السيل الجرار المتدفق على حدائق الأزهار

كتاب الحدود
مدخل
...
كتاب الحدود
[ فصل
تجب إقامتها في غير المسجد على الإمام وواليه إن وقع سببها في زمن ومكان يليه وله إسقاطها وتأخيرها لمصلحة وفي القصاص نظر ويحد العبد حيث لا إمام سيده والبينة إلى الحاكم].
قوله: "يجب إقامتها في غير مسجد على الإمام وواليه".
أقول : أما كونها تقام في غير مسجد فقد ثبت في الصحيح [مسلم "20/1694"]، أنهم خرجوا بماعز إلى البقيع وأخرج أحمد "3/434"، وأبو داود "4490"، والحاكم وابن السكن والدا رقطني والبيهقي من حديث حكيم بن حزام النهي عن إقامة الحدود في المساجد قال ابن حجر ولا بأس بإسناده وأخرجه الترمذي "1401"، وابن ماجة "3599"، من حديث ابن عباس قال ابن حجر وفيه إسماعيل بن مسلم المكي وهو ضعيف وأخرجه البزار من حديث جبير بن مطعم قال ابن حجر وفيه الواقدي ورواه ابن ماجة "2600"، من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده بلفظ نهى أن يجلد الحد في المسجد قال ابن حجر وفيه ابن لهيعة انتهى.
ولا يخفاك أن هذه الأحاديث يقوي بعضها بعضا فتقوم بها الحجة لا سيما مع تجنبه صلى الله عليه وسلم لإقامة الحدود في المسجد ولم يثبت عنه أنه أقام حدا في المسجد قط.
وأما كونه يجب إقامة الحدود على الإمام وواليه فوجهه واضح ظاهر لأن الله سبحانه قد أمر عباده بإقامة الحدود وقال: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ} [النور: 2]، وقال: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} [المائدة: 38]، وقال: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَاداً أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ} [المائدة: 33]، الآية والتكليف في هذا وإن كان متوجها إلى جميع المسلمين ولكن الأئمة من يلي من جهتهم ومن له قدرة على تنفيذ حدود الله مع عدم وجود الإمام يدخلون في هذا التكليف دخولا أوليا ويتوجه إليهم الخطاب توجها كاملا.
ومما يدل على تأكد الوجوب ما ثبت في صحيح مسلم "1688"، وغيره أحمد "6/162"، من حديث عائشة قالت: كانت امرأة مخزومية تستعير المتاع وتجحده فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بقطع يدها فأتى أهلها أسامة بن زيد فكلموه فكلم النبي صلى الله عليه وسلم فيها فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: "يا أسامة لا أراك تشفع في حد من حدود الله عز وجل"، ثم قام النبي صلى الله عليه وسلم خطيبا فقال: "إنما أهلك من كان قبلكم بأنه إذا سرق فيهم الشريف تركوه وإذا سرق فيهم الضعيف قطعوه والذي نفسي بيده لو كانت

(1/837)


فاطمة بنت محمد لقطعت يدها"، فقطع يد المخزومية ومن هذا حديث: "من حالت شفاعته دون حد من حدود الله فقد ضاد الله عزوجل في أمره"، أخرجه أحمد "3585، 5544"، وأبو داود "3597"، والحاكم وصححه من حديث ابن عمر ومن ذلك حديث: "ما بلغني من حد فقد وجب"، أخرجه أبو داود 4376"،والنسائي "4886"، من حديث عبد الله بن عمرو ابن العاص وفي الباب أحاديث دالة على عدم جواز إسقاط الحدود وعدم جواز الشفاعة فيها وأحاديث قاضية بالترغيب في إقامتها والترهيب عن إهمالها.
قوله: "إن وقع سببها في زمن ومكان يليه".
أقول : هذا مبني على أن الحدود إلى الأئمة وأنه لا يقيمها غيرهم على من وجبت عليه وليس على هذا أثارة من علم وما استدلوا به من المروي بلفظ: "أربعة إلى الأئمة" فلا أصل له ولا يثبت بوجه من الوجوه بل هو مروي من قول بعض السلف ولا شك أن الإمام ومن يلي من جهته هم أولى من غيرهم كما قدمنا.
وأما أنه يقيمها إلا الأئمة وأنها ساقطة إذا وقعت في غير زمن إمام أو في غير مكان يليه فالباطل وإسقاط لما أوجبه الله من الحدود في كتابه والإسلام موجود والكتاب والسنة موجودان وأهل الصلاح والعلم موجودون فكيف تهمل حدود الشرع بمجرد عدم وجود واحد من المسلمين ومع هذا فلا يعدم من له ولاية من إمام أو سلطان أو متول من جهة أحدهما أو منتصب بالصلاحية في كل قطر من أقطار المسلمين وإن خلا عن ذلك بعض البادية لم تخل الحاضرة.
قوله: "وله إسقاطها".
أقول : الإمام عبد من عباد الله سبحانه أنعم عليه بأن جعل يده فوق أيديهم وجعل أمره نافذا عليهم وأهم ما يجب عليه العمل بما شرعه الله لعباده وحمل الناس عليه وتنجيز ما أمر الله به ومن أعظم ما شرعه لهم وعليهم إقامة الحدود فكيف يقال إن لهذا العبد المنعم عليه أن يبطل ما أمر الله به ويهمل ما الله لعباده وأمرهم بأن يفعلوه وورد عن نبيه صلى الله عليه وسلم الوعيد الشديد على من تسبب لإسقاط الحد بشفاعة أو نحوها.
فالحاصل أن الإمام والسلطان لهم الأسوة برسول الله صلى الله عليه وسلم وقد كان يقيم الحدود على من وجبت عليه ولم يسمع عنه أنه أهمل حدا بعد وجوبه ورفعه إليه وليس الاستثبات بإسقاط ولا من أسبابه وهكذا ليس درء الحد بالشبهة من ذلك ومن هذا قوله صلى الله عليه وسلم: "ألا تركتموه"، في قصة ما عز فإنه مبني على أن الحد يدرأ بالشبهة وأما ما عزا لما قال: "إن قومه غروه وخدعوه" كان ذلك شبهة له وبهذا تعرف أنه ليس للإمام إسقاط ما أوجبه الله إلا ببرهان من الله لا من جهة نفسه فإنه لم يفوض إليه ذلك ولا من عهدته ولا مما له مدخل فيه فإن فعل فهو معاند لله ولرسوله مضاد له خارج عن طاعته

(1/838)


تارك للقيام بما أمره به وهكذا ليس له تأخير ما قد وجب ولا التثبيط عما قد ثبت فإنه عبد مكلف مأمور منهى ليس بمعصوم ولا شارع.
وأما قوله: "وفي القصاص نظر" فهذا النظر لا وجه له بل الأمر أوضح من أن يحتاج النظر والحق لآدمي والإمام مأمور بإنصاف المظلوم وإيصاله بما ظلم به والأخذ على يد الظالم فالتأخير رجوع إلى نوع من أنواع المناسب المهلة كما هو معروف في كتب الأصول وهكذا ما تقدم من تجويز إسقاط الحد وتأخيره لمصلحة فله تأثير لذلك النوع من أنواع المناسب على ما في الكتاب والسنة وهكذا فليكن تأثير محض الرأي على الشرع الواضح.
قوله: "ويحد العبد حيث لا إمام سيده".
أقول : قد ثبت السنة الصحيحة بأن الأمة إذا زنت فليحدها سيدها كما في الصحيحين [البخاري "4/369، 4/421، 5/178، 12/162"، مسلم "1703"]، وغيرهما [الترمذي "1440"، أبو داود "4469، 4470، 4471"، ابن ماجة 2565"]، من حديث أبي هريرة وزيد بن خالد وأخرج مسلم في صحيحه "34/1705"، وأحمد "1/95"، وأبو داود "4473"، والحاكم والبيهقي من حديث علي مرفوعا: "أقيموا الحدود على ما ملكت أيمانكم"، فحد الأرقاء إلى المالكين لهم ليس إلى الأمام من ذلك شيء ولا فرق بين وجوده وعدمه ولا وجه لجعل البينة إلى الحاكم بل الأمر في ذلك إلى السيد ولهذا يقول صلى الله عليه وسلم: "إذا زنت أمة أحدكم فتبين زناها"، فإن المراد تبين للسيد أنها زنت ولا يكون ذلك إلا بمستند صالح لإقامة الحد وقد كانت إقامة الحدود على الأرقاء من المالكين لهم شائعة في الصحابة ومن بعدهم من السلف الصالح لا ينكر ذلك أحد منهم.
[ فصل
والزنا وما في حكمه إيلاج فرج في فرج حي محرم قبل أو دبر بلا شبهة ولو بهيمة فيكره أكلها ومتى ثبت بإقراره مفصلا في أربعة من مجالسه عند من إليه الحد أو بشهادة أربعة عدول أو ذميين على ذمي ولو مفترقين واتفقوا على إقراره كما مر أو على حقيقته ومكانه ووقته وكيفيته جلد المكلف المختار غالبا ولو معقولا أوقع غير مكلف صالح للوطء أو قد تاب وقدم عهده الحر البكر مائة وينصف للعبد ويححص للمكاتب ويسقط الكسر والرجل قائما والمرأة اعدة مستترين بما هو بين الرقيق والغليظ بسوط أو عود بينهما وبين الحديد والعتيق خلي من العقود ويتوقى الوجه والمراق ويمهل حتى تزول شدة الحر والبرر والمرض والمرجو وإلا فبعثكول تباشره كل ذيوله ان احتملها وأشدها التعزير ثم حد الزنا ثم القذف ولا تغريب].

(1/839)


قوله: "فصل: والزنا إيلاج فرج في فرج" الخ.
أقول : هذا هو الزنا الشرعي الذي يجب به الحد وقد قال صلى الله عليه وسلم لمن أقر بالزنا لديه: "أنكتها؟"، قال: نعم قال: "كما يغيب المرود في المكحلة والرشاء في البئر؟" قال: نعم, هكذا في حديث أخرجه النسائي "4/276، 277"، والدار قطني من حديث أبي هريرة.
وقوله: "أو من دبر" يشمل عمل من عمل قوم لوط إذا وقع منه الإيلاج المذكور وجب عليه الحد البكر بجلد والمحصن يرجم ولكنه قد ورد ما يدل على قتل من عمل هذا العمل ومن عمل به فأخرج أحمد "1/300"، وأبو داود "4462"، وابن ماجة "2561"، والترمذي "1456"، والحاكم والبيهقي من حديث ابن عباس قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من وجدتموه يعمل عمل قوم لوط فاقتلوا الفاعل والمفعول به"، قال ابن حجر رجاله موثقون إلا أن فيه اختلافا وقال الترمذي إنما يعرف هذا الحديث عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم من هذا الوجه وروى محمد بن إسحاق هذا الحديث عن عمرو بن أبي عمرو قال: "ملعون من عمل عمل قوم لوط" ولم يذكر القتل انتهى وقال يحيى بن معين عمرو بن أبي عمر مولى المطلب ثقة ينكر عليه حديث عكرمة عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "اقتلوا الفاعل والمفعول به"، انتهى وقد احتج البخاري ومسلم وغيرهما بأحاديث عمرو بن أبي عمرو.
وفي الباب عن أبي هريرة عند ابن ماجة والحاكم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "اقتلوا الفاعل والمفعول به أحصنا أو لم يحصنا"، وفي إسناده ضعيف قال ابن الطلاع في أحكامه لم يثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه رجم في اللواط ولا أنه حكم فيه وثبت عنه أنه قال اقتلوا الفاعل والمفعول به رواه عنه ابن عباس وأبو هريرة انتهى ورواه أبو الفتح الأزدي في الضعفاء والطبراني في الكبير من وجه آخر عن أبي موسى وفيه بشر بن الفضل البجلي وهو مجهول وقد أخرجه أبو داود الطيالسي في مسنده عنه وقد قتل اللوطي في زمن الخلفاء الراشدين وأجمعوا على ذلك ولا يضر اختلاف صفة القتل وذهب إلى ذلك جماعة من العلماء.
قوله: "بلا شبهة".
أقول : وجه هذا ما أخرجه ابن ماجة "2545"، من حديث أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ادفعوا الحدود ما وجدتم لها مدفعا"، وفي إسناده إبراهيم ابن الفضل وهو ضعيف وأخرج الترمذي والحاكم والبيهقي من حديث عائشة قالت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ادرأوا الحدود عن المسلمين ما استطعتم فإن كان له مخرج فخلوا سبيله فإن الإمام إن يخطيء في العفو خير من أن يخطيء في العقوبة"، وفي إسناده يزيد بن زياد الدمشقي وهو ضعيف وقد روي الدرء بالشبهات من غير هاتين الطريقتين مرفوعا وموقوفا والجميع يصلح للاحتجاج به لا سيما والأصل في الدماء ونحوها العصمة فلا تستباح مع وجود ما يدل على سقوط الحد.

(1/840)


وأما الاستدلال بمثل قوله صلى الله عليه وسلم: "ولو كنت راجما أحدا بغير بينة رجمت فلانة"، كما في الصحيحين [البخاري "5310"، مسلم "1497"، وغيرهما ابن ماجة "2560"، فليس فيه إلا اشتراط البينة وعدم جواز الحد بدونها كالقرائن القوية وليس هذا من درء الحد بالشبهة لأنه لم يكن قد حصل المقتضي للحد وهو البينة كما لا يخفى.
قوله: "ولو في بهيمة فيكره أكلها".
أقول : إيجاب الحد على الناكح للبهيمة وجهه أنه يصدق عليه الحد الذي ذكره في أول هذا الفصل ولكنه قد ورد ما يدل على أنه يقتل كما في حديث ابن عباس عند أحمد "1/269"، وأبي داود "4464"، والترمذي "1455"، والنسائي "4/322"، وابن ماجة "2564"، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من وقع على بهيمة فاقتلوه واقتلوا البهيمة"، قال الترمذي "4/57"، بعد إخراجه هذا الحديث لا نعرفه إلا من حديث عمرو بن أبي عمرو عن عكرمة عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم وقد رواه سفيان الثوري عن عاصم بن أبي رزين عن ابن عباس أنه قال: "من أتى بهيمة فلا حد عليه"، حدثنا بذلك محمد بن بشار حدثنا عبد الرحمن بن مهدي حدثنا سفيان وهو أصح من الحديث الأول والعمل على هذا عند أهل العلم وهو قول أحمد وإسحاق انتهى ولفظ ابن ماجة في هذا الحديث عن ابن عباس قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من وقع على ذات محرم فاقتلوه ومن وقع على بهيمة فاقتلوه واقتلوا البهيمة"، وهو من غير طريق عمرو بن أبي عمرو وفي إسناده إبراهيم بن إسماعيل وفيه مقال ولكنه قد وثقه أحمد.
ولا يخفاك أن عصمة الدم بالإسلام لا ينقل عنها إلا ناقل تطمئن به النفس وينشرح له الصدر بخلاف ما تقدم فيمن عمل عمل قوم لوط فإن عمل الخلفاء الراشدين عليه وعدم الاختلاف بينهم فيه قد عضد ما ورد من القتل على فاعله ودل أبلغ دلالة على أنه شرع ثابت وأما كراهة أكل البهيمة فلم يثبت ما يدل عليه والأمر بقتلها لا ينافي جواز أكلها إذا كانت مما تؤكل.
قوله: "ومتى ثبت بإقراره مفصلا" الخ.
أقول : الأصل في دماء المسلمين وأموالهم وأعراضهم أنها معصومة بعصمة الإسلام كما صرحت بذلك أدلة الكتاب والسنة المتواترة فإذا ثبت في الشريعة ما يوجب ذهاب هذه العصمة بحقه كما في الحديث الصحيح [البخاري "6878"، مسلم "25/1676"، أبو دالود "4352"، أحمد "1/382"، ابن ماجة "2534"، أنه: "لا يحل دم امريء مسلم إلا بإحدى ثلاث"، كان الواجب الوقوف على ذلك الناقل ومن جملة ما ينقل عن هذه العصمة الاعتراف بالزنا من البكر والمحصن وقد اكتفى صلى الله عليه وسلم في غير موضع بالإقرار مرة فلو كان الإقرار أربعا شرطا لا تحل تلك العصمة إلا به لم يقم صلى الله عليه وسلم حدا على من أقر مرة واحدة.
وأما تثبته صلى الله عليه وسلم في أمر ماعز حتى أقر أربع مرات فقد شهدت قصته بأن النبي صلى الله عليه وسلم شك في صحة عقله وسأل قومه ومن ذلك ما أخرجه مسلم "23/1695"، وغيره من حديث عبد الله بن

(1/841)


بريدة عن أبيه أن ماعز بن مالك الأسلمي أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله إني قد ظلمت نفسي وزنيت وإني أريد أن تطهرني فرده فلما كان من الغد أتاه فقال يا رسول الله إني قد زنيت فرده الثانية فأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى قومه فقال: "هل تعلمون بعقله بأسا تنكرون منه شيئا؟" فقالوا ما نعلمه إلا وفي العقل من صالحينا فيما نرى فأتاه الثالثة فأرسل إليهم أيضا فسأل عنه فأخبروه أنه لا بأس به ولا بعقله فلما كان الرابعة حفر له حفرة الحديث.
ومما يدل على أن أمر ماعز ف تكرر حضوره وإقراره لم يكن إلا للتثبيت لا لما يقتضيه الشرع من تكرر الإقرار ما ثبت في صحيح مسلم وغيره من حديث عبد الله بن بريدة أن الغامدية قالت يا رسول الله إني قد زنيت فطهرني وأنه ردها فلما كان من الغد قالت يا رسول الله لم تردني لعلك أن تردني كما رددت ماعزا الحديث واكتفى منها بالإقرار مرة واحدة فهذه امرأة محل النقص في عقلها ودينها فلو كان الإقرار أربعا لا بد منه لم يكثف منها بالإقرار ثم قولها لم تردني كما رددت ماعزا يفيد أن المألوف المعروف عندها وعند غيرها عدم اشتراط تكرر الإقرار ولو كان ذلك شرطا لم تستنكر ما وقع منه صلى الله عليه وسلم من رد ماعز.
إذا تقرر لك هذا علمت أنه يكفي في عدم اشتراط تكرر الإقرار أربعا ولم يكن في يد المشترط إلا ما وقع في قصة ماعز وقد عرفت سببه فمن زعم أنه يشترط أنه لا يقام الحد إلا بعد هذا الإقرار المكرر فعليه الدليل وهو لا يجد إلى ذلك سبيلا فإن تبرع بالدليل القائل بأنه يكفي الإقرار مرة واحدة فمن جملة ذلك ما ثبت في الصحيحين [البخاري "2696، 2696، 6827، 6828، 7193، 7278، 7279"، مسلم "1697، 1698]، وغيرهما [ابو داود "4445"، النسائي "8/240، 241"، ابن ماجة "2549"، أحمد "4/115، 116"، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأنيس: "واغد يا أنيس إلى امرأة هذا فإن اعترفت فارجمها"، فرتب الرجم على مطلق الاعتراف الواقع عند رسوله وفوضه في إقامة الحد عليها ومن ذلك ما ثبت عند مسلم وأهل السنن من حديث عبادة بن الصامت أنه صلى الله عليه وسلم أمر برجم امرأة من جهينة ولم تقر إلا مرة واحدة ومن ذلك ما تقدم من إقرار الغامدية مرة واحدة ومن ذلك حديث الذي أقر بأنه زنا بامرأة فجحدت فحده وتركها وهو في سنن أبي داود ومن ذلك حديث علي عند أحمد وغيره قال أرسلني رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أمة سوداء زنت لأجلدها الحد وليس في ذلك أنها أقرت أربع مرات وترك الاستفصال في مقام الاحتمال ينزل منزلة العموم في الأقوال ومن ذلك ما في الصحيحين [البخاري "6839"، مسلم ط30/1703"، وغيرهما من أمره صلى الله عليه وسلم السيد أن يقيم الحد على أمته إذا زنت وليس فيه أنه لا يقيم الحد عليها إلا بعد إقرارها أربع مرات.
وأما الاستدلال بالقياس على شهادة الزنا فهو قياس فاسد الاعتبار لمخالفته للأدلة وهو أيضا قياس مع الفارق وهو أن إقرار الإنسان على نفسه لا تبقى فيه شبهة ولا يخالج السامع عنده تهمة بخلاف قيام الشهادة عليه مع إنكاره ومن هذه الحيثية وقع الاكتفاء في الأموال بمجرد إقرار المقر مع أن الشهادة لا بد أن تكون من رجلين أو من يقوم مقامهما.

(1/842)


وبمجموع ما ذكرناه يتضح لك أن الإقرار بالزنا مرة واحدة يوجب الحد من غير فرق بين الرجم والجلد وأما إيجاب تكرر الأيمان في اللعان أربعا فوجهه أنها قائمة مقام الشهادة ولهذا سماها الله سبحانه شهادة وليست من الإقرار في شيء.
قوله: "وشهادة أربعة عدول".
أقول : أما اشتراط أن يكونوا أربعة فهو نص القرآن الكريم ونص السنة المتواترة وعليه أجمع أهل الإسلام.
وأما قوله: "أو ذميين على ذمي" فوجهه أنا مأمورون إذا ترفعوا إلينا بإجراء حكم الله عزوجل بينهم ومن حكم الله قبول شهادة بعضهم على بعض وإقامة حد الله عليهم وقد أقامه صلى الله عليه وسلم على اليهودي واليهودية كما في القصة الثابتة في الصحيحين [البخاري ""6841"، مسلم "26/1699"]، وغيرهما [أبو داود " 4446"، الترمذي "1436"]، وفي رواية عند أبي داود "4452"، أن النبي صلى الله عليه وسلم دعا بالأربعة الشهود منهم فشهدوا فرجمهما.
وأما قوله: "ولو مفترقين" فوجهه أنه لم يرد ما يدل على اشتراط الاجتماع.
وأما قوله: "قد اتفقوا على إقراره أو على حقيقته" الخ فوجهه ظاهر وهو مجمع عليه.
قوله: "جلد المكلف المختار".
أقول : وجه اشتراط التكليف أن الصبي والمجنون لا يجري عليهما أحكام المكلفين كما تقدم تقريره ولهذا كرر صلى الله عليه وسلم الاستثبات في أمر ماعز وقال له: "أبك جنون؟"، [البخاري "6815، 6825"، مسلم "16/1691"]، وسأل قومه عن عقله وفي رواية [مسلم "22/1695"، أبو داود "4433"]، أن استنكهه هل يجد به رائحة للخمر فأفاد ذلك أنه لا بد من كمال العقل وأن نقصانه ولو بسبب لا يجوز كالسكر يكون شبهة يدرأ بها عنه الحد ولا فرق بين أن يكون فاعلا أو مفعولا كما تقدم في الأحاديث من إقامة الحد على الرجال والنساء وعلى الفاعل والمفعول به في عمل قوم لوط وإذا كان المفعول به صالحا للوطء وجب الحد على الفاعل به وإن كان الحد ساقطا عن المفعول به لصغره فإنه لا يلزم مثلا من سقوط الحد على الصغيرة التي تصلح للوطء أن لا يقام الحد على الزاني بها المكلف لأنه قد فعل بها ما يصدق عليه الزنا وإن لم يصدق ذلك عليها.
وأما قوله: "وإن تاب أو قدم عهده" فوجهه أن الحد بعد رفعه لا يسقط بالتوبة ولا يتقادم عهده لأنه قد وجب بسببه فلا يسقط بمسقط شرعي ولا مسقط هنا.
قوله: "الحر البكر مائة".
أقول : هذا هو الذي تطابقت عليه أدلة الكتاب والسنة ولم يختلف فيه المسلمون سابقهم ولا حقهم كما هو معلوم.
وأما قوله: "وينصف للعبد" فقد ورد التنصيف في القرآن الكريم للإماء قال الله عزوجل: {فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ} [النساء: 25]، وإلحاق العبيد بالإماء بعدم الفارق

(1/843)


بين النوعين ويؤيد كون حد المماليك خمسين ما أخرجه أحمد في المسند "1/95"، عن علي قال: أرسلني رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أمة سوداء زنت لأجلدها الحد قال فوجدتها في دمها فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم فأخبرته بذلك فقال لي: "إذا تعالت من نفاسها فاجلدها خمسين"، وأصل الحديث في صحيح مسلم بدون ذكر الخمسين وأخرج مالك في الموطأ عن عبد الله بن عياش بن أبي ربيعة المخزومي قال: أمرني عمر بن الخطاب في فتية من قريش فجلدنا ولائد من ولائد الإمارة خمسين خمسين في الزنا وروى ابن وهب عن ابن جريح عن عمرو بن دينار أن فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم كانت تجلد وليدتها إذا زنت خمسين.
وأما ما روى عن ابن عباس أنه لا حد على مملوك حتى يتزوج تمسكا بقوله: {فَإِذَا أُحْصِنَّ} [النساء: 25]، فقد أجيب عنه بأن لفظ الإحصان محتمل للإسلام والبلوغ والتزوج ويرد عليه ما قدمنا من أمر السيد أن يجلد أمته وهو في الصحيحين وغيرهما وأخرج مسلم وغيره من حديث أبي عبد الرحمن السلمي أن عليا خطب فقال: يا أيها الناس أقيموا الحدود على أرقائكم من أحصن منهم ومن لم يحصن.
وأما قوله: "ويحصص للمكاتب" فقد تقدم الكلام عليه في بابه.
قوله: "الرجل قائما والمرأة قاعدة".
أقول : لم يثبت ما يدل على هذا وإن كان القيام أقرب إلى أن يقع الجلد على جميع البدن وهكذا قعود المرأة هو أستر لها وأبعد من انكشاف شيء منها وأما الحفر للمرجوم فسيأتي الكلام فيه وأما كونهما مستترين بين الرقيق والغليظ فالمقصود أن المجلود يكون لابسا للثياب التي جرت عادة الناس بلبسها فلا يعدل إلى ما هو غاية في الغلظ ولا يكلف بما هو غاية في الرقة.
وأما قوله: "بسوط أو عود بينهما" الخ فقد ورد في هذه الصفة مرسلات منها عن زيد بن أسلم عند مالك في الموطأ أن رجلا اعترف على نفسه بالزنا في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم بسوط فأتي بسوط مكسور فقال: "فوق هذا"، فأتي بسوط جديد لم تقطع ثمرته فقال: "بين هذين" فأتي بسوط قد لان وركب وركب به فأمر فجلد وفي معناه مرسل آخر أخرجه عبد الرزاق عن معمر عن يحيى بن أبي كثير ومرسل ثالث أخرجه ابن وهب من طريق كريب مولى ابن عباس.
قوله: "ويتوقى الوجه والمراق".
أقول : أما توقى الوجه فقد ورد الأمر به على العموم فيدخل الجلد في ذلك وهذا الأمر بالتوقي للوجه ثابت في الصحيحين [البخاري "2559"، مسلم "113/2612"، وغيرهما [أحمد "2/327، 337"]، وأما توقي المراق فلم يرد في ذلك شيء بل من جملة ما ينبغي وقوع الضرب عليه إلا إذا كان يحصل بالضرب عليها زيادة تضرر وتألم.
قوله: "ويمهل حتى تزول شدة الحر" الخ.

(1/844)


أقول : إذا كانت هذه الشدة في الحر والبرد قد بلغت إلى مبلغ يكون في تأثيرها مشابهة للمرض فهي نوع من المرض وإن لم تكن هكذا فلا وجه للإمهال فإن كثيرا من البلاد يتناوبها الشدتان شدة الحر وشدة البرد في جميع أيام السنة وأما الإمهال للمرض المرجو زواله فقد ثبت في صحيح مسلم وغيره قصة الأمة التي زنت فأمر عليا أن يجلدها فإذا هي حديثة عهد بنفاس فخشي أن تموت إن جلدها فأمره رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن يتركها حتى تتماثل وقد تقدم.
وأما قوله: "وإلا فبعثكول تباشره كل ذيوله" فوجهه قول الله عز وجل لأيوب عليه السلام: {وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا فَاْضْرِبْ بِهِ} وقد فعل ذلك في زمن النبوة فأخرج الشافعي وأحمد "16/99"، وأبو داود "4472"، وابن ماجة 2574"، والبيهقي من حديث أبي أمامة بن سهل عن سعيد بن سعد بن عبادة قال كان بين أبياتنا رويجل ضعيف مخدج فلم يرع الحي إلا وهو على أمة من إمائهم يخبث بها فذكر ذلك سعد بن عبادة لرسول الله صلى الله عليه وسلم وكان ذلك الرجل مسلما فقال: "اضربوه حده"، فقالوا يا رسول الله إنه أضعف مما تحسب لو ضربناه مائة قتلناه فقال: "خذوا له عثكالا فيه مائة شمراخ ثم اضربوه به ضربة واحدة"، ففعلوا وهو مرسل وقد رواه أبو أمامة بن سهل عن جماعة من الصحابة ولم يكن في هذا الحديث ما يدل على اشتراط مباشرة كل ذيل من ذيول العثكول فيكفي مطلق الضرب خروجا من واجب الحد ورفقا بالمحدود المبتلي بالمرض.
وأما قوله إن احتمله فوجهه ظاهر لأنه إذا لم يحتمله كان ذلك عذرا في ترك الحد فإن عاش أقيم عليه.
قوله: "وأشدها التعزير" الخ.
أقول : الحدود على اختلاف أنواعها قد شرع الله فيها ما شرعه من جلد ورجم وقطع وقتل فينبغي أن يكون على الصفة الواردة من غير مخالفة فدعوى أن بعضها أشد من بعض لا دليل عليها ولا ورد ما يرشد إليها.
قوله: "ولا تغريبت".
أقول : هذا رد للسنة الصحيحة الثابتة في الصحيحين [البخاري "2695، 2696، 6827، 6828، 7193، 7194، 7278، 7279"، مسلم "25/1697، 1698"]، [أبو داود "4445"، النسائي "8/240، 241"، الترمذي "1433"، ابن ماجة "2549"، أحمد 4/115، 116"]، وغيرهما من حديث أبي هريرة وزيد بن خالد في قصة العسيف أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "وعلى ابنك جلد مائة وتغريب عام"، وبهذا عمل الخلفاء الراشدون فالعجب من التمسك في مقابل هذا الدليل الذي هو كشمس النهار وكالجبال الراسية بقولهم إن التغريب لم يذكر في آية الجلد فيا لله العجب فإنه إذا لم يذكر فيها فقد ذكره من بعثه الله سبحانه ليبين للناس ما نزل إليهم ومثل هذا الاستدلال الفاسد استدلال من استدل بأنه لم يذكر في حديث جلد الإماء ونحوه.

(1/845)


[ فصل
ومن ثبت إحصانه بإقراره أو شهادة عدلين ولو رجل وامرأتين وهو جماع في قبل في نكاح صحيح من مكلف حر مع عاقل صالح للوطء ولو صغيرا رجم المكلف بعد الجلد حتى يموت ويقدم الشهود وفي الإقرار الإمام أو مأموره فإن تعذر من الشهود سقط ويترك من لجأ إلى الحرم ولا يطعم حتى يخرج فإن ارتكب فيه أخرج ولا إمهال لكن تستبريء كالأمة للوطء ويترك للرضاع إلى الفصال أو آخر الحضانة إن عدم مثلها.
وندب تلقين ما يسقط الحد والحفرة إلى سرة الرجل وثدي المرأة وللمرء قتل من وجد مع زوجته وأمته وولده حال الفعل لا بعده فيقاد بالبكر].
قوله: "فصل: ومن ثبت إحصانه" الخ.
أقول : المعتبر هو ثبوت الإحصان الشرعي بطريق شرعية ولا يكون إلا لمكلف لرفع القلم عن غيره ولا بد أن تكون المنكوحة صالحة للوطء فإذا حصل هذا فقد ثبت الإحصان وأما اشتراط كونه في نكاح صحيح لا فاسد ولا باطل فلا دليل على هذا الاشتراط وقد عرفناك أن كثير من هذه الأوصاف الراجعة إلى الصحة والبطلان والفساد مجرد دعاوى مبنية على الخيالات التي هي أوهن من بيت العنكبوت فالمراد وجود ما يصدق عليه مسمى الإحصان وهو حاصل بوجود النكاح الشرعي ولا يشترط أن يكون في حال الزنا مستمرا على النكاح بل المراد وقوع النكاح ولو مضت مدة طويلة بعد المفارقة للزوجة لأنه يصدق على هذا الذي نكح في زمان من عمره أنه محصن شرعا ولهذا اكتفى النبي صلى الله عليه وسلم بمجرد سؤال ماعز عن كونه قد أحصن فعال نعم فاكتفى بذلك ولم يقل له هل تحتك حال الزنا زوجة وقد عرفت أن ترك الاستفصال في مقام الاحتمال ينزل منزلة العموم ولا سيما في مثل هذا المقام الذي يترتب عليه سفك دم امرىء مسلم.
قوله: "رجم المكلف" الخ.
أقول : ثبوت الرجم للزاني المحصن في هذه الشريعة ثابت بكتاب الله سبحانه وبمتواتر سنة رسوله وبإجماع المسلمين أجمعين سابقهم ولا حقهم ولم يسمع بمخالف خالف في ذلك من طوائف المسلمين إلا ما يروى عن الخوارج وهم كلاب النار وليسوا ممن يعتد بخلافهم ولا يلتفت إلى أقوالهم وقد وصفهم صلى الله عليه وسلم: "أنهم يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية"، [أبو داود "4765"]، وقد شد ممن عضدهم في هذا البحث المحقق الجلال كما هي عادته في تصلبه بل تصلفه معهم ومع كل نزاع المخالفين للشريعة الواضحة الظاهرة التي ليلها كنهارها ولا يزيغ عنها إلى جاحد كما قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد ثبت في الصحيحين [البخاري "6830"، مسلم "15/1691"]، وغيرهما [أبو داود "4418"، التلرمذي "1432"، ابن ماجة "2553"]، من طرق أن عمر بن الخطاب خطب على منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم قائلا: إن الرجم ثابت بكتاب الله وأنه رجم رسول الله صلى الله عليه وسلم

(1/846)


ورجموا بعده, وكذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في قصة العسيف الثابتة في الصحيحين: "والذي نفسي بيده لأقضين بينكما بكتاب الله"، ثم ذكر في القصة قوله لأنيس: "واغد يا أنيس على امرأة هذا فإن اعترفت فارجمها"، فم ثبت عنه صلى الله عليه وسلم في الصحيح [مسلم "12/1690"]، أنه قال: "قد جعل الله لهن سبيلا البكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام والثيب بالثيب جلد مائة والرجم"، ولا يخفاك أن نسخ التلاوة لا يستلزم نسخ الحكم بلا خلاف وهب أنه لم يثبت الرجم في الكتاب فكان ماذا فقد ثبت بالسنة المتواترة التي لا يشك فيها من له أدنى اطلاع وفعله رسول الله صلى الله غير مرة وفعله الخلفاء الراشدون فيا لله العجب من الإنتصار للمبتدعين على كتاب الله سبحانه وعلى سنة رسوله وعلى جميع الأمة المحمدية ودفع الأدلة الثابتة بالضرورة الشرعية لقول قاله مخذول من مخذولي كلاب النار الذين يمرقون من الدين ولا يجاوز إيمانهم ولا عبادتهم تراقيهم والأمر لله العلي الكبير.
قوله: "بعد جلده".
أقول : عدم ذكر الجلد مع الرجم في قصة ماعز لا يدل على العدم كما هو معلوم لكل عاقل وعلى تقدير أنه صلى الله عليه وسلم ترك الجلد في هذه القضية الفعلية فالمحامل لذلك كثيرة جدا ولا سيما مع ثبوت مشروعية الجمع بينهما للمحصن بالقول الذي هو أقوى دلالة وأعلى حجة كما أخرجه مسلم "12/1960"، وأهل السنن [أبو داود "4415"، ابن ماجة "2250"، الترمذي "1434"]، من حديث عبادة بن الصامت قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "خذوا عني, خذوا عني, قد جعل الله لهن سبيلا البكر بالبكر جلد مائة ونفي سنة والثيب بالثيب جلد مائة والرجم"، فهذا مقام قامه رسول الله صلى الله عليه وسلم في الناس مبينا لهم ما نزل إليهم موضحا لهم ما شرعه الله لهم وقد وقع الجمع بين الجلد والرجم من الخلفاء الراشدين ولم ينكر ذلك أحد كما أخرجه أحمد "2/30" والنسائي "4/269، 270"، والحاكم عن الشعبي قال كان لشراحة زوج غائب بالشام وأنه حملت فجاء بها مولاها إلى علي بن أبي طالب وقال إن هذه زنت واعترفت فجلدها يوم الخميس مائة ورجمها يوم الجمعة وحفر لها إلى السرة إلى آخر الحديث وهو في صحيح البخاري بدون ذكر الحفر ومع هذا فالقرآن الكريم يدل على وجوب الجلد لكل زان وزانية قال الله عزوجل: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا} [النور: 2]، ولم يذكر أن هذا الحكم مختص بالبكر بل ثبت في الكتاب والسنة أن على المحصن زيادة على الجلد وهي الرجم فالحق قول من يقول بالجمع بين الجلد والرجم.
قوله: "وتقدم الشهود" الخ.
أقول : استدلوا على ذلك بحديث الشعبي عن علي في رجم شراحة فإن فيه بعد قوله وحفر لها ثم قال يعني عليا إن الرجم سنة سنها رسول الله صلى الله عليه وسلم ولو كان شهد على هذه أحد لكان أول من يرمي الشاهد يشهد ثم يتبع شهادته حجره ولكنها أقرت فأنا أول من رماها فرماها بحجر ثم رمى الناس وهذا يبعد أن يقوله على من جهة الرأي ولكن يغني عن رجم الإمام رجم من يبعثه من المسلمين كما في قصة ماعز وكما في قوله: "واغديا أنيس إلى امرأة هذا فإن اعترفت فارجمها"، ولهذا قال المصنف أو مأموره.

(1/847)


وأما قوله: "وإن تعذر من الشهود سقط" فلا أرى هذا وجها لسقوط الحد الذي قد ثبت بما هو معتبر من الشهادة ولا يصح أن يجعل ذلك من الشبهة التي تدرأ بها الحدود.
قوله: "ويترك من لجأ إلى الحرم" الخ.
أقول : وجه هذا ما ثبت في الصحيح من حديث أبي شريح ولفظه في الصحيح البخاري "4/41"، "أن مكة حرمها الله تعالى ولم يحرمها الناس فلا يحل لامرىء يؤمن بالله واليوم الآخر أن يسفك بها دما ولا يعضد بها شجرة فإن أحد ترخص لقتال رسول الله صلى الله عليه وسلم فقولوا إن الله أذن لرسوله ولم يأذن لكم وإنما أذن لي ساعة من نهار وقد عادت حرمتها اليوم كحرمتها بالأمس" وفيه ألفاظ نحو هذا وهو يدل بعمومه على تحريم سفك الدماء فيه ولو كانت بحد ولا يصح الاستدلال بما وقع منه صلى الله عليه وسلم في تلك الساعة التي أحل الله سبحانه له الحزم فيها كما أخرجه أبو داود والنسائي من حديث سعد قال لما كان يوم الفتح أمن رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس إلا أربعة نفر وامرأتين وقال: "اقتلوهم وإن وجدتموهم متعلقين بأستار الكعبة: عكرمة بن أبي جهل وعبد الله بن خطل ومقيس بن صبابة وعبد الله ابن سعد بن أبي سرح" وذلك لأن هذا وقع منه صلى الله عليه وسلم في تلك الساعة التي أحلها الله لنبيه صلى الله عليه وسلم وقد أخبرنا أن الله أذن له ولم يأذن لنا ومما يؤكد هذه الحرمة قول الله عزوجل: {وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِناً} [آل عمران: 97]، فإنه إخيار في معنى الأمر أي ومن دخله فأمنوه.
وأما كونه لا يطعم حتى يخرج فوجهه أنه فار من حد أوجبه الله عليه فلا يعان على معصيته.
وأما كون من ارتكب أخرج فوجهه أن قد فعل ما يخالف الحرمة وارتكب المعصية العظيمة في أكرم بلاد الله عليه وأحبها إليه ولكنه لا يقام عليه الحد حتى يفارق الحرم.
وأما كونه لا إمهال في الرجم فوجهه ظاهر لأنه يراد من رجمه موته والإمهال في الجلد إنما هو لخشية الهلاك.
وأما قوله: "لكن تستبرىء كالأمة للوطء" فليس له وجه لأن الأصل عدم العلوق ومع ذلك فهو قبل أن يتبين لا حرمة له لكونه لم ينفخ فيه الروح.
قوله: "ويترك للرضاع إلى الفصال" الخ.
أقول : وجه هذا ما أخرجه مسلم وغيره من حديث سليمان بن بريدة عن أبيه أن النبي صلى الله عليه وسلم جاءته امرأة من غامد من الأزد فقالت: يا رسول الله طهرني, فقال: "ويحك ارجعي فاستغفري الله وتوبي إليه"، فقالت: أراك تريد أن تردني كما رددت ماعز بن مالك قال: "وما ذاك؟"، قالت: إنها حبلى من الزنا, قال: "آنت؟"، قالت: نعم, فقال لها: "حتى تضعي ما في بطنك"، قال: فكفلها رجل من الأنصار حتى وضعت قال: فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: قد وضعت الغامدية فقال: "إذن لا نرجمها وندع ولدها صغيرا ليس له من يرضعه"، فقام رجل من الأنصار فقال إلي رضاعه يا نبي الله قال فرجمها وقد تقدم قوله صلى الله عليه وسلم لعلى في قصة الجارية الحديثة

(1/848)


العهد بالنفاس: "أتركها حتى تتماثل"، وفي رواية من حديث الغامدية أنها أرضعته ثم أتت به النبي صلى الله عليه وسلم حين فطمته وفي يده كسرة خبز فدفع الصبي إلى رجل من المسلمين [مسلم "23/1695"، فيجمع بين هذه الرواية والرواية الأولى بأنه قال رجل لما أتت به بعد الوضع أن إليه رضاعه ولم يجبه النبي صلى الله عليه وسلم فرجعت به حتى فطمته فدفع الصبي إلى رجل من المسلمين وأقيم عليها الحد وكلا الروايتين في صحيح مسلم وغيره وإذا لم يوجد من يكفل الصبي بعد الفطام كان إمهالها حتى يستغني بنفسه مما تقتضيه الضرورة.
قوله: "وندب تلقين ما يسقط الحد".
أقول : هذا التلقين المشروع هو أن يقول الحاكم أو الإمام كما قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنه قال للسارق: "ما إخالك سرقت؟" [أبو داود "4380"، أحمد "5/293"، النسائي "4877"، ابن ماجة "2597"]، وقال للزاني: "لعلك غمزت لعلك قبلت"، كما في صحيح البخاري وغيره في قصة ماعز وما يفيد هذا المعنى فلا وجه للتشكيك فيما ذكره المصنف والرجوع إلى محصن الرأي أن الزاني إن كان مما يرجى انزجاره لقن وإلا فلا ولا وجه أيضا للاستدلال على مشروعية التلقين بمثل حديث: "أقيلوا ذوي الهيئات عثراتهم" ، [أحمد "6/181"، أبو داود "3275"، فإن هذا مخصوص بغير الحدود الواجبة ولو أخذ بعمومه لم يقم حد على أحد من ذوي الهيئات وهذا هو الذي نعاه رسول الله صلى الله عليه وسلم على بني إسرائيل لما أسقطوا الحدود على أشرافهم وأقاموها على ضعفائهم.
قوله: "والحفر إلى سرة الرجل وثدي المرأة".
أقول : أما ماعز فلم يحفر له بل رجم قائما كما في الحديث [مسلم "23/1695"]، الحاكي لقصته وأما الغامدية فقد ثبت في صحيح مسلم وغيره أنه حفر لها إلى صدرها فهذا يقتضي مشروعيته للمرأة كما أن ترك الحفر لماعز يقتضي عدم مشروعيته للرجل ووجه الفرق ظاهر فإن المرأة كلها عورة مع الرجال الراجمين لها وكان الأولى اقتصار المصنف على قوله وناب الحفر إلى ثدي المرأة.
قوله: "وللمرء قتل من وجد مع زوجته أو أمته" الخ.
أقول : هذه المسألة مبنية على غير أساس غير منظور فيها إلى كتاب ولا سنة ولا قياس فإن غاية ما يجب هنا على الزوج والسيد هو إنكار المنكر والسعي مع التفريق بين العاصيين بما تبلغ إليه الطاقة فإن أبى مرتكب المنكر أن ينزع عنه كان لكل منكر للمنكر أن يدافعه ولو بالقتل إذا لم يندفع بغيره من غير فرق بين أن يكون يكون الزاني زنا بزوجة المنكر أو أمته أو سائر قرابته أو بغير هؤلاء.
والحاصل أن هذا باب من أبواب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ليس لتخصيصه بمن ذكره المصنف وجه وقد وقع منه صلى الله عليه وسلم الإنكار على سعد بن عبادة لما قال النبي صلي الله عليه وسلم له: "أأدعه على بطن لكاع ثم أذهب فآتي بأربعة شهداء"، [أحمد "2/532"]، ثم ذكر ما يفيد أنه إذا وجده كذلك قتله فقال صلى الله عليه وسلم منكرا عليه: "انظروا إلى ما يقول سيدكم"، فاعتذروا له بما فيه من شدة

(1/849)


الغيرة والحمية فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "والله لله أغير منه"، كما في صحيح مسلم "16/1498"،وغيره أبو داود "45332"، ابن ماجة "2605"]، وكان على المصنف أن يقول: وليس للمرء قتل من وجد مع زوجته وأمته حال الفعل.
[ فصل
ويسقط بدعوى الشبهة المحتملة والإكراه وباختلال الشهادة قبل التنفيذ وقد مر حكم الرجوع وعلى شاهدي الإحصان ثلث الدية والثلثان إن كانا من الأربعة ولا شيء على المزكى وبإقراره بعدها دون أربع وبرجوعه عن الإقرار وبقول النساء هي رتقاء أو عذراء عنها وعنهم ولا شيء بعد التنفيذ وبخرسه وإسلامه ولو بعد الردة وعلى الإمام استفصال كل المسقطات فإن قصر ضمن إن تعمد وإلا فبيت المال].
قوله: "فصل: ويسقط بدعوى الشبهة المحتملة".
أقول : هذا هو ما أرشد إليه الشارع من درء الحدود بالشبهات فإن الشبهة إذا كانت محتملة فهي التي توجب ذلك أما لو لم تكن محتملة فليست شبهة بل هي دلسة وقع بها التذرع إلى إسقاط ما شرعه الله من الحدود.
وأما سقوطه بالإكراه فوجهه واضح والأدلة قائمة على رفع القلم عن المكره وعدم مؤاخذته بما أكره عليه وقد قدمنا بيان ذلك في غير موضع.
وأما سقوطه باختلال الشهادة فلأنه لم يحصل المقتضي ها هنا حتى يثبت عليه الحد لأن وجود من اختل من الشهادة كعدمه فلم يثبت ما هو المناط الشرعي للحد ففي جعل هذا من جملة المسقطات تسامح.
قوله: "وعلى شاهدي الإحصان ثلث الدية" الخ.
أقول : الشهداء إذا رجعوا جميعا بعد التنفيذ فقد تسببوا لقتل من رجم سببا يوجب عليهم الضمان ولم يقتل إلا لمجموع شهادة الزنا والإحصان فكانت الدية عليهم جميعا يحملونها على عدد رؤوسهم إذا كان الشاهدان على الإحصان من جملة الشهود الأربعة على الزنا فعليهم الثلثان كما ذكره المصنف وأما كونه لا شيء على المزكي فوجهه ظاهر لأنه لم يشارك الشهود في إثبات السببين الموجبين للرجم وهما الزنا والإحصان وإنما أخبر بما يعرفه من ظاهر حال الشهود وهكذا لا خطاب على الإمام لأنه قام بتنفيذ ما كمل نصابه في الظاهر وهكذا القاضي لأنه حكم بمستند أثبته الشرع.
قوله: "وبإقراره بعدها دون أربع".
أقول : جعل هذا الإقرار الذي هو مؤكد لما شهد به الشهود ومصدق له مسقطا من أغرب ما

(1/850)


يقرع الأسماع من الأقوال الزائفة والشبهة الداحضة لأن المناط الشرعي وهو شهادة الأربعة باق على حاله ولم يزده الإقرار إلا تأكيدا فدعوى أنه قد بطل بالإقرار دون أربع ووجب الرجوع إلى مستند آخر وهو الإقرار ولما لم يكمل لم يجب الحد لا يناسب رواية ولا دراية ولا شرعا ولا عقلا بل حاصلها إسقاط حد من حدود الله من غير سبب ولا شبهة لا قوية ولا ضعيفة وقد عرفت ما جاء من الزجر على من أبطل حدود الله وأسقطها بعد وجوبها على ما قدمنا لك أن الحق ثبوت الحد بالإقرار مرة واحدة فلا يتم ما ذكره من قوله دون أربع.
قوله: "وبرجوعه عن الإقرار".
أقول : هذا الرجوع ليس بشبهة تدرأ بها حدود الله ولا يصح الاستدلال على سقوط الحد بالرجوع عن الإقرار بما أخرجه أحمد وابن ماجة والترمذي وحسنه ورجال إسناده ثقات عن أبي هريرة أن ماعزا لما وجد مس الحجارة فر يشتد فأخبروا بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "هلا تركتموه"، لأنه لا يدل على أنه قد سقط عنه الحد بذلك بل على أنه إذا ترك ورجع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قد يأتي بشبهة مقبولة وهكذا لا يصح الاستدلال بحديث جابر عند أبي داود والنسائي أن ماعزا صرخ بهم فقال يا قوم ردوني إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فإن قومي قتلوني وغروني من نفسي وأخبروني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم غير قاتلي فلم ينزعوا عنه فلما أخبروا بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "فهلا تركتموه وجئتموني به"، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما أراد رجوعه إليه الاستثبات إذا جاء بشبهة مقبولة على أنه قد روى في بعض طرق الحديث عند مسلم والنسائي وأبي وأبي داود واللفظ له من حديث أبي سعيد قال لما أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم برجم ماعز بن مالك خرجنا به إلى البقيع فولله ما أوسقناه ولا حفرنا له ولكنه قام لنا قال أبو كامل وهو الجحدري فرميناه بالعظام والمدر والخزف فاشتد واشتددنا خلفه حتى أتى عرض الحرة فانتصب لنا فرميناه بجلاميد الحرة حتى سكت.
فدل هذا على أنه إنما فر إلى المحل الذي توجد فيه الحجارة التي تسرع في القتل.
وهكذا لا يصح الاستدلال بما أخرجه أبو داود "4434"، عن بريدة قال كنا أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم نتحدث أن الغامدية وماعز بن مالك لو رجعا بعد اعترافهما أو قال لو لم يرجعا بعد اعترافهما لم يطلبهما فإن رجمهما بعد الرابعة وعلى كل حال ليس هذا التحدث الواقع بينهم مما تقوم به الحجة لأنه مجرد حدس وبهذا تعرف أنه لا دليل يدل على الرجوع عن الإقرار يسقط به الحد وقد حصل المقتضي بالإقرار فلا يسقط إلا بدليل يدل على سقوطه دلالة بينة ظاهرة.
قوله: "وبقول النساء هي رتقاء أو عذراء".
أقول : وجه السقوط عنها وعنهم أنه لايمكن وحود حقيقة الزنى الموجبة للحد وهي إيلاج فرج في فرج كالرشا في البئر والميا في المكحاة، فوجدوها عذراء مانع من ثبوت الحق شرعا

(1/851)


وعقلا وإذا كان الحد يدرأ لمجرد الشبهة المحتلة فكيف بمثل هذا وأما كونه لا شيء على الإمام إذا أقام قبل العلم بأنها عذراء فوجهه ظاهر لأنه عمل بمستند شرعي لكن إذا كان هذا المستند هو شهادة الشهود فيضمنون كما تقدم لأنهم تساهلوا في الشهادة.
قوله: "وبخرسه".
أقول : الأخرس وإن كان النطق متعذرا منه فهو يمكنه أن يشير إلى الشبهة بعد أن يبينوا له بالإشارة أنه قد وجب عليه الحد بالمستند الشرعي نعم إذا بلغ خرسه إلى حد لا يفهم معه الإشارة ولا يتمكن منها وذلك بأن يكون من خرسه أعمى فإن هذا وإن كان الأصل عدم وجود الشبهة لكن احتمالها كائن وبمجرد هذا الاحتمال لا يكون حده على بصيرة ولم يكمل المقتضى الشرعي وإن كان الرجوع إلى الأصل كافيا في غير هذا الموضع لكن هذا موطن يقول فيه الشارع ادرأوا الحدود بالشبهات.
وأما سقوط الحد عنه بإسلامه فهو ظاهر لأن الإسلام يجب ما قبله من الأمور التي لا تدرأ بالشبهات فكيف بما يدرأ بها.
قوله: "وعلى الإمام استفصال كل المسقطات".
أقول : وجه هذا ما وقع منه صلى الله عليه وسلم من مثل قوله: "ما إخالك سرقت؟"، وقوله: "لعلك غمزت لعلك قبلت"، وقوله: "أبك جنون؟" وإرجاعه لماعز مرة بعد مرة وسؤال قومه عنه مع ماورد عنه من درء الحدود بالشبهات فإذا قصر فقد أخل بواجب عليه وأقدم على إتلاف نفس أو الإضرار بها قبل أن يوجب ذلك الشرع فإذا ظهر بعد ذلك مسقط شرعي كان الضمان من ماله إن تعمد وإلا فمن بيت المال لأن تعمده محمول عليه وأما خطؤه فإن كان لا يجد في ماله ما يقوم بذلك كان من جملة الغارمين في صرف نصيب إليه من الزكاة ومن جملة المصالح التي يصرف إليها بيت مال المسلمين.

(1/852)


باب حد القذف
[ فصل
ومتى ثبت بشهادة عدلين أو إقراره ولو مرة قذف حر مسلم غير أخرس عفيف في الظاهر من الزنا بزنا في حال يوجب الحد مصرحا أو كانيا مطلقا أو معرضا أقر بقصده ولم تكمل البينة عددا وحلف المقذوف إن طلب جلد القاذف المكلف غالبا ولو والدا الحر ثمانين وينصف للعبد و يحصص للمكاتب كما مر ويطلب للحي نفسه ولا يورث

(1/852)


وللميت الأقرب فالأقرب المسلم المكلف الذكر الحر قيل ثم العبد من عصبته إلا الولد أباه والعبد سيده ثم الإمام والحاكم ويتعدد بتعدد المقذوف كيا ابن الزواني ومنه النفي عن الأب ولو لمنفي بلعان إن لم يعن بالحكم كلست لفلان لا من العرب والنسية إلى غيره معينا كيا ابن الأعمى لابن السليم إلا إلى الجد والعم والخال وزوج الأم ولا يسقطه إلا العفو قبل الرفع أو شاهدان بالإقرار ويلزم من رجع من شهود الزنا قبل التنفيذ لا بعده إلا الأرش والقصاص].
قوله: "باب: حد القذف ومتى ثبت بشهادة عدلين" الخ.
أقول : حد القذف ثابت بكتاب الله سبحانه وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وبإجماع المسلمين والاكتفاء فيه بشهادة العدلين صحيح ويكتفى فيه أيضا بشهادة رجل وامرأتين وبشهادة واحد مع يمين المدعى لما عرفناك سابقا مع عدم وجود دليل ناهض يدل على اشتراط أن يكون الشهود رجالا وأنه لا يثبت هذا الحد إلا بشهادة رجلين فإنه حكم من أحكام الشرع وقد ثبت في الكتاب العزيز وفي السنة المطهرة أن مستندات أحكام الشرع أوسع من هذا ولم يخص من ذلك إلا شهادة الزنا فيبقى ما عداه داخلا في مطلقات الأدلة.
وأما اشتراط أن يكون المقذوف حرا فلا وجه له لأن العبد والأمة قد صارا بدخولهما في الإسلام معصومي الدم والمال والعرض بما عصم به الأحرار فانتهاك الحرمة منهما بالرمي بالزنا كانتهاك الحرمة من الأحرار.
وأما اشتراط الإسلام فوجهه واضح لعدم وجود العصمة.
وأما اشتراط كونه غير أخرس فلا وجه له لأنه يمكنه أن يعبر عن مراده بالإشارة على فرض أنه لم يحضر ذلك من يعبر عنه ويقوم بحجته وليس من مسالك الرأي أن يجعل امتحان الله سبحانه له بالخرس موجبا لحلول محنة أخرى به وهي عدم احترام عرضه بإقامة حد الله على قاذفه.
وأما اشتراط العفة فمبني على أن المحصنات في قوله سبحانه: {إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلاتِ الْمُؤْمِنَاتِ} [النور: 23]، هن العفيفات وهو غير مسلم فإن من معاني الإحصان الحرية والإسلام والتزوج ثم هذا الذي ليس بعفيف داخل في العصمة الإسلامية لا يخرج عنها بمجرد ارتكابه لبعض معاصي الله سبحانه وأي دليل يدل على أنه يستحل منه ما حرمه الله بمجرد عدم عفته فإن الله سبحانه قد حرم الغيبة وشدد في أمرها وهي أن يذكر الغائب بما فيه ولم يجعل كونه مسوغا لذكره به فكيف بالقذف وقد أقام عمر بن الخطاب حد القذف على من شهد على المغيرة بالزنا مع اشتهار عدم عفته وكان ذلك بمحضر من الصحابة.
وأما قوله: "بزنا" فظاهر أنه المراد بقوله: {الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ}.
وأما قوله: "في حال يوجب الحد" فلا أرى لهذا الاشتراط وجه لأنه قد انتهك الحرمة بالرمي بالزنا وإن اندفع عنه حد الزنا لشبهة من الشبه.

(1/853)


وأما قوله: "مصرحا مطلقا" فوجهه أن التصريح لا يقبل معه دعوى قصد غيره ولا يلتفت إلى ذلك.
وأما الكناية فلكونه يحصل بها من هتك العرض المعصوم ما يحصل بالتصريح إذا كان المراد منها مفهوم للسامع والاعتبار بالمعاني لا بالألفاظ وهكذا التعريض لأنه يحصل به ما يحصل بالتصريح وأما تقييد ذلك بقوله أقر بقصد فلا يشترط هذا الإقرار إلا إذا كان التعريض يحتمل عند السامع القذف وغيره أما إذا كان لا يحتمل إلا القذف فلا يشترط الإقرر.
قوله: "ولم تكمل البينة عددا".
أقول : لا وجه لاعتبار مجرد العدد بل لا بد من قيام البينة عددا وصفة فإن اختلفت الصفة مع كمال العدد فوجودها كعدمها ويؤيد هذا حد الشهود على المغيرة مع كمال عددهم ونقص صفة شهادة الرابع وهو زياد بن أبيه فإنه لما لم يصرح بأنه شاهد الإيلاج بل قال رأيت استا ينبو ونفسا يعلو ورجلين من ورائه كأنهما رجلا حمار ولا أدري ما وراء ذلك أقيم الحد على الثلاثة الشهود الذين شهدوا قبله وهم إخوته نفيع ونافع وشبل.
قوله: "جلد القاذف ولو والدا" الخ.
أقول : هذا الحد بهذا العدد قد نطق به القرآن الكريم وأجمع عليه المسلمون أولهم وآخرهم ولم يفرقوا بين قذف الرجل والمرأة وأن قاذف الرجل يحد كما يحد قاذف المرأة ولم يسمع عن فرد من أفراد المسلمين أنه قال لا حد على قاذف الرجل إلا ما وقع من الجلال في شرحه لهذا الكتاب في هذا الموضع وقد كتبنا على بحثه رسالة مستقلة وتكلمنا على كل ما جاء به في هذا البحث ودفعناه بما لا يبقى بعده ريب لمرتاب وإن كان فساده أوضح من أن يحتاج إلى البيان لكنه ربما تشوش به ذهن من في عرفانه قصور وفي إدراكه بعض فتور.
وأما عدم سقوط الحد على الوالد إذا قذف ولده فلدخوله في عموم الأدلة وعدم ورود الدليل باستثنائه ولم يبح له الشرع استحلال ما حرمه الله من ولده.
وأما التنصيف للعبد والتخصيص للمكاتب فوجهه ما تقدم في حد الزنا.
قوله: "ويطلب للحي نفسه ولا يورث".
أقول : لا وجه لجعل الموت مسقطا للحد الذي قد ثبت على قاذف من مات بعد قذفه وقبل إقامة الحد عليه فإن كانت العلة في ذلك تجويز أن يعفو لو عاش فهكذا قذف الأموات فإنه يجوز أن يعفو الميت لو كان حيا وإن كانت العلة هي ما يلحق الحي بقذف الميت فهكذا ينبغي أن يقال في وارث من مات بعد القذف إذا لحقه غضاضة بالقذف ولا وجه للفرق بينهما.
وأما ترتيب المطالبين من قرابة الميت على هذا الترتيب الذي ذكرناه فإن كان وجهه أن الغضاضة تلحق الأقرب لحوقا زائدا على لحوقها ممن هو أبعد منه مع تسليم لحوق مطلق الغضاضة فلا وجه لهذا الترتيت بل إذا وقع الطلب من فرد من أفراد من يلحقه الغضاضة فإن كانت يسيرة وكان بعيدا عن الميت كان ذلك سائغا لأن دفع الغضاضة مطلقا مسوغ للطلب وإن كان سبب هذا

(1/854)


الترتيب غير هذا وكل سبب يفرضه حاملا على الطلب غير هذا لا يصح لسببه والحق أنه يجوز الاحتساب في مثل هذا وإن لم يكن ثم غضاضة على المحتسب لأن القذف من أشنع المنكرات وقد أوجب الله الحد على فاعله فالسعي في إقامته من جملة ما يندرج تحت أدلة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
وأما قوله: "ثم الإمام والحاكم" فوجهه ما ذكرنا من كون هذا الطلب من باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والإمام والحاكم هما القائمان مقام البيان للناس وحملهم على ما أوجب الله عليهم وزجرهم بحدود الله سبحانه عن الوقوع في معاصيه.
وأما كونه يتعدد بتعدد المقذوف فوجهه ظاهر لأنه قد وقع القذف على كل واحد منهم فوجب له حد مستقل.
وأما قوله: "ومنه النفي عن الأب" فوجهه أن ذلك يستلزم أن أمه زنت فكان ذلك قذفا لها وما ذكرها المصنف بعد هذا فظهوره يغني عن تدوينه.
قوله: "ولا يسقطه إلا العفو قبل الرفع".
أقول: وجهه أنه حق للمقذوف فإذا عفا عن قاذفه كان له ذلك وأما بعد رفعه إلى الإمام أو الحاكم فقد وجب بالرفع للدليل المتقدم ويمكن أن يقال إنه لا حكم للرفع إذا وقع العفو بعده لأن هذا حق من حقوق بني آدم يسقط بإسقاطهم فليس للإمام والحاكم أن يقيم الحد بعد العفو ودعوى أن حد القذف مشوب غير مسلمة بل هو حق محض للآدمي ولا ينافي هذا ما وقع في قصة السارق لرداء صفوان وقوله صلى الله عليه وسلم لما عفا: "ألا كان هذا قبل أن تأتيني به"، [أحمد "6/466"، أبو داود "4394"، ابن ماجة "3595"، النسائي "8/69"]، للفرق الواضح بين القاذف والسارق.
وأما قوله: "أو شاهدان بالإقرار" فلا وجه لهذا إلا على القول باشتراط العفة وقد قدمنا ما فيه.
وأما كونه من رجع من شهود الزنا فوجهه ظاهر لأنه برجوعه صار كاذبا في شهادته وذلك قذف وأما الرجوع بعد التنفيذ فقد تقدم حكمه وهو يغني عن تكراره هنا.

(1/855)


باب حد الشرب
[ فصل
وكذلك من ثبت منه بشهادة عدلين أو إقراره مرتيت شرب مسكر عالما غير مضطر ولا مكره وإن قل وتقام بعد الصحو فإن فعل قبله لم يعد وتكفي الشهادة على الشم والقيء ولو كل فرد على فرد].

(1/855)


قوله: "باب حد الشرب: وكذلك".
أقول : هذا الحد قد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم ثبوتا متواترا لا شك فيه ولا شبهة لكن لم يقع الاتفاق على مقدار معين بل حاصل ما روى أنه صلى الله عليه وسلم جلد في الخمر بالجريد والنعال كما في الصحيحين [البخاري "6773"، مسلم "37/1706"، وغيرهما أبو داود "4479"، الترمذي "1443"]، من حديث أنس وفي رواية لمسلم "35/1706"، وغيره من حديثه أنه جلد بجريدتين نحو أربعين وفي البخاري وغيره من حديث عقبة بن الحارث أنه صلى الله عليه وسلم أمر من كان في البيت أن يضربوه فضربوه بالجريد والنعال وفي البخاري أيضا من حديث السائب بن يزيد قال كنا نؤتى بالشارب في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي
إمرة أبي بكر وصدرا من إمرأة عمر فنقوم إليه فنضربه بأيدينا ونعالنا وأرديتنا حتى كان صدرا من إمرة عمر فجلد فيها أربعين حتى إذا عتوا فيها وفسقوا جلد ثمانين وفي البخاري أيضا وغيره من حديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال فيمن أتي به وقد شرب الخمر اضربوه قال أبو هريرة فمنا الضارب بيده والضارب بنعله والضارب بثوبه وفي الباب أحاديث وليس فيها أنه ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم في حد الشرب مقدار معين واختلف اجتهاد الصحابة في التقدير فكان الواجب هو مجرد الضرب بالجريد والنعال والثياب والأيدي والمرجع في ذلك إلى نظر الإمام فإذا رأى أن يجلده عددا معينا إلى حد الثمانين الجلدة فله بما وقع من الصحابة أسوة وإن رأى أن يأمر بمطلق الضرب له من غير تعيين فله برسول الله صلى الله عليه وسلم أسوة وإن رأى زيادة الضرب إلى حد الثمانين على من استرسل في شربها وتخفيف الضرب إلى أربعين أو دونها على من لم يسترسل في شربها كان له ذلك اقتداء بما وقع من عمر في محضر الصحابة.
فعرف بمجموع هذا أن حد الشرب ثابت مع تفويض مقداره إلى الإمام والحاكم وقد قيل إنه لم يقع الإجماع على وجوب هذا الحد كما وقع الإجماع على وجوب سائر الحدود كما حكى ابن جرير وابن المنذر عن بعض أهل العلم أنه لا حد على شارب المسكر ولكن هذا مدفوع بمتواتر السنة وبإجماع الصحابة ومن بعدهم فلا التفات إليه ولا تعويل عليه والإجماع ثابت قبل وجود قائله وبعده.
قوله: "ومن ثبت بشهادة عدلين أو إقراره مرتين" الخ.
أقول : لا وجه للاقتصار على شهادة العدلين بل يكفي في ذلك شهادة رجل وامرأتين كما حكم الله به بين عباده في الشهود وقد قدمنا التنبيه على هذا في الباب الذي قبله وهكذا يجوز للحاكم أن يحكم في هذا الحد بعلمه وقد أوضحنا ذلك فيما سبق ومثله حد القذف والسرقة ولم يخص من الحدود بكون الشهود أربعة رجالا إلا حد الزنا فيبقى ما عداه داخلا في عموم ما جعله الله مستندا لحكم الشرع وهكذا لا وجه لا شتراط أن يكون الإقرار مرتين ولم يرد بهذا دليل لا صحيح ولا عليل وليس على تعبير الإنسان عن نفسه بإقراره زيادة في سكون النفس وطمأنينة القلب وقد قدمنا أنها تكفي المرة الواحدة في الإقرار بزنا يوجب الرجم فكيف بما هو دونه ولكنها كثرة الشكوك في الحدود الناشئة عن ضعف العزائم في تنفيذ حدود الله سبحانه.

(1/856)


وأما اشتراط أن يكون الشارب للمسكر عالما غير مضطر ولا مكره فهو أظهر من أن يحتاج إلى التنصيص عليه.
قوله: "وإن قل".
أقول : قد تقرر بالأحاديث الصحيحة أن النبي صلى الله عليه وسلم جلد من شرب الخمر وأمر بجلده ولم يسأل عن القدر الذي شربه ولا سأل عن بلوغه بالشرب إلى حد السكر فكان هذا بمجرده دليلا على أن مطلق الشرب موجب للحد ثم قد صح عنه صلى الله عليه وسلم في غير حديث أنه قال: "ما أسكر كثيره فقليله حرام" [أحمد "3/343"، أبو داود "3681"، الترمذي "1865"، ابن ماجة "3393"]، وهذا الدليل يلحق القليل بالكثير والقطرة الواحدة بالأرطال ثم ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: "كل مسكر خمر وكل خمر حرام"، وفي لفظ: "كل مسكر خمر وكل مسكر حرام"، [مسلم "2003"]، فحكم صلى الله عليه وسلم في هذا باتحاد المسكرات وأنها كلها خمر فوجب الحد على شرب كل مسكر وقد أوضحت الكلام على هذا البحث في شرح المنتقى وأفردته برسالة مستقلة سميتها القول المسفر في تحريم كل مسكر ومفتر.
فإن قال قائل: هل العلة في حد السكر هي التحريم أو كون المشروب مسكرا فأقول كما قال الشاعر:
خذا بطن هرشى أوقفاها فإنه ... كلا جانبي هرشى لهن طريق
فإن تعليل الحد بالسكر يعم أنواع المسكرات وتعليله بالتحريم يعم أنواع المحرمات من المسكرات وقد ألحق الشارع قليلها بكثيرها فلا يعتبر وقوع السكر بالفعل بل بشرب ما هو من جنس المسكرات أو أكله.
قوله: "بعد الصحو".
أقول : وجه هذا أن أصل مشروعية الحد لإذاقة مرتكب موجب الحد وبال أمره ومعلوم أنه لا يذوق ذلك إلا صاحيا صحيح العقل سليم الحواس وأن وقوع الضرب عليه حال سكره لا يجد له من التألم ما يجده صاحيا لكنه لما ثبت ثبوتا لا شك فيه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يأمر بإقامة الحد على من وصلوا به إليه وقد شرب ومن الجائز أن يكون في تلك الحال باقيا على سكره ومن الجائز أن يكون قد صحا كان ترك الاستفصال دليلا على أن يقام عليه الحد على الحالة التي وفد عليها وأنه لا يجب انتظار حالة الصحو.
قوله: "وتكفي شهادة على الشم والقيء ولو كل فرد على فرد".
أقول : وجه هذا أنه لا تفوح رائحة الخمر من جوف رجل إلا وقد شرب الخمر ولا يتقيأ الخمر رجل إلا وقد شربها هذا معلوم عقلا وكانت الشهادة على هذين الأمرين كالشهادة على الشرب ولكن لا بد أن يكون من يشهد على الشم والقيء ممن له خبرة متقنة برائحة الخمر

(1/857)


ولونها مع انتقاء أن يوجد شيء من المأكولات أو المشروبات الحلال مشابهة للخمر لونا أو عرفا فإن وجد وادعاه الشارب كان ذلك شبهة يدرأ بها عنه الحد.

(1/858)


باب حد السارق
[ فصل
إنما يقطع بالسرقة من ثبتت بشهادة عدلين إو إقراره مرتين أنه سرق مكلفا مختارا عشرة دراهم فضة خالصة الدرهم ثمان وأربعون شعيرة أو ما يساويها مما هو خالص لغيره رقبة أو منفعة وله تملكه ولو جماعة ولجماعة أو لذمي أو لغريمه بقدرها وأخرجه من حرز بفعله حملا أو رميا أو جرا أو إكراها أو تدليسا وإن رده أو لم ينفذ طرفه أو دفعتين لم يتخللهما علم المالك أو كور غيره وقرب إلا من خرق ما بلغته يده أو ثابتا من منبته أو حرا وما في يده أو غصبا أو غنيمة أو من بيت مال أو ما استخرجه بخارج بنفسه كنهر وريح ودابة لم يسقها ولو حملها لكن يؤدب كالمقرب].
قوله: باب حد السارق : "إنما يقطع من ثبت بشهادة عدلين أو إقراره مرتين".
[ فصل
أقول : الكلام في اعتبار شهادة الرجلين في هذا الباب كالكلام الذي قدمناه في البابين الأولين فالحق أنه يثبت القطع بشهادة رجل وامرأتين لعدم وجود دليل يدل على هذا التخصيص ومع عدم وجوده يجب الرجوع إلى ما شرعه الله لعباده في الشهادات التي يجوز الحكم بها ولم يفرق بين حكم وحكم ولا بين محكوم فيه ومحكوم فيه ولا بين محكوم عليه ومحكوم عليه وهكذا لا وجه لاعتبار الإقرار مرتين بل مجرد شكوك ناشئة عن ضعف العزائم الشرعية كما قدمنا].
قوله: "أنه سرق مكلفا مختارا".
أقول : أهمل قيد التكليف في باب الشرب كما أهمل قيد كونه عالما غير مضطر هنا كما أهمل هذه القيود كلها في باب القذف وكان عليه أن يجعل هذه الأبواب مستوية في القيود إذ من المعلوم أن اختلال واحد منها شبهة مسقطة للحد وقد عرفناك أن دعوى كون حد القذف مشوبا لا وجه لها.
قوله: "عشرة دراهم فضة خالصة".
أقول : اعلم أن القرآن الكريم يدل على مطلق قطع يد السارق بالسرقة قال الله سبحانه: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} [المائدة: 38]، فلو لم يرد البيان من السنة لكان الواجب القطع في كل مسروق قليلا كان أو كثيرا ولكنه قد جاء البيان الشافي الكافي الوافي في السنة

(1/858)


المطهرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي أرسله الله سبحانه ليبين للناس ما نزل إليهم فثبت عنه صلى الله عليه وسلم في الصحيحين [البخاري "12/91" مسلم "1/1684"،]، وغيرهما [أبو داود "4393"، الترمذي "1445"، أحمد "6/36، 80، 163، 252"، من حديث عائشة قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقطع يد السارق في ربع دينار فصاعدا وهذه العبارة تدل على أنه كان يعتبر هذا المقدار في المسروق كما تقرر في الأصول وفي رواية من حديثها هذا لمسلم "1/1684"، وأحمد "6/63، 8، 163، 252" والنسائي "4929، 4930"، وابن ماجة "2585"]، بلفظ: "لا تقطع يد السارق إلا في ربع دينار فصاعدا"، وهذا صريح في أنه لا يقطع فيما دون ذلك وقد رفعته عائشة إلى النبي صلى الله عليه وسلم وفي لفظ من حديثها هذا عند البخاري "6790"، والنسائي "4916"، وأبي داود 4384"، "تقطع يد السارق في ربع دينار"، وفي لفظ للبخاري "6790"، منه: "تقطع اليد في ربع دينار فصاعدا"، وفي لفظ من هذا الحديث لأحمد "6/81"، "اقطعوا في ربع دينار ولا تقطعوا فيما هو أدنى من ذلك"، وأخرج النسائي "8/78"، من حديث عائشة أيضا: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تقطع يد السارق فيما دون ثمن المجن"، قيل لعائشة ما ثمن المجن قالت ربع دينار.
فهذا الحديث قد تضمن البيان للكتاب العزيز فلا تقطع الأيدي إلا في ربع دينار فصاعدا و لا ينافيه ما وقع من الاختلاف في تقدير ثمن المجن الذي قطع رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه سارقه كما أخرجه البيهقي والطحاوي من حديث ابن عباس قال: كان ثمن المجن على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم يقوم عشرة دراهم وهذه الرواية وإن كان في إسنادها مقال فقد أخرج نحوها النسائي وأخرج أبو داود "4387"، أن ثمنه كان دينارا أو عشرة دراهم.
ووجه عدم المنافاة أنه حكى الراوي قيمة المجن الذي قطع سارقه رسول الله صلى الله عليه وسلم فعلى تسليم أن تكون قيمته عشرة دراهم كما قدره بعض الصحابة وقد قدره البعض الآخر دينارا وليس في حديث القطع في المجن الذي في الصحيحين وغيرهما من حديث ابن عمر إلا: أنه صلى الله عليه وسلم قطع في مجن ثمنه ثلاثة دراهم فهذا المجن الذي قطع فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم قيمته هذه القيمة وهي ثلاثة دراهم وربع الدينار صرفه ثلاثة دراهم ولا يعارض ذلك كون قيمة المجن قد تكون عشرة دراهم فإن المجان تختلف بزيادة القيمة ونقصانها وليس الحجة قائمة إلا فيما قطع فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد وافقت عائشة ابن عمر في تقويم المجن بثلاثة دراهم لأنها قالت: كما تقدم قيمته ربع دينار وصرف الربع الدينار ثلاثة دراهم وما في الصحيحين أقدم مما في غيرهما ومع هذا فلم يرد ما يدل على أنه لا قطع فيما دون ثمن المجن إلا في تلك الرواية المتقدمة عن عائشة وليست من رواية الصحيح وعلى تقدير أنها صحيحة فهي مقيدة بما قدرتها به وهو الربع الدينار فارتفع الإشكال واتفقت الأحاديث على القطع في ربع دينار ولم يرد ما يخالف ذلك من وجه تقوم به الحجة إلا ما ثبت في الصحيحين وغيرهما من حديث أبي هريرة قال: قال رسول صلى الله عليه وسلم: "لعن الله السارق يسرق البيضة فتقطع يده ويسرق الحبل فتقطع يده"، فهذا

(1/859)


الحديث إن صح تأويله بما رواه في الصحيحين [البخاري "2/81"، مسلم "1687"، وغيرهما عن الأعمش أنه قال: كانوا يرون أنه بيض الحديد والحبل كانوا يرون أن منها ما يساوي دراهم فذاك وظاهر قوله كانوا يرون أنه يريد الصحابة وإن لم يصح هذا التأويل فتأويل من قال إنه أراد صلى الله عليه وسلم تحقير شأن السارق وخسارة ربحه أو تأويل من قال: إنه أراد التنفير عن السرقة وجعل ما لا قطع فيه بمنزلة ما فيه القطع وإن لم يصح هذا التأويل فاعلم أن القطع إقدام على قطع عضو معصوم بعصمة الإسلام فلا يحل إلا بما اشتباه فيه ولا احتمال فيجب الوقوف على ما ثبت من نفي القطع فيما دون الربع الدينار وفيما دون ثمن المجن ويكون ذلك كالشبهة فيما دونه وهذا المذهب الذي قررناه هو مذهب جمهور السلف والخلف ومنهم الخلفاء الأربعة وفي المسألة أحد عشر مذهبا هذا مذهب أرجحها وقد استوفينا حججها في شرحنا للمنتقي وقد حكى ابن حجر في الفتح فيها عشرين مذهبا ولكن ما زاد على ما ذكرناه هنالك منها لا يصلح لجعله مذهبا مستقلا.
قوله: "الدرهم ثمانية وأربعون شعيرة".
أقول : الاعتبار بالدرهم الإسلامي المعامل به في أيام النبوة وإن كان من غير ضريبة الإسلام إذ لا ضربة في أيام النبوة ولا في أيام خلفاء الصحابة وأول من ضرب الدرهم عبد الملك بن مروان ثم إذا التبس قدر الدرهم فهو الذي يقابل الدينار فيه اثني عشر درهما.
وأما قوله: "أو ما يساويهما" فظاهر ولهذا قطع رسول الله صلى الله عليه وسلم في مجن وقطع في رداء صفوان.
قوله: "ولو جماعة لجماعة".
أقول : لا بد أن يسرق كل واحد من الجماعة نصابا من حرز لا لو كان مجموع ما أخذوه وأخرجوه من الحرز جميعا لا تأتي حصة كل واحد منهم قدر النصاب فلا قطع لأن الشارع جعل مطلق النصاب شرطا في مطلق القطع والدماء معصومة فلا تراق إلا بحقها وهو سرقة النصاب من كل فرد فرد ولا وجه لقياس هذا فعلي قتل الجماعة بالواحد فإن القصاص حق لآدمي وهذا حق لله وأيضا الحد يدرأ بالشبهة بخلاف القصاص وأيضا قام الدليل العقلي والنقلي هنالك ولا يصح اعتباره هنا.
وأما قوله: "ولجماعة" فصحيح لأنه قد حصل الشرط وهو سرقة النصاب ولم يرد ما يدل على أن يكون المالك له واحدا.
وأما قوله: "أو لذمي" فوجهه شمول أدلة السارق لكل مسروق ومال الذمي محترم معصوم بالذمة.
وأما قوله: "أو لغريم" فوجهه أنه قد سرق النصاب من مال غيره فاستحق القطع وكونه له عليه دين لم يرد دليل يدل عن أنه مسقط للحد فوجب البقاء على عموم الأدلة.
قوله: "وقد أخرجه من حرز".

(1/860)


أقول : قد استدل القائلون باشتراط الحرز بأدلة منها حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عنه أحمد "2/180، 203، 207، 2/186" وأبي داود "4390"، والنسائي "8/84"، والترمذي 1289"، وحسنه الحاكم وصححه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه سئل عن التمر المعلق فقال: "من أصاب منه بفية من ذي حاجة غير متخذ خبنة فلا شيء عليه ومن خرج بشيء فعليه غرامة مثليه والعقوبة ومن سرق منه شيئا بعد أن يؤويه الجرين فبلغ ثمن المجن فعليه القطع" وفي لفظ لأحمد والنسائي: "وما أخذ من أجرانه ففيه القطع إذا بلغ ما يؤخذ من ذلك ثمن المجن" وفي لفظ لهما من هذا الحديث في ذكر سرق الماشية التي تؤخذ من مراتعها: "فيها ثمنها مرتين وضرب نكال وما أخذا من عطنه ففيه القطع إذا بلغ ما يؤخذ من ذلك ثمن المجن" ومنها ما أخرجه أحمد وأهل السنن والحاكم والبيهقي وصححه وصححه أيضا ابن حبان قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "لا قطع في ثمر ولا كثر"، ومنها ما أخرجه أحمد "3/380"، وأهل السنن أبو داود 4391، 4392، 4393"، الترمذي "1448"، النسائي "8/88، 89"، والحاكم والبيهقي وصححه الترمذي وابن حبان من حديث جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ليس على خائن ولا مختلس قطع"، وأخرج نحوه ابن ماجه "2592"، بإسناد صحيح من حديث عبد الرحمن بن عوف وأخرج نحوه ابن ماجه أيضا والطبراني في الأوسط من حديث أنس.
وهذه الأحاديث قد دل مجموعها على أنه لا قطع على من سرق من غير حرز وعلى أنه يقطع من سرق من حرز كالجرين والعطن ويقويها أن دم المسلم معصوم بعصمة الإسلام فأقل أحوال هذه الأحاديث أن يكون شبهة لا يجب معها القطع على من سرق من غير حرز ولا يعارضها حديث ابن عمر أنه صلى الله عليه وسلم قطع المخزومية التي كانت تستعير المتاع وتحجده كما أخرجه أحمد وأبو داود والنسائي وابن عوانة في صحيحه وأخرجه أيضا مسلم وغيره من حديث عائشة لأنه قد وقع التصريح في رواية الصحيحين وغيرهما أنها سرقت وفي روايةل ابن ماجه والحاكم وصححه من حديث ابن مسعود أنها سرقت قطيفة من بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخرج هذا الحديث أيضا أبو داود والترمذي فأفاد ذلك أنه قطعت لأجل السرق وذكر جحدها للمتاع للتعريف بها وكأنها قد كانت مشتهرة بهذا الوصف ولا مانع من أن يقع منها الأمران اجحد المتاع والسرق ولو فرضنا أنها قطعت بسبب جحدها للمتاع لكان ذلك في حكم التخصيص للأدلة القاضية باشتراط الحرز ولا معارضة بين عام وخاص.
وأما حديث صفوان بن أمية الذي أخرجه أحمد "6/466"، وأبو داود "4394"، والنسائي "8/69"، وابن ماجه "2595"، في قصة السارق الذي سرق رداءه من المسجد فقطعة رسول الله صلى الله عليه وسلم ففيه دليل على أن المسجد حرز لما فيه كالجرين والعطن وليس فيه ما يعارض

(1/861)


أحاديث الحرز ومثله حديث ابن عمر عند أحمد "16/110"، وأبي داود "4386"، والنسائي "4909"، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قطع يد سارق سرق برنسا من صفة النساء ثمنه ثلاثة دراهم فإن غاية ما فيه أن الصفة حرز لما سرق منها.
قوله: "بفعله حملا أو رميا" الخ.
أقول : هذا صحيح لأنه يصدق على من أخرج المتاع المسروق من الحرز على أي صفة من هذه الصفات أنه قد أخذه من حرز وأخرجه عنه وهكذا لو أخذ ذلك دفعتين أو دفعات وسواء علم المالك بعد بعض الدفعات أو لم يعلم لأنه قد صدق على السارق أنه سرق نصابا من حرز وهكذا يصدق على من أخرج المال من الحرز أنه قد سرق من حرزه وإن كوره له غيره أو قربه إليه.
وأما قوله: "إلا من خرق ما بلغته يده" فلا وجه له فإن هذا الذي تناوله بيده قد سرق النصاب من حرزه.
وأما أنه لا قطع على من سرق ثابتا من منبته فوجهه ما قدمنا من الأدلة المذكورة قريبا وأما قوله: "أو حرا وما في يده" فلا وجه له لأن السارق قد سرق النصاب من حرز وكونه على يد حر وصفة طردى لا تأثير له.
وأما قوله: "أو غصبا" فوجهه أنه لا يصدق مسمى السرقة على الغصب فإن السرقة هي أخذ المال خفية والغصب أخذ المال علانية وقد علق الشارع القطع على وصف السارق وتعليق الحكم على الوصف مشعر بالعلية.
وأما قوله: "أو غنيمة" فوجهه أن له نصيبا منها لأن المفروض أنه من الغانمين وهكذا قوله أو بيت مال المسلمين وهو من جملتهم.
وأما قوله: "أو ما استخرجه بخارج بنفسه" إلخ فوجهه أنه لا يصدق عليه أنه أخرج المسروق من حرزه بل أخرجه الخارج بنفسه.
وأما قوله: "لكن يؤدب كالمقرب" فهذا نوع من التعزير راجع إلى نظر الإمام والحاكم.
[ فصل
والحرز ما وضع لمنع الداخل والخارج ألا يخرج ومنه الجرن والمربد والمراح محصنات وبيت غير ذي باب فيه مالكه والمدفن المعتاد والقبر للكفن والمسجد والكعبة لكسوتهما وآلتهما لا الكم والجوالق والخيم السماوية والأمكنة المنصوبة وما أذن للسارق بدخوله".

(1/862)


قوله: "فصل: والحرز ما وضع لمنع الداخل والخارج ألا يخرج".
أقول : الحرز هو ما يحرز فيها المالك ملكه ومعلوم أنه لا يصدق عليه أنه حرز إلا إذا كان على صفة يكون بها المال المحرز فيها مفارقا لما هو موضوع على ظاهر الأرض منبوذ في جانب من جوانبها وهذا المعنى يوجد بوجود ما يحرز الناس به أموالهم من الأبينة ونحوها على كل شيء بحسبه فحرز الثمرة ما يعتاده الناس في الجرين وحرز الماشية ما يعتاده الناس في أعطان الإبل ومرابض الغنم ونحو ذلك وحرز النقد والعرض ما يعتاده الناس من جعلها في المنازل مع تغليق أبوابها أو مع بقاء أهلها فيها وهكذا المدافن حرز لما فيها والقبور حرز لما في داخلها إذا كانت قد أحرزت لما يعتاده الناس ولا سيما بعد ورود النص في قطع النباش وهكذا المسجد ونحوه لجري عادة الناس بأنه حرز لما يجعل فيه من فرشه وآلآته بل لما دخل فيه من غيرها كما يدل عليه حديث صفوان المتقدم.
وبهذا تعرف أن المرجع الأعراف في إحراز الأموال فلا وجه لما استثناه المصنف من قوله لا الكم إلخ لأنهم إذا كانوا معتادين لإحراز الأموال في هذه الأمور كانت حرزا.
وأما ما أذن للسارق بدخوله فإن كان قد ائتمنه على ما فيه أو أمره بحفطه فلا شك أنه خائن وقد تقدم أنه لا قطع على خائن وإن لم يأتمنه على ما فيه بل أذن له بمجرد الدخول كالضيف فهذا السارق قد أخذ المال خفية وأخرجه من حرزه.
[ فصل
وإنما يقطع كف اليمنى من مفصله فإن ثنى غير ما قطع به أو كانت اليمنى باطلة فالرجل اليسرى غالبا ويحبس فقط إن عاد ويسقط بالمخالفة فيقتص العمد ويتأرش الخطأ وبعفو كل الخصوم أو تملكه قبل الرفع وبنقص قيمة المسروق عن عشرة وبدعواه إياه ولا يغرم بعده التالف ويسترد الباقي في يده أو في يد غيره بغير عوض ولا يقطع والد لولده وإن سفل ولا عبد لسيده وكذلك الزوجة والشريك لا عبداهما].
قوله: "فصل: وإنما يقطع كف اليد اليمنى من مفصله".
أقول : قول الله عزوجل: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} [المائدة: 38]. قد دل على قطع اليد وهي حقيقة في جمعها ثم ورد البيان من السنة بأن القطع لليد هو قطع الكف من الكوع كما أخرجه أبو الشيخ عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم وأبا بكر وعمر كانوا يقطعون السارق من المفصل وأخرج البيهقي عن عمر مثله ويؤيده ما أخرجه أهل السنن [أبو داود "4411"، اىلترمذي "1447"، النسائي "8/92"، ابن ماجة "2587"]، عن فضالة بن عبيد أنه أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم بسارق فقطعت يده ثم أمر بها فعلقت في عنقه وفي إسناده الحجاج بن أرطأة وهو ضعيف

(1/863)


ولكنه حسنه الترمذي وأما كون الكف التي تقطع هي اليمنى فللبيان النبوي ولقراءة ابن مسعود {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا}
قوله: "فان ثنى غير ما قطع به أو كانت اليمنى باطلة فالرجل اليسرى".
أقول : ظاهر قوله سبحانه: {فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} [المائدة: 38]، أن القطع في السرقة للأيدي وأن اليد اليسار مقدمة على الرجل ولا وجهه للقياس على المحاربة ولم يرد ما تقوم به الحجة في تقديم قطع الرجل على اليد اليسرى ولا يصح أن يقال إنه قد روي بطرق يشهد بعضها لبعض فإن في طرقه كذابين ولا يشهد حديث الكاذب للكاذب ولا يعضده كما هو مقرر في اصطلاح أهل فن الحديث ولكنه أخرج أبو داود والنسائي من حديث كما هو مقرر في اصطلاح أهل فن الحديث ولكنه أخرج أبو داود والنسائي من حديث جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم أتي بسارق فقال: "اقتلوه"، فقال يا رسول الله إنما سرق فقال: "اقطعوه" فقطعوه ثم عاد ثانية وثالثة ورابعة فيأتون به للنبي صلى الله عليه وسلم وهو يقول لهم كما قال أولا حتى أتوا به الخامسة وقد نفذت قوائمه الأربع فقال لهم: "اقتلوه" فهذا الحديث ليس فيه إلا ذكر القطع من غير تعيين رجل ولا يد وما ذكر في بعض طرقه من ذكر الرجل بعد اليد فلا أصل له على أن هذا الحديث نفسه قال فيه النسائي منكر لا أعلم فيه حديثا صحيحا وقال ابن عبد البر منكر لا أصل له وقال الشافعي منسوخ لا خلاف في ذلك مع أنه قد أخرجه النسائي والحاكم من حديث الحارث بن خاطب وأبو نعيم في الحلية من حديث عبد الله بن زيد الجهني وإذا كان المنسوخ هو مجرد القتل بعد قطع الأعضاء الأربعة فلا وجه لقول المصنف ثم يحبس فقط إن عاد وإن كان النسخ لجميع ما اشتمل عليه الحديث فلم يرد ما تقوم به الحجة في قطع الرجل اليسرى بل ولا في قطع اليد اليسرى ويكون الواجب قطع اليمنى على أي صفة كانت فإن كانت قد قطعت لسبب آخر سقط القطع هذا على تقدير أن حديث جابر هذا وما شهد له مما تقوم به الحجة وقد عرفت ما قيل في حديث جابر والمنكر لا يقوم به حجة فيكون الواجب هو قطع اليد اليمنى فقط ولا يجب قطع غيرها إذا سرق مرة أخرى لا رجل ولا يد.
قوله: "و يسقط بالمخالفة".
أقول : لم يرد شي يدل علي هذا السقوط قط والعضو الذي أمر الله بقطعه باق فالخطاب متوجه إليه وعلى الذي قطع غيره القصاص أو الدية وإن كان مخطئا وما قيل مما فيه مخالفة لهذا فهو خبط لسي عليه أثارة من علم والباعث عليه حور الطبيعة ومزيد الرحمة لمن قطعت يسرى يديه أن لا تقطع معها اليمنى فيضحى بلا يدين فما لنا ولهذا ما أدخله في الأحكام الشرعية فإن يده اليسرة قطعت بالجناية عليها على خلاف حكم الله ويده التي أمر الله بقطعها باقية فيقطع بحكم الله سبحانه وإذا صار إلى حالة ليس له فيها يدان فعلى نفسها براقش تجنى.
قوله: "وبعفو كل الخصوم" الخ.
أقول : العفو قبل الرفع مندوب لما أخرجه أبو داود "4376"، والنسائي "4889"، من

(1/864)


حديث عبد الله ابن عمرو أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "تعافوا الحدود فيما بينكم فما بلغني من حد فقد وجب"، وأخرجه أيضا الحاكم وصححه قال ابن حجر في الفتح وسنده إلى عمرو بن شعيب صحيح.
وأخرج مالك ف الموطأ عن ربيعة بن أبي عبد الرحمن قال إن الزبير بن العوام لقي رجلا قد أخذ سارقا وهو يريد أن يذهب به إلى السلطان فشفع له الزبير ليرسله فقال لا حتى أبلغ به السلطان فقال الزبير إذا بلغت به السلطان فلعن الله الشافع والمشفع وقد تقدم في حديث المخزومية الثابت في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأسامة: "أتشفع في حد من حدود الله؟"، وفي لفظ: "لا أراك تشفع في حد من حدود الله"، وتقدم أيضا أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لصفوان في السارق الذي سرق رداءه: "هلا كان قبل أن تأتيني به".
وأما كونه يسقط عن السارق بتملكه للمسروق قبل الرفع ففي كون كون هذا شبهة يسقط بها لحد نظر لأن السرقة الموجبة للحد قد وقعت وهو في غير ملكه فلا يؤثر تملكه له من بعد.
قوله: "وبنقص قيمة المسروق عن عشرة".
أقول : إذا نقص قيمة المسروق على النصاب المعتبر على حسب ما قررناه سابقا فالحد لم يجب من الأصل حتى يقال إنه يسقط بذلك ففي العبارة تسامح وأما كونه يسقط بمجرد الدعوى أنه له وإن لم تصح الدعوى ففي كون هذه الدعوى الباطلة شبهة نظر وقد تقدم أنه لا بد أن تكون الشبهة محتملة.
قوله: "ولا يغرم بعده التالف".
أقول : الوجه في هذا أنه لم يصح عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا عن أحد من الخلفاء الراشدين أنه أمر السارق بضمان ما سرقه بعد قطعه وهذا يكفي في الاستدلال وأما حديث عبد الرحمن بن عوف عند النسائي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا يغرم صاحب سرقة إذا أقيم عليه الحد"، فقد بين النسائي "4984"، بعد إخراجه له أنه منقطع وقال أبو حاتم إنه منكر وقال ابن عبد البر لا تقوم به حجة.
وأما كونه يسترد الباقي في يده أو يد غيره بغير عوض فوجهه أنه باق على ملك مالكه لم يتحول بالسرقة عنه فله أن يرجع بالعين على من هي في يده أو على السارق ويجب على السارق أن يسترجع تلك العين ولو بعوض لا كما قال المصنف وقد قام الدليل على ذلك كما أخرجه النسائي من حديث أسيد بن حضير أن النبي صلى الله عليه وسلم قضى في السرقة إذا وجدها ربها مع غير المتهم أنه إن شاء وأخذها منه بما اشتراها وإن شاء اتبع سارقه وقضى بذلك أبو بكر وعمر وأما رد هذا الحديث لدعوى كونه مشكلا فمن أغرب ما يقرع الأسماع فالأحكام النبوية هي الحجة على العباد {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحشر: 7]، وإذا خالفها مجتهد برأيه فرأيه رد عليه مضروب به وجهه ولكن التجري على رد السنن يفعل بصاحبه مثل هذا.

(1/865)


قوله: "ولا يقطع والد لولده وإن سفل".
أقول : لا شك أن حديث: "أنت ومالك لأبيك"، يكون شبهة أقل أحواله وهو حديث تقوم به الحجة وقد عضده حديث: "كلوا من كسب أولادكم"، وقد قدمنا الكلام على الحديثين جميعا.
وأما الولد إذا سرق مال والده فلا شبهة له وهو مشمول بالأدلة الموجبة للحد على السارق ومن قال إن في قطعه قطع رحم أمر الله بعلتها فقد أسرف في الغفلة فإنه أوجب هذا الشرع الثابت بالكتاب والسنة وبإجماع المسلمين وليست صلة الرحم بإسقاط ما أوجبه الله وجعله شرعا لعباده ولو كان هذا صحيحا لم يثبت على قريب لقريبه حق لا في نفس ولا مال واللازم باطل بالإجماع فالملزوم مثله.
وأما كونه لا يقطع عبد لسيده فوجهه ظاهر ولا سيما عند من يقول إن العبد لا يملك.
وأما قوله: "وكذا الزوجة" فلا وجه له إلا على ما قدمنا من الكلام على قوله وما أذن السارق بدخوله وأما الشريك لشريكه فهو في غاية الظهور إذا كان المال المسروق مشتركا بينهما وهكذا عبيد الشريكين لأنهم سرقوا مال سيدهم وقد أغنى عن ذكر هذا ما تقدم من قوله: ولا عبد لسيده فإن كل واحد من عبدي الشريكين سرقا مالا بعضه لسيده فكان هذا البعض شبهة في الباقي.
[ فصل
والمحارب وهو من أخاف السبيل في غير المصر لأخذ المال يعزره الإمام أو ينفيه بالطرد ما لم يكن قد أحدث وإلا قطع يده ورجله من خلاف لأخذ نصاب السرقة وضرب عنقه وصلبه للقتل وقاص وأرش للجرح فإن جمعها قتل وصلب فقط ويقبل من وصله تائبا قبل الظفر به وتسقط عنه الحدود وما قد أتلف ولو قتلا لا بعده فلا عفو ويخير في المراسل].
قوله: "فصل: والمحارب هو من أخاف السبيل". الخ.
أقول : هذا الحد من جملة ما شرعه الله من الحدود بين عباده وجاء في كلامه بالصيغة المنادية بالعموم بأعلى صوت وأوضح دلالة فهي من هذه الحيثية شرع عام لجميع الأمة أولهم وأخرهم أسودهم وأبيضهم وكون سبب نزولها في المشركين الذين أخذوا لقاح رسول الله صلى الله عليه وسلم لما شكوا إليه وباء المدينة فأمرهم بالخروج إلى حيث كانت إبله ليشربوا من ألبانها وأبوالها حتى يصحوا فقتلوا راعيها وساقوها لا يدل على اختصاص هذا الحد بهم فإن الاعتبار بعموم اللفظ لا بخصوص السبب كما هو مقرر في الأصول لا يخالف فيه أحد من الأئمة الفحول على أن

(1/866)


هؤلاء الذين كانوا سبب النزول قد كانوا تكلموا بكلمة الإسلام كما في الصحيحين [البخاري "683"، مسلم "1671"]، وغيرهما [أبو داود "4364"، الترمذي "72"، النسائي "4029"، ابن ماجة "2578"]، ومجرد هذا الواقع منهم لا يكون ردة ولو سلمنا أنهم صاروا بذلك كفارا مشركين فقد أنزل الله في كتابه العزيز الأمر بقتل المشركين حيث وجدوا وأين يقفو فكان هذا الحكم العام مغنيا عن إدخالهم في زمرة الإسلام فيما شرعه لهم من الأحكام فالمشرك سواء حارب أو لم يحارب مباح الدم ما دام مشركا فليس في حمل الآية على المشركين وتخصيص حد المحاربة بهم إلا التعطيل لفائدتها والمخالفة لما يقتضيه الحق ويقود إليه الإنصاف وقد أقام هذا الحد على المحاربين الصحابة فمن بعدهم إلى هذا الغاية.
وأما ما أبداه الجلال رحمه الله من الفوائد والمفاسد لما اختاره من اختصاص حد المحاربة بالمشركين فتلك الفوائد واندفاع المفاسد لا يقوم رقعها بالخرق على أنها زائفة داحضة ناشئة عن الوسوسة في زحلفة أحكام الله وتبديل ما شرعه.
وأما اشتراط المصنف رحمه الله أن تكون إخافة السبيل في غير المصر فلا وجه له لأن الله سبحانه شرع لنا هذا الحد فأطلقه ولم يقيده ولا ثبت لنا عن رسوله المبين للناس ما نزل إليهم أنه قيده بهذا القيد فمن وجدت منه المحاربة وهي إخافة السبيل بالقتل ونهب المال فهو محارب سواء كان داخل المصر أو خارجه ثم هذا المحارب الذي وقعت منه المحاربة حده هو ما ذكره الله سبحانه من التخيير بين القتل أو الصلب أو قطع اليد والرجل أو نفيهم من الأرض فهذا حد الله الذي شرعه لعباده في كتابه بعبارة في غاية الوضوح والبيان بحيث لا يخفى على العامة فضلا عن أهل العلم فالتوزيع لهذه العقوبات المذكورة في الآية كما ذكره المصنف تقييد لكتاب الله بلا دليل بل بمجرد القال والقيل ولا يلزمنا اجتهاد لمجتهد من الصحابة أو أكثر ما لم يكن إجماعا منهم على أن المروي عن ابن عباس في توزيع العقوبات المذكورة في الآية على الصفة التي ذكرها المصنف لم تكن في شيء من دواوين الإسلام وإنما أخرجه الشافعي من طريق إبراهيم ابن محمد بن أبي يحيى وهو ضعيف لا تقوم بمثله حجة كما هو معروف عند أهل الفن.
قوله: "ويسقط عنه الحدود" الخ.
أقول : ظاهر التقييد بقوله عزوجل: {إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ} [المائدة: 34]، أنها قيد لحد المحاربة كما يشعر به السياق فلا يجوز للإمام والسلطان وغيرهم أن يقيموا حدود المحاربة على محارب تاب قبل القدرة عليه وأما سائر الحدود فلا دليل على أنها تسقط بالتوبة ولا بالوصول إلى الإمام قبل القدرة بل هي باقية على أصلها لا يسقطها إلا بمسقط وإذا كان هذا في الحدود فكيف بالأموال التي في ذمة المحارب إلا ما كان متعلقا لما تاب عنه من المحاربة فإن ما سفكه فيها من الدماء وأتلفه من الأموال ظاهر التقييد أنه يسقط لأنه قد تاب من قبل أن يقدر عليه فاستحق عدم المؤاخذة بحد المحاربة ولا بما يتعلق به وأما إذا كان المحارب كافرا فهو وإن كان يجري عليه هذا الحد كما يجري على المسلمين لكن إذا تاب من

(1/867)


المحاربة مع البقاء على كفره فهي توبة مقبولة داخلة تحت عموم الآية وأما إذا أسلم فالإسلام يجب ما قبله.
وأما قوله: "لا بعده فلا عفو" فهو كلام صحيح لما عرفناك فيما سبق من دفع ما قاله المصنف أن للإمام إسقاط الحدود وتأخيرها لمصلحة فقد أصاب هنا ولم يصب هنالك.
وأما قوله: "ويخير في المراسل" فمناف لما يدل عليه قوله: {إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ} إذ لم يكن في هذه الآية إلا اعتبار مجرد حصول التوبة سواء كانت مع الوصول إلى الإمام أو لمجرد المراسلة.
[ فصل
والقتل حد الحربي والمرتد بأي وجه كفر بعد استتابة ثلاثا فأبى والمحارب مطلقا والديوث والساحر بعد الاستتابة لا المعترف بالتمويه وبالإمام تأديبه].
قوله: "فصل: والقتل حد الحربى".
أقول : هذا ثابت بالضرورة الدينية والآيات والأحاديث في هذا كثيرة جدا ولا حاجة إلى بيان ما هو من ضروريات الدين وأجمع عليه جميع المسلمين وما قيل أن القتل لا يقال له حد لأنه المنع عن المعصية فيجاب عنه بأن في القتل للعاصي المنع التام له من معاودة المعاصي أيضا وأيضا قد قال صلى الله عليه وسلم: "حد الساحر ضربة بالسيف"، كما أخرجه الترمذي "1460"، وغيره.
قوله: "والمرتد".
أقول : قتل المرتد عن الإسلام متفق عليه في الجملة وإن اختلفوا في تفاصيله و الأدلة الدالة عليه أكثر من أن تحصر لو لم يكن منها إلا حديث: "من بدل دينه فاقتلوه"، وهو في الصحيح [البخاري "6/149"]، وحديث: "لا يحل دم امرىء مسلم إلا بإحدى ثلاث"، وهو كذلك في الصحيح [البخاري "12/201]، ولا فرق بين المرتدين من الرجال والنساء وما ورد في النهي عن قتل النساء فذلك في نساء الكفار الباقيات على الكفر وأما النساء المسلمات إذا وقعت منهن الردة فقد فعلن بالخروج من الإسلام سببا من أسباب القتل فبين الكفارة الأصلية والمرأة المسلمة المرتدة عن الإسلام في الكفر فرق أوضح من كل واضح فلا يحتاج إلى الكلام على تعارض الأدلة الواردة في قتل المرتدين على العموم والأدلة الواردة في قتل النساء الكافرات على العموم بل يقر كل منهما في موضعه.
وأما قوله: "بأي وجه كفر" فقد أراد المصنف إدخال كفار التأويل اصطلاحا في مسمى الردة وهذه زلة قدم يقال عندها لليدين وللفم وعثرة لا تقال وهفوة لا تغتفر ولو صح هذه لكان غالب من على ظهر البسيطة من المسلمين مرتدين لأن أهل المذاهب الأربعة أشعرية وما تريدية

(1/868)


وهم يكفرون المتعزلة ومن تابعهم والمعتزلة يكفرونهم وكل ذلك نزغة من نزغات الشيطان الرجيم ونبضة من نبضات التعصب البالغ والتعسف العظيم وقد أوضحنا فهذا في مؤلفاتنا بما لا يبقى بعده ريب لمرتاب.
قوله: "بعد استتابته ثلاثا فأبى".
أقول : الأدلة قد دلت على أن الردة سبب من أسباب القتل وأن هذا السبب مستقل بالسببية كما في حديث: "من بدل دينه فاقتلوه"، ونحوه ولم يصح في الاستتابة والانتظار به أياما شيء من المرفوع ولا تقوم الحجة بغيره فالواجب علينا عند ارتداد المرتد أن تأمره بالرجوع إلى الإسلام والسيف على رأسه فإن أبى ضربنا عنقه حكم الله ومن أحسن من الله حكما وهذا القول هو بمثابة تقديم الدعوى لأهل الكفر إلى الإسلام فإن ذلك يحصل بمجرد قول المسلمين لهم أسلموا أو أعطوا الجزية فإن أبوا عند جواب هذه الكلمة فالسيف هو الحكم العدل والفعل الفصل.
وأما قوله: "والمحارب" فقد تقدم الكلام عليه.
قوله: "والديوث".
أقول : هذه معصية من أعظم المعاصي ورذيلة من أقبح الرذائل وأما أنها توجب سفك دم المسلم واستحلاله فلم يرد في ذلك شيء يصلح للاستدلال به ودماء المسلمين معصومة بعصمة الإسلام لا ينقل عن هذه العصمة إلا ناقل صحيح وليس ها هنا ناقل لا صحيح ولا حسن.
قوله: "والساحر".
أقول : أنص دليل على قتل الساحر حديث جندب عند الترمذي والدارقطني والحاكم والبيهقي قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "حد الساحر ضربة بالسيف"، وما قيل من أن في إسناده اسماعيل بن مسلم المكي وهو ضعيف فيجاب عنه بأن وكيع بن الجراح قال هو ثقة ويؤيده عمل الصحابة واشتهار ذلك بينهم من غير نكير حتى وقع من حفصة زوج النبي صلى الله عليه وسلم فإنها قتلت جارية لها سحرتها كما رواه مالك في الموطأ وعبد الرزاق وأخرج أحمد وأبو داود وعبد الرزاق والبيهقي أن عمر بن الخطاب قبل موته بشهر كتب أن اقتلوا كل ساحر وساحرة ولا يصح الاحتجاج على عدم القتل بتركة صلى الله عليه وسلم للقتل لليهودي الذي سحره فإنه إنما ترك ذلك لئلا يثير على الناس شرا ولهذا ثبت في الصحيحين [البخاري "10/221"، مسلم "43/2189"]، وغيرهما [أحمد "6/63، 96"، ابن ماجة "3545"، أن عائشة قالت له: "أفأخرجته" أي أخرجت السحر من البئر لما وصف لها أن الساحر الذي سحره اليهودي لبيد بن الأعصم في بئر ذروان فقال لها: "أما أنا فقد عافاني الله وشفاني وخشيت أن أثور على الناس منه شرا" فقد ترك صلى الله عليه وسلم إخراج السحر من البئر لئلا يثور على الناس الشر فبالأولى قتل ذلك الساحر ومما يؤيد القتل للساحر أن الساحر كافر كما تدل عليه الأدلة فقتله بسبب كفره مع ارتكابه لهذه العظيمة التي يفرق بها بين المرء وزوجه.
وأما قوله: "لا المعترف بالتمويه" فلا وجه له لأنه إذا كان الذي فعله سحرا فلا يرفع عنه

(1/869)


الكفر والقتل إلا التوبة وإن لم يكن سحرا فلا وجه للاحتراز عنه.
وأما كون للإمام تأديبه فنعم يؤدبه بضربة بالسيف يطير بها رأسه عن جسده وكان على المصنف أن يذكر في هذا الفصل من جملة من حده القتل الساب لله عزوجل أو لكتابه أو لرسوله أو للسنة المطهرة أو للإسلام فإن هذه كفر بواح لا يحل التثبط عن قتل من وقعت منه إلا أن يتوب توبة خالصة وهكذا الزنديق فإنه أحق أعداء الله بالقتل لأنه يتظاهر بالإسلام ويسعى في كيد الدين وزحلفة غير المتبصرين عنه وهذه وإن كانت قد دخلت تحت لفظ المرتد لأنها ردة قبيحة فقد وقع الخلاف في كون بعضها كفرا كما وقع الخلاف في الساحر فكان ينبغي أن يذكر كما ذكر.
وهكذا كان ينبغي أن يذكر في هذا الفصل الزاني المحصن وإن كان قد ذكره فيما سبق لكنه أعاد ذكر المحارب هنا مع أنه قد ذكر هناك استيفاء للحصر.
[ فصل
والتعزير إلى كل ذي ولاية وهو حبس أو إسقاط عمامة أو عتل أو ضرب دون حد لكل معصية لا توجبه كأكل وشتم محرم وإتيان دبر الحليلة وغير فرج غيرها ومضاجعة أجنبية وامرأة على امرأة وأخذ دون العشرة وفي كل وفي كل دون جنسه وكالنرد والشطرنج والغناء والقمار والإغراء بين الحيوان ومنه حبس الدعار وزيادة هتك الحرمة وما تعلق بالآدمي فحق له وإلا فلله].
قوله: "فصل: التعزير إلى كل ذي ولاية". الخ.
أقول : المسلم وماله وعرضه تحت العصمة الإسلامية فلا يجوز في هذه الأمور المعصومة شيء إلا بحقه وقد دل حديث أبي بردة بن نيار في الصحيحين [البخاري "12/175"، مسلم "40/1708"، وغيرهما أبو داود "4492"]، أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم بقول: "لا يجلد فوق عشرة أسواط إلا في حد من حدود الله تعالى"، أنه يجوز هذا الجلد إلى هذا المقدار عقوبة للعصاة الذين فعلوا محرما ولم يرتكبو حدا ودل أيضا حديث بهز بن حكيم عن أبيه عن جده أن النبي صلى الله عليه وسلم حبس رجلا في تهمة ثم خلى عنه كما أخرجه أحمد وأبو داود والنسائي والترمذي وحسنة الحاكم وصححه أنه يجوز الحبس بالتهمة ولما هو أولى منها وهو ثبوت الحق بيقين من غير تهمة إذا لم يتخلص عنه من هو عليه وقد أخرج الحاكم لهذا الحديث شاهدا من حديث أبي هريرة: أن النبي صلى الله عليه وسلم حبس في تهمة يوما وليلة.
وقد ذكرنا فيما سبق كلاما في الحبس وأحلنا على ما ذكرنا في شرح المنتقى فليرجع إليه.

(1/870)


وأما ما ذكره من أنواع التعزير فليس إلا الضرب والحبس وقوفا على ما رود به الشرع من تخصيص تلك العصمة الإسلامية ولكنه ينبغي أن يزيد في الضرب إلى حد العشر في المنتهك للكبائر التي لا حد فيها ويقتصر فيما دونها على دون العشر وهكذا يكون الحبس فيغلظ في الممتنع من الحق الثابت عليه والمنتهك لمعاصي الله سبحانه التي لم يرد فيها حد ويخفف فيما دون ذلك كالتهمة لتجويز أن يظهر ما يدل على براءته.
وأما قوله: "دون حد" فالذي قاله الصادق المصدوق: "لا يجلد فوق عشرة أسواط إلا في حد من حدود الله"، فإن هذه العبارة التي جاء بها المصنف من العبارة التي عبر بها رسول الله صلى الله عليه وسلم فغاية ما يبلغ عليه التعزير هو عشرة أسواط وهي عشر حد الزنا وثمن حد القذف والشرب فكيف يستحل من المسلم أن يضرب مائة جلدة إلا واحدة أو ثمانين جلدة إلا واحدة مثلا وأي شرع دل على هذا أو قضى به نعم قضى بذلك شرع الوسوسة والخيال والعمل في أحكام الله على الرأي الذي هو شعبة من القيل والقال.
وأما قوله: "لكل معصية" إلى قوله وأخذ دون العشرة فهذا تمثيل صحيح ومن هذا القبيل المربي والخائن والغاصب والمتنع من تخلصه مما يجب عليه التخلص منه إلى ما لا يحصى من المعاصي.
وأما قوله: "في كل دون جد جنسه" فكان هذا يغنيه عن قوله: "دون حد" فيما تقدم.
قوله: "كالنرد".
أقول : قد ثبت في صحيح مسلم ["10/2260"، وغيره أبو داود "4939"، أحمد "5/352، 357، 361"، ابن ماجة "3763"]، من حديث بريدة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "من لعب بالنرد شير فكأنما صبغ يده في لحم خنزير ودمه"، وأخر احمد وأبو داود وابن ماجه والحاكم والدا رقطني والبيهقي بإسناد رجاله ثقات من حديث أبي موسى عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من لعب بالنرد فقد عصى الله وسوله"، وأخرجه أيضا مالك في الموطأ وأخرج أيضا احمد حديثا آخر عن أبي موسى أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من لعب بالكعاب فقد عصى الله وسوله"، وفي إسناده علي بن زيد وهو ضعيف والكعاب المذكورة هنا هي فصوص النرد وأخرج أحمد أيضا عن عبد الرحمن الخطمي قال سمعت أبي يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "مثل الذي يلعب بالنرد ثم يقوم فيصلي مثل الذي يتوضأ بالقيح ودم الخنزير ثم يقوم فيصلي". قال في مجمع الزوائد: فيه موسى ابن عبد الرحمن الخطمي ولم أعرفه وبقية رجاله رجال الصحيح.
فهذه الأحاديث تدل على تحريم اللعب بالنرد دلالة واضحة بينة.
قوله: "والشطرنج".
أقول : لم يرد في هذا بخصوصه ما يصلح للعمل عليه والاحتجاج به إثباتا أو نفيا ولعل سبب ذلك تأخر ظهور هذه الآلة عن البعثة النبوية ولكنه ورد ورودا متكاثرا عن جماعة من

(1/871)


الصحابة والتابعين أنها مندرجة تحت قوله سبحانه وتعالى: {إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ} [المائدة: 90]، الآية وقد ذكرت ذلك في تفسيري الذي سميته فتح القدير فليرجع إليه ولا شك أن الشطرنج من أعظم ما ينشأ عنه العداوة وإحراج الصدور والخصومات.
قوله: "والغناء".
أقول : الكلام على هذا يطول ويتشعب إلى فصول وذيول لا يتسع لها المقام وقد أوضحت الكلام واستوفيت المرام في شرحي للمنتقي فمن أراد الوقوف على حقيقة البحث والنظر في جميع الأحاديث الواردة تارة بما يقتضي التحريم وتارة بما يقتضي الكراهة وتارة بما يقتضي الإباحة فليرجع إلى ذلك ثم بعد أن حررت فيها ما حررته في ذلك الشرح أفردتها برسالة مستقله.
والحاصل أن الغناء إذا لم يكن من الحرام فهو من المشتبهات والمؤمنون وقافون عن الشبهات وأما استدلال المستدلين على الجواز بما كان يقع من مناشدة الأشعار في حضرته صلى الله عليه وسلم وفي مسجده فليس ذلك من الغناء في شيء وهكذا ما كان يقع في العرسات ونحوها من رفع الصوت بالشعر مع الضرب بالدفوف فإن ذلك غير هذا الغناء المذكور هنا ولو سلمنا أنه نوع منه لكان ذلك مخصوصا لما ورد من المخصصات للعرسات فلا نطيل الكلام في هذا المقام فإن الإحالة على ما أحلنا عليه فيها ارتفاع الإشكال وجلاء الريب ووضوح الصواب.
قوله: "والقمار".
أقول : يدل على تحريمه ما ثبت في الصحيحين [البخاري "11/536"، مسلم "5/1647"، وغيرهما أحمد "2/309"، الترمذي "1545"، ابن ماجة "2096"]، من حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "من حلف فقال في حلفه: باللات والعزى فليقل: لا إله إلا الله ومن قال لصاحبه تعالى أقامرك فليتصدق"، فإن هذه الصدقة هي كفارة لذنب القمار فأفاد ذلك أنه حرام وقد ذكرنا في تفسيرنا عند الكلام على الميسر ما يدل على أن القمار داخل في مسماه وقد قال الله عزوجل: {إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ} [المائدة: 91] الآية.
قوله: "والإغراء بين الحيوان"،
أقول : إنما أجاز الله سبحانه لعباده صيد ما يصاد من الحيوانات والانتفاع بما ينتفع به من أهليها من أكل وغيره وجوز لهم قتل ما يقتل منها من الفواسق وما كان فيه إضرار بالعباد أو بأموالهم وأما الإغراء بينها فهو باب من أبواب اللعب والعبث وليس هو مما أباحه الله لأنه إيلام لحيوان بغير فائدة على غير الصفة التي أذن الله بها فهو حرام من هذه الحيثية وقد حرم الله العبث بالحيوان لغير فائدة كما أخرجه مسلم "1957"، وغيره أحمد "1/280، 285، 340، 345"، النسائي "7/238"، من حديث ابن عباس مرفوعا بلفظ: "لا تتخذوا شيئا فيه الروح غرضا"، وهكذا حديث: "من قتل عصفورا عبثا عج إلى الله يوم القيامة يقول: يا رب إن فلانا قتلني عبثا ولم يقتلني منفعة"، [أحمد "2/166، 197، 4/389"، النسائي "7/239"]، وهو حديث مروي من طرق قد صحح الأئمة بعضها,

(1/872)


ووجه الاستدلال بما ذكرنا وإن كان ليس بإغراء بين الحيوان أن صلى الله عليه وسلم قد نهى عن العبث الذي لا فائدة فيه والإغراء عبث لا فائدة فيه.
وأما قوله: "ومنه حبس الدعار" فمراده أن هذا من نوع من أنواع التعزير.
وهكذا قوله: "وزيادة هتك الحرمة" وهما وإن دخلا في قوله لكل معصية ففي ذكرها نكتة تصلح لإيراد الخاص بعد العام الشامل له.
وأما قوله: "وما تعلق بالآدمي" إلخ فهو من الوضوح والجلاء بحيث يستغنى عن ذكره هنا.

(1/873)