم إلى حديث بسرة - رضي الله عنها - أحاديث كثيرة كما أشرنا إليه؟ {
ومن مال إلى ترجيح حديث طلق: فلم يأت بطائل}
وقد تقرر في الأصول: أن رواية الإثبات أولى من رواية النفي، وأن المقتضي للحظر أولى من المقتضي للإباحة.
قد ذهب إلى انتقاض الوضوء بمس الذكر جماعة من الصحابة والتابعين - رضي الله عنهم، والأئمة - رحمهم الله -، ومالوا إلى العمل بحديث بسرة؛ لتأخر إسلامها.
وذهب إلى خلاف ذلك جماعة كذلك.
والحق الانتقاض.
وقد ورد ما يدل على أنه ينتقض الوضوء بمس الفرج؛ وهو أعم من
__________
(1) هي غير معروفة، والإسناد إليها ضعيف.
واختُلف فيها؛ فقال بعضهم: أروى؛ ولم يذكر اسم أبيها.
وقال بعضهم: أروى بنت أنيس.
وقال بعضهم: عن أبي أروى؛ فقط! (ش)
(2) انظر " التلخيص الحبير " (1 / 122 - 124) .

(1/178)


القُبُل والدُبُر، كما أخرجه ابن ماجه - رحمه الله - من حديث أم حبيبة - رضي الله عنها -، قالت: سمعت رسول الله [صلى الله عليه وسلم] يقول: " من مس فرجه فليتوضأ "، وصححه أحمد - رحمه الله -، وأبو زرعة - رحمه الله -، وقال ابن السكن - رحمه الله -: لا أعلم له علة.
وأخرج الدارقطني - رحمه الله - من حديث عائشة - رضي الله عنها - مرفوعاً: " إذا مسّت إحداكن فرجها فلتتوضأ "؛ وفي إسناد عبد الرحمن بن عبد الله العمري؛ وفيه مقال (1) .
وأخرج أحمد - رحمه الله -، والترمذي - رحمه الله -، والبيهقي - رحمه الله -، من حديث عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده: عن النبي [صلى الله عليه وسلم] قال: " أيما رجل مس فرجه فليتوضأ، وأيما امرأة مست فرجها فلتتوضأ "، وفي إسناده بقية بن الوليد، ولكنه صرح بالتحديث (2) .
قال في " المسوى ": قال الشافعي - رحمه الله -: يجب الوضوء على من مس الفرج، وشرطه أن يمس ببطن الكف أو بطون الأصابع.
وقال أبو حنيفة - رحمه الله -: مس الفرج لا ينقض؛ واحتج بقوله [صلى الله عليه وسلم] : " هل هو إلا بضعة منك؟ ! ". انتهى.
قالوا: إن مس الفرج لما كانت حاجة الناس إليه عامة، والبلوى به دائمة: وجب أن ينقل شرعاً ثابتاً متواتراً مستقراً.
__________
(1) بل هو كذّاب، انظر " المجروحين " (2 / 53) لابن حبان.
(2) فهو حسن؛ وقد نقل الحافظ في " التلخيص " (1 / 124) تصحيحه عن البخاري.

(1/179)


أقول: قد وقع في الأصول أن الحكم الذي تعم به البلوى لا بد أن يُنقل نقلاً مستفيضاً؛ والقائل بذلك بعض الحنفية.
وخالفهم الجمهور لعموم الأدلة الدالة على قبول أخبار الآحاد.
وهذه القاعدة كثيراً ما ترى المشغوفين بمحبة ما ألفوه من مذاهب الأسلاف يدفعون بها الحجج الشرعية التي يوردها خصومهم {
فإذا استدلوا لأنفسهم على إثبات حكم قد دأبوا عليه ودرجوا، وصار عندهم من المألوفات المعروفات: مالوا عن ذلك ولم يُعرِّجوا عليه، وهذا ستراه في غير موطن من كتب المتمذهبين، فإن كنت ممن لا تنفق عليه التدليسات، ولا يغره سراب التلبيسات: فلا تلعب بك الرجال من حال إلى حال بزخارف ما تنمقه من الأقوال.
(فكن رجلا رِجْله في الثَّرى ... وهامة همته في الثُرَيّا)
ولا حرج على المجتهد إذا رجح غير ما رجحناه؛ إنما الشأن في التكلم في مواطن الخلاف بما يتبرأ منه الإنصاف، اللهم} بصرنا بالصواب، واجعل بيننا وبين العصبية من لطفك أمنع حجاب.
وفي " الحجة البالغة ": " موجبات الوضوء في شريعتنا على ثلاث درجات:
إحداها: ما اجتمع عليه جمهور الصحابة - رضي الله تعالى عنهم -، وتطابق فيه الرواية والعمل الشائع، وهو البول والغائط والريح والمذي والنوم الثقيل وما في معناها.

(1/180)


الثانية: ما اختلف فيه السلف من فقهاء الصحابة والتابعين - رضي الله عنهم -، وتعارض فيه الرواية عن النبي [صلى الله عليه وسلم] ؛ كمس الذكر لقوله [صلى الله عليه وسلم] : " من مس ذكره فليتوضأ "؛ قال به عمر وسالم وعروة وغيرهم - رضي الله عنهم -، ورده علي وابن مسعود - رضي الله عنهما - وفقهاء الكوفة، ولهم قوله [صلى الله عليه وسلم] : " هل هو إلا بضعة منك؟ ! "؛ ولم يجيء الثلج (1) بكون أحدهما منسوخاً.
( [لمس المرأة لا ينقض الوضوء] :)
ولمس المرأة، قال به عمر وابن مسعود وإبراهيم - رضي الله عنهم -؛ لقوله تعالى: {أو لامستم النساء} (2) ، ولا يشهد له حديث، بل يشهد حديث عائشة - رضي الله عنها - بخلافه، لكن فيه نظر؛ لأن في إسناده انقطاعاً (3) .
وعندي أن مثل هذه العلة إنما تعتبر في مثل ترجيح أحد الحديثين على الآخر، ولا تعتبر في ترك حديث من غير تعارض. والله تعالى أعلم.
وبالجملة: فجاء الفقهاء من بعدهم على ثلاث طبقات: آخذ به على ظاهره، وتارك له رأساً، وفارق بين الشهوة وغيرها.
ولا شبهة أن لمس المرأة مهيج للشهوة مظنة لقضاء شهوة دون شهوة
__________
(1) أي: الاطمئنان.
(2) انظر كتاب " القراءات وأثرها في الأحكام " (1 / 419 - 425) للأخ الشيخ محمد عمر بازمول.
(3) بل هو حسن؛ فانظر " صحيح سنن ابن ماجه " (406) .
ولفظه: أن النبي [صلى الله عليه وسلم] قبّل بعض نسائه، ثم خرج إلى الصلاة ولم يتوضأ.

(1/181)


الجماع، أن مس الذكر فعل شنيع، ولذلك جاء النهي عن مس الذكر بيمينه في الاستنجاء، فإذا كان قبضاً عليه كان من أفعال الشياطين لا محالة.
والثالثة: ما وُجد فيه شبهة من لفظ الحديث؛ وقد أجمع الفقهاء من الصحابة والتابعين - رضي الله تعالى عنهم - على تركه.
( [الوضوء مما مسته النار منسوخ] :)
كالوضوء مما مست النار؛ فإنه ظهر عمل النبي [صلى الله عليه وسلم] ، والخلفاء، وابن عباس، وأبي طلحة وغيرهم - رضي الله تعالى عنهم - بخلافه، وبيّن جابر - رضي الله عنه - أنه منسوخ.
قلت: " عامة أهل العلم على أن الوضوء مما مسته النار منسوخ، وتأول بعضهم على غسل اليد والفم، قال قتادة - رضي الله عنه -: من غسل فمه فقد توضأ ". كذا في " المسوى ".

(1/182)


(5 - باب الغسل)
( [الفصل الأول: موجبات الغسل] )
(1 -[خروج المني] : وأصله تعميم البدن بالغسل:)
(يجب بخروج المني بشهوة ولو بتفكر) وقد دلت على ذلك الأدلة الصحيحة كأحاديث: " الماء من الماء "، وأحاديث: " في المني الغسل "، وصدق اسم الجنابة على من كان كذلك؛ وقد قال الله - تعالى -: {وإن كنتم جنبا فاطهروا} ، والاطهار استيعاب جميع البدن، بالغسل (1) . كذا في " المسوى ".
ولا أعلم في ذلك خلافاً، وإنما وقع الخلاف المشهور بين الصحابة - رضي الله تعالى عنهم - وكذلك بين من بعدهم: هل يجب الغسل بالتقاء الختانين من دون خروج مني أم لا يجب إلا بخروج المني؟
والحق: الأول لحديث: " إذا جلس بين شعبها الأربع، ثم جهدها فقد وجب عليه الغسل "؛ أخرجه البخاري، ومسلم وغيرهما - رحمهم الله - من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -.
وأخرج نحوه مسلم، وأحمد، والترمذي - رحمهم الله تعالى، وصححه - من حديث عائشة - رضي الله تعالى عنها -.
__________
(1) في كل الطبعات: " فالغسل "!

(1/183)


فهذان الحديثان - وما ورد في معناهما - ناسخان لما كان في أول الإسلام من أن الغسل إنما يجب بخروج المني.
ويدل على ذلك حديث أبي بن كعب - رضي الله تعالى عنه -، قال: إن الفتيا التي كانوا يقولون: " الماء من الماء " رخصة كان رسول الله [صلى الله عليه وسلم] رخص بها في أول الإسلام، ثم أمرنا بالاغتسال بعدها.
وأخرج مسلم (1) - رحمه الله تعالى - من حديث عائشة - رضي الله تعالى عنها -: أن رجلا سأل رسول الله [صلى الله عليه وسلم] عن الرجل يجامع أهله ثم يكسل - وعائشة - رضي الله تعالى عنها - جالسة -؟ فقال رسول الله [صلى الله عليه وسلم] : " إني لأفعل ذلك أنا وهذه، ثم نغتسل ".
وقال في " الحجة البالغة ": " اختلف أهل الرواية هل يُحمل الإكسال - أي: الجماع من غير إنزال - على الجماع الكامل في معنى قضاء الشهوة - أعني ما يكون معه الإنزال -؟ والذي صح رواية، وعليه جمهور الفقهاء: هو أن من جهد فقد وجب عليهما الغسل، وإن لم ينزل.
واختلفوا في كيفية الجمع بين هذا الحديث، وحديث: " إنما الماء من الماء ":
فقال ابن عباس - رضي الله تعالى عنه -: للاحتلام.
__________
(1) (برقم 350) .
وانظر " سنن الدارقطني " (1 / 112) ، و " السلسلة الضعيفة " (976) ، وكتابي " دراسات علمية في صحيح مسلم " (123 - 125) .

(1/184)


وفيه ما فيه {لأنه يأباه سبب ورود الحديث كما أخرجه مسلم.
وقال أبي - رضي الله تعالى عنه -: كانت رخصة في أول الإسلام، ثم نهي عنها.
وقد روي (1) عن عثمان وعلي وطلحة والزبير وأبي بن كعب وأبي أيوب - رضي الله تعالى عنهم - فيمن جامع امرأته ولم يُمْن، قالوا: يتوضأ كما يتوضأ للصلاة ويغسل ذكره "، ورفع ذلك إلى النبي [صلى الله عليه وسلم] .
ولا يبعد عندي أن يُحمل ذلك على المباشرة الفاحشة؛ فإنه قد يطلق الجماع عليها.
قلت: على هذا أكثر أهل العلم: أن غسل الجنابة يجب بأحد الأمرين: إما بإدخال الحشفة في الفرج، أو بخروج الماء الدافق من الرجل أو المرأة.
(2 -[التقاء الختانين] :)
(بالتقاء الختانين) وعلى هذا أكثر أهل العلم: أن من جامع امرأته فغيّب الحشفة؛ وجب الغسل عليهما وإن لم ينزل.
والختان: موضع القطع من ذكر الغلام، ونواة (2) الجارية.
__________
(1) رواه البخاري (179) ، ومسلم (347) عن زيد بن خالد الجهني.
(2) كذا} والصواب: النوى؛ وهو ما يبقى من المخفض بعد ختان الجارية.
انظر " لسان العرب المحيط " (3 / 752) .

(1/185)


(3 -[انقطاع الحيض] ، 4 -[والنفاس] :)
(وبانقطاع الحيض والنفاس) ولا خلاف في ذلك.
وقد دل عليه نص القرآن ومتواتر السنة، وكذلك وقع الإجماع على وجوبه بانقطاع النفاس.
(5 -[الاحتلام مع وجود بلل] :)
(و) كذلك وقع الإجماع على وجوبه (بالاحتلام) ؛ إلا ما يُحكى عن النخعي - رحمه الله تعالى -، ولكنه إنما يجب إذا وجد المحتلم بللاً.
(مع وجود بلل) : كما في حديث عائشة - رضي الله عنها -، قالت: سئل رسول الله [صلى الله عليه وسلم] عن الرجل يجد البلل ولا يذكر احتلاماً؟ فقال: " يغتسل "، وعن الرجل يرى أن قد احتلم ولا يجد البلل؟ فقال: " لا غسل عليه "؛ أخرجه أحمد وأبو داود والترمذي وابن ماجه - رحمهم الله - ورجاله رجال الصحيح؛ إلا عبد الله بن عمر العمري؛ وفيه مقال خفيف (1) .
وأخرج نحوه أحمد والنسائي - رحمهما الله - من حديث خولة بنت حكيم - رضي الله تعالى عنها -.
وأخرج البخاري ومسلم وغيرهما - رحمهم الله تعالى - من حديث أم سلمة - رضي الله تعالى عنها -: أن أم سليم - رضي الله تعالى عنها - قالت:
__________
(1) هو حديث حسن، فانظر " صحيح سنن ابن ماجه " (612) .

(1/186)


يا رسول الله! إن الله لا يستحيي من الحق؛ فهل على المرأة الغسل إذا احتلمت؟ قال: " نعم؛ إذا رأت الماء ".
وهذه الأحاديث ترد على من اعتبر أن يحصل للمحتلم شهوة ويتيقن ذلك.
والمراد من البلل المني، فإن رأى بللاً ولم يتيقن أنه مني؛ لم يجب الغسل عند أكثر أهل العلم.
قال في " الحجة ": " أراد الحكم على البلل دون الرؤيا؛ لأن الرؤيا تكون تارة حديث نفس، ولا تأثير له، وتارة تكون قضاء شهوة، ولا تكون بغير بلل، فلا يصلح لإدارة الحكم إلا البلل.
وأيضا؛ فإن البلل شيء ظاهر يصلح للانضباط، وأما الرؤيا فإنها كثيراً ما تُنسى ". انتهى.
(6 -[الموت] :)
(وبالموت) : المراد وجوب ذلك على الأحياء؛ إذ لا وجوب بعد الموت من الواجبات المتعلقة بالبدن؛ أي: يجب على الأحياء أن يغسلوا من مات.
وقد حكى المهدي في " البحر " والنووي - رحمه الله -، الإجماع على وجوب غسل الميت، وناقش في ذلك بعض المتأخرين مناقشة واهية.
وسيأتي الكلام على غسل الميت، وصفته وتفاصيله - إن شاء الله تعالى -.

(1/187)


وفي " الحجة ": وأما غسل الميت: فلأن الرشاش ينتشر في البدن.
وجلست عند محتضر، فرأيت أن الملائكة الموكلة بالقبض لها نكاية عجيبة في المحتضرين، ففهمت أنه لا بد من تغيير الحالة لتنبه النفس لمخالفها.
(7 -[إسلام الكافر] :)
(وبالإسلام) : وجهه ما أخرجه أحمد، والترمذي، والنسائي، وأبو داود، وابن حبان، وابن خزيمة - رحمهم الله - عن قيس بن عاصم - رضي الله عنه -: أنه أسلم، فأمره النبي [صلى الله عليه وسلم] أن يغتسل بماء وسدر.
وصححه ابن السكن - رحمه الله -.
وأخرج أحمد وعبد الرزاق، والبيهقي، وابن خزيمة، وابن حبان - رحمهم الله - من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - أن ثمامة - رضي الله تعالى عنه - أسلم، فقال النبي [صلى الله عليه وسلم] : " اذهبوا به إلى حائط بني فلان، فمروه أن يغتسل " (1) .
وأصله في " الصحيحين "، وليس فيهما الأمر بالاغتسال، بل فيهما أنه اغتسل.
قال في " الحجة ": قال (2) لآخر: " ألق عنك شعر الكفر "؛ وسره أن يتمثل عنده الخروج من شيء، أصرح ما يكون، والله تعالى أعلم. انتهى.
وقد ذهب إلى الوجوب أحمد بن حنبل وأتباعه - رحمهم الله -.
__________
(1) انظر " التلخيص الحبير " (2 / 68) .
(2) أي: النبي [صلى الله عليه وسلم] .
والحديث صحيح؛ فانظر " الإرواء " (79) .

(1/188)


وذهب الشافعي - رحمه الله - إلى عدم الوجوب.
والحق الأول.
ويؤيده ما وقع منه [صلى الله عليه وسلم] من الأمر بالغسل عند الإسلام لواثلة بن الأسقع، وقتادة الرهاوي - رضي الله عنه - كما أخرجه الطبراني - رحمه الله -، وأمره أيضا لعقيل بن أبي طالب - رضي الله عنه -، كما أخرجه الحاكم - رحمه الله - في " تاريخ نيسابور "؛ وفي أسانيدها مقال (1) .
( [الفصل الثاني: كيفية الغسل] )
( [تعريف الغسل] :)
(والغسل الواجب هو أن يفيض الماء على جميع بدنه، أو ينغمس فيه) أقول: الغسل شرعاً ولغة هو ما ذُكر.
وقد وقع النزاع في دخول الدلك في مسمى الغسل؛ ولكنه لا يخفى أن مجرد بل الثوب أو البدن من دون دلك لا يسمى غسلاً، كما يفهم ذلك من الاستعمالات العربية، وكما يفيد ذلك ما تقدم في بول الصبي: أنه [صلى الله عليه وسلم] أتبعه الماء ولم يغسله؛ وهو في " صحيح مسلم " - رحمه الله -، وغيره.
( [وجوب المضمضة والاستنشاق] :)
(مع المضمضة والاستنشاق) : فقد ثبتا في الغسل من فعله [صلى الله عليه وسلم] ، ووجه الوجوب ما قدمناه في الوضوء.
__________
(1) قال نحوه الحافظ في " التلخيص " (2 / 68) .

(1/189)


وفيهما وفي السواك إزالة المخاط والبَخر.
(والدلك لما يمكن دلكه، ولا يكون شرعياً إلا بالنية لرفع موجبه) لما قدمناه في الوضوء.
( [مندوبية الوضوء قبل الغسل ما عدا غسل القدمين] :)
(ونُدب) لا أنه وجب؛ لأنه يصدق الغسل ويوجد مسماه بالإفاضة على جميع البدن من غير تقدم.
(تقديم غسل أعضاء الوضوء إلا القدمين) : لما قد ثبت في " الصحيحين " وغيرهما: أنه كان [صلى الله عليه وسلم] إذا اغتسل من الجنابة يبدأ فيغسل يديه، ثم يفرغ بيمينه على شماله فيغسل فرجه، ثم يتوضأ وضوءه للصلاة، ثم يفيض على سائر جسده، ثم يغسل رجليه، وهو من حديث عائشة - رضي الله عنها -.
وورد في " الصحيحين " وغيرهما من حديث ميمونة - رضي الله عنها - بلفظ: أنه [صلى الله عليه وسلم] أفرغ على يديه، فغسلهما مرتين أو ثلاثاً، ثم أفرغ بيمينه على شماله فغسل مذاكيره، ثم دلك يده بالأرض، ثم مضمض واستنشق، ثم غسل وجهه ويديه، ثم غسل رأسه ثلاثاً، ثم أفرغ على جسده، ثم تنحى من مقامه، فغسل قدميه.
وثبت عنه [صلى الله عليه وسلم] : أنه كان لا يتوضأ بعد الغسل، كما أخرجه أحمد وأهل " السنن " - رحمهم الله -.
وقال الترمذي - رحمه الله -: حسن صحيح.

(1/190)


وأخرجه البيهقي - رحمه الله - أيضا بأسانيد جيدة.
وقد روى ابن أبي شيبة - رحمه الله -، عن ابن عمر - رضي الله عنه -، مرفوعاً وموقوفاً؛ أنه قال - لما سئل عن الوضوء بعد الغسل -: وأي وضوء أعم من الغسل؟ { (1)
وروي عن حذيفة - رضي الله عنه -، أنه قال: أما يكفي أحدكم أن يغتسل من قرنه إلى قدمه، حتى يتوضأ؟} (2)
وقد روي نحو ذلك عن جماعة من الصحابة - رضي الله عنهم - ومن بعدهم، حتى قال أبو بكر ابن العربي: إنه لم يختلف العلماء أن الوضوء داخل تحت الغسل، وأن نية طهارة الجنابة تأتي على طهارة الحدث.
وهكذا نقل الإجماع ابن بطّال - رحمه الله -.
وتُعقِّب بأنه قد ذهب جماعة - منهم أبو ثور، وداود، وغيرهما - رحمهم الله - إلى أن الغسل لا ينوب عن الوضوء.
وأما كون تقديم أعضاء الوضوء غير واجب: فلأنه يصدق الغسل ويوجد مسماه بالإفاضة على جميع البدن؛ من غير تقديم.
( [يستحب التيامن] :)
(ثم التيامن) : لثبوته عنه [صلى الله عليه وسلم] قولاً وفعلاً، عموماً وخصوصاً:
__________
(1) وقد روي - بهذا اللفظ - مرفوعاً، وهو ضعيف! انظر " ضعيف الجامع الصغير وزيادته " (6115) .
(2) انظر " مصنف ابن أبي شيبة " (1 / 68 و 69) .

(1/191)


فمن العموم ما ثبت في " الصحيح ": " أنه [صلى الله عليه وسلم] كان يعجبه التيمن في تنعله، وترجله، وطهوره، وفي شأنه كله ".
ومن الخصوص ما ثبت في " الصحيحين " وغيرهما: أنه بدأ بشق رأسه الأيمن، ثم الأيسر في الغسل.
وقد ثبت من قوله ما يفيد ذلك؛ ولا خلاف في استحباب التيامن.
(فصل: [الأغسال المسنونة] )
(1 -[غسل الجمعة] :)
(ويُشرع) ؛ أي: الغسل (لصلاة الجمعة) لحديث: " إذا جاء أحدكم الجمعة فليغتسل "، وهو في " الصحيحين " وغيرهما من حديث ابن عمر - رضي الله عنه -.
وقد تلقت الأمة هذا الحديث بالقبول، ورواه عن نافع - رحمه الله - نحو ثلاث مئة نفس.
ورواه من الصحابة - غير ابن عمر؛ رضي الله عنه - نحو أربعة وعشرين صحابياً.
وقد ذهب إلى وجوبه جماعة.
قال النووي - رحمه الله -: حُكي وجوبه عن طائفة من السلف - رحمهم الله -، حكوه عن بعض الصحابة - رضي الله عنهم -، وبه قال أهل الظاهر،

(1/192)


وحكاه ابن المنذر عن أبي هريرة وعمار - رضي الله عنه -، ومالك، وحكاه الخطابي عن الحسن البصري، وحكاه ابن حزم عن جمع من الصحابة - رضي الله عنهم - ومن بعدهم.
وذهب الجمهور إلى أنه مستحب، واستدلوا بحديث أبي هريرة - رضي الله عنه - عند مسلم بلفظ: " من توضأ فأحسن الوضوء، ثم أتى الجمعة فاستمع وأنصت؛ غفر له ما بين الجمعة إلى الجمعة وزيادة ثلاثة (1) أيام " وبحديث سمرة - رضي الله عنه، أن النبي [صلى الله عليه وسلم] قال: " من توضأ للجمعة؛ فبها ونِعمت، ومن اغتسل فذلك أفضل "؛ أخرجه أحمد، وأبو داود، والنسائي، والترمذي - رحمهم الله -، وفيه مقال مشهور، وهو عدم سماع الحسن - رحمه الله - من سمرة - رحمه الله - (2) ؛ وغير ذلك من الأحاديث، قالوا: وهي صارفة للأمر إلى الندب.
ولكنه إذا كان ما ذكروه صالحاً لصرف الأمر؛ فهو لا يصلح لصرف مثل قوله [صلى الله عليه وسلم] : " حق (3) على كل مسلم أن يغتسل في كل سبعة أيام يوماً؛ يغسل فيه رأسه وجسده "؛ وهو في " الصحيحين " وغيرهما من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -.
وقد استوفى الماتن - رحمه الله - الكلام على حكم غسل الجمعة في " نيل
__________
(1) قال ابن حجر في " الفتح ": " ليس فيه نفي الغسل، وقد ورد من وجه آخر في " الصحيح " بلفظ: " من اغتسل "؛ فيحتمل أن يكون ذكر الوضوء لمن تقدم غسله على الذهاب، فاحتاج إلى إعادة الوضوء ". انتهى (ش) .
(2) ولكن له شواهد تحسنه؛ فانظر تعليق شيخا على " صحيح ابن خزيمة " (1757) .
(3) قارن بالحديث الذي أورده شيخنا في " الصحيحة " (1796) وتفقه فيهما!

(1/193)


الأوطار "، فليرجع إليه.
ولا يخفى أن تقييد الغسل بالمجيء للجمعة يدل على أنه للصلاة لا لليوم.
(2 -[غسل العيدين] :)
(وللعيدين) : فقد روي من فعله [صلى الله عليه وسلم] من حديث الفاكه بن سعد - رضي الله عنه -: أنه [صلى الله عليه وسلم] كان يغتسل يوم الجمعة ويوم الفطر ويوم النحر؛ أخرجه أحمد، وابن ماجه، والبزار، والبغوي (1) - رحمه الله -.
وأخرج نحوه ابن ماجه (2) - رحمه الله - من حديث ابن عباس - رضي الله عنه -.
وأخرجه البزار (3) - رحمه الله - من حديث أبي رافع - رضي الله عنه -.
وفي أسانيدها ضعف، ولكنه يقوي بعضها بعضاً (4) ، ويقوي ذلك آثار عن الصحابة - رضي الله عنهم - جيدة (5) .
أقول: قد روي في ذلك أحاديث لم يصح منها شيء، ولا بلغ شيء.
__________
(1) وهو حديث موضوع، انظر " الإرواء " (146) .
وانظر " التلخيص الحبير " (2 / 80) ، و " الدراية " (1 / 5) .
(2) وهو ضعيف جدا، وانظر " المرجع السابق ".
(3) (برقم: 648 - " كشف الأستار ")
وقد ضعفه الهيثمي في " المجمع " (2 / 198) .
(4) قال البزار: " لا أحفظ في الاغتسال في العيدين حديثاً صحيحاً ".
(5) انظرها في رسالتي " أحكام العيدين في السنة المطهرة " (34 - 35) .

(1/194)


منها إلى رتبة الحسن لذاته ولا لغيره.
وأما اعتبار كون المغتسل يصلي صلاة العيد بذلك الغسل - أي: من دون أن يتخلل بين الغسل وبين الصلاة شيء من الأحداث -: فلا أحفظ فيه حديثاً صحيحاً ولا ضعيفاً ولا قول صحابي، وما أحسن الاقتصار على ما ثبت، وإراحة العباد مما لم يثبت (1) .
(3 -[من غسل الميت] :)
(ولمن غسل ميتاً) : وجهه ما أخرجه أحمد، وأهل " السنن " - رحمهم الله - من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - مرفوعاً: " من غسل ميتا فليغتسل، ومن حمله فليتوضأ "، وقد روي من طرق، وأعل بالوقف، وبأن في إسناده صالحاً - مولى التوأمة - رحمه الله -.
ولكنه قد حسنه الترمذي - رحمه الله -، وصححه ابن القطان - رحمه الله -، وابن حزم.
وقد روي من غير طريق (2) .
قال الحافظ ابن حجر - رحمه الله -: هو - لكثرة طرقه - أسوأ أحواله أن يكون حسنا، فإنكار النووي - رحمه الله - على الترمذي رحمه الله تحسينه معترض.
وقال الذهبي - رحمه الله -: هو أقوى من عدة أحاديث احتج بها الفقهاء
__________
(1) إي والله!
(2) فهو ثابت، وانظر " تهذيب السنن " (4 / 306) لابن القيم، و " أحكام الجنائز " (71) .

(1/195)


- رحمهم الله -.
وذكر الماوردي - رحمه الله - أن بعض أصحاب الحديث - رحمهم الله - خرّج لهذا الحديث مئة وعشرين طريقا.
وقد روي نحوه عن علي - رضي الله عنه - عند أحمد، وأبي داود، والنسائي، وابن أبي شيبة، وأبي يعلى، والبزار، والبيهقي - رحمهم الله -، وعن حذيفة - رضي الله عنه - عند البيهقي - رحمه الله -.
قال ابن أبي حاتم - والدارقطني، رحمهما الله -: لا يثبت.
وعن عائشة - رضي الله عنها - من فعله [صلى الله عليه وسلم] عند أحمد، وأبي داود - رحمهما الله -.
وقد ذهب إلى الوجوب علي وأبو هريرة - رضي الله عنهما -، والإمامية.
وذهب الجمهور إلى أنه مستحب فقط.
قالوا: وهذا الأمر المذكور في الحديث السابق مصروف عن الوجوب بحديث: " إن ميتكم يموت طاهراً؛ فحسبكم أن تغسلوا أيديكم " (1) ؛ أخرجه البيهقي، وحسنه ابن حجر - رحمهما الله -، ولحديث: كنا نغسل الميت؛ فمنا من يغتسل ومنا من لا يغتسل؛ أخرجه الخطيب - رحمه الله -، عن ابن عمر - رضي الله عنه -، وصحح ابن حجر أيضا إسناده (2) ، ولما وقع من الفتيا من
__________
(1) والأرجح في هذا الحديث الوقف، وانظر التعليق الآتي.
(2) انظر تحقيق ذلك كله في " أحكام الجنائز " (71 - 72) .

(1/196)


الصحابة - رضي الله عنهم - لأسماء بنت عميس - امرأة أبي بكر؛ رضي الله عنه - لما غسلته فقالت لهم: إن هذا يوم شديد البرد؛ وأنا صائمة؛ فهل علي من غسل؟ قالوا: لا. رواه مالك - رحمه الله - في " الموطأ " (1) .
(4 -[الإحرام] :)
(وللإحرام) : لحديث زيد بن ثابت - رضي الله عنه -: أنه رأى النبي [صلى الله عليه وسلم] تجرد لإهلاله واغتسل؛ أخرجه الترمذي، والدارقطني، والبيهقي، والطبراني - وحسنه الترمذي -، وضعفه العقيلي - رحمهم الله -.
ولعل وجه التضعيف كون عبد الله بن يعقوب المدني (2) في إسناده.
قال ابن الملقن في " شرح المنهاج ": لعل الترمذي - رحمه الله - حسنه؛ لأنه عرف عبد الله بن يعقوب؛ أي: عرف حاله.
وفي الباب عن عائشة - رضي الله عنها - عند أحمد - رحمه الله -، وعن أسماء - رضي الله عنها - عند مسلم - رحمه الله -.
وقد ذهب إلى استحباب غسل الإحرام الجمهور.
وقال الحسن البصري - رحمه الله -، ومالك - رحمه الله -: إنه محتمل.
__________
(1) (1 / 223 - رواية يحيى الليثي) .
وانظر " شرح الزرقاني على الموطأ " (2 / 52) .
(2) وليس فيه توثيق معتد به، ولكن روى عنه جماعة ثقات.
والحديث شواهده عدة؛ كما ذكر المصنف - بعد -.

(1/197)


(5 -[لدخول مكة] :)
(ولدخول مكة) المكرمة - حرسها الله تعالى -؛ لما أخرجه مسلم عن ابن عمر - رضي الله عنه -: أنه كان لا يدخل مكة إلا بات بذي طُوى، حتى يصبح ويغتسل، ثم يدخل مكة نهارا، ويذكر عن النبي [صلى الله عليه وسلم] أنه فعله.
وأخرج البخاري - رحمه الله - معناه.
قال في " الفتح ": قال ابن المنذر: الاغتسال عند دخول مكة مستحب عند جميع العلماء، وليس في تركه عندهم فدية.
وقال أكثرهم: يجزئ عنه الوضوء.

(1/198)


(6 - باب التيمم)
قال الله - تعالى -: {وإن كنتم مرضى أو على سفر أو جاء أحد منكم من الغائط أو لامستم النساء فلم تجدوا ماء فتيمموا صعيدا طيبا فامسحوا بوجوهكم وأيديكم منه} ؛ وقد كثر الاختباط في تفسير هذه الآية، والحق أن قيد عدم الوجود راجع إلى قوله - تعالى -: {أو جاء أحد منكم من الغائط أو لامستم النساء} .
( [الأسباب المبيحة للتيمم] :)
فتكون الأعذار ثلاثة: السفر، والمرض، وعدم الوجود في الحضر، وهذا ظاهر على قول من قال: إن القيد إذا وقع بعد جُمل متصلة كان قيداً (1) لآخرها.
وأما من قال: أنه يكون قيداً للجميع إلا أن يمنع مانع: فكذلك أيضا (2) ؛ لأنه قد وجد المانع ههنا من تقييد السفر والمرض بعدم الوجود للماء، وهو: أن كل واحد منهما عذر مستقل في غير هذا الباب - كالصوم -.
ويؤيد هذا أحاديث التيمم الواردة مطلقة ومقيدة بالحضر.
__________
(1) وهو: {فلم تجدوا ماء} .
(2) انظر - لزاماً - " السيل الجرار " (1 / 127) للشوكاني.

(1/199)


فإن قلت: ما المعتبر في تسويغ التيمم للمقيم؟ هل هو عدم الوجود عند إرادة الصلاة كما هو الظاهر من الآية؟ أم عدم الوجود مع طلب مخصوص - كما قيل: إنه يطلب في كل جهة من الجهات الأربع في ميل -، أو ينتظر إلى آخر الوقت حتى لا يبقى إلا ما يسع الصلاة بعد التيمم؟
قلت: الحق أن المعتبر هو ما يصدق عليه مفهوم عدم الوجود المقيد بالقيام إلى الصلاة، فإذا دخل الوقت المضروب للصلاة، وأراد المصلي القيام إليها، فلم يجد حينئذ ما يتوضأ به، أو يغتسل في منزله ومسجده وما يقرب منهما: كان ذلك عذراً مسوغاً للتيمم.
وليس المراد بعدم الوجود في ذلك أن لا يجده بعد الكشف والبحث وإحفاء (1) السؤال، بل المراد أن لا يكون معه علم أو ظن بوجود شيء منه هنالك، ولم يتمكن في تلك الحالة من تحصيله بشراء أو نحوه، فهذا يصدق عليه أنه لم يجد الماء عند أهل اللغة.
والواجب حمل كلام الله على ذلك مع عدم وجود عرف شرعي (2) ، وقد وقع منه [صلى الله عليه وسلم] ما يشعر بما ذكرناه؛ فإنه تيمم في المدينة من جدار؛ كما ثبت ذلك في " الصحيحين " من دون أن يسأل ويطلب، ولم يصح عنه في الطلب شيء تقوم به الحجة، فهذا - كما يدل على عدم وجوب الطلب - يدل على عدم وجوب انتظار آخر الوقت.
ويدل على ذلك حديث الرجلين اللذين تيمما في سفر، ثم وجدوا الماء،
__________
(1) شدته.
(2) وهذه قاعدة مهمة من قواعد الشرع.

(1/200)


فأعاد أحدهما ولم يعد الآخر، فقال [صلى الله عليه وسلم] للذي لم يعد: " أصبت السنة "؛ أخرجه أبو داود، والحاكم وغيرهما من حديث أبي سعيد (1) ، فإنه يرد قول من قال بوجوب الانتظار إلى آخر الوقت على المتيمم، سواء كان مسافراً أو مقيماً.
إذا تقرر لك هذا: استرحت عن الاشتغال بكثير من التفاريع المحررة في كتب الفقه؛ فإن هذه هي ثمرة الاجتهاد.
فأي فرق بين من لا يفرق بين الغث والسمين من المجتهدين، وبين من هو في عداد المقلدين؟ !
( [الخلاف في الصعيد الذي يتيمم به] :)
قال في " القاموس ": والصعيد: التراب، أو وجه الأرض. انتهى.
والثاني هو الظاهر من لفظ الصعيد؛ لأنه ما صعد؛ أي: علا وارتفع على وجه الأرض، وهذه الصفة لا تختص بالتراب، ويؤيد ذلك حديث: " جُعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً "؛ وهو متفق عليه من حديث جابر وغيره.
وما ثبت في رواية بلفظ: " وتربتها طهوراً "؛ كما أخرجه مسلم من حديث حذيفة؛ فهو غير مستلزم لاختصاص التراب بذلك عند عدم الماء،؛ لأن غاية ذلك أن لفظ التراب دل بمفهومه على أن غيره من أجزاء الأرض لا يشاركه في الطهورية.
__________
(1) انظر " المشكاة " (533) ، و " التلخيص الحبير " (1 / 156) .

(1/201)


وهذا مفهوم لقب (1) لا ينتهض لتخصيص عموم الكتاب والسنة، ولهذا لم يعمل به من يعتد به من أئمة الأصول، فيكون ذكر التراب في تلك الرواية من باب التنصيص على بعض أفراد العام.
وهكذا يكون الجواب عن ذكر التراب في غير هذا الحديث، ووجه ذكره: أنه الذي يغلب استعماله في هذه الطهارة، ويؤيد هذا ما تقدم من تيممه [صلى الله عليه وسلم] من جدار.
وأما الاستدلال بوصف الصعيد بالطيب، ودعوى أن الطيب لا يكون إلا تراباً طاهراً منبتاً لقوله - تعالى -: {والبلد الطيب يخرج نباته بإذن ربه والذي خبث لا يخرج إلا نكدا} : فغير مفيد للمطلوب إلا بعد بيان اختصاص الطيب بما ذُكر، والضرورة تدفعه؛ فإن التراب المختلط بالأزبال أجود إخراجاً للنبات.
قال الماتن في " شرح المنتقى " (2) : ومن الأدلة الدالة على أن المراد خصوص التراب ما ورد في القرآن والسنة من ذكر الصعيد، فالأمر بالتيمم منه وهو التراب، لكنه قال في " القاموس ": والصعيد: التراب أو وجه الأرض، وفي " المصباح ": الصعيد وجه الأرض؛ تراباً كان أو غيره، قال الزجاج: لا أعلم اختلافا بين أهل اللغة في ذلك، قال الأزهري: ومذهب أكثر العلماء أن الصعيد في قوله - تعالى -: {صعيدا طيبا} هو التراب، وفي كتاب " فقه اللغة " للثعالبي: الصعيد تراب وجه الأرض، ولم يذكر غيره، وفي " المصباح " - أيضا -: ويقال: الصعيد في كلام العرب يطلق على وجوه: على التراب الذي وجه الأرض، وعلى وجه الأرض، وعلى الطريق.
__________
(1) وهو من أضعف المفاهيم؛ كما قال الصنعاني في " إجابة السائل " (ص 245) .
(2) " نيل الأوطار " (1 / 261) .

(1/202)


ويؤيد حمل الصعيد على العموم تيممه [صلى الله عليه وسلم] من الحائط؛ فلا يتم الاستدلال.
وقد ذهب إلى تخصيص التيمم بالتراب الشافعي، وأحمد، وداود.
وذهب مالك، وأبو حنيفة، وعطاء، والأوزاعي، والثوري إلى أنه يجزئ بالأرض وما عليها.
قال: واستدل القائل بتخصيص التراب بما عند مسلم من حديث حذيفة مرفوعاً بلفظ: " وجُعلت تربتها لنا طهوراً "، وهذا خاص؛ فينبغي أن يُحمل عليه العام.
وأجيب بأن تربة كل مكان ما فيه من تراب أو غيره، فلا يتم الاستدلال.
ورُدّ بأنه ورد في الحديث المذكور بلفظ: " التراب "؛ أخرجه ابن خزيمة وغيره، وفي حديث علي: " جُعل التراب لي طهوراً "؛ أخرجه أحمد والبيهقي بإسناد حسن (1) .
وأجيب أيضا عن ذلك الاستدلال بأن تعليق الحكم بالتربة مفهوم لقب، ومفهوم اللقب ضعيف عند أرباب الأصول، ولم يقل به إلا الدقاق، فلا ينتهض لتخصيص المنطوق.
ورُدّ بأن الحديث سيق لإظهار التشريف، فلو كان جائزاً بغير التراب لما اقتصر عليه؛ وأنت خبير بأنه لم يقتصر على التراب إلا في هذه الرواية.
__________
(1) انظر " صحيح ابن خزيمة " (264) والتعليق عليه.

(1/203)


نعم؛ الافتراق في اللفظ حيث حصل التأكيد في جعلها مسجداً دون الآخر، - كما سيأتي في حديث مسلم - يدل على الافتراق في الحكم.
وأحسن من هذا أن قوله - تعالى - في آية المائدة: {منه} يدل على أن المراد التراب، وذلك لأن كلمة " مِن " للتبعيض (1) كما قال في " الكشاف ": أنه لا يفهم أحد من العرب من قول القائل: مسحت برأسه من الدهن والتراب؛ إلا معنى التبعيض. انتهى.
فإن قلت: سلمنا التبعيض، فما الدليل على أن ذلك البعض هو التراب؟ قلت: التنصيص عليه في الحديث المذكور. انتهى.
( [ما يباح به التيمم] :)
(يستباح به ما يستباح بالوضوء والغسل لمن لا يجد الماء) : لأن حكم التيمم مع العذر المسوغ له حكم الوضوء لمن لم يكن جنباً، وحكم الغسل لمن كان جنبا، يصلي به ما يصلي المتوضئ بوضوئه، ويستبيح به ما يستبيحه المغتسل بغسله، فيصلي به الصلوات المتعددة، ولا ينتقض بفراغ من صلاة، ولا بالاشتغال بغيره، ولا بخروج وقت على ما هو الحق.
والخلاف في ذلك معروف.
والأدلة الواردة لمشروعية التيمم عند عدم الماء ثابتة كتاباً وسنة.
قال في " الحجة ": ولم أجد في حديث صحيح تصريحاً بأنه يجب أن
__________
(1) ولكن؛ ليس دائماً، وتفصيل هذا في مظانّه.

(1/204)


يتيمم لكل فريضة، أو لا يجوز التيمم للآبق ونحوه، وإنما ذلك من التخريجات (1) ، وإنما لم يفرق بين بدل الغسل والوضوء، ولم يشرع التمرغ؛ لأن من حق ما لا يعقل - بادي الرأي - أن يجعل كالمؤثر بالخاصية دون المقدار، فإنه هو الذي اطمأنت نفوسهم به في هذا الباب، ولأن التمرغ فيه بعض الحرج، فلا يصلح رافعاً للحرج بالكلية.
وفي معنى المرض البرد الضار - لحديث (2) عمرو بن العاص - رضي الله عنه -.
والسفر ليس بقيد، إنما هو صورة لعدم وجدان الماء، تتبادر إلى الذهن، وإنما لم يؤمر بمسح الرِّجْل بالتراب؛ لأن الرِّجل محل الأوساخ، وإنما يؤمر بما ليس حاصلاً ليحصل التنبيه به. انتهى.
(أو خشي الضرر من استعماله) : لما أخرجه أبو داود، وابن ماجه، والدارقطني - رحمهم الله -، من حديث جابر - رضي الله عنه -، قال: خرجنا في سفر، فأصاب رجلاً منا حجر، فشجه في رأسه، ثم احتلم، فسأل أصحابه: هل تجدون له رخصة في التيمم؟ فقالوا: ما نجد لك رخصة؛ وأنت تقدر على الماء، فاغتسل فمات، فلما قدمنا على رسول الله [صلى الله عليه وسلم] ؛ أخبرناه بذلك؟ فقال: " قتلوه قتلهم الله، ألا سألوا إذ لم يعلموا؟ ! فإنما شفاء العي السؤال، إنما كان يكفيه أن يتيمم ويعصب على جرحه، ثم يمسح عليه ويغسل
__________
(1) أي: التفريعات التي لا دليل عليها.
(2) سيأتي - بعد -.

(1/205)


سائر جسده (1) ".
وقد تفرد به الزبير بن خريق (2) - رحمه الله - وليس بالقوي، وقد صححه ابن السكن - رحمه الله -.
وروي من طريق أخرى عن ابن عباس - رضي الله عنهما -.
وقد ذهب إلى مشروعية التيمم بالعذر الجمهور.
__________
(1) • حديث جابر - هذا - ضعيف السند؛ كما ذكر المؤلف.
لكن له شاهد من حديث ابن عباس، يرتقي به إلى درجة الحسن، فيصح أن يحتج به على مشروعية التيمم، لخوف الضرر من استعمال الماء.
ولكن ليس في حديث ابن عباس: " ويعصب على جرحه ... " الخ؛ فهذه الزيادة من الحديث ضعيفة، فلا يحتج بها على مشروعية المسح على الجبيرة، وإن كان ورد في المسح عليها أحاديث أخرى؛ فإنها ضعيفة جداً، لا يصح أن يتقوى الحكم بها؛ لشدة ضعفها: خلافاً لما ذكره الشيخ سيد سابق في " فقه السنة "، وقد فصلت القول في ذلك في " تمام المنة في التعليق على فقه السنة ".
نعم؛ صح عن ابن عمر - رضي الله عنه - أنه توضأ وكفه معصوبة، فمسح على العصائب، وغسل سوى ذلك؛ رواه البيهقي (1 / 328) .
وقد دعم بعضهم المسح على الجبيرة؛ بالقياس على المسح على العمامة والخفين.
فمن ظهر له قوة هذا القياس بالإضافة إلى أثر ابن عمر؛ مسح على الجبيرة.
وإلا؛ فلا يشرع المسح؛ وهذا الذي أراه؛ لعدم قيام دليل تقوم به الحجة عندي. أما الحديث؛ فقد عرفت ضعفه، هو وما في معناه.
وأما الأثر؛ فلا حجة فيه توجب العمل به.
وأما القياس؛ فلا يجوز القول به في العبادات.
والخلاصة: أن الجريح يكفيه أن يغسل سائر بدنه أو أعضائه، دون أن يمسح على الجبيرة، والله أعلم. (ن)
قلت: انظر " تمام المنة " (ص 131) .
وانظر تعليقي على " مفتاح دار السعادة " (1 / 368 - 370) لابن القيم.
(2) • بالتصغير؛ وهو لين الحديث، كما في " التقريب ". (ن)

(1/206)


وذهب أحمد بن حنبل - رحمه الله -، وروي عن الشافعي - رحمه الله - في قول له - أنه لا يجوز التيمم لخشية الضرر.
ولا أدري كيف صحة ذلك عنهما (1) ؟ {فإن هذا الحديث يؤيده قوله - تعالى -: {وإن كنتم مرضى} الآية.
وكذلك حديث المسح على الجبائر (2) المروي عن علي - رضي الله عنه -.
وكذلك حديث عمرو بن العاص: لما بعثه رسول الله [صلى الله عليه وسلم] في غزوة ذات السلاسل، فاحتلم في ليلة باردة، فتيمم وصلى بأصحابه، فلما قدموا ذكروا ذلك لرسول الله [صلى الله عليه وسلم] ؟ فقال: " يا عمرو} أصليت مع أصحابك وأنت جنب؟ "، فقال: ذكرت قوله الله - تعالى -: {ولا تقتلوا أنفسكم إن الله كان بكم رحيما} ، فتيممت ثم صليت، فضحك رسول الله [صلى الله عليه وسلم] ، ولم يقل شيئاً. رواه أحمد، والدارقطني، وابن حبان، والحاكم، وأخرجه البخاري تعليقاً (3) .
قال في " الحجة ": وكان عمر وابن مسعود - رضي الله عنهما - لا يريان التيمم عن الجنابة، وحملا الآية على اللمس (4) ، وأنه ينقض الوضوء، لكن حديث عمران وعمار يشهد بخلاف ذلك.
__________
(1) قارن ب " الإنصاف " (1 / 265) للمرداوي، و " مُغني المحتاج " (1 / 92) للشربيني.
(2) هو في " سنن ابن ماجه " (657) ، وإسناده ضعيف.
(3) انظر " الإرواء " (154) .
(4) انظر " الأوسط " (2 / 15) لابن المنذر، و " تفسير القرطبي " (5 / 223) .
وقال الترمذي في " سننه " (1 / 39) - ونقله الشوكاني في " نيل الأوطار " (1 / 322) -: " وقيل: إن عمر وعبد الله رجعا عن ذلك ".
قلت: وهذا مروي في " الصحيحين "، وانظر " جامع الأصول " (7 / 252) .

(1/207)


( [أعضاء التيمم] :)
(وأعضاؤه: الوجه ثم الكفان يمسحهما) ؛ أي: الوجه والكفين؛ لما ورد من الأحاديث الصحيحة قولاً وفعلاً، وقد أشار بالعطف ب (ثم) إلى الترتيب بين الوجه والكفين.
وأما الاقتصار على الكفين: فلكون الأحاديث الصحيحة مصرحة بذلك:
منها حديث عمار بن ياسر: أن النبي [صلى الله عليه وسلم] أمره بالتيمم للوجه والكفين؛ أخرجه الترمذي وغيره - وصححه -.
ومنها ما في " الصحيحين " من حديث عمار - أيضا -: أن النبي [صلى الله عليه وسلم] قال له: " إنما كان يكفيك هكذا "، وضرب النبي [صلى الله عليه وسلم] بكفيه الأرض، ونفخ فيهما، ثم مسح بهما وجهه وكفيه.
وفي لفظ للدارقطني: " إنما كان يكفيك أن تضرب بكفيك في التراب، ثم تنفخ فيهما، ثم تمسح بهما وجهك وكفيك إلى الرسغين ".
وقد ذهب إلى أنه يُقتصر من اليدين على الكفين عطاء، ومكحول، والأوزاعي، وأحمد، وإسحاق، وابن المنذر، وعامة أصحاب الحديث. هكذا في " شرح مسلم ".
وذهب الجمهور إلى أن المسح في التيمم إلى المرفقين.
وذهب الزهري إلى أنه يجب المسح إلى الإبطين.
وقال الخطابي: إنه لم يختلف أحد من أهل العلم في أنه لا يلزم مسح

(1/208)


ما وراء المرفقين.
والحق ما ذهب إليه الأولون؛ لأن الأدلة التي استدل بها الجمهور منها ما لا ينتهض للاحتجاج به، كحديث ابن عمر عند الدارقطني، والحاكم، والبيهقي، مرفوعاً بلفظ: " التيمم ضربتان: ضربة للوجه، وضربة لليدين إلى المرفقين "؛ وفي إسناده علي بن ظبيان (1) ، قال الدارقطني: وثقه (2) يحيى بن [سعيد بن] القطان وهشيم وغيرهما، وقال الحافظ: هو ضعيف؛ ضعفه ابن القطان، وابن معين، وغير واحد.
وأما ما ورد فيه لفظ اليدين - كما وقع في بعض روايات من حديث عمار -: فالمطلق يحمل على المقيد بالكفين.
واحتج الزهري بما ورد في رواية من حديث عمار أيضا بلفظ: ". . إلى الآباط "؛ وقد نسخ ذلك ما قال الشافعي.
( [كيفية التيمم] :)
(مرة بضربة واحدة) : لأن ذلك هو الثابت في الأحاديث الصحيحة، ولم يثبت ما يخالف ذلك من وجه صحيح.
وقد ذهب إلى كون التيمم ضربة واحدة للوجه والكفين الجمهور.
وذهب جماعة من الأئمة والفقهاء إلى أن الواجب ضربتان: ضربة للوجه، وضربة لليدين.
__________
(1) • بفتح المعجمة؛ ضعفه في " التقريب ". (ن)
(2) كذا! والصواب: " وقفه "؛ كما في " السنن " (1 / 180) .

(1/209)


وذهب ابن المسيب وابن سيرين إلى أن الواجب ثلاثة ضربات: ضربة للوجه، وضربة للكفين، وضربة للذراعين.
(ناوياً مسمياً) لما تقدم في الوضوء؛ لأنه بدل عنه، وأدلة النية شاملة لكل عمل.
( [نواقض التيمم] :)
(ونواقضه نواقض الوضوء) : لما ذكرنا من البدلية (1) ، ومن أثبت للتيمم شيئاً من النواقض لم يثبت في الوضوء؛ لم يقبل منه ذلك إلا بدليل، ولم نجد دليلاً تقوم به الحجة يصلح لذلك، فالواجب الاقتصار على نواقض الوضوء.
وأما وجود الماء في الوقت بعد الفراغ من الصلاة بالتيمم؛ فقد صرح النبي -[صلى الله عليه وسلم]- لمن لم يعد الصلاة من الرجلين اللذين سألاه بعد أن صلياها بالتيمم، ثم وجدا الماء، أن الذي لم يعد أصاب السنة، والحديث معروف (2) .
وأما قوله للذي أعاد: " لك الأجر مرتين "؛ فلكونه قد كرر العبادة معتقداً وجوب ذلك، فكان له الأجر الآخر لذلك.
وليس المراد ههنا إلا الإجزاء وسقوط الوجوب، وقد أفاد ذلك قوله [صلى الله عليه وسلم] : " أصبت السنة "، مع ما في إصابة السنة من الخير والبركة، والتعريض (3)
__________
(1) أي: في الحكم.
(2) وقد تقدم.
(3) الإشارة.

(1/210)


بأن ما عدا ذلك مخالف للسنة كما لا يخفى.
وأما القول بأن من أسباب التيمم تعذر استعمال الماء وخوف سبيله - ونحو ذلك -: فلا يخفى أن هذه داخلة تحت ما ذكرناه من عدم الماء أو خشية الضرر من استعماله؛ فإن من تعذر عليه استعمال الماء؛ هو عادم للماء؛ إذ ليس المراد الوجود الذي لا ينفع، فمن كان يشاهد ماء في قعر بئر، يتعذر عليه الوصول إليه بوجه من الوجوه؛ فهو عادم، وهكذا خوف السبيل الذي يسلك إلى الماء، وهكذا من كان ينجسه - ولا محالة - إذا استعمله، وهكذا من كان يحتاجه للشرب؛ فهو عادم له بالنسبة إلى الوضوء.
وأما ما قيل من أن فوات الصلاة باستعمال الماء وإدراكها بالتيمم سبب من أسباب التيمم! فليس على ذلك دليل، بل الواجب استعمال الماء، وهو إن كان تراخيه عن تأدية الصلاة إلى ذلك الوقت لعذر مسوغ للتأخير - كالنوم والسهو ونحوهما -؛ فلم يوجب الله - تعالى - عليه إلا تأدية الصلاة في ذلك الوقت بالطهور الذي أوجبه الله - تعالى -، وإن كان التراخي لا لعذر إلى وقت لو استعمل الوضوء فيه لخرج الوقت: فعليه الوضوء وقد باء بإثم المعصية.
وأما ما قيل من الطلب إلى مقادير محدودة: فليس على ذلك حجة نيرة.

(1/211)


(7 - باب الحيض والنفاس)
( [الفصل الأول: أحكام الحيض] )
( [عدم وجود دليل بتحديد أقل الحيض وأكثره] :)
(لم يأت في تقدير أقله وأكثره ما تقوم به الحجة، وكذلك الطهر) ؛ لأن ما ورد في تقدير أقل الحيض والطهر وأكثرهما، فهو إما موقوف ولا تقوم به الحجة، أو مرفوع ولا يصح، فلا تعويل على ذلك ولا رجوع إليه، بل المعتبر لذات العادة المتقررة هو العادة، وغير المعتادة تعمل بالقرائن المستفادة من الدم.
( [تعمل المرأة بعادتها] :)
(فذات العادة المتقررة تعمل عليها) فقد صح في غير حديث اعتبار الشارع للعادة كحديث: " إذا أقبلت الحيضة فاتركي الصلاة، فإذا ذهب قدرها فاغسلي عنك الدم وصلي " أخرجه البخاري وغيره من حديث عائشة.
وأخرج مسلم وغيره من حديثها - نحو ذلك -.
وأخرج أحمد، وأبو داود، والنسائي، وابن ماجه من حديث أم سلمة: " أنها استفتت النبي [صلى الله عليه وسلم] في امرأة تهراق الدم؟ فقال: " لتنتظر قدر الليالي

(1/212)


والأيام التي كانت تحيضهن وقدرهن من الشهر (1) فتدع الصلاة " وهو حديث صالح للاحتجاج به.
وكذلك حديث زينب بنت جحش: " أن النبي [صلى الله عليه وسلم] قال في المستحاضة: " تجلس أيام أقرائها " أخرجه النسائي (2) .
والأحاديث في هذا المعنى كثيرة.
( [تعمل المرأة غير المعتادة بالقرائن المستفادة من الدم] :)
(وغيرها ترجع إلى القرائن) المستفادة من الدم؛ لحديث فاطمة بنت أبي حبيش: أنها كانت تستحاض، فقال لها النبي [صلى الله عليه وسلم] : " إن كان دم الحيض فإنه أسود يُعرف (3) ، فإذا كان ذلك فأمسكي عن الصلاة، وإذا كان الآخر فتوضئي وصلي؛ فإنما هو عِرْق " أخرجه أبو داود، والنسائي، وصححه ابن حبان، والحاكم، وأخرجه أيضا الدارقطني، والبيهقي، والحاكم، - أيضا - بزيادة: " فإنما هو داء عرَض، أو ركضة من الشيطان، أو عرق انقطع " (4) .
__________
(1) • قوله: " وقدرهن من الشهر "؛ هي زيادة في رواية لابن ماجه، وليست عند النسائي. (ن)
قلت: وانظر " صحيح سنن ابن ماجه " (561) ، و " المشكاة " (599) .
(2) (برقم: 361) وسنده صحيح.
(3) بضم الياء وكسر الراء، أي: له عرف أي: رائحة تعرفها النساء، ويروى بفتح الراء؛ أي: تعرفه النساء، وهو الأظهر. (ش)
(4) هذه الرواية في " المستدرك " (1 / 175) من طريق أبي عاصم النبيل، وفي " الدارقطني " (ص 80) من طريق محمد بن بكر البرساني، وأبي عاصم - كلاهما -، عن عثمان بن سعد، عن ابن أبي مليكة، أن فاطمة بنت أبي حبيش استحيضت ... الخ، وهي خالة ابن أبي مليكة؛ وهو إسناد صحيح؛ ظاهره الإرسال، وبذلك أعله الذهبي.
وقد أخطأ المصنف [أي: مصنف " الأصل "] في " نيل الأوطار " خطأ غريباً، فقال: " وقد استنكر هذا الحديث أبو حاتم؛ لأنه من رواية عدي بن ثابت، عن أبيه، عن جده، وجده لا يُعرف " اه. =

(1/213)


( [صفات دم الحيض] :)
(فدم الحيض يتميز عن غيره، فتكون حائضا إذا رأت دم الحيض) أخرج أبو داود، والنسائي؛ من حديث فاطمة بنت أبي حبيش، أنه قال [صلى الله عليه وسلم] : " دم الحيض أسود يُعرف " صححه ابن حزم، وأخرج النسائي من حديث عائشة مرفوعاً - نحوه (1) -.
وأخرج الطبراني، والدارقطني من حديث أبي أمامة مرفوعاً، بلفظ: " دم الحيض لا يكون إلا أسود " (2) ، فدلت هذه الأحاديث على أنه لا يقال للصفرة والكُدرة: دم حيض، ولا يعتد بها سواء كانت بين دمي حيض أو بعد دم الحيض، وليس التحيض بين دمي الحيض مع تخلل الصفرة والكدرة لأجلهما، بل لكون ما توسط بين دمي الحيض حيضا، كما لو لم يخرج دم أصلا بين دمي الحيض.
ولا يعارض هذا ما أخرجه في " الموطأ " - وعلقه في " البخاري " -: أن
__________
= وليس لعدي في إسناده ذكر! بل هذا حديث آخر غيره. (ش)
قلت: و " ركضة الشيطان ": إضراره بها، والمراد: أنه طريق يلبّس الشيطان عليها في أمر دينها وطهرها.
كذا في " النهاية " (2 / 259) لابن الأثير.
والأولى حمله - أيضا - على الحقيقة.
(1) • قلت: حديث عائشة هو حديث فاطمة، لكن بعض الرواة رواه مرة عن عروة عن فاطمة، ومرة أدخل بينهما عائشة، كما بينت ذلك في " صحيح سنن أبي داود " رقم (284، 285) . (ن)
(2) في " سنن الدارقطني " (ص 80) بهذا اللفظ، ورواه البيهقي (ج 1 ص 326) والدارقطني (ص 80) بلفظ: " ودم حيض أسود خاثر تعلوه حمرة "؛ واللفظان ضعيفان؛ فإنهما من رواية العلاء بن كثير - وهو ضعيف -، عن مكحول، عن أبي أمامة؛ ومكحول لم يسمع من أبي أمامة شيئا؛ كما قال الدارقطني. (ش)
قلت: وانظر " سنن الدارقطني " (1 / 218) ، و " مجمع الزوائد " (1 / 280) ؛ فقد ضعفاه.

(1/214)


النساء كن يبعثن إلى عائشة بالدِّرَجة فيها الصفرة والكدرة من دم الحيض ليسألنها عن الصلاة؟ فتقول لهن: لا تعجلن حتى ترين القصة البيضاء "؛ فإن هذا - مع كونه رأيا (1) منها - ليس بمخالف لما تقدم؛ لأنها لم تخبرهن بأن الصفرة والكدرة حيض، إنما أمرتهن بالانتظار إلى حصول دليل يدل على أنه قد انقضى الحيض، وهو خروج القصة، فمتى خرجت لم يخرج بعدها دم حيض، ولم تأمرهن بالانتظار ما دامت الصفرة والكدرة.
وهذا واضح لا يخفى.
( [تعريف المستحاضة وأحكامها) :)
(ومستحاضة) ؛ وهي التي يستمر خروج الدم منها.
(إذا رأت غيره) تعمل على العادة المتقررة، فتكون فيها حائضاً تثبت لها فيه أحكام الحائض، وفي غير أيام العادة تكون طاهراً لها حكم الطاهر.
( [تُعامل المستحاضة كالطاهرة] :)
(وهي كالطاهرة) كما أفادت ذلك الأحاديث الصحيحة الواردة من غير
__________
(1) • قلت: لكن يشهد له مفهوم حديث أم عطية، قالت: كنا لا نعد الكدرة والصفرة بعد الطهر شيئاً، أخرجه أبو داود وغيره بسند صحيح، كما بينته في " صحيح أبي داود " رقم (325) ، فهو يدل بمفهومه على أنهن كن يعددن ذلك قبل الطهر - أي: في الحيض - حيضاً.
وتأويل المصنف حديث عائشة بعيد جدا عن الحقيقة، بل هو صريح على أنها كانت ترى أن الحائض لا تطهر بانقطاع الدم الأسود عنها؛ بل لا بد من انقطاع الصفرة والكدرة؛ وإلا لما جاز أن تأمر بالانتظار، الذي يقضي بتضييع بعض الصلوات، لو كان الحيض هو الدم الأسود فقط، فتأمل. (ن)
قلت: و (الدّرَجة) : هو أشبه بالوعاء الذي توضع فيه الأشياء؛ كما في " النهاية " (2 / 111) لابن الأثير.
وانظر " تمام المنة " (ص 136) .

(1/215)


وجه، فإذا لم تكن لها عادة متقررة كالمبتدأة والملتبسة عليها عادتها؛ فإنها ترجع إلى التمييز، فإن دم الحيض أسود يُعرف - كما قال -[صلى الله عليه وسلم] فتكون إذا رأت دماً كذلك: حائضاً، وإذا رأت دماً ليس كذلك: طاهراً.
وقد أطال الناس الكلام في هذا الباب في غير طائل، وكثرت فيه التفريعات والتدقيقات، والأمر أيسر من ذلك.
(وتغسل أثر الدم) لقوله [صلى الله عليه وسلم] في حديث عائشة الثابت في " الصحيح ": " فاغسلي عنك الدم وصلي "، وقد ورد ما يفيد معنى ذلك من غير وجه.
( [المستحاضة تتوضأ لكل صلاة] :)
(وتتوضأ لكل صلاة) وذلك هو الذي ورد من وجه معتبر (1) ، وإذا جمعت بين الصلاتين فأخرت الأولى إلى آخر وقتها، وقدمت الثانية في أول وقتها كان لها أن تصليهما بوضوء واحد.
ولم يأت في شيء من الأحاديث الصحيحة إيجاب الغسل لكل صلاة، ولا لكل صلاتين، ولا في كل يوم، بل الذي صح إيجاب الغسل عند انقضاء وقت حيضها المعتاد، أو عند انقضاء ما يقوم مقام العادة من التمييز بالقرائن، كما في حديث عائشة في " الصحيحين " وغيرهما بلفظ: " فإذا أقبلت الحيضة فدعي الصلاة، فإذا أدبرت فاغسلي عنك الدم وصلي ".
وأما ما في " صحيح مسلم ": " أن أم حبيبة كانت تغتسل لكل صلاة ":
__________
(1) كحديث عائشة في قصة فاطمة بنت أبي حبيش؛ وقد رواه مسلم (333) .

(1/216)


فلا حجة في ذلك؛ لأنها فعلته من جهة نفسها، ولم يأمرها النبي [صلى الله عليه وسلم] بذلك، بل قال لها: " امكثي قدر ما كانت تحبسك حيضتك ثم اغتسلي "؛ فإن ظاهر هذه العبارة أنها تغتسل بعد المكث قدْر ما كانت تحبسها الحيضة، وذلك هو الغسل الكائن عند إدبار الحيضة، وليس فيه ما يدل على أنها تغتسل لكل صلاة.
وقد ورد الغسل لكل صلاة من طرق لا تقوم بمثلها الحجة (1) ، لا سيما مع معارضتها لما ثبت في " الصحيح "، ومع ما في ذلك من المشقة العظيمة على النساء الناقصات العقول والأديان، والشريعة سمحة سهلة، {وما جعل عليكم في الدين من حرج} ، {فاتقوا الله ما استطعتم} .
( [أحكام الحائض] :)
(والحائض لا تصلي ولا تصوم) لما ورد في ذلك من الأدلة الصحيحة؛ كحديث: " أليس إذا حاضت لم تصل ولم تصم؟ ! "، وهو في " الصحيحين " وغيرهما من حديث أبي سعيد - وهو مجمع عليه -، وكان هذا شأن الحائض في زمن النبوة وأيام الصحابة فمن بعدهم، أنها تدع الصلاة والصوم أيام حيضتها، وتقضي الصوم لا الصلاة بعد طهرها.
ولم يخالف في ذلك غير الخوارج (2) ، ولا ريب أن القضاء إن كان بدليل الأصل - كما ذهب إليه البعض - فلا وجوب للأصل ههنا، ولا دليل عليه في حال الحيض، وإن كان بدليل جديد غير دليل المقضي، فلم يقم في الصلاة
__________
(1) وقد جزم بذلك الإمام النووي في " المجموع " (2 / 536) .
(2) وفي ذلك حديث عائشة المروي في " الصحيحين ".
وانظر " إرواء الغليل " (200) لشيخنا، و " شرح الترمذي " (1 / 235) للشيخ أحمد شاكر.

(1/217)


وقام في الصيام، فطاح القياس وذهب الإلزام.
( [الحائض لا توطأ حتى تغتسل بعد الطهر] :)
(و) أما كونها (لا توطأ حتى تغتسل بعد الطهر) فذلك نص الكتاب العزيز؛ قال الله - تعالى - {ويسألونك عن المحيض قل هو أذى فاعتزلوا النساء في المحيض} ، والأحاديث في ذلك كثيرة؛ منها قوله [صلى الله عليه وسلم] : " اصنعوا كل شيء إلا النكاح " وهو في " الصحيح "، وهو مجمع على تحريم ذلك، ليس فيه خلاف.
وتحريم الصلاة والصوم على الحائض كما تقدم، وكذلك وطؤها: هو إلى غاية هي الغسل بعد الطهر - كما صرحت بذلك الأدلة -.
( [الحائض تقضي الصيام ولا تقضي الصلاة] :)
(و) أما كونها (تقضي الصيام) فلحديث عائشة بلفظ: " فنؤمر بقضاء الصيام ولا نؤمر بقضاء الصلاة "، وهو في " الصحيحين " وغيرهما.
وقد نقل ابن المنذر والنووي وغيرهما إجماع المسلمين على ذلك، وحكى ابن عبد البر عن طائفة من الخوارج أنهم كانوا يوجبون على الحائض قضاء الصلاة!
ولا يقدح في إجماع الأمة مخالفة هؤلاء الذين هم كلاب النار (1) .
(فصل: [أحكام النفساء] )
( [أكثر النفاس أربعون يوماً ولا حد لأقله] :)
__________
(1) صح وصفهم بذلك في السنة؛ فانظر " ظلال الجنة بتخريج كتاب السنة " (904) و (905) لشيخنا.

(1/218)


(والنفاس أكثره أربعون يوماً) لحديث أم سلمة، قالت: " كانت النفساء تجلس على عهد رسول الله [صلى الله عليه وسلم] أربعين يوماً " أخرجه أحمد، وأبو داود، والترمذي، والدارقطني، والحاكم (1) ، وللحديث طرق يقوي بعضها بعضاً.
وإلى ذلك ذهب الجمهور.
وقد قيل: إن أكثره ستون يوماً، وقيل: سبعون يوماً، وقيل: خمسون، وقيل: نيف وعشرون، والحق الأول، وهذا القدر هو أرجح ما قيل؛ لأن ما عداه خال عن الدليل.
(و) أما كونه (لا حد لأقله) فلم يأت في ذلك دليل، بل ما دام الدم باقياً كانت المرأة نفساء، فإن انقطع قبل الأربعين اقتطع عنها حكم النفاس، فإن جاوز دمها الأربعين عاملت نفسها معاملة المستحاضة إذا جاوزت أيام العادة المتقررة.
( [أحكام النفساء كأحكام الحائض] :)
(وهو) أي: النفاس (كالحيض) في تحريم الوطء وترك الصلاة والصيام، ولا خلاف في ذلك، وكذلك لا تقضي النفساء الصلاة.
في رواية لأبي داود من حديث أم سلمة، قالت: " كانت المرأة من نساء النبي [صلى الله عليه وسلم] تقعد في النفاس أربعين ليلة لا يأمرها النبي -[صلى الله عليه وسلم]- بقضاء صلاة النفاس ".
__________
(1) • (1 / 175) ، وقال: " صحيح "، ووافقه الذهبي. (ن)

(1/219)


وقد تقدم الإجماع على ذلك في الحائض، وهو في النفاس إجماع كذلك.
ولعل الخوارج يخالفون ههنا كما خالفوا هنالك! ولا يُعتد بهم.

(1/220)