الروضة
الندية شرح الدرر البهية كتاب الصلاة
مقدمة
...
كتاب الصلاة
قال الله تعالى: {حَافِظُوا عَلَى
الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى
وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} والأمر بمطلق
الصلاة إنما يفيد الإتيان بها في زمان ومكان
من دون تعيين لأن مطلق الزمان والمكان من
ضروريات الفعل, وأما الوقت الخاص الذي شرع
الله فيه الصلاة وكذلك كونها على هيئة مخصومة
مع شروط محصورة فهذا لا دلالة للآية عليه
بمطابقة ولا تضمن ولا التزام ولم يدل على ذلك
إلا السنة الثابتة عنه صلى الله وسلم عليه
قولا وفعلا وليس في القرآن من ذلك إلا النادر
القليل كقوله تعالى: {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى
الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ} فإنه في
هذه الآية ذكر الوضوء وهو شرط من شروط الصلاة
وقيد الأمر به بالقيام إليها فكان ذلك مقيدا
لوجوب الفعل ولا بد للشرطية من دليل أخص من
ذلك وقد ورد في السنة ما يفيد الشرطية وكذلك
ورد في القرآن ذكر بعض هيآت الصلاة كالسجود
والركوع ولكن بدون ذكر صفة ولا عدد ولا كون
ذلك في الموضع الذي بينته السنة المطهرة, "أول
وقت الظهر" تعيين أول الأوقات وآخرها قد ثبت
في الأحاديث الصحيحة من تعليم جبرائيل عليه
السلام له صلى الله وسلم عليه ومن تعليمه صلى
الله وسلم عليه لمن سأله وغير ذلك من أقواله
وأفعاله. "الزوال" أي زوال الشمس ويبين ذلك
باخضرار الجدار إلى جهة الشرق يعرفه كل ذي
عينين. "وآخره مصير ظل الشيء مثله سوى فيء
الزوال" فإن قلت: أخرج النسائي وأبو داود
(1/66)
من حديث ابن
مسعود: كان قدر صلاة رسول الله صلى الله وسلم
عليه في الصيف ثلاثة أقدام إلى خمسة أقدام وفي
الشتاء خمسة أقدام إلى سبعة أقدام. قلت: إنهم
حملوه على الإبراد كما قاله ابن العربي
المالكي في القبس وتبعه الحافظ السيوطي وأنه
حديث قد قدح فيه فإنه من رواية عبيدة بن حميد
الطيبي الكوفي عن أبي مالك سعد بن طارق عن
كثير بن مدرك عن الأسود وفي عبيدة وشيخه سعد
خلاف ففي الميزان في ترجمة سعد وثقه أحمد وابن
معين وقال العقيلي: لا يتابع على حديثه في
القبول وقد ضعف عبد الحق حديث تقدير صلاة رسول
الله صلى الله وسلم عليه بالأقدام في الشتاء
والصيف والعجب من الحافظ ابن الحجر في التلخيص
لم يتكلم على لفظ الحديث ولا سنده وذكر كلام
ابن العربي وأبطله السيد محمد الأمير في
اليواقيت نعم أيام الشتاء يحسن التأني بالظهر
حتى يحصل ظن أن الشمس لو كانت في كبد السماء
أن قد زالت لأنه يدرك بالحس والمشاهدة إذا
كانت من جهة الجنوب لأن ظلها يزداد في جهة
الشرق زيادة كثيرة لكن لا إلى الحد الذى يقدر
بالأقدام وغايته أن ينظر في أمارات تحصل الظن
بالزوال وأهل الأقدام ليس معهم إلا الظن لا
غير وليس أحد مخاطبا بظن غيره بل بظن نفسه
فتأمل. وهو أول وقت العصر أي صيرورة ظله مثله
قال ابن القيم: وإنهم كانوا يصلونها مع النبي
صلى الله وسلم عليه ثم يذهب أحدهم إلى العوالي
قدر أربعة أميال والشمس مرتفعة1, وقال أنس صلى
بنا رسول الله صلى الله وسلم عليه العصر فأتاه
رجل من بني سلمة فقال يا رسول الله: إنا نريد
أن ننحر جزورا وإنا نحب أن تحضرها. قال: "نعم"
فانطلق وانطلقنا معه فوجد الجزور لم تنحر
فنحرت ثم قطعت ثم طبخ منها ثم أكلنا منها قبل
أن تغيب الشمس2, ومحال أن يكون هذا بعد
المثلين وفي صحيح مسلم عنه: "وقت صلاة الظهر
ما لم يحضر العصر" 3 , ولا معارض لهذه السنن
في الصحة ولا في الصراحة والبيان فردت بالمجمل
من قوله صلى الله وسلم عليه: "ومثل أهل الكتاب
قبلكم كمثل رجل استأجر أجيرا فقال: من يعمل
إلى نصف النهار على قيراط قيراط"
ـــــــ
1 رواه الجماعة إلا الترمذي من حديث أنس بن
مالك.
2 رواه مسلم في صحيحه.
3 رواه أحمد ومسلم وأبو داود والنسائي من حديث
عبد الله بن عمرو بن العاص مطولا وسيذكره
الشارح في الكلام على أخره وقت العصر.
(1/67)
الخ ويا لله
العجب أي دلالة في هذا على أنه لا يدخل وقت
العصر حتى يصير الظل مثلين بنوع من أنواع
الدلالة وإنما يدل على أن من صلاة العصر إلى
غروب الشمس أقصر من نصف النهار إلى وقت العصر
وهذا لا ريب فيه انتهى. وآخره أي آخر وقت
العصر صيرورة ظله مثليه قال الشافعي: آخر
الوقت المختار للعصر أن يكون ظل كل شيء مثليه
وقيل: إلى أن تصفر الشمس وآخر وقت الضرورة
مغيب الشمس كذا في المسوى وفي الحجة البالغة
وكثير من الأحاديث يدل على أن آخر وقت العصر
أن تتغير الشمس وهو الذي أطبق عليه الفقهاء
فلعل المثلين بيان لآخر الوقت المختار والذي
يستحب فيه أو نقول لعل الشرع نظر أولا إلى
المقصود من اشتقاق العصر أن يكون الفصل بين كل
صلاتين نحوا من ربع النهار فجعل الأمد الآخر
بلوغ الظل إلى المثلين ثم ظهر من حوائجهم
وأشغالهم ما يوجب الحكم بزيادة الأمد وأيضا
معرفة ذلك الحد تحتاج إلى ضرب من التأمل وحفظ
الفيء الأصلي ورصد وإنما ينبغي أن يخاطب الناس
في مثل ذلك بما هو محسوس ظاهر فنفث الله تعالى
في روعه صلى الله وسلم عليه أن يجعل الأمد
تغيير قرص الشمس أو ضوئها والله تعالى أعلم.
"مادامت الشمس بيضاء نقية" فإذا اصفرت خرج وقت
العصر لما ورد في ذلك من الأحاديث منها حديث
ابن عمرو قال: قال رسول الله صلى وسلم عليه:
"وقت صلاة الظهر ما لم يحضر العصر ووقت صلاة
العصر ما لم تصفر الشمس ووقت صلاة المغرب ما
لم يسقط ثور1 الشفق ووقت صلاة العشاء إلى نصف
الليل ووقت صلاة الفجر ما لم تطلع الشمس" .
أخرجه مسلم وأحمد والنسائي وأبو داود ولا
يخالف ما وقع في هذا الحديث في آخر وقت العصر
والعشاء ما ورد في بعض الأحاديث أن آخر وقت
العصر مصير ظل الشيء مثليه وآخر وقت العشاء
ذهاب ثلث الليل. فإن هذا الحديث قد تضمن زيادة
غير منافية للأصل لأن وقت اصفرار الشمس هو
متأخر عن المثلين إذ هي تبقى بيضاء نقية بعد
المثلين وكذلك نصف الليل هو متضمن لزيادة غير
منافية لما وقع في رواية بلفظ ثلث الليل على
أن الرواية المتضمنة للزيادتين
ـــــــ
1 بفتح الثاء المثلثة وإسكان الواو أي ثورانه
وانتشاره ومعظمه وفي القاموس أنه حمرة الشفق
الثائرة فيه، قاله المصنف في نيل الأوطار.
(1/68)
هي أصح من
الأخرى1. وأول وقت المغرب غروب الشمس أي سقوط
القرص وهو وقت الاختيار الذي يجوز أن يصلي فيه
من غير كراهية والعمدة فيه حديثان: حديث
جبرائيل عليه السلام فإنه صلى بالنبي صلى الله
وسلم عليه يومين وحديث بريدة ففيه أنه صلى
الله وسلم عليه أجاب السائل عنها أي عن
الأوقات بأن صلى يومين والمفسر منهما قاض على
المبهم وما اختلف يتبع فيه حديث بريدة لأنه
مدني متأخر والأول مكي متقدم وإنما يتبع الآخر
كذا في الحجة. "وآخره ذهاب الشفق الأحمر" جميع
كتب اللغة مصرحة بهذا وجميع أشعار العرب ومن
بعدهم زعم أن الشفق في لسان أهل اللغة أو لسان
أهل الشرع يطلق على البياض فعليه الدليل ولا
دليل ولو فرض وجود ما يدل على ذلك فلا ينكر
ندوره كما لا ينكر أن الشائع في لسان العرب
وأهل الشرع وإطلاقه على الحمرة والحمل على
الأعم الأغلب هو الواجب ولا يحمل على النادر
فليس ههنا ما يسوغ اختلاف المذاهب قال ابن
القيم رح تعالى: امتداد وقت المغرب إلى سقوط
الشفق كما في صحيح مسلم من حديث عبد الله بن
عمر وقد تقدم وفي صحيحه أيضا عن أبي موسى أن
سائلا سأل رسول الله صلى الله وسلم عليه عن
المواقيت فذكر الحديث وفيه: فأمره فأقام
المغرب حين وجبت الشمس فلما كان اليوم الثاني
قال: ثم أخر المغرب حتى كان عند سقوط الشفق ثم
قال: الوقت ما بين هذين. وهذا متأخر عن حديث
جبرائيل عليه السلام لأنه كان بمكة وهذا قول
وذلك فعل وهذا يدل على الجواز وذلك على
الاستحباب وهذا في الصحيح وهذا في السنن وهذا
يوافق قوله صلى الله وسلم عليه: "وقت كل صلاة
ما لم يدخل وقت التي بعدها" وإنما خص منه
الفجر بالإجماع فما عداها من الصلوات داخل في
عمومه والفعل إنما يدل على الاستحباب فلا
يعارض العام ولا الخالص. "وهو" أي ذهاب
ـــــــ
1 اختار المصنف وتبعه الشارح أن وقت العصر ما
دامت الشمس بيضاء نقية. وقد صح عن رسول الله
صلى الله عليه وسلم أنه قال: "من أدرك ركعة من
العصر قبل أن تغرب الشمس فقد أدرك العصر" رواه
الجماعة من حديث أبي هريرة وهو نص صريح في أن
آخر وقت العصر إلى غروب الشمس وروى نحوه أحمد
ومسلم والنسائي وابن ماجه من حديث عائشة.
وتأوله الشارح باختصاص هذا الوقت بالمضطرين
ولكن صنيعه في وقت الصبح هنا وجعل آخره طلوع
الشمس وهو في الحديث وارد مع العصر يرد عليه
فإن حكمها واحد في الحديث نعم يكره التأخير
إلى الوقت لغير المضطر ولكن هذا شيء وخروج
الوقت شيء آخر.
(1/69)
الشفق غروبه
"أول العشاء" للإجماع على دخوله بالشفق،
والأحمر هو المتبادر منه لأن وقت الاستحباب
الذي يستحب أن يصلي فيه هو أوائل الأوقات إلا
العشاء. وآخره نصف الليل فالمستحب الأصلي
تأخيرها وهو قوله صلى الله وسلم عليه: "لولا
أن أشق على أمتي لأمرتهم أن يؤخروا العشاء"
ولأنه أنفع في تصفية الباطن من الأشغال
المنسية لذكر الله تعالى وأقطع لمادة السمر
بعد العشاء لكن التأخير ربما يفضي إلى تقليل
الجماعة وتنفير القوم وفيه قلب الموضوع فلهذا
كان النبي صلى الله وسلم عليه إذا كثر الناس
عجل وإذا قلوا أخر كذا في الحجة فهذه علامات
وكان المعلم لها جبرائيل عليه السلام ثم محمد
رسول الله للأمة "وأول وقت الفجر إذا انشق
الفجر" أي ظهور الضوء المنتشر وبينه صلى الله
وسلم عليه اشفى بيان فقال لهم: "إنه يطلع
معترضا في الأفق" و أنه: "ليس الذي يلوح بياضه
كذنب السرحان" وهذا شيء تدركه الأبصار, وقال
تعالى: {حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ
الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ
الْفَجْرِ} فجاء بلفظ التفعل لإفادة أنه لا
يكفي إلا التبين الواضح أي يتبين لكم شيئا
فشيئا حتى يتضح فإنه لا يتم تبينه وظهوره إلا
بعد كمال ظهوره فإنه يطلع أولا تباشير الوضوء
ثم ذنب السرحان وهو الفجر الكذاب ثم يتضح نور
الصباح الذي أبداه بقدرته فالق الإصباح ولذلك
قال الشاعر:
وأزرق الصبح يبدو قبل أبيضه ... ... وأول
الغيث قطر ثم ينسكب ...
قال ابن القيم: إن النبي صلى الله وسلم عليه
كان يقرأ بالستين آية إلى المائة ثم ينصرف
منها والنساء لا يعرفن من الغلس وأن صلاته
كانت في التغليس حتى توفاه الله تعالى وأنه
إنما أسفر بها مرة واحدة وكان بين سحوره
وصلاته قدر خمسين آية فرد ذلك بمجمل حديث رافع
بن خديج: "أسفروا بالفجر فإنه أعظم للأجر"
وهذا بعد ثبوته إنما المراد به الإسفار بها
دواما لا ابتداء فيدخل فيها مغلسا ويخرج منها
مسفرا كما كان يفعله رسول الله صلى الله وسلم
عليه فقوله موافق لفعله لا مناقض له وكيف يظن
به المواظبة على فعل ما الأجر الأعظم في خلافه
انتهى. "وآخره طلوع الشمس" ومما ينبغي أن يعلم
أن الله عز وجل لم يكلف عباده في تعريف أوقات
الصلوات بما يشق عليهم ويتعسر فالدين يسر
والشريعة سمحة سهلة بل جعل صلى الله تعالى
عليه وسلم للأوقات علامات
(1/70)
حسية يعرفها كل
أحد فقال في الفجر: طلوع النور الذي هو من
أوائل أجزاء النهار يعرفه كل أحد وقال في
الظهر: "إذا دحضت الشمس إذا زالت الشمس" وقال
في العصر: "والشمس بيضاء نقية" وقال في
المغرب: "إذا أقبل الليل من ههنا وأدبر النهار
من ههنا" وقال في العشاء من قدر وقت صلاته
بأنه كان يصليها وقت غروب الهلال ليلة ثالث
الشهر وورد1التقدير بالشفق وورد التقدير بثلث
الليل وبنصفه فهذه العلامات لا تلتبس إلا على
أكمه والنظر في النجوم وإن كنت لا أظن ثبوت
ذلك هو النظر الذي يكون في الشمس والقمر
والأظلة المقترنة بالنجوم والمراد أنه يستدل
على دخول وقت كذا بكون النجم في مكان كذا كما
يكون مثل ذلك في الشمس والقمر لا أنه النظر
المفضي إلى الاشتغال بعلم النجوم المؤدي إلى
الوقوع في مضايق عن الشريعة بمعزل فإن هذا علم
نهى عنه الشارع وحذر عن إتيان صاحبه حتى جعل
ذلك كفرا فكيف يجعل طريقا إلى أمر من أمور
الشريعة ومهم من مهماتها فمن ظن أن شيئا من
علم الشريعة محتاج إلى علم النجوم المصطلح
عليه فهو إما جاهل لا يدري بالشريعة أو مغالط
قد مالت نفسه إلى ما نهى عنه الشارع وأراد أن
يدفع عن نفسه القائلة فاعتل بأنه لم يتعلق
بمعرفة ذلك لكونه قد تعلقت به معرفة أوقات
الصلوات وكثيرا من نسمعه من المشتغلين بذلك
يدلي بهذه الحجة الباطلة فيصدقه من لم يثبت
قدمه في علم الشريعة المطهرة ومن أعظم
المروجات لهذه البلية ما وقع من جماعة من
المشتغلين بعلم الفقه من تعداد النجوم وتقدير
المنازل والاستكثار من ذلك بما لا طائل تحته
إلا تأنيس المنجمين فإنا لله وإنا إليه
راجعون. وحاصل الكلام: أن هذه تكاليف موجهة
كلف الله تعالى بها عباده وعين أوقاتها تعيينا
يعرفه العالم والجاهل والقروي والبدوي والحر
والعبد والذكر والأنثى على حد سواء اشترك فيه
كل هؤلاء لا يحتاج معه إلى شيء آخر.
ـــــــ
1 هذا التقدير قدره النعمان بن بشير رضي الله
عنه وقد بينت في شرحي على التحقيق لابن الجوزي
أنه تقدير لا يطابق كل شهر فإن القمر يغيب
ليلة ثالث الشهر في أوقات مختلفة باختلاف
الأشهر وقد يصل الفرق بين الليلة الثالثة من
شهر وبين الليلة الثالثة من شهر آخر إلى نحو
الساعتين ولعل النعمان رآى النبي صلى الله
عليه وسلم صلى العشاء لسقوط القمر لثالثة مرات
من غير تتبع ولا استقصاء فظن أن هذا الوقت
متحد في الليالي ولم يلاحظ الفرق بينهما.
(1/71)
أمع الصبح
للنجوم تجل ... ... أم مع الشمس للظلام
بقاء....
قال صاحب سبل السلام: التوقيت في الأيام
والشهور والسنوات بالحساب للمنازل القمرية
بدعة باتفاق الأمة فلا يمكن عالم من علماء
الدنيا أن يدعي أن ذلك كان في عصره صلى الله
تعالى عليه وسلم أو عصر خلفائه الراشدين وإنما
هو بدعة لعلها ظهرت في عصر المأمون حين أخرج
كتب الفلاسفة وعربها ومنها المنطق والنجوم
فإنه علم أولئك الذين قال الله تعالى فيهم:
{فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ
بِالْبَيِّنَاتِ فَرِحُوا بِمَا عِنْدَهُمْ
مِنَ الْعِلْمِ} فأقل أحوال المقرين على حساب
المنازل القمرية أنهم مبتدعون وكل بدعة ضلالة
ولقد عظمت هذه البدعة في الحرمين الشريفين
فإنهم في مكة المكرمة لا يعتمدون إلا على ذلك
ولهم فيه أنواع مؤلفات مثل الربع المجيب ونحوه
يدرسونه ويقرءونه ويعتمدونه وهو من العلم الذي
قال فيه رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله
وسلم: "علم لا ينفع وجهل لا يضر" وهو من علم
أهل الكتاب فإن أعيادهم ونحوها تدور على حساب
سير الشمس, ولعله دخل على المسلمين من علم
اليونان وأهل الكتاب ومات رسول الله صلى الله
تعالى عليه وآله وسلم بعد أن أنزل الله تعالى
عليه: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ
وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ
لَكُمُ الْأِسْلامَ دِيناً} وكان أهل بيته
وأصحابه رض على ذلك لا يعرفون منازل الزيادة
والنقصان ولا ما يجعله المتأخرون هو الميزان
ولا شيئا من هذه الأمور التي صار ذلك التكليف
الموقت عليها يدور انتهى1.
"ومن نام عن صلاته أو سها عنها فوقتها حين
يذكرها". أي وقت القضاء إذا ذكر وقد دلت على
ذلك الأحاديث الصحيحة كحديث أنس عند البخاري
ومسلم وغيرهما, وحديث أبي هريرة عند مسلم
وغيره وقد ورد هذا
ـــــــ
1 يظهر أن صاحب سبل السلام ومن بعده الشارح لم
يعرفا الفرق بين علم النجوم المنهي عنه وهو
دعوى معرفة الغيب بحسابها وما إلى ذلك وبين
علم الفلك والميقات وتقدير منازل الشمس والقمر
والنجوم وهي من العلوم الصحيحة الثابتة
ببراهين قطعية مبنية على الحساب الصحيح وبه
يعلم الكسوف والخسوف ومواقيت الصلاة والشهور
وغير ذلك. حقيقة لم يكن في عصره صلى الله عليه
وسلم ولا في عصر الخلفاء الراشدين ولكنا لا
نسميه بدعة لأن كل علم مستحدث ينفع الناس يجب
تعلمه على بعض أفراد المسلمين ليكون قوة لهم
ترقى بها الأمة الإسلامية. وإنما البدعة ما
يستحدثه الناس في أنواع العبادات فقط وما كان
في غير العبادات ولم يخالف قواعد الشريعة فليس
بدعة أصلا والله الموفق.
(1/72)
المعنى من غير
وجه وهو قوله صلى الله وسلم عليه: "من نسي
صلاة أو نام عنها فليصلها إذا ذكرها فإن الله
عز وجل يقول في كتابه العزيز: {وَأَقِمِ
الصَّلاةَ لِذِكْرِي} " . قلت: وعلى هذا أهل
العلم وقاسوا المفوت قصدا على النائم كذا في
المسوى. ومن كان معذورا لأن الأوقات للصلوات
قد عينها الشارع وحدد أوائلها وأواخرها
بعلامات حسية وجعل ما بين الوقتين لكل صلاة هو
الوقت لتلك الصلاة وجعل الصلاة المفعولة في
غير هذه الأوقات المعينة صلاة المنافق وصلاة
الأمراء الذين يميتون الصلاة كقوله في حديث
أنس الثابت في الصحيح قال سمعت رسول الله صلى
الله وسلم عليه يقول: "تلك صلاة المنافق يجلس
يرقب الشمس حتى إذا كانت بين قرني الشيطان قام
فنقرها أربعا لا يذكر الله إلا قليلا" وكقوله
صلى الله تعالى عليه وآله وسلم لأبي ذر: "كيف
أنت إذا كان عليك أمراء يميتون الصلاة أو
يؤخرون الصلاة عن وقتها" ؟ قلت: فما تأمرني؟
قال: "صل الصلاة لوقتها" الحديث ونحو ذلك,
وهكذا أحاديث النهي عن الصلاة بعد العصر وبعد
الفجر فكان ما ذكرناه دليلا على أن إدراك
الركعة في الوقت الخارج عن الأوقات المضروبة
كوقت طلوع الشمس وغروبها وطلوع الفجر هو خاص
بالمعذور كمن مرض مرضا شديدا لا يستطع معه
تأدية الصلاة ثم شفي وأمكنه إدراك ركعة
وكالحائض إذا طهرت وأمكنها إدراك ركعة ونحو
ذلك. "وأدرك من الصلاة ركعة فقد أدركها" أي
الصلاة لما ورد في ذلك من الأحاديث الصحيحة
كحديث أبي هريرة أن رسول الله صلى الله وسلم
عليه قال: "من أدرك من الصبح ركعة قبل أن تطلع
الشمس فقد أدرك الصبح ومن أدرك من العصر ركعة
قبل أن تغرب الشمس فقد أدرك العصر" . وهو في
الصحيحين وغيرهما ونحو ذلك حديث عائشة عند
مسلم وغيره وقد ثبت من حديث أبي هريرة في
الصحيحين وغيرهما بلفظ: "من أدرك ركعة من
الصلاة فقد أدرك الصلاة" 1 وهذا يشمل جميع
الصلوات لا يخص شيئا منها قلت: هذا الحديث
يحتمل
ـــــــ
1 لم يحرر المؤلف ولا الشارح وقت العصر مع هذا
الحديث باختلاف رواياته فإن دعوى المؤلف أن
إدراك ركعة من الصلاة إنما هو للمضطر لا دليل
عليها بل الحديث عام في كل من أدرك ركعة من
العصر قبل أن تغرب الشمس والأحاديث الأخرى
إنما تدل على النهي عن تأخير العصر إلى اصفرار
الشمس ولكنها لا تدل على أنه آخر وقتها.
(1/73)
وجوها: أحدها
من أدرك ركعة من الصلاة في الوقت فالجميع أداء
وإلا فقضاء وهو الأصح عند الشافعية وقال أبو
حنيفة بذلك في العصر خاصة وثانيها من أدرك من
المعذورين من الوقت ما يسع ركعة من الصلاة فقد
وجبت عليه تلك الصلاة وهو مذهب أبي حنيفة وقول
للشافعي وثالثها أن الجماعة تدرك بركعة وهو
وجه للشافعية وقال أبو حنيفة: لو أدرك التشهد
كان مدركا للجماعة كذا في المسوى فمن صلى ركعة
في الوقت والباقي خارج الوقت لا يكون عند
الشافعي كمن صلى الكل خارج الوقت: وقال أبو
حنيفة مثله إلا في صلاة العصر خاصة وقد رد ابن
القيم على من قال بكونها خلاف الأصول ورده
بالمتشابه من نهيه صلى الله وسلم عليه عن
الصلاة وقت طلوع الشمس أتم رد في إعلام
الموقعين فليرجع إليه. "والتوقيت واجب" لما
ورد في ذلك من الأوامر الصحيحة بتأدية الصلاة
لوقتها والنهي عن فعلها في غير وقتها المضروب
لها. "والجمع لعذر جائز" أي بين الصلاتين إن
كان صوريا وهو فعل الأولى في آخر وقتها
والأخرى في أول وقتها فليس بجمع في الحقيقة
لأن كل صلاة مفعولة في وقتها المضروب لها
وإنما هو جمع الصورة ومنه جمعه صلى الله وسلم
عليه في المدينة المنورة من غير مطر ولا سفر
كما في الصحيح من حديث ابن عباس وغيره فإنه قد
وقع التصريح في بعض الروايات بما يفيد ذلك بل
فسره من رواه بما يفيد أنه الجمع الصوري وقد
أوضح الماتن ذلك في رسالة مستقلة فالمراد
بالجمع الجائز للعذر هو جمع المسافر والمريض
وفي المطر كما وردت بذلك الأدلة الصحيحة وقد
اختلف في جواز الجمع بين الصلاتين لغير هذه
الأعذار أو مع عدم العذر والحق عدم جواز ذلك
كما حققه المجتهد الرباني شيخنا العلامة محمد
بن على الشوكاني في الفتح الرباني وغيره من
مؤلفاته المباركة عليها ولها وفيها. "والمتيمم
وناقص الصلاة" كمن به مرض يمنعه عن استيفاء
بعض أركانها "أو الطهارة" كمن في بعض أعضاء
وضوئه ما يمنعه من غسله بالماء, "يصلون كغيرهم
من غير تأخير" وجهه أنهم داخلون في الخطاب
المشتمل على تعيين الأوقات وبيان أولها وآخرها
ولم يأت ما يدل على أنهم خارجون عنها وأن
صلاتهم لا تجزيء إلا في آخر الوقت ولم يعول من
أوجب التأخير على شيء تقوم به الحجة بل ليس
بيده إلا مجرد الرأي البحت كقولهم إن صلاتهم
بدلية ونحو ذلك وهذا لا يغني
(1/74)
من الحق شيئا.
أقول:لم يأت ما يدل على وجوب التأخير على من
كان ناقص صلاة أو طهارة من كتاب ولا سنة بل
التيمم مشروع عند عدم الماء إذا حضر وقت
الصلاة وكذلك من كانت به علة لا يتمكن معها من
استيفاء الطهارة أو الصلاة جاز له أن يصلي إذا
حضر وقت الصلاة كيف أمكن وذلك هو المطلوب منه
والواجب عليه ولو كان التأخير واجبا على من
كان كذلك لبينه الشارع لأنه من الأحكام التي
تعم بها البلوى ولا فرق بين من كان راجيا
لزوال العلة في آخر الوقت ومن كان آيسا من
زوالها في الوقت, ومن زعم أنه يجب تأخير صلاة
من الصلوات على فرد من أفراد العباد لم يقبل
منه ذلك إلا بدليل. وأما ما يقال من أن الصلاة
الناقصة أو الطهارة الناقصة بدل عن الصلاة
الكاملة أو الطهارة الكاملة فكلام لا يتفق في
مواطن الخلاف ولا تقوم بمثله الحجة على أحد
على أن البدلية غير مسلمة وعلى فرض تسليمها
فلا نسلم أن البدل لا يجزئ إلا عند تعذر
المبدل إلى آخر الوقت فإنهم يجعلون الظهر أصلا
والجمعة بدلا والجمعة مجزئة في أول وقت الظهر
بل لا يجزيء في ذلك الوقت غيرها لمن لم يكن
معذورا ثم لو سلمنا أن البدل لا يجزيء إلا عند
تعذر المبدل فوقت التعذر هو وقت الصلاة مثلا
فإذا دخل أول جزء من أجزاء الوقت والمبدل
متعذر كان البدل في ذلك الوقت مجزئا ومن زعم
غير هذا جاءنا بحجة. و أما كون "أوقات الكراهة
بعد الفجر حتى ترتفع الشمس وعند الزوال وبعد
العصر حتى تغرب" فلما ثبت في الصحيح عن جماعة
من الصحابة مرفوعا من النهي عن الصلاة بعد
الفجر حتى تطلع الشمس وبعد العصر حتى تغرب
الشمس وعند الزوال وورد في روايات أخر النهي
عن الصلاة في الثلاثة الأوقات: وقت الطلوع
ووقت الزوال ووقت الغروب قال في الحجة: الصلاة
خير موضوع فمن استطاع أن يستكثر منها فليفعل
غير أنه نهى عن خمسة أوقات: ثلاثة منها أوكد
نهيا من الباقيين وهي الساعات الثلاث إذا طلعت
الشمس بازغة حتى ترتفع وحين يقوم قائم الظهيرة
حتى تميل وحين تتضيف للغروب حتى تغرب لأنها
أوقات صلاة المجوس, وأما الآخران فقوله صلى
الله وسلم عليه: "لا صلاة بعد الصبح حتى تبزغ
الشمس ولا بعد العصر حتى تغرب" ولذلك صلى
فيهما النبي صلى الله وسلم عليه تارة وروي
استثناء نصف النهار يوم الجمعة واستنبط جوازها
في الأوقات الثلاث في المسجد الحرام من حديث:
"يا بني عبد
(1/75)
مناف من ولي
منكم من أمر الناس شيئا فلا يمنعن أحدا طاف
بهذا البيت وصلى أية ساعة شاء من ليل أو
نهار1" وعلى هذا فالسر في ذلك أنهما وقت ظهور
شعائر الدين ومكانه فعارضا المانع من الصلاة
انتهى.
وأقول: الأحاديث في النهي عن الصلاة بعد صلاة
الفجر وبعد صلاة العصر قد صحت بلا ريب وهي
عمومات قابلة للتخصيص بما هو أخص منها مطلقا
لا بما هو أعم منها من وجه وأخص منها من وجه
كأحاديث الأمر بصلاة تحية المسجد فإنه من باب
تعارض العمومين والواجب المصير إلى الترجيح
فإن أمكن ترجيح أحدهما على الآخر وجب العمل به
وإن لم يمكن وجب المصير إلى الترجيح بأمور
خارجة فإن تعذر من جميع الوجوه فالتخيير أو
الإطراح في مادة إذا تقرر هذا فما عورضت به
أحاديث النهي عن الصلاة في الوقتين المذكورين
لا يصلح للمعارضة. أما حديث الرجلين اللذين
أمرهما صلى الله وسلم عليه بالإعادة فقد
اختلفت الرواية ففي بعض الروايات أنه قال: هذه
فريضة وتلك نافلة وفي بعضها عكس ذلك وعلى
الرواية الأولى لا معارضة وعلى الثانية غاية
ما هناك أن ذلك يكون مخصصا لأحاديث النهي بمثل
حال الرجلين وهو من دخل مسجد جماعة يصلون فيه
فريضة في أحد الوقتين فإنه يتنفل معهم وحديث:
أنه صلى الله وسلم عليه كان يصلي ركعتين بعد
العصر قد تبين في روايات الحديث الثابتة في
الأمهات أنه وفد عليه وفد عبد القيس فشغلوه عن
ركعتي الظهر فصلاهما بعد العصر وكان هديه صلى
الله وسلم عليه أنه إذا فعل شيئا داوم عليه
حتى سألته بعض نسائه وقالت: "هل نقضيهما إذا
فاتتانا؟ فقال: "لا" وقد ذكر من روى ذلك وما
عليه شيخنا العلامة الشوكاني في شرح المنتقي.
وأما حديث: "لا تمنعوا طائفا" فهو مع كونه غير
صلاة وإن كان مشبها بها فليس المشبه كالمشبه
به هو أيضا عام مخصص بأحاديث النهي أو خاص
بنوع من أنواع الصلاة وهو الطواف فليعلم.
ـــــــ
1 ليس المراد من هذا الحديث إباحة الصلاة في
الأوقات المذكورة بل هو نهي لبني عبد مناف من
التعرض للمصلي في أي وقت شاء لما كانوا يزعمون
لأنهم من السلطان على البيت وعلى زائريه فهو
حجر عليهم كف به أيديهم عن التعرض للناس ولكنه
لا يفهم منه أن النهي عن الأوقات إنما هو في
غير البيت وهذا واضح لا يخفى على متأمل.
(1/76)
باب الأذان
أقول هذه العبادة من أعظم شعائر الإسلام وأشهر
معالم الدين فإنها وقعت المواظبة عليها منذ
شرعها الله سبحانه وتعالى إلى أن مات رسول
الله صلى الله وسلم عليه في ليل ونهار وحضر
وسفر ولم يسمع بأنه وقع الإخلال بها أو
الترخيص في تركها. "يشرع" وقد اختلف في وجوبه
والظاهر الوجوب لأمره صلى الله وسلم عليه بذلك
في غير حديث والحاصل: أنه ما ينبغي في مثل هذه
العبادة العظيمة أن يتردد متردد في وجوبها
فإنها أشهر من نار على علم وأدلتها هي الشمس
المنيرة لأهل كل بلد أن يتخذوا مؤذنا وأما كون
المؤذن مكلفا ذاكرا فهذا هو الظاهر لأن الأذان
عبادة شرعية لا تجزيء إلا من مكلف بها ولم
يسمع في أيام النبوة ولا في الصحابة فمن بعدهم
من التابعين وتابعيهم أنه وقع التأذين المشروع
الذي هو إعلام بدخول الوقت ودعاء إلى الصلاة
من امرأة قط, وأما أذان المرأة لنفسها أو لمن
يحضر عندها من النساء مع عدم رفع الصوت رفعا
بالغا فلا مانع من ذلك بل الظاهر أن النساء
ممن يدخل في الخطاب بالأذان ولم يأت ما تقوم
به الحجة لا في كون المؤذن طاهرا من الحدث
الأكبر ولا من الحدث الأصغر لأن ما هو مرفوع
في ذلك لم يصح وما هو موقوف على صحابي أو
تابعي لا تقوم به الحجة وإن كان التطهر للمؤذن
من الحدثين هو الأولى والأحسن فقد كره النبي
صلى الله وسلم عليه أن يرد السلام وهو محدث
حدثا أصغر حتى توضأ كما في رواية وتيمم كما في
أخري والأذان أولى بذلك من مجرد السلام قال
الماتن في حاشية الشفاء وظاهر الأحاديث أنه لا
يصح أذان غير المتوضيء وقد ورد حديث يدل على
اشتراط كون المؤذن متوضئا أخرجه الترمذي بلفظ:
"لا يؤذن إلا متوضئ" وقد أعل بالانقطاع
والإرسال ويشهد له حديث: "إني كرهت أن أذكر
الله إلا على طهر" أخرجه أبو داود وصححه ابن
خزيمة وابن حبان. "ينادي بألفاظ الأذان
المشروعة" لإعلامهم بمواقيت الصلاة وللتمسك
بشعائر الإسلام فقد كان الغزاة في أيام النبوة
وما بعدها إذا جهلوا حال أهل قرية تركوا حربهم
حتى يحضر وقت الصلاة فإن سمعوا أذانا كفوا
عنهم وإن لم يسمعوا قاتلوهم مقاتلة المشركين,
وأما غير أهل البلد كالمسافر
(1/77)
والمقيم بفلاة
من الأرض فيؤذن لنفسه ويقيم فإن كانوا جماعة
أذن لهم أحدهم وأقام وألفاظ الأذان قد ثبتت في
أحاديث كثيرة وفي بعضها اختلاف بزيادة ونقص
وقد تقرر أن العمل على الزيادة التي لا تنافي
المزيد فما ثبت من وجه صحيح مما فيه زيادة
تعين قبوله كتربيع الأذان وترجيع الشهادتين
ولا تطرح الزيادة إذا كانت أدلة الأصل أقوى
منها لأنه لا تعارض حتى يصار إلى الترجيح كما
وقع لكثير من أهل العلم في هذا الباب وغيره من
الأبواب بل الجمع ممكن بضم الزيادة إلى الأصل
وهو مقدم على الترجيح وقد وقع الإجماع على
قبول الزيادة التي لم تكن منافية كما تقرر في
الأصول وأدلة أفراد الإقامة أقوى من أدلة
تشفيعها ولكن التشفيع مشتمل على زيادة خارجة
من مخرج صالح للاعتبار فكان العمل على أدلة
التشفيع متعينا. "عند دخول وقت الصلاة" إلا
الأذان للفجر قبل دخول وقتها لما في الصحيحين
من حديث سالم بن عبد الله عن النبي صلى الله
عليه وآله وسلم أنه قال: "إن بلالا يؤذن بليل
فكلوا واشربوا حتى تسمعوا أذان ابن أم مكتوم"
وفي صحيح مسلم عن سمرة عن النبي صلى الله
تعالى عليه وآله وسلم: "لا يغرنكم نداء بلال
ولا هذا البياض حتى ينفجر الفجر" وهو في
الصحيحين من حديث ابن مسعود ولفظه: "لا يمنع
أحدكم أذان بلال من سحوره فإنه يؤذن أو ينادي
ليرجع قائمكم وينبه نائمكم" . قال مالك:لم يزل
الصبح ينادي لها قبل الفجر فردت هذه السنة
لمخالفتها الأصول والقياس على سائر الصلوات
وبحديث حماد بن سلمة عن أيوب عن نافع عن ابن
عمر: أن بلالا أذن قبل طلوع الفجر فأمره النبي
صلى الله تعالى عليه وآله وسلم أن يرجع فينادي
ألا إن العبد نام ألا إن العبد نام فرجع فنادي
ألا إن العبد نام. ولا ترد السنة الصحيحة بمثل
ذلك فإنها أصل بنفسها وقياس وقت الفجر على
غيره من الأوقات لو لم يكن فيه إلا مصادمة
للسنة لكفى في رده فكيف والفرق قد أشار إليه
صلى الله تعالى عليه وآله وسلم وهو ما في
النداء قبل الوقت من المصلحة والحكمة التي لا
تكون في غير الفجر وإذا اختص وقتها بأمر لا
يكون في سائر الصلوات امتنع الإلحاق. وأما
حديث حماد عن أيوب فحديث معلول عند أئمة
الحديث لا تقوم به حجة كذا في أعلام الموقعين
(1/78)
وقد أطال ابن
القيم في تعليل هذا الحديث والجواب عنه وعن
غيره فليرجع إليه. ويشرع للسامع أن يتابع
المؤذن لما قد ثبت في الصحيح من حديث أبي سعيد
أن النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم قال:
"إذا سمعتم النداء فقولوا مثل ما يقول المؤذن"
. وفي الباب عن جماعة من الصحابة بنحو هذا
وورد مفصلا مبينا من حديث عمر بن الخطاب قال:
قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم:
"إذا قال المؤذن: الله أكبر الله أكبر فقال
أحدكم الله أكبر الله أكبر ثم قال: أشهد أن
إله إلا الله قال: أشهد أن لا إله إلا الله ثم
قال: أشهد أن محمدا رسول الله قال: أشهد أن
محمدا رسول الله ثم قال: حي على الصلاة قال:
لا حول ولا قوة إلا بالله ثم قال: حي على
الفلاح قال: لا حول ولا قوة إلى بالله ثم قال:
الله أكبر الله أكبر قال: الله أكبر الله أكبر
ثم قال: لا إله إلا الله قال: لا إله إلا الله
من قلبه دخل الجنة" . أخرجه مسلم وغيره وأخرج
نحوه البخاري وقد اختار بعض العلماء الجمع عند
الحيعلتين بين المتابعة للمؤذن والحوقلة وهو
جمع حسن وإن لم يكن متعينا. ثم تشرع الإقامة
على الصفة الواردة أقول : قد ثبت تشفيع الأذان
وايتاء الإقامة في الصحيحين وغيرهما وروي من
وجه صحيح تشفيع جميع ألفاظ الإقامة وورد في
الإقامة من وجه صحيح ما يدل على ايتارها إلا
التكبير في أولها وآخرها وقد قامت الصلاة فإن
ذلك يكون مثنى مثنى وقد ذهب جماعة من أهل
العلم إلى أن الكل سنة وأيها فعلها المؤذن
والمقيم فقد فعل ما هو حق وسنة قال الماتن في
شرح المنتقى بعد ما ذكر اختلاف الناس في ذلك
وأطال في بيانه : إذا عرفت هذا تبين لك أن
أحاديث تثنية الإقامة صالحة للاحتجاج بها
وأحاديث إفراد الإقامة وإن كانت أصح منها
لكثرة طرقها وكونها في الصحيحين لكن أحاديث
التثنية مشتملة على الزيادة فالمصير إليها
لازم لا سيما مع تأخر تاريخ بعضها انتهى ثم
اعلم أن هذا الشعار لا يختص بصلاة الجماعات بل
كل مصل عليه أن يؤذن ويقيم لكن من كان في
جماعة كفاه أذان المؤذن لها وإقامته ثم الظاهر
أن النساء كالرجال لأنهن شقائقهم والأمر لهم
أمر لهن ولم يرد ما ينتهض للحجة في عدم الوجوب
عليهن فأن الوارد في ذلك في أسانيده متروكون
لا يحل الاحتجاج بهم فإن ورد دليل يصلح
لإخراجهن فذاك وإلا فهن كالرجال
(1/79)
باب ويجب على
المصلي تطهير ثوبه
لنص القرآن {وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ} ولقوله
صلى الله وسلم عليه لمن سأله: هل يصلي في
الثوب الذي يأتي فيه أهله فقال: نعم إلا أن
يري فيه شيئا فيغسله. أخرجه أحمد وابن ماجه
ورجال إسناده ثقات ومثله عن معاوية قال: قلت
لأم حبيبة هل كان النبي صلى الله وسلم عليه
يصلي في الثوب الذي يجامع فيه قالت: نعم إذا
لم يكن فيه أذى. أخرجه أحمد وأبو داود
والنسائي وابن ماجه بإسناد رجاله ثقات ومنها
حديث خلعه صلى الله وسلم عليه النعل أخرجه
أحمد وأبو داود والحاكم وابن خزيمة وابن حبان
وله طريق عن جماعة من الصحابة يقوي بعضها بعضا
ومنها الأدلة المتقدمة في تعيين النجاسات
وبدنه لأنه أولى من تطهير الثوب ولما ورد من
وجوب تطهيره ومكانه من النجاسة لما ثبت عنه
صلى الله وسلم عليه من رش الذنوب على بول
الأعرابي ونحو ذلك, وقد ذهب الجمهور إلى وجوب
تطهير الثلاثة للصلاة وذهب جمع إلى أن ذلك شرط
لصحة الصلاة وذهب آخرون إلى أنه سنة والحق
الوجوب فمن صلى ملابسا لنجاسة عامدا فقد أخل
بواجب وصلاته صحيحة والشرطية التي يؤثر عدمها
في عدم المشروط كما قرره أهل الأصول لا يصلح
للدلالة عليها إلا ما كان يفيد ذلك مثل نفي
القبول أو نحو: "لا صلاة لمن صلى في مكان
متنجس" أو النهي عن الصلاة في المكان المتنجس
لدلالة النهي على الفساد. وأما مجرد الأمر فلا
يصلح لإثبات الشروط اللهم إلا على قول من قال:
إن الأمر بالشيء نهي عن ضده فليكن هذا منك على
ذكر فإنك إن تفطنت له رأيت العجب في كتب الفقه
فإنهم كثيرا ما يجعلون الشيء شرطا ولا يستفاد
من دليله غير الوجوب وكثيرا ما يجعلون الشيء
واجبا ودليله يدل على الشرطية والسبب الحامل
على ذلك عدم مراعاة القواعد الأصولية والذهول
عنها. والحاصل: أن ما دل على الشرطية دل على
الوجوب وزيادة وهو تأثير بطلان المشروط وما دل
على الوجوب لا يدل على الشرطية لأن غاية
الواجب أن تاركه يذم أما أنه يستلزم بطلان
الشيء الذي ذلك الواجب جزء من أجزائه أو عارض
من عوارضه فلا فمن حكم على الشيء بالوجوب وجعل
عدمه موجبا للبطلان أو حكم على الشيء بالشرطية
ولم يجعل عدمه موجبا للبطلان فقد غفل عن هذين
المفهومين
(1/80)
وفي المقام
أدلة مختلفة ومقالات طويلة ليس هذا محل بسطها.
وستر عورته لقوله تعالى: {يَا بَنِي آدَمَ
خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ} .
قلت: الزينة ما وارى عورتك ولو عباءة قاله
مجاهد والمسجد الصلاة ولما وقع منه صلى الله
وسلم عليه من الأمر بسترها في كل الأحوال كما
في حديث بهز بن حكيم عن أبيه عن جده قال قلت
يا رسول الله: عوراتنا ما نأتي منها وما نذر
قال: "احفظ عورتك إلا من زوجتك أو ملكت يمينك"
قلت: فإذا كان القوم بعضهم في بعض قال: "إن
استطعت أن لا يراها أحد فلا يرينها" قلت: فإذا
كان أحدنا خاليا قال: "الله تبارك وتعالى أحق
أن يستحيا منه" أخرجه أحمد وأبو داود وابن
ماجه والترمذي وعلقه البخاري وحسنه الترمذي
وصححه الحاكم ومن ذلك قوله صلى الله وسلم
عليه: "لا تبرز فخذك ولا تنظر إلى فخذ حي ولا
ميت" أخرجه أبو داود وابن ماجه والحاكم
والبزار وفي إسناده مقال ولكنه يعضده حديث
محمد بن جحش قال: مر رسول الله صلى الله وسلم
عليه على معمر وفخذاه مكشوفتان فقال: "يا معمر
غط فخذيك فإن الفخذين عورة" أخرجه أحمد
والبخاري في صحيحه تعليقا وأخرجه أيضا في
تاريخه والحاكم في المستدرك وروى الترمذي
وأحمد من حديث ابن عباس مرفوعا: "الفخذ عورة"
وأخرج نحوه مالك في الموطأ وأحمد وأبو داود
الترمذي وحسنه وابن حبان وصححه وعلقه البخاري
وقد عارض أحاديث الفخذ عورة أحاديث أخر وليس
فيها إلا أنه صلى الله وسلم عليه كشف عن فخذه
يوم خيبر أو في بيته ولا يصلح ذلك لمعارضة ما
تقدم, وورد في الركبة ما يفيد أنها تستر وما
يخالف ذلك وأما المرأة فورد حديث: "لا يقبل
الله صلاة حائض إلا بخمار" أخرجه أحمد وأبو
داود والترمذي وابن ماجه وابن خزيمة والحاكم
وقد روي موقوفا ومرفوعا من حديث عائشة ومن
حديث أبي قتادة ومما يفيد وجوب ستر العورة
أحاديث النهي عن الصلاة في الثوب الواحد ليس
على عاتق المصلي منه شيء وفي بعضها: "فليخالف
بين طرفيه" وفي بعضها: "وإن كان ضيقا فاتزر
به" وكلها في الصحيح, ولكن ليس فيها ما يستفاد
منه الشرطية التي صرح بها جماعة من المصنفين
وحديث الخمار إذا انتهض للاستدلال به على
الشرطية فهو خاص بالمرأة وقد عرفت مما سلف أن
الذي يستلزم عدمه عدم الصلاة أي بطلانها هو
الشرط أو الركن لا الواجب
(1/81)
فمن زعم أن من
ظهر شيء من عورته في الصلاة أو صلى بثياب
متنجسة كانت صلاته باطلة فهو مطالب بالدليل
ولا ينفعه مجرد الأوامر بالستر أو التطهير فإن
غاية ما يستفاد منها الوجوب. ولا يشتمل الصماء
لحديث أبي هريرة أن النبي صلى الله وسلم عليه
نهى أن يشتمل الصماء وهو في الصحيحين وفي لفظ
فيهما: وأن يشتمل في إزاره إذا ما صلى إلا أن
يخالف بطرفيه على عاتقه, وأخرج نحوه الجماعة
من حديث أبي سعيد واشتمال الصماء: هو أن يجلل
جسده بالثوب لا يرفع منه جانبا ولا يبقي ما
يخرج منه يده. "ولا يسدل" لحديث النهي عن
السدل في الصلاة وهو عند أحمد وأبي داود
والترمذي والحاكم في المستدرك وفي الباب عن
جماعة من الصحابة. والسدل: هو إسبال الرجل
ثوبه من غير أن يضم جانبيه بين يديه بل يلتحف
به ويدخل يديه من داخل فيركع ويسجد وهو كذلك,
"ولا يسبل" لما ورد من الأحاديث الصحيحة من
النهي عن إرسال الإزار والمراد بالإسبال أن
يرخي إزاره حتى يجاوز الكعبين. "ولا يكفت"
لأنه قد ورد النهي عن أن يكفت الرجل ثوبه أو
شعره أما كفت الثوب فكمن يأخذ طرف ثوبه فيغرزه
في حجزته أو نحو ذلك, وأما كفت الشعر فنحو أن
يأخذ منه خصلة مسترسلة فيكفتها في شعر رأسه أو
يربطها بخيط إليه أو نحو ذلك, "ولا يصلي في
ثوب حرير" والأحاديث في ذلك كثيرة وكلها يدل
على المنع من لبس ثوب الحرير الخالص. وأما
المشوب فالمذاهب في ذلك معروفة: فبعض الأحاديث
يدل على أنه إنما يحرم الخالص لا المشوب كحديث
ابن عباس عند أحمد وأبي داود قال: إنما نهى
رسول الله صلى الله وسلم عليه عن الثوب المصمت
من القز. قال ابن عباس: أما السدي والعلم فلا
نرى به بأسا وبعضها يدل على المنع كما ورد في
حلة السيراء فإنه غضب لما رأى عليا قد لبسها
وقال: "إني لم أبعث بها إليك لتلبسها إنما
بعثت بها إليك لتشققها خمرا بين النساء" وهو
في الصحيح والسيراء قد قيل إنها المخلوطة
بالحرير لا الحرير الخالص وقيل إنها الحرير
الخالص المخطط وقيل غير ذلك ولكنه قد ورد في
طرق من طرق هذا الحديث ما يفيد أنها غير خالصة
فأخرج ابن أبي شيبة وابن ماجه والدورقي هذا
الحديث بلفظ قال علي: أهدى إلي رسول الله
(1/82)
صلى الله وسلم
عليه حلة مسيرة إما سداها وإما لحمتها, فذكر
الحديث. "ولا ثوب شهرة" لحديث من لبس ثوب شهرة
في الدنيا ألبسه الله ثوب مذلة يوم القيامة,
أخرجه أحمد وأبو داود وابن ماجه والنسائي
بإسناد رجاله ثقات من حديث ابن عمر وهذا
الوعيد يدل على أن لبسه محرم في كل وقت فوقت
الصلاة أولى بذلك. وأما الثوب المصبوغ بالصفرة
والحمرة فالأدلة في ذلك متعارضة فلهذا لم
نذكره وقد أفرده الماتن برسالة مستقلة "ولا
مغصوب" لكونه ملك الغير وهو حرام بالإجماع,
"وعليه استقبال عين الكعبة" إن كان مشاهدا لها
أو في حكم المشاهد وجوبا لأنه قد تمكن من
اليقين فلا يعدل إلى الظن والأحاديث المتواترة
مصرحة بوجوب الاستقبال بل هو نص القرآن الكريم
{فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ
الْحَرَامِ} وعلى ذلك أجمع المسلمون وهو قطعي
من قطعيات الشريعة, وغير المشاهد ومن في حكمه
يستقبل الجهة بعد التحري لأن ذلك هو الذي
يمكنه ويدخل تحت استطاعته ولم يكلفه الله
تعالى مالا يطيق كما صرح بذلك في كتابه
العزيز, وقد جعل النبي صلى الله وسلم عليه بين
المشرق والمغرب قبلة كما في حديث أبي هريرة
عند الترمذي وابن ماجه ومثل ذلك ورد عن
الخلفاء الراشدين رضي الله تعالى عنهم, وقد
استقبل النبي صلى الله وسلم عليه الجهة بعد
خروجه من مكة المكرمة وشرع للناس ذلك. أقول:
استقبال القبلة هو من ضروريات الدين فمن أمكنه
استقبال القبلة تحقيقا فذلك الواجب عليه مثل
القاطن حولها المشاهد لها من دون قطع مسافة
ولا تجشم مشقة ومن لم يكن كذلك ففرضه استقبال
الجهة وليس المراد من تلك الجهة الكعبة على
الخصوص بل المراد ما أرشد إليه صلى الله وسلم
عليه من كون بين المشرق والمغرب قبلة فمن كان
في جهات اليمن وعرف جهة المشرق وجهة المغرب
توجه بين الجهتين فإن تلك الجهة هي القبلة
وكذلك من كان بجهة الشام يتوجه بين الجهتين من
دون اتعاب للنفس في تقدير الجهات فإن ذلك مما
لم يرد به الشرع ولا كلف به العباد والمحاريب
المنصوبة في المساجد والمشاهد المعمورة في
بلاد المسلمين الذين لهم عناية بأمر الدين
مغنية عن التكلف وكذلك أخبار لعدول المرضيين
كافية فإن من قال: هذه جهة القبلة أو عمر
محرابا يأوي إليه الناس لا شك أنه قد بلغ من
التحري ما يبلغه من أراد تأدية صلاة أو صلوات
في مكان من الأمكنة لأن معرفة
(1/83)
الجهة التي
عرفناك بها من السير ما تراد لمعرفته لكون
الجهات الأربع معلومة لكل عاقل وقد يعرض اللبس
في بعض المواطن على بعض الأفراد إما لعدم ظهور
ما يهتدى به في ظلمة الليل أو حيلولة جبال
عالية في أرض عالية لا يعرفها مع تلون طرقها
التي قد سلكها فهذا فرضه أن يمعن النظر في
تعريف الجهة فإذا أعوزه الأمر توجه حيث شاء
هذا في الفرائض, وأما النوافل فقد خفف الشارع
فيها وسوغ تأديتها على ظهر الراحلة إلى جهة
القبلة وغير جهتها بل سوغ تأدية الفريضة في
الأرض الندية على ظهر الراحلة كما تجد ذلك في
المنتقى وشرحه فهذا خلاصة ما تعبدنا الله به
في أمر القبلة وهو يغنيك عن التفريعات الطويلة
والتهويلات المهيلة في كتب الفقه.
(1/84)
باب كيفية الصلاة
وهي علامات تواتر صلى الله وسلم عليه وتوارثه
الأمة أن يتطهر ويستر عورته ويقوم ويستقبل
القبلة بوجهه ويتوجه إلى الله تعالى بقلبه
ويخلص له العمل ويقول: الله أكبر بلسانه ويقرأ
فاتحة الكتاب ويضم معها إلا في ثالثة الفرض
ورابعته سورة من القرآن ثم يركع وينحني بحيث
يقتدر على أن يمسح ركبتيه برؤوس أصابعه حتى
يطمئن راكعا ثم يرفع رأسه حتى يطمئن قائما ثم
يسجد على الآراب السبعة اليدين والرجلين
والركبتين والوجه ثم يرفع رأسه حتى يستوي
جالسا ثم يسجد ثانيا كذلك فهذه ركعة ثم يقعد
على رأس كل ركعتين ويتشهد فإن كان آخر صلاته
صلى على النبي صلى الله وسلم عليه ودعا أحب
الدعاء إليه وسلم على من يليه من الملائكة
والمسلمين فهذه صلاة النبي صلى الله وسلم عليه
لم يثبت أنه ترك شيئا من ذلك قط عمدا من غير
عذر في فريضة وصلاة الصحابة والتابعين ومن
بعدهم من أئمة المسلمين وهي التي توارثوا أنها
مسمى الصلاة وهي من ضروريات الملة نعم اختلف
الفقهاء في أحرف منها هل هي أركان الصلاة لا
يعتد بها بدونها أو واجباتها التي تنقص بتركها
أو أبعاض يلام على تركها وتجبر بسجدة السهو؟
كذا في الحجة البالغة
لا تكون شرعية إلا بالنية لقوله تعالى: {وَمَا
أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ
مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} وروى مالك بإسناده
في غير رواية يحيى بن يحيى عن النبي صلى الله
وسلم عليه: "إنما الأعمال بالنيات" . قلت:
وعلى وجوب النية في ابتداء الصلاة أهل العلم
(1/84)
وعندي أن
المقدر في حديث: "إنما الأعمال بالنية" إن كان
الحصول أو الوجود أو الثبوت أو الصحة أو ما
يلاقي هذه الأمور في المعنى الذي لا تكون تلك
الصلاة شرعية إلا به فالنية في مثل الصلاة شرط
من شروطها لأنه قد استلزم عدمها عدم الصلاة
وهذه خاصة الشروط وأن كان المقدر الكمال أو ما
يلاقيه في المعنى الذي تكون الصلاة شرعية
بدونه فليست النية بواجبة فضلا عن أن تكون
شرطا لكن قد عرف رجحان التقدير المشعر بالمعنى
الأول لكون الحصر في إنما في معنى ما الأعمال
إلا بالنية وإن اختلفا في أمور خارجة عن هذا
كما تقرر في علمي المعاني والأصول والنفي
يتوجه إلى المعني الحقيقي وهو الذات الشرعية
وانتفاؤها ممكن لأن الموجود في الخارج ذات غير
شرعية وعلى فرض وجود مانع عن التوجه إلى
المعنى الحقيقي فلا ريب أن الصحة أقرب إلى
المعنى الحقيقي من الكمال لاستلزامها لعدم
الاعتداد بتلك الذات وترجيح أقرب المجازين
متعين فظهر بهذا أن القول بأن النية شرط
للصلاة أرجح من القول بأنها من جملة واجباتها
والكلام على هذا يطول ليس هذا موضع ذكره,
وأركانها كلها مفترضة لكونها ماهية الصلاة
التي لا يسقط التكليف إلا بفعلها وتعدم الصورة
المطلوبة بعدمها وتكون ناقصة بنقصان بعضها وهي
القيام فالركوع فالاعتدال فالسجود فالاعتدال
فالسجود فالقعود للتشهد وقد بين الشارع صفاتها
وهيئاتها وكان يجعلها قريبا من السواء كما ثبت
في الصحيح عنه. أقول: وجملة القول في هذا
الباب: أنه ينبغي لمن كان يقتدر على تطبيق
الفروع على الأصول وإرجاع فرع الشيء إلى أصله
أن يجعل هذه الفروض المذكورة في هذا الباب
منقسمة إلى ثلاثة أقسام: واجبات كالتكبير
والتسليم والتشهد وأركان كالقيام والركوع
والاعتدال والسجود والاعتدال والسجود والقعود
للتشهد وشروط كالنية والقراءة أما النية فلما
قدمنا, وأما القراءة فلورود ما يدل على
شرطيتها كحديث: "لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب"
وحديث: "لا تجزيء صلاة إلا بفاتحة الكتاب"
ونحوها فإن النفي إذا توجه إلى الذات أو إلى
صحتها أفاد الشرطية إذ هي تأثير عدم الشرط في
عدم المشروط وأصرح من مطلق النفي النفي
المتوجه إلى الإجزاء, والحاصل: أن شروط الشيء
(1/85)
يقتضي عدمها
عدمه وأركانه كذلك لأن عدم الركن يوجب عدم
وجود الصورة المأمور بها على الصفة التي
اعتبرها الشارع وما كان كذلك لا يجزئ إلا أن
يقوم دليل على أن مثل ذلك الركن لا يخرج
الصورة المأمور بها عن كونها مجزئة كما يقول
بعض أهل العلم في الاعتدال وقعود التشهد وإن
كان الحق خلاف ما قال وأما الواجبات فغاية ما
يستفاد من دليلها وهو مطلق الأمر أن تركها
معصية لا أن عدمها يستلزم عدم الصورة المأمور
بها إذا تقرر هذا لاح لك أن هذه الفروض
المعدودة في هذا الباب متوافقة في ذات بينها
والفرض والواجب مترادفان على ما ذهب إليه
الجمهور وهو الحق وحقيقة الواجب ما يمدح فاعله
ويذم تاركه والمدح على الغعل والذم على الترك
لا يستلزمان البطلان بخلاف الشرط فإن حقيقته
ما يستلزم عدمه عدم المشروط كما عرفت فاحفظ
هذا التحقيق تنتفع به في مواطن وقع التفريع
فيها مخالفا للتأصيل وهو كثير الوجود في
مؤلفات الفقهاء من جميع المذاهب وكثيرا ما تجد
العارف بالأصول إذا تكلم في الفروع ضاقت عليه
المسالك وطاحت عنه المعارف وصار كأحد الجامدين
على علم الفروع إلا جماعة منهم {وَقَلِيلٌ مَا
هُمْ} {وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ}
إلا قعود التشهد الأوسط لكونه لم يأت في
الأدلة في ما يدل على وجوبه بخصوصه كما ورد في
قعود التشهد الأخير فإن الأحاديث التي فيها
الأوامر بالتشهد قد اقترنت بما يفيد أن المراد
التشهد الأخير فإن قلت: قد ذكر التشهد الأوسط
في حديث المسيء كما في رواية لأبي داود من
حديث رفاعة ولم يذكر فيه التشهد الأخير قلت:
تقوم الحجة بمثل ذلك ولا يثبت به التكليف
العام والتشهد الأخير وإن لم يثبت ذكره في
حديث المسيء فقد وردت به الأوامر وصرح الصحابة
بافتراضه وقد أوضح ذلك شيخنا العلامة الشوكاني
في حاشية الشفاء إيضاحا حسنا فلتراجع.
"والاستراحة" لكونه لم يأت دليل يفيد وجوبها
وذكرها في حديث المسيء وهم كما صرح بذلك
البخاري, ولا يجب من أذكارها أي الصلاة إلا
التكبير لقوله تعالى: {وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ}
ولقوله صلى الله وسلم عليه في حديث المسيء:
"إذا قمت إلى الصلاة فكبر" ولما ورد من أن
تحريم الصلاة التكبير. أقول: تعيين التكبير
للدخول في الصلاة محكم صريح لقوله صلى الله
تعالى عليه وآله وسلم:
(1/86)
"لا يقبل الله
صلاة أحدكم حتى يضع الوضوء مواضعه ثم يستقبل
القبلة ويقول الله أكبر1" وبما تقدم من النصوص
وهي نصوص في غاية الصحة فردت بالمتشابه من
قوله تعالى: {وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ
فَصَلَّى} قال في الحجة: فإذا كبر يرفع يديه
إلى أذنيه ومنكبيه وكل ذلك سنة اهـ. أقول: إن
الأدلة على هذه السنة قد تواترت تواترا لا
ينكره من له أدنى إلمام بعلم الأدلة واختصت
باجتماع العشرة المبشرة بالجنة على روايتها
ومعهم من الصحابة جماهير ونقل جماعة من الحفاظ
أنه لم يقع الخلاف في ذلك بين الصحابة بل
اتفقوا عليه.
والحاصل: أنه نقل إلينا هذه السنة الذين نقلوا
إلينا أعداد ركعات الصلاة فإذا لم يثبت بمثل
ما ورد فيها مشروعيتها فليس في الدنيا مشروع
لأن كثيرا مما وقع الإطباق على مشروعيته وصار
من قطعيات المرويات لم يبلغ إلى ما بلغ إليه
نقل الرفع وليس في المقام ما يصلح لمعارضة هذه
السنة لا من قوله صلى الله وسلم عليه ولا من
فعله ولا عن أصحابه من أقوالهم ولا من أفعالهم
وقد درج عليها خير القرون ثم الذين يلونهم ثم
الذين يلونهم. وأما حديث البراء قال: رأيت
رسول الله صلى الله وسلم عليه إذا افتتح
الصلاة رفع يديه ثم لم يعد فهو قد تضمن إثبات
الرفع عند الافتتاح, ولفظ: "ثم لم يعد" قد
اتفق الحفاظ على أنه مدرج من قول يزيد بن أبي
زياد وقد رواه عنه بدونها جماعة من الأئمة
منهم: شعبة والثوري وخالد الطحان وزهير وغيرهم
ومع هذا فالحديث من أصله قد أطبق الأئمة على
تضعيفه, وكما ثبت الرفع عند الافتتاح ثبت عند
الركوع وعند الاعتدال منه بأحاديث تقارب
أحاديث الرفع عند الافتتاح, وكذلك ثبت الرفع
عند القيام من التشهد الأوسط بأحاديث صحيحة
كما سيأتي بيانه. "والفاتحة في كل ركعة" لقوله
صلى الله وسلم عليه في حديث المسيء: "ثم اقرأ
ما تيسر معك من القرآن" وفي لفظ من حديث
المسيء لأبي داود: "ثم اقرأ بأم القرآن" وكذلك
لفظ منه لأحمد وابن حبان بزيادة ثم اصنع ذلك
في كل ركعة بعد قوله: "ثم اقرأ بأم القرآن"
فكان ذلك بيانا لما تيسر وورد ما يفيد وجوب
الفاتحة في غير حديث المسيء
ـــــــ
1 هو قطعة من حديث رفاعة بن رافع بن مالك
الزرقي في قصة المسيء صلاته رواه أبو داود
والترمذي والنسائي وبن ماجه والحاكم وليس فيه
التصريح بلفظ: "الله أكبر" ورواه الطبراني في
الكبير بلفظ: "لا تتم صلاة لأحد من الناس حتى
يتوضأ فيضع الوضوء مواضعه ثم يقول: "الله
أكبر" قال في مجمع الزوائد: ورجاله رجال
الصحيح.
(1/87)
كأحاديث: "لا
صلاة إلا بفاتحة الكتاب" وهي صحيحة ويدل على
وجوبها في كل ركعة ما وقع في حديث المسيء فإنه
صلى الله وسلم عليه وصف له ما يفعل في كل ركعة
وقد أمره بقراءة الفاتحة فكانت من جملة ما يجب
في كل ركعة كما أنه يجب فعل ما اقترن بها في
كل ركعة بل ورد ما يفيد ذلك من لفظه صلى الله
وسلم عليه فإنه قال للمسيء: "ثم افعل ذلك في
الصلاة كلها" وهو في الصحيح من حديث أبي هريرة
قال ذلك بعد أن وصف له ما يفعل في الركعة
الواحدة لا في جملة الصلاة فكان ذلك قرينة على
أن المراد بالصلاة كل ركعة تماثل تلك الركعة
من الصلاة قال في الحجة: وما ذكره النبي صلى
الله وسلم عليه بلفظ الركنية كقوله صلى الله
وسلم عليه: "لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب"
وقوله: "لا يجزئ صلاة الرجل حتى يقيم ظهره في
الركوع والسجود" وما سمى الشارع الصلاة به
فإنه تنبيه بليغ على كونه ركنا في الصلاة
انتهى. ولو كان مؤتما فوجوب الفاتحة في كل
ركعة على المؤتم لما ورد من الأدلة الدالة على
أن المؤتم يقرأها خلف الإمام كحديث: "لا
تفعلوا إلا بفاتحة الكتاب" ونحوه ولدخول
المؤتم تحت هذه الأدلة المقتضية لوجوب الفاتحة
في كل ركعة على كل مصل قال في الحجة البالغة:
وإن كان مأموما وجب عليه الإنصات والاستماع
فإن جهر الإمام لم يقرأ إلا عند الإسكاتة وإن
خافت فله الخيرة فإن قرأ فليقرأ الفاتحة قراءة
لا يشوش على الإمام وهذا أولى الأقوال عندي
وبه يجمع بين أحاديث الباب انتهى وفي تنوير
العينين دلائل الجانبين فيه قوية لكن يظهر بعد
التأمل في الدلائل أن القراءة أولى من تركها
فقد عولنا فيه على قول محمد كما نقل عنه صاحب
الهداية وتركنا الكلام وقال ابن القيم في
الأعلام: ردت النصوص المحكمة الصريحة الصحيحية
في تعيين قراءة الفاتحة فرضا بالمتشابه من
قوله تعالى: {فَاقْرَأُوا مَا تَيَسَّرَ
مِنْهُ} وليس ذلك في الصلاة وإنما يدل على
قيام الليل وبقوله للأعرابي: "ثم اقرأ ما تيسر
معك من القرآن" وهذا يحتمل أن يكون قبل تعيين
الفاتحة للصلاة وأن يكون الأعرابي لا يحسنها
وأن يكون لم يسيء في قراءتها فأمره أن يقرأ
معها ما تيسر من القرآن وأن يكون أمره
بالاكتفاء بما تيسر منها فهو متشابه يحتمل هذه
الوجوه فلا يترك الصريح انتهى, وقال في إزالة
الخفاء عن خلافة الخلفاء: روى البيهقي عن يزيد
بن شريك: أنه سأل عمر عن القراءة خلف الإمام
فقال: اقرأ بفاتحة الكتاب
(1/88)
فقلت: وإن كنت
أنت قال: وإن كنت أنا, قلت: وإن جهرت؟ قال:
وإن جهرت. قلت: روى أهل الكوفة عن أصحاب عمر
الكوفيين أن المأموم لا يقرأ شيئا والجمع أن
القبيح في الأصل أن ينازع الإمام في القرآن
وقراءة المأموم قد تفضي إلى ذلك ثم أن اشتغال
المأموم بمناجاة ربه مطلوب فتعارضت مصلحة
ومفسدة فمن استطاع أن يأتي بالمصلحة بحيث لا
تخدشها مفسدة فليفعل ومن خاف المفسدة ترك
والله تعالى أعلم انتهى. أقول: الأوجه هو
الإتيان بفاتحة الكتاب خلف الإمام كما تشهد له
أدلة السنة الصريحة من دون تعارض والأمر
بالإنصات في قوله تعالى: {أَنْصِتُوا} عام
يتناول فاتحة الكتاب وغيرها وكذلك حديث: "وإذا
قرأ فأنصتوا" وإن كان فيه مقال لا ينتهض معه
للاستدلال وعلى فرض انتهاضه فغاية ما فيه أنه
اقتضى أن الإنصات حال قراءة الإمام يجب على
المؤتم ولا يقرأ بفاتحة الكتاب ولا غيرها,
وأما حديث: "خلطتم علي" فلا يشك عارف أن خلط
المؤتم على إمامه إنما يكون قرأ المؤتم جهرا
وأما إذا قرأ سرا فلا خلط وكذلك المنازعة لا
تكون إلا إذا سمع الإمام قراءة المؤتم, وأما
حديث جابر في هذا الباب فهو من قوله: ولم
يرفعه إلى النبي صلى الله وسلم عليه كما في
الترمذي والموطأ وغيرهما وقول الصحابي لا تقوم
به حجة فلم يبق ههنا ما يدل على منع قراءة
المؤتم خلف الإمام حال قراءته إلا الآية
الكريمة وحديث: "إذا قرأ فأنصتوا" وهما عامان
كما عرفت يتناولان فاتحة الكتاب وغيرها والعام
معرض للتخصيص والمخصص وههنا موجود وهو حديث
عبادة بن الصامت وهو حديث صحيح وبناء العام
على الخاص واجب باتفاق أهل الأصول فلا معذرة
عن قراءة فاتحة الكتاب حال قراءة الإمام ولا
سيما وقد دل الدليل على وجوبها على كل مصل في
كل ركعة من ركعات صلاته. "والتشهد الأخير
واجب" لورود الأمر به في الأحاديث الصحيحة
وألفاظه معروفة وقد ورد بألفاظ من طريق جماعة
من الصحابة وفي كل تشهد ألفاظ تخالف التشهد
الآخر والحق الذي لا محيص عنه أنه يجزئ للمصلي
أن يتشهد بكل واحد من تلك التشهدات الخارجة من
مخرج صحيح وأصحها التشهد الذي علمه النبي صلى
الله وسلم عليه ابن مسعود وهو ثابت في
الصحيحين وغيرهما من حديثه بلفظ:
(1/89)
"التحيات لله
والصلوات والطيبات السلام عليك أيها النبي
ورحمة الله وبركاته السلام علينا وعلى عباد
الله الصالحين أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد
أن محمدا عبده ورسوله" وفي بعض ألفاظه: "إذا
قعد أحدكم فليقل" قال في الحجة البالغة: وجاء
في التشهد صيغ أصحها تشهد ابن مسعود رضي الله
تعالى عنه ثم تشهد ابن عباس وعمر رضي الله
تعالى عنهما وهي كأحرف القرآن كلها كاف وشاف
انتهى. قلت: اختار أبو حنيفة تشهد ابن مسعود
والشافعي تشهد ابن عباس ومالك تشهد عمر
واختلافهم في المختار لا في الأجزاء كذا في
المسوى, وأما الصلاة على النبي صلى الله وسلم
عليه التي يفعلها المصلي في التشهد فقد وردت
بألفاظ وكل ما صح منه أجزأ ومن أصح ما ورد ما
ثبت في الصحيح بلفظ: "اللهم صلى على محمد وعلى
آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم
إنك حميد مجيد وبارك على محمد وعلى آل محمد
كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك
حميد مجيد" وزاد في الحجة: "اللهم صل على محمد
وأزواجه وذريته كما صليت على آل إبراهيم وبارك
على محمد وأزواجه وذريته كما باركت على آل
إبراهيم إنك حميد مجيد" انتهى. قال الماتن في
حاشية الشفاء: ومما ينبغي أن يعلم أن التشهد
وألفاظ الصلاة على النبي صلى الله وسلم عليه
وآله عليهم السلام كلها مجزئة إذا وردت من وجه
معتبر وتخصيص بعضها دون بعض كما يفعله بعض
الفقهاء قصور باع وتحكم محض, وأما اختيار
الأصح منها وإيثاره مع القول بأجزاء غيره فهو
من اختيار الأفضل من المتفاضلات وهو من صنيع
المهرة بعلم الاستدلال والأدلة انتهى. وقال في
موضع آخر: التشهدات الثابتة عنه صلى الله وسلم
عليه موجودة في كتب الحديث فعلى من رام التمسك
بما صح عنه صلى الله وسلم عليه أن ينظرها في
دواوين الإسلام الموضوعة لجمع ما ورد من السنة
ويختار أصحها ويستمر عليه أو يعمل تارة بهذا
وتارة بهذا مثلا يتشهد في بعض الصلوات بتشهد
ابن مسعود وفي بعضها بتشهد ابن عباس وفي بعضها
بتشهد غيرهما فالكل واسع والأرجح هو الأصح لكن
كونه الأصح لا ينافي إجزاء الصحيح انتهى. قلت:
عامة أهل العلم على أن الصلاة على النبي صلى
الله وسلم عليه مستحبة في التشهد الأخير غير
واجبة وإلى هذا يشير لفظ ابن عمر وعائشة في
باب التشهد وإن التشهد الأول ليس محلا لها,
وذهب الشافعي وحده إلى وجوبها في التشهد
الأخير فإن
(1/90)
لم يصل لم تصح
صلاته1 وإلى استحبابها في التشهد الأول وورد
ما يفيد وجوب التعوذ من أربع كما أخرجه مسلم
وغيره من حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله
صلى الله وسلم عليه: "إذا فرغ أحدكم من التشهد
الأخير فليتعوذ بالله من أربع من عذاب جهنم
ومن عذاب القبر ومن فتنة المحيى والممات ومن
شر فتنة المسيح الدجال" وورد نحو ذلك من حديث
عائشة وهو في الصحيحين وغيرهما فيكون هذا
التعوذ من تمام التشهد ثم يتخير المصلي بعد
ذلك من الدعاء أعجبه كما أرشد إلى ذلك رسول
الله صلى الله وسلم عليه قال في الحجة: وورد
في صيغ الدعاء في التشهد: "اللهم إني ظلمت
نفسي ظلما كثيرا ولا يغفر الذنوب إلا أنت
فاغفر لي مغفرة من عندك وارحمني إنك أنت
الغفور الرحيم" وورد: "اللهم اغفر لي ما قدمت
وما أخرت وما أسررت وما أعلنت وما أسرفت وما
أنت أعلم به مني أنت المقدم وأنت المؤخر لا
إله إلا أنت" . "والتسليم" وهو واجب لكون
النبي صلى الله وسلم عليه جعله تحليل الصلاة
فلا تحليل لها إلا به فأفاد ذلك وجوبه وإن لم
يذكر في حديث المسيء قال في الحجة: وجب أن لا
يكون الخروج من الصلاة إلا بكلام هو أحسن كلام
الناس أعني السلام وأن يوجب ذلك انتهى قال ابن
القيم: إن السنة الصحيحة الصريحة المحكمة عن
النبي صلى الله وسلم عليه التي رواها خمسة عشر
نفسا من الصحابة أنه كان يسلم في الصلاة عن
يمينه وعن يساره: "السلام عليكم ورحمة الله
السلام عليكم ورحمة الله" منهم عبد الله بن
مسعود بن أبي وقاص وجابر ابن سمرة وأبو موسى
الأشعري وعمار بن ياسر وعبد الله بن عمر
والبراء بن عازب ووائل بن حجر وأبو مالك
الأشعري وعدي بن عمرة الضمري وطلق بن على وأوس
بن أوس وأبو رمثة والأحاديث بذلك ما بين صحيح
وحسن فرد ذلك بخمسة أحاديث مختلف في صحتها
واردة في تسليمة واحدة انتهى. وقد أطال في
الجواب عنها إلى خمسة أوراق فليرجع إليه. قلت:
وعامة أهل العلم على أنه يسلم تسليمتين
ـــــــ
1 هذا هو الحق فإن الله تعالى أمرنا بالصلاة
على النبي بقوله: {يََا أَيُّهَا الَّذِينَ
آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا
تَسْلِيماً} وسأله الصحابة عن الصلاة التي
أمروا بها عليه فعلمهم صيغة الصلاة المعروفة
على اختلاف رواياتها ففهموا إذا من الآية أن
الأمر بالصلاة عليه إنما هو عقيب التشهد
وأقرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم على ذلك
وواظبوا عليه وكان الوحي ينزل بين أظهرهم
وتلقينا ذلك بالتواتر العملي عنهم فكان سؤالهم
وبيانه لهم ثم مواظبتهم على ما أمروا تفسيرا
للأمر الوارد في القرآن وهو من أقوى الأدلة
على الوجوب.
(1/91)
عن يمينه وعن
شماله؛ واحتجوا بحديث عبد الله بن مسعود عن
النبي صلى الله وسلم عليه رواه أبو داود
والترمذي ولفظه: أن النبي صلى الله وسلم عليه
كان يسلم عن يمينه السلام عليكم ورحمة الله
حتى يرى بياض خده الأيمن السلام عليكم ورحمة
الله حتى يرى بياض خده الأيسر, رواه النسائي
وأحمد وابن حبان والدارقطني وغيرهم وفي الباب
عن سهل بن سعد وحذيفة ومغيرة بن شعبة وواثلة
بن الأسقع ويعقوب بن الحسين, ووقع في صحيح ابن
حبان من حديث ابن مسعود زيادة: "وبركاته" وهي
عند ابن ماجه أيضا وعند أبي داود أيضا في حديث
وائل بن حجر فالعجب من ابن الصلاح كيف يقول إن
هذه الزيادة ليست في شيء من كتب الحديث إلا في
رواية وائل بن حجر كذا في التلخيص, وقال مالك
يسلم الإمام والمنفرد تسليمة واحدة: السلام
عليكم لا يزيد على ذلك. "ويستحب للمأموم أن
يسلم ثلاثا عن يمينه وعن شماله وتلقاء وجهه
بردها على إمامه كذا في المسوى. أقول: ورود
التسليمة الواحدة فقط لا يعارض الثابت مما فيه
زيادة عليها وهي أحاديث التسلميتين لما عرفناك
غير مرة أن الزيادة التي لم تكن منافية يجب
قبولها فالقول بتسليمتين أعمال لجميع ما ورد
بخلاف القول بتسليمة فإنه إهدار لأكثر الأدلة
بدون مقتض وأما كون التسليم واجبا أو غير واجب
فقد تقرر أن المرجع حديث المسيء وأنه لا وجوب
لغير ما لم يذكر فيه إلا أن يثبت ايجابه بعد
تاريخ حديث المسيء إيجابا لا يمكن صرفه بوجه
من الوجوه1. وأما الطمأنينة في حال الركوع
والسجودين فلا خلاف في ذلك وأما في حال
الاعتدال من الركوع وبين السجدتين فخالف في
ذلك قوم والحق أنه من آكد فرائض الصلاة في
الموطنين بل المشروع إطالتهما وقد ثبت عنه صلى
الله وسلم عليه ما يدل على ذلك كما في حديث
البراء أنه حزر أركان صلاته صلى الله وسلم
عليه وعد من جملتها الاعتدال من الركوع
والاعتدال بين السجدتين فوجدها قريبا من
السواء وهذا يدل على أنه كان يلبث فيهما كما
يلبث في الركوع والسجود, وثبت أنه صلى الله
تعالى عليه وسلم كان يقف في اعتداله من الركوع
كاعتداله من السجود حتى يظن من رآه أنه قد نسي
لإطالته لهما
ـــــــ
1 لا نسلم هذا فإن حديث المسيء اختلفت رواياته
كثيرا وهو حديث صحيح وبعض الرواة يزيد فيه ما
تركه غيره وقد يصح دليل على بعض الواجبات في
الصلاة وهي زيادة من ثقة فتكون مقبولة ولعلنا
لم نطلع على جميع ألفاظ حديث المسيء أو لعل
بعض الرواة نسي منه شيئا فلا يجوز رد ما يصح
دليله بهذا الحصر.
(1/92)
وثبت من أدعية
فيهما ما يدل على طولهما. فالحاصل: أن أصل
الاطمئنان في الركوع والسجود والاعتدالين ركن
من أركان الصلاة لاتتم بدونه وأما طول اللبث
زيادة على الاطمئنان فمن السنن المؤكدة لأنه
لم يذكر في حديث المسيء وقد صارت هذه السنة
متروكة في الاعتدال إلى غاية بل صار الاطمئنان
فيهما مما يقل وجوده وما أحق من نازعته نفسه
إلى إتباع الآثار المصطفوية أن يثبت معتدلا من
ركوعه ومعتدلا من سجوده ويدعو بالأدعية
المأثورة فيهما ويجعل مقدار اللبث كمقدار لبثه
في الركوع والسجود فذلك هو السنة التي لا يجهل
ورودها إلا جاهل والله المستعان.
سنن الصلاة
"وما عدا ذلك فسنن" لأنه لم يرد فيها ما يفيد
وجوبها من أمر بالفعل أو نهي عن الترك غير
مصروفين عن المعنى الحقيقي أو وعيد شديد يفيد
الوجوب ولا ذكر شيء منها في حديث المسيء إلا
على وجه لا تقوم به الحجة أو تقوم به وقد ورد
ما يفيد أنه غير واجب. والحاصل: أن مرجع
واجبات الصلاة كلها هو حديث المسيء فما ذكره
صلى الله وسلم عليه فيه كان واجبا وما لم
يذكره فليس بواجب لكن قد تشعبت روايات حديث
المسيء وثبت في بعضها ما لم يثبت في البعض
الآخر فعلى من أراد تحقيق الحق أن يجمع طرقه
الصحيحة ويحكم بوجوب ما اشتملت عليه أو شرطيته
أو ركنيته بحسب ما يقتضيه الدليل وما خرج عنه
خرج عن ذلك وقد جمع ما صح من طرقه شيخنا
الحافظ الرباني العلامة الشوكاني في شرح
المنتقى في موضع واحد منه فمن رام ذلك فليرجع
إليه1. "وهي الرفع في المواضع الأربعة" أي عند
تكبيرة الإحرام وعند الركوع وعند الاعتدال من
الركوع هذه الثلاثة المواضع في كل ركعة
والموضع الرابع عند القيام إلى الركعة الثالثة
فقد دلت على ذلك الأحاديث الصحيحة أما عند
التكبير فقد روى ذلك عن النبي صلى الله وسلم
عليه نحو خمسين رجلا من الصحابة منهم العشرة
المبشرة بالجنة ورواه كثير من الأئمة عن جميع
الصحابة من غير استثناء وقال الشافعي: روى
الرفع جمع من الصحابة لعله لم يرد قط حديث
بعدد أكثر منهم وقال ابن المنذر:لم يختلف أهل
العلم أن رسول الله صلى الله عليه
ـــــــ
1 ثم ما يؤمننا أن تكون هناك روايات فيه لم
نطلع عليها فقدت فيما فقد من كتب العلم أو
نسيها الرواة فلم يذكروا والحق ما قلناه أنه
لا عبرة بالحصر الذي فيه لأجل هذا الاحتمال
فإن صح الدليل على شيء آخر وجب الأخذ به.
(1/93)
وسلم كان يرفع
يديه, وقال البخاري في جزء رفع اليدين: روى
الرفع تسعة عشر نفسا من الصحابة وسرد البيهقي
في السنن وفي الخلافيات أسماء من روى الرفع
نحوا من ثلاثين صحابيا وقال الحسن وحميد بن
هلال كان أصحاب رسول الله صلى الله تعالى عليه
وآله وسلم يرفعون أيديهم ولم يستثن أحدا منهم
كذا في التلخيص وقال النووي في شرح مسلم: إنها
أجمعت على ذلك عند تكبيرة الإحرام وإنما
اختلفوا فيما عدا ذلك, وقد ذهب إلى وجوبه داود
الظاهري وأبو الحسن أحمد بن سيار والنيسابوري
والأوزاعي والحميدي وابن خزيمة1. وأما الرفع
عند الركوع وعند الاعتدال منه فقد رواه زيادة
على عشرين رجلا من الصحابة عن النبي صلى الله
وسلم عليه وقال محمد بن نصر المروزي: أنه أجمع
علماء الأمصار على ذلك إلا أهل الكوفة. وأما
الرفع عند القيام إلى الركعة الثالثة فهو ثابت
في الصحيح من حديث ابن عمر وأخرجه أحمد وأبو
داود والنسائي وابن ماجه والترمذي وصححه وصححه
أيضا أحمد بن حنبل من حديث على بن أبي طالب عن
النبي صلى الله تعالى عليه وسلم وفي حجة الله
البالغة: فإذا أراد أن يركع رفع يديه حذو
منكبيه وكذلك إذا رفع رأسه من الركوع, ولا
يفعل ذلك في السجود وهو من الهيئات التي فعلها
النبي صلى الله وسلم عليه مرة وتركها أخرى,
والكل سنة وأخذ بكل واحد جماعة من الصحابة
والتابعين ومن بعدهم وهذا أحد المواضع التي
اختلف فيها الفريقان: أهل المدينة وأهل الكوفة
ولكل واحد أصل أصيل والحق عندي في مثل ذلك أن
الكل سنة ونظيره الوتر بركعة واحدة أو بثلاث
والذي يرفع أحب إلي ممن لا يرفع فإن أحاديث
الرفع أكثر وأثبت غير أنه لا ينبغي لإنسان في
مثل هذه الصور أن يثير على نفسه فتنة عوام
بلده وهو قوله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم:
"لولا حدثان قومك بالكفر لنقضت الكعبة" ولا
يبعد أن يكون ابن مسعود رضي الله تعالى عنه ظن
أن السنة المتقررة آخرا هو تركه لما تلقن من
أن مبنى الصلاة على سكون الأطراف ولم يظهر له
أن الرفع فعل تعظيمي ولذلك ابتدئ به في الصلاة
أو لما تلقن من أنه فعل ينبئ عن الترك فلا
يناسب كونه في أثناء الصلاة ولم يظهر له أن
تجديد التنبه لترك ما سوى الله تعالى عند كل
فعل أصلي
ـــــــ
1 وهو ظاهر كلام الشافعي في الأم في كتاب
اختلاف مالك والشافعي. وسيذكره الشارح نقلا عن
ابن الجوزي في آخر المسألة.
(1/94)
من الصلاة
مطلوب والله تعالى أعلم. قوله لا يفعل ذلك في
السجود: أقول القومة شرعت فارقة بين الركوع
والسجود فالرفع معها رفع للسجود فلا معنى
للتكرار انتهى بحروفه. وفي التكميل للشيخ رفيع
الدين الدهلوي ولد صاحب الحجة البالغة اختلفوا
في سنية رفع اليدين في الصلاة بعد التحريمة مع
اتفاقهم على أنه لم يصح فيه أمر باستحباب ولا
بيان فضيلة ولا نهى الصحابة عنه قط وعلى أنه
ثبت عنه صلى الله وسلم عليه فعله مدة إلا أنه
زاد ابن مسعود فقال: ألا أصلي بكم صلاة رسول
صلى الله وسلم عليه؟ فلم يرفع يديه إلا في أول
مرة وظاهر أنه لم يرد تركه أبدا وإنما أراد
تركه آخرا كما يشعر به بعض ما ينقل عنه أن آخر
الأمرين ترك الرفع ولا يدري مدة الترك فيحتمل
أنه تركه في أيام المرض للضعف فظن قوم أن
سنيته كانت بمجرد الفعل فبطلت بالترك وقوم أن
الترك بعذر وبغير نهي لا ينفي السنية كترك
القيام للفرض بالعذر فهي إذا باقية فلا مناقشة
للمجتهدين في أصل سنيته في الجملة ولا في بقاء
جوازه وإن منعه بعض المتعصبة إذ ليس مما يخالف
أفعال الصلاة لبقائة في التحريمة والقنوت
والعيدين فلا نكير على فاعله لأحد بل فى بقاء
سنيته بناء على الظنين فلا نزاع إلا في
المواظبة والرجحان وحيث واظب عليه جمع بلغوا
حد الاستفاضة فوق الشهرة ولم يتعرض صلى الله
وسلم عليه لفعلهم كما تعرض لرفع اليد في
السلام حيث قال: "ما بال أيديكم كأنها أذناب
خيل شمس" وهو صلى الله وسلم عليه كان يرى خلفه
كما يرى أمامه فثبت بقاء سنيته وتركه صلى الله
وسلم عليه أحيانا كما رواه ابن مسعود والبراء
بن عازب وعدم التعرض لتاركه يقضي بسقوط تأكيده
ولم يبلغ أبا حنيفة رح تعالى خبر هذا الجمع
إنما روى له الأوزاعي عن ابن شهاب عن سالم عن
ابن عمر رضي الله تعالى عنهما فرجح عليه أبو
حنيفة حمادا عن إبراهيم عن علقمة عن ابن مسعود
بكثرة الفقه لا بكثرة الحفظ فكأنه ظن أنه تفطن
ابن مسعود للنسخ دون ابن عمر حيث لم يرفع إلا
في التحريمة بناء على أن السكوت في معرض
البيان يفيد الحصر, وما يذكر عن الشافعي من
عدم الرفع عند قبره مشعر بعدم التأكيد انتهى.
وفي تنوير العينين للشيخ محمد إسماعيل الشهيد
الدهلوي حفيد صاحب حجة الله البالغة أن رفع
اليدين عند الافتتاح والركوع والقيام منه
والقيام إلى الثالثة سنة غير مؤكدة من سنن
الهدي فيثاب فاعله بقدر ما فعل إن دائما
فبحسبه وإن مرة فبمثله ولا
(1/95)
يلام تاركه وإن
تركه مدة عمره, وأما الطاعن العالم بالحديث أي
من ثبت عنده الأحاديث المتعلقة بهذه المسألة
فلا أخاله إلا فيمن يشاقق الرسول من بعد ما
تبين له الهدى ونريد بسنة الهدي ههنا فعل غير
فرض وغير مختص بالنبي صلى الله تعالى عليه
وآله وسلم فعله هو والخلفاء الراشدون رضي الله
تعالى عنهم أو أمروا به وأقروا عليه قربة ولم
ينسخ ولم يترك بالإجماع وبغير المؤكدة ما
فعلوه مرة وتركوه أخرى فبقولنا فعل خرج به عدم
الرفع فإن العدم ليس بفعل نعم إذا كان العدم
مستمرا في زمان النبي صلى الله تعالى عليه
وآله وسلم والخلفاء الراشدين رضي الله تعالى
عنهم فقطعه يكون بدعة وليس في مفهوم البدعة
إزالة السنة حتى يلزم كون العدم سنة بل
مفهومها فعل لم يفهم في زمنهم وبقولنا غير فرض
خرجت الفرائض كلها وبقولنا غير مختص خرجت
النوافل المختصة به صلى الله تعالى عليه وآله
وسلم كالوصال في الصوم وبقولنا لم ينسخ خرجت
السنن المنسوخة كالقيام للجنازة وبقولنا لم
يترك بالإجماع خرجت السنن المتروكة به كالرفع
بين السجدتين انتهى. وفيما لا بد منه أن رفع
اليدين عند الإمام الأعظم ليس بسنة ولكن أكثر
الفقهاء والمحدثين يثبتونه انتهى. وفي سفر
السعادة أن الأخبار والآثار التي رويت في هذا
الباب تبلغ إلى أربعمائة انتهى. قال شارحه
الشيخ عبد الحق الدهلوي: إن الرفع وعدم الرفع
كلاهما سنة انتهى. وقد مر الجواب عنه وفي سفر
السعادة العربي وقد ثبت رفع اليدين في هذه
المواضع الثلاثة ولكثرة رواته شابه المتواتر
فقد صح في هذا الباب أربعمائة خبر وأثر رواه
العشرة المبشرة ولم يزل على هذه الكيفية حتى
رحل عن هذا العالم ولم يثبت غير هذا انتهى
بعبارته, ونقل ابن الجوزي في نزهة الناظر
للمقيم والمسافر عن المزني أنه قال: سمعت
الشافعي يقول: لا يحل لأحد سمع حديث رسول الله
صلى الله تعالى عليه وآله وسلم في رفع اليدين
في افتتاح الصلاة وعند الركوع والرفع من
الركوع أن يترك الاقتداء بفعله صلى الله تعالى
عليه وآله وسلم وهذا صريح في أنه يوجب ذلك
انتهى. وبالجملة: فقد ثبت رفع اليدين في
المواضع الأربعة المذكورة بروايات صحيحة ثابتة
وآثار مرضية راجحة ومذاهب حقة صادقة عن النبي
صلى الله تعالى عليه وآله وسلم وعن كبراء
الصحابة وعظماء العلماء والفقهاء والمجتهدين
بحيث لا يشوبها
(1/96)
نسخ ولا تعارض
حتى ادعى بعضهم التواتر ولا أقل من أن تكون
مشهورة كذا في التنوير, "والضم" لليدين أي
اليمنى على اليسرى حال القيام إما على الصدر
أو تحت السرة أو بينهما بأحاديث تقارب العشرين
في العدد ولم يعارض هذه السنن معارض ولا قدح
أحد من أهل العلم بالحديث في شيء منها وقد
رواه عن النبي صلى الله وسلم عليه نحو ثمانية
عشر صحابيا حتى قال ابن عبد البر: أنه لم يأت
فيه عن النبي صلى الله وسلم عليه خلاف وفي
تنوير العينين أن وضع اليد على الأخرى أولى من
الإرسال لأن الإرسال لم يثبت عن النبي صلى
الله عليه وآله وسلم ولا عن أصحابه بل ثبت
الوضع بروايات صحيحة ثابتة عن النبي صلى الله
تعالى عليه وآله وسلم وعن أصحابة رضي الله
تعالى عنهم كما روى مالك في الموطأ والبخاري
في صحيحه عن سهل بن سعد قال: كان الناس يؤمرون
أن يضع الرجل يده اليمنى على ذراعه اليسرى في
الصلاة. قال أبو حازم: لا أعلم إلا أنه ينمى
ذلك إلى النبي صلى الله وسلم عليه وروى
الترمذي عن قبيصة بن هلب عن أبيه قال: كان
رسول الله صلى الله وسلم عليه يؤمنا فيأخذ
شماله بيمينه. قال الترمذي: وفي الباب عن وائل
ابن حجر وغطيف بن الحرث وابن عباس وابن مسعود
وسهل بن سعد قال أبو عيسى: حديث هلب حديث حسن
والعمل على هذا عند أهل العلم من أصحاب النبي
صلى الله وسلم عليه والتابعين ومن بعدهم يرون
أن يضع الرجل يمينه على شماله في الصلاة, ورأى
بعضهم أن يضعهما فوق السرة ورأى بعضهم أن
يضعهما تحت السرة وكل ذلك واسع عندهم انتهى.
كذلك أخرج مسلم عن وائل بن حجر وابن مسعود
والنسائي عن وائل بن حجر والبخاري والحاكم عن
على وابن أبي شيبة عن غطيف بن الحرث وقبيصة بن
هلب عن أبيه ووائل بن حجر وعلي وأبي بكر
الصديق وأبي الدرداء أنه قال: من أخلاق
النبيين وضع اليمين على الشمال في الصلاة, وعن
الحسن أنه قال: قال رسول الله صلى الله تعالى
عليه وآله وسلم: "كأني أنظر أحبار بني إسرائيل
واضعي أيمانهم على شمائلهم في الصلاة" وهكذا
أخرج عن أبي مجلز وأبي عثمان النهدي ومجاهد
وأبي الحوراء. وأما ما روي من الإرسال عن بعض
التابعين من نحو الحسن وإبراهيم وابن المسيب
وابن سيرين وسعيد بن جبير كما
(1/97)
أخرجه ابن أبي
شيبة فإن بلغ عندهم حديث الوضع فمحمول على أنه
لم يحسبوه سنة من سنن الهدي بل حسبوه عادة من
العادات فمالوا إلى الإرسال لأصالته مع جواز
الوضع فعملوا بالإرسال بناء على الأصل إذ
الوضع أمر جديد يحتاج إلى الدليل وإذ لا دليل
لهم فاضطروا إلى الإرسال لا أنه ثبت عندهم
الإرسال وإلى ذلك يشير قول ابن سيرين حيث سئل
عن الرجل يمسك بيمينه شماله قال: إنما فعل ذلك
من أجل الروم كما أخرج ابن أبي شيبة. وأما ما
أخرج أبو بكر بن أبي شيبة عن يزيد بن إبراهيم
قال: سمعت عمرو بن دينار قال: كان ابن الزبير
إذا صلى يرسل يديه فهي رواية شاذة مخالفة لما
روى الثقات عنه كما أخرج أبو داود عن زرعة بن
عبد الرحمن قال: سمعت ابن الزبير يقول: صف
القدمين ووضع اليد على اليد من السنة, وإن سلم
كونها صحيحة فهذه فعله والفعل لا عموم له
ورواية الوضع عنه مرفوعة لأنه نسبه إلى السنة,
وقول الصحابي من السنة في حكم الرفع كما حقق
في كتب أصول الحديث ومع هذا لعله لم ير الوضع
من سنن الهدي وفهم الصحابي ليس بحجة كما مضى
لا سيما إذا كان مخالفا لأجلة الصحابة كأميري
المؤمنين أبي بكر الصديق وعلى المرتضى وابن
عباس وابن مسعود وسهل بن سعد ونحوهم على أنها
مخالفة للأحاديث المرفوعة المشهورة, وأعمال
الصحابة المستفيضة في باب الوضع فينبغي أن لا
يعول على الاعتبار ولا يلتفت إليها. وأما مالك
بن أنس فقد اضطربت الروايات عنه فالمدنيون من
أصحابه رووا عنه أمر الوضع مطلقا سواء كان في
الفرض أو النفل كما يشهد به حديث الموطأ عن
سهل بن سعد وأثره عن عبد الكريم بن أبي
المخارق البصري, والمصريون من أصحابه رووا عنه
الإرسال في الفرض والوضع في النفل وعبد الرحمن
بن القاسم روي عنه الإرسال مطلقا وروى أشهب
عنه إباحة الوضع وتلك الروايات أي روايات
المصريين وابن القاسم عنه وإن عمل بها
المتأخرون من المالكلية لكنها روايات شاذة
مخالفة لرواية جمهور أصحابه فلا تخرق الإجماع
والاتفاق ولا تصادم ما أدعينا من الإطباق
ولكونها شاذة أولها ابن الحاجب في مختصره في
الفقه بالإعتماد على الأرض إذا رفع رأسه من
السجدة ونهض إلى القيام ووضع اليدين تحت السرة
وفوقها متساويان لأن كلا منهما مروي عن أصحاب
النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم أخرج أبو
(1/98)
داود وأحمد
وابن أبي شيبة عن علي: "السنة وضع الكف في
الصلاة تحت السرة" رواه رزين وغيره وفي سفر
السعادة وضع الكف تحت الصدر في صحيح ابن
خزيمة. قال الترمذي: رأى بضعهم أن يضعهما فوق
السرة ورأى بعضهم أن يضعهما تحت السرة وكل ذلك
واسع عندهم كما ذكرنا سابقا وقال الشيخ ابن
الهمام: ولم يثبت حديث صحيح يوجب العمل في كون
الوضع تحت الصدر وفي كونه تحت السرة والمعهود
من الحنفية هو كونه تحت السرة وعن الشافعية
تحت الصدر وعند أحمد قولان كالمذهبين والتحقيق
المساواة بينهما كما ذكرنا سابقا والله تعالى
أعلم بأحكامه انتهى. وقال ابن القيم في أعلام
الموقعين بعد تخريج الأخبار والآثار في وضع
اليمنى على اليسرى: ردت هذه الآثار برواية ابن
القاسم عن مالك قال: تركه أحب إلي ولا أعلم
شيئا ردت به سواه انتهى. وفي حاشية الشفاء ومن
الغرائب أنها صارت في هذه الديار وفي هذه
الأعصار عند العامة ومن يشابههم ممن يظن أنه
قد ارتفع عن طبقتهم من أعظم المنكرات حتى أن
المتمسك بها يصير في اعتقاد كثير في عداد
الخارجين عن الدين فترى الأخ يعادي أخاه
والوالد يفارق ولده إذا رآه يفعل واحدة منها
أي من هذه السنن وكأنه صار متمسكا بدين آخر
ومنتقلا إلى شريعة غير الشريعة التي كان
عليها, ولو رآه يزني أو يشرب الخمر أو يقتل
النفس أو يعق أحد أبويه أو يشهد الزور أو يحلف
الفجور لم يجر بينه وبينه من العداوة ما يجري
بينه وبينه بسبب التمسك بهذه السنن أو ببعضها,
لا جرم هذه علامات آخر الزمان ودلائل حضور
القيامة وقرب الساعة انتهى. والإشارة بقوله
بهذه السنن إلى رفع اليدين في المواضع الأربعة
وضم اليدين في الصلاة قال: وأعجب من فعل
العامة الجهلة وأغرب سكوت علماء الدين وأئمة
المسلمين عن الإنكار على من جعل المعروف منكرا
والمنكر معروفا وتلاعب بالدين وبسنة سيد
المرسلين انتهى. "والتوجه" فقد وردت فيه
أحاديث بألفاظ مختلفة ويجزئ التوجه بواحد منها
إذا خرج من مخرج صحيح وأصحها الاستفتاح المروي
من حديث أبي هريرة وهو في الصحيحين وغيرهما بل
قد قيل إنه تواتر لفظا وهو: "اللهم باعد بيني
وبين خطاياي كما باعدت بين المشرق والمغرب
اللهم نقني من خطاياي كما ينقى الثوب الأبيض
من الدنس اللهم اغسلني من خطاياي بالماء
والثلج والبرد". قال في الحجة:
(1/99)
وقد صح في ذلك
صيغ منها: "اللهم باعد بيني" إلى آخره ومنها:
"إني وجهت وجهي للذي فطر السموات والأرض حنيفا
وما أنا من المشركين إن صلاتي ونسكي ومحياي
ومماتي لله رب العالمين لا شريك له وبذلك أمرت
وأنا أول المسلمين"1. ومنها: "سبحانك اللهم
وبحمدك وتبارك اسمك وتعالى جدك ولا إله غيرك".
ومنها: "الله أكبر كبيرا ثلاثا الحمد لله
كثيرا ثلاثا وسبحان الله بكرة وأصيلا ثلاثا"
والأصل في الاستفتاح حديث على في الجملة وأبي
هريرة وعائشة وجبير بن مطعم وابن عمر وغيرهم
وحديث عائشة وابن مسعود وأبي هريرة وثوبان
وكعب بن عجرة في سائر المواضع وغير هؤلاء
انتهى ملخصا. قلت: ذهب الشافعي في دعاء
الإفتتاح إلى حديث علي رضي الله تعالى عنه:
"إني وجهت وجهي" إلخ وأبو حنيفة إلى حديث
عائشة "سبحانك اللهم وبحمدك" إلخ وقال مالك:
لا نقول شيئا من ذلك. ومعنى قوله عندي أنه ليس
بسنة لازمة, وأشار البغوي إلى أن الإختلاف في
أذكار الصلاة من دعاء الإفتتاح وذكر الركوع
والسجود وما بعد التشهد بين الأئمة من
الاختلاف المباح فذكر كل أصح ما عنده وليس أحد
ينكر ما عند الآخر. بعد التكبيرة لأنه لم يأت
في ذلك خلاف النبي صلى الله عليه وسلم بل كل
من روي عنه الاستفتاح روى أنه بعد التكبيرة
ولم يأت في شيء أنه توجه قبلها وقد أوضح ذلك
العلامة الشوكاني في حاشية الشفاء. وأما ما
يتوجه به فهو الذي قد ثبت عنه صلى الله تعالى
عليه وآله وسلم وفيه الصحيح والأصح والوقوف
على ذلك ممكن بالنظر في مختصر من مختصرات
الحديث وسبحان الله وبحمده ما فعلت هذه
المذاهب بأهلها. و أما "التعوذ" فقد ثبت
بالأحاديث الصحيحة أن النبي صلى الله عليه
وسلم يفعله بعد الاستفتاح قبل القراءة ولفظه:
"أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم
من همزه ونفخه ونفثه" كما أخرجه أحمد وأهل
السنن من حديث أبي سعيد الخدري قال في الحجة:
ثم يتعوذ لقوله تعالى: {فَإِذَا قَرَأْتَ
الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ
الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ} وفي التعوذ صيغ
منها: "أعوذ بالله من الشيطان الرجيم" ومنها:
"استعيذ بالله من الشيطان الرجيم" ثم يبسمل
سرا لما شرع الله تعالى لنا من تقديم التبرك
باسم الله تعالى على القراءة ولأن
ـــــــ
1 الوارد في الحديث في التوجه: {وَأَنَا
أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ} لأن حكاية لفظ الآية
غير مراد فإن إبراهيم قال: {وَأَنَا أَوَّلُ
الْمُسْلِمِينَ} ولكن لا يقولها كل فرد منهم.
(1/100)
فيه احتياطا إذ
قد اختلفت الرواية هل هي آية من الفاتحة أم لا
فقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان
يفتتح الصلاة أي القراءة بالحمد لله رب
العالمين ولا يجهر ببسم الله الرحمن الرحيم
انتهى.
أقول: قد وقع الخلاف في البسملة من جهات:
الأولى في كونها قرآنا في كل سورة أم لا
الثانية في قراءتها في الصلاة أو سرا في
السرية وجهرا في الجهرية ولأهل العلم في كل
طرف من هذه الأطراف خلاف طويل ومنازعات كثيرة
والقراء منهم من يقرؤها في أول كل سورة ومنهم
من لا يقرؤها وقد أورد شيخنا العلامة الشوكاني
في شرح المنتقى ما لا يحتاج الناظر فيه إلى
غيره. والحاصل: أن الحق ثبوت قراءتها وأنها
آية من كل سورة وأنها تقرأ في الصلاة جهرا في
الجهرية وسرا في السرية في السرية وأحاديث عدم
سماع جهره صلى الله عليه وسلم بها وإن كانت
صحيحة فالجمع بينها وبين أحاديث الجهر ممكن
بأن يحمل نفي من نفى على أنه عرض له مانع عن
سماعها فإن وقت قراءة الإمام لها وقت إشتغال
المؤتم بالدخول في الصلاة والإحرام والتوجه
وتكبير القائمين إلى الصلاة ورواة الأسرار هم
مثل أنس وعبد الله بن مغفل وهم إذ ذاك من صغار
الصحابة قد لا يقفون في الصفوف المتقدمة لأنها
موقف كبار الصحابة كما ورد الدليل بذلك وعلى
كل تقدير فالمثبت مقدم على النافي, وأحاديث
الجهر وإن كانت غير سليمة من المقال فهي قد
بلغت في الكثرة إلى حد يشهد بعضها لبعض مع
كونها معتضدة بالرسم في المصاحف وهو دليل علمي
كما قاله العضد وغيره فقد وافقت سائر الآيات
القرآنية في ذلك فالظاهر مع من قال بأن صفتها
وصفة سائر الآيات متفقة. وأما ما في تنوير
العينين من أن ترك الجهر بالتسمية أولى من
الجهر بها لأن رواية ترك جهره أكثر وأوضح من
جهره انتهى فقد دفعه ما تقدم آنفا. و أما
التأمين فقد ورد به نحو سبعة عشر حديثا وربما
تفيد أحاديثه الوجوب على المؤتم إذا أمن إمامه
كما في حديث أبي هريرة في الصحيحين وغيرهما
بلفظ: "إذا أمن الإمام فأمنوا" فيكون ما في
المتن مقيدا بغير المؤتم إذا أمن إمامه وقد
ذهب إلى مشروعيته جمهور أهل العلم ومما يؤكد
مشروعيته أن فيه إغاظة لليهود لما أخرجه أحمد
وابن ماجه والطبراني من حديث عائشة مرفوعا:
"ما حسدتكم اليهود على شي ما حسدتكم على قول
آمين". قال ابن القيم في أعلام الموقعين:
السنة المحكمة الصحيحة الجهر بآمين
(1/101)
في الصلاة
كقوله في الصحيحين: "إذا أمن الإمام فأمنوا
فإنه من وافق تأمينه أمين الملائكة غفر له"
ولولا جهره بالتأمين لما أمكن المأموم أن يؤمن
معه ويوافقه في بالتأمين وأصرح من هذا حديث
سفيان الثوري عن سلمة بن كهيل عن حجر ابن عنبس
عن وائل بن حجر قال: كان رسول الله صلى الله
وسلم عليه إذا قال ولا الضالين قال آمين ورفع
بها صوته, وفي لفظ: "وطول بها" رواه الترمذي
وغيره وإسناده صحيح, وقد خالف شعبة سفيان في
هذا الحديث فقال: "وخفض بها صوته" وحكم أئمة
الحديث وحفاظه في هذا لسفيان فقال الترمذي:
سمعت محمد بن إسماعيل يقول: حديث سفيان الثوري
عن سلمة بن كهيل في هذا الباب أصح من حديث
شعبة وأخطأ شعبة في هذا الحديث في مواضع فقال
عن حجر أبي العنبس وإنما كنيته أبو السكن وزاد
فيه عن علقمة بن وائل وإنما هو حجر بن عنبس عن
وائل بن حجر ليس فيه علقمة وقال: "وخفض بها
صوته" والصحيح أنه جهر بها. قال الترمذي: سألت
أبا زرعة عن حديث سفيان وشعبة إذا اختلفا
فقال: القول قول سفيان إلى قوله: فرد هذا كله
بقوله تعالى: {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ
فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا} والذي نزلت
عليه هذه الآية هو الذي رفع صوته بالتأمين
والذين أمروا بها رفعوا به أصواتهم ولا معارضة
بين هذه الآية والسنة بوجه ما أهـ, ثم أطال
ابن القيم في بيان أدلة ترجيح هذه السنة
وتقريرها تركنا ذكرها مخافة الإطالة وفي تنوير
العينين يظهر بعد التعمق في الروايات والتحقيق
أن الجهر بالتأمين أولى من خفضه لأن رواية
جهره أكثر وأوضح من خفضه اهـ.
وقراءة غير الفاتحة معها لما ثبت في الصحيحين
وغيرهما من حديث أبي قتادة أن النبي صلى الله
تعالى عليه وآله وسلم كان يقرأ في الظهر في
الأوليين بأم الكتاب وسورتين وفي الركعتين
الأخريين بفاتحة الكتاب وورد ما يشعر بوجوب
قرآن مع الفاتحة من غير تعيين كحديث أبي هريرة
أن النبي صلى الله وسلم عليه أمره أن يخرج
فينادي: لاصلاة إلا بقراءة فاتحة الكتاب فما
زاد أخرجه أحمد وأبو داود وفي إسناده مقال
ولكنه قد أخرج مسلم في صحيحه وغيره من حديث
عبادة بن الصامت بلفظ: "لا صلاة لمن لم يقرأ
بفاتحة الكتاب فصاعدا" وقد أعلها البخاري في
جزء القراءة, وأخرج أبو داود من حديث أبي سعيد
بلفظ:
(1/102)
أمرنا أن نقرأ
بفاتحة الكتاب وما تيسر. قال ابن سيد الناس:
وإسناده صحيح ورجاله ثقات, وقال الحافظ ابن
حجر: إسناده صحيح. وأخرج ابن ماجة من حديث أبي
سعيد بلفظ: "لا صلاة لمن لم يقرأ في كل ركعة
بالحمد وسورة" وهو حديث ضعيف, وهذه الأحاديث
لا تقصر عن إفادة ايجاب قرآن مع الفاتحة من
غير تقييد بل مجرد الآية الواحدة يكفي, وأما
زيادة على ذلك كقراءة سورة مع الفاتحة في كل
ركعة من الأوليين فليس بواجب فيكون ما في
المتن مقيدا بما فوق الآية. قال في الحجة
البالغة: ثم يرتل سورة الفاتحة وسورة من
القرآن ترتيلا يمد الحروف ويقف على رؤوس الآي
يخافت في الظهر والعصر ويجهر الإمام في الفجر
والمغرب والعشاء ويقرأ في الفجر ستين آية إلى
مائة تداركا لقلة ركعاته بطول قراءته وفي
العشاء: {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى} .
{وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى} ومثلهما وحمل
الظهر على الفجر والعصر على العشاء وفي بعض
الروايات الظهر على العشاء والعصر على المغرب
وفي بعضها وفي المغرب بقصار المفصل لصيق الوقت
انتهى. و أما التشهد الأوسط فلم يرد فيه ألفاظ
تخصه بل يقول فيه ما يقول في التشهد الأخير
ولكنه يسرع بذلك وفي حاشية الشفاء للشوكاني
رح: وأما ما يقال فيه فهو ما يقال في التشهد
الأخير سواء بسواء إلا ما ورد تخصيصه بالآخر
فيختص به وظاهر الأدلة الواردة في التشهد شامل
للتشهدين جميعا إلا أنه ينبغي تخفيفه كما ورد
الدليل بذلك وأقل ما يقال فيه تشهد ابن مسعود
ويضم إليه الصلاة على النبي وآله صلى الله
وسلم عليه بأخصر لفظ فهذا لا ينافي التخفيف
المشروع انتهى. وقد روى أحمد والنسائي من حديث
ابن مسعود قال: إن محمدا قال إذا قعدتم في كل
ركعتين فقولوا التحيات لله والصلوات والطيبات
السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته
السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين أشهد أن
لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا عبده ورسوله
ثم ليتخير أحدكم من الدعاء أعجبه إليه فليدع
به ربه عز وجل, ورجاله ثقات وأخرجه الترمذي
بلفظ: علمنا رسول الله صلى الله وسلم عليه إذا
قعدنا في الركعتين, فالتقييد بالقعود في كل
ركعتين يفيد أن هذا التشهد هو التشهد الأوسط
ولكن ليس فيه ما ينفي زيادة الصلاة على النبي
صلى الله وسلم عليه وقد شرعها رسول الله صلى
الله وسلم عليه في التشهد مقترنة بالسلام على
النبي صلى الله وسلم عليه كما ورد بلفظ: قد
علمنا كيف السلام عليك فكيف
(1/103)
الصلاة وهو في
الصحيحين من حديث كعب بن عجرة وفي رواية من
حديث ابن مسعود فكيف نصلي عليك إذا نحن صلينا
في صلاتنا؟ وإنما لم يكن التشهد الأوسط واجبا
ولا قعوده لأن النبي صلى الله وسلم عليه تركه
سهوا فسبح الصحابة فلم يعد له بل استمر وسجد
للسهو فلو كان واجبا لعاد له عند ذهاب السهو
بوقوع التنبيه من الصحابة فلا يقال: أن سجود
السهو يكون لجبران الواجب كما يكون لجبران غير
الواجب لأنا نقول: محل الدليل ههنا هو عدم
العود لفعله بعد التنبيه على السهو. أقول: لا
ريب أنه صلى الله وسلم عليه لازم التشهد
الأوسط ولم يثبت في حديث من الأحاديث الحاكية
لفعله صلى الله وسلم عليه أنه تركه مرة واحدة
ولكن هذا القدر لا يثبت به الوجوب وإن كان
بيانا لمجمل واجب وانضم إليه حديث: "صلوا كما
رأيتموني أصلي" لأن الاقتصار في حديث المسيء
بعض ما كان يفعله دون بعض يشعر بعدم وجوب ما
لم يذكر فيه وأحاديث التشهد الصحيحة التي فيها
لفظ: "قولوا" وإن كان أصل الأمر للوجوب لكنه
مصروف عن حقيقته بحديث المسيء ويشكل على ذلك
قول ابن مسعود: كنا نقول قبل أن يفرض علينا
التشهد. الحديث. فإن هذه العبارة على أن
التشهد من المفترضات ويمكن أن يقال: إن فهم
ابن مسعود للفرضية لا يستلزم أن يكون الأمر
كذلك لأنه من مجالات الاجتهادات واجتهاده ليس
بحجة على أحد1, وأيضا بعض التشهد تعليم كيفية
وتعليم الكيفيات وإن كان بلفظ الأمر لا يدل
على وجوبها وما نحن بصدده من ذلك فإنه وقع في
جواب كيف نصلي عليك وإنما كان كذلك لأن جواب
السائل عن الكيفية يكون بالأمر وإن كانت غير
واجبة إجماعا تقول كيف أغسل ثوبي وأحمل متاعي
فيقول المسؤول افعل كذا غير مريد لا يجاب ذلك
عليك بل لمجرد التعليم للهيئة المسؤول عنها
بكيف فلا بد أن يكون الشيء المسؤول عن كيفيته
قد وجب بدليل آخر غير تعليم
ـــــــ
1 أما احتجاج الشارح بحديث المسيء صلاته فقد
بينا آنفا أنه لا يمنع من وجوب ما يدل الدليل
على وجوبه فالأحاديث التي فيها: "قولوا" تدل
على الوجوب قطعا ولا تصرف عن الوجوب وأما
دعواه أن قول ابن مسعود: "قبل أن يفرض علينا
التشهد" فهم من ابن مسعود فإنه مغالطة صريحة
بل هو دليل صريح وإخبار منه على أن التشهد فرض
عليهم وبناء الفعل لما لم يسم فاعله لا ينفي
فهم المراد وهو الشارع الذي إذا فرض عليهم
شيئا وجبت طاعته.
(1/104)
الكيفية1 وقد
وقع في بعض طرق حديث المسيء ذكر للتشهد فراجعه
في الموطن فإن صحت تلك الطرق كانت هي المفيدة
للوجوب, وأما حديث: "إذا أحدث المصلي بعد آخر
سجدة" فليس مما تقوم به الحجة فليعلم. و أما
الأذكار الواردة في كل ركن فكثيرة جدا منها:
تكبير الركوع والسجود والرفع والخفض كما دل
عليه حديث ابن مسعود قال: رأيت النبي صلى الله
وسلم عليه يكبر في كل رفع وخفض وقيام وقعود.
وأخرجه أحمد والنسائي والترمذي وصححه وأخرج
نحوه البخاري ومسلم من حديث عمران بن حصين
وأخرج نحوه من حديث أبي هريرة وفي الباب
أحاديث إلا عند الارتفاع من الركوع فإن الإمام
والمنفرد يقولان: "سمع الله لمن حمده" والمؤتم
يقول: "اللهم ربنا ولك الحمد" وهو في الصحيح
من حديث أبي موسى قال في حاشية الشفاء: الظاهر
من الأدلة أن الإمام والمنفرد يجمعان بين
السمعلة والحمدلة فيقولان: سمع الله لمن حمده
اللهم ربنا ولك الحمد حمدا كثيرا طيبا مباركا
فيه. وأما المؤتم ففيه احتمال وقد أوضحت
الصواب فيه في شرح المنتقى انتهى. قال ابن
القيم في الأعلام: السنة الصريحة في قول
الإمام: "ربنا لك الحمد" كما في الصحيحين من
حديث أبي هريرة: كان رسول الله صلى الله وسلم
عليه إذا قال سمع الله لمن حمده قال: "اللهم
ربنا لك الحمد" وفيهما أيضا عنه: كان رسول
الله صلى الله وسلم عليه يكبر حين يقوم ثم
يكبر حين يركع ثم يقول سمع الله لمن حمده حين
يرفع صلبه من الركعة ثم يقول وهو قائم ربنا لك
الحمد, وفي صحيح مسلم عن ابن عمر أن النبي صلى
الله وسلم عليه كان إذا رفع رأسه من الركوع
قال: "سمع الله لمن حمده اللهم ربنا لك الحمد"
فردت هذه السنن المحكمة بالمتشابه من قوله صلى
الله وسلم عليه: "إذا قال الإمام سمع الله لمن
حمده فقولوا ربنا لك الحمد" انتهى. وأما ذكر
الركوع فهو: "سبحان ربي العظيم" وذكر السجود:
"سبحان ربي الأعلى" ويدعو بعد ذلك بما أحب من
المأثور وغيره وأقل ما يستحب من التسبيح في
الركوع والسجود ثلاث لحديث ابن مسعود أن النبي
صلى الله وسلم عليه قال: إذا ركع أحدكم فقال
في ركوعه سبحان ربي العظيم ثلاث مرات فقد تم
ركوعه
ـــــــ
1 وقد وجب المسؤول عن كيفية بدليل آخر وهو
الأمر بالصلاة عليه في القرآن واستفهموا عن
بيان هذا الأمر المجمل فبين لهم فصار تفسيرا
للأمر الأول ملحقا به واجبا طاعته والله
الموفق.
(1/105)
وذلك أدناه
وإذا سجد فقال في سجوده سبحان ربي الأعلى ثلاث
مرات فقد تم سجوده وذلك أدناه أخرجه أبو داود
والترمذي وابن ماجة وفي اسناده انقطاع. وأما
ذكر الاعتدال فقد ثبت في الصحيح من حديث ابن
عباس أن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم كان
إذا رفع رأسه من الركوع قال: "اللهم ربنا لك
الحمد ملء السموات وملء الأرض وملء ما بينهما
وملء ما شئت من شيء بعد أهل الثناء والمجد أحق
ما قال العبد وكلنا لك عبد لا مانع لما أعطيت
ولا معطي لما منعت ولا ينفع ذا الجد منك الجد"
. وأما الذكر بين السجدتين فقد روى الترمذي
وأبو داود وابن ماجة والحاكم وصححه من حديث
ابن عباس أن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم
كان يقول بين السجدتين: "اللهم اغفر لي
وارحمني واجبرني واهدني وارزقني".
أقول: قد بين لنا صلى الله عليه وسلم كيفية
تسبيح الركوع والسجود بيانا شافيا نقله لنا
عنه الذين نقلوا إلينا سائر الأحكام الشرعية
فقالوا كان يقول في ركوعه: "سبحان ربي العظيم"
وفي سجوده: "سبحان ربي الأعلى" وكذلك أرشد
إليه صلى الله وسلم عليه قولا. وأما التقييد
بعدد مخصوص فلم يرد ما يدل عليه إنما كان
الصحابة يقدرون لبثه في ركوعه وسجوده تقادير
مختلفة والتطويل في الصلاة من السنن الثابتة
ما لم يكن المصلي إماما لقوم فإنه يصلي بهم
صلاة أخفهم كما أرشد إليه صلى الله تعالى عليه
وآله وسلم, و الأحاديث في الأذكار الكائنة في
الصلاة كثيرة جدا فينبغي الاستكثار من الدعاء
في الصلاة بخيري الدنيا والآخرة بما ورد وبما
لم يرد والأولى أن يأتي بهذه الأذكار قبل
الرواتب فإنه جاء في بعض الأذكار ما يدل على
ذلك كقوله: "من قال قبل أن ينصرف ويثني رجله
من صلاة المغرب والصبح لا إله إلا الله" الخ
وكقول الراوي: "كان إذا سلم من صلاته يقول
بصوته الأعلى: لا إله إلا الله" الخ. قال ابن
عباس: كنت أعرف انقضاء صلاة رسول الله صلى
الله تعالى عليه وآله وسلم بالتكبير , وفي
بعضها ما يدل ظاهرا كقوله: "دبر كل صلاة" وأما
قول عائشة: كان إذا سلم لم يقعد إلا مقدار ما
يقول: "اللهم أنت السلام" الخ فيحتمل وجوها
ذكرتها في شرح بلوغ المرام. وبالجملة:
فالأدعية كلها بمنزلة أحرف القرآن من قرأ منها
شيئا فاز بالثواب
(1/106)
الموعود وهذا
الباب يحتمل البسط وليس المراد هنا إلا
الإشارة إلى ما يحتاج إليه وقد ذكر الماتن هذه
المسائل والأذكار في شرح المنتقى وأورد كل ما
يحتاج إليه على وجه لا يحتاج الناظر فيه إلى
غيره.
فصل فيما لا يجوز في الصلاة وتبطل الصلاة
بالكلام لحديث زيد بن أرقم في الصحيحين
وغيرهما قال: كنا نتكلم في الصلاة يكلم الرجل
منا صاحبه حتى نزلت: {وَقُومُوا لِلَّهِ
قَانِتِينَ} فأمرنا بالسكوت ونهينا عن الكلام
وهكذا حديث ابن مسعود في الصحيحين وغيرهما
بلفظ: "إن في الصلاة لشغلا" وفي رواية لأحمد
والنسائي وأبي داود وابن حبان في صحيحه: أن
الله يحدث من أمره ما شاء وأنه أحدث من أمره
أن لا يتكلم في الصلاة, ولا خلاف بين أهل
العلم أن من تكلم عامدا عالما فسدت صلاته,
وإنما الخلاف في كلام الساهي ومن لم يعلم بأنه
ممنوع فأما من لم يعلم فظاهر حديث معاوية بن
الحكم السلمي الثابت في الصحيح أنه لا يعيد
وقد كان شأنه صلى الله وسلم عليه أن لا يحرج
على الجاهل ولا يأمره بالقضاء في غالب الأحوال
بل يقتصر على تعليمه وعلى إخباره بعدم جواز ما
وقع منه وقد يأمره بالإعادة كما في حديث
المسيء, وأما كلام الساهي والناسي فالظاهر أنه
لا فرق بينه وبين العامد العالم في إبطال
الصلاة. قال أبو حنيفة: كلام الناسي يبطل
الصلاة وحديث أبي هريرة كان قبل تحريم الكلام
ثم نسخ وفيه بحث لأن تحريم الكلام كان بمكة
وهذه القصة بالمدينة, وقال الشافعي: كلام
الناسي لا يبطل الصلاة وكلام العامد يبطلها
ولو قل, وتأويل الحديث عنده أن النبي صلى الله
وسلم عليه كان ناسيا بانيا كلامه على أن
الصلاة تمت وهو نسيان وكلام ذي اليدين على
توهم قصر الصلاة فكان حكمه حكم الناسي وكلام
القوم كان جوابا للرسول وإجابة الرسول لا تبطل
الصلاة, وقال مالك: إن كان الكلام العمد يسيرا
لإصلاح الصلاة لا يبطل مثل أن يقال: لم تكمل
فيقول: قد أكملت وحديث: نهينا عن الكلام. ولا
تكلموا خص منه هذا النوع من الكلام كذا في
المسوى. أقول أما فساد صلاة من تكلم ساهيا فلا
أعرف دليلا يدل عليه إلا عموم حديث النهي
(1/107)
عن الكلام وهو
مخصص بمثل حديث تكلمه صلى الله وسلم عليه بعد
أن سلم على ركعتين كما في حديث ذي اليدين فإنه
تكلم في تلك الحال ساهيا عن كونه مصليا وهو
المراد بكلام الساهي لأن المراد إصدار الكلام
من غير قصد فإن قيل إن ثم فرقا بين من تكلم
وهو داخل الصلاة لم يخرج منها وبين من تكلم
وقد خرج منها ساهيا فإن الأول أوقع الكلام حال
الصلاة والآخر أوقعه خارجها واعتداده بما قد
فعله قبل الخروج ساهيا لا يوجب كونه بعد
الخروج قبل الرجوع في صلاة وأدل دليل على ذلك
تكبيره للدخول بعد الخروج سهوا فيقال: الأدلة
لواردة في رفع الخطاب عن الساهي مخصصة لذلك
العموم فاقتضى ذلك أن المفسد هو كلام العامد
لا كلام الساهي, وأما عدم أمره لمعاوية بن
الحكم بالإعادة كما في الحديث فيمكن أن يكون
لتنزيل كلام الجاهل بالتحريم منزلة كلام
الساهي ويمكن أن يكون الجهل عذرا بمجرده
وبالاشتغال بما ليس منها وذلك مقيد بأن يخرج
به المصلي عن هيئة الصلاة كمن يشتغل مثلا
بخياطة أو نجارة أو مشي كثير أو التفات طويل
أو نحو ذلك وسبب بطلانها بذلك أن الهيئة
المطلوبة من المصلي قد صارت بذلك الفعل متغيرة
عما كانت عليه حتى صار الناظر لصاحبها لا يعده
مصليا, أقول: اختلفت أنظار أهل العلم في تعريف
الفعل الكثير المفسد للصلاة والمبطل لها والذي
أراه طريقا إلى معرفة الفعل الكثير أن ينظر
المتكلم في ذلك إلى ما صدر منه صلى الله وسلم
عليه من الأفعال مثل حمله لأمامة بنت أبي
العاص وطلوعه ونزوله في المنبر وهو في حال
الصلاة ونحو ذلك مما وقع منه صلى الله وسلم
عليه لا لإصلاح الصلاة فيحكم بأنه غير كثير,
وكذلك ما وقع لقصد إصلاح الصلاة مثل خلعه صلى
الله وسلم عليه للنعل وإذنه بمقاتلة الحية وما
أشبه ذلك ينبغي الحكم بأنه غير كثير بالأولى
وما خرج عن الواقع من أفعاله والمسوغ بأقواله
فهو فعل غير مشروع, ورجع في كونه مفسدا وغير
مفسد إلى الدليل فإن ورد ما يدل على أحد
الطرفين كان العمل عليه وإن لم يرد فالأصل
الصحة والفساد خلاف الأصل لا يصار إليه إلا
لقيام دليل يدل على الفساد ولكنه إذا صدر من
المصلي من الأفعال التي لمجرد العبث ما يخرج
به عن هيئة من يؤدي هذه
(1/108)
العبادة مثل:
أن يشتغل بعمل من الأعمال التي لا مدخل لها في
الصلاة ولا في إصلاحها نحو: حمل الأثقال
والخياطة والنسخ ونحو ذلك فهذا غير مصل فإذا
قال قائل بفساد صلاته فهو من حيث أنه قد فعل
ما ينافي الصلاة. وأما الاستدلال بحديث:
"اسكتوا في الصلاة" فهو مع كونه لا يفيد إلا
الوجوب والواجب لا يستلزم عدمه فساد ما هو
واجب فيه مخصص بجميع ما فعله صلى الله وسلم
عليه أو أذن به أو قرره وما خرج عن ذلك ففعله
غير جائز بل يجب تركه فقط فمن تركه كان ممدوحا
ومن فعله كان مذموما ومن قال إن الأمر بالشيء
نهي عن ضده والنهي يقتضي الفساد كما هو مذهب
طائفة من أهل الأصول فغاية ما هناك أن ذلك
الفعل الذي فعله ولم يتركه كما يجب عليه فاسد,
وأما كون الصلاة التي فعل فيها ذلك الفعل
فاسدة فشيء آخر. قال مجد الدين الفيروز أبادي
في الصراط المستقيم: ولسماع بكاء الطفل كان
يخفف الصلاة وأحيانا كان يتعلق به وهو في
الصلاة طفل فيحمله على عاتقه وأحيانا كان يأتي
الحسين وهو في السجود فيركب على ظهره المبارك
فيطيل السجود لأجله, وأحيانا كانت عائشة تأتي
وهو في الصلاة وقد غلق الباب فيخطو ليفتح
الباب لها, وأحيانا كان يسلم عليه وهو في
الصلاة فيجيب بالإشارة باسطا يده وقد يومئ
برأسه المبارك وكانت عائشة نائمة تجاه صلاته
فكان عند السجود يضع يده على رجلها لتخلي مكان
السجود بضم رجلها, وكان قد يصل إلى آية السجدة
على المنبر فيهبط إلى الأرض ليسجد ثم يصعد
واختصم وليدتان من بني عبد المطلب فتصارعتا
فلما دنتا منه أمسكهما بيده وفرق بينهما, وكان
يبكي في الصلاة كثيرا ويتنحنح أحيانا لحاجة,
وقال: "صلوا في نعالكم خلافا لليهود" اهـ. قال
في الحجة البالغة: إن النبي صلى الله وسلم
عليه قد فعل أشياء في الصلاة بيانا للمشروع
وقرر على أشياء فذلك وما دونه لا يبطل الصلاة.
والحاصل من الاستقراء أن القول اليسير مثل:
ألعنك بلعنة الله, ويرحمك الله, ويا ثكل أماه
وما شأنكم تنظرون إلي والبطش اليسير مثل: وضع
صبية من العاتق ورفعها وغمز الرجل ومثل فتح
الباب والمشي اليسير كالنزول من درج المنبر
إلى مكان ليتأتى منه السجود في
(1/109)
أصل المنبر
والتأخر من موضع الإمام إلى الصف والتقدم إلى
الباب المقابل ليفتح والبكاء خوفا من الله
تعالى والإشارة المفهمة وقتل الحية والعقرب
واللحظ يمينا وشمالا من غير لي العنق لا يفسد,
وإن تعلق القذر بجسده أو ثوبه إذا لم يكن
بفعله أو كان لا يعلمه لا يفسد. ا هـ. قلت:
اتفقوا على أن العمل اليسير لا يبطل الصلاة في
العالمكيرية إن حمل صبيا أو ثوبا على عاتقه لم
تفسد صلاته وإن حمل شيئا يتكلف في حمله فسدت,
وفي المنهاج الكثرة بالعرف فالخطوتان
والضربتان قليل والثلاث كثير وتبطل بالوثبة
الفاحشة لا الحركات الخفيفة المتوالية كتحريك
أصابعه في سبحة أوحك في الأصح في العالمكيرية1
لو فتح على غير إمامه تفسد إلا إذا عنى به
التلاوة دون التعليم وإن فتح على إمامه
فالصحيح لا تفسد بحال وفي المنهاج لو نطق بنظم
القرآن بقصد التفهيم كيا يحيي خذ الكتاب قصد
معه قراءة لم تفسد وإلا بطلت كذا في المسوى,
وبترك شرط كالوضوء فلأن الشرط يؤثر عدمه في
عدم المشروط. أو ركن لكون ذهابه يوجب خروج
الصلاة عن هيئتها المطلوبة عمدا وإذا ترك
الركن فما فوقه سهوا فعله وإن كان قد خرج عن
الصلاة كما وقع منه صلى الله تعالى عليه وآله
وسلم في حديث ذي اليدين فإنه سلم على ركعتين
ثم أخبر بذلك فكبر وفعل الركعتين المتروكتين,
وأما ترك ما لم يكن شرطا ولا ركنا من الواجبات
فلا تبطل به الصلاة لأنه لا يؤثر عدمه في
عدمها بل حقيقة الواجب ما يمدح فاعله ويذم
تاركه وكونه يذم لا يستلزم أن صلاته باطلة.
والحاصل: أن الشروط للشيء هي التي تثبت بدليل
يدل على انتفاء المشروط عند انتفاء الشرط نحو
أن يقول الشارع: من لم يفعل كذا فلا صلاة له
أو يأتي عن الشارع ما هو تصريح بعدم الصحة أو
بعدم القبول أو الأجر أو يثبت عنه النهي عن
الإتيان بالمشروط بدون الشرط لأن النهي يدل
على الفساد المرادف للبطلان على ما هو الحق
وأما كون الشيء واجبا فهو يثبت بمجرد طلبه من
الشارع ومجرد الطلب لا يستلزم زيادة على كون
الشيء واجبا فتدبر هذا تسلم من الخبط والخلط.
فصل "ولا تجب" الصلوات المكتوبة الخمس "على
غير مكلف" لأن
ـــــــ
1 هي الفتاوى الهندية المعروفة في مذهب أبي
حنيفة.
(1/110)
خطاب التكليف
لا يتناول غير مكلف ولا خلاف في ذلك في
الواجبات الشرعية, وأما ما ورد من تعويد
الصبيان وتمرينهم فالخطاب في ذلك للمكلفين
والوجوب عليهم لا على الصغار. "وتسقط عمن عجز
عن الإشارة" لأن إيجابها على المريض مع بلوغه
إلى ذلك الحد هو من تكليف ما لا يطاق ولم يكلف
الله تعالى أحدا فوق طاقته. و كذلك عمن أغمي
عليه حتى خرج وقتها فلا وجوب عليه لأنه غير
مكلف في الوقت
ويصلي المريض قائما ثم قاعدا ثم على جنب لحديث
عمران بن حصين عند البخاري وأهل السنن وغيرهم
قال: "كانت بي بواسير فسألت النبي صلى الله
تعالى عليه وآله وسلم عن الصلاة فقال: "صل
قائما فإن لم تستطع فقاعدا فإن لم تستطع فعلى
جنب" . وقد نطق بمضمون ذلك القرآن الكريم وإذا
تعذر على المصلي صفة من صفات صلاة العليل
الواردة أتي بالصلاة على صفة أخرى مما ورد ثم
يفعل ما قدر عليه ودخل تحت استطاعته:
{فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} .
"وإذا أمرتم بأمر فأتوا منه ما استطعتم" .
(1/111)
باب صلاة التطوع
"هي أربع قبل الظهر وأربع بعده وأربع قبل
العصر". لما ثبت في ذلك من حديث أم حبيبة
قالت: سمعت رسول الله صلى الله وسلم عليه
يقول: "من صلى أربع ركعات قبل الظهر وأربعا
بعدها حرمه الله على النار" رواه أحمد وأهل
السنن وصححه الترمذي وابن حبان قال في سفر
السعادة: وكان يفصل بين هذه الأربع بتسليمتين
قال أمير المؤمنين علي: كان النبي صلى الله
وسلم عليه يصلي قبل الظهر أربع ركعات يفصل
بينهن بالتسليم على الملائكة المقربين ومن
معهم من المسلمين والمؤمنين. رواه أحمد
والترمذي محسنا ا هـ. وأخرج أحمد وأبو داود
والترمذي عن ابن عمر: أن النبي صلى الله وسلم
عليه قال: "رحم الله امرأ صلى قبل العصر
أربعا" وحسنه الترمذي وصححه ابن حبان وابن
خزيمة. "وركعتان بعد المغرب" قال في سفر
السعادة: وفي سنة المغرب سنتان: إحداهما أن لا
يتكلم بينهما وبين الفريضة لما في الحديث: "من
صلى ركعتين بعد
(1/111)
المغرب". قال
مكحول: يعني قبل أن يتكلم رفعت صلاته في
عليين. الثانية: أن تكون في البيت, دخل رسول
الله صلى الله وسلم عليه مسجد بني الأشهل وصلى
المغرب فلما فرغ رأى أهل المسجد اشتغلوا بصلاة
السنة فقال: "هذه صلاة البيوت" وفي لفظ ابن
ماجة: "اركعوا هاتين في بيوتكم" . حاصله: أن
عادة حضرة سيدنا رسول الله صلى الله وسلم عليه
أنه كان يصلي جميع السنن في بيته إلا أن يكون
بسبب وكان يقول: أيها الناس: "صلوا في بيوتكم
فإن أفضل صلاة الرجل في بيته إلا المكتوبة" ا
هـ. وقال أيضا: وكان الصحابة يصلون قبل المغرب
ركعتين ولم يمنعهم صلى الله وسلم عليه من ذلك
وثبت في الصحيحين أنه صلى الله وسلم عليه قال:
"صلوا قبل المغرب" وقال في الثالثة: "لمن شاء"
كراهة أن يتخذها الناس سنة فصلاتها مندوبة
مستحبة لكن لا تبلغ درجة الرواتب ا هـ.
"وركعتان بعد العشاء وركعتان قبل الفجر" لما
ثبت في الصحيحين وغيرهما من حديث عبد الله بن
عمر قال: حفظت عن رسول الله صلى الله تعالى
عليه وآله وسلم: ركعتين قبل الظهر وركعتين بعد
الظهر وركعتين بعد المغرب وركعتين بعد العشاء
وركعتين قبل الغداة". وأخرج نحوه مسلم في
صحيحه وأحمد والترمذي وصححه من حديث عبد الله
بن شقيق, وأخرج نحوه مسلم وأهل السنن من حديث
أم حبيبة ولا ينافي هذا ما تقدم من الدليل
الدال على مشروعية أربع قبل الظهر وأربع بعده
لأن هذه زيادة مقبولة وثبت في الصحيحين من
حديث عائشة أن النبي صلى الله تعالى عليه وآله
وسلم لم يكن على شيء من النوافل أشد تعاهدا
منه على ركعتي الفجر. وثبت في صحيح مسلم وغيره
من حديثها: أن ركعتي الفجر خير من الدنيا وما
فيها, وفيهما أحاديث كثيرة. قال في سفر
السعادة: وكان يحافظ على ركعتي الفجر بحيث أنه
كان يواظب عليهما في السفر أيضا ولم يرو أنه
صلى الله وسلم عليه صلى في السفر شيئا من
السنن الرواتب إلا سنة الفجر وصلاة الوتر,
وللعلماء في أفضلية سنة الفجر وصلاة الوتر
قولان: قال بعضهم: سنة الفجر آكد, وقال بعضهم:
بل الوتر, وكما أن الوتر واجب عند البعض كذا
سنة الفجر تجب عند البعض, وقال بعض المشايخ:
سنة الفجر ابتداء العمل والوتر ختم العمل فلا
جرم صرفنا العناية
(1/112)
لشأنهما ولهذا
السبب شرع فيهما قراءة سورة الإخلاص وسورة قل
يا1 لاشتمالهما على توحيد العلم والعمل وتوحيد
المعرفة والإرادة وتوحيد الاعتقاد والقصد كما
بيناه في كتاب حاصل كورة الخلاص في فضائل سورة
الإخلاص ا هـ. "وصلاة الضحى" والأحاديث فيها
متواترة عن جماعة من الصحابة وأقلها ركعتان
كما في حديث أبي هريرة في الصحيحين وغيرهما,
وأكثرها اثنتا عشرة ركعة كما دلت على ذلك
الأدلة وفي الحجة البالغة وللضحى ثلاث درجات
أقلها ركعتان وفيها أنها تجزي عن الصدقات
الواجبة على كل سلامي ابن آدم وثانيتها أربع
ركعات وفيها عن الله تعالى: "يا ابن آدم اركع
لي أربع ركعات من أول النهار أكفك آخره"
وثالثها ما زاد عليها كثماني ركعات وثنتي
عشرة, وأكمل أوقاته حين يرتحل النهار وترمض
الفصال2 اهـ. "وصلاة الليل" والأحاديث فيها
صحيحة متواترة لا يتسع المقام لبسطها قال
تعالى: {إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ
أَشَدُّ وَطْئاً وَأَقْوَمُ قِيلاً} وقال صلى
الله وسلم عليه: "صلوا بالليل والناس نيام"
وكانت العناية بصلاة التهجد أكثر فبين صلى
الله وسلم عليه فضائلها وضبط آدابها وأذكارها.
قال: "عليكم بقيام الليل فإنه دأب الصالحين
قبلكم وهو قربة لكم إلى ربكم مكفرة للسيئات
منهاة عن الإثم" وغير ذلك. وأكثرها ثلاث عشرة
ركعة, وقد كان صلى الله تعالى عليه وآله وسلم
يصلي صلاة الليل على أنحاء مختلفة فتارة يصلي
ركعتين ركعتين ثم يوتر بركعة وتارة يصلي أربعا
أربعا وتارة يجمع بين زيادة على الأربع وذلك
كله سنة ثابتة قال في الحجة البالغة: صلاها
النبي صلى الله وسلم عليه على وجوه والكل سنة.
قال في المنح قالت عائشة: ولا أعلم رسول الله
صلى الله وسلم عليه قرأ القرآن كله في ليلة
ولا قام ليلة حتى أصبح. اهـ. "يوتر في آخرها
بركعة" إما منفردة أو منضمة إلى شفع قبلها.
قال ابن القيم: ووردت السنة الصحيحة الصريحة
المحكمة في الوتر بخمس متصلة وسبع متصلة كحديث
أم سلمة كان رسول الله صلى الله وسلم عليه
يوتر بسبع وبخمس لا يفصل بسلام ولا كلام, رواه
ـــــــ
1 يعني: " {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ}
" وهذا اختصار غريب لا معنى له.
2 "ترمض" بفتح الميم من باب "تعب" و"الفصال"
جمع فصيل وهو ولد الناقة والمراد إذا وجد
الفصيل حر الشمس من الرمضاء.
(1/113)
أحمد وكقول
عائشة: كان رسول الله صلى الله وسلم عليه يصلي
من الليل ثلاث عشرة ركعة يوتر من ذلك بخمس لا
يجلس إلا في آخرهن متفق عليه. وكحديث عائشة:
أنه يصلي من الليل تسع ركعات لا يجلس فيها إلا
في الثامنة فيذكر الله ويحمده ويدعوه ثم يسلم
تسليما يسمعنا ثم يصلي ركعتين بعدما يسلم وهو
قاعد فتلك إحدى عشرة ركعة فلما أسن رسول الله
صلى الله وسلم عليه وأخذه اللحم أوتر بسبع
وصنع في الركعتين مثل صنيعه في الأول, وفي لفظ
عنها: فلما أسن وأخذه اللحم أوتر بسبع ركعات
لم يجلس إلا في السادسة والسابعة ولم يسلم إلا
في السابعة. وفي لفظ: صلى سبع ركعات لا يقعد
إلا في آخرهن, وكلها أحاديث صحاح صريحة لا
معارض لها فردت بقوله صلى الله وسلم عليه:
"صلاة الليل مثنى مثنى" وهو حديث صحيح ولكن
الذي قاله هو الذي أوتر بالسبع والخمس وسنته
كلها حق يصدق بعضها بعضا فالنبي صلى الله وسلم
عليه أجاب السائل له عن صلاة الليل بأنها مثنى
مثنى ولم يسأله عن الوتر, وأما السبع والخمس
والتسع والواحدة فهي صلاة الوتر والوتر اسم
للواحدة المنفصلة مما قبلها وللخمس والسبع
والتسع المتصلة كالمغرب اسم للثلاث المتصلة
فان انفصلت الخمس والسبع بسلامين كالإحدى عشرة
كان الوتر اسم الركعة المفصولة وحدها قال صلى
الله وسلم عليه: "صلاة الليل مثنى مثنى فإذا
خشي الصبح أوتر بواحدة توتر له ما قد صلى"
فاتفق فعله صلى الله وسلم عليه وقوله وصدق
بعضه بعضا اهـ. والحق أن الوتر سنة هو أو كد
السنن بينه علي وابن عمر وعبادة ابن الصامت
وإليه ذهب أكثر العلماء إلا أبا حنيفة خاصة
فإنه واجب على الصحيح عنده. وثلاث ركعات لا
يزيد ولا ينقص قال في المسوى: وأقل الوتر ركعة
في قول أكثرهم وأكثره إحدى عشرة أو ثلاث عشرة
وأدنى الكمال ثلاث وما زاد فهو أفضل ا هـ.
وكان النبي صلى الله وسلم عليه إذا صلاها
ثلاثا يقرأ في الأولى بـ {سَبِّحِ اسْمَ
رَبِّكَ الْأَعْلَى} وفي الثانية: بـ {قُلْ
يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} وفي الثالثة: بـ
{قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} والمعوذتين. أقول:
دلت الأخبار على أن وقت الوتر بعد الفراغ من
العشاء الآخرة إلى طلوع الفجر وهذا هو عين ما
أفتى به أبو موسى وفتواه هي الثابتة عن رسول
الله صلى الله وسلم عليه أخرجه مسلم في صحيحه
من حديث أبي سعيد قال: قال رسول الله صلى وسلم
عليه: "أوتروا قبل أن تصبحوا" وأخرج ابن حبان
عنه صلى الله وسلم عليه أنه قال: "إذا طلع
الفجر فقد ذهب كل صلاة الليل"
(1/114)
والوتر فأوتروا
قبل طلوع الفجر, والأحاديث في الباب كثيرة
والأحاديث الثابتة في إيتاره صلى الله وسلم
عليه بركعة أكثر من أن تحصى فهي صالحة لتخصيص
ما هو من العمومات في أعلى طبقة فكيف بما لا
صحة له قط؟ وحديث البتيراء لم يصح والذي ينبغي
التعويل عليه في دفع الوجوب الأحاديث المصرحة
بأن الوتر غير واجب والوتر عبادة عن آخر صلاة
الليل, وقد ثبت في ذلك صفات متعددة بأحاديث
صحيحة كما تقدمت الإشارة إلى ذلك. والحاصل: أن
لصلاة الليل باعتبار وترها ثلاث عشرة صفة كما
ذكر ذلك ابن حزم في المحلى فالقول بأن الوتر
ثلاث ركعات فقط لا يجوز أن يكون الإيتار
بغيرها ضيق عطن وقصور باع ولمثل هذا صار أكثر
فقهاء العصر لا يعرفون الوتر إلا بأنها ثلاث
ركعات بعد صلاة العشاء حتى أن كثيرا منهم يكون
له قيام في الليل وتهجد فتراه يصلي الركعات
المتعددة ويظن أن الوتر شيء قد فعله وأنه لا
تعلق له بهذه الصلاة التي يفعلها في الليل وهو
لايدري أن الوتر هو ختام صلاة الليل وأنه لا
صلاة بعده إلا الركعتان المعروفتان بسنة الفجر
وكثيرا ما يقع الإنسان في الابتداع وهو يظن
أنه في الإتباع والسبب عدم الشغل بالعلم وسؤال
أهل الذكر, وأما ما روي عن الحسن البصري أنه
قال: أجمع المسلمون على أن الوتر ثلاث لا يسلم
إلا في آخرهن فإن أراد أن الإجماع وقع على هذا
القدر وأنه لا يجوز الإيتار بغيره فهو من
البطلان بمكان لا يخفي على عارف, فهذه الدفاتر
الإسلامية الحاكية لمذاهب الصحابة الذين
أدركهم الحسن البصري ولمذاهب التابعين الذين
هو واحد منهم قاضية بخلاف هذه الحكاية وهي بين
أيدينا, وإن أراد أن هذه الصفة هي إحدى صفات
الوتر فنحن نقول بموجب ذلك فقد روي الايتار
بثلاث ولكنه روي النهي عن الإيتار بثلاث كما
أوضح ذلك الماتن رح في شرح المنتقى فتعارضت
رواية الثلاث ورواية النهي, والعالم بكيفية
الاستدلال لا يخفى عليه الصواب وقد تقدم أن
حديث البتيراء لا أصل له على أن النسخ لا يتم
ادعاؤه إلا بعد معرفة التاريخ لأن الناسخ لا
يكون إلا متأخرا بإجماع المسلمين القائلين
بثبوت أصل النسخ في هذه الشريعة المطهرة فدعوى
النسخ بمجرد الاحتمال مجازفة عظيمة ولا سيما
إذا كان المدعي لذلك لم يتعب نفسه في علوم
السنة المطهرة. وتحية المسجد لحديث: "إذا دخل
أحدكم المسجد فلا يجلس حتى يصلي ركعتين"
(1/115)
أخرجه الجماعة
من حديث أبي قتادة وفي ذلك أحاديث كثيرة وقد
وقع الاتفاق على مشروعية تحية المسجد, وذهب
أهل الظاهر إلى أنهما واجبتان وذلك غير بعيد
وقد حقق الماتن المقام في شرح المنتقى وفي
رسالة مستقلة. و صلاة الاستخارة وفيها أحاديث
كثيرة منها: حديث جابر عند البخاري وغيره
بلفظ: كان رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله
وسلم يعلمنا الاستخارة في الأمور كلها كما
يعلمنا السورة من القرآن يقول: "إذا هم أحدكم
بالأمر فليركع ركعتين من غير الفريضة ثم ليقل
اللهم إني أستخيرك بعلمك وأستقدرك بقدرتك
وأسألك من فضلك العظيم فإنك تقدر ولا أقدر
وتعلم ولا أعلم وأنت علام الغيوب اللهم إن كنت
تعلم أن هذا الأمر خير لي في ديني ومعاشي
وعاقبة أمري أو قال عاجل أمري وآجله فاقدره لي
ويسره لي ثم بارك لي فيه وإن كنت تعلم أن هذا
الأمر شر لي في ديني ومعاشي وعاقبة أمري أو
قال عاجل أمري وآجله فاصرفه عني واصرفني عنه
وأقدر لي الخير حيث كان ثم أرضني بت" . قال:
ويسمي حاجته. قال في الحجة البالغة: وعندي أن
إكثار الاستخارة في الأمور ترياق مجرب بتحصل
شبه الملائكة وضبط النبي صلى الله وسلم عليه
آدابها ودعاءها فشرع ركعتين وعلم اللهم إني
أستخيرك الخ ا هـ.
"وركعتان بين كل أذان وإقامة" لحديث: "بين كل
أذانين صلاة" قال ذلك ثلاث مرات ثم قال: "لمن
شاء" وهو حديث صحيح والمراد بالأذانين الأذان
والإقامة تغليبا كالقمرين والعمرين.
(1/116)
باب صلاة الجماعة
"هي من آكد السنن" وأعظم الشعائر الإسلامية
وأفضل القرب الدينية لما ورد فيها من
الترغيبات حتى أنه صلى الله وسلم عليه صرح
بأنه تزيد على صلاة الفرد بسبع وعشرين درجة
كما في الصحيحين ووقع منه الإخبار بأنه قد هم
بأن يحرق على المتخلفين دورهم. قال ابن القيم:
ولم يكن ليحرق مرتكب صغيرة فترك الصلاة في
الجماعة هو من الكبائر ا هـ. ولازمها صلى الله
وسلم عليه من الوقت الذي شرعها الله تعالى فيه
إلى أن قبضه الله تعالى إليه ولم يرخص صلى
الله وسلم عليه في تركها لمن سمع النداء فإنه
سأله الرجل الأعمى أن يصلي في بيته فرخص له
فلما ولى دعاه فقال: "هل تسمع النداء –قال:
نعم- قال: فأجب" وكل ما ذكرناه
(1/116)
ثابت في الصحيح
وثبت في الصحيح أيضا عن ابن مسعود أنه قال:
لقد رأيتنا وما يتخلف عنها إلا منافق معلوم
النفاق. قال ابن القيم: هذا فوق الكبيرة ا هـ.
ولقد كان الرجل يؤتى به يهادي بين الرجلين حتى
يقام في الصف. أقول: أما كونها فريضة متحتمة
فالأدلة متعارضة ولكن ههنا طريقة أصولية يجمع
بها بين هذه الأدلة وهي أن أحاديث أفضلية
الجماعة مشعرة بأن صلاة المنفرد مجزئة وهي
أحاديث كثيرة مثل حديث: "الذي ينتطر الصلاة مع
الإمام أفضل من الذي يصلي وحده ثم ينام" وهو
في الصحيح ومنه حديث المسيء صلاته المشهور
فإنه أمره بأن يعيد الصلاة منفردا ومنه حديث:
"ألا رجل يتصدق على هذا" عند أن رأى رجلا يصلي
منفردا ومن ذلك أحاديث التعليم لأركان الإسلام
فإنه لم يأمر من علمه بأن لا يصلي إلا في
جماعة مع أنه قال لمن قال له لا يزيد على ذلك
ولا ينقص: "أفلح وأبيه إن صدق" ونحو ذلك من
الأدلة فالجميع صالح لصرف: "فلا صلاة له"
الواقع في الأحاديث الدالة على وجوب الجماعة
إلى نفي الكمال لا إلى نفي الصحة. وأما ما وقع
منه صلى الله وسلم عليه من الهم بتحريق
المتخلفين فهو إن لم يكن قولا ولا فعلا ولا
تقريرا لكنه لا يكون ما يهم به إلا جائزا ولا
يجوز التحريق بالنار لمن ترك ما لم يفرض عليه
فالجواب عنه قد بسطه شيخنا العلامة الشوكاني
في شرح المنتقى قال في الحجة البالغة: لما كان
في شهود الجماعة حرج للضعيف والسقيم وذي
الحاجة اقتضت الحكمة أن يرخص في تركها عند ذلك
ليتحقق العدل بين الإفراط والتفريط فمن أنواع
الحرج: ليلة ذات برد ومطر ويستحب عند ذلك قول
المؤذن: ألا صلوا في الرحال, ومنها حاجة يعسر
التربص بها كالعشاء إذا حضر فإنه ربما يتشوف
إليه, وربما يضيع الطعام وكمدافعة الأخبثين
فإنه بمعزل عن فائدة الصلاة مع ما به من
اشتغال النفس, ولا اختلاف بين حديث: "لا صلاة
بحضرة الطعام" وحديث: "لا تؤخر الصلاة لطعام
ولا غيره" إذ يمكن تنزل كل واحد على صورة أو
معنى والمراد نفي وجوب الحضور سر الباب التعمق
وعدم التأخير هو الوظيفة لمن أمن سر التعمق
وذلك كتنزيل فطر الصائم وعدمه على الحالين أو
التأخير إذا كان تشوف إلى الطعام أو خوف ضياع
وعدمه إذا لم يكن كذلك مأخوذ من حال العلة,
ومنها ما إذا كان خوف فتنة كامرأة أصابت بخورا
ولا اختلاف بين قوله صلى الله وسلم عليه: "إذا
(1/117)
استأذنت امرأة
أحدكم إلى المسجد فلا يمنعها" وبين ما حكم به
جمهور الصحابة من منعهن إذ المنهي عنه الغيرة
التي تنبعث من الأنفة دون خوف الفتنة والجائز
ما فيه خوف الفتنة وذلك قوله صلى الله وسلم
عليه: "الغيرة غيرتان" الحديث. وحديث عائشة:
أن النساء أحدثن الحديث, ومنها الخوف والمرض
والأمر فيهما ظاهر ومعنى قوله صلى الله وسلم
عليه للأعمى: "أتسمع النداء" الخ أن سؤاله كان
في العزيمة فلم يرخص له
وتنعقد باثنين وليس في ذلك خلاف, وقد ثبت في
الصحيح من حديث ابن عباس أنه صلى بالليل مع
النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم وحده
وقام عن يساره1 فأداره إلى يمينه. و إذا كثر
الجمع كان الثواب أكثر لأنه قد ثبت عن أبي بن
كعب قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه
وآله وسلم: "صلاة الرجل مع الرجل أزكى من
صلاته وحده وصلاته مع الرجلين أزكى من صلاته
مع الرجل وما كان أكثر فهو أحب إلى الله"
أخرجه أحمد وأبو داود والنسائي وابن ماجه وابن
حبان وصححه ابن السكن والعقيلي والحاكم "ويصح
بعد المفضول2" لأنه صلى الله تعالى عليه وآله
وسلم قد صلى بعد أبي بكر وبعد غيره من الصحابة
كما في الصحيح ولعدم وجود دليل يدل على أنه
يكون الإمام أفضل والأحاديث التي فيها: "لا
يؤمنكم ذو جرأة في دينه" ونحوها لا تقوم بها
الحجة, وعلى فرض أنها تقوم بها الحجة فليس
فيها إلا المنع من إمامة من كان ذا جرأة في
دينه وليس فيها المنع من إمامة المفضول, وقد
عورض ذلك بأحاديث تتضمن الإرشاد إلى الصلاة
خلف كل بر وفاجر وخلف من قال لا إله إلا الله
وهي ضعيفة وليست بأضعف مما عارضها, والأصل أن
الصلاة عبادة تصح تأديتها خلف كل مصل إذا قام
بأركانها وأذكارها على وجه لا تخرج به الصلاة
عن الصورة المجزئة وإن كان الإمام غير متجنب
للمعاصي ولا متورع عن كثير مما يتورع عنه
غيره, ولهذا إن الشارع إنما اعتبر حسن القراءة
والعلم والسن ولم يعتبر الورع والعدالة فقال:
"يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله فإن كانوا في
القراءة سواء فأعلمهم بالسنة فإن كانوا في
السنة سواء فأقدمهم هجرة فإن كانوا في الهجرة
سواء فأقدمهم سنا" .
ـــــــ
1 الأصل: "وقعد" وهو خطأ فإن الحديث في
الصحيحين وغيرهما: فقمت أصلي معه فقمت عن
يساره فاخذ برأسي وأقامني عن يمينه.
2 استعمل المؤلف في أفعال الصلاة ويفعلها بعده
ولكني لم أجد هذا الاستعمال في كتب اللغة ولا
غيرها.
(1/118)
أخرجه مسلم
وغيره من حديث أبي مسعود وفي حديث مالك بن
الحويرث: "وليؤمكما أكبركما" وهو في الصحيحين
وغيرهما, وقد استخلف النبي صلى الله تعالى
عليه وسلم ابن أم مكتوم على المدينة مرتين
يصلي بهم وهو أعمى. والحاصل: أن الشارع اعتبر
الأفضلية في القراءة والعلم بالسنة وقدم
الهجرة وعلو السن فلا ينبغي للمفضول في مثل
هذه الأمور أن يؤم الفاضل إلا بإذنه ولا
اعتبار بالفضل في غير ذلك. والأولى أن يكون
الإمام من الخيار لحديث ابن عباس قال: قال
رسول الله صلى الله وسلم عليه: "اجعلوا أئمتكم
خياركم فإنهم وفدكم فيما بينكم وبين ربكم" .
رواه الدارقطني, وأخرج الحاكم في ترجمة مرثد
الغنوي عنه صلى الله وسلم عليه: "إن سركم أن
تقبل صلاتكم فليؤمكم خياركم فإنهم وفدكم فيما
بينكم وبين ربكم" قال في منح المنة: وكان صلى
الله وسلم عليه يجيز إمامة الأرقاء وكان سالم
مولى أبي حذيفة يصلي بالمهاجرين الأولين لما
نزلوا بقباء1 لكونه أكثرهم قرآنا وكان صلى
الله وسلم عليه يقول: "صلوا خلف كل بر وفاجر"
وكانت الصحابة خلف الحجاج وقد أحصي الذين
قتلهم من الصحابة والتابعين فبلغوا مائة ألف
وعشرين ألفا ا هـ. أقول: الأحاديث الواردة في
الصلاة خلف كل بر وفاجر وما قابلها من
الأحاديث المقضية للمنع من الصلاة خلف الفاجر
ومن كان ذا جرأة لم يبلغ منها شيء إلى حد يجوز
العمل عليه فوجب الرجوع إلى الأصل, وأما عدم
اعتبار قيد العدالة فلعدم ورود دليل يدل عليه,
وأما كون الصلاة خلف كامل العدالة واسع العلم
كثير الورع أفضل وأحب فلا نزاع في ذلك إنما
النزاع في كون ذلك شرطا من شروط الجماعة مع
أنه قد ثبت ما يدل على عدم الاعتبار مثل حديث:
"يصلون لكم فإن أصابوا فلكم ولهم وإن أخطؤوا
فعلى أنفسهم" أو كما قال وهو حديث صحيح.
والحاصل: أن الدين يسر وقد جاءنا صلى الله
وسلم عليه بالشريعة السمحة السهلة ولم يأمرنا
بالكشف عن الحقائق وسن أن نصلي بعد من كان
بالنسبة إلى الواحد منا في الحضيض باعتبار
المزايا الموجبة للفضل فإنه صلى الله وسلم
عليه بعد أبي بكر وعتاب بن أسيد وهما بالنسبة
إليه لا يعدان شيئا ولا ريب أن الذي ينبغي
تقديمه لمثل هذه العبادة ليكون وافد المؤتمين
به إلى الله هو من أرشد إليه
ـــــــ
1 في المصباح: موضع بقرب مدينة النبي صلى الله
عليه وسلم من جهة الجنوب نحو ميلين وهو بضم
القاف يقصر ويمد ويصرف ولا يصرف.
(1/119)
صلى الله وسلم
عليه بقوله: "يؤم القوم أقرؤهم" إلى آخر
الحديث إنما الشأن فيمن يلعب به الشيطان في
الوسوسة المفضية إلى إساءة الظن بأئمة الصلاة
المتبعين للسنة فيوقع في قلبه العداوة لكل
واحد منهم بمجرد خيالات مختلة وضلالات مضلة
فيقول له هذا العالم لا يصلح للإمامة لكونه
كذا وهذا الفاضل لا يصلح لها لكونه كذا, ثم
ينقله من درجة إلى درجة ومن واحد إلى واحد حتى
لا يجد على ظهر البسيطة من يصلح لإمامة الصلاة
فهذا مخدوع قد لعب به الشيطان كيف يشاء حتى
أحرمه1 فضيلة الجماعة التي هي من أعظم شعائر
الإسلام وأجل أسباب الأجور, ومع هذا فهو قد
أوقعه في ورطة أخرى وهي حمل جميع المسلمين على
غير السلامة فصار ظالما لكل واحد منهم مظلمة
يستوفيها منه بين يدي الجبار, وقد ينضم إلى
هذه المصائب أن هذا الذي صار في يد الشيطان
يلعب به كيف يشاء قد يعتقد الفضل في نفسه وأن
الإمامة لم تكن تصلح إلا له ولم يكن يصلح إلا
لها فيجتنب الجماعة ولا يقتدي بأحد من
المسلمين بل يجمع له جماعة يكون إمامهم فهو
أسقى ممن قبله لأنه اعتقد أنه لم يبق في أرض
الله من عباده الصلحاء سواه فلا حياه الله ولا
بياه.
"ويؤم الرجل بالنساء لا العكس" لحديث أنس في
الصحيحين وغيرهما أنه صف هو واليتيم وراء
النبي صلى الله وسلم عليه والعجوز من ورائهم
وقد أخرج الإسماعيلي عن عائشة أنها قالت: كان
النبي صلى الله وسلم عليه إذا رجع من المسجد
صلى بنا وقد كانت النساء يصلين خلفه صلى الله
وسلم عليه في مسجده وليس في صلاة النساء خلف
الرجل مع الرجال نزاع وإنما الخلاف في صلاة
الرجل بالنساء فقط, ومن زعم أن ذلك لا يصح
فعليه الدليل, وأما عدم صحة إمامة المرأة
بالرجل فلأنها عورة وناقصة عقل ودين و
{الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ}
"ولن يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة" كما ثبت في
الصحيح ومن ائتم بالمرأة فقد ولاها أمر صلاته.
"والمفترض بالمتنفل والعكس" لحديث معاذ أنه
كان يؤم قومه بعد أن يصلي تلك الصلاة بعد
النبي صلى الله وسلم عليه وهو في الصحيحين
وغيرهما وهذا دليل على جواز ذلك لأنه كان
متنفلا وهم مفترضون لما في بعض الروايات من
تصريح معاذ بأنه كان يصلي بقومه متنفلا وهذه
الزيادة المصرحة بالمطلوب وإن كان فيها مقال
معروف لكنها معتضدة بما عرف من
ـــــــ
1 حرمه الشيء من باب ضرب منعه منه وتعدى
لمفعولين قال في المصباح: وأحرمته لغة فيه.
(1/120)
حرص الصحابة
على الأوفر أجرا والأكمل ثوابا ولا شك أن
الصلاة خلفه صلى الله وسلم عليه أفضل وأكمل
وأتم, وأما الجواب عن حديث معاذ بأنه حكاية
فعل فساقط لاستلزامه لبطلان قسم من أقسام
السنة المطهرة وهو قسم الأفعال الذي دارت عليه
رحى بيانات القرآن وجماهير من أحكام الشريعة
مع أن هذا الاعتذار غير نافع ههنا لأن الحجة
هي تقريره صلى الله وسلم عليه لمعاذ ولقومه
على ذلك لا نفس فعل معاذ حتى يعتذر عنه بذلك,
وأما الجواب بأن فعل آحاد الصحابة لا يكون حجة
فكلام صحيح ولكن الحجة ليست فعل معاذ بل
تقريره صلى الله وسلم عليه كما عرفت وهذا من
الوضوح بمكان لا يخفى. والحاصل: أن الأصل صحة
الاقتداء من كل مصل بكل مصل فمن زعم أن ثم
مانعا في بعض الصور فعليه الدليل فإن نهض به
صح ما يقوله وإن لم ينهض به بطل وأما صلاة
المتنفل بعد المتنفل فكما فعله صلى الله وسلم
عليه في صلاة الليل وصلى معه ابن عباس وكذلك
صلاته بأنس واليتيم والعجوز وغير ذلك والكل
ثابت في الصحيح
ويجب المتابعة في غير مبطل لحديث: "إنما جعل
الإمام ليؤتم به فلا تختلفوا عليه" وهو ثابت
في الصحيح من حديث أبي هريرة وأنس وجابر وثابت
خارج الصحيح عن جماعة من الصحابة, وورد الوعيد
على المخالفة كحديث أبي هريرة قال: قال رسول
الله صلى الله وسلم عليه: "أما يخشى أحدكم إذا
رفع رأسه قبل الإمام أن يحول الله رأسه رأس
حمار أو يحول صورته صورة حمار" أخرجه الجماعة
ولا يتابعه في شيء يوجب بطلان صلاته نحو أن
يتكلم الإمام أو يفعل أفعالا تخرجه عن صورة
المصلي, ولا خلاف في ذلك. قال في المسوى: هو
كذلك عند الجمهور أنه يجب إتباع الإمام في
جميع الحالات. وقوله: "إذا صلى جالسا فصلوا
جلوسا" منسوخ1. ومعنى كان الناس يصلون بصلاة
أبي بكر على الصحيح أنه كان مسمعا
ـــــــ
1 دعوى النسخ هنا لا دليل عليها أصلا بل قد
ثبت في الصحيح وغيرهما من حديث عائشة مرفوعا:
"إنما جعل الإمام ليؤتم به فإذا ركع فاركعوا
وإذا رفع فارفعوا وإذا صلى جالسا فصلوا جلوسا"
وكان ذلك إذ قام وراءه قوم يصلون وهو يصلي
جالسا فأشار إليهم أن اجلسوا وفيهما عن أنس
مرفوعا أيضا: إنما جعل الإمام ليؤتم به...وإذا
صلى قاعدا فصلوا قعودا أجمعون" وفي صحيح مسلم
من حديث جابر: "اشتكى رسول الله صلى الله عليه
وسلم فصلينا وراءه وهو قاعد وأبو بكر يسمع
الناس تكبيره فالتفت إلينا فرآنا قياما فأشار
إلينا فقعدنا فصلينا بصلاته قعودا فلما سلم
قال إن كنتم آنفا تفعلون فعل فارس والروم
يقومون على ملوكهم وهم قعود فلا تفعلوا ائتموا
بأئمتكم إن صلى قائما فصلوا قياما وإن صلى
قاعدا فصلوا قعودا" وهو معنى قد يكون متواترا
في السنة وممن قال بصلاة المأموم قاعدا جابر
وأبو هريرة وأسيد بن حضير وقيس ين فهد من
الصحابة. وأحمد واسحاق والأوزاعي وابن المنذر
وداود وابن أبي شيبة والبخاري ومحمد بن نصر
ومحمد بن إسحاق بن خزيمة ومن تبعهم من أهل
الحديث. وادعى مخالفوهم النسخ بصلاته صلى الله
عليه وسلم في مرض موته بالناس قاعدا وأبو بكر
والناس خلفه قياما, رواه البخاري ومسلم
وغيرهما من حديث عائشة. وهذا فعل محتمل أن
يكون لبدئهم الصلاة قائمين خلف إمام صلى بهم
قائما وهو أبو بكر فلم يجز لهم أن يرجعوا إلى
القعود وقد انعقدت صلاتهم بالقيام, ثم إن
روايات الحديث مختلفة في أنه كان إماما أو صلى
خلف أبي بكر فقد روى ابن خزيمة في صحيحه عن
عائشة قالت: من الناس من يقول كان أبو بكر
المقدم بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم
ومنهم من يقول كان النبي صلى الله عليه وسلم
المقدم. والروايات في هذا متضاربة وهي تدل على
أن عائشة سمعت بهذا من الصحابة فاختلفوا عليها
ولم تشاهد بنفسها فمرة تجزم ومرة تشك. ولا
يترك المحكم الثابت بأشد تأكيد بفعل غير متيقن
صفته والأمر بالجلوس منصوص على سببه وهو النهي
عن التشبه بفارس والروم في قيامهم على ملوكهم
وهذا سبب لا يزول فرضه عن الناس فقد جاء
الإسلام قاضيا على هذه الرسوم التي أضعفت تلك
الأمم وقد فعل الصحابة ذلك بعد رسول الله صلى
الله عليه وسلم فصلى جابر وهو مريض جالسا
وصلوا معه جلوسا كما رواه ابن أبي شيبة بإسناد
صحيح وكذلك أسيد بن حضير وقيس بن فهد. وأما
حديث: "لا يؤمن أحد بعدي جالسا" فإنه حديث
ضعيف جدا ودعوى الخصوصية لا تثبت إلا بدليل
صحيح. والحق أن الإمام إذا صلى جالسا لمرض وجب
على القتدين الصلاة جلوسا كما أمر رسول الله
صلى الله عليه وسلم.
(1/121)
لمن خلفه في
العالمكيرية إذا رفع المقتدي رأسه من الركوع
والسجود قبل الإمام ينبغي أن يعود ولا يصير
ركوعين وسجودين. قلت عامة أهل العلم على أن
هذا الفعل منهي عنه وصلاته مجزئة وأكثرهم
يأمرونه بأن يعود إلى السجود. "ولا يؤم الرجل
قوما هم له كارهون" لحديث عبد الله بن عمرو أن
رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم
يقول: "ثلاثة لا يقبل الله منهم صلاة من يقدم
قوما وهم له كارهون ورجل أتى الصلاة دبارا
ورجل اعتبد محررة" أخرجه أبو داود وابن ماجة
وفي إسناده عبد الرحمن بن زياد بن أنعم
الافريقي وفيه ضعف, وأخرج الترمذي من حديث أبي
أمامة قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه
وآله وسلم: "ثلاثة لا تجاوز صلاتهم آذانهم
العبد الآبق حتى يرجع وامرأة باتت وزوجها
عليها ساخط وإمام قوم وهم له كارهون" وقد حسنه
الترمذي وضعفه البيهقي. قال النووي في
الخلاصة: والأرجح قول الترمذي وفي الباب
أحاديث عن جماعة من الصحابة يقوي بعضها بعضا.
أقول: ظاهر الأحاديث الواردة في الترهيب
(1/122)
عن ذلك أنه لا
فرق بين كون الكارهين من أهل الفضل أو من
غيرهم فيكون مجرد حصول الكراهة عذرا لمن كان
يصلح للإمامة في تركها وغالب الكراهات الكائنة
بين هذا النوع الإنساني خصوصا في هذه الأزمنة
راجعة إلى أغراض دنيوية والراجع هنا إلى أغراض
دينية أقل قليل ومع كونه كذلك فغالبه صادر عن
اعتقادات فاسدة وخيالات مختلفة كما يقع بين
المتخالفين في المذاهب فإن العصبية الناشئة
بينهم تعمي بصائرهم عن الصواب فلا يقيم أحدهم
للآخر وزنا ولا ينظر إليه إلا بعين السخط لا
بعين الرضا فيرى محاسنه مساويء كائنة ما كانت,
وقد تقع هذه العداوة بين أهل مذهب واحد
باعتبار الاختلاف في كون أحدهم من المشتغلين
بالدين والعلم والآخر من الجهلة المتهتكين
وكثيرا ما ترى أرباب المعاصي إذا رأوا أرباب
الدين والعلم تضيق بهم الأرض بطولها والعرض
ولا يطيقونهم بغضا فإن كان ثم دليل يدل على
تخصيص الكراهة بما كان منها راجعا إلى ما هو
مختص بالله عز وجل كمن يكره إنسانا لكونه مكبا
على المعاصي أو متهاونا بما أوجبه الله عليه
فهذه الكراهة هي الكبريت الأحمر لا توجد
حقيقتها إلا عند أفراد من العباد وإن لم يوجد
دليل يخصص الكراهة بذلك فالأولى لمن عرف أن
جماعة من الناس يكرهونه لا لسبب أو لسبب ديني
أن لا يؤمهم وأجره في الترك يفضل أجره في
الفعل. "ويصلي بهم صلاة أخفهم" لما ثبت في
الصحيحين وغيرهما من حديث أبي هريرة: أن النبي
صلى الله تعالى عليه وآله وسلم قال: "إذا صلى
أحدكم بالناس فليخفف فإن فيهم الضعيف والسقيم
والكبير فإذا صلى لنفسه فليطول ما شاء" وفي
الباب أحاديث صحيحة واردة في التخفيف. قال في
الحجة: وكان رسول الله صلى الله تعالى عليه
وآله وسلم يطول ويخفف على ما يرى من المصلحة
الخاصة بالوقت واختار بعض السور في بعض
الصلوات لفوائد من غير حتم ولا طلب مؤكد فمن
اتبع فقد أحسن ومن لا فلا حرج, وقصة معاذ في
الإطالة مشهورة انتهى حاصله. وأما ارتفاع
الإمام عن المأموم فلا يضر قدر القامة ولا
فوقها لا في المسجد ولا في غيره من غير فرق
بين الارتفاع والانخفاض والبعد والحائل ومن
زعم أن شيئا من ذلك تفسد به فعليه الدليل ولا
دليل إلا ما روي عن حذيفة أنه أم الناس
بالمدائن على دكان الحديث أخرجه أبو داود
وصححه ابن
(1/123)
خزيمة وابن
حبان والحاكم, وفي رواية للحاكم التصريح برفعه
ورواه أبو داود من وجه آخر وفيه قال له حذيفة:
ألم تسمع رسول الله صلى الله وسلم عليه يقول:
"إذا أم الرجل القوم فلا يقم أرفع من مقامهم
أو نحو ذلك" الحديث وفي إسناده الرجل المجهول,
ورواه البيهقي أيضا ففي هذين الحديثين دليل
على منع الإمام من الارتفاع عن المؤتم ولكن
هذا النهي يحمل على التنزيه لحديث صلاته صلى
الله وسلم عليه على المنبر كما في الصحيحين
وغيرهما, ومن قال إنه صلى الله وسلم عليه فعل
ذلك للتعليم كما وقع في آخر الحديث فلا يفيده
ذلك لأنه لا يجوز له في حال التعليم إلا ما هو
جائز في غيره ولا يصح القول باختصاص ذلك
بالنبي صلى الله وسلم عليه, وقد جمع الماتن رح
تعالى في هذا البحث رسالة مستقلة جوابا عن
سؤال بعض الأعلام فمن أحب تحقيق المقام فليرجع
إليها, ويقدم السلطان ورب المنزل لما ثبت في
الصحيحين من حديث أبي مسعود عقبة بن عمرو
مرفوعا: "لا يؤمن الرجل الرجل في سلطانه" وفي
لفظ: "لايؤمن الرجل الرجل في أهله ولا سلطانه"
وورد تقييد جواز ذلك بالإذن وفي لفظ لأبي
داود: "لا يؤم الرجل في بيته" وأخرج أحمد وأبو
داود والترمذي والنسائي عن مالك بن الحويرث
قال: سمعت رسول الله صلى الله وسلم عليه يقول:
"من زار قوما فلا يؤمهم وليؤمهم رجل منهم" .
والأقرأ ثم الأعلم ثم الأسن لما في حديث أبي
مسعود بلفظ: "يؤم القوم أقرأهم لكتاب الله فإن
كانوا في القراءة سواء فأعلمهم بالسنة فإن
كانوا في السنة سواء فأقدمهم هجرة فإن كانوا
في الهجرة سواء فأقدمهم سنا" وه و في الصحيح
وإنما لم يذكر الهجرة في المتن لأنه لا هجرة
بعد الفتح كما في الحديث الصحيح, وإذا اختلت
صلاة الإمام كان ذلك عليه لا على المؤتمين به
لحديث أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله
وسلم عليه: "يصلون بكم فإن أصابوا فلكم ولهم
وإن أخطؤوا فلكم وعليهم" أخرجه البخاري وغيره
وأخرج ابن ماجه من حديث سهل بن سعد نحوه.
وموقفهم أي المؤتمين خلفه أي خلف الإمام إلا
الواحد فعن يمينه لحديث جابر بن عبد الله أنه
صلى مع النبي صلى الله وسلم عليه فجعله عن
يمينه ثم جاء آخر فقام عن يسار النبي صلى الله
وسلم عليه فأخذ بأيديهما فدفعهما حتى أقامهما
خلفه, وهو في الصحيح. وقد كان هذا فعله وفعل
أصحابه في الجماعة يقف الواحد عن يمين الإمام
والإثنان فما زاد خلفه وقد ذهب الجمهور إلى
وجوب ذلك وقال
(1/124)
سعيد بن
المسيب: إنه مندوب فقط وروي عن النخعي أن
الواحد يقف خلف الإمام. وإمامة النساء وسط
الصف لما روي من فعل عائشة أنها أمت النساء
فقامت وسط الصف أخرجه عبد الرزاق والدارقطني
والبيهقي وابن أبي شيبة والحاكم وروي مثل ذلك
عن أم سلمة أخرجه الشافعي وابن أبي شيبة وعبد
الرزاق والدارقطني قال ابن القيم في المسند
والسنن من حديث عبد الرحمن بن خلاد عن أم ورقة
بنت الحرث: أن رسول الله صلى الله وسلم عليه
كان يزورها في بيتها وجعل لها مؤذنا كان يؤذن
لها وأمرها أن تؤم أهل دارها. قال عبد الرحمن:
فأنا رأيت مؤذنها شيخا كبيرا. ولو لم يكن في
المسألة إلا عموم قوله صلى الله وسلم عليه:
"تفضل صلاة الجماعة على صلاة الفذ بسبع وعشرين
درجة" لكفى وأخرج البيهقي بسنده عن عائشة أن
رسول الله صلى الله وسلم عليه قال: "لا خير في
جماعة النساء إلا في صلاة أو جنازة" والاعتماد
على ما تقدم فردت هذه السنن بالمتشابه من قوله
صلى الله وسلم عليه: "لن يفلح قوم ولوا أمرهم
امرأة" رواه البخاري, وهذا إنما هو في الولاية
والإمامة العظمى والقضاء. وأما الرواية
والشهادة والفتيا والإمامة فلا تدخل في هذا
ومن العجب أن من خالف هذه السنة جوز للمرأة أن
تكون قاضية تلي أمور المسلمين فكيف أفلحوا وهي
حاكمة عليهم ولم تفلح أخواتها من النساء إذا
أمتهن انتهى حاصله. "وتقدم صفوف الرجال ثم
الصبيان ثم النساء" لحديث أبي مالك الأشعري:
أن النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم كان
يجعل الرجال قدام الغلمان والغلمان خلفهم
والنساء خلف الغلمان. أخرجه أحمد وأخرج بعضه
أبو داود وفي إسناده شهر ابن حوشب1 ويؤيده ما
في الصحيحين من حديث أنس: أنه قام هو واليتيم
خلف النبي صلى الله وسلم عليه وأم سليم خلفهم
"و" أما كون "الأحق بالصف الأول" هم أولو
الأحلام والنهى فلحديث أبي مسعود الأنصاري
الثابت في الصحيح أن النبي صلى الله تعالى
عليه وآله وسلم قال: "ليليني منكم أولو
الأحلام والنهى ثم الذين يلونهم ثم الذين
يلونهم" وأخرج أحمد وابن ماجه والترمذي
والنسائي قال: كان رسول الله صلى الله تعالى
عليه وآله وسلم يحب أن يليه المهاجرون
والأنصار ليأخذوا عنه. قال في الحجة: ولئلا
يشق على أولي الأحلام تقدم من دونهم عليهم
انتهى. "و"
ـــــــ
1 شهر بن حوشب ضعيف.
(1/125)
أما كون الأمر
على الجماعة أن يسووا صفوفهم وأن يسدوا الخلل1
فلما رواه أبو داود من حديث أبي هريرة قال:
قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم:
"وسطوا الإمام وسدوا الخلل" وفي الصحيحين من
حديث أنس: أن رسول الله صلى الله عليه وآله
وسلم قال: "سووا صفوفكم فإن تسوية الصفوف من
تمام الصلاة" , وعنه أيضا في الصحيحين كان
رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقبل علينا
بوجهه قبل أن يكبر فيقول: "تراصوا واعتدلوا"
وثبت في الصحيح من حديث نعمان بن بشير أنه قال
صلى الله تعالى عليه وآله وسلم: "عباد الله
لتسوون صفوفكم أو ليخالفن الله بين وجوهكم" .
قلت: وهو قول أهل العلم: أن تسوية الصفوف سنة
وأن يتموا الصف الأول ثم الذي يليه ثم كذلك
لما ورد في الأحاديث الصحيحة من أمره صلى الله
تعالى عليه وآله وسلم بإتمام الصف الأول ثم
الذي يليه ثم كذلك فالسنة أن لا يقف المؤتم في
الصف الثاني وفي الصف الأول سعة ثم لايقف في
الصف الثالث وفي الصف الثاني سعة ثم كذلك,
وورد أيضا أن الوقوف يمنة الصف أولى وأفضل,
وأما الاعتداد بالركعة التي لحق الإمام فيها
راكعا ففيه خلاف لجماعة من الأئمة والحق عدم
الاعتداد بها بمجرد إدراك ركوعها من دون قراءة
الفاتحة2 ومن أراد الوقوف على الحقيقة فليراجع
إلى شرح المنتقي وطيب النشر والسيل الجرار
وحاشية الشفاء والفتح الرباني ودليل الطالب,
فالمسألة من المعارك. وأما جعل ما أدركه مع
الإمام أول صلاته فهذا هو الحق فالهيئة
المشروعة في الصلاة لا تتغير بتقديم أو تأخير
بل الأصل الأصيل البقاء على الصفة المشروعة
فيفعل الداخل مع الإمام بعد أن فاته بعض
الركعات ما يفعله لو كان داخلا معه في
الابتداء أو كان منفردا وحديث: "فاقضوا" وإن
كان صحيحا فحديث: "أتموا" أصح منه, وقد أمكن
الجمع بجعل معنى القضاء على التمام لأنه أحد
معانيه3 ولكن يترك المؤتم مخالفة إمامه في
ـــــــ
1 الخلل بفتحتين الفرجة بين الشيئين والجمع
خلال مثل جبل وجبال. قاله في المصباح.
2 كان الأولى بهذه المسألة أن تذكر عند الكلام
على وجوب قراءة الفاتحة, انظر نيل الأوطار 3:
240-243. والذي نراه أن من أدرك الركعة فقد
أدرك الصلاة, رواه الحاكم في المستدرك: 1:
216, 273. وصححه ووافقه الذهبي.
3 بل إن الأصل في معنى القضاء هو الإتمام:
{فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا
فِي الْأَرْضِ} .
(1/126)
الأركان فلا
يقعد في موضع ليس بموضع قعود للإمام وإن كان
موضع قعود له ولا يدع القعود في موضع قعود
للإمام وإن لم يكن موضع قعود له؛ لأن الاقتداء
والمتابعة لا زمان في صلاة الجماعة وتركهما
يخرج الصلاة عن كونها صلاة جماعة, وقد ورد
الأمر بالمتابعة في الأركان بيانا لقوله: "لا
تختلفوا على إمامكم" ولم يرد الأمر بذلك في
الأذكار.
(1/127)
باب سجود السهو
سن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فيما
إذا قصر الإنسان في صلاته أن يسجد سجدتين
تداركا لما فرط ففيه شبه القضاء وشبه الكفارة
والمواضع التي ظهر فيها النص أربعة وسيأتي قال
في سفر السعادة: من جملة منن الحق تعالى ونعمه
على الأمة المحمدية أن النبي صلى الله تعالى
عليه وآله وسلم كان يسهو في الصلاة لتقتدي
الأمة به في التشريع وإذ ذاك يقول: "إنما أنا
بشر أنسى كما تنسون فإذا نسيت فذكروني" وقال:
"إنما أنسى أو أنسى لأسن" يعني لأسن ما شرع في
جبر ذلك انتهى. "هو سجدتان قبل التسليم أو
بعده" ووجه التخيير أن النبي صلى الله وسلم
عليه صح عنه أنه سجد قبل التسليم وصح عنه أنه
سجد بعده, أما ما صح عنه مما يدل على أنه قبل
التسليم فحديث عبد الرحمن بن عوف عند أحمد
وابن ماجه والترمذي وصححه قال: سمعت رسول الله
صلى الله وسلم عليه يقول: "إذا شك أحدكم فلم
يدر أواحدة صلى أم ثنتين فليجعلها واحدة وإذا
لم يدر ثنتين صلى أم ثلاثا فليجعلها ثنتين
وإذا لم يدر ثلاثا صلى أم أربعا فليجعلها
ثلاثا ثم يسجد إذا فرغ من صلاته وهو جالس قبل
أن يسلم سجدتين" . وفي الباب أحاديث منها: ما
هو في الصحيح كحديث أبي سعيد الخدري قال: قال
رسول الله صلى الله وسلم عليه: "إذا شك أحدكم
في صلاته فلم يدركم صلى ثلاثا أم أربعا فليطرح
الشك وليبن على ما تستيقن ثم يسجد سجدتين قبل
أن يسلم" ومنها ما هو في غير الصحيحين, وأما
ما صح عنه مما يدل على أنه بعد التسليم فكحديث
ذي اليدين الثابت في الصحيحين فإن فيه أنه صلى
الله تعالى عليه وآله وسلم سجد بعدما سلم
وحديث ابن مسعود وهو في الصحيحين وغيرهما
مرفوعا بلفظ: "إذا شك أحدكم في صلاته فليتحر
الصواب فليتم عليه ثم ليسلم ثم ليسجد سجدتين"
وحديث المغيرة بن شعبة: أنه صلى
(1/127)
بقوم فترك
التشهد الأوسط فلما فرغ من صلاته سلم ثم سجد
سجدتين وسلم وقال: هكذا صنع بنا رسول الله صلى
الله عليه وآله وسلم رواه أحمد والترمذي
وصححه, وحديث ابن مسعود الثابت في الصحيحين
وغيرهما أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم صلى
الظهر خمسا فقيل له أزيد في الصلاة فقال: "لا
وما ذاك" فقالوا: صليت خمسا فسجد سجدتين بعد
ما سلم. فهذه الأحاديث المصرحة بالسجود تارة
قبل التسليم وتارة بعده تدل على أنه يجوز جميع
ذلك ولكنه ينبغي في موارد النصوص أن يفعل كما
أرشد إليه الشارع فيسجد قبل التسليم فيما أرشد
إلى السجود فيه قبل التسليم ويسجد بعد التسليم
فيما أرشد فيه إلى السجود بعد التسليم وما عدا
ذلك فهو بالخيار والكل سنة. قال في سفر
السعادة: وسجد للسهو قبل السلام في بعض
المواضع وبعده في بعضها فجعله الإمام الشافعي
في كل حال قبل السلام والإمام أبو حنيفة جعله
بعد السلام في كل حال, وقال الإمام مالك: يسجد
لسهو النقصان قبل السلام ولسهو الزيادة في
الصلاة بعد السلام وإن اجتمع سهوان أحدهما
زائد والآخر ناقص يسجد لهما قبل السلام, وقال
الإمام أحمد: يسجد قبل السلام في المحل الذي
سجد فيه النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم
قبل السلام وما عداه يسجد للسهو بعد السلام,
وقال داود الظاهري: لا يسجد للسهو إلا في هذه
المواطن الخمس التي سجد فيها رسول الله صلى
الله عليه وآله وسلم ولو سها في غيرها لا يسجد
للسهو ولم يعرض له صلى الله عليه وآله وسلم
الشك في الصلاة لكن قال: من شك فليبن على
اليقين ولم يعتبر الشك ويسجد للسهو قبل
السلام, وقال الإمام أبو حنيفة: إن كان له ظن
بنى على غالب ظنه وإن لم يكن له ظن بنى على
اليقين, وقال الإمام مالك والإمام الشافعي
والإمام أحمد: بنى على اليقين مطلقا انتهى.
ولا يشك منصف أن الأحاديث الصحيحة مصرحة بأنه
كان يسجد في بعض الصلوات قبل السلام وفي بعضها
بعد السلام فالجزم بأن محلهما بعد السلام فقط
طرح لبعض الأحاديث الصحيحة لا لموجب إلا لمجرد
مخالفتها لما قاله فلان أو فلان كما أن الجزم
بأن محلهما قبل التسليم فقط طرح لبعض الأحاديث
الصحيحة لمثل ذلك والمذاهب في المسألة منتشرة
قد بسطها الماتن في شرح المنتقي والحق عندي أن
الكل جائز وسنة ثابتة والمصلي مخير بين أن
يسجد قبل أن يسلم أو بعد أن يسلم وهذا فيما
كان
(1/128)
من السهو غير
موافق للسهو الذي سجد له صلى الله وسلم عليه
قبل السلام أو بعده, وأما في السهو الذي سجد
له صلى الله وسلم عليه فينبغي الاقتداء به في
ذلك وإيقاع السجود في المواضع الذي أوقعه فيه
صلى الله تعالى عليه وسلم مع الموافقة في
السهو وهي مواضع محصورة مشهورة يعرفها من له
اشتغال بعلم السنة المطهرة. و أما كون سجود
السهو بإحرام وتشهد وتحليل فقد ثبت عنه صلى
الله تعالى عليه وسلم أنه كبر وسلم كما في
حديث ذي اليدين الثابت في الصحيح وفي غيره من
الأحاديث, وأما التشهد فلحديث عمران ابن حصين
أن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم صلى بهم
فسها فسجد سجدتين ثم تشهد ثم سلم, أخرجه أبو
داود والترمذي وحسنه وابن حبان وصححه والحاكم
وقال: صحيح على شرط الشيخين, وقد روي نحو ذلك
من حديث المغيرة وابن مسعود وعائشة, و أما
كونه يشرع لترك مسنون فلحديث سجوده صلى الله
تعالى عليه وسلم لترك التشهد الأوسط ولحديث:
"لكل سهو سجدتان" والكلام فيه معروف ونحو ذلك
إذا كان ذلك المسنون تركه المصلي سهوا لأنه قد
ثبت أن سجود السهو فيه ترغيم للشيطان كما في
حديث أبي سعيد الثابت في الصحيح ولا يكون
الترغيم إلا مع السهو لأنه من قبل الشيطان,
وأما مع العمد فهو من قبل المصلي وقد فاته
ثواب تلك السنة. قلت: مذهب أبي حنيفة والشافعي
أن من سلم من ركعتين ساهيا أتم وسجد سجدتين
وهو في مذهب أبي حنيفة خاص بمن سلم على رأس
الركعتين على ظن أنهما أربعة فلو سلم على
رأسهما على ظن أنهما جمعة أو على أنه مسافر
فإنه يستقبل الصلاة كذا في العالمكيرية في فصل
المفسدات واستخرج له الشافعي علة وهي فعل شيء
يبطل الصلاة عمده دون سهوه. أقول: ما وقع من
اصطلاح الفقهاء على تسميته هيئة هو لا يخرج به
عن كونه مندوبا وتخصيص وجوب السجود للسهو بترك
ما كان مسنونا دون ما كان مندوبا لا دليل عليه
ولا سيما وهذه الأسماء إنما هي اصطلاحات حادثة
وإلا فالمسنون والمندوب إليه معناهما لغة أعم
من معناهما اصطلاحا, وأيضا الفرق بين المسنون
والمندوب إنما
(1/129)
هو اصطلاح لبعض
أهل الأصول دون جمهورهم وغاية ما هناك أن
المسنون هو المندوب المؤكد وصدق اسم السهو على
ترك المندوب كصدقه على ترك المسنون فيندرج تحت
حديث: "لكل سهو سجدتان" وتحقق الزيادة والنقص
حاصل لكل واحد منهما فمدعي التفرقة بينهما
مطالب بالدليل ولا ريب أن بعض ما عدوه من
الهيئات لا يتحقق مثل ترك نصب القدم وترك وضع
اليدين. و أما كونه يشرع للزيادة ولو ركعة
سهوا فللحديث المتقدم وما دون الركعة بالأولى
قال في المسوى: عند الحنفية إن سها عن القعدة
الآخرة وقام إلى الخامسة رجع إلى القعدة ما لم
يسجد وتشهد ثم سجد للسهو وإن قيد الخامسة
بالسجدة بطل فرضه ولو قعد في الرابعة ثم قام
ولم يسلم عاد إلى القعدة ما لم يسجد للخامسة
وسلم وسجد للسهو وإن قيدها بالسجدة تم فرضه
فيضم إليها ركعة أخرى لتكونا تطوعا فإن لم يضم
وقطع الصلاة لم يلزمه القضاء لأنه إنما شرع
ظنا, وعند الشافعية في أية حالة ذكر أنها
خامسة قعد وألغى الزائد وراعى ترتيب الصلاة
مما قبل الزائد ثم سجد للسهو وفي معنى الركعة
عنده الركوع والسجود ويتجه على مذهب الحنفية
أن يقال في حديث ابن مسعود: أنه حكاية حال
فلعله قام بعد القعدة ولم يضم السادسة لبيان
أنه غير واجب انتهى.
"و" أما "للشك في العدد" ففيه الأحاديث
المتقدمة المصرحة بأن من شك في العدد بنى على
اليقين وسجد للسهو قال في الحجة البالغة: وهو
الأول من المواضع الأربع التي ظهر فيها النص
وفي معناه الشك في الركوع والسجود, والثاني
زيادة الركعة كما سبق وفي معناه زيادة الركن,
والثالث أنه صلى الله وسلم عليه سلم من ركعتين
فقيل له في ذلك فصلى ما ترك وسجد سجدتين,
وأيضا روي أنه سلم وقد بقي عليه ركعة بمثله
وفي معناه أن يفعل سهوا ما يبطل عمده, الرابع
أنه صلى الله وسلم عليه قام من الركعتين كما
مر وفي معناه ترك التشهد في القعود, وقوله صلى
الله وسلم عليه: "إذا قام الإمام من الركعتين
فإن ذكر قبل أن يستوي قائما فليجلس وإن استوى
قائما فلا يجلس ويسجد سجدتي السهو" . أقول: في
الحديث دليل على أن من كان قريب الاستواء ربما
يستوي فإنه لا يجلس خلافا لما عليه العامة
انتهى. وفي المسوى اختلفوا في ذلك فعند
الشافعية إذا شك في صلاته بنى على اليقين وهو
الأقل سواء كان شك في ركعة أو ركن, وعند
(1/130)
الحنفية إن كان
ذلك أول مرة سها يستقبل الصلاة وإن كان يعرض
له كثيرا بنى على أكبر رأيه لحديث ابن مسعود:
"إذا شك أحدكم في صلاته فليتحر الصواب" وقال
أحمد: يطرح الشك إما بأخذ الأقل وإما بالتحري
فإن اختار الأول سجد قبل السلام وإن اختار
الثاني سجد بعده انتهى. وإذا سجد الإمام تابعه
المؤتم لأن ذلك من تمام الصلاة ولأنه كان يسجد
الصحابة إذا سجد النبي صلى الله وسلم عليه وقد
ورد الأمر بمتابعة الإمام كما سبق.
(1/131)
باب القضاء للفوائت
"إن كان الترك عمدا لا لعذر فدين الله تعالى
أحق أن يقضى" وقد اختلف أهل العلم في قضاء
الفوائت المتروكة لا لعذر فذهب الجمهور إلى
وجوب القضاء, وذهب داود الظاهري وابن حزم وبعض
أصحاب الشافعي إلى أنه لاقضاء على العامد غير
المعذور بل قد باء بإثم ما تركه من الصلاة,
وإليه ذهب شيخ الإسلام تقي الدين ابن تيمية
ولم يأت الجمهور بدليل يدل على ذلك ولم أجد
أنا دليلا لهم من كتاب ولا سنة إلا ما ورد في
حديث الخثعمية حيث قال لها النبي صلى الله
عليه وآله وسلم: "فدين الله أحق أن يقضى" وهو
حديث صحيح وفيه من العموم الذي يفيده المصدر
المضاف ما يشمل هذا الباب فهذا الدليل ليس
بأيدي الموجبين سواه1, وقد اختلف أهل الأصول
هل القضاء يكفي فيه دليل وجوب المقضى أم لا بد
من دليل جديد يدل على وجوب القضاء والحق أنه
لا بد من دليل جديد لأن إيجاب القضاء هو تكليف
مستقل غير تكليف الأداء ومحل الخلاف هو الصلاة
المتروكة لغيرعذر عمدا, وأقول: حكمه ما في
الأحاديث الصحيحة "أمرت أن أقاتل الناس حتى
يقولوا لا إله إلا الله ويقيموا الصلاة ويؤتوا
الزكاة ويحجوا البيت ويصوموا رمضان فمن فعل
ذلك فقد عصم دمه وماله إلا بحقه" , ومن لم
يفعل فلا عصمة لدمه وماله بل نحن مأمورون
بقتاله كما أمر رسول الله صلى الله وسلم عليه
والمقاتلة تستلزم القتل ثم التوبة مقبولة
فتارك الصلاة إن تاب وأناب وجب علينا أن نخلي
سبيله: {فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ
ـــــــ
1 وهو كاف تماما للدلالة على وجوب القضاء.
(1/131)
وَآتَوُا
الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ} فمن علمنا
أنه ترك صلاة من الصلوات الخمس وجب علينا أن
نؤذنه بالتوبة فإن فعل فذاك وإن لم يفعل
قتلناه حكم الله: {وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ
اللَّهِ حُكْماً} , وأما إطلاق اسم الكفر عليه
فقد ثبت ذلك في الأحاديث الصحيحة وتأويلها لم
يوجبه الله علينا ولا أذن لنا فيه ومن غرائب
بعض الفقهاء التردد في إطلاق اسم الفسق عليه
معللا ذلك بأن التفسيق لا يجوز إلا بدليل قطعي
مع أنه يرمي بالكفر من خالفه في أدنى معتقداته
التي لم يأذن الله لنا باعتقادها فضلا عن
التكفير بها والله المستعان. وأما كيفية
القضاء فأقول: لا شك أن تقديم المقضية على
المؤداة وتقديم الأولى من المقضيات على الأخرى
هو الأولى والأحب ولو لم يرد في ذلك إلا فعله
صلى الله وسلم عليه في يوم الخندق لكان فيه
كفاية وإنما الشأن في كون ذلك متحتما لا يجوز
غيره, وإن كان أي الترك لعذر من نوم أو سهو أو
نسيان أو اشتغال بملاحمة القتال مع عدم إمكان
صلاة الخوف والمسايفة فليس بقضاء بل تجب تأدية
تلك الصلاة المتروكة عند زوال العذر وذلك
وقتها وفعلها فيه أداء كما يفيد ذلك أحاديث:
"من نام عن صلاة أو سها عنها فوقتها حين
يذكرها" وقد تقدمت في أول كتاب الصلاة وفي ذلك
خلاف والحق أن ذلك هو وقت الأداء لا وقت
القضاء للتصريح منه صلى الله وسلم عليه أن وقت
الصلاة المنسية أو التي نام عنها المصلي وقت
الذكر, وأما المتروكة لغير نوم وسهو كمن يترك
الصلاة لاشتغاله بالقتال كما سبق فقد شغل
النبي صلى الله وسلم عليه وأصحابه يوم الخندق
عن صلاة الظهر والعصر وما صلوهما إلا بعد هوي1
من الليل كما أخرجه أحمد والنسائي من حديث أبي
سعيد وهو في الصحيحين من حديث جابر وليس فيه
ذكر الظهر بل العصر فقط ولذلك قال الماتن : بل
أداء في وقت زوال العذر إلا صلاة العيد
المتروكة العذر وهو عدم العلم بأن ذلك اليوم
يوم عيد. "ففي ثانيه" أي تفعل في اليوم الثاني
ولا تفعل في يوم العيد بعد خروج الوقت إذا حصل
العلم بأن ذلك اليوم يوم عيد لحديث عمير بن
أنس عن عمومة له: أنه غم عليهم الهلال فأصبحوا
صياما فجاء ركب من آخر النهار فشهدوا عند رسول
ـــــــ
1 الهوى بفتح الهاء وكسر الواو وتشديد الياء
المثناة التحية الحين الطويل من الزمان أو
الساعة الممتدة الليل وقيل هو خاص بالليل،
وحكى فيه ابن سيده ضم الهاء أيضا.
(1/132)
الله صلى الله
عليه وآله وسلم أنهم رأوا الهلال بالأمس فأمر
الناس أن يفطروا من يومهم وأن يخرجوا لعيدهم
من الغد. أخرجه أحمد وأبو داود والنسائي وابن
ماجة وابن حبان في صحيحه وصححه ابن المنذر
وابن السكن وابن حزم والخطابي وابن حجر في
بلوغ المرام. أقول: وأما الكافر إذا أسلم فلا
يجب عليه القضاء على كل حال لأن القائل بأنه
غير مخاطب بالشرعيات ينفي عنه الوجوب حال
الكفر والقائل أنه مخاطب يجعل الخطاب باعتبار
الثواب والعقاب لا باعتبار وجوب الأداء أو
القضاء, فالإسلام يجب ما قبله بلا خلاف
والظاهر أن المرتد حكمه حكم غيره من الكفار في
عدم وجوب القضاء لأن الدليل يصدق عليه كما
يصدق على غيره من الكفار.
(1/133)
باب صلاة الجمعة
"تجب على كل مكلف" لأن الجمعة فريضة من فرائض
الله تعالى وقد صرح بذلك كتاب الله عز وجل وما
صح من السنة المطهرة كحديث أنه صلى الله وسلم
عليه هم بإحراق من يتخلف عنها وهو في الصحيح
من حديث ابن مسعود وكحديث أبي هريرة: "لينتهين
أقوام عن ودعهم الجمعات أو ليختمن الله على
قلوبهم ثم ليكونن من الغافلين" أخرجه مسلم
وغيره, ومن ذلك حديث حفصة مرفوعا: "رواح
الجمعة واجب على كل محتلم" أخرجه النسائي
بإسناد صحيح وحديث طارق بن شهاب: "الجمعة حق
واجب على كل مسلم" أخرجه أبو داود وسيأتي, وقد
واظب عليها النبي صلى الله وسلم عليه من الوقت
الذي شرعها الله تعالى فيه إلى أن قبضه الله
عز وجل, وقد حكى ابن المنذر الإجماع على أنها
فرض عين, وقال ابن العربي: الجمعة فرض بإجماع
الأم,ة وقال ابن قدامة في المغني: أجمع
المسلمون على وجوب الجمعة وإنما الخلاف هل هي
من فروض الأعيان أو من فروض الكفايات؟ ومن
نازع في فرضية الجمعة فقد أخطأ ولم يصب. قال
في المسوى: اتفقت الأمة على فرضية الجمعة
وأكثرهم على أنها من فروض الأعيان واتفقوا على
أنه لا جمعة في العوالي وأنه يشترط لها
الجماعة وأن الوالي إن حضر فهو الإمام, ثم
اختلفوا في الوالي وشرط الموضع والجماعة قال
الشافعي: كل قرية اجتمع فيها أربعون رجلا
أحرارا مقيمين تجب عليهم الجمعة ولا تنعقد إلا
بأربعين رجلا كذلك والوالي
(1/133)
ليس بشرط, وقال
أبو حنيفة: لا جمعة إلا في مصر جامع أو في
فنائه وتنعقد بأربعة والوالي شرط, وقال مالك:
إذا كان جماعة في قرية بيوتها متصلة وفيها سوق
ومسجد يجمع فيه وجبت عليهم الجمعة وفي مختصر
ابن الحاجب لا تجزيء الأربعة ونحوها ولا بد من
قوم تتقرى بهم القرية ولا يشترط السلطان على
الأصح. قال في العالمكيرية: القروي إذا دخل
المصر ونوى أن يخرج في يومه ذلك قبل دخول
الوقت أو بعد دخوله لا جمعة عليه انتهى. إلا
المرأة والعبد والمسافر والمريض لحديث:
"الجمعة حق واجب على كل مسلم في جماعة إلا
أربعة عبد مملوك أو امرأة أو صبي أو مريض"
أخرجه أبو داود من حديث طارق بن شهاب عن النبي
صلى الله تعالى عليه وآله وسلم وقد أخرجه
الحاكم من حديث طارق عن أبي موسى قال الحافظ:
وصححه غير واحد, وفي حديث أبي هريرة وحديث
جابر ذكر المسافر وفي الحديثين مقال معروف
والغالب أن المسافر لا يسمع النداء وقد ورد أن
الجمعة على من سمع النداء كما في حديث ابن عمر
وعند أبي داود قال في المسوى: واتفقوا على أنه
لا جمعة على مريض ولا مسافر ولا امرأة ولا عبد
وأنه إن صلاها منهم أحد سقط الفرض وعلى أنه إن
أم مريض أو مسافر جاز, وفي المنهاج وتصح خلف
العبد والصبي والمسافر في الأظهر إذا تم العدد
بغيره وفيه أيضا ولا جمعة على معذور مرخص في
ترك الجماعة وفي العالمكيرية المطر الشديد
والاختفاء من السلطان الظالم مسقط. قال في
المنح: وكان صلى الله تعالى عليه وآله وسلم
يرخص في تركها وقت المطر ولو لم يبتل أسفل
النعلين وكان يرخص في السفر يوم الجمعة لا
سيما للجهاد انتهى.
وهي كسائر الصلوات لا تخالفها لكونه لم يأت ما
يدل على أنها تخالفها في غير ذلك وفي هذا
الكلام إشارة إلى رد ما قيل أنه يشترط في
وجوبها الإمام الأعظم والمصر الجامع والعدد
المخصوص فإن هذه الشروط لم يدل عليها دليل
يفيد استحبابها فضلا عن وجوبها فضلا عن كونها
شروطا بل إذا صلى رجلان الجمعة في مكان لم يكن
فيه غيرهما جماعة فقد فعلا ما يجب عليهما فإن
خطب أحدهما فقد عملا بالسنة وإن تركا الخطبة
فهي سنة فقط, ولولا حديث طارق بن شهاب المذكور
قريبا من تقييد الوجوب على كل مسلم بكونه في
جماعة ومن عدم إقامتها صلى الله وسلم عليه في
زمنه في غير جماعة لكان فعلها فرادى مجزئا
كغيرها من الصلوات وأما ما يروي من أربعة
(1/134)
إلى الولاة
فهذا قد صرح أئمة الشأن بأنه ليس من كلام
النبوة ولا من كلام من كان في عصرها من
الصحابة حتى يحتاج إلى بيان معناه أو تأويله,
وإنما هو من كلام الحسن البصري ومن تأمل فيما
وقع في هذه العبادة الفاضلة التي افترضها الله
تعالى عليهم في الأسبوع وجعلها شعارا من شعائر
الإسلام وهي صلاة الجمعة من الأقوال الساقطة
والمذاهب الزائغة والاجتهادات الداحضة1 قضى من
ذلك العجب فقائل يقول: الخطبة كركعتين وأن من
فاتته لم تصح جمعته وكأنه لم يبلغه ما ورد عن
رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم من
طرق متعددة يقوي بعضها بعضا ويشد بعضها من عضد
بعض أن: من فاتته ركعة من ركعتي الجمعة فليضف
إليها أخرى وقد تمت صلاته. ولا بلغه غير هذا
الحديث من الأدلة, وقائل يقول: لا تنعقد
الجمعة إلا بثلاثة مع الإمام, وقائل يقول:
بأربعة. وقائل يقول: بسبعة, وقائل يقول:
بتسعة, وقائل يقول: باثني عشر, وقائل يقول:
بعشرين. وقائل يقول: بثلاثين. وقائل يقول: لا
تنعقد إلا بأربعين. وقائل يقول: بخمسين. وقائل
يقول: لا تنعقد إلا بسبعين. وقائل يقول: فيما
بين ذلك. وقائل يقول: بجمع كثير من غير تقييد.
وقائل يقول: إن الجمعة لا تصح إلا في مصر جامع
وحده بعضهم بأن يكون الساكنون فيه كذا وكذا من
آلاف, وآخر قال: أن يكون فيه جامع وحمام وآخر
قال: أن يكون فيه كذا وكذا, وآخر قال: إنها لا
تجب إلا مع الإمام الأعظم فإن لم يوجد أو كان
مختل العدالة بوجه من الوجوه لم تجب الجمعة
ولم تشرع ونحو هذه الأقوال التي ليس عليها
أثارة من علم ولا يوجد في كتاب الله تعالى ولا
في سنة رسول الله صلى الله وسلم عليه حرف واحد
يدل على ما ادعوه من كون هذه الأمور المذكورة
شروطا لصحة الجمعة أو فرضا من فرائضها أو ركنا
من أركانها فيالله العجب ما يفعل الرأي بأهله
ومن يخرج من رؤوسهم من الخزعبلات الشبيهة بما
يتحدث الناس به في مجامعهم وما يخبرونه في
أسمارهم من القصص والأحاديث الملفقة وهي عن
الشريعة المطهرة بمعزل يعرف هذا كل عارف
بالكتاب والسنة وكل متصف بصفة الإنصاف, وكل من
ثبت قدمه ولم يتزلزل عن طريق الحق بالقيل
والقال, ومن جاء بالغلط فغلطه رد عليه مضروب
به في وجهه, والحكم بين العباد هو كتاب الله
تعالى وسنة رسوله
ـــــــ
1 أي الباطلة.
(1/135)
صلى الله تعالى
عليه وآله وسلم كما قال سبحانه: {فَإِنْ
تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى
اللَّهِ وَالرَّسُولِ} {إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ
الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ
وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ
يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا} {فَلا
وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ
فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا
فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ
وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً} فهذه الآيات ونحوها
تدل أبلغ دلالة وتفيد أعظم فائدة أن المرجع مع
الاختلاف إلى حكم الله ورسوله وحكم الله هو
كتابه وحكم رسوله بعد أن قبضه الله تعالى هو
سنته ليس غير ذلك ولم يجعل الله تعالى لأحد من
العباد وإن بلغ في العلم أعلى مبلغ وجمع منه
ما لا يجمع غيره أن يقول في هذه الشريعة بشيء
لا دليل عليه من كتاب ولا سنة, والمجتهد وإن
جاءت الرخصة له بالعمل برأيه عند عدم الدليل
فلا رخصة لغيره أن يأخذ بذلك الرأي كائنا من
كان, وإني كما علم الله لا أزال أكثر التعجب
من وقوع مثل هذا للمصنفين تصديره في كتب
الهداية وأمر العوام والمقصرين باعتقاده
والعمل به وهو على شفا جرف هار ولم يختص هذا
بمذهب من المذاهب ولا بقطر من الأقطار ولا
بعصر من العصور بل تبع فيه الآخر الأول كأنه
أخذه من أم الكتاب وهو حديث خرافة وقد كثرت
التعيينات في هذه العبادة كما سبقت الإشارة
إليها بلا برهان ولا قرآن ولا شرع ولا عقل,
والبحث في هذا يطول جدا1. قال الماتن رح: وقد
جمعت فيه مصنفين مطولا ومختصرا ولله الحمد.
إلا في مشروعية الخطبتين قبلها لأن رسول الله
صلى الله تعالى عليه وآله وسلم سن في الجمعة
خطبتين يجلس بينهما وما صلى بأصحابه جمعة من
الجمع إلا وخطب فيها إنما دعوى الوجوب إن كانت
بمجرد فعله المستمر فهذا لا يناسب ما تقرر في
الأصول ولا يوافق تصرفات الفحول وسائر أهل
المذهب المنقول, وأما الأمر بالسعي إلى ذكر
الله فغايته أن السعي واجب وإذا كان هذا الأمر
مجملا فبيانه واجب فما كان متضمنا لبيان نفس
السعي إلى الذكر يكون واجبا
ـــــــ
1 ما قاله الشارح هنا جيد ولكن رأيه في جواز
صلاة الجمعة من اثنين بدون خطبة لا نراه حقا
فإن وجوبها معلوم من الدين ضرورة لم يخالف فيه
أحد ولم تذكر في القرآن إلا إجمالا ولكن
تواترا العمل بها وبصفتها من عصر النبي صلى
الله عليه وسلم إلى الآن والأحاديث الصحيحة
بينت هذه الصفة تفصيلا، فلم يصلها رسول الله
صلى الله عليه وسلم مرة بدون خطبتين وبغير جمع
الحاضرين ممن يسعه حضورها وهذه المواظبة
الدقيقة لا يصح حملها إلا على أنها بيان لهذا
الواجب يلحق به في الوجوب.
(1/136)
فأين وجوب
الخطبة1 فإن قيل أنه لما وجب السعي إليها كانت
واجبة بالأولى فيقال ليس السعي لمجرد الخطبة
بل إليها وإلى الصلاة ومعظم ما وجب السعي
لأجله هو الصلاة فلا تتم هذه الأولوية وهذا
النزاع في نفس الوجوب, وأما في كون الخطبة
شرطا للصلاة فعدم وجود دليل يدل عليه لا يخفى
على عارف فإن شأن الشرطية أن يؤثر عدمها في
عدم المشروط فهل من دليل يدل على أن عدم
الخطبة يؤثر في عدم الصلاة, ثم اعلم أن الخطبة
المشروعة هي ما كان يعتاده صلى الله تعالى
عليه وآله وسلم من ترغيب الناس وترهيبهم فهذا
في الحقيقة روح الخطبة الذي لأجله شرعت, وأما
اشتراط الحمد لله أو الصلاة على رسول الله أو
قراءة شيء من القرآن فجميعه خارج عن معظم
المقصود من شرعية الخطبة واتفاق مثل ذلك في
خطبته صلى الله تعالى عليه وآله وسلم لا يدل
على أنه مقصود متحتم وشرط لازم ولا يشك منصف
أن معظم المقصود هو الوعظ دون ما يقع قبله من
الحمد والصلاة عليه صلى الله تعالى عليه وآله
وسلم, وقد كان عرف العرب المستمر أن أحدهم إذا
أراد أن يقوم مقاما ويقول مقالا شرع بالثناء
على الله وعلى رسوله وما أحسن هذا وأولاه,
ولكن ليس هو المقصود بل المقصود ما بعده ولو
قال قائل أن من قام في محفل من المحافل خطيبا
ليس له باعث على ذلك إلا أن يصدر منه الحمد
والصلاة لما كان هذا مقبولا بل كل طبع سليم
يمجه ويرده, إذا تقرر هذا عرفت أن الوعظ في
خطبة الجمعة هو الذي يساق إليه الحديث فإذا
فعله الخطيب فقد فعل الأمر المشروع إلا أنه
إذا قدم الثناء على الله وعلى رسوله أو استطرد
في وعظه القوارع القرآنية كان أتم وأحسن.
"ووقتها وقت الظهر" لكونها بدلا عنه, وقد ورد
ما يدل على أنها تجزيء قبل الزوال كما في حديث
أنس أنه كان صلى الله تعالى عليه وسلم يصلي
الجمعة ثم يرجعون
ـــــــ
1 وجوب الخطبتين كما قلنا ظاهر من المواظبة
على الفعل الذي هو بيان لصفة هذه الصلاة
الواجبة وهذا ظاهر مطابق لقواعد الأصول ودقائق
الشريعة المطهرة.
(1/137)
إلى القائلة
يقيلون, وهو في الصحيح ومثله من حديث سهل بن
سعد في الصحيحين وثبت في الصحيح من حديث جابر
أن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم كان يصلي
الجمعة ثم يذهبون إلى جمالهم فيريحونها حين
تزول الشمس, وهذا فيه التصريح بأنهم صلوها قبل
زوال الشمس, وقد ذهب إلى ذلك أحمد بن حنبل وهو
الحق. وذهب الجمهور إلى أن أول وقتها أول وقت
الظهر. "وعلى من حضرها أن لا يتخطى رقاب
الناس" إلا إذا كان إماما أو كان بين يديه
فرجة لا يصلها إلا بتخط كما نقله المحلى عن
الروضة, لحديث عبد الله ابن بسر قال: جاء رجل
يتخطى رقاب الناس يوم الجمعة والنبي صلى الله
عليه وسلم يخطب فقال له رسول الله صلى الله
عليه وسلم: "اجلس فقد آذيت" أخرجه أحمد وأبو
داود والنسائي وصححه ابن خزيمة وغيره, ولحديث
أرقم بن أبي أرقم المخزومي أن رسول الله صلى
الله تعالى عليه وآله وسلم قال: "الذي يتخطى
الناس يوم الجمعة ويفرق بين الاثنين بعد خروج
الإمام كالجار قصبه1 في النار" . أخرجه أحمد
والطبراني في الكبير وفي إسناده مقال2, وفي
الباب أحاديث منها عن معاذ بن أنس عند الترمذي
وابن ماجه قال: قال رسول الله صلى الله عليه
وسلم: "من تخطى رقاب الناس يوم الجمعة اتخذ
جسرا إلى جهنم" قا ل الترمذي: حديث غريب
والعمل عليه عند أهل العلم. وفي تنبيه
الغافلين عن أعمال الجاهلين: ومنها تخطي رقاب
الناس يوم الجمعة كذا عده الشيخ شمس الدين بن
القيم من الكبائر, وقد صرح النووي وغيره بأنه
حرام انتهى. قلت: وفي الباب عن عثمان وأنس
أيضا. وأن ينصت حال الخطبتين لحديث أبي هريرة
أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا قلت
لصاحبك يوم الجمعة أنصت والإمام يخطب فقد
لغوت" وهو في الصحيحين وغيرهما وأخرج أحمد
وأبو داود من حديث علي قال: "من دنا من الإمام
فلغا ولم يستمع ولم ينصت كان عليه كفل3 من
الوزر, ومن قال صه فقد لغا ومن لغا فلا جمعة
له", ثم قال: هكذا سمعت نبيكم صلى الله عليه
وسلم, وفي إسناده مجهول, وفي
ـــــــ
1 القصب بضم القاف وإسكان الصاد المهملة اسم
للأمعاء كلها وجمعه أقصاب.
2 قال ابن حجر في الإصابة: جزء 1 ص 26: قال
الدارقطني في الأفراد تفرد به هشام بن زياد
وقد ضعفوه.
3 يعني ضعفا أي يضاعف عليه الإثم.
(1/138)
الباب أحاديث
عن جماعة من الصحابة. أقول: وحاصل ما يستفاد
من الأدلة أن الكلام منهي عنه حال الخطبة نهيا
عاما وقد خصص هذا النهي بما يقع من الكلام في
صلاة التحية من قراءة وتسبيح وتشهد ودعاء
والأحاديث المخصصة لمثل ما ذكر صحيحه1 فلا
محيص لمن دخل المسجد حال الخطبة من صلاة ركعتي
التحية إن أراد القيام بهذه السنة المؤكدة
والوفاء بما دلت عليه الأدلة فإنه صلى الله
عليه وسلم أمر سليكا الغطفاني لما وصل إلى
المسجد حال الخطبة فقعد ولم يصل التحية بأن
يقوم فيصلي فدل هذا على كون ذلك من المشروعات
المؤكدة بل من الواجبات كما قرره شيخنا
العلامة الشوكاني في رسالة مستقلة وبينت أنا
في دليل الطالب إلى أرجح المطالب وجوب صلاة
التحية ومن جملة مخصصات صلاة التحية حديث:
"إذا جاء أحدكم والإمام يخطب فليصل ركعتين"
وهو حديث صحيح متضمن للنص في محل النزاع, وأما
ما عدا صلاة التحية من الأذكار والأدعية
والمتابعة للخطيب في الصلاة على النبي صلى
الله عليه وسلم فلم يأت ما يدل على تخصيصها من
ذلك العموم والمتابعة في الصلاة عليه صلى الله
عليه وسلم وإن وردت بها أدلة قاضية بمشروعيتها
فهي أعم من أحاديث منع الكلام حال الخطبة من
وجه وأخص منها من وجه فيتعارض العمومان وينظر
في الراجح منهما, وهذا إذا كان اللغو المذكور
في حديث: "ومن لغا فلا جمعة له" يشمل جميع
أنواع الكلام, وأما إذا كان مختصا بنوع منه
وهو ما لا فائدة فيه فليس فيه ما يدل على منع
الذكر والدعاء والمتابعة في الصلاة عليه صلى
الله عليه وسلم, وأما حديث: "إذا دخل أحدكم
المسجد والإمام يخطب فلا صلاة ولا كلام حتى
يفرغ الإمام" فقد أخرجه الطبراني في الكبير عن
ابن عمر وفي سنده ضعف كما قاله صاحب مجمع
الزوائد فلا تقوم به الحجة, ولكنه قد روي ما
يقويه فأخرج أبو يعلي والبزار عن جابر قال:
قال سعد بن أبي وقاص لرجل لا جمعة لك فقال
النبي صلى الله عليه وسلم: "لم يا سعد" ؟
فقال: لأنه تكلم وأنت تخطب فقال النبي صلى
الله عليه وسلم: "صدق سعد" وفي إسناده مجالد
بن سعيد وهو ضعيف عند الجمهور, وأخرجه أيضا
ابن أبي شيبة وقد ذكر العلامة الشوكاني في شرح
المنتقى أحاديث تفيد معنى هذا الحديث فليراجع,
ويقويها ما يقال أن المراد باللغو المذكور في
الحديث التلفظ وإن
ـــــــ
1 ليس هذا تخصيصا بل هذا باب وذاك باب فإن
النهي عن الكلام إنما هو نهى عن محادثة غيره
لئلا يغلوا وأما الذكر في الصلاة فهو شيء آخر.
(1/139)
كان أصله ما لا
فائدة فيه بقرينة أن قول من قال لصاحبه أنصت
لا يعد من اللغو لأنه من باب الأمر بالمعروف
والنهي عن المنكر وقد سماه النبي صلى الله
عليه وسلم لغوا ويمكن أن يقال إن ذلك الذي
قال: أنصت لم يؤمر في ذلك الوقت بأن يقول هذه
المقالة فكان كلامه لغوا حقيقة من هذه
الحيثية, وندب له التبكير لحديث أبي هريرة في
الصحيحين وغيرهما أن رسول الله صلى الله عليه
وسلم قال: "من اغتسل يوم الجمعة غسل الجنابة
ثم راح فكأنما قرب بدنة ومن راح في الساعة
الثانية فكأنما قرب بقرة ومن راح في الساعة
الثالثة فكأنما قرب كبشا أقرن1 ومن راح في
الساعة الرابعة فكأنما قرب دجاجة ومن راح في
الساعة الخامسة فكأنما قرب بيضة فإذا خرج
الإمام حضرت الملائكة يستمعون الذكر" . وفي
الباب أحاديث في مشروعية التبكير. قال في
المسوى شرح الموطأ: الأصح أن هذه الساعات
ساعات لطيفة بعد الزوال لا الساعات التي يدور
عليها حساب الليل والنهار انتهى. والتطيب
والتجمل لحديث أبي سعيد عن النبي صلى الله
وسلم عليه قال: "على كل مسلم الغسل يوم الجمعة
ويلبس من صالح ثيابه وإن كان له طيب مس منه"
أخرجه أحمد وأبو داود وهو في الصحيحين بلفظ:
"الغسل يوم الجمعة واجب على كل محتلم وأن يستن
وأن يمس طيبا إن وجد" وأخرج أحمد والبخاري
وغيرهما من حديث سلمان الفارسي قال: قال النبي
صلى تعالى عليه وآله وسلم: "لا يغتسل رجل يوم
الجمعة ويتطهر بما استطاع من طهر ويدهن من
دهنه أو يمس من طيب بيته ثم يروح إلى المسجد
ولا يفرق بين اثنين ثم يصلي ما كتب له ثم ينصت
للإمام إذا تكلم إلا غفر له ما بين الجمعة إلى
الجمعة الأخرى" وأخرج أحمد وغيره من حديث أبي
أيوب قال: سمعت رسول الله صلى الله تعالى عليه
وآله وسلم يقول: "من اغتسل يوم الجمعة ومس من
طيب إن كان عنده ولبس من أحسن ثيابه ثم خرج
وعليه السكينة حتى يأتي المسجد فيركع إن بدا
له ولم يؤذ أحدا ثم أنصت إذا خرج إمامه حتى
يصلي كان كفارة لما بينها وبين الجمعة الأخرى"
ورجال إسناده ثقات, وفي الباب أحاديث. "والدنو
من الإمام" لحديث سمرة عند أحمد وأبي داود أن
النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم قال:
ـــــــ
1 الأقرن ذو القرون وهو خير مما لا قرن له.
(1/140)
"احضروا الذكر
وادنوا من الإمام فإن الرجل لا يزال يتباعد
حتى يؤخر في الجنة وإن دخلها" . وفي إسناده
انقطاع, وفي الباب أحاديث ومن جملة ما يشرع
يوم الجمعة الغسل وقد تقدم الكلام عليه في باب
الغسل. ومن أدرك ركعة منها فقد أدركها لحديث:
"من أدرك ركعة من صلاة الجمعة فليضف إليها
أخرى وقد تمت صلاته" فهذا وإن كان فيه مقال
غايته الإعلال بالإرسال فقد ثبت رفعه من طريق
جماعة من الصحابة منهم أبو هريرة, فإنه روي
عنه من ثلاثة عشر طريقا ومن ثلاث طرق عن ابن
عمر وبعضها يؤيد بعضا فهي لا تقصر عن رتبة
الحسن لغيره, وقد أخرجه الحاكم من ثلاث طرق عن
أبي هريرة وقال فيها على شرط الشخين1 فالعجب
من أن يؤثر على هذا كله قول عمر بن الخطاب
ويدعم بتلك العصا التي لا يأخذها إلا الزمن أو
من ضاقت عليه المسالك فيقال: ولم يرد خلافه عن
أحد من الصحابة والحال أن أول المخالفين له
رسول الله صلى الله وسلم عليه بعموم قوله
وخصوصه. والحاصل: أن الحديث له طرق كثيرة يصير
بها حسنا لغيره وقد قدمنا أنها كسائر الصلوات
وليست الخطبة شرطا من شروط الجمعة حتى يتوقف
إدراك الصلاة على إدراك الخطبة فمن زعم أن
صلاة الجمعة تختص بحكم يخالف سائر الصلوات
فعليه الدليل, وقد أوضح الماتن المقال في
أبحاث مطولة وقعت مع بعض الأعلام مشتملة على
ما يحتاج إليه في هذا البحث فليرجع إلى ذلك
فهو مفيد جدا. وهي في يوم العيد رخصة لحديث
زيد بن أرقم أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى
العيد في يوم الجمعة ثم رخص في الجمعة فقال من
شاء أن يجمع فليجمع, أخرجه أحمد وأبو داود
وابن ماجه والنسائي والحاكم وصححه علي بن
المديني2, وأخرج أبو داود وابن ماجة والحاكم
من حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه
وسلم أنه قال: "قد اجتمع في يومكم هذا عيدان
فمن شاء أجزاه
ـــــــ
1 رواه الحاكم في المستدرك جزء 1: ص 29 من
طريق الأوزاعي عن الزهري عن أبي سلمة عن أبي
هريرة بلفظ: "من أدرك من صلاة الجمعة ركعة فقد
أدرك الصلاة" ومن طريق أسامة بن زيد الليثي
وصالح بن أبي الأخضر عن الزهري بهذا الإسناد
بلفظ: "من أدرك من الجمعة ركعة فليصل إليها
أخرى وصححها كلها على شرط الشيخين ووافقه
الذهبي في مختصره.
2 وصححه الحاكم على شرط الشيخين جزء 1: ص 288
ووافقه الذهبي.
(1/141)
من الجمعة وإنا
مجمعون"1 وقد أعل بالإرسال وفي إسناده أيضا
بقية بن الوليد, وفي الباب أحاديث عن ابن عباس
وابن الزبير وغيرهما وظاهر أحاديث الترخيص
يشمل من صلى العيد ومن لم يصل بل روى النسائي
وأبو داود أن ابن الزبير في أيام خلافته لم
يصل بالناس الجمعة بعد صلاة العيد فقال ابن
عباس لما بلغه ذلك أصاب السنة وفي إسناده
مقال. أقول: الظاهر أن الرخصة عامة للإمام
وسائر الناس كما يدل على ذلك ما ورد من
الأدلة, وأما قوله صلى الله عليه وسلم: "ونحن
مجمعون" فغاية ما فيه أنه أخبرهم بأنه سيأخذ
بالعزيمة وأخذه بها لا يدل على أن لا رخصة في
حقه وحق من تقوم بهم الجمعة وقد تركها ابن
الزبير في أيام خلافته كما تقدم ولم ينكر عليه
الصحابة ذلك.
ـــــــ
1 صححه الحاكم على شرط مسلم وقال: "فإن بقية
بن الوليد لم يختلف في صدقه إذا روى عن
المشهورين" ووافقه الذهبي وبقية بن الوليد ثقة
إلا أنه كثير التدليس وقد صرح هنا بالتحديث
فقال: "ثنا شعبة".
(1/142)
باب صلاة العيدين
قد إختلف أهل العلم هل صلاة العيد واجبة أم
لا؟ والحق الوجوب لأنه صلى الله عليه وسلم مع
ملازمته لها قد أمرنا بالخروج إليها كما في
حديث أمره صلى الله عليه وسلم للناس أن يغدوا
إلى مصلاهم بعد أن أخبره الركب برؤية الهلال
وهو حديث صحيح وثبت في الصحيح من حديث أم عطية
قالت: أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن
نخرج في الفطر والأضحى العواتق2 والحيض وذوات
الخدور فأما الحيض فيعتزلن الصلاة ويشهدن
الخير ودعوة المسلمين, فالأمر بالخروج يقتضي
الأمر بالصلاة لمن لا عذر لها بفحوى الخطاب,
والرجال أولى من النساء بذلك لأن الخروج وسيلة
إليها ووجوب الوسيلة يستلزم وجوب المتوسل إليه
بل ثبت الأمر القرآني بصلاة العيد كما ذكره
أئمة التفسير في قوله تعالى: {فَصَلِّ
لِرَبِّكَ وَانْحَرْ} فإنهم قالوا: المراد
صلاة العيد, ومن الأدلة على وجوبها أنها مسقطة
للجمعة إذا اتفقتا في يوم واحد وما ليس بواجب
لا يسقط ما كان واجبا. "هي ركعتان" يجهر فيهما
بالقراءة يقرأ عند إرادة التخفيف: {سَبِّحِ
اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى} و {هَلْ أَتَاكَ}
وعند الإتمام {ق} و {اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ}
وعند الشافعي تشرع صلاة العيد جماعة وللمنفرد
والعبد والمرأة
ـــــــ
2 يعني الشواب من النساء.
(1/142)
والمسافر و لا
يخطب المنفرد ويخطب إمام المسافرين وعند أبي
حنيفة تجب صلاة العيد على كل من تجب عليه صلاة
الجمعة ويشترط لصلاة العيد ما يشترط لصلاة
الجمعة كذا في المسوى وغيره, "في الأولى سبع
تكبيرات قبل القراءة وفي الثانية خمس كذلك"
لحديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن النبي
صلى الله عليه وسلم كبر في عيد ثنتي عشرة
تكبيرة سبعا في الأولى وخمسا في الثانية أخرجه
أحمد وابن ماجه, وقال أحمد أنا أذهب إلى هذه
قال العراقي إسناده صالح ونقل الترمذي في
العلل المفردة عن البخاري أنه قال: إنه حديث
صحيح وفي رواية لأبي داود والدارقطني التكبير
في الفطر سبع في الأولى وخمس في الأخيرة
والقراءة بعدهما كلتيهما, وإسناد الحديث صالح
وقد صححه البخاري, وأخرج الترمذي من حديث عمرو
بن عوف المزني أن النبي صلى الله تعالى عليه
وآله وسلم كبر في العيدين في الأولى سبعا قبل
القراءة وفي الثانية خمسا قبل القراءة وقد
حسنه الترمذي وأنكر عليه تحسينه لأن في إسناده
كثير بن عبد الله بن عمرو بن عوف عن أبيه عن
جده وهو متروك. قال النووي: لعله اعتضد بشواهد
وغيرها انتهى. قال العراقي: إن الترمذي إنما
تبع في ذلك البخاري فقد قال في كتاب العلل
المفردة: سألت محمد بن إسماعيل عن هذا الحديث
فقال: ليس في هذا الباب شيء أصح منه وبه أقول
انتهى. وقد أخرجه ابن ماجه بدون ذكر القراءة
وأخرجه الدارقطني وابن عدي والبيهقي وفي
إسناده كثير بن عبد الله ابن عمرو بن عوف عن
أبيه عن جده قال الشافعي وأبو داود: إنه ركن
من أركان الكذب, وقال ابن حبان: له نسخة
موضوعة عن أبيه عن جده, وأخرج ابن ماجة من
حديث سعد القرظ1 المؤذن: أن رسول الله صلى
الله تعالى عليه وآله وسلم كان يكبر في
العيدين في الأولى سبعا قبل القراءة وفي
الآخرة خسما قبل القراءة. قال العراقي:
وإسناده ضعيف, وفي الباب أحاديث تشهد لذلك
والجميع يصلح للاحتجاج به وفي المسألة عشرة
مذاهب هذا أرجحها. قال في الحجة: يكبر في
الأولى سبعا قبل القراءة والثانية خمسا قبل
القراءة وعمل الكوفيين أن يكبر أربعا كتكبير
الجنائز في الأولى قبل القراءة وفي الثانية
بعدها وهما سنتان وعمل الحرمين أرجح انتهى.
ـــــــ
1 هو سعد بن عائذ مولى عمار بن ياسر كان تاجرا
في القرظ –بفتح القاف والراء وهو بمر السنط
وجعله رسول الله صلى الله عليه وسلم مؤذنا
بقباء وتوارث بنوه الأذان إلى زمن مالك وبعده.
(1/143)
أقول: الذي دلت
عليه الأدلة أن يكون التكبير مقدما على
القراءة في الركعتين كما ثبت ذلك من فعله صلى
الله تعالى عليه وآله وسلم في حديث عمرو بن
عوف المزني المتقدم1 ولم يأت من قال بمشروعية
تقديم القراءة في الركعتين أو تأخيرها في
الأولى وتقديهما في الثانية بحجة قط. ثم اعلم
أن الحافظ قال في التلخيص قوله: ويقف بين كل
تكبيرتين بقدر آية لا طويلة ولا قصيرة روي مثل
ذلك عن ابن مسعود قولا وفعلا. قلت: رواه
الطبراني والبيهقي موقوفا وسنده قوي وفيه عن
حذيفة وأبي موسى مثله وعن عمر أنه كان يرفع
يديه في التكبيرات رواه البيهقي وفيه ابن
لهيعة. واحتج ابن المنذر والبيهقي بحديث روياه
من طريق بقية عن الزبيدي عن الزهري عن سالم عن
أبيه في الرفع عند الإحرام والركوع والرفع منه
وفي آخره يرفعهما في كل تكبيرة يكبرها قبل
الركوع انتهى. قال في شرح المنتقى: والظاهر
عدم وجوب التكبير كما ذهب إليه الجمهور لعدم
وجدان دليل يدل عليه انتهى.
والحاصل: أنه سنة لا تبطل الصلاة بتركه عمدا
ولا سهوا. قال ابن قدامة: ولا أعلم فيه خلافا.
قالوا: وإن تركه لا يسجد للسهو وروي عن مالك
وأبي حنيفة أنه يسجد للسهو والحق الأول.
"ويخطب بعدها يأمر بتقوى الله تعالى ويذكر
ويعظ". لما ثبت في الصحيحين وغيرهما من حديث
أبي سعيد قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم
يخرج يوم الفطر والأضحى إلى المصلى وأول شيء
يبدأ به الصلاة ثم ينصرف فيقوم مقابل الناس
والناس جلوس على صفوفهم فيعظهم ويوصيهم
ويأمرهم وإن كان يريد أن يقطع بعثا2 أو يأمر
بشيء أمر به ثم ينصرف, وفي الباب من حديث جابر
عند مسلم وغيره وأول من خطب قبل الصلاة في
العيد مروان وأنكر عليه ذلك, وأخرج النسائي
وابن ماجة وأبو داود من حديث عبد الله بن
السائب قال: شهدت مع النبي صلى الله عليه وسلم
العيد فلما قضى الصلاة قال: "إنا نريد أن نخطب
فمن أحب أن يجلس للخطبة فليجلس ومن أحب أن
يذهب فليذهب" 3. ويستحب في العيد التجمل
بالثياب فقد ثبت في الصحيحين أن عمر
ـــــــ
1 سبق أنه حديث ضعيف جدا.
2 يعني يرسل جيشا إلى غزو أو غيره.
3 في نيل الأوطار: "قال أبو داود: هو مرسل.
وقال النسائي: هذا خطأ والصواب أنه مرسل.
(1/144)
وجد حلة في
السوق من استبرق1 تباع فأخذها فأتى بها النبي
صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله ابتع
هذه فتجمل بها للعيد والوفد. فقال: "إنما هذه
لباس من لا خلاق2 له" وأخرج الشافعي عن شيخه
إبراهيم ابن محمد عن جعفر بن محمد عن أبيه عن
جده أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يلبس برد
حبرة3 في كل عيد وشيخ الشافعي ضعيف ولكنه قد
تابعه سعيد بن الصلت عن جعفر بن محمد عن أبيه
عن جده عن ابن عباس بمثله أخرجه الطبراني
وأخرج ابن خزيمة عن جابر أن النبي صلى الله
عليه وسلم كان يلبس البرد الأحمر في العيدين
وفي الجمعة. "والخروج إلى خارج البلد"
لمواظبته صلى الله عليه وسلم على ذلك وصلى بهم
صلى الله عليه وسلم صلاة العيد في المسجد لمطر
وقع كما في حديث أبي هريرة عند أبي داود وابن
ماجة والحاكم وفي إسناده مجهول. ومخالفة
الطريق لحديث أبي هريرة عند البخاري وغيره
قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا كان
يوم العيد خالف الطريق4, وأخرج أبو داود وابن
ماجة نحوه من حديث ابن عمر وفي الباب أحاديث
غير ما ذكر. "والأكل قبل الخروج في الفطر دون
الأضحى" لما ثبت في الصحيح من حديث أنس قال:
كان النبي صلى الله عليه وسلم لا يغدو يوم
الفطر حتى يأكل تمرات ويأكلهن وترا. وأخرج
أحمد والترمذي وابن ماجة وابن حبان والدارقطني
والحاكم والبيهقي من حديث بريدة قال: كان رسول
الله صلى الله عليه وسلم لا يغدو يوم الفطر
حتى يأكل ولا يأكل يوم الأضحى حتى يرجع, زاد
أحمد: "فيأكل من أضحيته" وفي الباب أحاديث.
"ووقتها بعد ارتفاع الشمس قدر رمح إلى الزوال"
لما أخرجه أحمد بن الحسن البناء في كتاب
الأضاحي من حديث جندب قال: كان النبي صلى الله
تعالى عليه وأله وسلم يصلى بنا يوم الفطر
والشمس على قيد رمحين والأضحى على قيد رمح,
وأخرج أبو داود وابن ماجة من حديث عبد الله
ـــــــ
1 هو ما غلظ من الديباج والحرير.
2 الخلاق النصيب.
3 بوزن غنية نوع من برود اليمن.
4 هذا حديث جابر وأما حديث أبي هريرة فقد رواه
أحمد ومسلم والترمذي ولفظه: كان النبي صلى
الله عليه وسلم إذا خرج إلى العيد يرجع في غير
الطريق الذي خرج منه.
(1/145)
ابن بسر صاحب
رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم أنه
خرج مع الناس يوم عيد فطر أو أضحى فأنكر إبطاء
الإمام وقال: إنا كنا قد فرغنا ساعتنا هذه
وذلك حين التسبيح, أي حين وقت صلاة العيد.
وأخرج الشافعي مرسلا أن النبي صلى الله عليه
وسلم كتب إلى عمرو بن حزم وهو بنجران أن عجل
الأضحى وأخر الفطر. وفي إسناده إبراهيم بن
محمد شيخ الشافعي وهو ضعيف, وقد وقع الإجماع
على ما أفادته الأحاديث وإن كانت لا تقوم
بمثلها الحجة, وأما آخر وقت صلاة العيدين
فزوال الشمس وإذا كان الغدو من بعد طلوع الشمس
إلى الزوال كما قال بعض أهل العلم فحديث أمره
صلى الله عليه وسلم للركب أن يغدوا إلى مصلاهم
يدل على ذلك قال في البحر: وهي من بعد انبساط
الشمس إلى الزوال ولا أعرف فيه خلافا. "ولا
أذان فيها ولا إقامة" لما ثبت في الصحيح من
حديث جابر بن سمرة قال: صليت مع النبي صلى
الله عليه وسلم غير مرة ولا مرتين بغير أذان
ولا إقامة, وثبت في الصحيحين عن ابن عباس أنه
قال: لم يكن يؤذن يوم الفطر ولا يوم الأضحى.
وفي الباب أحاديث. وأما تكبير أيام التشريق
فلا شك في مشروعية مطلق التكبير في الأيام
المذكورة ولم يثبت تعيين لفظ مخصوص ولا وقت
مخصوص ولا عدد مخصوص بل المشروع الاستكثار منه
دبر الصلوات وسائر الأوقات فما جرت عليه عادة
الناس اليوم استنادا إلى بعض الكتب الفقهية من
جملة عقب كل صلاة فريضة ثلاث مرات وعقب كل
صلاة نافلة مرة واحدة وقصر المشروعية على ذلك
فحسب ليس عليه أثارة من علم فيما أعلم وأصح ما
ورد فيه عن الصحابة أنه من صبح يوم عرفة إلى
آخر أيام منى, وأما صفة التكبير فأصح ما ورد
فيه ما أخرجه عبد الرزاق بسند صحيح عن سلمان
قال كبروا: الله أكبر الله أكبر الله أكبر
كبيرا قال في شرح المنتقى نقلا عن الفتح: وقد
أحدث في هذا الزمان زيادة في ذلك لا أصل لها
انتهى. قال الشوكاني: والظاهر أن تكبير
التشريق لا يختص استحبابه بعقب الصلوات بل هو
مستحب في كل وقت من تلك الأيام كما تدل على
ذلك الآثار انتهى.
(1/146)
باب صلاة العيدين
...
باب صلاة الخوف
"قد صلاها رسول الله صلى الله عليه وسلم على
صفات مختلفة" قيل على ستة عشر وقيل سبعة عشرة
وقيل ثمانية عشر وقيل أقل من ذلك, وقد صح منها
أنواع فمنها أنه صلى الله عليه وسلم بكل طائفة
ركعتين فكان للنبي صلى الله عليه وسلم أربع
وللقوم ركعتان وهذه الصفة ثابتة في الصحيحين
من حديث جابر ومنها أنه صلى بكل طائفة ركعة
فكان له ركعتان وللقوم ركعة وهذه الصفة أخرجها
النسائي بإسناد رجاله ثقات ومنها أنه صلى بهم
جميعا فكبر وكبروا وركع وركعوا ورفع ورفعوا ثم
سجد وسجد معه الصف الذي يليه وقام الصف المؤخر
في نحر العدو فلما قضى النبي صلى الله عليه
وسلم السجود والصف الذي يليه انحدر الصف
المؤخر بالسجود وقاموا ثم تقدم الصف المؤخر
وتأخر الصف المقدم وفعلوا كالركعة الأولى
ولكنه قد صار الصف المؤخر مقدما والمقدم مؤخرا
ثم سلم النبي صلى الله عليه وسلم وسلموا جميعا
وهذه الصفة ثابتة في صحيح مسلم وغيره من حديث
جابر ومن حديث أبي عياش الزرقي عند أحمد وأبي
داود والنسائي ومنها أنه صلى الله عليه وآله
وسلم صلى بإحدى الطائفتين ركعة والطائفة
الأخرى مواجهة العدو ثم انصرفوا وقاموا في
مقام أصحابهم مقيلين على العدو وجاء أولئك ثم
صلى النبي صلى الله عليه وسلم ثم قضى هؤلاء
ركعة وهذه الصفة ثابتة في الصحيحين من حديث
ابن عمر ومنها أنها قامت مع النبي صلى الله
عليه وآله وسلم طائفة وطائفة أخرى مقابل العدو
وظهورهم إلى القبلة فكبر فكبروا جميعا الذين
معه والذين مقابل العدو ثم ركع ركعة واحدة
وركعت الطائفة التي معه ثم سجد فسجدت التي
تليه والآخرون قيام مقابل العدو ثم قام وقامت
الطائفة التي معه فذهبوا إلى العدو فقابلوهم
وأقبلت الطائفة التي كانت مقابل العدو فركعوا
وسجدوا ورسول الله صلى الله تعالى عليه وآله
وسلم كما هو ثم قاموا فركع ركعة أخرى وركعوا
معه وسجد وسجدوا معه ثم أقبلت الطائفة التي
كانت مقابل العدو فركعوا وسجدوا ورسول الله
صلى الله عليه وآله وسلم قاعد ومن معه ثم كان
السلام فسلم وسلموا جميعا فكان لرسول الله صلى
الله عليه وآله وسلم ركعتان وللقوم لكل طائفة
ركعتان وهذه الصفة أخرجها وأحمد والنسائي وأبو
داود ومنها أنه صلى الله عليه وسلم صلى بطائفة
ركعة وطائفة وجاه العدو ثم ثبت قائما فأتموا
لأنفسهم ثم انصرفوا
(1/147)
وجاه العدو
وجاءت الطائفة الأخرى فصلى بهم الركعة التي
بقيت من صلاته فأتموا لأنفسهم فسلم بهم وهذه
الصفة ثابتة في الصحيحين من حديث سهل بن أبي
حثمة وإنما اختلفت صلاته صلى الله عليه وسلم
في الخوف لأنه كان في كل موطن يتحرى ما هو
أحوط للصلاة وأبلغ في الحراسة, وكلها مجزئة
لأنها وردت على أنحاء كثيرة وكل نحو روي عن
النبي صلى الله عليه وسلم فهو جائز يفعل
الإنسان ما هو أخف عليه وأوفق بالمصلحة حالتئذ
كذا في الحجة. أقول: من زعم من أهل العلم أن
المشروع من صلاة الخوف ليس إلا صفة من الصفات
الثابتة دون ما عداها فقد أهدر شريعة ثابتة
وأبطل سنة قائمة بلا حجة نيرة وغالب ما يدعو
إلى ذلك ويوقع فيه قصور الباع وعدم الإعتناء
بكتب السنة المطهرة فالحق الحقيق بالقبول جواز
جميع ما ثبت من الصفات وقد ذكر هنا صاحب
المنتقى أنواعا هي حاصل ما ذكره المحدثون مما
بلغ إلى رتبة الصحيح وثم صفات أخر ليست ببالغة
إلى تلك الرتبة فإن قلت: ما الحكمة في وقوع
هذه الصلاة على أنواع مختلفة؟ قلت: أمران:
الأول اقتضاء الحادثة لذلك والمقتضيات مختلفة
ففي بعض المواطن تكون بعض الصفات أنسب من بعض
لما يكون فيها من أخذ الحذر والعمل بالحزم ما
يناسب الخوف العارض فقد يكون الخوف في بعض
المواطن شديدا والعدو متصلا أو قريبا وفي بعض
المواطن قد يكون الخوف خفيفا والعدو بعيدا
فتكون هذه الصفة أولى بهذا الموطن وهذه أولى
بهذا الموطن, فالأمر الثاني أنه صلى الله
تعالى عليه وآله وسلم فعلها متنوعة إلى تلك
الأنواع لقصد التشريع وإرادة البيان للناس
وأما صلاة المغرب فقد وقع الإجماع على أنه لا
يدخلها القصر ووقع الخلاف هل الأولى أن يصلي
الإمام بالطائفة الأولى ركعتين والثانية ركعة
أو العكس ولم يثبت في ذلك شيء عن النبي صلى
الله تعالى عليه وآله وسلم وقد روي أن عليا
رضي الله تعالى عنه صلاها ليلة الهرير,
واختلفت الرواية في حكاية فعله كما إختلفت
الأقوال والظاهر أن الكل جائز وإن صلى لكل
طائفة ثلاث ركعات فيكون له ست ركعات وللقوم
ثلاث ركعات فهو صواب قياسا على فعله في غيرها,
وقد تقرر صحة إمامة المتنفل بالمفترض كما سبق.
"وإذا اشتد الخوف والتحم القتال صلاها الراجل
والراكب ولو إلى غير القبلة ولو بالإيماء"
ويقال لصلاة الخوف عند التحام القتال صلاة
المسايف أخرج
(1/148)
البخاري عن ابن
عمر في تفسير سورة البقرة بلفظ: فإن كان خوف
أشد من ذلك صلوا رجالا قياما على أقدامهم أو
ركبانا مستقبلي القبلة وغير مستقبليها. قال
مالك قال نافع: لا أرى عبد الله بن عمر ذكر
ذلك إلا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. وهو
في مسلم من قول ابن عمر بنحو ذلك وقد رواه ابن
ماجه عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم
وصف صلاة الخوف وقال: فإن كان خوف أشد من ذلك
فرجالا وركبانا, وأخرج أحمد وأبو داود بإسناد
حسن عن عبد الله بن أنيس قال: بعثني رسول الله
صلى الله عليه وسلم إلى خالد بن سفيان الهذلي
وكان نحو عرنة وعرفات فقال: إذهب فاقتله, قال:
فرأيته وقد حضرت صلاة العصر فقلت: إني لأخاف
أن يكون بيني وبينه ما يؤخر الصلاة فانطلقت
أمشي وأنا أصلي أومئ إيماء نحوه فلما دنوت
منه" الحديث. ومن البعيد أن لا يخبر النبي صلى
الله عليه وسلم بذلك ولو أنكره لذكر ذلك.
(1/149)
باب صلاة السفر
يجب القصر لحديث عائشة الثابت في الصحيح أن
النبي صلى الله عليه وسلم قال1: "فرضت الصلاة
ركعتين فزيدت في الحضر وأقرت في السفر" فهذا
يشعر بأن صلاة السفر باقية على الأصل فمن أتم
فكأنه صلى في الحضر الثنائية أربعا والرباعية
ثمانيا عمدا, وثبت أيضا في الصحيح أن النبي
صلى الله عليه وسلم قال: "صدقة تصدق الله بها
عليكم فاقبلوا صدقته" وكان النبي صلى الله
عليه وسلم يقتصر في جميع أسفاره على القصر.
قلت: اتفقت الأمة على جواز القصر في السفر
واختلف المفسرون في قوله تعالى: {وَإِذَا
ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ
جُنَاحٌ} أنزلت في السفر وقيد الخوف اتفاقي أو
في الخوف وقيد السفر اتفاقي والمراد من القصر
الإيماء في الركوع والسجود فذهب إلى الأول
جماعات من المفسرين وإلى الثاني يشير قول ابن
عمر ويدل عليه بناء قوله تعالى: {وَإِذَا
كُنْتَ فِيهِمْ} على آية القصر من غير ذكر
الخوف ثانيا ثم مذهب الأكثرين أن القصر واجب,
وقال الشافعي: إن شاء أتم وإن شاء قصر والقصر
أفضل كذا في المسوى. أقول: الحق وجوب القصر
والأحاديث مصرحة بما يقتضي ذلك,
ـــــــ
1 هذا خطأ فاحش فإن الحديث المذكور إنما هو من
قول عائشة غير مرفوع وهي تحكي كيف فرضت
الصلاة.
(1/149)
وأما ما يروى
عن عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان
يقصر في الصلاة ويتم ويفطر ويصوم. فلم يثبت
كما صرح به جماعة من الحفاظ1 وكذلك ما روي
عنها أنها فعلت ذلك ولم ينكر عليها رسول الله
صلى الله عليه وسلم وقد تكلم فيه جماعة من
الأئمة بما تسقط به حجيته, وكذلك ما روي عن أن
عثمان أتم الصلاة بمنى فلا حجة في ذلك وقد صح
إنكار بعض الصحابة عليه واعتذاره عن ذلك فلم
يبق في المقام ما يوجب التردد, والظاهر من
الأدلة في القصر والإفطار عدم الفرق بين من
سفره في طاعة ومن سفره في معصية لا سيما القصر
لأن صلاة المسافر شرعها الله كذلك فكما أن
الله شرع للمقيم صلاة التمام من غير فرق بين
من كان مطيعا ومن كان عاصيا بلا خلاف كذلك شرع
للمسافر ركعتين من غير فرق وأدلة القصر
متناولة للعاصي تناولا زائدا على تناول أدلة
الإفطار له لأن القصر عزيمة وهي لم تشرع
للمطيع دون العاصي بل مشروعة لها جميعا بخلاف
الإفطار فإنه رخصة للمسافر والرخصة تكون لهذا
دون هذا في الأصل وإن كانت هنا عامة وإنما
المراد بطلان القياس والركعتان في السفر تمام
غير قصر ومعناه عند الحنفية أنه لا يكون فرض
المسافر غير ركعتين وإن صلى أربعا ولم يقعد
للتشهد بطلت صلاته وإن قعد أتمها أربعا
والأخريان نقل وعند الشافعية أن المسافر إذا
قصر في السفر فليس عليه ما تركه إذا صار مقيما
بخلاف الصوم فإنه يعيد ما أفطر إذا صار مقيما
وإيجاب القصر على من خرج من بلده قاصدا للسفر
وإن كان دون بريد وجهه أن الله تعالى قال:
{وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ
عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ
الصَّلاةِ} والضرب في الأرض يصدق على كل ضرب
لكنه خرج الضرب أي المشي لغير السفر لما كان
يقع منه صلى الله عليه وسلم من الخروج إلى
بقيع الغرقد ونحوه ولا يقصر ولم يأت في تعيين
قدر السفر الذي يقصر فيه المسافر شيء فوجب
الرجوع إلى ما يسمى سفرا لغة وشرعا, ومن خرج
من بلده قاصدا إلى محل يعد في مسيره إليه
مسافرا قصر الصلاة وإن كان ذلك المحل دون
البريد ولم يأت من اعتبر البريد واليوم
واليومين
ـــــــ
1 المطلع على إسناد الحديث وما قيل فيه لا يجد
مناصا من القول بأنه حديث حسن صالح للاحتجاج
إن لم يكن صحيحا. انظر نيل الأوطار جزء 3: ص
248- 250.
(1/150)
والثلاث وما
زاد على ذلك بحجة نيرة وغاية ما جاءوا به
حديث: "لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر
أن تسافر ثلاثة أيام بغير ذي محرم" وفي رواية:
"يوما وليلة" وفي رواية: "بريدا" وليس في هذا
الحديث ذكر القصر ولا هو في سياقه والاحتجاج
به مجرد تخمين وأحسن ما ورد في التقدير ما
رواه شعبة عن يحيى بن زيد الهنائي, قال: سألت
أنسا عن قصر الصلاة فقال: كان رسول الله صلى
الله عليه وسلم إذا خرج مسيرة ثلاثة أميال أو
ثلاثة فراسخ صلى ركعتين والشك في شعبة. أخرجه
مسلم وغيره فإن قلت: محل الدليل في نهي المرأة
عن السفر تلك المسافة بدون محرم هو كونه صلى
الله عليه وسلم سمى ذلك سفرا. قلت: تسميته
سفرا لا تنافي تسمية ما دونه سفرا فقد سمى
النبي صلى الله عليه وسلم مسافة الثلاث سفرا
كما سمى مسافة البريد سفرا في ذلك الحديث
باعتبار اختلاف الرواية وتسمية البريد سفرا لا
ينافي تسمية ما دونه سفرا, فإن قلت أخرج
الدارقطني والبيهقي والطبراني من حديث ابن
عباس أنه صلى الله عليه وسلم قال: "يا أهل مكة
لا تقصروا في أقل من أربعة برد من مكة إلى
عسفان1". قلت: هو ضعيف لا تقوم به الحجة فإن
في إسناده عبد الوهاب بن مجاهد بن جبر وهو
متروك2. قال الماتن وفي المسألة مذاهب هذا
أرجحها لدي, وقال أبو حنيفة: مسيرة ثلاثة أيام
وفي العالمكيرية الصحيح أنه لا يشترط سير كل
اليوم إلى الليل فلو بكر في كل يوم ومشى إلى
الزوال ثم نزل يصير مسافرا, وقال الشافعي
أربعة برد وقال مالك وذلك أحب ما سمعت يقصر
فيه الصلاة إلي وتفسيرها ستة عشر فرسخا ويتجه
على هذا أن قولهما متقاربان قال الأوزاعي:
عامة الفقهاء يقولون مسيرة يوم تام وإنما يحل
القصر إذا خرج من بيوت القرية. قال العلماء:
إذا جاوز عمران المصر قصر. أقول مسألة أقل
السفر قد اضطربت فيها الأقوال وطال فيها
النزاع وتشعبت فيها المذاهب وليس في ذلك شيء
يستند إليه إلا مجرد قول الرواة قصر رسول الله
صلى الله عليه وآله وسلم في كذا من دون بيان
لمقدار يرجع إليه, وأصرح ما في ذلك ما قاله
بعض الرواة أنه صلى الله تعالى عليه وآله وسلم
كان يقصر إذا سافر ثلاثة أميال أو ثلاثة فراسخ
هكذا على الشك مع أنه
ـــــــ
1 بضم العين وإسكان المهملتين على مرحلتين من
مكة.
2 وقد كذبه الثوري.
(1/151)
لم يين مقدار
المسافة التي هي انتهاء سفره وغاية ما وقع
التعويل عليه أحاديث لا يحل لامرأة كما تقدمت
والمعمول عليه ههنا رواية البريد لأن ما فوقها
يعتبر فيه ذلك بفحوى الخطاب لكن لا ملازمة بين
اعتبار المحرم للمرأة وبين وجوب القصر على
غيرها من المسافرين لأن علة مشروعية المحرم
غير علة مشروعية القصر فلم يبق في المسألة ما
يصلح للاستناد إليه فوجب الرجوع إلى ما يصدق
عليه مسمى الضرب في الأرض على وجه يخالف ما
يفعله المقيم من ذلك وهو يصدق على من أراد
سفرا زائدا على الميل لا ما كان ميلا فما دون
فقد يتردد المقيم في الجوانب المقاربة لبلد
إقامته وقد كان صلى الله عليه وآله وسلم يخرج
إلى البقيع لزيارة الأموات ولا يقصر وإن كان
هذا لا يتم الاحتجاج به إلا بعد تسلم أنه خرج
إلى هنالك وحضر وقت الصلاة فصلى تماما وهو
ممنوع فالتعويل في استثناء الميل هو ما قدمنا
وفيه ما فيه لولا أنه أوجب الرجوع إليه البقاء
على الأصل والفرار من التحكمات التي لا ترجع
إلى شيء كما يقوله بعض أهل العلم إن مسافة
القصر ما بين الشام والعراق ونحو ذلك.
فالحاصل: أن الواجب الرجوع إلى ما يصدق عليه
اسم السفر شرعا أو لغة أو عرفا لأهل الشرع فما
كان ضربا في الأرض يصدق عليه أنه سفر وجب فيه
القصر, وأما ما رواه سعيد بن منصور: أنه كان
صلى الله تعالى عليه وآله وسلم إذا سافر فرسخا
يقصر الصلاة فهو أيضا لا ينفي السفر فيما دون
ذلك, وإذا أقام ببلد مترددا قصر إلى عشرين
يوما ثم يتم وجهه أن من حط رحله بدار إقامة
فقد ذهب عنه حكم السفر وفارقته المشقة فلولا
أن الشارع سمى من أقام كذلك مسافرا فقال:
"أتموا يا أهل مكة فإنا قوم سفر" لما كان حكم
السفر ثابتا له فالواجب الاقتصار في القصر مع
الإقامة على المقدار الذي سوغه الشارع, وما
زاد عليه فللمسافر حكم المقيم يجب عليه أن يتم
صلاته لأنه مقيم لا مسافر وقد أقام النبي صلى
الله عليه وآله وسلم بمكة في غزوة الفتح قيل
ثماني عشرة ليلة وقيل تسع عشرة ليلة وقيل أقل
من ذلك وفي صحيح البخاري وغيره تسع عشرة ليلة
وأخرج أحمد وأبو داود من حديث جابر قال: أقام
النبي صلى الله عليه وسلم بتبوك عشرين ليلة
يقصر الصلاة. وأخرجه أيضا ابن حبان والبيهقي
وصححه ابن حزم والنووي فوجب علينا أن نقتصر
(1/152)
علي هذا
المقدار وتتم بعد ذلك ولله در الحبر ابن عباس
ما أفقهه وما أفهمه للمقاصد الشرعية فإنه قال
فيما رواه عنه البخاري وغيره: لما فتح النبي
صلى الله تعالى عليه وآله وسلم مكة أقام فيها
تسع عشرة يصلي ركعتين. قال: فنحن إذا سافرنا
فأقمنا تسع عشرة قصرنا وإن زدنا أتممنا.
وأقول: هذا الفقه الدقيق والنظر المبني على
أبلغ تحقيق ولو قال له جابر أقمنا مع رسول
الله صلى الله عليه وسلم بتبوك عشرين ليلة
نقصر الصلاة لقال بموجب ذلك. قال الماتن: وفي
المسألة مذاهب هذا أرجحها لدي انتهى.
أقول: الظاهر فيمن أقام ببلد وحط الرحل يوما
بعد يوم وليلة بعد ليلة أنه لا يقصر الصلاة
لأنه غير مسافر فلو لم يرد الدليل الدال على
أن من أقام عازما على السفر كان له حكم
المسافر لم يثبت القصر في حقه فينبغي أن يقتصر
على ما ورد ولا يجاوز. أما مع التردد وعدم
العزم على إقامة أيام معينة فلا يزال يقصر
المسافر حتى يبلغ مدة إقامته مقدار المدة التي
أقامها رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة بعد
الفتح وأكثر ما قيل عشرون ليلة, وقد روي أنه
أقام في غزوة تبوك بمكان نحو ذلك وروي أكثر
فإن قيل إن الاقتصار على مقدار إقامته صلى
الله عليه وسلم وعدم تجويز القصر فيما زاد
عليها لا يصلح للتمسك به لأنه مجرد فعل لا
دلالة فيه على قصر الجواز على تلك المدة, ومن
أين لنا أنه لو عرض له ما يوجب إقامته فوق تلك
المدة لما قصر الصلاة بل كان يتمها؟ فيقال هذا
صحيح ولم نقل إن هذا الفعل يدل بمجرده على ذلك
بل قلنا إن من حط رحله بمحل فالظاهر أنه في
ذلك الوقت غير مسافر فيما كان من الإقامة
زائدا على ما يعتاده المسافرون من الإراحة
لأنفسهم ودوابهم يوما أو بعض يوم وليلة أبو
بعض ليلة فإذا سمى بعد إقامته أياما مسافرا
فهذه التسمية غير مناسبة لما هو الظاهر فوجب
الاقتصار على مقدار المدة التي أقامها الشارع
وقصر الصلاة فيها. وقال: "إنا قوم سفر" ومن
زعم جواز القصر فيما زاد عليها فعليه الدليل,
وأما إذا نوى إقامة أيام معينة فقد وقع
الاضطراب في ذلك فقيل: أربعة أيام فإن نوى
إقامة أكثر منها قصر. واستدل هذا القائل
بإقامته صلى الله عليه وسلم في مكة في حجة
الوداع أربعة أيام يقصر الصلاة, ووجه
الاستدلال بهذا كالوجه الذي ذكرناه مع التردد
سواء بسواء وهو أشف ما قيل وغاية ما تمسك به
(1/153)
أهل الأقوال
الآخرة ما روي عن جماعة من الصحابة من
الاجتهادات المختلفة ولا حجة في ذلك وما يقال
من أنها بمنزلة المرفوع لكونها ليست من مسارح
الاجتهاد فمردود على أن التقدير بالأربع مع
كونه أشف ما قيل كما ذكرنا يمكن أن يقال عليه
إنما يتم الاستدلال به بعد ثبوت أنه صلى الله
عليه وسلم عزم على إقامة الأربع ولم ينقل ذلك
ويمكن أن يجاب بأن أعمال الحج لا يمكن الإتيان
بها في دون تلك المدة فالعزم على الإقامة
قدرها لا بد منه, وأما ما روي عن أنس أنه قال:
أقمنا مع النبي صلى الله عليه وسلم عشرا فهو
محمول على جميع أيام الإقامة بمكة ونواحيها,
وأما نفس الإقامة بمكة فليست إلا أربعة أيام
فليعلم. وإذا عزم على إقامة أربع أتم بعدها
وجهه ما عرفناك من أن المقيم لا يعامل معاملة
المسافر إلا على الحد الذي ثبت عن الشارع ويجب
الإقتصار عليه وقد ثبت عنه مع التردد ما قدمنا
ذكره, وأما مع عدم التردد بل العزم على إقامة
أيام معينة فالواجب الاقتصار على ما اقتصر
عليه صلى الله تعالى وآله وسلم مع عزمه على
الإقامة في أيام الحج فإنه ثبت في الصحيحين
أنه قدم مكة صبيحة رابعة من ذي الحجة فأقام
بها الرابع والخامس والسادس والسابع وصلى
الصبح في اليوم الثامن ثم خرج إلى منى فلما
أقام النبي صلى الله عليه وآله وسلم بمكة
أربعة أيام يقصر الصلاة مع كونه لا يفعل ذلك
إلا عازما على الإقامة إلى أن يعمل أعمال الحج
كان ذلك دليلا على أن العازم على إقامة مدة
معينة يقصر إلى تمام أربعة أيام ثم يتم وليس
ذلك لأجل كون النبي صلى الله عليه وآله وسلم
لو أقام زيادة على الأربع لأتم فإنا لا نعلم
ذلك ولكن وجهه ما قدمنا من أن المقيم العازم
على إقامة مدة معينة لا يقصر إلا بإذن كما أن
المتردد كذلك, ولم يأت الإذن بزيادة على ذلك
ولا ثبت عن الشارع غيره. قال الشافعي: لو نوى
إقامة أربعة أيام بموضع انقطع سفره بوصوله.
قال في المنهاج: ولا يحسب منها يوما دخوله
وخروجه على الصحيح, وقال أبو حنيفة: لا يزال
على حكم السفر حتى ينوي الإقامة في بلدة أو
قرية خمسة عشر يوما, وقول أكثر أهل العلم: أنه
يقصر أبدا ما لم يجمع إقامة1 واختلف أصحاب
الشافعي في حكاية مذهبه وحكاية البغوي أنه إذا
لم يجمع الإقامة فزاد مكثه على أربعة
ـــــــ
1 أي يعزم على الإقامة.
(1/154)
أيام وهو عازم
على الخروج أتم إلا أن يكون في خوف أو حرب
فيقصر, وقد قصر رسول الله صلى الله تعالى عليه
وآله وسلم عام الفتح بحرب هوازن تسعة عشر أو
ثمانية عشر يوما, وله قول آخر موافق للجمهور.
قال الماتن: واعلم أن هذه الثلاثة الأبحاث
المذكورة في هذا الباب هي من المعارك التي
تتبلد عندها الأذهان وقد اضطربت فيها المذاهب
اضطرابا شديدا وتباينت فيها الأنظار تباينا
زائدا انتهى.
"وله الجمع تقديما وتأخيرا" وجهه ما ثبت في
الصحيحين من حديث أنس قال: كان النبي صلى الله
عليه وآله وسلم إذا رحل قبل أن تزيغ الشمس أخر
الظهر إلى وقت العصر ثم نزل فجمع بينهما فإن
زاغت قبل أن يرتحل صلى الظهر ثم ركب". وأخرج
أحمد وأبو دواد والترمذي وابن حبان والحاكم
والدارقطني وحسنه الترمذي من حديث معاذ أن
النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم كان في
غزوة تبوك إذا ارتحل قبل أن تزيغ الشمس أخر
الظهر حتى يجمعها إلى العصر يصليهما جميعا
وإذا ارتحل بعد زيغ الشمس صلى الظهر والعصر
جميعا ثم سار". وأخرج أحمد من حديث ابن عباس
نحوه وزاد المغرب والعشاء وأخرجه أيضا البيهقي
والدارقطني وصحح إسناده ابن العربي وتعقب بأن
في إسناده من لا يحتج بحديثه, وللحديثين طرق
يقوي بعضها بعضا وليس فيها من المقال ما يبطل
الاحتجاج بمجموعها, ومن الجمع بين المغرب
والعشاء حديث ابن عمر الثابت في الصحيحين
وغيرهما أن النبي صلى الله تعالى عليه وآله
وسلم كان إذا جد به السير أخر المغرب حتى يغيب
الشفق ثم يجمع بينها وبين العشاء. قال ابن
القيم: وكل هذه سنن في غاية الصحة والصراحة
ولا معارض لها فردت بأنها أخبار آحاد وأوقات
الصلوات ثابتة بالتواتر لحديث أمامة جبريل
عليه السلام للنبي صلى الله عليه وسلم, وقوله
للسائل عن المواقيت وهذه أحاديث محكمة صحيحة
صريحة في تفصيل الأوقات مجمع عليها بين الأمة
وأحاديث الجمع غير صريحة لجواز أن يكون المراد
بها الجمع في الفعل وفي الوقت فكيف يترك
المبين للمجمل. والجواب أن يقال: الجميع حق
والذي وقت هذه المواقيت وبينها بفعله وقوله هو
الذي شرع الجمع بقوله وفعله فلا يؤخذ ببعض
السنة ويترك بعضها. فأحاديث الجمع مع أحاديث
الإفراد بمنزلة أحاديث الأعذار والضرورات مع
أحاديث
(1/155)
الشروط
والواجبات؛ فالسنة يبين بعضها بعضا لا يرد
بعضها ببعض ومن تأمل أحاديث الجمع وجدها كلها
صريحة في جمع الوقت لا في جمع الفعل وألفاظ
السنة الصريحة ترده كذا في أعلام الموقعين.
قال في المسوى: أكثر أهل العلم على جواز الجمع
في السفر بين الظهر والعصر وبين المغرب
والعشاء في وقت إحداهما, وقالت الحنفية: لا
يجوز. ومعنى الحديث عنهم أن يؤخر إحدى
الصلاتين إلى آخر وقتها ويعمل الأخرى في أول
وقتها فيحصل الجمع صورة, رووا ذلك عن علي وسعد
بن أبي وقاص. وأما الجمع للحاج فمتفق عليه
انتهى. "بأذان وإقامتين" لثبوت ذلك في
الصحيحين في جمع مزدلفة.
(1/156)
باب صلاة الكسوفين
وهي صلاة الآيات: "وهي سنة". قال الماتن في
شرحه: أي لعدم ورود ما يفيد الوجوب ومجرد
الفعل لا يفيد زيادة على كون المفعول مسنونا
انتهى. وزاد في السيل الجرار: اعلم أنه قد
اجتمع ههنا في صلاة الكسوف الفعل والقول ومن
ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: "إن الشمس
والقمر آيتان من آيات الله وأنهما لا يكسفان
لموت أحد ولا لحياته فإذا رأيتموهما كذلك
فافزعوا إلى المساجد" وفي رواية: "فصلوا
وادعوا" والظاهر الوجوب فإن صح ما قيل من وقوع
الإجماع على عدم الوجوب كان صارفا وإلا فلا
انتهى. قال في الحجة البالغة: قد صح عن النبي
صلى الله عليه وسلم أنه صلاها جماعة وأمر أن
ينادي بها أن الصلاة جامعة وجهر بالقراءة فمن
اتبع فقد أحسن ومن صلى صلاة معتدا بها في
الشرع فقد عمل بقوله صلى الله عليه وسلم:
"فإذا رأيتم ذلك فادعوا الله وكبروا وصلوا
وتصدقوا" انتهى. ورجح ابن القيم الجهر
بالقراءة في صلاة الكسوف لحديث عائشة صحيح
البخارية أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ
قراءة طويلة يجهر بها في صلاة الكسوف. وأما
قول سمرة صلى بنا رسول الله صلى الله عليه
وسلم في كسوف ولم نسمع له صوتا فقال البخاري:
حديث عائشة في الجهر أصح من حديث سمرة. وأصح
ما ورد في صفتها ركعتان في كل ركعة ركوعان
لثبوت ذلك في الصحيحين وغيرهما من حديث عائشة
وابن عمر وابن عباس.
(1/156)
"وورد ثلاثة"
ركوعات في ركعة فثبت ذلك من حديث جابر عند
مسلم وغيره ومن حديث ابن عباس عند الترمذي
وصححه ومن حديث عائشة عند أحمد والنسائي. وورد
أربعة في كل ركعة لما ثبت في صحيح مسلم وغيره
من حديث ابن عباس. وورد خمسة ركوعات في كل
ركعة أخرجه أبو داود والحاكم والبيهقي من حديث
أبي بن كعب قال ابن القيم: السنة الصحيحة
الصريحة المحكمة في صلاة الكسوف تكرار الركوع
في كل ركعة لحديث عائشة وابن عباس وجابر وأبي
بن كعب وعبد الله بن عمرو بن العاص وأبي موسى
الأشعري كلهم روى عن النبي صلى الله تعالى
عليه وسلم تكرار الركوع في الركعة الواحدة
والذي رووا تكرار الركوع أكثر عددا وأجل وأخص
برسول الله صلى الله عليه وسلم من الذين لم
يذكروه انتهى. يقرأ بين كل ركوعين وورد في كل
ركعة ركوع فقط في صحيح مسلم من حديث سمرة
وأخرجه أبو داود وأحمد والنسائي والحاكم وصححه
ابن عبد البر والحاكم من حديث النعمان بن بشير
وأخرجه أبو داود والنسائي والحاكم من حديث
قبيصة قلت: وأجاب ابن القيم عن هذه الروايات
من ثلاثة أوجه: أحدها: أن أحاديث تكرار الركوع
أصح إسنادا وأسلم من العلة والاضطراب ولا سيما
حديث عبد الله بن عمر الذي في الصحيحين وهذا
أصح وأصرح من حديث كل ركعة بركوع فلم يبق إلا
حديث سمرة ونعمان وليس منهما شيء في الصحيح.
والثاني: أن رواتها من الصحابة أكبر وأكثر
وأحفظ وأجل من سمرة ونعمان بن بشير فلا ترد
روايتهم بها, والثالث: أنها متضمنة لزيادة صح
الأخذ بها انتهى. وأقول: قد رويت هذه الصلاة
من فعله صلى الله تعالى عليه وسلم على أنواع:
ركعتين كسائر الصلوات في كل ركعة ركوع واحد
وركوعين في كل ركعة وثلاثة وأربعة وخمسة كما
تقدم والكل سنة أيها فعل المكلف فقد فعل ما
شرع له واختيار الأصح منها على الصحيح هو دأب
الراغبين في الفضائل العارفين بكيفية الدلائل,
وقد أورد على هذه الروايات المنسوبة إلى فعله
صلى الله تعالى عليه وسلم أشكال هو: أنه لم
يصلها صلى الله تعالى عليه وسلم غير مرة واحدة
فكيف تشعبت الروايات إلى هذه الصفات؟ وقد أجيب
عن ذلك بأجوبة
(1/157)
ذكرها الماتن
رح في شرح المنتقى وقد ثبت الجهر بالقراءة
وثبت ذلك الإسرار والجهر أصح والقيام بهذه
السنة جماعة أفضل وليست الجماعة شرطا فيها لما
في الأحاديث الصحيحة بلفظ: "فصلوا" ولما في
حديث قبيصة الهلالي يرفعه أنه صلى الله تعالى
عليه وآله وسلم قال: "إذا رأيتم ذلك فصلوها
كأحدث صلاة صليتموها من المكتوبة" أخرجه أحمد
والنسائي. "وندب الدعاء والتكبير والتصدق
والاستغفار" لحديث أسماء: "فإذا رأيتم ذلك
فادعوا الله وكبروا وتصدقوا وصلوا" وهو في
الصحيحين, وفي حديث أبي موسى بلفظ: "فإذا
رأيتم شيئا من ذلك فافزعوا إلى ذكر الله
ودعائه واستغفاره" وهو في الصحيحين أيضا وفي
حديث المغيرة: "فإذا رأيتموهما فادعوا الله
وصلوا حتى تنجلي" وهو أيضا في الصحيحين.
(1/158)
باب صلاة
الإستسقاء
قال في الحجة: وقد استسقى النبي صلى الله
تعالى عليه وآله وسلم لأمته مرات على أنحاء
كثيرة لكن الوجه الذي سنه لأمته أن خرج بالناس
إلى المصلى متبذلا متواضعا متخشعا متضرعا فصلى
لهم ركعتين جهر بهم فيهما بالقراءة ثم خطب
واستقبل فيها القبلة يدعو ورفع يديه وحول
رداءه انتهى. وهذه الصلاة مسنونة تسن عند
الجدب لعدم ورود ما يدل على الوجوب ركعتان
بعدهما خطبة لكونه صلى الله عليه وسلم خرج حين
بدأ حاجب الشمس فقعد على المنبر. الحديث بطوله
وفيه الدعاء وتحويل الرداء وهو في سنن أبي
داود وأخرجه أبو عوانة وابن حبان والحاكم
وصححه ابن السكن وأخرج أحمد وابن ماجة وغيرهما
من حديث أبي هريرة قال: خرج النبي صلى الله
عليه وسلم يوما يستسقي فصلى بنا ركعتين بلا
أذان ولا إقامة ثم خطبنا ودعا الله عز وجل
وحول وجهه نحو القبلة رافعا يديه ثم قلب رداءه
فجعل الأيمن على الأيسر والأيسر على الأيمن.
وفي الباب أحاديث بمعنى ما ذكر وهي متضمنة
للدعاء برفع الجدب وبنزول المطر وتحويل
الأردية من الإمام وغيره, وروى سعيد بن منصور
في سننه أن عمر استسقى فلم يزد على الاستغفار.
قال أبو حنيفة: لا تسن الصلاة في الإستسقاء,
وقال الشافعي: ثبت من حديث عبد الله بن زيد
وابن عباس
(1/158)
أنه صلى الله
عليه وسلم صلى, وروي ذلك من حديث جعفر بن محمد
عن البني صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر
قال في إزالة الخفاء عن خلافة الخلفاء: الأوجه
عندي أن من دعا ولم يصل فقد أصاب أصل
الاستسقاء, وقد فعل ذلك النبي صلى الله عليه
وسلم وعمر, ومن صلى ودعا فقد أصاب الأكمل
الأفضل فإن الدعاء أرجى في حرمة الصلاة, وقد
ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم وعمر انتهى.
وقد كان صلى الله عليه وسلم يرفع يديه في
الاستسقاء حتى يرى بياض إبطيه وكان الصحابة
فمن بعدهم يستسقون بأهل الصلاح ولا سيما من
كان من قرابة النبي صلى الله عليه وسلم كما
فعل عمر فإنه استسقى بالعباس رضي الله تعالى
عنهما. تتضمن الذكر والترغيب في الطاعة والزجر
عن المعصية ويستكثر الإمام ومن معه من
الاستغفار والدعاء برفع الجدب لأن روح هذه
الصلاة وأساسها وعمادها الذي لا تقوم بدونه هو
الاستكثار من الاستغفار قبلها وبعدها وإخلاص
التوبة من الذنوب التي يقارفها الإنسان
والخروج من التبعات والظلامات في الدماء
والأموال والأعراض وذلك غير مختص بفرد من
الأفراد بل يفعله كل أحد ويشرع للإمام أو من
يقوم مقامه أن يخطب الناس ويذكرهم بما يفعلونه
من الأسباب الموجبة للرحمة, وقد روي عنه صلى
الله عليه وسلم أنه خطب قبل الصلاة وخطب بعدها
فالكل سنة ومن جملة أدعيته صلى الله عليه
وسلم: "اللهم أغثنا اللهم أغثنا" كما في
الصحيحين من حديث أنس, ومن أدعيته صلى الله
عليه وسلم: "اللهم اسقنا غيثا مغيثا مريئا1
مريعا2 طبقا3 غدقا4 عاجلا غير رائث5" وهذا لفظ
ابن ماجة من حديث ابن عباس. وهذه الألفاظ
ثابتة من رواية غيره من الصحابة في غير سنن
ابن ماجة ومنها: "اللهم أنت الله لا إله إلا
أنت أنت الغني ونحن الفقراء أنزل علينا الغيث
واجعل ما أنزلت لنا قوة وبلاغا إلى حين" وهو
في سنن أبي داود بإسناد صحيح من حديث عائشة
ومن دعائه: "اللهم اسق عبادك وبهيمتك وانشر
رحمتك وأحي بلدك الميت" إلى غير ذلك. "ويحولون
جميعا أرديتهم" لما روي في ذلك ما تقدم من جعل
الأيمن أيسر والأيسر أيمن وروي أنه قلبه ظهرا
لبطن وحول الناس معه أخرجه أحمد من حديث عبد
الله بن زيد وأصله في الصحيح.
ـــــــ
1 هو المحمود العاقبة.
2 بفتح الميم وبضمها مع كسر الراء فيهما هو
الذي يأتي بالريع يعني الزيادة.
3 هو المطر العام كما في القاموس.
4 الغدق الماء الكثير.
5 الريث الإبطاء والرائث المبطئ وإسناد هذا
الحديث ثقات كما قال المؤلف في نيل الأوطار.
(1/159)
|