السيل الجرار المتدفق على حدائق الأزهار

كتاب الإجارة
مدخل
...
كتاب الإجارة
[ فصل
تصح فيما يمكن الانتفاع به مع بقاء عينه ونماء أصله ولو مشاعا وفي منفعة مقدورة للأجير غير واجبة عليه ولا محظورة وشرط كل مؤجر ولايته وتعيينه ومدته أو ما في حكمها وأول مطلقها وقت العقد وأجرته وتصح منفعة وما يصح ثمنا ومنفعته إن اختلفت وضررها ويجوز فعل الأقل ضرا وإن عين غيره ويدخلها الخيار والتخيير والتعليق والتضمين غالبا ويجب الرد والتخلية فورا وإلا ضمن هو وأجرة مثله وإن لم ينتفع إلا لعذر ومؤنهما ومدة التخلية عليه لا الإنفاق].
قوله: "كتاب الإجارة فصل تصح فيما يمكن الانتفاع به".
أقول : ثبوت الإجارات في هذه الشريعة قطعي لا يكاد ينكر أصل الجواز والصحة إلا من لا يعرف الكتاب والسنة ولا يعرف ما كان الأمر عليه في أيام النبوة وأيام الصحابة وقد أجر النبي صلى الله عليه وسلم نفسه كما في البخاري "4/441"، وغيره ابن ماجة "2149"، من حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وآله وسم أنه قال: "ما بعث الله نبيا إلا رعى الغنم"، فقال أصحابه وأنت؟ قال: "نعم كنت أرعاها على قراريط لأهل مكة"، وثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه استأجر كما في اصحيح البخاري وغيره من حديث عائشة أنه صلى الله عليه وسلم استأجر رجلا من بني الديل هاديا خريتا الحديث المذكور في وصف هجرته صلى الله عليه وسلم وقد كان أكابر الصحابة يؤجرون أنفسهم في الأسواق وغيرها وهذا معلوم لا يشك فيه أحد.
وأما التكلم في لزوم عقدها فمن فضول الكلام الذى لا يدعو إليه حاجة لأن الأجير إن

(1/571)


أراد الأجرة فلا يستحقها إلا بالوفاء بما تراضيا عليه وإن رغب عن الأجرة فلا يلزمه الوفاء ولهذا يقول شعيب عليه السلام لموسى عليه السلام {إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْراً فَمِنْ عِنْدِكَ} [القصص: 27]، فذكر له القدر الذى يستحق به أن ينكحه إحدى ابنتيه ثم ذكر له الزيادة على جهة المكارمة والتفضل فمعلوم أنه لا يلزم موسى عليه السلام الدخول في هذا العقد ابتداء ثم لو رغب عن الأجرة واختار الترك في وسط المدة لم يكن عليه التمام شاء أم أبى وهكذا سائر الإجارات فلزوم عقدها هو من هذه الحيثية وهو مفوض إلي الأجير إن شاء مضى فيه واستحق الأجرة وإن شاء تركه وترك المطالبة بالأجرة.
وأما اشتراط كون الإجارة فيما يمكن الانتفاع به فلا بد من ذلك وإلا كان البحث خارجا عن الإجارة.
وأما قوله: "ونماء أصله" فلا يدري ما هو الموجب لهذا الاشتراط ولا ثبت ما يمنع منه من شرع ولا عقل فاستئجار الشجرة للانتفاع بثمرها واستئجار الحيوان للانتفاع بما يخرج منه من صوف ولبن جائز صحيح ومن ادعى خلاف هذا فعليه الدليل.
وأما قوله: "ولو مشاعا" فصحيح لأن المالك لبعض الشيء له أن يتصرف به كيف يشاء كالمالك للشيء جميعه إلا أن يتصرف في نصيبه بما يضر شريكه فإن ذلك ممنوع بالأدلة الواردة في المنع من الضرار.
وأما قوله: "في منفعة مقدورة للأجور" فلا بد منه فإن ما لا يقدر عليه لا ينتفع به فيه.
قوله: "غير واجبه عليه".
أقول : الأدلة الواردة في تحليل الإجارة على العموم وفي تحليل مطلقها من غير تقييد يقتضي أنه لا يصح القول بعدم جواز نوع خاص من أنواعها إلا بدليل يدل عليه يصلح لتخصيص العموم أو تقييد المطلق وقد استدلوا على عدم جواز الاستئجار على ما هو واجب على الأجير بما أخرجه ابن ماجه والبيهقي من حديث أبي بن كعب قال علمت رجلا القرآن فأهدى لي قوسا فذكرت ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فقال: "إن أخذتها أخذت قوسا من نار" فرددتها. قال البيهقي وابن عبد البر وهو منقطع يعني بين عطية العوفي وأبي بن كعب وكذلك قال المزني وتعقبهم ابن حجر بأن عطية ولد في زمن النبي صلى الله عليه وسلم وأعله ابن القطان بالجهل يحال عبد الرحمن بن سلم الرأوي عن عطية وله طرق عن أبي قال ابن القطان لا يثبت منها شئ قال ابن حجر وفيما قال نظر وذكر المزي في الأطراف له طرقا وشهد له ما أخرجه أبو دأود وابن ماجه من حديث عبادة ولفظه قال علمت ناسا من أهل الصفة الكتاب والقرآن فأهدى إلي رجل منهم قوسا فقلت ليست بمال وأرمى عليها في سبيل الله عز وجل لآتين رسول الله صلى الله عليه وسلم فلأسألنه فأتيته فقلت يا رسول الله رجل أهدى إلي قوسا ممن كنت أعلمه الكتاب والقرآن وليس بمال وأرمي عليها في سبيل الله فقال: "إن كنت تحب أن تطوق طوقا من نار فاقبلها"، وفي إسناده المغيرة بن زياد أبو هاشم الموصلي وقد تكلم فيه جماعة ووثقه وكيع ويحيى بن معين ولكنه قد روي عن عبادة من

(1/572)


طريق أخرى عند أبي دأود "3417"، بلفظ ما ترى فيها يا رسول الله فقال: "جمرة بين كتفيك تقلدتها أو تعلقتها"، وفي إسناد هذه الرواية بقية بن الوليد وقد تكلم فيه جماعة ووثقه الجمهور وقد روي حديث أبي السابق الطبراني في الأوسط عن الطفيل بن عمرو الدوسي بنحوه وهذه الروايات يقوي بعضها بعضا فتقوم بها الحجة وكونها واردة في خصوص الهدية لا يمنع من الاستدلال بها على تحريم الأجرة لأنه صلى الله عليه وسلم قد ذكر ما يدل على تحريم أخذ العوض عن ذلك كما في هذه الروايات وقد تركوا الاستدلال على التحريم بما هو أصرح من هذه الأحاديث وهو ما أخرجه أحمد بإسناد رجاله ثقات والبزار من حديث عبد الرحمن بن شبل عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "اقرأوا القرآن ولا تغلوا فيه ولا تجفوا عنه ولا تأكلوا به ولا تستكثروا به"، وما أخرجه أيضا أبو دأود من حديث جابر قال خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن نقرأ القرآن وفينا الأعرأبي والعجمي فقال: "اقرأوا فكل حسن وسيجيء أقوام يقيمونه كما يقام القدح يتعجلونه ولا يتأجلونه"، وأخرجه أبو دأود أيضا من حديث سهل بن سعد.
ومما له دخل في منع أخذ الأجرة على ما هو طاعة ما تقدم في الإذان من قوله صلى الله عليه وسلم لعثمان بن أبي العاص: " اتخذ مؤذنا لا يأخذ على أذانه أجرا"، وفي الباب أحاديث وقد ذهب الجمهور إلي أنها تحل الأجرة على تعليم القرآن وأجابوا عن حديث أبي وعبادة وما في معناهما بأجوبة منها أنها واقعات عينية فتحتمل أن النبي صلى الله عليه وسلم علم أنهما فعلا ذلك خالصا لله فكره أخذ العوض عنه وقد استوفيت ما أجابوا به وما أجيب عليهم في شرحي للمنتقى ومن جملة ما استدل به المجوزون ما أخرجه البخاري وغيره من حديث ابن عباس أن نفرا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم مروا بماء فيهم لديغ أو سليم فعرض لهم رجل من أهل الماء فقال هل فيكم من راق فإن في الماء رجلا لديغا أو سليما فانطلق رجل منهم فقرأ بفاتحة الكتاب على شاء فجاء بالشاء إلي أصحابه فكرهوا ذلك وقالوا أخذت على كتاب الله أجرا حتى قدموا المدينة فقالوا يا رسول الله أخذ على كتاب الله أجرا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن أحق ما أخذتم عليه أجرا كتاب الله"، فإن هذا العموم يدل على جواز أخذ الأجرة على القرآن على كل وجه من وجوه الإجارات وقد خصص بالأحاديث المتقدمة فيقتصر المنع على ما اشتملت عليه.
قوله: "ولا محظورة".
أقول : يدل على هذا ما ورد في الأحاديث من النهي عن مهر البغي وحلوان الكاهن فإن العلة في المنع من هذه ونحوها هى كونها محرمة فيلحق بذلك كل محرم للاستواء في علة المنع.
وأما قوله: "وشرط كل مؤجر ولايته" فوجهه أنه لا يجوز استعماله إلا بإذن مالكه أو من ينوب عن المالك وإلا كان ذلك من باب الغصب لا من باب الإجارة وهكذا لا بد من تعيين ما أستأجره أو استؤجر عليه وإلا كان الانتفاع به متعذرا وهكذا لا بد من تعيين مدته ويصح أن تكون الإجارة غير مشتملة على مدة معلومة وذلك كان يستأجره على كذا في كل يوم بكذا أو في شهر بكذا فإن هذه الإجارة صحيحة ولم يرد ما يدل على امتناعها وهما بالخيار أحدهما ترك ذلك كان له من غير حرج وأما اشتراط تعيين الأجرة فيدل عليه ما أخرجه أحمد

(1/573)


"3/59، 68، 71"، من حديث أبي سعيد قال نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن استئجار الأجير حتى يبين له أجره قال في مجمع الزوائد ورجال أحمد رجال الصحيح إلا أن إبراهيم النخعي لم يسمع من أبي سعيد فيما أحسب انتهى وأخرجه أيضا عبد الرزاق وإسحق في مسنده وأبو دأود في المراسيل والنسائي في المزارعة غير مرفوع ولفظ بعضهم: "من استأجر أجيرا فليسم له أجرته" وأخرجه أيضا البيهقي.
وأما قوله: "ويصح منفعة" فصحيح لأن الاعتبار بما وقع عليه التراضي في الأجرة من عين أو منفعة وما صح أن يكون ثمنا في المبيعات صح أن يكون أجرة في الإجارت.
وأما قوله: "ومنفعته أن اختلفت وضررها" فصحيح لأن الاحتمال لمنافع من غير تراض على تسليط المستأجر على كل منفعة يكون سببا لتوقف الانتفاع الذى هو المقصود من الإجارة.
وأما قوله: "يجوز فعل الأقل ضرا وأن عين غيره" فغير مسلم بل يجب عليه الاقتصار على المنفعة التى وقع التراضي عليها فقد يكون في فعل غيرها وإن كان أقل ضررا مفسده على المؤجر وقد يكون مخالفا لغرضه فلا يجوز فعل غير ما تراضيا على تعيينه.
قوله: "ويدخلها الخيار".
أقول : وجهه أن الأغراض في المنافع مختلفة كاختلافها في الأعيان فللمسلط على منافع العين مدة من الزمان أن يفسخها بما يفسخ به المبيع إذا كان لذلك وجه مقبول يلحقه يفوت الغرض في الأعيان وهكذا يدخلها التخيير فإنه إذا جاز في البيع كما تقدم في الأحاديث الصحيحة فدخوله في المنافع من باب فحوى الخطاب وهكذا يدخل الإجارة التعليق بوقت مستقبل نحو أن يقول أجرت منك هذه العين في شهر كذا من الشهور المستقبلة ولا يمنع من هذا شرع ولا عقل وما قيل من أنه يخالف ما سيأتي من قوله ولا يدخل عقد على عقد فوهم ولو صح هذا الوهم لما كان في هذه المخالفة لما هو مبني على مجرد الرأي للبحث بما يقدح في هذا التعليق وقد عرفناك غير مرة أن المناط في تحليل الأموال أعم من أن يكون أعيانا أو منافع هو التراضي إلا أن يرد الشرع الذى يقوم به الحجة بمنع التراضي في ذلك بخصوصه كما ورد في النهي عن مهر البغي وحلوان الكاهن ونحوهما وأما كونه يدخل الإجارة التضمين للعين فوجهه أن المستأجر لها رضي لنفسه بذلك فكان هذا الرضا الصادر منه محللا لماله الذى دفعه في ضمانها ولا حجر في مثل هذا ولا وجه لقوله من قال إنه لا يصح.
قوله: "ويجب الرد" الخ.
أقول : وجهه قوله صلى الله عليه وسلم: "على اليد ما أخذت حتى تؤديه"، وقد قدمنا ذكره من باب القرض وبيان من خرجه فهذا المستأجر للعين قد أخذ العين من مالكها للانتفاع بها بأجرة فكان عليه تأديتها إلي مالكها ولا نزاع في دخول المستأجر تحت هذا العموم فقول المصنف: "وإلا ضمن" صحيح يصدق عليه قوله في الحديث: "على اليد ما أخذت" فإن المراد به على اليد ضمان ما أخذت حتى تؤديه.

(1/574)


[ فصل
وإنما تستحق أجرة الأعيان باستيفاء المنافع أو التخلية الصحيحة فإن تعذر الانتفاع لعارض في العين سقط بحصتها وعلى المالك الإصلاح فإن تعذر في المدة سقط بحصتها وإذا عقد لاثنين فللأول إن ترتبا وإجازته عقد المالك لنفسه فسخ لا إمضاء ثم للقابض ثم للمقر له وإلا اشتركا إلا لمانع وللمستأجر القابض إلي غير المؤجر لمثل ما أكترى وبمثله وإلا فلا إلا بإذن أو زيادة مرغب ولا يدخل عقد على عقد أو نحوه إلا في الأعمال غالبا وما تعيب ترك فورا ولو خشي تلف ماله لا نفسه وإلا كان رضا ومنه نقصان ماء الأرض الناقص للزرع لا المبطل له أو لبعضه فتسقط كلها أو بحصته وإذا انقضت المدة ولما يحصد الزرع وينقطع البحر بلا تفريط بقي بالأجرة].
قوله: "فصل: وإنما تستحق أجرة الأعيان باستيفاء المنافع".
أقول : وجهه أن الأجرة هى إلي مقابل المنفعة المتعلقة بالعين فلا يستحقها من هى له إلا بانتفاع المستأجر لها بها ولكنها إذا كانت المنافع مما يتجدد الانتفاع به في الأوقات كان للمؤجر أن يطالب المستأجر بقدر أجرة ما قد انتفع به ولا يلزمه أن يمهله حتى يستوفي كل ما تراضيا عليه إلا أن يتراضيا على تأجير تسليم الأجرة إلي استيفاء جميع ما تعلق به الإجارة من المنافع كان ذلك لازما لهما.
وأما قوله: "والتخلية الصحيحة" فمبني على أن التأجير إذا وقع لمدة كان الدخول في الإجارة بمثابة الرضا بدفع ما تراضيا عليه من الأجرة وإن لم يشرع في الانتفاع كما تقدم في البيع ولكن بين البأبين بون بعيد فإن المشتري بمجرد قبضه للمبيع صار ملكا له يتصرف به كيف يشاء وأما الإجارة فالمنافع لمالك العين وليس للأجير إلا الانتفاع في وقت من الزمان فإلزامه بتسليم أجرة ما لم ينتفع به غير معقول وربما يتعذر الانتفاع لعارض في العين كما ذكره المصنف هنا فإنه يسقط بحصتها من الأجرة فكيف يكلف المستأجر بالتسليم للجميع مع الاحتمال.
وأما قوله: "وإذا عقد لاثنين فللأول" فظاهر لأنه قد صار من تقدم العقد له أحق بها كما تقدم في البيع.
وأما قوله: "وإجازته عقد المالك لنفسه فسخ لا إمضاء" فوجهه أنه قد رضي بذلك بعد أن صار مستحقا للمنفعة فكأنه فسخ العقد الذى كان في يده وإذا علم ترتب العقدين ثم التبس كان القابض للعين التى تعلقت بها المنفعة أولى بالمنفعة لأن ذلك دليل على تقدم عقدة وفيه نظر لأنه يمكن أن يسبق إلى القبض من تأخر عقده ومع الاحتمال لا يتم الاستدلال وهكذا يكون إقرار البائع لأحدهما بتقدم عقده مفيد التقدمة وفيه نظر على قواعدهم لأن هذا الخبر من المالك فيه

(1/575)


تقرير لفعله وهم يجعلون ذلك قادحا كما سيأتي في الشهادات.
وأما قوله: "وإلا اشتركا" فوجهه عدم وجود مرجح لأحقية أحدهما والأولى أن يقال إن هذا اللبس من كل وجه يقتضي بطلان إجارة كل واحد منهما فيؤجره مالكه ممن شاء لأن الرضا الذى هو المناط الشرعي غير متحقق مع اللبس.
قوله: "وللمستأجر القابض التأجير إلى غير المؤجر".
أقول : المالك للعين مالك لمنافعها ومجرد الإذن لمن يستعمله مدة من الزمان بأجرة لا يدل على جواز صرفها إلى غيره لاختلاف الأشخاص والأغراض والمقاصد وبهذا تعرف أنه لا يجوز للمستأجر أن يؤجرها ولا حق له في ذلك بل حقه مختص باستيفائه للمنافع المأذون له بانتفاعه بها فإن قلت أما كان له في استحقاقه لمنافع العين ما يسوغ له تأجيرها من غيره قلت هذا الاستحقاق سببه إذن المالك له بالانتفاع بها إلى مقابل الأجرة فإخراجها إلى غيره وتسليطه للانتفاع بها لم يتناوله الإذن وأما إذا أذن له مالك العين بذلك فظاهر.
وأما قوله: "أو زيادة مرغب" فلا وجه له فإنه لا يجوز ذلك إلا إذا رضي بذلك المرغب إلى مقابل إخراج العين إلى مستأجر آخر ولا يصح أن يكون مجرد وجود زيادة المرغب مصححا لتأجير المؤجر شاء المالك أم أبى فإن ذلك من الافتيات عليه في ملكه وفيما أمره إليه.
قوله: "ولا يدخل عقد على عقد إلا في الأعمال".
أقول لا مانع من هذا الإدخال لا من شرع ولا عقل ولا وجه لقياس الإجارة على البيع لما قد عرفناك من الفرق بينهما وأيضا قد قدمنا في البيع ما قد عرفته والحاصل أن المناط في الكل التراضي المدلول عليه بقوله تعالى: {تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ} [النساء: 29]، فمن زعم تقييد هذا التراضي بقيد لم يدل عليه دليل فهو رد عليه وهكذا قوله: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا} [البقرة: 275]، فمن زعم أنه لا يحل كذا من البيوع بغير دليل فهو رد عليه وإذا كان هذا في البيع الذى هو نقل الأملاك نقلا منجزا فكيف بالتجارة في المنافع الباقية على ملك مالكها ببقاء العين في ملكه والعجب من الفرق بين الأعيان والأعمال مع أن الكل منفعة فإن إجارة الأعيان تسليط المستأجر على الانتفاع بها والإجارة في الأعمال تسليط العامل لصاحب العمل على منافعه.
قوله: "وما تعيب ترك فورا ولو خشي تلف ماله لا نفسه".
أقول : ظهور العيب يقتضي ثبوت الرد به ولا يبطل إلا بمطل شرعي أو حصول الرضا المحقق به وأما هذا الذى جعلوه رضا شاء أم أبى وإن أدى إلى تلف ماله فمن غرائب الرأي وعجائب الاجتهاد ثم التفرقة بين تلف المال والنفس أغرب وأعجب ولا شك أن حفظ النفس مقدم على حفظ المال ولكن إضاعة المال منكر وحرمته مقترنة بحرمة النفوس كما حديث: "إن دماءكم وأموالكم عليكم حرام".
وأما قوله: "ومنه نقصان ماء الأرض" الخ فمن التفريع المستغنى عنه.

(1/576)


[ فصل
وإذا اكترى للحمل فعين المحمول ضمن إلا من الغالب ولزم إبدال حامله إن تلف بلا تفويت غرض والسير معه ولا يحمل غيره وإذا امتنع المكتري ولا حاكم فلا أجرة والعكس إن عين الحامل وحده إلا لشرط أو عرف في السوق فيتبعه ضمان الحمل ولا يضمن بالمخالفة إلى مثل الحمل أو المسافة قدرا وصفة فإن زاد ما يؤثر ضمن الكل وأجرة الزيادة فإن حملها المالك فلا ضمان ولو جهلا فإن شورك حاص وكذا المدة والمسافة ولا بالإهمال لخشية تلفهما ومن اكترى من موضع ليحمل من آخر إليه فامتنع أو فسخ قبل الأوب لزمت للذهاب إن مكن فيه وخلي له وإلا فلا].
قوله: "فصل: وإذا اكترى" الخ.
أقول : مجرد استئجاره على أن يحمل له شيئا على دابته أو على ظهره ليس فيه ما يدل على تضمينه لا بمطابقة ولا تضمن ولا التزام ولا ورد بذلك شرع ولا دل عليه رأي صحيح ولا عقل بل غاية ما يجب على هذا الأجير هو إيصاله إلى المكان الذي عينه المالك ولا يضمن إلا إذا حصلت منه جناية أو تفريط فإن التضمين حكم شرعي يستلزم أخذ مال مسلم معصوم بعصمة الإسلام فلا يجوز إلا بحجة شرعية وإلا كان ذلك من أكل أموال الناس بالباطل وإذا عرفت أن الإجارة إنما هى على إيصال الشيء المحمول إلى المكان الذي وقع التواطؤ عليه فقد صار ذلك واجبا على الأجير سواء كان على حامل واحد أو أكثر وإذا تلف الحامل لزمه إبداله وله أن يستنيب من يسير مع الدواب الحاملة ولا وجه لإيجاب السير وله أن يحمل غيره على تلك الدابة أو غيرها ولا وجه لمنعه من ذلك ولا يستحق الأجرة إلا بإيصاله إلى المكان المعين فإن تلف الحمل دونها بغير جناية منه ولا تفريط استحق حصة ما قد قطعه من المسافة ولا فرق بين أن يكون المعين هو الحامل أو المحمول فإن الكلام في الجميع هو ما ذكرناه ولا وجه للفرق إلا مجرد خيالات لا يحل بناء أحكام الشرع عليها إلا أنه إذا استأجر الدابة لحمل ذلك الحمل المعين إلى المكان المعين فليس لمالكها أن يحمل عليها غيره لأن منافعها قد صارت مستحقة للمستأجر ولكنه لا يحمل فوقها غير ما عينه فإن خالف وتلفت بسبب المخالفة ضمن الدابة بسبب جنايته عليها بالزيادة.
وأما قوله: "من اكترى من موضع" الخ فصحيح فإن المستأجر بسبب امتناعه من التحميل أو فسخه للإجارة قد لزمه قدر ما قد فعله الأجير بإذنه إذا لم يصدر منه ما يكون سببا للتفاسخ على وجه التعدي.

(1/577)


باب وإجارة الآدميين
[ فصل
إذا ذكرت المدة وحدها أو متقدمة على العمل فالأجير خاص له الأجرة بمضيها إلا أن يمتنع أو يعمل للغير والأجرة له ولا يضمن إلا لتفريط أو تأجير على الحفظ ويفسخ معيبه ولا يبدل وتصح للخدمة ويعمل المعتاد والعرف لا بالكسوة والنفقة للجهالة والظئر كالخاص فلا تشرك في العمل واللبن وإذا تغيبت فسخت إلا أنها تضمن ما ضمنت].
قوله: "فصل: إذا ذكرت المدة وحدها".
أقول : إذا ذكرت المدة وحدها صار الأجير فيما مستحق المنافع للمستأجر فليس له أن يعمل للغير.
وأما قوله: "وله الأجرة بمضيها" فلا وجه له لأنه خلاف مقصود المستأجر إنما أراد استئجاره على عمل في تلك المدة المعينة لا مجرد كونه أجيرا له بغير عمل فيها فإذا لم يعمل لم يستحق شيئا وإن عمل وفرط في العمل فلم يعمل إلا بعض ما يقدر عليه من العمل في العادة فليس له إلا قدر أجرة عمله وأما إذا ذكر العمل مع المدة فذكره معها قريبة دالة على أن المراد عمل ذلك العمل المسمى فإذا فرغ منه في بعض اليوم فقد انقضت الإجارة وسواء تقدم ذكر العمل أو تأخر وإذا تلفت العين التي استؤجر على فيها فلا ضمان عليه إلا لجناية أو تفريط على ما قررناه قبل هذا الباب.
وأعلم أن الفرق بين تقديم العمل أو تأخيره كما في هذا الفصل والفصل الذي بعده وجعل ذلك مقتضيا لتسميته أجيرا خاصا أو أجيرا مشتركا هو كله ظلمات بعضها فوق بعض وتلاعب بأحكام الشرع بلا سبب لا من شرع ولا من لغة ولا من عقل ولا من رأي صحيح وحاصل ما ينبغي الاعتماد عليه في هذا أن استئجار الأجير على عمل يقتضي استحقاقه للأجرة المسماة بفراغه منه إلا أن يشترط عليه التمام للعمل في مدة معينة وإلا فلا أجرة فإن رضي لنفسه لذلك لزمه حكم ما رضي به وإن لم يرض استحق الأجرة بتمام العمل سواء طالت المدة أو قصرت وإذا عرفت هذا هان عليك ما ذكره المصنف وغيره من هذه التفاصيل والتفاريع التي لا يفوح منها رائحة من روائح العلم ولا يلوح عليها نور من أنوار الشرع فأضرب بما ذكره من الفرق بين تقديم العمل على المدة وتأخيره عليها ومن الفرق بين الخاص والمشترك ومن الفرق بين تعريف العمل وتنكيره وبين الأربعة ومن عداهم وجه من جاءك محتجا به معتقدا أنه من هذه الشريعة الواضحة التي ليلها كنهارها وقل له من استأجر أجيرا على عمل كان عليه أجرته وعلى الأجير

(1/578)


عمل ما استؤجر عليه على الوجه الذي وقع التراضي به والتواطؤ عليه وما ذكره الأجير أو المستأجر فيما فيه زيادة على ذلك من تعيين مدة أو اشتراط كون العمل على صفة معروفة أو نحو ذلك كان ما تراضيا عليه لازما لهما لا يجوز لهما المخالفة له ولا الخروج عما يقتضيه وقد قدمنا لك أنه لا يضمن إلا لجناية أو تفريط أو شرط عليه ورضا به وقد ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه استأجر على عمل واستؤجر عليه كما قدمنا ومن استئجاره صلى الله عليه وسلم على عمل ما أخرجه أحمد وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه عن سويد بن قيس قال: جلبت أنا ومخرمة العبدي بزا من هجر فأتينا مكة فجاءنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يمشي فساومنا سراويل فبعناه ثم رجل يزن بالأجر فقال له: "زن وأرجح" وصححه الترمذي وأخرجه أبو داود والنسائي وابن ماجه أيضا من حديث أبي صفوان بن عمير.
[ فصل
فإن قدم العمل فمشترك ويفسد إن نكر مطلقا أو عرف إلا في الأربعة وتصح إن أفرد معرفا إلا فيها فيذكران معا وهو فيهما يضمن ما قبضه ولو جاهلا إلا من الغالب أو بسبب من المالك كإناء مكسور أو شحن فاحشا وله الأجرة بالعمل وحبس العين لها والضمان بحالة ولا تسقط إن ضمنه مصنوعا أو محمولا وعليه أرش يسير نقص بصنعته وفي الكثير يخير المالك بينه وبين القيمة ولا أرش للسراية عن المعتاد من بصير والذاهب في الحمام بحسب العرف[
[ فصل
وللأجير الاستنابة فيما لا يختلف بالأشخاص إلا لشرط أو عرف ويضمنان معا والفسخ إن عتق أو بلغ ولو لعقد الأب في رقبته لا ملكه وإذا شرط على الشريك الحفظ ضمن كالمشترك].
قوله: "وللأجير الاستنابة فيما لا يختلف بالأشخاص".
أقول : إن عرف من مقصد المستأجر أنه لا يريد إلا تحصيل ذلك العمل على صفة يستوي في تحصيلها الأجير وغيره كان للأجير الاستنابة من هذه الحيثية وأما إذا كان الأجير أحسن صناعة من غيره ولا يلحق غيره به فيها فاستئجار على ذلك العمل قرينة تدل على أن المراد تولى العمل بنفسه وجعله على الصفة التى لا يحسنها غيره وهكذا إذا كان بمكان من الدين رفيع

(1/579)


فاستأجره المستأجر على شيء من الأمور الدينية فإنه لا يجوز الاستنابة لغيره لأن استئجاره على ذلك العمل قرينة كما تقدم وهذا مع عدم الشرط أما إذا شرط عليه أنه لا يستنيب فلا يجوز له الاستنابة ولو استناب من هو أحسن منه صناعة أو أكثر دينا وأتم عدالة.
هكذا العرف إذا جرى في المحل فإنه محكم لأنه مقصود لهما كما تقدم في غير موضع.
وأما قوله: "ويضمنان معا" فقد عرفت أنه لا يضمن إلا لجناية أو تفريط كما قدمنا لأنه إنما استؤجر على العمل في الشئ ولم يستأجر على حفظه وأما كون لمن عتق أو بلغ الفسخ فظاهر لان العبد قد ملك نفسه فلا يلزمه ما ألزم به وهو في الرق والصبي قد انتقل الحكم إليه بعد بلوغه فلا يلزمه ما وقع بالولاية عليه لأن المانع قد زال والمقتضى قد حصل إلا ما كان من تصرف الأولياء في ماله فإنه يلزم بموجب الولاية التى لهم مع المصلحة ولا وجه لتخصيص ذلك بالأب.
قوله: "وإذا شرط على الشريك الحفظ" الخ.
أقول : ذكر في هذا الباب غير مناسب ومحله - كتاب الشركة لأنه كلام في شرط الضمان من أحد الشريكين على الآخر وبالوجه أنه إذا قبل الشرط لزمه الحفظ ولزمه الضمان وأما قوله كالمشترك فلا وجه لما عرفت في الأجير المشترك من أنه أجير على العمل لا على الحفظ.
[ فصل
والأجرة في الصحيحة تملك بالعقد فيتبعها أحكام الملك وتستقر بمضي المدة وتستحق بالتعجيل أو شرطه أو تسليم العمل أو استيفاء المنافع أو التمكن منها بلا مانع والحاكم فيها يجبر الممتنع ويصح بعض المحمول ونحوه بعد الحمل قيل لا المعمول بعد العمل وفي الفاسدة لا يجبر ولا تستحق وهي أجرة المثل إلا باستيفاء المنافع في الأعيان وتسليم العمل في المشترك]
قوله: "فصل: والأجرة في الصحيحة تملك بالعقد".
أقول : ليس على هذا أثارة من علم والأجير المتسأجر على عمل لا يستحق أجره إلا بالعمل الذى استؤجر عليه هذا معلوم بالعقل ولم يرد في الشرع ما يخالفه بل ورد ما يقويه ويعضده فأخرج البخاري وغيره من حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يقول الله عز وجل: ثلاثة أنا خصمهم يوم القيامة ومن كنت خصمه خصمته: رجل أعطى بي ثم غدر ورجل باع حرا وأكل ثمنه ورجل استأجر أجيرا فاستوفى منه ولم يوفه أجره"، فقوله: فاستوفى منه يدل على أن الأجرة إنما تستحق باستيفاء العمل

(1/580)


فيما استؤجر عليه وأخرج أحمد والبزار من حديث أبي هريرة أيضا عن النبي صلى الله عليه وسلم: "أنه يغفر لأمته في آخر ليلة من رمضان"، قيل: يا رسول الله أهي ليلة القدر قال: "لا ولكن العامل إنما يوفى أجره إذا قضى عمله"، فقوله: "إنما يوفى أجره إذا قضي عمله" دليل على ما ذكرناه فلا وجه لقوله فتتبعها أحكام الملك وما بعده لأنه تفريع على أصل منهار.
وأما قوله: "أو تسليم العمل واستيفاء المنافع" فصحيح وهكذا قوله أو التمكن منها بلا مانع لأن المؤجر لها قد فعل ما يجب عليه فإذا أفرط المستأجر فقد أتى من قبل نفسه إلا أن يكون تركه رغوبا عن الدخول في الإجارة ولم يكن قد حصل على المؤجر نقص ولا استغراق مدة فله ذلك.
وأما قوله: "والحاكم فيها يجبر الممتنع" فقد عرفناك أن الأجير والمؤجر إنما يستحقان الأجرة إذا فرغ الأجير من عمله وفرغ المستأجر من استيفاء المنفعة التي أستأجر العين لأجلها فإذا ترك فلا أجره ولا إجبار.
قوله: "ويصح بعض المحمول ونحوه بعد الحمل".
أقول : الحكم بصحة هذا ظاهر لعدم المانع من ذلك لا شرعا ولا عقلا.
وأما قوله قيل لا المعمول بعد العمل فقد استدل على ذلك بما أخرجه الدارقطني والبيهقي من حديث أبي سعيد قال نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن عسب الفحل وعن قفيز الطحان قال ابن تيمية في المنتقى وقد فسر قوم قفيز الطحان بطحن الطعام بجزء منه مطحونا لما فيه من استحقاق طحن قدر الأجرة لكل واحد منهما على الآخر وذلك متناقض وقيل لا بأس به مع العلم بقدره وإنما المنهى عنه طحن الصبرة لا يعلم كيلها بقفيز منها وإن شرط حدا لأن ما عداه مجهول فهو كبيعها إلا قفيزا منها، انتهى.
والتفسير الأول أقرب وعليه اقتصر صاحب النهاية ولكن الحديث في إسناده هشام أبو كليب قال ابن القطان لا يعرف وكذا قال الذهبي وزاد وحديثه منكر وقال ابن تيمية حفيد مصنف المنتقى إنه حديث ضعيف بل باطل فإن المدينة لم يكن فيها طحان ولا خباز لعدم حاجتهم إلى ذلك انتهى ولكنه قال مغلطاي إن هشاما المذكور ثقة وأورده ابن حبان في الثقات فليس الحديث بعد هذا يضعف فضلا عن أن يكون باطلا والرجوع إلى العمل به أولى من ظلمات الرأي وتخبطات الاجتهاد ويقاس المحمول على المعمول لأن العلة كائنة في المحمول كما في المعمول ولا عذر لمن عمل بمثل هذا القياس وبما هو أضعف منه من العمل به ها هنا.
وأما قوله: "وفي الفاسد ...." الخ فقد عرفناك غير مرة أن تخصيص ما يسمونه فاسدا بأحكام مخصوصة هو من باب ترتيب الباطل على الباطل وتفريع ما لا أصل له على ما لا أصل له وقد أوضحنا هذا في مواضع من هذا الكتاب.

(1/581)


[ فصل
ولا تسقط بجحد المعمول فيه في الصحيحة مطلقا وفي الفاسدة إن عمل قبله وتسقط في الصحيحة بترك المقصود وإن فعل المقدمات وبعضها بترك البعض ومن خالف في صفة للعمل بلا استهلاك أو في المدة لتهوين أو عكسه فله الأقل أجيرا وعليه الأكثر مستأجرا].
قوله: "فصل: ولا يسقط بجحد المعمول فيه" الخ.
أقول : هذا مبني على ما تقدم له من أن الأجرة تستحق بالعقد وقد عرفناك أنها لا تستحق إلا بالعمل وهو الذي دل عليه الدليل وأما الفرق بين الصحيحة والفاسدة فمن الأمور التي لم تدل عليها رواية ولا رأي.
وأما قوله: "ويسقط في الصحيحة بترك المقصود" فوجهه أن المستأجر لم يقصد بالاستئجار ودفع الأجرة إلا ذلك فإن فات لم يبق مقيض لاستحقاق الأجرة ولا فرق بين الصحيحة والفاسدة فلا وجه لقوله في الصحيحة وأما المقدمات فليس من العدل أن يهمل عمل الأجير فيها لأنه عمل بأمر المستأجر ولا سيما إذا كانت تلك المقدمات لا يمكن الوصول إلى المقصود إلا بها فللأجير أجرة ما فعله بحسب ما يقدره من له خبرة بذلك العمل وليس ها هنا ما يدل على سقوط الأجرة عليها فوجب الرجوع إلى كونها مفعولة بأمر المستأجر فكان عليه الأجرة وإلا كان ذلك من إتعاب الغير واستغراق منافعه بلا شيء وذلك ظلم وأما استحقاق بعض الأجرة بفعل البعض من المقصود وسقوط بعضها بترك البعض فظاهر.
قوله: "ومن خالف في صفة للعمل".
أقول : الأجير إذا خالف ففعل غير ما أمره به المستأجر فلا يستحق أجره في عمله لأنه لم يفعل ما أمره به وإذا حصل في العين بسبب المخالفة نقص كان على الأجير الأرش إن حصل بالمخالفة زيادة لم يكن على المستأجر شيء بل يأخذ العين بزيادتها إذا لم يمكن فصلها لتعديه ومخالفته وأما المخالفة من المستأجر للعين بأنه يلزمه أجرة الزيادة في المسافة أو الحمل أو نحوهما هكذا ينبغي أن يقال لا كما قال المصنف.
[ فصل
ولكل منهما فسخ الفاسدة المجمع على فسادها بلا حاكم والصحيحة بأربعة للرواية والعيب وبطلان المنفعة والعذر الزائل معه الغرض بعقدها ومنه مرض من لا يقوم به إلا الأجير والحاجة إلى ثمنه ونكاح من يمنعها الزوج ولا تنفسخ بموت أيهما

(1/582)


غالبا ولا بحاجة المالك إلى العين ولا بجهل قدر مسافة جهة وكتاب ذكر لقبهما للبريد والناسخ.
قوله: فصل : "ولكل منهما فسخ الفاسدة" الخ.
أقول : إذا حصل التراضي على مدة معلومة بأجرة معلومة فهذه هي الإجارة الصحيحة وهي من هذه الحيثية داخلة تحت قوله سبحانه: {تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} [النساء: 29]، وإذا لم يحصل هذا التراضي فلا إجارة من الأصل وإذا عرفت أن حاصل هذا التراضي هو جعل الأجرة في مقابل تلك المنفعة في تلك المدة مع كون العين ومنافعها باقية في ملك المالك فإذا قال المالك بعد أن وقع الاستغراق لبعض المنافع قد رغبت عن هذه الأجارة أو قال مستأجر العين أو المؤجر لنفسه قد رغبت عن ذلك فهل من دليل يدل على إلزام من رغب بالوفاء فإن الرغوب إن كان من جهة المالك فقد رضي بترك الأجرة المقابلة لما بقي من الأجرة ولا يصح قياس الإجارة على البيع فإن المتراضي في البيع قد خرج به المبيع عن إلى ملك مشتريه بالثمن المتواطئ عليه وها هنا لا خروج بل المنفعة باقية في ملك مالك العين واستحقاق الأجرة إنما هو بحسب ما قد استغرقه من المنافع في وقت بعد وقت فإذا لم يدل دليل على لزوم الاستمرار من الجهتين جاز لكل واحد تركها متى شاء وقد أخذ صاحب العين ما يقابل منفعته من الأجرة وأخذ من عليه الأجرة ما يقابل الأجرة اللازمة له من منفعة العين وإن كان ثم دليل على لزوم الاستمرار فما هو وإذا عرفت هذا هان عليك الخطب وسهل عليك التخلص من هذه التفريعات المبنية على شفا جرف هار المؤسسة على السراب المسندة إلى الهباء ومما يؤيد هذا البحث ويشد من عضده ما قدمنا لك من أن الأجرة إنما تستحق بالعمل في كل إجارة وإذا جاز التتارك بلا سبب في الإجارة الصحيحة فجواز الترك لرؤية أو عيب أو بطلان منفعة أو زوال غرض أو عروض عذر أو موت أو حاجة المالك إلى العين أولى وأحرى.
وأما قوله: "ولا بجهل قدره مسافة جهة" الخ فمن غرائب الاجتهاد فإن ذكر اللقب لا يرفع الجهالة للمقدار فكيف لا يجوز لأجير أن يترك الإجارة لهذا الجهل الذي يسوغ به ما هو أشد لزوما من الإجارة كما قدمنا في الخيارات.
[ فصل
وتنفذ مع الغبن الفاحش من رأس المال في الصحة وإلا فالغبن من الثلث ولا يستحقها المتبرع ولا الأجير حيث عمل غيره لا عنه أو بطل عمله قبل التسليم كمقصور ألقته الريح في صبغ أو أمر بالتسويد فحمر ويلزم من ربى في غصب مميزا أو حبس فيه

(1/583)


بالتخويف ومستعمل الصغير في غير المعتاد ولو أبا ويقع عنها إنفاق الولي فقد بنيتها م ولو لم تقارن إن تقدمت ومستعمل الكبير مكرها والعبد كالصغير ويضمن المكره مطلقا ومحجور انتقل راضيا].
قوله: فصل : "وينفذ مع الغبن الفاحش" الخ.
أقول : هذا وقد لاحظ المصنف فيه ما يأتي في الوصايا من الفرق بين تصرف المالك حال صحته وحال مرضه والذي ينبغي اعتماده هنا أن الرضا بالزيادة المسماة غبنا قد صيرها بمنزلة الدين في تركه الميت وموته راضيا بها يؤكد كونها دينا وأما الفرق بين تصرف وتصرف وجعل التصرف في المرض المخوف موجبا لخروج ذلك من الثلث فسيأتي الكلام عليه إن شاء الله وأما كونه لا يستحق الأجرة المتبرع ومن عمل غيره لا عنه فظاهر لأنه لم يوجب السبب الذي يستحق به الأجرة وهكذا إذا بطل عمل الأجير فإنه صار بذلك وجوده كعدمه وهكذا من فعل غير ما أمر به.
وأما قوله: "وتلزم من ربي في غصب مميزا" فوجهه أنه مع التمييز صار هو الغاصب وقبل التمييز يكون الرجوع على من رباه ولكن كون هذا الحكم يلزم من لم يبلغ التكليف يحتاج إلى دليل وإذا كان الغصب كالجناية لزمت المميز وغير المميز.
وأما قوله: "أو حبس فيه بالتخويف" فذلك مبني على أنه لا يخاف من ذلك التخويف تلفا ولا ضررا ولا خرج به عن حد الاختيار وإلا كان الضمان على الحابس.
وأما قوله: "ومستعمل الصغير في غير المعتاد" فظاهر لأنه فعل باستعماله في غير ما يعتاده ما لا يبيحه الشرع فلزمته أجرته والظاهر أنه تلزم في المعتاد لأنه لم يأذن الشرع بذلك إلا إذا كان أبا وفعل ذلك على طريقة التدريب للصبي وتعليمه ما يعود عليه نفعه فلا أجرة عليه لأنه مأذون له من جهة الشرع وبه جرت عادة أهل الإسلام قرنا بعد قرن وأما كونه يقع عنها إنفاق الولي فذلك لمكان الولاية الشرعية.
وأما قوله: "ومستعمل الكبير مكرها" فوجهه ظاهر.
وأما قوله: "والعبد كالصغير" فالأولى أن يكون له حكم الدابة إذا استعملها غير مالكها بغير إذنه فإنها تلزم الأجرة.
وأما قوله: "ويضمن المكره مطلقا" فوجهه أنه صار غاصبا لمنافع من أكرهه.
وأما قوله: "ومحجورا انتقل ولو راضيا" فينبغي أن يقال إن مستعمل العبد يضمن ما يقابل ذلك العمل من الأجرة سواء كان راضيا أم لا انتقل أو لم ينتقل لأنه أقدم على ملك الغير بغير إذنه وأي فائدة تتعلق برضا العبد أو انتقاله وهو ملك لغيره وهكذا لا فرق بين أن يكون محجورا أو غير محجور ولكن هذه التفاصيل سببها الرجوع إلى قواعد هي عن القيام بالحجة قواعد.

(1/584)


[ فصل
ويكره على العمل المكروه وتحرم على واجب أو محظور مشروط أو مضمر تقدم أو تأخر غالبا فتصير كالغصب إلا في الأربعة إن عقدا ولو على مباح حيلة وإلا لزم التصدق بها ويعمل في ذلك بالظن فإن التبس قبل قول المعطي ولو بعد قوله على المحظور].
قوله: " فصل : ويكره على العمل المكروه".
أقول : قد جعل بعض أهل العلم من العمل المكروه أجرة الحجام فإنه نهى عنها صلى الله عليه وسلم كما في حديث أبي هريرة عند أحمد "2/299، 332، 247، 415، 500"، بإسناد رجاله رجال الصحيح وسماه النبي صلى الله عليه وسلم: "خبيثا" كما في حديث رافع بن خديج عند أحمد "3/464، 465"، وأبي داود "3421"، والترمذي "1275"، وصححه وسماه صلى الله عليه وسلم: "شر المكاسب" كما في رواية للنسائي من حديث رافع هذا وزجر صلى الله عليه وسلم سيد العبد الحجام عن كسبه ورخص له أن يعلفه ناضحه كما في حديث محيصة بن مسعود عند أحمد "5/435، 436"، برجال الصحيح وأخرجه أيضا أبو داود "3422"، والترمذي "1277"، وقال حسن وثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه حجمه أو طيبة وأعطاه صاعين من طعام وكلم مواليه فخففوا عنه وهو في الصحيحين وغيرهما من حديث أنس وثبت أيضا في الصحيحين وغيرهما من حديث ابن عباس أنه صلى الله عليه وسلم حجمه عبد لبني بياضة وأعطاه أجره وكلم سيده فخفف عنه من ضريبته فيجمع بين هذه الأحاديث بأن الأجرة على الحجامة مكروه ولكنه يبعد منه صلى الله عليه وسلم أن يفعل المكروه أو يقرر صاحبه عليه وأما كونها تحرم على واجب أو محظور فقد تقدم دليله عند قول المصنف غير واجبة عليه ولا محظورة وأما تقييد ذلك بالشرط أو الإضمار فلا يظهر له وجه صحيح وأما كون الأجرة تصير كالغصب فوجهه أنه حرام فلا يحل لمن صار إليه أن ينتفع به بوجه من الوجوه.
وأما قوله: "إلا في الأربعة" فهي التي تقدمت في البيع حيث قال المصنف لكنه يطيب ربحه وتبرئ من رد إليه والأجرة إن لم يستعمل ولا يتضيق الرد إلا بالطلب وقد قدمنا الكلام عليها هنا لك.
وأما قوله: "إن عقد" فلا وجه له لأن الحرام على كل حال.
وأما قوله: "وإلا لزم التصدق بها" فلا وجه له بل يجب الرد لمالكه فإن امتنع من قبوله وجب عليه أن يخلي بينه وبينه فإن شاء قبضه وإن شاء تركه لأن التصدق بمال الغير بغير إذنه لا يجوز وأما كونه يعمل بالظن عند اللبس فظاهر ولكن عروض اللبس في مثل هذا قليل الوقوع لأن المقاصد لا تخفي فإن كان في الذي دفع إليه المال ما يحتمل أن يكون دفعه إليه لوجه جائز ولوجه غير جائز فالمؤمنون وقافون عند الشبهات.

(1/585)


وأما قوله: "ولو بعد قوله عن المحظور" فليس بعد هذا القول شيء في الدلالة على مقصد المعطي فكيف يجوز الرجوع إلى الظن بعد أن وضح الأمر وأسفر الصبح لذي عينيين.
[ فصل
والبينة على مدعي أطول المدتين ومضي المتفق عليها وعلى المعين للمعمول فيه وعلى المشترك في قدر الأجرة ورد ما صنع وأن المتلف غالب إن أمكن البينة عليه وعلى المالك في الإجارة والمخالفة غالبا وقيمة التالف والجناية كالمعالج وعلى المدعي إباق العبد بعض المدة إن قد رجع والقول للمستأجر في الرد والعين وقدر الأجرة قيل فيما تسلمه ومنافعه وإلا فللمالك ولمدعي المعتاد من العمل بها ومجانا وإلا فللمجان].
قوله: " فصل : والبينة على مدعي أطول المدتين".
أقول : وجهه أنه يدعي خلاف الظاهر لأن الأصل عدم الزيادة وهكذا مدعي مضى المتفق عليها لأنه الأصل عدم المضي وهكذا المعين للعموم فيه لأنه صار بالتعيين مدعيا.
وأما قوله: "وعلى المشترك في قدر الأجرة" فلا فرق بينه وبين الخاص في أيجاب البينة وقد عرفناك فيما سبق ما هو الحق الذي ينبغي اعتماده في تقسيم الأجير إلى خاص ومشترك فلا نعيده وهكذا البينة على مدعي أن المتلف غالب لكونه ادعى ما يخالف الظاهر والأولى أن يقال إن الأصل عدم الضمان كما قدمنا فالبينة على مدعي ما يوجب الضمان من جناية أو تفريط وأما كون البينة على الممالك في الإجارة والمخالفة وقيمة التالف والجناية ومدعي إباق من قد رجع فظاهر لأن المدعي لذلك كله يدعي خلاف ما هو الظاهر.
وأما قوله: "والقول للمستأجر في الرد والعين وقدر الأجرة" فخلاف الصواب لأنه يدعي خلاف ما هو الأصل والظاهر فالبينة عليه والاستدلال على ذلك بكونه أمينا تركيب دعوى على دعوى وأما كون القول لمدعي المعتاد من العمل بأجرة أو بغير أجرة فصحيح لأن المادة مقصودة للمتعاملين بها فمن أدعى خلافها فعليه البينة.
وأما قوله: "وإلا فللمجان" فوجهه أنه إذا لم تكن عادة تعين الرجوع إلى الأصل وهو عدم الأجرة.
[ فصل
ولا يضمن المستأجر والمستعير والمستلم مطلقا والمشترك الغالب إن لم يضمنوا

(1/586)


ويضمن المشترك غير الغالب والمتعاطي والبائع قبل التسليم والمرتهن والغاصب وإن لم يضمنوا وعكسهم الخاص ومستأجر الآلة ضمن أثر الاستعمال والمضارب والوديع والوصي والوكيل والملتقط وإذا أبريء البصير من الخطأ والغاصب والمشترك مطلقا برئوا لا المتعاطي والبائع قبل التسليم والمتبريء من العيوب جملة والمرتهن صحيحا].
قوله: " فصل : ولا يضمن المستأجر" الخ.
أقول : قد عرفناك فيما سبق أن الأصل المعلوم بالشرع عصمة أموال العباد وأنها لا تحل إلا بوجه أوضح من شمس النهار فالحكم بالضمان على من لم يحكم عليه الشرع وهو من أكل أموال الناس بالباطل ومن الأمر بالمنكر ومن عكس ما جاءت به كليات الشريعة وجزئياتها وليس في المقام إلا مثل حديث: "على اليد ما أخذت حتى تؤديه" وحديث: "أد الأمانة إلى من ائتمنك ولا تخن من خانك" وقد قدمنا تخريجهما والكلام عيهما والتأدية واجبة في كل مأخوذ فإن فعل بريء وإن لم يفعل ضمن إن تسبب سبب يوجب الضمان من جناية أو تفريط لا إذا كان التلف بغير هذين الوجهين فإنه لم يرد ما يدل على تضييق إيجاب التأدية على أن يقال إنه قد تعدى بالتراخي أو فرط بعدم الرد فورا بل التفريط أن يترك الدابة مثلا في مكان تدخله السباع أو ينتابه اللصوص مع وجود موضع يحفظها فيه وما يشابه ذلك من الأمور التي يتحقق فيها التفريط.
وأما قوله: "إن لم يضمنوا" فصحيح لأنهم إذا رضوا بذلك وقبلوه فمن أنفسهم أتوا وفي سوء اختيارهم وقعوا وأما المتعاطي فهو جر إلى نفسه الضمان بسبب تعاطيه لأنه كان في غنى عن ذلك وإقدامه على ما لا بصر له فيه جناية وخيانة وأما البائع قبل التسليم فقد تقدم الكلام عليه وأما المرتهن فسياتي الكلام عليه إن شاء الله وأما الغاصب فظاهر وسيأتي أيضا.
وأما قوله: "وإن لن يضمنوا" فلكون الضمان إذا قد ثبت بالشرع لم يحتج إلى التضمين.
وأما قوله: "وعكسهم الخاص" الخ فهؤلاء لا فرق بينهم وبين من تقدم في أول الفصل أنها تجب عليهم التأدية ولا يضمنون إلا لجناية أو تفريط وإذا ضمنوا ضمنوا لأنه قد اختاروا ذلك لأنفسهم والتراضي هو المناط في تحليل أموال العباد.
وأما قوله: "وإذا بريء البصير من الخطأ" الخ فوجهه ظاهر فإن الإبراء يسقط ضمان المخطيء والغاصب فضلا عن المشترك لأنه قد رضي لنفسه بإسقاط ما يلزم له بالشرع وذلك سبب محلل لماله ومسوغ لغيره أن يتملكه ومبطل لضمان الجناية بخطأ البصير ولكن كون البصير يضمن ما وقع من الخطأ فيه ما فيه لأن بصره يدفع عنه معرة التضمين بما أخطأ فيه فلا يحتاج إلى إبراء.
وأما قوله: "لا المتعاطي والبائع قبل التسليم" فغير ظاهر لأن الإبراء كما قدمنا محلل مخلص لمن عليه الضمان من الضمانة وأما ما عللوا به المنع من إبراء المتعاطي بأنه عامد فإن كان العمل الذي تعاطى فيه مما لا يستباح بالإجابة فلا بأس وأما ما عللوا به عدم صحة إبراء البائع قبل التسليم من الضمان بقولهم إنه لا يصح إسقاط ضمان الأعيان فما أبرد هذا التعليل

(1/587)


وأبعده عن قواعد الشرع فإن مالك العين إذا طابت نفسه عنها حلت وهي باقية بعنيها فكيف لا يحل الإبراء من ضمانها وسيأتي إن شاء الله في باب الإبراء ما يدفع هذا الخيال ويبدد شمل هذا الإشكال وأما عدم صحة إبراء المتبريء من العيوب جملة فمن غرائب الرأي وساقط الاجتهاد لا سيما إذا كان المبريء ممن يعرف العيوب ويتعلقها فالإبراء من جميعها كالإبراء من كل واحد منها وأعجب من هذا وأغرب عدم صحة إبراء المرتهن فإنه لا يوجد لهذا المنع وجه يقبله من له عقل فضلا عمن له علم والحاصل أن العالم العارف بقواعد الشرع إذا مرت به هذه المسائل المدونة في هذه الفصول وأمثالها لم يسعه إلا تكرير الاسترجاع وربما يقوم في وجهه من يريد تقويم الباطل فيقول له لا إنكار في مسائل الاجتهاد فيقال له ومتى فوض الله من يدعي الاجتهاد على الشريعة التي أنزلها على رسوله وجعله حاكما فيها بما شاء وعلى ما شاء فإن هذه نبوة لا إجتهاد وشريعة حاثه غير الشريعة الأولى ولم يرسل الله سبحانه إلى هذه الأمة إلا رسولا واحدا وأما ما تقدم للمصنف في المقدمة من أن كل مجتهد مصيب فقد قدمنا بيانه وذكرنا مراد القائل به وأما ما سيأتي للمصنف في السير من أنه لا إنكار في مختلف فيه على من هو مذهبه فتلك مقالة تستلزم طي بساط غالب الشريعة وسيأتي إن شاء الله تعالى بيان بطلانه.

(1/588)


باب المزارعة
[ فصل
صحيحها أن يكري بعض الأرض ويستأجر المكتري بذلك الكراء أو غيره على عمل الباقي مرتبا أو نحوه مستكملا لشروط الإجارة وإلا فسدت كالمخابرة الزرع في الفاسدة لرب البذر وعليه أجره الأرض أو العمل ويجوز التراضي بما وقع به العقد وبذر الطعام الغصب استهلاك فيغرم مثله ويملك غلته ويعشرها ويطلب له الباقي كما لو غصب الأرض والبذر له أو غصبهما].
قوله: "فصل: صحيحها أن يكري بعض الأرض" الخ.
أقول : المزارعة هي تأجير الأرض فالعجب من المصنف رحمه الله حيث جعل صحيحها هذه الصور الخاصة التي لم يرد بها شيء من الأدلة مع كثرة ما ورد في المزارعة فإن منها تأجير الأرض بالذهب والفضة كما في حديث رافع بن خديج في الصحيحين [البخاري "5/15"، مسلم "117/1547"، وغيرهما أبو داود "3392"، النسائي "3932"، قال: كنا أكثر الأنصار حقلا فكنا نكري الأرض على أن لنا هذه ولهم هذه فربما أخرجت هذه ولم

(1/588)


تخرج هذه فنهانا عن ذلك فأما الورق فلم ينهنا, وفي لفظ للبخاري: فأما الذهب والورق فلم يكن يومئذ, وكان الأولى للمصنف أن يتكلم على ما لا يصح منها ثم يقول ويصح ما عدا ذلك وأعلم أن الكلام في تأجير بجزء مما يخرج منها يطول جدا وقد أفردنا ذلك برسالة مستقلة لكثرة الأحاديث واختلافها وذكرنا في شرح المنتقى ما لا يحتاج الناظر فيه إلى غيره بعد إمعان النظر فيه والحاصل أنه قد ثبت في الصحيحين [البخاري "5/13"، مسلم ط5/1551"، وغيرهما أبو داود "3409"، الترمذي "1383"، النسائي "7/53"، ابن ماجة "2467"، أحمد "2/17، 22، 30، 37، 149، 157"، من حديث ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم عامل أهل خيبر بشطر ما يخرج من ثمر أو زرع وفي لفظ له فيهما: "ولهم نصف الثمرة" وأخرج البخاري من حديث أبي هريرة قال قالت الأنصار للنبي صلى الله عليه وسلم اقسم بيننا وبين إخواننا النخل قال: "لا"، فقالوا" تكفوننا العمل ونشرككم في الثمرة فقالوا سمعنا وأطعنا وفي الباب أحاديث في ثبوت الاستئجار بجزء من الخارج من الأرض ثم ثبت ما يدل على استمرار هذا التأجير بجزء مما يخرج من الأرض حتى قال البخاري قال قيس بن مسلم عن أبي جعفر قال ما بالمدينة أهل بيت هجرة إلا يزرعون علىالثلث والربع ثم ثبت بعد هذا النهي عن المخابرة كما في الصحيحين وغيرهما من حديث جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن المخابرة وفسرها جابر بالمثلث والربع وورد أن المنهي عنه إنما هو ما كان فيه جهالة كما أخرج البخاري ومسلم وغيرهما من حديث رافع بن خديج قال كنا أكثر الأنصار حقلا فكنا نكري الأرض على أن لنا هذه فربما أخرجت هذه ولم تخرج هذه فنهانا عن ذلك وفي لفظ لمسلم من حديثه إنما كان الناس يؤاجرون على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم بما على الماذيانات وأقبال الجداول وأشياء من الزرع فيهلك هذا ويسلم هذا ويسلم هذا ويهلك هذا ولم يكن للناس كرى إلا هذا فلذلك زجر عنه فأما شيء معلوم مضمون فلا بأس به وفي لفظ للبخاري من حديثه نحوه وفي لفظ للبخاري أيضا من حديثه قال حدثني عماي أنهما كانا يكريان الأرض على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم بما ينبت على الأربعاء وبشيء يستثنيه صاحب الأرض فنهى النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك فهذا الحديث يدل على أن سبب النهي هو هذا ووجه ذلك الجهالة وتجويز عدم حصول ما ينبت في المكان الذي كان التأجير على ما يخرج منه وعليه يحمل ما ورد من طلق النهي عن المخابرة كما في حديث جابر وفي بعض روايات حديث رافع أو تحمل النهي على الكراهة كما يفيد ذلك حديث ابن عباس عند البخاري وغيره عن عمرو بن دينار قال قلت لطاوس لو تركت المخابرة فإنهم يزعمون أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عنها فقال إن أعلمهم يعني ابن عباس أخبرني أن النبي لم ينه عنها وقال: "لأن يمنح أحدكم أخاه خير له من

(1/589)


أن يأخذ عليها خراجا معلوما" وأخرج الترمذي وصححه عن ابن عباس أيضا أن النبي صلى الله علي وآله وسلم لم يحرم المزارعة ولكن أمر أن يرفق بعضهم ببعض وفي الصحيحين وغيرهما من حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من كانت له أرض فليزرعها أو ليحرثها أخاه فإن أبى فليمسك أرضه"، قال صاحب المنتقى بعد ذكره لحديث أبي هريرة هذا وبالإجماع تجوز الإجارة ولا تجب الإعارة فعلم أنه أراد الندب انتهى وبهذا تعرف الكلام على قول المصنف وإلا فسدت كالمخابرة.
وأما قوله: "والزرع في الفاسدة لرب البذر وعليه أجرة الأرض أو العمل" فوجه استحقاق الباذر للزرع إذا كان هو الأجير أنه بذر بإذن المالك ومجرد كون المزارعة فاسدة لا يبطل الإذن الذي ساغ به البذر وصار له لأجله الزرع وأما إذا كان بغير أذن فالزرع لصاحب الأرض كما في حديث رافع بن خديج أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من زرع أرض قوم بغير إذنهم فليس له من الزرع شيء وله نفقته"، [أحمد "3/65، 4/141، أبو داود "3403"، ابن ماجة "2466"، وسيأتي هذا الحديث والكلام عليه في الغصب وأما إذا كان الباذر هو مالك الأرض فالظاهر أن الزرع له وعليه أجرة العمل للعامل لأنه عمل بإذنه.
وأما قوله: "ويجوز التراضي بما وقع به العقد" فظاهر لا يحتاج إلى التدوين لأن التراضي يصحح كل معاملة إلا ما كانت محرمة في نفسها وهكذا قوله وبذر الطعام الغصب استهلاك فيغرم مثله ووجهه أنه لا يمكن بعد هذا الاستهلاك إرجاع العين فيعدل إلى المثل إن وجد وإلا فالقية وأما كونه يملك غلته فلا بد أن يكون الغاصب له بذر به في أرض نفسه لا في أرض غيره كما تقدم في حديث رافع بن خديج فلا وجه لتشبيهه بقوله كما لو غصب الأرض والبذر له فإن غاصب الأرض لا يستحق من زرعها شيئا وله قيمة بذره وسيأتي الكلام على هذا في كتاب الغصب إن شاء الله تعالى.
[ فصل
والمغارسة الصحيحة أن يستأجر من يغرس له أشجارا يملكها ويصلح ويحفر مدة بأجرة ولو من الأرض أو الشجر أو الثمر الصالح معلومات وإلا ففاسدة وإن اختلف الحكم وكذلك ما أشبهها إلا ما خصه الإجماع وما وضع بتعد من غرس أو غيره ثم تنوسخ فأجرته وإعناته على الواضع لا المالك في الأصح وإذا انفسخت الفاسدة فلذي الغرس الخياران وفي الزرع الثلاثة].
قوله: "فصل: والمغارسة الصحيحة" الخ.
أقول : المغراسة نوع من أنواع الإجارات فإذا حصل التراضي على غرس أشجار معلومة

(1/590)


حتى تبلغ إلى حد معلوم صح أن يكون ذلك بأجرة معلومة من غير الأرض أو بجزء من الأرض أو من الشجر وأما جعل الأجرة من الثمر فلا بد أن يكون قد بلغ إلى حد الصلاح لأن علة النهي المتقدمة في البيع حاصلة هنا وأما اشتراط ذكر الإصلاح والحفر فلا حاجة إليه لأن نبات الشجر لا بد أن يكون بحفر وسقي وإصلاح فهو من لازم إطلاق المغارسة ويغني عن ذلك ما قدمنا من ذكر بلوغ الشجر المغروسة إلى حد معلوم فإن لم يذكر هذا لم يكن للغارس إلا ما غرمه في الغرس والإصلاح لأن استحقاق الأجرة المسماة لا يكون إلا على عمل معلوم لا مجهول.
وأما قوله: "إلا ما خصه الإجماع" فهو استثناء من قوله: يملكها أي إلا ما أجمع عليه الناس من عدم اشتراط كون رب الأرض يملك تلك الأعيان ومراده بالإجماع إجماع أهل تلك الناحية التي وقعت فيها المغارسة لا الإجماع الأكبر.
وأما قوله: "وما وضع بتعد" الخ فوجهه ظاهر لأن الغاصب هو الواضع فيده هي اليد العدوانية ولا فعل من مالك المتاع يوجب ضمانه وسواء تنوسخ أو بقي في ملك مالكه الأول.
وأما قوله: "وإذا انفسخت الفاسدة" الخ فهذا مبني على أنه حدث ما يمنع المضي في المغارسة أو اختار الترك وإلا فلا فساد ولا انفساخ بغير أحد الأمرين المذكورين.
[ فصل
والمساقاة الصحيحة أن يستأجر لإصلاح الغرس كما مر والقول لرب الأرض في القدر المؤجر ونفي الإذن ولذي اليد عليها في البذر].
قوله: "فصل: والمساقاة الصحيحة" الخ.
أقول : إذا كان الغارس مالك الأرض ثم أستأجر من يصلح له ذلك الغرس بالسقي إلى أن يبلغ حدا معلوما فهذه الإجارة يسميها أهل الفروع مساقاة.
وأما قوله: "والقول لرب الأرض في القدر" فلا وجه له بل القول قول نافي الزيادة والبينة على مدعيها وأما في بقاء الإذن فالقول قول المالك لأن الأصل بقاؤه وأما إذا أدعاه الأجير فلا يكون القول قوله لأن المالك ينكره في الحال وهو صاحب الإذن وأما إذا ادعاه الأجير في وقت قد مضى فالقول قوله لأن الأصل عدم ارتفاعه قبل الاختلاف.
وأما قوله: "ولذي اليد عليها في البذر" فوجهه أن ثبوت اليد يكون الظاهر مع صاحبه لأن بذرها نوع من من تصرفاته إلى تصرف فيها عند ذلك الثبوت.

(1/591)


باب الإحياء والتحجر
[ فصل
وللمسلم فقط الاستقلال بإحياء أرض لم يملكها ولا تحجرها مسلم ولا تعلق بها حق وبإذن الإمام فيما لم يتعين ذو الحق فيه وإلا فالعين غالبا].
قوله: "باب: الإحياء والتحجر فصل وللمسلم الاستقلال بإحياء أرض" الخ.
أقول : الأصل في ثبوت الإحياء وأيجابه للملك ما أخرجه أحمد "3/304، 338"، وأبو داود "3073"، والنسائي "3129"، والترمذي "1379"، وصححه من حديث جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من أحيا أرضا ميتة فهي له"، وفي لفظ لأحمد "5/12، 21"، وأبي داود "3077"، من هذا الحديث: "من أحاط حائطا على أرض فهي له" وما أخرجه أحمد وأبو داود والطبراني والبيهقي وصححه ابن الجارود من حديث سمرة بلفظ من أحاط حائطا على أرض فهي له وما أخرج أبو داود والناسئي والترمذي عن سعيد بن زيد قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من أحيا أرضا ميتة فهي له وليس لعرق ظالم حق"، وقد حسنه النسائي وأعله بالإرسال ورجع الدار قطني إرساله وأخرج البخاري وغيره من حديث عائشة قالت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من عمر أرضا ليست لأحد فهو أحق بها" وأخرج أبو داود والضياء في المختارة من حديث أسمر بن مضرس قال أتيت النبي صلى الله عليه وسلم فبايعته فقال: "من سبق إلى ما لم يسبق إليه مسلم فهو له"، قال فخرج الناس يتعادون يتخاطون فهذه الأحاديث وما ورد في معناها تدل على أن من أحيا الأرض التي هي ميتة غير مملوكة لأحد فهو أحق بها وتصير ملكا له أما إذا كان قد سبق إليها أحد من المسلمين أو كانت ملكا لذمي فلا يجوز أحياؤها كما يدل عليه لفظ أحد من حديث عائشة وكما يفيده لفظ ميتة في هذه الأحاديث فأن الأرض المملوكة للذمى ليست بميتة.
وأما قوله: "من سبق إلى ما لا يسبق إليه مسلم" فهو من التنصيص على بعض أفراد العام لأنه قد انمحى عنه المعنى الاشتقاقي وصار كالجوامد وأما اشتراط أن لا يكون قد تحجرها مسلم فوجهه أنه قد صار أحق بها لسبقه إليها كما في حديث: "من سبق إلى ما لم يسبق إليه مسلم" وهذا قد سبق بوضع الأعلام ونحوها.
وأما قوله: "وبإذن الإمام" فليس من الأدلة ما يدل على اشتراطه ولكن إذا كانت الأرض غير ميتة ولم يعرف من هي له صار النظر فيها إلى إمام المسلمين كسائر أموال الله فإن التصرف فيها إليه.
وأما قوله: "وإلا فالمعين" فلا دخل له في هذا الباب لأنه إذا أذن لغيره بإحياء ما هو حق له كان ذلك من باب الهبة ونحوها.

(1/592)


[ فصل
ويكون بالحرث والزرع أو الغرس أو امتداد الكرم أو إزالة الخمر أو التنقية أو اتخاذ حائط أو خندق قعير أو مسنا للغدير من ثلاث جهات وبحفر في معدن أو غيره ويعتبر قصد الفعل لا التمليك ويثبت به الملك ولا يبطل بعوده كما كان ولا يصح فيه وفي نحوه الاستئجار والاشتراك والتوكيل بل يملكه الفاعل في الأصح].
قوله: "فصل: ويكون بالحرث والزرع" الخ.
أقول : هذه الأنواع الي ذكرها للإحياء يصدق على كل واحد منها مفهوم الإحياء وهو شيء واضح فالتطويل بذكر هذه الصور لا يأتي بطائل والحاصل أن ما صدق عليه أنه إحياء لغة أو شرعا كان سببا لملك الأرض الميتة.
وأما قوله: "ويعتبر قصد الفعل" فمعلوم أن العامل لا يعمل عملا إلا لغرض وإلا كان فعله عبثا لا ينبغي حمل أفعال العقلاء عليه.
وأما قوله: "يثبت به الملك" فهو الذي دلت عليه الأحاديث الواردة في الإحياء كما تقدم.
وأما قوله: "ولا يبطل بعوده كما كان" فوجهه أن الملك لا يزول بعد ثبوته.
وأما قوله: "ولا يصح فيه وفي نحوه الاستئجار" الخ فوجهه أنه يصير الأجير هو المحيي فتكون الأرض له كما تدل عليه الأدلة المتقدمة وفيه نظر فإن المباشرة للفعل يختلف باختلاف الأغراض والمقاصد فإذا كان المباشر للإحياء مأمورا من جهة غيره أجيرا له صح ذلك وكان عمله هذا داخلا في أنواع الإجارات ولا مانع من ذلك وهكذا إذا كان المباشر وكيلا فإنه لم يحيي الأرض لنفسه بل أحياها لموكله وليس هذا من الأملاك القهرية التي تدخل في ملك مالكها شاء أم أبى وهكذا يجوز الاشتراك فيها لأنه بعد وقوع الإحياء من كل واحد منهما بمنزلة المواهبة ولا مانع من ذلك من شرع ولا من عقل.
[ فصل
والتحجر بضرب الأعلام في الجوانب يثبت به الحق لا الملك فيبيح أو يهب لا بعوض وله منعه وما حاز ولا يبطل قبل مضي ثلاث سنين إلا بإبطاله ولا بعدها إلا به أو بإبطال الإمام ولا بإحيائه غصبا قيل والكراء لبيت المال والشجر فيه وفي غيره كلاء ولو مسبلا وقيل م فيه حق وفي الملك ملك وفي المسبل يتبعه وفي غيرها كلاء].
قوله: "فصل: والتحجر بضرب الأعلام في الجوانب".

(1/593)


أقول : من سبق إلى الأرض فوضع عليها أي علامة كانت تدل على سبقه إليها فهو أحق بها كما في الحديث المتقدم بلفظ: "من سبق إلى ما لم يسبق إليه مسلم فهو له"، فالشرع قد أثبت أنه له وذلك هو معنى الملك فلا يرجع إلى مجرد الاصطلاح مع وجود الشرع ولا إلى المفاهيم اللغوية على تقدير أن فيها ما يدل على التفاوت بين الحق والملك وبهذا تعرف أنه لا فرق بين الإحياء والتحجر في ثبوت الملك بهما وأنه يصدق على كل واحد منهما أنه إحياء وليس المراد بالإحياء العمل في نفس الأرض بحرث أو غرس أو نحوها وقد تقدم في الأحاديث: "من أحاط حائطا على أرض فهي له" فإن الحائط ليس بعمل في نفس الأرض بل هو من باب التحجر لها عن أن يدخل إليها داخل فهو في الدلالة على السبق كضرب الأعلام في الجوانب ولا وجه لجعل أحدهما من باب الإحياء والآخر من باب التحجر كما فعل المصنف ولا للفرق بين أحكام الإحياء وأحكام التحجير فلا تشتغل بالكلام عليه ففي هذا كفاية.
قوله: "والشجر فيه وفي غيره كلأ".
أقول : ولا وجه لقول المصنف والشجر فيه الخ لأن الذي حكم عليه النبي صلى الله عليه وسلم بأنه مشترك بين الناس هو الكلأ والشجر ليس بكلأ فإنه عند أهل اللغة يطلق على الحشيش ولعل المصنف يريد بهذه العبارة أن الشجر له حكم الكلأ وهذا يحتاج إلى دليل فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا يمنع الماء والنار والكلأ"، كما أخرجه ابن ماجة من حديث أبي هريرة بإسناد صحيح وقال صلى الله عليه وسلم: "المسلمون شركاء في ثلاثة في الماء والكلأ والنار"، أخرجه أحمد وأبو داود من حديث أبي خراش عن بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم مرفوعا ورجال إسناده ثقات وأخرجه ابن ماجه من حديث ابن عباس وزاد فيه: "وثمنه حرام" وصححه ابن السكن وفي الباب أحاديث.
فالحاصل أن هذه الثلاثة الأشياء مشتركة بين الناس وأما الشجر النابت في الأرض المملوكة فهو لمالكها وفي غير المملوكة ملك لمن سبق إليه وليس في الأحاديث ما يدل على أنه مشترك بين الناس ومما يؤيد الاشتراك في الكلاء والماء ما ثبت في - الصحيحين وغيرهما من حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم: "لا تمنعوا فضل الماء لتمنعوا به الكلأ"، وفي لفظ لمسلم: "لا يباع فضل الماء ليباع به الكلأ" وفي لفظ للبخاري: "لا تمنعوا فضل الماء لتمنعوا به فضل الكلأ" وأخرج أحمد وابن ماجه عن عائشة قالت: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يمنع نقع البئر وأخرج أحمد من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من منع فضل مائة أو فضل كلئه منعه الله عزوجل فضله يوم القيامة"، وأخرج مسلم "34/1565"، من حديث جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع فضل الماء وأخرج نحوه أهل السنن [أبو داود "3478"، النسائي "7/307"، الترمذي "1271"، وصححه الترمذي "3/570"، من حديث إياس بن عبد وقد ورد بزيادة المالح كما أخرجه الخطيب من حديث ابن عمر وإسناده ضعيف ورواه الطبراني

(1/594)


بإسناد حسن عن زيد بن جبير عن ابن عمر وله عنده طريق أخرى وأخرج ابن ماجه عن عائشة أنها قالت: يا رسول الله ما الشيء الذي لا يحل منعه؟ قال: "الملح والماء والنار" وإسناده ضعيف وأخرج الطبراني في - الصغير من حديث أنس: "خصلتان لا يحل منعهما الماء والنار" قال أبو حاتم: هذا حديث منكر.

(1/595)


باب المضاربة
[ فصل
شروطها الإيجاب بلفظها أو ما في حكمه والقبول أو الامتثال على التراخي ما لم يرد بين جائزي التصرف على مال من أيهما إلا من مسلم لكافر معلوم نقد يتعامل به حاضر أوفى حكمه وتفصيل كيفية الربح ورفض كل شرط يخالف موجبها].
قوله: "باب المضاربة"
أقول : لا شك في وقوع التعامل بها في زمن الصحابة رضي الله عنهم وقد فعلها جماعة من أكابرهم وحكى صاحب - النهاية المجتهد أنه لا خلاف بين المسلمين في جواز القراض وأنه مما كان في الجاهلية وأقره الإسلام انتهى وقال أبن حجر في - التخليص إنه إجماع صحيح قال والذي يقطع أنه كان في عصره صلى الله عليه وسلم فعلم به وأقره ولولا ذلك لما جاز.
قوله: "فصل: وشروطها الإيجاب بلفظها أو ما في حكمه".
أقول : لا يشترط فيها إلا مجرد التراضي فقد على التعامل وقدر الربح فإذا وقع ذلك فهذه المضاربة داخلة تحت قوله تعالى: {تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ} [النساء: 29]، وقد عرفناك في كتاب البيع وما فيه من الأبواب وما بعده أن هذا الاشتراط للألفاظ ليس عليه أثارة من علم وأما كونها بين جائزي التصرف فلا بد من ذلك لأن من لا جوز تصرفه لا حكم لصدور الرضا منه.
وأما قوله: "على مال من أيهما" فمستغنى عنه لأن مفهوم المضاربة ومعناها لا يوجد إلا بذلك وأما كون المال معلوما فذلك لا بد منه وإلا كانت جهالته ذريعة إلى اختلاط رأس المال بالربح فيكون معاملة مختلة وإذا كانت المضاربة في عروض فلا بد أن يتميز ما هو قيمة لها حتى يعلما أن الزائد عليه ربح ولا وجه لاشتراط كون رأس مالها مما يتعامل به الناس فإنها تصح في كل شيء يقع فيه البيع والشراء لأنها بيع منظور فيه إلى الربح مع بقاء رأس المال ولا يشترط حضور المال إذا كان معلوما عندهما وأما تفصيل كيفية الربح فأمر لا بد منه لأن ذلك هو الغرض من هذه المعاملة.

(1/595)


وأما قوله ورفض كل شرط يخالف موجبها فصحيح لأن ذكر هذا الشرط يعود على ما هما بصدده من هذه المعاملة بالنقض.
[ فصل
ويدخلها التعليق والتوقيت والحجر عما شاء المالك غالبا فيمتثل العامل وإلا ضمن التالف وله مطلقها كل تصرف إلا الخلط والمضاربة والقرض والسفتجه فإن فوض جاز الأولان وإن شارك الثاني في الربح لا الآخران لعرف].
قوله: "فصل: ويدخلها التعليق".
أقول : قد عرفناك أنه لا مانع من دخول التعليق والتوقبت مع حصول المناط المعتبر في المعاملات وهو التراضي فلا حجر علي المتعاملين في تعليق التعامل لوقت مستقبل وتوقيته بمدة معيتة وهكذا الحجر عما شاء المالك لأن له أن يشترط في ملكه مالم يكن رافعا لما يقتضبه المعاملة وإذا لم تمثل العامل كان متعديا ضامنا لما خالف فيه لأنه تصرف في ملك غيره بغير إذنه. وأما كون العامل في مطلق المضاربة كل تصرف فظاهر لكن لابد من تقييد هذا العموم بالتصرفات الجارية علي نمط تصفات العارفين بما قي جلب نفع أو دفع ضر، ولا وجه لمنع الخلط إذا رأي العامل في ذلك صلاحا وأما المضاربة من العامل لغيره فلا يجوز إلا بإذن المالك لأنه ضاربه ولم يضارب غيره ولا تكون مضاربة إلا وللعامل الآخر نصيب من الربح فربما يفضي ذلك إلي ما فيه ضرر علي المالك بنقص في الربح أو حدوث خسر وهكذا ليس له أن يقرض مال المرابحة لأنه خلاف ما هو المقصود منها وهو الربح وقد يعرض للمستقرض إخسار يمتنع منه القضاء. وأما السفتجة، فإن كان فيها ما يعود علي مال المضاربة بمصلحة فلا بأس بها.
وأما قوله: "فإن فوض جاز الأولان...الخ"، فلا يخفي التفويض إنما ينصرف إلي ما فيه مصلحة تعود علي المال وصاحبه فليس له أن يفعل ما لا مصلحة فيه أو فيه مظنة مفسدة وتفويض العاقل لا ينصرق إلي ما فيه ضرر أصلا فطلب النفع مقصود مع التفويض لأنه الغرض الذي تقتضيه هذه المعاملة ويوجبه العقل.
[ فصل
ومؤن المالك كلها من ربحه ثم من رأسه وكذلك مؤن العامل وخادمه المعتادة في

(1/596)


السفر فقط مهما اشتغل بها ولم يجوز استغراق الربح وفي مرضه ونحوه تردد فإن أنفق بنية الرجوع ثم تلف المال بين وغرم المالك وصدقه مع البقاء ولا ينفرد بأخذ حصته ويملكها بالظهور فيتبعها أحكام الملك يستقر بالقسمة فلو خسر قبلها وبعد التصرف آثر الجبر وإن انكشف الخسر بعدها].
قوله: " فصل : ومؤن المال من ربحه" الخ.
أقول : الاعتماد في مثل هذا على ما حصل عليه التراضي فلو تراضيا على أن يكون المؤن من نصيب العامل من الربع لم يكن بذلك بأس وهكذا العكس وأما تقييد ذكل بعد تجويز استغراق الربح فوجهه أن تجويز استغراقه يذهب بالغرض المقصود منها ولكنه يقال التراضي يحلل ذلك ويسوغه والأصل عدم المانح والدليل على مدعيه.
وأما قوله: "فإن أنفق بينة الرجوع" الخ فلا بد من إذن المالك له بذلك وإلا فلا وجه للرجوع إلا أن يقتضي ذلك الحادثة وتوجبه الضرورة.
وأما قوله: "ولا ينفرد العامل بأخذ حصته" فلا وجه له لأن هذه المعاملة بينهما قد اقتضت بأن لكل واحد منهما أن يأخذ نصيبه إلا لشرط.
وأما قوله: "ويملكها بالظهور" فغير مسلم فإن مجرد الظهور مع عدم القبض معرض للذهاب بخسر أو بأي سبب من أسباب التلف فكيف تتعلق بهذا الربح الذي لم يحصل منه إلا مجرد الظهور أحكام الملك من وجوب الزكاة وقضاء الدين منه ونحو ذلك مع وجود مقتضى الرجاء وعدمه ومظنه سلامته وتلفه.
[ فصل
وللمالك شراء سلع المضاربة منه وإن فقد الربح والبيع منه إن فقد لا من غيره فيهما والزيادة المعلومة على مالها ما لم يكن قد زاد أو نقص والإذن باقتراض معلوم لها ولا يدخل في مالها إلا ما اشتري بعد عقدها بنيتها أو بمالها ولو بلا نية ولا تلحقه الزيادة والنقص بعد العقد إلا لمصلحة ولا ينعزل بالغين المعتاد وشراء من يعتق على المالك أو عليه أو ينفسخ نكاحه والمخالفة في الحفظ إن سلم وإعانة المالك له في العمل ولا بعزله المال عرض يجوز الربح فيه].
قوله: "فصل: وللمالك شراء سلع المضاربة" الخ.
أقول : العامل إنما هو بمنزلة الوكيل لصاحب المال والوكالة أمرها إلى الموكل فمتى أراد

(1/597)


عزل الوكيل عزله مع استحقاقه لما قد حصل من نصيبه من الربح إلى وقت العزل فليس ها هنا ما يوجب تسليط العامل على المال حتى يقال إن اشترى المضاربة منه بل ها هنا ما هو أقرب مسافة وأقل مؤنة وهو أن يأخذ المالك سلع المضاربة لأنها ملكه وإذا كانت قد اشتملت على ربح أعطاه نصيبه منه وأما بيع المالك لها من العامل فيها فلا بأس بذلك لأنه باع ملكه إلى غيره وليس من شرط صحة هذا البيع فقدان الربح لأنه يمكن الوقوف على مقداره بتقدير العدول فيكون ذلك خارجا عن البيع.
وأما قوله: "لا من غيره فيهما" فقد عرفناك أن له عزلة متى شاء مع تسليم قدر حصته مما قد ظهر من الربح.
وأما قوله: "والزيادة والنقص المعلومة على مالها" فلا بأس بذلك ولا وجه لتقييده بقوله ما لم يكن قد زاد أو نقص فإن الزيادة المعلومة لا تمنع منها زيادة الأصل أو نقصانه وتعليلهم ذلك بأنه يؤدي إلى جبر خسر كل واحد منهما بربح الآخر تعليل في غاية السقوط فإن المال واحد والمالك واحد والعامل واحد والزيادة لهما والخسر عليهما وأما إذن المالك للعامل باقتراض مال معلوم فلا مانع منه.
وأما قوله: "ولا يدخل في مالها" الخ فلا يخفاك أن الظاهر في كل ما اشتري بمال المضاربة أنه داخل في المضاربة من غير فرق بين أن ينوي كون ذلك المشتري لها أو لم ينو وما اشترى بغير مالها فهو غير داخل في المضاربة به سواء كان ذلك قبل عقدها أو بعده فإن تراضيا بإلحاق شيء بمال المضاربة من ملك رب المال كان ذلك من الزيادة فيه كما تقدم.
وأما قوله: "لا ينعزل بالغبن المعتاد" فظاهر لأن هذا شأن هذه المعاملة تارة يحصل الربح وتارة يحصل الخسر.
وأما قوله: "وشراء من يعتق عليه" فقد عرفناك أن المال باق على ملك المالك فلا بد أن يأذن بذلك المالك وإلا فلا ينفذ الشراء لأنه خسر محض بغير إذن فلا وجه لعتق من يعتق على العامل إلا أن يكون قد ملك جزءا من مال شراء العتق وضمن وهكذ لا ينفذ شراء من ينفسخ ناكحه إلا بإذن من المالك.
وأما قوله: "والمخالفة في الحفظ إن سلم" فلكون تلك المخالفة لم يظهر لها أثر وقد عرفناك أنه يعزله متى شاء فذكر هذه الأمور مبني على لزوم ما وقع بينهما عند الدخول في هذه المعاملة وهكذا لا ينعزل بإعانة المالك له في العمل.
وأما قوله: "ولا يعزله والمال عرض يجوز الربح فيه" فلا وجه له بل يعزله ويأخذ نصيبه من الربح إذا كان قد ظهر وإن لم يكن قد ظهر وليس إلا مجرد التجويز فلا يلزم للعامل شيء.

(1/598)


[ فصل
وفسادها الأصلي يوجب أجرة المثل مطلقا والطاريء الأقل منها ومن المسمى مع الربح فقط ويوجبان الضمان إلا للخسر].
قوله: "فصل: وفسادها الأصلي" الخ.
أقول : قد عرفناك غير مرة أن حكم هؤلاء على المعاملات بالفساد يرجع إلى فوات أمور لفظية لا تقتضي خلل المعاملات قط ولا يتعلق بها حكم فإذا حصل التراضي بين صاحب المال والعامل على أن يتصرف بماله على نصيب من الربح معلوم فهذه مضاربة صحيحة وإذا لم يحصل هذا فهي باطلة وجودها كعدمها ولا وجه لجعل أمر ثالث بين الصحة والبطلان وإثبات أحكام له مخالفة للأحكام الكائنة في جانبي الصحة والبطلان وقد عرفناك أيضا أن لصاحب المال عزل العامل متى شاء فإذا عزله استحق ما سماه له من الربح إذا كان قد حصل الربح وإذا لم يحصل بل هو باق في أعيان المضاربة كان للعامل ما يقدره العدول من الربح فإذا قدروا جملة سلم له صاحب المال نصيبه هكذا ينبغي أن يقال وإذا اختار العامل الترك فالأمر هكذا وأما ما ذكره من الضمان فقد قدمنا الكلام عليه في الفصل الذي عقده لمن يضمن ومن لا يضمن في آخر كتاب الإجارات.
[ فصل
وتبطل ونحوها بموت المالك فيسلم العامل الحاصل مننقد أو عرض تيقن أن لا ربح فيه فورا وإلا ضمن ولا يلزمه البيع ويبيع بولاية ما فيه ربح ولا يلزمه التعجيل وبموت العامل وعلى وارثه وله كذلك فإن أجملها الميت فدين وإن أغفلها حكم بالتلف وإن أنكرها الوارث أو أدعى بتلفها معه فالقول له لا مع الميت أو كونه ادعاه فيبين والقول للمالك في كيفية الربح ونفيه بعد هذا مال المضاربة وفيه ربح وفي أن المالك قرض أو غصب لا قراض وللعامل في رد المال وتلفه في الصحيحة فقط وفي قدره وخسره وربحه وأنه من بعد العزل وفي نفي القبض والحجر مطلقا ولمدعي المال وديعة منهما].
قوله: "فصل: وتبطل ونحوها بموت المالك" الخ.
أقول : المناط الذي جاز للعامل التصرف في مال غيره به هو الإذن من المالك والتراضي الواقع بينهما فإذا مات صاحب المال صار ذلك المال لغيره فإن قرر المضاربة كما كانت عليه في حياة مورثه كانت هذه مضاربة مستقلة حاصلة بينهما بمجرد التراضي وإذا لم يقرر المضاربة

(1/599)


كما كانت عليه كان على العامل إرجاع ماله إليه وياخذ نصيبه من الربح وأما الأعراض التي قد صار فيها ربح فله من ربحها ما قدره العدول.
وأما قوله: "فورا وإلا ضمن" ففيه نظر لأنه لا يتضيق الرد إلا بالطلب ولم تكن يده بد عدوان إلا بترك الرد مع الطلب وأما كونه لا يلزمه البيع فواضح لأن صاحب المال قد مات وصار المال إلى وارثه فلم يبق له ولاية التصرف فضلا عن أن يلزمه بيع ما لا ربح فيه وهكذا لا يلزمه بيع ما فيه ربح إلا بإذن من المالك وما كان أحق هذه الأمور بعدم شغلة الحيز بها وإتعاب الطلبة بدرسها فإنها أمور واضحة قد لا تلتبس على العامي فكيف بمن له بعض فقاهة وهكذا تبطل المضاربة بموت العامل لأن الإذن من المالك لم يكن إلا له ولا يلزم وارثه إلا ما يلزم العامل ولو مات المالك لكن على الوجه الذي ذكرناه.
قوله: "فإن أجملها الميت فدين".
أقول : ينبغي أن يقال إن الميت إذا قال عنده لفلان مال مضاربة هكذا على جهة الإجمال طولب وارثه بتعيينه فإن أنكر معرفته فليس عليه إلا اليمين وعلى مالك المال البينة على تعيينه فإن عجز عن ذلك كله كان ما تضمنه ذلك الإجمال ثابتا في تركه الميت وإذا لم يمكن تعيين مقداره رجع إلى أوساط ما يتعامل به الناس في المضاربات.
وأما قوله: "فإن أغفلها حكم بالتلف" فمن غرائب التفريعات وعجائب الاجتهادات فإن مجرد هذا الإغفال لا يكون حجة على رب المال بل يرجع إلى البينة من رب المال أو اليمين من الوراث هذا على تقدير أنه لم يتقرر أصل التعامل أما إذا تقرر فعلى الوارث البينة بأن مورثه قد رد مال المضاربة أو أنه قد تلف بسبب لا يوجب الضمان ومن منكرات التفريعات قول المصنف إن الوارث إذا ادعى تلفها معه فالقول له وإن ادعى تلفها مع الميت فعليه البينة فإنه قلب للشريعة.
قوله: "والقول للمالك في كيفية الربح".
أقول : البينة على مدعي الزيادة سواء كان العامل أو رب المال.
وأما قوله: "ونفيه" فوجهه أن الأصل عدمه فيكون القول قول النافي منهما.
وأما قوله: "وفي أن المال قرض أو غصب لاقراض" فلا يخفاك أن ثبوت اليد يقتضي أنه بمسوغ شرعي فالبينة على مدعي الغصب وأما الاختلاف في كونه قرضا أو قراضا فالبينة على مدعي القراض وهو العامل لأنه يدعي ثبوت حق له في الربح وإلا عدمه.
وأما قوله: "وللعامل في رد المال وتلفه" في الصحيحة فقط فقد عللوا ذلك بأنه أمين وقد عرفناك أن الدليل وهو قوله صلى الله عليه وسلم: "على اليد ما أخذت حتى تؤديه"، وقوله صلى الله عليه وسلم: "أد الأمانة إلى من أئتمنك ولا تخن من خانك"، يدلان عن وجوب الرد عليه وحديث: "البينة على من المدعي واليمين على المدعي عليه" يدل على أن على العامل البينة فيما ادعى رده وهكذا فيما أدعى تلفه لأن التلف خلاف الأصل.
وأما قوله: "وفي قدره" فلا وجه له بل القول قوله نافي الزيادة والبينة على مدعيها لأن

(1/600)


الأصل عدمها وهكذا في الخسر والربح يكون القول قول نافي الزيادة والبينة على مدعيها وهكذا القول قول نافي حدوث الربح بعد العزل وبعد القبض والبينة على مدعيها وأما نافي الحجر فالقول قوله لأن الأصل عدمه.
وأما قوله: "والمدعي المال وديعة منهما" فوجهه أن مدعي كونه مضاربة يثبت لنفسه حقا في الربح والأصل عدمه هذا إذا كان المدعي هو العامل وأما إذا كان المدعي المالك فإن كان يريد بهذه الدعوى تضمين العامل فالأصل عدم الضمان والحاصل أن هذه المسائل ظلمات بعضها فوق بعض وقد كشفنا عنها ما يحول بينك وبين عدم إدراكها بعين البصيرة.
[ فصل
وإذا اختلطت فالتبست أملاك الأعداد أو أوقافها لا بخالط قسمت وبين مدعي الزيادة والفضل إلا ملكا بوقف قيل أو وقفين لآدمي ولله فيصيران للمصالح رقبة الأول وغلة الثاني وبخالط متعد ملك القيمي ومختلف المثلى لزمته الغرامة والتصدق بما خشي فساده قبل المراضاة وضمن المثلى المتفق وقسمه كما مر].
قوله: "فصل: وإذا اختلطت فالتبست أملاك الأعداد" الخ.
أقول : إذا كان الاختلاط بغير خالط ممن يتعلق به الضمان وذلك كالاختلاط بالسيل أو الربح أو نحوهما فإذا لم يمكن الوقوف على نصيب كل واحد بوجه من الوجوه لم يبق طريق من طرق العدل إلا القسمة على رؤوس المتنازعين وبين مدعي الزيادة في القدر أو الجنس ولا وجه للاستثناء بقوله إلا ملكا بوقف أو وقفين بل يقسم ويجعل الوقف بمنزلة المنازع من المالكين فيكون له نصيب كنصيبه وأما الجزم بإبطال ملك المالك ومصير الكل للمصالح فمن الظلم البين للمالك في ملكه المعصوم بعصمة الشرع بغير سبب يوجبه الشرع بل بمجرد المجازفة وأي دليل يدل على تأثير ما هو وقف على ما هو ملك وعلى نزع ملك المالك مع إمكان السلوك به في طريق من طرائق العدل.
قوله: "ويخالط متعد" الخ.
أقول : الخلط على وجه التعدي جناية مضمونة فغاية ما يلزمه أرش النقص الحاصل بالخلط ولا وجه لقوله ملك القيمي ومختلف المثلى بل الملك باق لمالكه والتعليل بأن فعله قد صار استهلاكا فنحن نمنع أن يكون هذا استهلاكا ثم نمنع أن يكون الاستهلا مقتضيا لخروج الملك عن مالكه والحاصل أنه إذا أمكن التمييز كان ذلك واجبا على الخالط وإن تعذر فليس عليه إلا الأرش الذي نقص به ذلك المخطوط بالخلط وإذا عرفت هذا عرفت عدم صحة ما رتبه المصنف عليه فلا تطول برده.

(1/601)