السيل الجرار المتدفق على حدائق الأزهار

كتاب الصيام
مدخل
...
كتاب الصيام
هو أنواع منها سيأتي ومنها رمضان.
[ فصل
ويجب على كل مكلف مسلم الصوم 4 والافطار لرؤية الهلال وتواترها ومضى الثلاثين وبقول مفت عرف مذهبه صح عندي قيل جوازا ويكفي خبر عدلين قيل أو عدلتين عن ايها ولو مفترقين وليتكتم من انفرد بالرؤية ويستحب صوم يوم الشك بالشرط فإن انكشف منه امسك وان قد افطر.
ويجب تجديد النية لكل يوم ووقتها من الغروب إلي بقية من النهار الا في القضاء والنذر المطلق والكفارات فتبيت. ووقت الصوم الفجر إلي الغروب ويسقط الأداء عمن التبس شهره أو ليله بنهاره فإن ميز صام بالتحري.
وندب التبييت والشرط وإنما يعتد بما انكشف منه أو بعده مما له صومه أو التبس والا فلا ويجب التحري في الغروب.
وندب في الفجر وتوقي مظان الافطار والشاك بحكم الاصل وتكره الحجامة والوصل ويحرم تبييته]
قوله: "يجب على كل مكلف الصوم والافطار لرؤية الهلال وتواترها ومضى الثلاثين".
أقول : وجوب الصيام عند حصول أحد هذه الثلاثة الاسباب معلوم بالضرورة الدينية وإجماع المسلمين والاحاديث الواردة في ذلك مصرحة بهذا مثل حديث [البخاري "4/119"، مسلم "19/108"، أحمد "2/415"، النسائي "4/733"، "صوموا لرؤيته وافطروا لرؤيته فإن غم عليكم

(1/279)


فأكملوا عدة شعبان ثلاثين يوما". ومثل حديث [البخاري "4/113"، مسلم "8/108"، أحمد "2/145"، النشائي "4/134"، ابن ماجة "1654"، "إذا رأيتم الهلال فصوموا فإذا رأيتموه فأفطروا فإن غم عليكم فصوموا ثلاثين يوما".
والاحاديث في هذا الباب كثيرة صحيحة.
قوله: "وبقول مفت عرف مذهبه صح عندي"
أقول : وجه هذا ان صدور مثل هذا القول من المفتي الذي يعقل حجج الله ويعرف ما تقوم به الحجة على العباد في الصوم والافطار يدل على انه قد صح عنده مستند شرعي من المستندات المعتبرة فكأنه اخبر بوجود ذلك المستند وصحته فكلامه دليل على نفس السبب الشرعي وان لم يكن سببا شرعيا.
هذا إذا كان بالمنزلة التي ذكرناها ولا يكون الا مجتهدا لأن المقلد لا يعقل الحجة ولا يدري ما هو الذي يصلح للاستناد اليه والعمل به وأما إذا لم يكتف المفتي بهذه العبارة وهي قوله: "صح عندي" بل ذكر السبب الذي قامت به لديه الحجة من شهادة شهود عدول أو كمال عدة انه قد صح عنده وجود ذلك السبب وقيام الحجة فالعمل بهذا اقرب من العمل بمجرد إطلاق الصحة بدون ذكر المستند.
قوله: "ويكفى خبر عدلين قيل أو عدلتين"
أقول : يدل على اعتبار العدلين ما أخرجه أحمد والنسائي بإسناد لا بأس به عن عبدالرحمن بن زيد بن الخطاب انه خطب في اليوم الذي شك فيه فقال الا اني جالست اصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وسائلتهم وانهم حدثوني ان رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته وانسكوا لها فإن غم عليكم فأتموا ثلاثين يوما فإن شهد شاهدان مسلمان فصوموا وأفطروا".
وأخرج أبو دأود ["2338"] والدارقطني وصححه عن امير مكة الحارث بن حاطب قال عهد الينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ان ننسك للرؤية فإن لم نره وشهد شاهدا عدل نسكنا بشهادتهما ورجاله رجال الصحيح الا الحسين بن الحارث الجدلي وهو صدوق.
وأخرج أحمد ["9/256"، وابو دأود "2339"]، عن ربعي بن حراش عن رجل من اصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قال اختلف الناس في آخر يوم من رمضان فقدم اعرأبيان فشهدا عند النبي صلى الله عليه وسلم بالله لأهل الهلال امس عشية فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس ان يفطروا ورجاله رجال الصحيح.
وأخرج أحمد وابو دأود والنسائي وابن ماجه وصححه ابن المنذر وابن السكن وابن حزم عن عبيدالله بن عمير بن أنس ان ركبا جاءوا إلي النبي صلى الله عليه وسلم وسلم فشهدوا انهم رأوا الهلال بالامس فأمرهم ان يفطروا وإذا اصبحوا ان يغدوا إلي مصلاهم.
وورد ما يدل على الاكتفاء بشهادة الواحد فأخرج أبو دأود والدرامي والدارقطني وابن حبان والحاكم وصححاه والبيهقي وصححه أيضا عن ابن عمر قال تراءى الناس الهلال فأخبرت رسول صلى الله عليه وسلم اني رأيه فصام وأمر الناس بصيامه.

(1/280)


وأخرج أهل السنن [أبو دأود"2340"، النسائي "2113"، الترمذي "691"، ابن ماجة "1652"]، وابن حبان والدارقطني والبيهقي والحاكم عن ابن عباس قال جاء اعرأبي إلي النبي صلى الله عليه وسلم فقال إني رأيت الهلال يعني رمضان فقال: "أتشهد ان لاإله الا الله؟" قال: نعم, قال: "أتشهد ان محمدا رسول الله؟" قال: نعم, قال: "يا بلال أذن في الناس فليصوموا غدا".
ولا يخفاك ان مادل على اعتبار الشاهدين يدل على عدم العمل بالشاهد الواحد بمفهوم العدد وما دل على صحة شهادة الواحد والعمل بها يدل بمنطوقه على العمل بشهادة الواحد ودلالة المنطقوق أرجح من دلالة المفهوم.
وأما قوله: "عن أيها" فقد قدمنا الكلام على قول المفتي صح عندي.
وأما قوله: "ولو مفترقين" فذلك صحيح فلا خلاف انه لا يعتبر ان يراه الشاهدان مجتمعين.
قوله: "وليتكتم من انفرد بالرؤية".
أقول : قد قدمنا وجوب العمل بخبر الواحد وأن ذلك يلزم جميع المسلمين إذا كان عدلا مقبول الشهادة فهذا الذي انفرد بالرؤية قد حصل له العلم اليقين المستند إلي حاسة البصر فلا وجه لتكتمه بالصوم ولا بالافطار بل عليه التظهر بذلك وإعلام الناس بأنه رآه فمن عمل بذلك عمل ومن ترك ترك وأما الاستدلال على هذا التكتم بحديث: "صومكم يوم يصوم الناس وفطركم يوم يفطر الناس" فمن الاستدلال بما لا مدخل له في المقام فإن ذلك إنما هو ارشاد إلي ان يكون الاقل من الناس مع السواد الاعظم ولا يخالفونهم إذا وقع الخلاف لشبهة من الشبه وأما بعد رؤية العدل فقد اسفر الصبح لذي عينين ولم يبق ما يوجب على الرائي ان يقلد غيره أو يعمل بغير ما عنده من اليقين.
قوله: "ويستحب صوم يوم الشك بالشرط"
أقول : الوارد في هذه الشريعة المطهرة ان الصوم يكون للرؤية أو لكمال العدة ثم زاد الشارع هذا بيانا وأيضاحا فقال: "فإن غم عليكم فأكملوا عدة شعبان ثلاثين يوما" فهذا بمجردة يدل على المنع من صوم يوم الشك فكيف وقدا انضم إلي ذلك ما هو ثابت في الصحيحين وغيرهما من نهية صلى الله عليه وسلم لامته عن ان يتقدموا رمضان بيوم أو يومين فإذا لم يكن هذا نهيا عن صوم يوم الشك فلسنا ممن يفهم كلام العرب ولا ممن يدري بواضحه فضلا عن غامضه ثم انضم إلي ذلك حديث عمار بلفظ: "من صام يوم الشك فقد عصى ابا القاسم".
أخرجه أهل السنن [أبو دأود "2334"، الترمذي "686"، النسائي "4/153"، ابن ماجة "1645"]، وصححه الترمذي "3/70"، وهو للبخاري "4/119" تعليقا وصححه ابن خزيمة وابن حبان قال ابن عبدالبر هذا مسند عندهم لا يختلفون فيه.
قوله: "وان انكشف منه امسك وان قد افطر".

(1/281)


أقول : يدل على هذا ما ثبت في الصحيحين [البخاري "4/245"، مسلم "135/135"]، وغيرهما [النسائي "4/192"، أحمد "4/47"]، من حديث سلمة بن الاكوع والربيع بنت معوذ أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر رجلا من اسلم ان يؤذن في يوم عاشوراء ان كل من أكل فليمسك ومن لم يأكل فليصم وكان إذ ذاك صيام عاشوراء واجبا فدل هذا على انه إذا انكشف ان اليوم من رمضان امسك من كان قد أكل.
قوله: "ويجب تجديد النية لكل يوم وهو من الغروب إلي بقية من النهار".
أقول : استدل على هذا بما قدمناه من امره صلى الله عليه وسلم لمن أكل في يوم عاشوراء فليمسك ومن لم يأكل فليصم وكان ذلك النداء والامر بالصوم في النهار فدل على ان النية تصح في نهار الصوم واستدل الموجبون للتبييت بحديث ابن عمر عند أحمد وأهل السنن عن النبي صلى الله عليه وسلم انه قال: "من لم يجمع الصوم قبل الفجر فلا صيام له" وأخرجه أيضا ابن خزيمة وابن حبان وصححاه وصححه أيضا الحاكم وليس فيه علة قادحة الا ما قيل من الاختلاف في الرفع والوقف والرفع زيادة وقد صحح المرفوع هؤلاء الاشمة الثلاثة ولا يخفاك ان هذا الحديث عام وانه يدل قوله: "فلا صيام له" على أنه لا يصح صوم من لم يبيت النية فيكون حديث يوم عاشوراء معمولا به فيمن لم ينكشف له ان اليوم من رمضان الا في النهار فلا معارضة بين الحديثين.
وبهذا يتضح لك انه لا وجه لتخصيص القضاء والنذر المطلق والكفارات بوجوب التبييت بل هو واجب في كل صوم الا في تلك الصورة التي ذكرناها وفي صوم التطوع لما ورد انه كان صلى الله عليه وسلم يدخل على أهله فيسألهم عن الغداء فإن لم يجده قال: "إني صائم" مع أنه يحتمل أنه كان قد بيت النية وإنما سأل عن الغداء لأنه متطوع والمتطوع امير نفسه.
قوله: "ووقت الصوم من الفجر إلي الغروب".
أقول : ما ذهب اليه القائلون بأن ابتداء الصوم من شروق الشمس ليس عليه دليل قط والاستدلال لهم بمثل حديث: "كلوا واشربوا حتى ينادي ابن أم مكتوم" لا يطابق المدعى ولا يدل عليه فإن النبي صلى الله عليه وسلم عرف الناس بأن بلالا يؤذن بليل ثم علل ذلك بقوله: "ليوقظ نائمكم ويرجع قائمكم"، [البخاري "2/103"، مسلم "1093"]، فإذانه كان في بقية من الليل لهذه العلة وكان الفجر الحقيقي هو عند إذان ابن ام مكتوم وكما ورد انه كان لا ينادي حتى يقال له اصبحت اصبحت أي دخلت في وقت الصباح والدخول في وقت الصباح يكون بطلوع الفجر وليس المراد انه كا يؤخر الإذان عن وقت طلوع الفجر بل كان ينتظر من يخبره بطلوع الفجر وكيف يصح الاستدلال لهم بمثل هذه الامور وقد صح انه صلى الله عليه وسلم كان يتسحر ثم يخرج إلي صلاة الفجر وكان بين سحوره وصلاته مقدار خمسين آية كما ثبت التقدير بهذا وقد ثبت انه صلى الله عليه وسلم كان يصلى صلاة الفجر بغلس وكان آخر الامرين التغليس.

(1/282)


والحاصل ان هذا المذهب هو من جملة المذاهب الساقطة المخالفة لما هو المعلوم من الشريعة.
قوله: "ويسقط الأداء عمن التبس شهره أو ليله بنهاره".
أقول : هذا اللبس يرفع الوجوب عنه لأن تكليفه بالصوم لرمضان مع عدم علمه بأن الشهر شهر رمضان تكليف بما لا يطيقه ولا يدخل تحت وسعه وهكذا تكليفه بصوم وقت لا يدري اهو ليل أو نهار تكليف بصيام وقت لم يتبين انه من نهار رمضان.
ولا شك ان الوجوب مع هذا اللبس منتف وأما وجوب القضاء فذكر المصنف لسقوط الأداء يفيد انه يجب القضاء بعد ذهاب اللبس العارض ولا وجه لايجاب القضاء عليه الا إذا كان سبب اللبس لنوع من أنواع المرض كالأعمى فإنه يدخل تحت قوله: {وَمَنْ كَانَ مَرِيضاً أو عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [البقرة: 185].
وأما قوله: "فإن ميز صام بالتحري" فظاهر لأن الخطاب قد توجه اليه بما حصل له من التمييز.
وأما قوله: "وندب التبييت" فقد قدمنا انه واجب ولا وجه لندبيته مع التمييز ولكنه إذا انكشف أنه صام غير رمضان فلا يسقط عنه الوجوب.
وأما إيجاب التحري في الغروب فلكون الاصل بقاء النهار ولكن هذا إذا كان ثم سبب يقتضى التحري كالغيم ونحوه وإلا فوقت المغرب واضح لا يحتاج إلي تحر الا عند من حرمه الله العمل بمشروعية تعجيل الافطار الثابت بالسنة الصحيحة.
وأما كون التحري في الفجر مندوبا فذلك مع عروض ما يقتضي التحري وإلا فهو وسوسة ليست من الشرع في شيء.
وأما قوله: "وندب توقي مظان الافطار فالظاهر" أن اجتناب ما هو مظنة للإفطار واجب لأن البقاء على الصوم واجب والخروج منه حرام والذريعة إلي الحرام حرام.
وأما كون الشاك يحكم بالاصل فذلك صواب فلا ينتقل عنه الا بدليل يصلح للنقل.
قوله: "وتكره الحجامة".
أقول : بمجرد كراهة التنزيه يجمع بين الاحاديث الواردة في ان الحجامة يفطر بها الصائم وبما ورد من الترخيص في ذلك فمن كانت الحجامة تضعفه كانت مكروهة في حقه وقدأخرج البخاري عن ثابت البناني انه قال لأنس اكنتم تكرهون الحجامة للصائم على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لا إلا من اجل الضعف وأخرج الدارقطني بإسناد رجاله ثقات عن أنس قال أول ما كرهت الحجامة للصائم ان جعفر ابن أبي طالب احتجم وهو صائم فمر به النبي صلى الله عليه وسلم فقال: "أفطر هذان" ثم رخص النبي صلى الله عليه وسلم بعد في الحجامة للصائم وكان أنس يحتجم وهو صائم وقد ثبت في الصحيح [البخاري "4/174"]، انه صلى الله عليه وسلم احتجم وهو صائم.
قوله: "والوصل يحرم بنيته".

(1/283)


أقول : وجهه انه ثبت النهي عنه في الاحاديث في الصحيحين وغيرهما والنهي حقيقة في التحريم ولا ينافي هذا مواصلته صلى الله عليه وسلم فقد بين العلة في ذلك لما قالوا له إنك تواصل فقال: "لست كهيتئكم إني يطعمني ربي ويسقيني" فاقتضى هذا أن الجواز خاص به لهذه العلة ولو لم يكن ذلك محرما على غيره لما واصل بهم حين لم ينتهوا وقال: "لو مد لنا الشهر لواصلت وصالا يدع به المتعمقون تعمقهم" وفي البخاري أنه واصل بأصحابه لما أبوا أن ينتهوا عن الوصال فواصل بهم يوما ثم يوما ثم رأوا الهلال فقال: "لو تأخر لزدتكم" كالتنكيل لهم حين أبوا أن ينتهوا.
[ فصل
ويفسده الوطء والامناء لشهوة في يقظة غالبا وما وصل الجوف مما يمكن الاحتراز منه جاريا في الحلق من خارجه بفعله أو سببه ولو ناسيا أو مكرها الا الريق من موضعه ويسير الخلالة معه أو من سعوط الليل فيلزم الاتمام والقضاء ويفسق العامد فيندب له كفارة كالظهار قيل ويعتبر الانتهاء].
قوله: "فصل ويفسده الوطء"
أقول: لا يعرف في مثل هذا خلاف وقد ثبت في الصحيحين وغيرهما ان المجامع في رمضان قال للنبي صلى الله عليه وسلم: هلكت يا رسول الله قال: "وما أهلكك؟" قال وقعت على امرأتي في رمضان فأمره بالكفارة وفي رواية لأبي دأود وابن ماجه انه صلى الله عليه وسلم قال له: "وصم يوما مكانه" وهذه الزيادة مروية من اربع طرق يقوى بعضها بعضا ويدل على تحريم الوطء على الصائم صيأما واجبا مفهوم قوله سبحانه: {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إلي نِسَائِكُمْ} [البقرة: 187].
قوله: "والامناء لشهوة في يقظة"
أقول : ان وقع من الصائم سبب من الاسباب التي وقع الامناء بها بطل صومه وان لم يتسبب بسبب بل خرج منيه لشهوة ابتداء أو عند النظر إلي ما يجوز له النظر اليه مع عدم علمه بأن ذلك مما يتسبب عنه الامناء فلا يبطل صومه وما هو باعظم ممن أكل ناسيا كما سيأتي.
قوله: "وما وصل الجوف مما يمكن الاحتراز منه" الخ.
أقول : هذا معلوم بالضرورة الدينية فمن ادخل مأكولا أو مشروبا من فمه إلي جوفه بطل صومه إذا كان له في ذلك اختيار ولا فرق بين مفطر ومفطر ولا بين مأكول ومشروب معتاد ونادر أما إذا لم يكن له اختيار فلا يبطل صومه لورود الدليل فيمن أكل أو شرب ناسيا وهو ما

(1/284)


ثبت في الصحيحين [البخاري "4/155"، مسلم "171/155"]، وغيرهما [أحمد "2/425"، أبو دأود "2398"، الترمذي "721"، ابن ماجة "1673"، من حديث أبي هريرة قال قال رسول صلى الله عليه وسلم: "من نسي وهو صائم فأكل أو شرب فليتم صومه فانما اطعمه الله وسقاه".
وفي لفظ للدارقطني من هذا الحديث بإسناد صحيح "فإنما هو رزق ساقه الله اليه ولا قضاء عليه".
وفي لفظ لابن خزيمة وابن حبان والحاكم من هذا الحديث: "من أفطر يوما من رمضان ناسيا فلا قضاء عليه ولا كفارة"، قال ابن حجر وهو صحيح.
وأخرج الدارقطني من حديث أبي سعيد مرفوعا: "من أكل في شهر رمضان ناسيا فلا قضاء عليه" قال ابن حجر وإسناده وان كان ضعيفا لكنه صالح للمتابعة فأقل درجات الحديث بهذه الزيادة ان يكون حسنا يصلح للاحتجاج به انتهى.
وقد ذهب إلي العمل بهذا الجمهور وهو الحق ومن قابل هذه السنة بالراي الفاسد فرأيه رد عليه مضروب به في وجهه وكثيرا ما يتمسك المصنفون بمقالات اصولية اصلها مبني على الراي فيرجعون إلي الرأي من حيث لا يشعرون ولهذا الفت كتأبي في الاصول.
الذي سميته ارشادا لفحول إلي تحقيق الحق من علم الاصول واعلم ان من فعل شيئا من المفطرات كالجماع ناسيا فله حكم من أكل أو شرب ناسيا ولا فرق بين مفطر ومفطر ولا حاجة لذكر ما استثناه المصنف فعدم كونه مفطرا معلوم.
وأما قوله: "والقضاء" فخلاف ما ورد به الدليل كما ذكرنا.
وقوله: "ويفسق العامد فيندب له كفارة كالظهار".
أقول : أما الفسق فلكونه اجترأ على كبيرة من الكبائر العظيمة وأما مشروعية الكفارة له فظاهر الدليل ان ذلك واجب حتما ولا ينافيه صرفها فيه وقوله صلى الله عليه وسلم: "اذهب فأطعمه أهلك"، فإنه انما سوغ له ذلك لمزيد فقره وشدة حاجته وعدم قدرته على الصوم فيلحق به من هو مماثل له وأما القادر على احدالأنواع فهي واجبة عليه.
[ فصل
ورخص فيه للسفر والاكراه وخشية الضرر مطلقا ويجب لخشية التلف أو ضرر الغير كرضيع أو جنين ولا يجزئ الحائض والنفساء فيقضيان وندب لمن زال عذره الامساك وان قد افطر ويلزم مسافرا ومريضا لم يفطرا]
قوله: فصل : "ورخص فيه للسفر".
أقول: قد رخص في ذلك كتاب الله عز وجل فقال: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أو عَلَى سَفَرٍ

(1/285)


فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [البقرة: 184]، وثبت عنه صلى الله عليه وسلم في أحاديث في الصحيحين وغيرهما انه صام في السفر وأفطر وثبت عنه صلى الله عليه وسلم في الصحيحين وغيرهما انه قال لحمزة الاسلمي: "إن شئت فصم وإن شئت فأفطر"،
وأما قوله صلى الله عليه وسلم للصائمين في السفر: "ليس من البر الصوم في السفر"، فانما قال ذلك لما رأى زحأما ورجلا قد ظلل عليه فقال: "ما هذا"؟ فقالوا صائم هكذا في الصحيحين فمن بلغ به الصوم إلي مثل ذلك الضرر فليس صومه من البر لان الله سبحانه قد رخص له في الافطار وقد ثبت في الصحيحين وغيرهما من حديث ابن عباس قال خرج النبي صلى الله عليه وسلم من المدينة ومعه عشرة آلاف يصوم ويصومون حتى إذا بلغ الكديد افطر وأفطروا.
وفي الصحيحين من حديث أنس قال: كنا نسافر مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يعب الصائم على المفطر ولا المفطر على الصائم.
وأخرج مسلم من حديث أبي سعيد قال سافرنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فيصوم الصائم ويفطر المفطر فلا يعيب بعضهم على بعض والاحاديث في هذا الباب كثيرة.
قوله: "والاكراه".
أقول : أما من اكره على الافطار ولم يقدر على الدفع ولا بقي له فعل ف وجه للحكم عليه بأنه قد افطر بل صومه باق ولا قضاء عليه وهذا المكره إلي هذا الحد أولى بان يقال فيه لا يفطر من الناسي وأما إذا بقي له قدرة على الدفع حتى لا يفطر فذلك واجب عليه لان إكراهه على الافطار منكر يجب إنكاره.
وأما قوله: "وخشية الضرر مطلقا" فإذا خشى وقوع ضرر عليه في بدنه أو ماله ان لم يفطر جاز له الافطار والظاهر انه لا يبطل صومه بهذا الافطار الذي خشى إذا لم يفعله الضرر لانه مستكره وقد قال صلى الله عليه وسلم: "رفع عن امتي الخطأ والسنيان وما استكرهوا عليه"، وله طرق يقوى بعضها بعضا.
هذا إذا كان الضرر الذي يخشاه صادرا من جهة الغير أما إذا كان صادرا من جهة نفسه لعدم القدرة على الصوم وحدوث الضرر أن فعل فالافطار جائز له لانه قد صار بذلك في حكم المريض وعليه القضاء كما قال سبحانه: {وَمَنْ كَانَ مَرِيضاً أو عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [البقرة: 185]، ووجوب الافطار لخشية التلف علوم من قواعدالشريعة كلياتها وجزئياتها كقوله تعالي: {وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ} [النساء: 29]، {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن: 6].
"وإذا امرتكم بأمر فاتوا منه ما استطعتم".
وحفظ النفس واجب ولم يتعبدالله عباده بما يخشى منه تلف الانفس وقد رخص لهم في الافطار في السفر لانه مظنة المشقة فكيف لا يجوز لخشية التلف أو الضرر.

(1/286)


قوله: "أو ضرر الغير كرضيع أو جنين".
أقول : هذا قد دل عليه حديث أنس بن مالك الكعبي عندأحمد وأهل السنن ان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: "إن الله وضع عن المسافر الصم وشطر الصلاة وعن الحبلى والمرضع الصوم" وحسنه الترمذي وقال لا يعرف لابن مالك هذا عن النبي صلى الله عليه وسلم غير هذا الحديث الواحد وقال ابن أبي حاتم في علله سألت أبي عنه يعني الحديث فقال اختلف فيه والصحيح عن أنس بن مالك القشيري انتهى.
والمسمون بأنس بن مالك خمسة هذا احدهم.
وقد ذهب إلي ما دل عليه هذا الحديث الجمهور ونقل بعض أهل العلم الاجماع على عدم جواز صوم الحامل والمرضع إذا خافتا على الجنين أو المرضع قال الترمذي العمل على هذا عند أهل العلم.
قوله: "ولا يجزئ الحائض والنفساء فيقضيان".
أقول : هذا أمر متفق عليه بين أهل الإسلام وبه عمل من كان في عصر النبوة ومن بعدهم إلي هذه الغاية ولا يسمع عن أحد من المسلمين انه خالف في هذا قط الا ما يروى عن الخوارج ولهذا قالت ام المؤمنين عائشة للقائلة لها ما بال الحائض تقضى الصيام ولا تقضى الصلاة احرورية انت أي اخارجية انت لانهم كانوا يسمون الخوارج حرورية فالعجب ممن يميل إلي هذه المقالة الباطلة مستمسكا بالشبه الداحضة ويخالف أهل الإسلام اجمع اكتع ويختار ما ذهب اليه الخوارج كلاب النار.
قوله: "وندب لمن زال عذره الامساك وان قد افطر".
أقول : قد قدمنا الدليل على هذا عند قول المصنف رحمه الله فإن انكشف منه امسك الخ وهذا الذي زال عذره قد صار حكمه حكم الصحيح فالامساك لحرمة الشهر منه كإمساك من انكشف له في بعض اليوم انه من رمضان بجامع ان كل واحد منهما كان معذورا عن الصوم ثم زال عذره.
وأما قوله: "ويلزم مسافرا ومريضا لم يفطرا" فوجهه ظاهر لانه قد زال عذره الذي يجوز له الافطار لأجله فهو كأهل العوالي الذين أمر النبي صلى الله عليه وسلم من كان صائما منهم فليتم صومه وقد قدمنا الجمع بين حديث تبييت النية وبين حديث أهل العوالي.
[ فصل
وعلى كل مسلم ترك الصوم بعد تكليفه ولو لعذر ان يقضى بنفسه في غير واجب الصوم والافطار ويتحرى في ملتبس الحصر.

(1/287)


وندب الولاء فإن حال عليه رمضان لزمته فدية مطلقا نصف صاع من أي قوت عن كل يوم ولا تتكرر بتكرر الاعوام فإن مات آخر شعبان فمحتمل].
قوله: فصل : "ويجب على كل مسلم ترك الصوم بعد تكليف ولو لعذر ان يقضى بنفسه في غير واجب الصوم والافطار".
أقول : أما من افطر ناسيا فقد قدمنا انه لا قضاء عليه وأما من افطر لعذر المرض أو السفر فقد دل على وجوب القضاء عليه الكتاب العزيز.
وأما الحائض والنفساء فقد دل على وجوب القضاء عليهما السنة المطهرة والاجماع.
وأما من افطر عامدا فقد قدمنا في حديث المجامع في رمضان أنه قال له النبي صلى الله عليه وسلم: "صم يوما مكانه"، وذكرنا انه صالح للاحتجاج والظاهر انه كان عامدا ولهذا قال هلكت وأهلكت وسمى المحترق.
وأخرج ابن أبي شيبة عن سعيد بن المسيب انه جاء إلي النبي صلى الله عليه وسلم رجل فقال اني افطرت يوما من رمضان فقال: "تصدق واستغفر وصم يوما مكانه". وهو مرسل.
ويؤيد القضاء الحديث الصحيح وهو قوله صلى الله عليه وسلم: "فدين الله أحق أن يقضى".
ولا ينافى وجوب القضاء على العامد ما أخرجه أهل السنن وغيرهم عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من أفطر يوما من رمضان من غير رخصةلم يجزه صيام الدهر"، فإن هذا إنما هو بيان لعظم جرمه وغلظ معصيته وانه قد فعل ما لا يمكن تلافيه.
وأما كونه يقضي بنفسه فظاهر لان الوجوب متعلق به فإن مات ولم يقض فقد ثبت في الصحيح حديث: "من مات وعليه صوم صام عنه وليه".
وأما كونه يكون القضاء في غير واجب الصوم فلكون ذلك الوقت قد تعين صومه لسبب آخر فلا يكون الصوم للقضاء في وقت متعين للأداء وإذا ساغ له الافطار لعذر كا لسفر لم يجز له ان يفعل فيه غير ما رخص فيه لأجله. وأما كون القضاء في غير واجب الافطار كالعيدين وأيام الشتريق وأيام الحيض والنفاس فالأمر أوضح من شمس النهار والادلة على المنع من الصوم في ذلك ثابتة ثبوتا لا يخفى والتعويل على الشبه الداحضة ليس من دأب أهل الانصاف بل من دأب ارباب التعصب والاعتساف.
وأما كونه يتحرى في ملتبس الحصر فذلك غاية ما يقدر عليه من عرض له اللبس.
قوله: "وندب الولاء".
أقول : لا يخفى ان المطلوب من العبد قضاء ما فات من رمضان بعدد الايام التي افطرها فإذا جاء بها متفرقة فقد فعل ما طلب منه كما لو جاء بها مجتمعة لان كل يوم عبادة مستقلة بنية وإمساك في وقت معين من الفجر إلي الغروب فمن قال بوجوب التتابع فقد أوجب بصفة زائدة

(1/288)


وعليه الدليل الدال على ذلك ولم يأت من الادلة على وجوب التتابع ما تقوم به الحجة بل الادلة التي وردت في عدم وجوب التتابع انهض من الادلة التي استدل بها الموجبون للتابع وان كان الجميع لا تقوم به الحجة نعم إذا جاء بأيام القضاء متتابعة فقد سارع إلي التخلص عما عليه وبادر إلي امتثال الامر فهو من هذه الحيثية مندوب كما قال المصنف.
قوله: "فإن حال عليه رمضان لزمته فدية مطلقا".
أقول : لم يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم في هذا ما تقوم به الحجة ولا حجة فيما روى عن بعض الصحابة والذي طلبه الله سبحانه ممن افطر رمضان أو بعضه هو ان يقضيه حيث قال: {فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} ومن قضى رمضان بعد مضي عام أو عامين أو اكثر فقد فعل ما أوجبه الله سبحانه وهو العدة من ايام اخر ولم يقيد الله سبحانه هذه العدة بايقاعها في العام الذي فات فيه الصوم ولا أوجب على المتراخي كفارة.
[ فصل
وعلى من افطر لعذر مأيوس أو ايس عن قضاء ما افطره كالهم ان يكفر بنصف صاع عن كل يوم ولا يجزى التعجيل ويجب الايصاء بها ويحمل عليه على صوم لا صوموا عني وتنفذ في الأول من رأس المال والا فمن الثلث].
قوله: فصل : "وعلى من افطر لعذر مأيوس أو أيس عن قضاء ما افطره...".
أقول: قد ثبت في الصحيحين وغيرهما من حديث سلمة بن الاكوع قال لما نزلت هذه الآية {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ} [البقرة: 184]، كان من أراد ان يفطر يفتدى حتى نزلت الآية التي بعدها فنسختها.
وأخرج أحمد وابو دأود عن معاذ نحوه وفيه ثم انزل الله تعالي: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} [البقرة:185]، فأثبت الله سبحانه صيامه على المقيم الصحيح ورخص فيه للمريض والمسافر وثبت الاطعام للكبير الذي لا يستطيع الصيام فثبت بهذا ان الآية كانت للتخيير بين الصوم والفدية لكل الناس ثم نسخت وبقي الترخيص للشيخ الكبير الذي لا يستطيع الصيام ويجب عليه الفدية ولا يخالف هذا ما روى عن ابن عباس حيث قال إنها ليست منسوخة هي للشيخ الكبير والمرأة الكبيرة لا يستطيعان ان يصوما فيطعمان مكان كل يوم مسكينا أخرجه عنه البخاري لأنه قد جعلها للشيخ الكبير والشيخة.
وأما قوله: "لم تنسخ" فغير صحيح فإن الله سبحانه قال: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ} [البقرة: 184]، ولم يقل وعلى الذين لا يطيقونه.

(1/289)


وأخرج الدارقطني والحاكم وصححاه عن ابن عباس انه قال رخص للشيخ الكبير ان يفطر ويطعم كل يوم مسكينا فلا وجه لقول من قال ان الكبير الذي لا يقدر على الصوم لا فدية عليه.
وأما قوله: "أن يكفر بنصف صاع من أي قوت عن كل يوم" فالأولى ما روى عن الصحابة من ان الكفارة إطعام مسكين لان ذلك في حكم التفسير للآية وقولهم مقدم على قول غيرهم في تفسير الكتاب العزيز.
ولا ينافي هذا ما ورد في حديث كعب بن عجرة في الصحيحين مرفوعا انه يصوم ثلاثة ايام أو يطعم ستة مساكين لكل مسكين نصف صاع فإن هذا في كفارة الاذى.
وأما ما ذكره من عدم إجزاء التعجيل فصحيح لعدم وجود السبب وهكذا ما ذكره من وجوب الايصاء لأنه قد لزمه دين لله ودين الله احق ان يقضى.
قوله: "ويحمل عليه على صوم لا صوموا عني".
أقول : ظاهر الادلة الصحيحية ان الولي مأمور بالصوم عن الميت إذا مات وعليه صوم كما في حديث عائشة في الصحيحين وغيرهما مرفوعا: "من مات وعليه صوم صام عنه وليه".
وفي الصحيحين من حديث ابن عباس ان امرأة قالت: يا رسول الله ان امي ماتت وعليها صوم نذر فأصوم عنها فقال: "أرأيت لو كان على امك دين فقضيته اكان ذلك يودى ذلك عنها" قالت: نعم قال: "فصومي عن أمك". وأخرج مسلم نحوه عن بريدة مرفوعا.
وقد ذهب الجمهور إلي انه لا يجب الصوم على الولي وبعضهم قال لا يصح والسنة ترد عليهم أما إذا أوصى الميت بأن يكفر عنه من ماله فربما يقال انه قد اختار ذلك لنفسه وارتفع الوجوب عن الولي ويحمل على هذا حديث ابن عمر عندالترمذي وابن ماجه "من مات وعليه صوم فليطعم عنه مكان كل يوم مسكينا"، على ضعف في إسناد هذا الحديث فإن فيه عمر بن موسى بن وجيه وهو ضعيف جدا والرأوي ابراهيم بن نافع وهو أيضا ضعيف وقال الترمذي الصحيح انه عن ابن عمر موقوفا وكذا قال الدارقطني والبيهقي.
وأما ما ذكره من الفرق ما بين ما يخرج من رأس المال ومن الثلث فلا وجه له بل هو مجرد رأي ولا يعلول عليه.

(1/290)


[ باب وشروط النذر بالصوم
ما سيأتي وان لا يعلق بواجب الصوم الا ان يريد غير ما وجب

(1/290)


فيه ولا الافطار الا العيدين والشتريق فيصوم غيرها قدرها وما تعين ما هو فيه اتمه ان أمكن والا قضى ما يصح منه فيه الانشاء وما تعين لسببين فعن الأول إن ترتبا وإلا فمخير ولا شيء للآخر ان عينه لهما كالمال].
قوله: باب "وشروط النذر بالصوم منها ما سيأتي وان لايعلق بواجب الصوم والافطار".
أقول : هذا صحيح لأنه إذا نذر بصوم رمضان لسبب آخر أو يصوم العيدين وأيام التشريف فقد نذر بمعصية الله وبمالا يملك لأنه قد صار الصوم والافطار في ذلك لله بسبب آخر وقد صح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لا نذر في مصعية الله ولا فيما لا يملك العبد" وإذا ورد دليل على وجوب الكفارة على مثل هذا النذر فعلى بابه ولا ينافى ذلك عدم صحة النذر به وأما إذا أراد غير ما وجب فيه الصوم والافطار كأن ينذر بصوم اليوم الذي يقدم فيه غائبه فيقدم في رمضان أو في أيام العيدين والشتريق فقد كان القدوم في يوم لا يجوز فيه الصوم عن النذر فسقط الأداء وإذا سقط لم يجب القضاء الا بدليل يدل على ذلك.
وبما ذكرناه تعرف انه لا وجه لقول المصنف الا العيدين وأيام الشتريق فيصوم غيرهما قدرها.
وأما قوله: "ومتى تعين ما هو فيه أتمة" فهذا صحيح فإنه إذا قدم وهو صائم على القول بعدم وجوب تبييت النية اتمه بنية النذر وأما إذا كان قد افطر فلا يجب القضاء الا بدليل لأنه لم يجب عليه الأداء.
وأما قوله: "وما تعين لسببين فعن الأول" فصحيح لانه قد صار بتقديمه أولى مما تأخر عنه ومع عدم التقدم نحو ان يقول نذرت بصوم اليوم الفلاني ان قدم فيه الغائب وبصومه ان شفى الله المريض فليس عليه الا صوم ذلك اليوم للسببين جميعا لأنه بصومه قد وفى بالنذرين جميعا.
[ فصل
ولا يجب الولاء الا لتعيين كشهر كذا فيكون كرمضان أداء وقضاء أونية فيستأنف ان فرق لعذر ولو مرجوا زال ان تعذر الوصال فيبنى لا بتخلل واجب الافطار فيستأنف غالبا ولا تكرار الا لتأبيد ونحوه فإن التبس المؤيد صام ما تعين صومه أداء أو قضاء قيل ثم يقهقر اليه ويستمر كذلك].
قوله: فصل : "ولا يجب الولاء الا لتعيين" الخ.
أقول : هذا أمر قد أوجبه على نفسه فوجب الوفاء بما نذر وأما في القضاء فقد قدمنا انه

(1/291)


يجوز تفريق قضاء رمضان فتفيق قضاء النذر بالأولى وهكذا إذا نوى ان يتابع ما نذر به من الصوم فقد لزمه بالنية لانها المؤثرة فإذا فعل الصوم مفرقا فلم يفعل النذر الذي نذر به ويتسأنف حتى يفى بنذره وأما مع العذر فلا شك انه مسوغ لا يجب معه الاستئناف وهكذا تخلل واجب الصوم والافطار له حكم العذر فلا يستأنف وبما ذكرناه يعرف الكلام على بقية هذا الفصل.

(1/292)


[ باب الاعتكاف وشروطه
النية والصوم واللبث في أي مسجد أو مسجدين متقاربين واقله يوم وترك الوطء والايام في نذره تتبع الليالي والعكس الا الفرد ويصح استثناء جميع الليالي من الايام لا العكس الا البعض ويتابع من نذر شهرا أو نحوه ومطلق التعريف للعموم ويجب قضاء معين فات والايصاء به وهو من الثلث وللزوج والسيد ان يمنعا ما لم يأذنا فيبقى ما قد أوجب في الذمة وان يرجعا قبل الايجاب].
قوله: "باب الاعتكاف وشورطه النية".
أقول : قد اصاب المصنف رحمه الله هنا حيث جعل النية شرطا فإن الادلة الدالة عليها تفيد انه يؤثر عدمها في عدم الفعل الذي شرعت فيه وما كان كذلك فهو شرط لا فرض.
قوله: "والصوم".
أقول : من ادعى ان الصوم شرط لصحة الاعتكاف فالدليل عليه لانه اثبت شرطا متنازعا فيه والوقوف في موقف المنع والقيام في مقام عدم التسليم يكفي من لم يقل بالشرطية ولم يصح في اشتراطه شيء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وما قيل انه مرفوع لم يصح وما كان موقوفا على بعض الصحابة فلا حجة فيه فإن تبرع من لم يقل بالشرطية بالدليل فله ان يقول صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الصحيحين وغيرهما انه اعتكف في غير رمضان وثبت في الصحيحين وغيرهما ان عمر بن الخطاب قال يا رسول الله اني نذرت في الجأهلية ان اعتكف ليلة في المسجد الحرام فقال صلى الله عليه وسلم: "أوف بنذرك"، ولم يرو من وجه صحيح يصح العمل به انه صلى الله عليه وسلم صام ايام اعتكافه في شوال ولا صح انه أمر عمر بالصوم.
وأما ما أخرجه أبو دأود عن عائشة انها قالت السنة على المعتكف الا يعود مريضا ولا يشهد جنازة ولا يمس امرأة ولا يباشرها ولا يخرج لحاجة الا لما لا بد منه ولا اعتكاف الا بصوم ولا اعتكاف الا في مسجد جامع فقد أخرجه في الموطأ والنسائي وليست فيه قالت السنة قال أبو دأود غير عبدالرحمن بن اسحاق ولا يقول فيه قالت السنة وجزم

(1/292)


الدارقطني بأن القدر المرفوع من حديث عائشة قولها لا يخرج وما عداه ممن دونها وكذلك قال البيهقي كما ذكره ابن كثير في الارشاد وأما ما أخرجه الحاكم عن ابن عباس مرفوعا وقال صحيح على شرط مسلم انه لا اعتكاف الا بصوم فقد صحح الدارقطني والبيهقي وابن حجر انه موقوف على ابن عباس وأيضا قد أخرج الحاكم عن ابن عباس مرفوعا وصححه انه قال صلى الله عليه وسلم: "ليس على المعتكف صيام" ورجح الدارقطني والبيهقي وقفه على ابن عباس فتعارضت الرواية عن ابن عباس كما ترى ولا حجة في قوله.
قوله: "واللبث في مسجد أو مسجدين متقاربين".
أقول : مفهوم الاعتكاف الشرعي هو اللبث في المسجد فلا توجد هذه الماهية الا بذلك والا لزم أن يكون الاعتكاف في الدور والاسواق والصحراء صحيحا واللازم باطل بالاجماع فالملزوم مثله ومعلم الشرائع صلى الله عليه وسلم الذي جاء بمشروعية الاعتكاف لم يفعله الا في المسجد ولم يشرعه لأمته الا في المساجد وهذا القدر يكفى ومن ادعى انها توجد ماهية الاعتكاف الشرعية في غير مسجد فالدليل عليه.
وإذا عرفت هذا لم تحتج إلي الاستدلال بما روى "أنه لا اعتكاف إلا في مسجد" أو لا اعتكاف الا في مسجد جماعة ولا للاحتجاج يقول سبحانه: {وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ} [البقرة: 187].
قوله: "واقله يوم".
أقول : لم يأتنا عن الشارع في تقدير مدة الاعتكاف شيء يصلح للتمسك به واللبث في المسجد والبقاء فيه يصدق على اليوم وبعضه بل وعلى الساعة إذا صحب ذلك نية الاعتكاف وأما حديث: "من اعتكف فواق ناقة فكأنما اعتق نسمة من ولد إسماعيل" فلم يثبت من وجه يصلح للاستدلال به قل في البدر المنير هذا حديث غريب لا أعرفه بعد البحث الشديد عنه.
قوله: "وترك الوطء"
أقول : قد دل على هذا الكتاب العزيز قال الله تعالي: {وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ} [البقرة: 187]، ودل عليه إجماع الامة فدل ذلك على ان الوطء لا يجامع الاعتكاف وان عدم الترك وهو فعل الوطء يؤثر عدمه في عدم الاعتكاف فكان شرطا من هذه الحيثية.
وأما قول المصنف: "والايام في نذره تتبع الليالي والعكس ويصح استثناء جميع الليالي من الايام لا العكس إلا البعض" فمبنى على ما ذكره من اشتراط الصوم ومن ان اقل الاعتكاف يوم وقد عرفت ما هو الحق.
وأما قوله: "ويتابع من نذر شهرا أو نحوه" فلا بد ان يكون نأويا للتتابع لأنه لو أراد الاعتكاف عدد أيام الشهر مع التفريق صح ذلك ويعتكف ثلاثين يوما من اشهر وهكذا قوله ومطلق التعريف للعموم لا بد من ان يريد به ذلك لأن معاني التعريف مختلفة ولا مانع من ان يريد بالمعرف غير العموم بل الاصل في التعريف العهد كما صرح بذلك المحقق الرضى وكلام أهل الاصول والبيان في ذلك معروف.

(1/293)


وأما قوله: "ويجب قضاء معين فات" فهذا يحتاج إلي دليل وقد قدمنا في صوم النذر ما يكفي.
وهكذا وجوب الايصاء بما فات مبنى على انه قد لزم وتعين بالنذر ووجب قضاؤه وذلك ممنوع.
وأما كونه من الثلث فمبني على الرأي الذي قدمنا الاشارة اليه.
وأما كون للزوج والسيد المنع من هذه الطاعة فذلك صحيح للأدلة الدالة على طاعة الزوج والسيد عموما وخصوصا ولا وجوب ها هنا عليهما حتى يقال ليس للزوج والسيد المنع من الواجب بل هما اختارا الدخول في ذلك بأنفسهما وهما مخاطبان بما هو اهم منه.
[ فصل
ويفسده الوطء أو الامناء كما مر وفسادالصوم والخروج من المسجد لا لواجب أو مندوب أو حاجة في الاقل من وسوط النهار ولا يقعد ان كفى القيام حسب المعتاد ويرجع من غير مسجد فورا وإلا بطل ومن حاضت خرجت وبنت متى طهرت.
وندب فيه ملازمة الذكر].
قوله: فصل : "ويفسده الوطء والامناء لشهوة كما مر".
أقول : أما الوطء فقد تقدم وأما الامناء فإن كان عن مباشرة فله حكم الوطء لدخوله تحت قوله: {وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ} [القرة: 187]، وإلا فلا وجه لاقتضائه الفساد.
وأما قوله: "وفساد الصوم" فمبني على ما تقدم من انه لا اعتكاف الا بصوم.
قوله: "والخروج من المسجد" الخ.
أقول : قد ثبت في الصحيحين وغيرهما من حديث عائشة ان النبي صلى الله عليه وسلم كان لا يدخل البيت الا لحاجة الإنسان إذا كان معتكفا فهذا يفيد انه لا يجوز الخروج من المسجد الا لحاجة الإنسان لا لغيرها من القرب ويؤيد ذلك ما أخرجه أبو دأود من حديث عائشة قالت كان النبي صلى الله عليه وسلم يمر بالمريض وهو معتكف فيمر كما هو ولا يعرج يسال عنه ولكن في إسناده ليث ابن أبي سليم وقدأخرجه مسلم وغيره عن عائشة من فعلها قال ابن حجر والصحيح عن عائشة من فعلها في الصحيحين وغيرهما عنها قالت ان كنت لأدخل البيت للحاجة والمريض فيه فما اسأل عنه الا وأنا مارة وقد ثبت في الصحيحين وغيرهما عن صفية قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم معتكفا

(1/294)


فأتيته لأزوره ليلا فحدثته ثم قمت لانقلب فقام معي ليقلبني وكان مسكنها في دار اسامة بن زيد.
وأخرج أبو دأود عن عائشة انها قالت السنة على المعتكف الا يعود مريضا ولا يشهد جنازة ولا يمس امرأة ولا يباشرها ولا يخرج لحاجة الا لما بدمنه وقد قدمنا ان النسائي أخرجه بدون قوله من السنة وكذلك مالك في الموطأ وجزم الدارقطني بأن القدر الذي من حديث عائشة قولها لا يخرج وما عداه ممن دونها.
والحاصل انه يجوز الخروج لحاجة الإنسان ولما لا بد منه كما فعله صلى الله عليه وسلم من خروجه مع صفية وهذا الخروج للحاجة لا يختص بوقت دون وقت بل يجوز في الليل والنهار في أوله وآخره ووسطه.
وأما كونه لا يقعد ان كفى القيام فذلك صحيح لأن الحاجة إذا قضيت من قيام كان القعود لغير حاجة وقد تقرر ان الخروج لا يكون الا لحاجة.
وأما كونه يرجع من غير مسجد فورا فصواب لأن التراخي خارج عن قدر الحاجة المتنوعة.
وأما كونه يبطل الاعتكاف فغير مسلم فإن الاعتكاف الأول قد صح ولا يعود عليه التراخي بالبطلان لما عرفناك ان الاعتكاف يصح في الوقت اليسير وإذا عاد إلي المسجد عاد له حكم الاعتكاف.
وأما كون الحائض تخرج من المسجد فللأدلة الداله على منعها منه.
وأما المستحاضة فهي في غير وقت الحيض كمن ليست بحائض فلهذا ثبت من حديث عائشة في البخاري انها اعتكفت مع النبي صلى الله عليه وسلم بعض نسائه وهي مستحاضة ترى الدم فربما وضعت الطشت تحتها من الدم.
وأما كونه يندب في الاعتكاف ملازمة الذكر فلكون هذا المعتكف قد فرغ نفسه لعبادة الله في المساجد فينبغي له ان يشتغل بما فيه قربة وطاعة من صلاة وذكر وتلأوة وتفكر واعتبار فقد صار هذا الوقت من هذه الحيثية اخص بذلك من سائر الأوقات وان كان ذلك مندوبا في جميع الأوقات.
[ فصل
وندب صوم غير العيدين والتشريق لمن لا يضعف به عن واجب سيما رجب وشعبان وأيام البيض وأربعاء بين خميسين والاثنين والخميس وستة عقيب الفطر وعرفة وعاشوراء ويكره تعمدالجمعة والمتطوع امير نفسه لا القاضي فيأثم الا لعذر وتلتمس ليلة القدر في تسع عشرة وفي الأفراد بعدالعشرين من رمضان].

(1/295)


قوله: فصل: "وندب صوم الدهر" الخ.
أقول : حديث لا صام من صام الابد في الصحيحين من حديث عبدالله ابن عمرو بن العاص وكذلك حديث أبي قتادة عند مسلم وغيره قال: قيل: يا رسول الله كيف بمن صام الدهر؟ قال: "لا صام ولا أفطر" أو "لم يصم ولم يفطر" معناهما أنه لما خالف الهدى النبوي الذي رغب فيه صلى الله عليه وسلم كان بمنزلة من لم يصم صوما مشروعا يؤجر عليه ولا أفطر فطرا ينتفع به ويؤيد أن هذا المعنى هو المراد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لعبدا لله بن عمرو وقد كان أراد أن يصوم الدهر فقال: "صم من كل شهر ثلاثة أيام"، فقال: إني أقوى من ذلك فلم يزل يرفعني حتى قال: "صم يوما وأفطر يوما فإنه افضل الصيام وهو صوم أخي دأود". هكذا في الصحيحين وغيرهما من حديثه.
وقد ثبت أنه صلى الله عليه وسلم قال للثلاثة الذين قال: أحدهم أنه يصوم ولا يفطر وقال الثاني أنه يقوم الليل ولا ينام وقال الثالث إنه لا ياتي النساء فقال صلى الله عليه وسلم: "أما أنا فأصوم وأفطر وأقوم وأنام وآتي النساء فمن رغب عن سنتي فليس مني".
فهذا الحديث الصحيح يدل على أن صيام الدهر من الرغوب عن سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم فاستحق فاعله ما رتبه عليه من الوعيد فمن رغب عن سنتي فليس مني وقد أخرج أحمد وابو دأود وابن ماجه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال للرجل الذي اخبره أنه يصوم الدهر: "من أمرك أن تعذب نفسك" ولا ينافي هذا ما ورد في صوم ايام البيض أن صيامها كصيام الدهر وكذلك ما ورد فيمن صام رمضان واتبعه ستا من شوال أنه كمن صام الدهر لأن التشبيه لا يقتضي جواز المشبه به فضلا عن استحبابه وإنما المراد حصول الثواب على تقدير مشروعية صيام ثلاثمائة وستين يوما ومن المعلوم أن المكلف لا يجوز له صيام كل السنة فلا يدل التشبيه على افضلية المشبه به من كل وجه ومع هذا فقد ورد الوعيد على صوم الدهر فأخرج أحمد وابن حبان وابن خزيمة وابن أبي شيبة والبيهقي عن أبي موسى عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من صام الدهر ضيقت عليه جهنم هكذا" وقبض كفه ولفظ ابن حبان "ضيقت عليه جهنم هكذا" وعقد تسعين وأخرجه أيضا البزار والطبراني قال في مجمع الزوائد ورجاله رجال الصحيح فهذا وعيد ظاهر وتأويله بما يخالف هذا المعنى تعسف وتكلف والعجب ذهاب الجمهور إلي استحبابه كما حكاه عنهم ابن حجر في الفتح وهو مخالف للهدى النبوي وهو أيضا أمر لم يكن عليه أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد قال صلى الله عليه وسلم فيما صح عنه في الصحيحين وغيرهما "كل أمر ليس عليه امرنا فهو رد" وهو أيضا من الرغوب عن سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن رغب عن سنته فليس منه وهو أيضا من التعسير والتشديد المخالف لما استقرت عليه هذه الشريعة المطهرة قال الله سبحانه: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [البقرة: 185]، وقال صلى الله عليه وسلم فيما صح عنه: "يسروا ولا تعسروا" [البخاري "4344، 4345، 4342"، مسلم

(1/296)


"71/1733"]، أحمد "4/409"]، وقال: "لن يشاد الدين أحد الا غلبه"، وقال: "أمرت بالشريعة السمحة السهلة".
فالحاصل ان صوم الدهر إذا لم يكن محرما تحريما بحتا فأقل احواله ان يكون مكروها كراهة شديدة هذا لمن لا يضعفه الصوم عن شيء من الواجبات أما من كان يضعف بالصوم عن بعض الواجبات الشرعية فلا شك في تحريمه من هذه الحيثية بمجردها من غير نظر إلي ما قدمنا من ادلة.
قوله: "سيما رجب".
أقول : لم يرد في رجب على الخصوص سنة صحيحية ولا حسنة ولا ضعيفة ضعفا خفيفا بل جميع ما روى فيه على الخصوص أما موضوع مكذوب أو ضعيف شديد الضعف وغاية ما يصلح للتمسك به في استحباب صومه ما ورد في حديث الرجل البأهلي ان النبي صلى الله عليه وسلم قال له: "صم أشهر الحرم" ورجب من الاشهر الحرم بلا خلاف وهذا الحديث أخرجه أحمد وابو دأود وابن ماجه ولكنه لا يدل على شهر رجب على الخصوص كما يفيد تنصيص المصنف وكان الأولى له ان يقول ويستحب صوم الاشهر الحرم سيما المحرم وذلك لورود الدليل الدال على استحباب صومه على الخصوص كما ثبت في الصحيحين عن أبي هريرة ان النبي صلى الله عليه وسلم سئل أي الصيام بعد رمضان افضل فقال: "شهر الله المحرم".
وأما ما أخرجه ابن ماجه من حديث ابن عباس ان النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن صيام رجب ففي إسناده ضعيفان زيد بن عبد الحميد ودأود بن عطاء ولكنه على ضعفه اقوى مما روى في استحباب صومه.
وأخرج ابن أبي شيبة في مصنفه ان عمر كان يضرب اكف الناس في رجب حتى يضعوها في الجفان ويقول كلوا فإنما هو شهر كان يعظمه الجأهلية.
وأخرج ابن ابن أبي شيبة أيضا من حديث زيد بن اسالم قال سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن صوم رجب فقال اين انتم من شعبان وهو مرسل.
قوله: "وشعبان".
أقول : أما هذا الشهر فقد جاءت فيه الادلة الصحيحية حتى قالت عائشة لم يكن النبي صلى الله عليه وسلم يصوم شهرا اكثر من شعبان فانه كان يصومه كله هكذا في الصحيحين وغيرهما وفي لفظ فيهما من حديثها ما كان يصوم في شهر ما كان يصوم في شعبان كان يصومه الا قليلا بل كان يصومه كله وفي لفظ من حديثها ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم استكمل صيام شهر قط الا شهر رمضان وما رأيته في شهر اكثر منه صيأما في شعبان.

(1/297)


وأخرج أحمد وأهل السنن من حديث ام سلمة ان النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن يصوم من السنة شهرا تأما الا شعبان يصل به رمضان ولفظ ابن ماجه كان يصوم شعبان ورمضان وحسنه الترمذي.
قوله: "وايام البيض".
أقول : قد ورد في مشروعية صومها أحاديث كثيرة منها حديث أبي قتادة عند مسلم وغيره قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ثلاث من كل شهر ورمضان إلي رمضان فهذا صيام الدهر كله"، وأخرج أحمد والنسائي والترمذي وابن حبان وصححاه من حديث أبي ذر قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يا أبا ذر إذا صمت من الشهر ثلاثة ايام فصم ثلاث عشرة واربع عشرة وخمس عشرة"، وأخرجه النسائي وابن حبان وصححه من حديث أبي هريرة وأخرجه النسائي أيضا من حديث جرير قال ابن حجر وإسناده صحيح وفي الباب أحاديث قد ذكرناها في شرح المنتقى.
قوله: "واربعاء بين خميسين".
أقول : تحتمل هذه العبادة ان يريد انه يصوم يوم الخمس ثم يصوم بعده يوم الاربعاء ثم يصوم بعده يوم الخميس وذلك يمكن في ثمانية ايام ويحتمل ان يريد انه يصوم أول خميس من الشهر ثم يصوم أحد ايام الاربعاء من ذلك الشهر ثم يصوم آخر خميس منه وكل هذا لا دليل عليه قط فإن ما ورد من استحباب صيام ثلاثة أيام من كل شهر على تقدير احتماله لغير ايام البيض لا يفيد هذا التخصيص والتعيين وكذلك لا يفيد هذا ما أخرجه الترمذي وحسنه من حديث عائشة قالت كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصوم من الشهر السبت والاحد والاثنين ومن الشهر الاخر الثلاثاء والاربعاء والخميس فإن هذا إنما فعله صلى الله عليه وسلم للمدأولة بين ايام الاسبوع وعدم تخصيص بعضها بالصوم دون بعض فكان يصوم بعضها من شهر وبعضها من شهر آخر نعم ورد ما يدل على استحباب صوم الاربعاء مع الخميس عند أبي دأود والترمذي من حديث مسلم القرشي قال: سألت أو سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن صيام الدهر فقال: "إن لأهلك عليك حقا فصم رمضان والذي يليه وكل اربعاء وخميس فإذا انت قد صمت الدهر" وأخرج أبو دأود والترمذي أيضا من حديث عبدالله بن عمر بن العاص ان النبي صلى الله عليه وسلم امره ان يصوم كل اربع وخميس ولكن هذا هو غير ما ذكره المصنف.
قوله: "والاثنين والخميس".
أقول : يدل على ذلك ما أخرجه أحمد والترمذي وابن ماجه من حديث أبي هريرة ان النبي صلى الله عليه وسلم قال: "تعرض اعمال العباد كل اثنين وخميس فأحب أن يعرض عملي وأنا صائم" وأخرج أحمد والنسائي هذا المعنى من حديث أسامة بن زيد وأخرج أحمد والنسائي والترمذي [(745)]

(1/298)


وابن ماجه وابن حبان وصححه من حديث عائشة ان النبي صلى الله عليه وسلم كان يتحرى صيام الاثنين والخميس وأخرجه أيضا أبو دأود من حديث أسامة بن زيد.
وورد في صوم الاثنين على الخصوص ما أخرجه مسلم وغيره من حديث أبي قتادة ان النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن صوم يوم الاثنين فقال: "ذلك ولدت فيه وأنزل على فيه"
قوله: "وست عقيب الفطر"
أقول : يدل على ذلك ما أخرجه مسلم وغيره من حديث أبي ايوب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من صام رمضان ثم اتبعه ستا من شوال فذاك صيام الدهر" وأخرجه أحمد وعبد بن حميد والزبار من حديث جابر وفي إسناده عمرو بن جابر وهو ضعيف.
وأخرج أحمد والنسائي ابن ماجه والدارمي والبزار من حديث ثوبان عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "من صام رمضان وستة أيام بعدالفطر كان تمام السنة" {مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا} وفي الباب احاديث.
قوله: "وعرفة".
أقول : يدل على ذلك ما ثبت في صحيح مسلم وغيره من حديث أبي ايوب ان رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "صيام عرفة كفارة سنتين" وفي بعض الروايات الثابتة في السنن "أنه يكفر السنة التي قبله والسنة التي بعده" وفي الباب أحاديث ولم يصح في النهي عن صومه شيء وإنما تركه صلى الله عليه وسلم بعرفة للاشتغال باعمال الحج على ان مجرد الترك لا يرفع استحباب صومه الثابت بالقول المرتب عليه الأجر العظيم ولا سيما وهو أحد أيام العشر التي ورد أنه: "ما من أيام العمل الصالح فيها أفضل منه في عشر ذي الحجة" كما في الحديث الثابت في الصحيحين [البخاري "969"، وغيرهما أحمد "1/224"، الترمذي "757"، ابن ماجة "1727"].
قوله: "وعاشوراء".
أقول : الاحاديث الصحيحة الكثيرة قد دلت على مشروعية صومه ونسخ وجوبه لا نسخ استحبابه لما في حديث ابن عباس في الصحيحين وغيرهما قال: ما علمت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صام يوما يطلب فضله على الايام الا هذا اليوم يعني يوم عاشوراء ولاشهرا الا هذا الشهر يعني رمضان وفي الصحيحين وغيرهما من حديث ابن عمر ان أهل الجأهلية كانوا يصومون يوم عاشوراء وان رسول الله صلى الله عليه وسلم صامه والمسلمون قبل ان يفرض رمضان فلما فرض رمضان قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أن يوم عاشوراء يوم من أيام الله فمن شاء صامه" ، وفي الصحيحين أيضا من حديث معأوية بن أبي سفيان نحوه وفي مسلم وغيره انه لما قيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم:

(1/299)


"ان يوم عاشوراء يوم تعظمه اليهود، قال: "لئن بقيت إلي قابل لأصومن التاسع"، وفي لفظ له من حديث ابن عباس: "إذا كان العام المقبل صمنا اليوم التاسع"، فلم يأت العام المقبل حتى توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم. وفي رواية "صوموا التاسع والعاشر وخالفوا اليهود".
فينبغي لمن أراد ان يصوم يوم عاشوراء ان يصوم اليوم الذي قبله.
قوله: "ويكره تعمد الجمعة".
أقول : قد ثبت في الصحيحين من حديث جابر ان النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن صوم يوم الجمعة ثم ثبت في الصحيحين من حديث أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تصوموا يوم الجمعة الا وقبله يوم أو بعده يوم"، فهذا الحديث المقيد يقيد به إطلاق الحديث الأول ثم ثبت في صحيح مسلم وغيره التقييد بقوله: "إلا أن يكون في صوم يصومه أحدكم"
فالحاصل أن صوم يوم الجمعة منهي عنه إلا أن يصوم يوما قبله أو بعده أو يوافق صوما كان يصومه وقد شدد النبي صلى الله عليه وسلم على جويرية لما دخل عليها وهي صائمة يوم الجمعة فقال لها: "أصمت أمس؟" قالت: لا قال: "أتصومين غدا؟" قالت: لا قال: "فأفطري" كما في البخاري وغيره ويجمع بين هذه الاحاديث وبين ما روى انه صلى الله عليه وسلم كان يصومه بما تقدم في الحديثين.
وورد أيضا النهي عن صوم يوم السبت كما في حديث عبدالله بن بسر عن اخته واسمها الصماء ان رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا تصوموا يوم السبت الا فيما افترض عليكم فإن لم يجد احدكم الا عود عنب أو لحاء شجر فليمضغه" أخرجه أحمد وابو دأود والترمذي وابن ماجه وابن حبان والحاكم والطبراني والبيهقي وصححه ابن السكن فكان على المصنف ان يذكر يوم السبت مع يوم الجمعة وقدتقدم جواز صومه مع صوم يوم الجمعة فيكون النهي مقيدا بهذا القيد ويحمل عليه ما روى من صومه صلى الله عليه وسلم يوم السبت.
قوله: "والمتطوع امير نفسه".
أقول : قد ثبت في اصحيح البخاري وغيره ان سلمان أمر ابا الدرداء بأن يفطر من صوم كان متطوعا فيه في قصة قال في اثرها فذكروا ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "صدق سلمان".
وأخرج أحمد والترمذي والدارقطني والطبراني والبيهقي انه صلى الله عليه وسلم قال: "لأم هانئ المتطوع أمير نفسه إن شاء صام وأن شاء أفطر" ، وفي إسناده سماك بن حرب وفيه مقال.
وأخرج أبو دأود والنسائي عن عائشة انه اهدى لحفصة طعام وكانتا صائمتين

(1/300)


فأفطرتا ودخل عليهما رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "لا عليكما صوما مكانه يوما آخر"، وفي إسناده زميل وفيه مقال وأخرج مسلم وأحمد وأهل السنن عن عائشة قالت دخل علي رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم فقال: "هل عندكم من شيء" فقلت لا فقال: "إني صائم" ثم أتانا يوما آخر فقلت: يا رسول الله أهدي لنا حيس فقال: "أرنيه فلقد أصبحت صائما" فأكل وزادالنسائي ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم: "إنما مثل المتطوع مثل رجل يخرج من ماله الصدقة فإن شاء أمضاها وإن شاء حبسها".
وأما قوله: "لا القاضي فيأثم" فقد أخرج أحمد وأبو دأود في رواية من حديث أم هاني المتقدم ان رسول الله صلى الله عليه وسلم شرب شرابا فنأولها لتشرب فقالت إني صائمة ولكن كرهت ان ارد سؤرك فقال: "إن كان قضاء من رمضان فاقضى يوما مكانه وإن كان تطوعا فإن شئت فاقضي وإن شئت فلا تقضي"، وفيه دليل على جواز إفطار القاضي ويقضى يوما مكانه وإن كان فيه المقال المتقدم ولكن الدليل على من قال انه لا يجوز إفطار القاضي.
قوله: "ويلتمس القدر".
أقول : الكلام في هذا البحث يطول وقد ذكرت في شرحي للمنتقى في ذلك سبعة واربعين مذهبا ورجحت منها القول الخامس والعشرين فليرجع إلي ذلك ففيه ما يشفي ويكفي ولا يحتاج الناظر فيه إلي ان ينظر في غيره والمقام لا يتسع لبعض ذلك.

(1/301)