السيل
الجرار المتدفق على حدائق الأزهار
كتاب الإقرار
[ فصل
إنما يصح من مكلف مختار لم يعلم هزله ولا كذبه
عقلا أو شرعا في حق يتعلق به في الحال ويصح من
الأخرس غالبا ومن الوكيل فيما وليه إلا القصاص
ونحوه ودعواه غير إقرار للأصل].
قوله: "فصل: إنما يصح من مكلف".
أقول : أما اشتراط كونه مكلفا فوجهه أن الصبي
والمجنون ممنوعان من التصرف بما لهما بالعوض
ومحجوران عن ذلك فكيف يصح إقرارهما بإخراج شي
من مالهما لغير عوض وأما
(1/761)
كونه مختارا
فوجهه أن إقرار المكره لا حكم له لحديث: "رفع
عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه"
وهو حديث صالح للاحتجاج به ولا سيما بعد
تأييده بقوله عزوجل: {رَبَّنَا لا
تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا}
[البقرة: 286]، إلى آخر الآية وما ثبت في
الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أن الله
عزوجل قال: "قد فعلت"، كما قدمنا.
وأما كونه لم يعلم هزله فوجهه أن ذلك ليس
بإقرار إنما هو لقصد آخر وأما إذا لم يعلم
هزله كان مؤاخذا بإقراره ودعوى كونه هازلا
خلاف الظاهر وهكذا إذا علم كذبه لأن الإقرار
الذي يلزم به الحق هو ما كان مطابقا للخارج
وإذا لم يكن مطابقا له فليس هو الإقرار الذي
تجب به الحقوق.
وأما كونه في حق يتعلق به فوجهه أن الحق الذي
أقر به لو كان متعلقا بغيره كان ذلك إقرارا
على الغير وهو باطل.
وأما كونه يصح الإقرار من الأخرس فوجهه أنه
يمكنه أن يشير إشارة يفهم عندها مراده وذلك هو
معنى الإقرار لأن اللفظ لا يشترط في هذا الباب
كما يشترط في غيره ويصح أن يكون الإقرار في
الزنا والقذف بالإشارة كما هو الحق من أن
الإشارة المفهمة تكفي فيهما ولا وجه لاشتراط
تكرر الإقرار في الزنا على أنه لو كان ذلك شرط
لكان تكرير الإشارة المفهمة بمنزلة تكرير
الإقرار.
قوله: "ومن الوكيل فيما وليه".
أقول : لا وجه لهذا فإن التوكيل في الأصل إنما
هو لمطالبة الخصم أو لمدافعته ولا يدخل
للإقرار على الموكل في هذا بل هو إضرار به لم
يأذن له ولا جعله إليه فإن وكله وكالة مفوضة
فهذا التفويض إنما ينصرف إلى ما ينفعه لا إلى
ما يضره نعم إذا وكله بأن ينشيء الإقرار عنه
أو يخبر به كان هذا التوكيل مقتضيا لصحة إقرار
الوكيل ولا مانع من ذلك ولا وجه لاستثناء
القصاص ونحوه بل يصح إقرار الوكيل بالإقرار
بكل حق من مال أو قصاص أو حد إذا قد وجد
المقتضى لصحة الإقرار والنفي المانع من صحته.
وأما كون دعوى الوكيل غير إقرار للأصل فظاهر
لأنه إنما ادعاه تعبيرا عن الموكل وخصومة من
جهته فلا يلزم تسليمه إلى الموكل إذا صار
إليه.
[ فصل
ولا يصح من مأذون إلا فيما أذن فيه ولو أقر
بإتلاف ومحجور إلا لبعد رفعه وعبد إلا فيما
يتعلق بذمته ابتداء أو لإنكار سيده أو يضره
كالقطع لا المال عند م ولا من الوصي ونحوه إلا
بأنه قبض أو باع].
(1/762)
قوله: "فصل:
ولا يصح من مأذون إلا فيما أذن فيه".
أقول : لما أذن له مالكه أو وليه بالتصرف في
شيء من المال فكأنه التزم بما يقع منه مما فيه
نقص عليه بالإقرار أو الخسر كما رضي بما يحصل
من جهته من الفوائد فمن هذه الحيثية كان
إقراره صحيحا ولو أقر بإتلاف وأما المحجور فهو
بالحجر قد صار مكفوفا عن التصرف فيما فيه نفع
فضلا عن إخراج جزء من المال بالإقرار فلا يصح
منه الإقرار ما دام محجورا وهكذا العبد لا يصح
إقراره إلا بما لا ضرر فيه على سيده لأنه لم
يأذن له بذلك فإن أقر بما يلزمه ولم يوافقه
السيد على ذلك فهو قد أقر بما لا ضرر فيه على
السيد فيكون إقراره صحيحا يطالب به العبد إذا
عتق هذا حيث لم يثبت ذلك عليه إلا بإقراره أما
لو ثبت عليه ببرهان غير الإقرار لم يحتج إلى
موافقة السيد بل يكون له حكم الأموال التي
تلزم المماليك مع الفرق بين ما هو لازم عن
جناية أو عن معاملة.
والحاصل أن ما لزم العبد بغير إذن سيده فهو
متعلق بالعبد يطالب به إذا عتق ولو كان ذلك
مما يجب فيه القصاص فإنه لا يقام عليه إلا إذا
عتق إلا أن يثبت عليه ببرهان غير الإقرار كان
على السيد تسليمه لاستيفاء القصاص أو تسليم
الدية كما سيأتي في الجنايات إن شاء الله
تعالى وهكذا الإقرار من الوصي والولي لأنه
إقرار بمال الغير وليس ذلك إليهما إلا إذا أقر
بما توجبه الوصاية من التصرفات كان ذلك مقبولا
لأنهما مأذونان من جهة الشرع بذلك.
[ فصل
ولا يصح لمعين إلا لمصادقته ولو بعد التكذيب
ما لم يصدق ويعتبر في النسب والسبب التصادق
أيضا كسكوت المقر به حيث علم وله الإنكار وعدم
الواسطة وإلا شاركه المقر في الإرث لا النسب
ويصح بالعلوق ومن المرأة قبل الزواجة وحالها
وبعدها مالم يستلزم لحوق الزوج ومن الزوج ولا
يلحقها إن أنكرت ولا يصح من السبى في الرحامات
والبينة على مدعي توليج المقربة].
قوله: "فصل: ولا يصح لمعين إلا بمصادقته".
أقول : وجه هذا ظاهر فإنه لا يدخل في ملك
الإنسان إلا ما يقبله ويرضى به ولا يصح إلزامه
بتملك شيء وهو ينفي ملكه والمراد من المصادقة
القبول وعدم الرد ولو كان التصديق بعد التكذيب
لأنه قد يكذبه ثم يظهر له بعد ذلك أن الإقرار
صحيح فالاعتبار بما ينتهي إليه الحال أما لو
كان المقر قد صادقه في هذا التكذيب كان مبطلا
لإقراره السابق فلا يؤاخذ به وهذا ظاهر لا
يخفى فقد صار بالتكذيب أولا وتصديقه للمكذب
ثانيا في حكم من لم يقع منه إقرار فلا وجه
لمصيره لبيت المال بل يبقى في يده.
(1/763)
قوله: "وفي
النسب والسبب التصادق" الخ.
أقول : الإقرار هو أقوى الأسباب في ثبوت
الحقوق والحدود والأنساب والأسباب فإذا وقع
على وجه الصحة كان معمولا به إذا كان من جميع
من له دخل في ذلك النسب أو السبب ولا ينافي
هذا ما صح من قوله صلى الله عليه وسلم: "الولد
للفراش"، [البخاري "6818"، مسلم "37/1458"،
أبو داود "2237"، أحمد "6/129، 200، 237"،
النسائي "3484"، ابن ماجة "2004"]، فإن هذا
الحكم إنما هو مع الاختلاف كما شهد لذلك سبب
الحديث وأما مع الاتفاق وحصول الإقرار فلا
رجوع إلى الفراش لأنه قد وجد ما هو أقوى منه
ولا شك أن السكوت من المقربة تقرير لمضمون
الإقرار فهو تصديق ولا وجه للفرق بين الإقرار
بالمال والإقرار بالنسب والسبب بل مجرد القبول
ولو بالسكوت يكفي في الجميع.
قوله: "وعدم الواسطة" الخ.
أقول : لم يظهر لهذا الاشتراط وجه بل إذا كان
الإقرار والتصادق بشيء لا يضر بالغير ولا يوجب
إلزامه بما لا يلزمه فهو صحيح ثابت لا وجه
لرده ولا مقتضى لعدم قبوله فيثبت النسب والإرث
بذلك ويكفي في الأمرين جميعا ومن ادعى أن ثم
مانعا مقبولا فعليه البيان.
قوله: "ويصح بالعلوق".
أقول : وجهه أنه أقر بما يوجبه الفراش ويقتضيه
حكم الشرع فكان إقرارا صحيحا شرعيا لا يقبل
منه بعد ذلك ما يخالفه وهكذا إقرار المرأة
بالولد الصحيح فإن أضافته إلى أب معين فلا بد
من مصادقته لها فإن خالفها كان الواجب الرجوع
إلى ما يقتضيه حكم الفراش وهذه المسائل ظاهرة
واضحة مأخوذة من كليات الشريعة وجزئياتها.
قوله: "ولا يصح من السبى في الرحامات".
أقول : وجه هذا أنه يتضمن الإضرار بالسيد إما
بتحريم ما هو حلال قبل الإقرار أو بتقديم غيره
في الميراث عليه وقد عرفت أن الإقرار لا يصح
بما فيه إضرار بالغير بوجه من الوجوه وإنما
يصح بما هو خاص بالمقر لا يتعداه إلى غيره كما
تقدم تقريره أما لو كان ذلك الإقرار لا يضر
بالسيد لا في الحال ولا في الاستقبال فهو صحيح
وله حكمه في الأمور التي يوجبها النسب ولا
يلحق ضررها بالغير فإذا أقر المملوك بما يوجب
تحريم النكاح بينه وبين من أقر به يسبب
القرابة المقتضية لذلك كان هذا الإقرار صحيحا
ولا وجه لرده.
قوله: "والبينة على مدعي توليج المقربه".
أقول : وجهه أن الظاهر صحة الإقرار فدعوى
التوليج خلاف الظاهر فيكلف مدعيه البينة
المفيدة لكونه واقعا توليجا وهذا إذا لم يظهر
من القرائن القوية أنه لقصد التوليج فإن ظهر
ذلك كان الظاهر مع المدعي وعلى المقر أن ينهض
لما يصحح إقراره وإلا كان المعمول به هو ما
اقتضته القرائن القوية وقد قدمنا أن العمل
بالقرائن القوية مع عدم ما هو أقوى منها مجمع
عليه.
(1/764)
[ فصل
ويشترط في النكاح تصادقهما وارتفاع الموانع
قيل وتصديق الولي وذات الزوج يوقف حتى تبين
ولا حق لها قبله منهما وترث الخارج ويرثها
الداخل ويصح بماض فيستصحب ولا يقران على باطل
وفي الفاسد خلاف].
قوله: "فصل: ويشترط في النكاح تصادقهما
وارتفاع الموانع".
أقول : ارتفاع الموانع شرط في كل الإقرارات من
غير فرق بين النسب والمال والسبب فلا بد أن
يكون الإقرار غير معارض بمانع يمنع من العمل
به كما هو شرط كل مقتض كائنا ما كان أن يتجرد
عن المانع الذي يصلح للمانعية فلا وجه لتخصيص
هذه الصورة بهذا الشرط ولا يصح إقرار كل واحد
من الزوجين إلا بما لا ضرر فيه على الآخر وإلا
كان العمل على البينة والحكم وبهذا تعرف ما هو
الوجه فيما ذكره المصنف بعد هذا وما ذكره من
صحة الإقرار بنكاح ماض وأنه يستصحب فيه الحال
فوجهه أن الاستصحاب يقتضي عدم ارتفاعه فلا
يرتفع إلا بما يصلح للنقل عن الاستصحاب وأما
كونهما لا يقران على باطل فظاهر وأما الفاسد
فقد عرفناك غير مرة أنه لا واسطة بين الصحيح
والباطل فإن كان باطلا فله حكمه وإن كان صحيحا
فله حكمه.
[ فصل
ومن أقر بوارث له أو ابن عم ورثه إلا مع أشهر
منه فالثلث فما دون إن استحقه لو صح نسبه
وبأحد عبيده فمات قبل التعيين عتقوا وسعوا
للورثة حسب الحال وثبت لهم نسب واحد وميراثه
ونصيبه من مال السعاية وبدين على مورثه لزمت
حصته في حصته وبما ليس في يده سلمه متى صار
إليه بإرث أو غيره ولا يلزمه الاستفداء ويتثنى
ضمانه ولزيد ثم قال بل لعمرو سلم لزيد العين
ولعمرو قيمتها م إلا مع الحكم لزيد].
قوله: "فصل: ومن أقر بوارث له أوابن عم".
أقول : هذا إقرار صحيح لأنه أقر بما لا يضر
بالغير فيستحق ميراثه.
وأما قوله: "إلا مع أشهر منه فالثلث فما دون"
فلا وجه له لأن إقراره فيه إضرار بهذا الذي
نسبه أشهر فلا يقبل ولا يصح ولا يستحق شيئا
وليس هذا من باب الوصية حتى يقال إنه يعطي ذلك
من باب الوصية لأن هذا الإقرار الباطل ليس هو
وصية بل هو إقرار بنسب أو بثبوت ميراث وأين
هذا من الوصية؟!
(1/765)
قوله: "وبأحد
عبيده فمات قبل التعيين عتقوا" الخ.
أقول : قد قررنا فيما سبق أن القرعة قد عمل
بها رسول الله صلى الله عليه وسلم في مواطن
منها حديث الستة الأعبد ومنها الجماعة الذين
ادعوا ابن الأمة أنه ابن لكل واحد منهم ومنها
مع تعارض البينتين فأفاد ذلك أنها حكم شرعي
عند عروض اللبس وعدم الاهتداء إلى حقيقة الحال
وقد أوضحنا الكلام في هذا في كتاب العتق وفي
كتاب النكاح وإذا عرفت هذا كان المتعين في هذا
الإقرار بأحد العبيد إذا تعذر التعيين هو
الإقراع بينهم فمن خرجت قرعته كان هو المستحق
لما تضمنه الإقرار بلا سراية إلى غيره ولا
سعاية ومن لم يسعه ما صح عن الشارع فهو المضيق
على نفسه.
قوله: "وبدين على مورثه لزمه حصته في حصته".
أقول : هذا صحيح لأنه أقر بشيء يعود ضرره عليه
إن كان هو الوارث وحده فيجب عليه تسليم ما أقر
به من التركة وإن كان معه وارث آخر لم يلزم
ذلك الآخر شيء وعلى المقر حصته من الدين من
حصته من التركة وهكذا من أقر بشيء في يده أنه
مملوك لغير من هو مالك له في الظاهر فإن هذا
الإقرار لا يصح في الحال لأنه إضرار بالغير
ومتى صار إلى هذا المقر ودخل في ملكه وجب عليه
تسليمه إلى من أقر له به بموجب إقراره السابق
سواء كان حال الإقرار في يده أو لم يكن في يده
فإن مجرد الإقرار يكفي ويوجب التسليم إذ لا
مزيد تأثير لثبوت اليد وهكذا من أقر بأن هذا
الشيء لزيد ثم أقر إقرارا آخر بأنه لعمرو فقد
صار إقراره الأول لازما له فيجب عليه تسليمه
لمن أقر له به ولا حكم لإقراره الآخر لأنه
رجوع عن الإقرار وهو لا يصح وهو أيضا إضرار
بمن أقر له أولا وذلك مانع من صحة الإقرار ولا
يجب عليه تسليم شيء إلى من أقر له آخرا لأنه
إقرار باطل كما عرفت ولا يحرم بالإقرار الباطل
شيء ولا يثبت له حكم.
[ فصل
وعلي ونحوه للقصاص والدين وعندي ونحوه للقذف
والعين وليس لي عليه حق يتعلق بالجراحة إسقاط
للقصاص فيما دون النفس إلا للأرش وما دخل في
البيع تبعا دخل فيه ولا يدخل الظرف في المظروف
إلا لعرف ويجب الحق بالإقرار بفرع ثبوته أو
طلبه أو نحوهما واليد في نحو هذا لي رده فلان
للراد وتقييده بالشرط المستقبل أو بما في
الدار ونحوها خالية يبطله غالبا لا بوقت أو
عوض معين فيتقيد].
قوله: "فصل: و علي أو نحوه للقصاص والدين"
الخ.
أقول : اعلم أن الإقرارات يجب حملها على
الأعراف الغالبة لأنها المقصودة للمقر في
(1/766)
محاوراته كلها
والخروج عن ذلك نادر والنادر لا يجوز الحمل
عليه ولا الحكم به لأنه خلاف ما هو الظاهر
المتبادر وإذا عرفت هذا نظرت في عرف المقر
وأهل محله إن كان لهم عرف في هذه الألفاظ كان
العمل على ذلك سواء كان ما هو عرف لهم موافقا
لما ذكره المصنف أو مخالفا له فإن لم يكن في
ذلك عرف أو كان العرف مختلفا ولا غالب وجب
الرجوع إلا عرف الشرع إن وجد فإن لم يوجد كان
العمل على ما تقتضيه لغة العرب إن كان المقر
عربيا وإن كان غير عربي كان العمل على ما
تقتضيه لغته.
وبهذا تعرف أنه لا وجه لما ذكره المصنف في هذه
الصور لأنا لو فرضنا أن هذه المعاني التي
ذكرها هي المعاني الشرعية أو المعاني اللغوية
لم يجز حمل من غلب عليه عرف بلده عليها لما هو
معلوم من أنه يتكلم بما يقتضيه عرفه وعرف أهل
بلده فحمل إقراره على معنى غير ذلك ظلم له أو
لمن أقر له أو ظلم لهما.
قوله: "وما دخل في المبيع تبعا دخل فيه".
أقول : وجه هذا ظاهر لأن الإقرار بالعين
يستلزم الإقرار بما لا بد لها منه في عرف
المقر فلزمه ذلك وأما كونه لا يدخل الظرف في
المظروف فقد أصاب بتقييده بقوله إلا لعرف وكان
عليه أن يقيد ما ذكره في أول الفصل بهذا.
قوله: "ويجب الحق بالإقرار بفرع ثبوته" الخ.
أقول : وجه هذا أن الإقرار بما هو فرع لثبوت
الشيء إقرار بثبوت ذلك الشيء فمن قال قد قضيتك
ما كان لك علي من الدين أو قال لمن ادعى عليه
عينا بعها منى أو نحو ذلك فهو بهذه الدعوى
وهذا الطلب قد أقر بأن ذلك الشيء للمدعي فيجب
استصحاب الحال والحكم عليه بثبوت ما أقر
بثبوته حتى يأتي بما ينقل عن هذا الاستصحاب
وهذا مسلك شرعي لا يمكن الحكم بالعدل إلا
بأعماله لا بإهماله فإن ذلك جور وظلم ومن هذا
القبيل قول المصنف وهذا لي رده فإن الإقرار
لفلان بأنه رده إليه إقرار بفرع ثبوت يد فلان
على ذلك الشيء فيستصحب الحال في ثبوت يده حتى
ينقل عنها ناقل صحيح.
قوله: "وتقييده بالشرط المستقبل أو بما في
الدار ونحوها خالية يبطله".
أقول : لا وجه لإبطال الإقرار المقيد بشرط
مستقبل فإن لزوم الشيء في زمان مستقبل قد يكون
لسبب حلول أجل أو وصية مقيدة بذلك أو عدة
محالة على وقت مستقبل والاحتمالات في مثل هذا
كثيرة وجعل الاستقبال مانعا هو مجرد دعوى لم
ينتهض عليها دليل وأما بطلا الإقرار بما في
الدار مع انكشافها خالية فهذا إقرار باطل وقد
تقدم في أول الإقرار ما يدل على بطلان هذا
الإقرار وإلزام المقر بشيء والحال هكذا إلزام
له بما لا يلزمه شرعا ولا عقلا.
وأما قوله: "لا لوقت أو عوض معين فيتقيد"
فوجهه ظاهر لما قدمنا في الشرط وهكذا من أقر
بشيء عليه مقيدا له بأنه من قيمة كذا فإن هذا
القيد قد وجب حمل إقراره عليه فلا يجوز الحكم
عليه ببعض كلامه دون بعض وأما ما يقال من أن
الإقرار بالشيء قد لزم، وقوله
(1/767)
إنه من قيمة
كذا دعوى فهذا جمود وظلم للمقر لأن له ما
يقتضيه آخر كلامه كما كان عليه ما يقتضي أول
كلامه.
[ فصل
ويصح بالمجهول جنسا وقدرا فيفسره ويحلف ولو
قسرا ويصدق وارثه فإن قال مال كثير أو نحوه
فهو لنصاب جنس فسر به لا دونه وغنم كثيرة
ونحوها لعشر والجمع لثلاثة وكذا درهم وأخواته
لدرهم وشيء أو عشرة لما فسر إلا فهما من أدنى
مال ولي ولزيد بينهما وأرباعا له ثلاثة ومن
واحد إلى عشرة لثمانية ودرهم بل درهمان
للدرهمين لا مدان فلثلاثة ويكفي تفسير
المستثنى من الجنس متصلا غير مستغرق والعطف
المشار له للأول في الثبوت في الذمة أو في
العدد ويصرف في الفقراء ما جهل أو الوارث
مستحقه].
قوله: "فصل: ويصح بالمجهول جنسا" الخ.
أقول : وجه ذلك أنه قد لزمه بإقراره شيء مجهول
الجنس أو النوع فثبت للمقر له ذلك فإن فسره
بشيء فذاك وإن تعذر تفسيره لموت أو نحوه
فالواجب الرجوع إلى الأعراف الغالبة فإن كانت
موجودة فالرجوع إليها مقدم على كل شيء وإن لم
تكن موجودة وجب الحمل على المعنى الشرعي إن
وجد وإن لم يوجد فعلى المعنى اللغوي كما قدمنا
تحقيق ذلك قريبا فهذه الصور التي ذكرها المصنف
في هذا الفصل إن كان مراده أنها أعراف غالبة
على أهل عصره أو بلده فلذلك لا يلزم غيره بل
كل مقر مخاطب بالغالب من عرف قومه محمول
إقراره عليه وإن أراد أنها مدلولات لغوية فذلك
غير مسلم إلا في مثل قوله ولزيد بينهما نصفين
وقوله ودرهم بل درهمان للدرهمين ونحو ذلك وإن
أراد أنها معان شرعية فممنوع والواجب حمل ما
لم يثبت فيه حقيقة شرعية على اللغة العربية إن
لم يكن ثم عرف.
فالحاصل أنه إذا لم يكن ثم عرف فإن كان المقر
يعرف المدلولات اللغوية كان إقراره محمولا
عليها وإن كان لا يعرفها فهو مع عدم العرف
والشرع كمن أقر بشيء مجهول فيحمل إلى أقل ما
يصدق به في لغة العرب والرجوع إلى لغة العرب
في هذه الصورة اقتضته الضرورة لوجود مطلق
الإقرار وتعلق الحق بالمقر للمقر له وهذا الذي
ذكرناه يغنيك عن الكلام على كل صورة من الصور
التي ذكرها المصنف في هذا الفصل.
وأما قوله: "ويصرف في الفقراء ما جهل أو
الوارث مستحقه" فوجهه أنه لم يبق مع الجهل
(1/768)
طريق إلى تبين
مستحقه فكان الصرف في الفقراء مخلصا من
المظلمة بحسب الإمكان وكان الأولى أن يكون
مصرفه المصالح كما في سائر الأموال الملتبسة.
[ فصل
ولا يصح الرجوع عنه إلا في حقه لله يسقط
بالشبهة أو ما صودق فيه غالبا ومنه نحو سقت أو
قتلت أو غصبت أنا وفلان بقرة فلان ونحوه لا
أكلت أنا وهو ونحوه]
قوله: "فصل: ولا يصح الرجوع عنه".
أقول : وجه هذا أنه قد لزمه الحق بإقراره وهو
بالغ عاقل فرجوعه عن الإقرار رجوع باطل يستلزم
إبطال حق على من أقر له به وذلك ظلم والظلم
حرام مخالف للعدل الذي أمر الله عباده بالحكم
به.
وأما قوله: "إلا في حق لله" إلخ فلا بد من أن
يكون رجوعه محتملا للصدق حتى يكون شبهة له
وإلا كان من دفع ما قد تكلم به لسانه وأقر به
على نفسه بما لا يصح للدفع وليست الشبهة التي
أمرنا بدرء الحدود عندها إلا ما كانت موجبة
للاشتباه موقعة في بعض اللبس وإلا كان ذلك من
إهمال الحدود التي ورد الوعيد الشديد على من
لم يقمها.
وأما قوله: "أو ما صودق فيه" فإن كان هذا الذي
صادقه على الرجوع هو من له في الإقرار نفع أو
دفع فذاك وإلا فلا حكم لهذه المصادقة ويؤخذ
المقر بإقراره ولا وجه لما فرق به المصنف بين
قول المقر سقت أو قتلت أو غصبت أنا وفلان وبين
قوله أكلت أنا وهو ونحوه فإن الجميع إقرار على
النفس ولا حكم لقوله وفلان في الفرق ولا يقتضي
ذلك رواية ولا دراية.
(1/769)
|