الفقه
الإسلامي وأدلته للزحيلي ـ[الفِقْهُ الإسلاميُّ وأدلَّتُهُ
(الشَّامل للأدلّة الشَّرعيَّة والآراء المذهبيَّة وأهمّ النَّظريَّات
الفقهيَّة وتحقيق الأحاديث النَّبويَّة وتخريجها)]ـ
المؤلف: أ. د. وَهْبَة بن مصطفى الزُّحَيْلِيّ، أستاذ ورئيس قسم الفقه
الإسلاميّ وأصوله بجامعة دمشق - كلّيَّة الشَّريعة
الناشر: دار الفكر - سوريَّة - دمشق
الطبعة: الرَّابعة المنقَّحة المعدَّلة بالنِّسبة لما سبقها (وهي الطبعة
الثانية عشرة لما تقدمها من طبعات مصورة)
عدد الأجزاء: 10
أعده للشَّاملة/ أبو أكرم الحلبيّ
[ترقيم الكتاب موافق للمطبوع وهو مقابل على المطبوع ومذيل بالحواشي]
(/)
الجزء الأول
مقدمات
مقدمة الطبعة الجديدة
الفِقْهُ الإسلاميُّ وأدلَّتُهُ
هذه الطبعة الجديدة
الحمد لله رب العالمين حمداً يوافي نعمه ويكافئ مزيده، والصلاة والسلام
الأتمان الأكملان على رسول الرحمة ومعلم الأمة محمد بن عبد الله، وعلى آله
وصحبه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين، وبعد:
فإن الفقه الإسلامي العظيم الذي هو نسيج الإسلام المتين وشرع الله الحكيم،
والذي به صاغ المسلمون حياتهم في ضوء النصوص الشرعية، فتوحدوا في العبادة
والمعاملة والسلوك، هذا الفقه هو المنطلق الحضاري الرائع للأمة؛ لأنه يبني
لها أصول عزتها، وقوام حياتها، ويضع لها مخطط عملها في المستقبل.
ولقد أسهم كتابي هذا ولله الحمد والمنة في أمرين أساسيين، بسبب دقته
وتوثيقه وتميزه بالموضوعية والتجرد، وهما:
أولاً - إرشاد المسلمين والمسلمات إلى الأقوم، وتعليم الجيل أحكام دين الله
وشرعه، في وقت اختلطت فيه العلوم، وقل فيه التخصص، ولم يعد الإفتاء في
الحكم الشرعي دقيقاً، مما زاد في الجهل ومجانبة الصواب، بسبب قلة حلقات
العلم ومدارسة الفقه على أيدي العلماء في المساجد والمدارس على وجه سليم أو
كاف.
وثانياً - كان هذا الكتاب انتصاراً للمذاهب في وقت تعرضت فيه لهجمة شرسة من
أناس منتمين في الظاهر للإسلام، وهم بعيدون عنه، أو من آخرين يدّعون
الاجتهاد والتجديد، ويتذرعون بأخذ الأحكام الشرعية مباشرة من القرآن
والسنة، وهم في الواقع يجهلون أبسط قواعد الاستنباط من الأدلة، بل ربما
كانوا غرباء عن العلم وأصول الشريعة واللغة العربية. ولم يدروا أو تجاهلوا
أن فقه
(1/15)
المذاهب فقه متين جداً، وعميق جداً، وحضاري
معاصر مع الأصالة، لا يخرج عن الكتاب والسنة، فلكل حكم دليله الواضح إما من
نص مباشر خاص، أو من مجموعة نصوص تشريعية، أو إدراك لما قامت عليه النصوص
ذاتها من مراعاة المصالح العامة ودرء المضار والمفاسد عن الفرد والجماعة
والأمة، ولا أكون مبالغاً إن قلت: لن تخلف الدنيا أمثال أئمة المذاهب في
العلم والورع والتقوى والإخلاص لهذه الشريعة والحرص على استنباط الحكم
الصائب ضمن مناهج الاجتهاد وأصوله السليمة.
وهذه الطبعة الجديدة هي الطبعة الرابعة المنقحة المعدلة بالنسبة لما سبقها،
وهي الطبعة الثانية عشرة لما تقدمها من طبعات مصورة، لأن الدار الناشرة دار
الفكر بدمشق لا تعتبر التصوير وحده مسوغاً لتعدد الطبعات ما لم يكن هناك
إضافات ملموسة، وعلى كل حال فإن آلاف النسخ السابقة من خلال ما تم تصويره
قد أغنى الثقافة الإسلامية، وكان لها انتشار واضح في جميع البلاد العربية
والإسلامية، شرقها وغربها، وتميزت هذه الطبعة
بما يلي:
- إحداث تغييرات جزئية، وتعديلات كثيرة، وإضافات لبحوث جديدة متعددة، مثل
النية والباعث في العقود، ونظرية الفسخ، والتأمين وإعادة التأمين، والدولة
الإسلامية، وإعادة صياغة بعض الأبواب الفقهية كالمزارعة والاستصناع مثلاً.
- إغناء الفهرسة وتطويرها بحسب أحدث مناهج الفهرسة والمكانز العربية
والأجنبية.
- تخريج الآيات بالإضافة لتخريج الأحاديث النبوية الشريفة الذي كان مرعياً
منذ صدور الطبعة الأولى.
(1/16)
- إضافة كثير من المسائل الجزئية
والموضوعات المعاصرة، الملحقة بالأبواب الفقهية، ليصير الكتاب أكثر معاصرة
ومواكبة للحاجة، وتلبية الرغبات المتنوعة لمعرفة حكم كل جديد أو طارئ.
- إلحاق قرارات مجمع الفقه الإسلامي الصادرة عنه في دوراته الثماني السابقة
باستثناء الدورة الأولى التي لم يكن فيها توصيات أو قرارات أو فتاوى
جماعية، وإضافة وثيقة شرعة حقوق الإنسان في الإسلام.
- أسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يتقبل مني هذا العمل، ويجعله خالصاً
لوجهه الكريم، وفي ميزان حسناتي يوم الدين؛ لأن قصدي هو إغناء المعرفة
بعلوم الشريعة وتصحيح الأقوال والأفعال وضبط أصول الالتزام.
(1/17)
بسم الله الرحمن الرحيم
وبه نستعين
تقديم
- الحمد لله العليم الخبير، والصلاة والسلام على سيدنا محمد البشير النذير،
وعلى آله وصحبه أئمة الهدى ومصابيح الحياة، ورضي الله تبارك وتعالى عن أئمة
الاجتهاد من السلف الصالح صحباً وتابعين، وتابعيهم بإحسان إلى يوم الدين.
وبعد:
- فإن تنظيم شؤون الحياة والعلاقات الاجتماعية بين الناس، لايتم على نحو
صحيح في ميزان العدل الإلهي والمنطق البشري، من دون عقيدة سامية، وأخلاق
رصينة، ومبادئ وأنظمة شاملة، تضع حداً للفرد في ذاته وفي سره وعلانيته،
وللأسرة الخلية الأولى للمجتمع، وللمجتمع الكبير المنتظم تحت سلطان الدولة،
ليعيش في أمن واستقرار، ويظل في تقدم إلى الأمام، وليحمي نفسه من الأمراض
التي قد يتعرض لها، والتيارات التي تغزوه وتهز كيانه، إما بسبب الضعف
والانحلال والفساد، أو بسبب الفقر والجوع، أو بسبب التسلط والظلم
والاستعباد، أو بسبب الترف والأهواء، أو بسبب طغيان المادة على كل شيء، كما
في عصرنا الحاضر.
- ولا عاصم لهذا المجتمع من التردي، والانحدار أو الضياع، إلا بباعث إصلاحي
قوي يهز أركان الانحراف، ويقض مضاجع الغافلين السادرين، ليعيد
(1/19)
إلى النفس الشعور بالذات والثقة بها،
وضرورة إثبات وجودها وحيويتها وفاعليتها، وليس مثل القرآن العظيم، وسيرة
نبي الإسلام أصدق لهجة، وأقوم دعوة، وأخلص هدفاً في تصحيح مسيرة الناس، قال
الله تعالى: {وبالحق أنزلناهُ وبالحق نَزَلَ، وماأرسلناك إلا مبشراً
ونذيراً} [الإسراء:17/ 105] {إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم، ويبشر
المؤمنين الذين يعملون الصالحات أن لهم أجراً كبيراً} [الإسراء:17/ 9].
- ولايمكن البقاء لأي دعوة تعتمد على الاعتقاد الداخلي أو العاطفة فقط، بل
لابد دائماً من الالتزام العملي ببعض الواجبات، ليكون ذلك دليلاً صادقاً
على صحة الاعتقاد؛ لأن الإيمان الصحيح: هو ما وقر في القلب وصدقه العمل.
- وقد كان الفقه الإسلامي الذي مايزال موضع اعتزاز وفخار وتقدير بين أنواع
الفقه العالمي خير صورة عملية للمسلمين، لبَّى مطالب الناس في حكم أقوالهم
وأفعالهم وتصرفاتهم، وتنظيم شؤون حياتهم، وفيه تبلورت بحق أحكام القرآن
والسنة النبوية، وبه تحقق المقصد الأسمى والغاية الكبرى لهذا الدين الحنيف؛
لأن ماجاء به الإسلام من مبادئ في العقيدة الصحيحة والعبادة السليمة
والمعاملة المستقيمة، إنما يهدف في الحقيقة إلى تحقيق أغراض تهذيبية، تؤدي
إلى تصحيح المعاملات والسلوك الاجتماعي، وكان الفقه الأكبر: وهو معرفة
النفس مالها وماعليها، والفقه بالمعنى الضيق وهو الأحكام الشرعية العملية:
هو الترجمة الصادقة الدقيقة لشريعة الإسلام، ومنهاج القرآن في الحياة.
- ولكن مما لاشك فيه أن الفقه الإسلامي بحاجة ماسة إلى كتابة حديثة فيه،
تبسط ألفاظه، وتنظم موضوعاته، وتبين مراميه، وتربط اجتهاداته بالمصادر
الأصلية له، وتيسر للباحث طريق الرجوع إليه، للاستفادة منه في مجال
التقنين، وتزوده بمعادن الثروة الخصبة الضخمة التي أبدعتها عقول المجتهدين،
من غير تقيد باتجاه مذهبي معين؛ لأن فقه مذهب ما لا يمثل فقه الشريعة كله،
وقد بدئ
(1/20)
ولله الحمد على هذا النحو بمحاولات كتابة
موسوعة فقهية في سورية ومصر والكويت، ولما يكتمل شيء منها إلى الآن؛ لأن
للعمل الجماعي عيوبه أحياناً، من بطء الإنجاز، وتوزع العلماء، وكثرة
المشكلات.
- وكون أحد آراء الفقهاء من دون تعيين هو الحق والصواب ـ باعتبار أن الحق
واحد لا يتعدد ـ لايمنع الأخذ بأي رأي فقهي؛ لتعذر معرفة الأصوب بسبب
انقطاع الوحي والنبوة، إلا أن يتضح لنا رجحان الرأي بدليله الأقوى. وإذا لم
يتبين الأمر أمامنا، فلنأخذ في مجال وضع القوانين المستمدة من الفقه بالرأي
الذي يحقق مصلحة الناس، وحاجة التعامل، ويتلاءم مع التطورات الزمنية،
والأعراف الصحيحة التي لا تصادم الشريعة، وتنسجم في أفقها العام وهدفها
البعيد، مع مبادئ الإسلام وروح التشريع، ومقاصد الشرائع الكلية، وبه نحقق
غاية الشريعة ومصالح الناس معا ً، فلا يتعثر تطبيق الشريعة، ولا يصطدم
بأصولها العامة، أو بأحكامها الثابتة المقررة في نصوصها، فإن الأخذ بالنصوص
لايكون بتعطيلها، بل بتخصيصها وتأويلها والاجتهاد في فهمها، فكثيراً ماخصص
الفقهاء النص الشرعي بالتعامل، وقرروا بناء الأحكام على العرف.
- وكل هذا يتم على وفق نظرة إسلامية شاملة متكاملة، لا بمجرد ترقيع الواقع
المخالف في أسسه بمظاهر إسلامية، وترك الجوهر والمضمون الحقيقي، ولا بمجرد
تطعيم القوانين والأنظمة بنموذج إسلامي مبتور الجذور والأصول عن بقية أحكام
شرع الله تعالى، كالبدء بتطبيق العقوبات الشرعية (الحدود مثلاً) في مجتمع
ما غريب عن الإسلام في التربية والتعليم، والاجتماع والاقتصاد، والمنهج
والحياة، والتنظيم المستورد المفروض قسراً على الأمة.
- وبما أنني ما زلت مؤمناً بأن المستقبل للإسلام وفقهه وتشريعاته، وإن عطل
بعض الناس الانتفاع بنظامه، بالقوانين الوضعية المستوردة، فإني حريص على
بيان أحكام هذا الفقه؛ لأن ذلك التعطيل ردة موقوتة ليس لها دعائم بقاء أو
استقرار أو
(1/21)
احترام في أذهان المسلمين، بدليل ظهور صحوة
مباركة في بداية هذا القرن الخامس عشر الهجري، وبروز اتجاه قوي نحو العودة
بالفعل لتطبيق الشريعة الإسلامية في شتى المجالات، وقد بدأت فعلاً لجان
علمية متخصصة تنفذ قرارات وزراء العدل العرب بوضع قانون موحد مستمد من
الشريعة الإسلامية في النطاقين المدني والجنائي بالإضافة إلى مشروع قانون
موحد في الأحوال الشخصية وقد أنجز أغلب هذه المشروعات.
- منهج هذا الكتاب:
- يمكن إبراز بعض مزايا هذا الكتاب في الفقه على النحو الجديد في التأليف
تحقيقاً واستنباطاً وأسلوباً وتبويباً وتنظيماً وفهرسة واستدلالاً بما
يأتي:
- 1ً - إنه كتاب فقه
الشريعة الإسلامية المعتمد على الدليل الصحيح من القرآن والسنة والمعقول،
لا فقه السنة وحدها، ولا فقه الرأي وحده، إذ ليس عمل المجتهد معتبراً بغير
الاعتماد على القرآن والسنة. ومعرفة أحكام الشرع الفقهية التي هي مجرد أمر
وصفي وبيان مسلَّمات، لاتكوِّن قناعة عقلية ولا متعة نفسية، ولا طمأنينة
للعالم والمتعلم إذا جاءت من غير دليل، كما أن العلم بدليل الحكم يخرج من
ربقة الجمود على التقليد المذموم في القرآن إلى الاتباع المقرون بالبصيرة
الذي اشترطه الأئمة فيمن يتلقى العلم عنهم، ثم إن أدلة الأحكام هي روح
الفقه، ودراستها رياضة للعقل، وتربية له، وتكوين للملكة الفقهية لدى كل
متفقه.
- وبكلمة موجزة: يمتاز هذا الكتاب الشامل فقه المذاهب باعتماده ــ وهو
اعتماد المذاهب الإسلامية نفسها ــ على استنباط أحكامه من مختلف مصادر
التشريع الإسلامي النقلية والعقلية (الكتاب والسنة والاجتهاد بالرأي
المعتمد على روح التشريع الأصلية العامة) فمن قصر الفقه الإسلامي على
القرآن وحده فقد بتر أو مسخ الإسلام من جذوره، وكان أقرب لأعداء الدين، ومن
حصر الفقه بالسنة
(1/22)
وحدها فقد قصَّر وأساء، وعاش قاصر الطرف عن
شؤون الحياة، وبعد عن التفاعل أو التجاوب مع متطلبات الناس، وتحقيق
مصالحهم، ومن المعروف أنه حيثما وجدت المصلحة فثم شرع الله ودينه، وأن
زعماء مدرسة الحديث (مالك والشافعي وأحمد) أخذوا بالمصالح المرسلة والعرف
والعادة وسد الذرائع وغيرها من أدلة الاجتهاد بالرأي، كما أن زعماء مدرسة
الرأي كالنخعي وربيعة الرأي وأبي حنيفة وأصحابه لم يهملوا بتاتاً سنة أو
أثراً أو اجتهاداً عن السلف.
- 2ً - وهو ليس كتاباً
مذهبياً محدوداً، وإنما هو فقه مقارن بين المذاهب الأربعة (الحنفية
والمالكية والشافعية والحنابلة) وبعض المذاهب الأخرى أحياناً، بالاعتماد
الدقيق في تحقيق كل مذهب على مؤلفاته الموثوقة لديه، والإحالة على المصادر
المعتمدة عند أتباعه؛ لأن نقل حكم في مذهب من كتب المذاهب الأخرى لايخلو من
الوقوع في غلط في بيان الرأي الراجح المقرر، وقد عثرت على أمثلة كثيرة من
هذا النوع، آثرت عدم الإشارة إليها، حرصاً على الموضوعية والإيجابية فيما
يقرر، وبعداً عن تفسيرات فجة، وعصبيات مذهبية ضيقة، وتنزهاً عن المغالاة في
تقديس كل جزئيات الكتب الفقهية. وقد لقي هذا النوع من الدراسة والبيان لفقه
المذاهب الأربعة إقبالاً شديداً وحرصاً تاماً على المطالعة والاستفادة، وهو
يتفق مع الاتجاه العالمي للدراسة المقارنة، ويسهم في البعد عن العصبية
المذهبية أو يزيلها من النفس. ومع ذلك فإني أحاول دائماً التنويه بالرأي
الموحد بين فقهاء المذاهب، لا في مجرد العناوين لأحكام فقهية، بل في الشروط
والتفصيلات أيضاً.
- 3ً - فيه الحرص على بيان
صحة الحديث، وتخريج وتحقيق الأحاديث التي استدل بها الفقهاء، حتى يتبين
القارئ طريق السلامة، فيأخذ الرأي الذي صح دليله، ويترك من دون أسف كل رأي
متكئ على حديث ضعيف. وإذا لم أذكر ضعف الحديث فلأنه مقبول صحيح، عملاً
بالأصل العام في الحديث.
- 4ً - إنه كتاب يستوعب
مختلف الأحكام الفقهية للمسائل الأصلية، وموازنة
(1/23)
القضايا الفقهية في كل مذهب مع المذاهب
الأخرى، حتى يتحقق التقابل بين الآراء، ويجد الباحث ضالته المنشودة لمعرفة
الحكم المطلوب في المذهب الذي يطمئن إليه، ومقابلة الجزئيات المذهبية مع
المذاهب الأخرى والموازنة بين الآراء. وبالرغم من كونه أمراً عسيراً، فإنه
يحقق هدف القارئ، ويروي ظمأه.
- 5ً - فيه تركيز على
الجوانب العملية أو الواقعية، وبعد عن المسائل الفرضية البعيدة الحصول،
وإهمال لكل مايتعلق بالرق والعبيد، لعدم الحاجة إليه بعد إنهاء هذه المشكلة
وإلغاء الرق من العالم، إلا على سبيل الإلمام التاريخي واستكمال تصور
المسائل الفقهية أحياناً.
- 6ً - قد أذكر ترجيحاً بين
الآراء بحسب مايبدو لي، وبخاصة في مقابلة الحديث الضعيف، أو لما أرى في
مذهب ما من تحقيق مصلحة أو دفع مفسدة ومضرة.
- وإذا لم أصرح بالترجيح، فالأولى العمل برأي الأكثرين أو الجمهور؛ لأن
الكثرة يحصل بها الترجيح، فيقدم رأي الجمهور إلا إذا لم يكن ملائماً لظروف
الحياة الشرعية المعاصرة في المعاملات أو لم يترجح لدى مجتهد ما.
- ويجوز تقليد كل مذهب إسلامي معتمد عند الأغلبية، وإن أدى إلى التلفيق
(1)، عند الضرورة أو الحاجة أو العجز والعذر؛ لأن الصحيح جوازه عند
المالكية وجماعة من الحنفية، كما يجوز الأخذ بأيسر المذاهب أو تتبع الرخص
(2) عند الحاجة أو المصلحة لاعبثاً وتلهياً وهوى؛ لأن دين الله يسر لا عسر،
فيكون القول بجواز التلفيق من باب التيسير على الناس، قال الله تعالى:
{يريد الله بكم اليسر، ولايريد بكم العسر} [البقرة:2/ 185]، {وما جعل عليكم
في الدين من
_________
(1) التلفيق: هو الإتيان بكيفية لايقول بها كل مجتهد على حدة.
(2) تتبع الرخص: أن يأخذ الشخص من كل مذهب ماهو أهون له وأيسر فيما يطرأ
عليه من المسائل. حرج} [الحج:22/ 78]، {يريد الله أن يخفف عنكم، وخلق
الإنسان ضعيفاً} [النساء:4/ 28].
(1/24)
- ولايجوز تتبع الرخص عبثاً أو لهوى ذاتي،
بأن يأخذ الإنسان من كل مذهب ماهو الأخف عليه، من غير ضرورة ولا عذر، سداً
لذرائع الفساد بالانحلال من التكاليف الشرعية، ولايجوز التلفيق الذي يؤدي
إلى نقض حكم الحاكم؛ لأن حكمه يرفع الخلاف درءاً للفوضى، ولا التلفيق الذي
يؤدي إلى الرجوع عما عمل به المرء تقليداً، أو إلى مصادمة أمر مجمع عليه،
أو الوقوع في محظور شرعي، كالتزوج بامرأة بلا ولي ولاصداق ولا شهود، مقلداً
كل مذهب فيما لايقول به الآخر، أو تحليل المبتوتة بتزويجها من غلام صغير.
- 7ً - سهولة الأسلوب،
وتبسيط الكلام، وبيان الأمثال، والتبويب والمنهج الأقرب لفهم أهل العصر
ومألوفهم، وتحقيق الرأي الراجح في كل مذهب، ووضع الضوابط الكلية، ليسهل
التعرف على الأحكام من غير استطراد ولابعثرة للمسائل، فيصبح الفقه قريب
المنال بأسلوبه وتنظيمه وتبويبه، بعد أن كان أحياناً عصي الفهم، غريب
الأسلوب، بعيد الإدراك، حتى بالنسبة للمتخصص الذي يلقى صعوبة في التعرف على
حكم فقهي معين في ثنايا المسائل الكثيرة المتشابكة، وقد يحتاج لجهد كبير
ووقت طويل للاطلاع على باب فقهي برمَّته، أو اللجوء إلى أكثر من كتاب في
الموضوع ذاته. وحينئذ لايبقى عذر لأحد في محاولة التهرب من تطبيق أحكام
الفقه الإسلامي، بعد أن أزيل غموضه، ورفعت حواجز الوهم والتعقيد والصعوبة
في فهمه من بطون الكتب القديمة الغاصة بثروة وكنوز لامثيل لها في التاريخ.
- 8ً - حاولت بحث بعض
القضايا الجديدة وبخاصة في هذه الطبعة التاسعة، ليتعايش الناس معها،
مستلهماً قواعد الشريعة ومبادئها ومقررات الفقهاء، ويظل الباب مفتوحاً أمام
المزيد من البحوث والاجتهادات الجزئية؛ لأن فضل الله
(1/25)
لاينقطع، ومواهبه وعطاياه لاتنحصر في زمن
دون آخر، ولا على أشخاص دون غيرهم.
- ويظل رائدي إلى الأبد قوله تعالى: {إنما يخشى اللهَ من عباده العلماء}
[فاطر:35/ 28]، وقوله سبحانه: {وقل: رب زدني علماً} [طه:20/ 114]، وقوله
صلّى الله عليه وسلم فيما يرويه البخاري ومسلم: «من يرد الله به خيراً،
يفقهه في الدين» وما يرويه البخاري: «رب مبلَّغ أوعى من سامع».
- ومع أن هذا العمل يحتاج إلى جهد كبير وصبر وأناة، وتعاون فئة من العلماء،
فقد صممت على الكتابة مستعيناً بالله تعالى، لتقريب الفقه إلى الناس، سواء
العالم والمتعلم، من غير تعصب لرأي مذهبي معين؛ لأن الحكمة ضالة المؤمن
أينما وجدها التقطها، ولأن المساهمة في تقدم العلم بحسب مايرى العالم من
الحاجة أمر واجب على العلماء، لأن «العلم يزكو بالإنفاق» كما قال سيدنا علي
رضي الله عنه، خصوصاً مايتطلب البحث والتتبع والاستقصاء، والتحقيق وبيان
الراجح دليلاً ومذهباً، راجياً من الله تعالى أن يحقق به النفع، وأن يكون
سبيلاً للأجر وادخار الثواب عند الله تعالى بعد الموت وانتهاء الأجل، قال
النبي صلّى الله عليه وسلم فيما يرويه البخاري في الأدب المفرد، ومسلم
وأصحاب السنن إلا ابن ماجه عن أبي هريرة: «إذا مات الإنسان انقطع عمله، إلا
من ثلاث: صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له» (1) وقال ابن
عمر رضي الله عنه: «مجلس فقه خير من عبادة ستين سنة» وجزى الله والدي رحمه
الله الذي حبب إلي هذا العلم، وجزى الله أيضاً أساتذتي في الأزهر وسورية
على أفضالهم علي خير الجزاء.
- فإن أصبت الهدف المرجّى، فهو من فضل الله تعالى، ولا أدعي العصمة والكمال
والإحاطة بكل شيء في الفقه، فذلك من صفات الله وحده، وأعترف سلفاً بعجزي
وقصوري، قال الله سبحانه: {وماأوتيتم من العلم إلا قليلاً} [الإسراء:17/
85]، وإنما هو عمل لايعدو أن يكون محاولة في البيان والترتيب
_________
(1) لكن رمز له السيوطي بالضعف ويظهر أنه تصحيف مطبعي؛ لأن الحديث صحيح.
(1/26)
وتقريب الفقه للناس، والموازنة بين أحكامه
في المذاهب الأربعة ونحوها، والله ولي التوفيق.
- {رب هب لي حكماً وألحقني بالصالحين، واجعل لي لسان صدق في الآخرين،
واجعلني من ورثة جنة النعيم} [الشعراء:26/ 83 - 84 - 85].
- الباعث المباشر على تأليف هذا الكتاب:
- كان المسلم في الصدر الأول وِحْدة متكاملة، يجمع بين شؤون الدين والدنيا
والآخرة، في انسجام والتزام دقيق متوازن، سواء في شخصه وأسرته أم في سلوكه
وعمله في الحياة، وسواء أكان حاكماً قائداً، أم رعية من آحاد المسلمين
العاديين، فكان إذا دعا داعي الجهاد مثلاً هبَّ كالأسد الهصور للدفاع
المستميت عن دين الله تعالى وعزة الإسلام وحرمات المسلمين، وإن طرأت قضية
تهم الجماعة أو المجتمع في السياسة والحكم أو في القضايا الاجتماعية أو في
مجال الإفتاء، بادر إلى تقديم كل مايمكنه من عمل مثمر أو فكر متفتح منتج
مستلهماً العون الإلهي، مبتغياً تحقيق مرضاة الله تعالى.
- واليوم تشعبت اتجاهات المسلمين ومسالكهم، فلم يعد التوجه للإسلام في قمة
عناية المسلم وعمله، وأصبح العمل البنَّاء من أجل الصالح العام أمراً قليل
الأهمية أو عسير التحقيق، وانصرف غالب الناس من ملايين المسلمين الموزعين
في زهاء إحدى وخمسين دولة الآن إلى أعمالهم الخاصة، تشغلهم ثروتهم أو
تجارتهم أو عملهم الحر أو تثقيفهم أنفسهم بثقافات نظرية أو عملية معاصرة
طغت على الثقافة الإسلامية الأصيلة.
- وأصبح من الصعب العثور على فهم إيجابي للمسلم لحياة العصر، بسبب ازدواج
الثقافة العلمية المادية والشرعية، أو بسبب العمل بالتقنينات الوضعية
المستوردة والنظريات الاقتصادية الحديثة.
(1/27)
لكن يظل في أعماق الساحة الإسلامية قلَّة
من الرجال أو الشباب الذين فهموا ما يتطلبه الإسلام، وحياة المسلم المعاصر،
من احتياجات مع زحمة أعباء الحياة، لمعرفة شؤون الحلال والحرام في
المعاملات أو أحكام التكاليف الشرعية، فقدروا مايضر وماينفع، وبعدوا عن
العيش بالعاطفة وحدها.
- ولقد كان لأصحاب دار الفكر في دمشق، فضل الاقتراح علي بتأليف كتاب فقهي
جامع لكل نواحي الفقه الإسلامي، ينسجم مع أسلوب، وحاجات المسلم في الوقت
الراهن الذي لم يعد يقبل بديلاً عن التسلح بالقناعة الفكرية، والاطمئنان
الذاتي لصحة الحكم الشرعي المؤيد بالدليل، فبادرت إلى تلبية الدعوة وتنفيذ
الاقتراح بجهد متواصل وعمل مضن، حتى وفقني الله تعالى لإنجاز المطلوب، بعد
أن لمست فائدة هذا المنهج في الإقبال على دراسة واقتناء وتدريس ثلاثة أجزاء
من هذا الكتاب عن المعاملات والعقود بعنوان (الفقه الإسلامي في أسلوبه
الجديد) في أكثر من ست جامعات عربية.
- فللإخوة أصحاب دار الفكر كل التقدير والشكر الجزيل، ولهم من الله تعالى
المثوبة وحسن الجزاء على نشر هذا الكتاب وطبعه وتمويله وإخراجه في أجمل
مظهر من الطباعة الأنيقة الحديثة، وجزاهم الله خير الجزاء.
(1/28)
|