الفقه
الإسلامي وأدلته للزحيلي المبحث الثامن ـ
قضاء الصوم وكفارته وفديته:
وفيه مطالب ثلاثة:
المطلب الأول ـ قضاء الصوم:
أولاً ـ لوازم الإفطار: قال المالكية: يترتب على الإفطار سبعة أمور هي:
القضاء، والكفارة الكبرى، والكفارة الصغرى (وهي الفدية)، والإمساك، وقطع
التتابع، والعقوبة، وقطع النية (1).
ثانياً ـ حكم القضاء: يجب باتفاق الفقهاء القضاء على من أفطر يوماً أو أكثر
من رمضان، بعذر كالمرض والسفر والحيض ونحوه، أو بغير عذر كترك النية عمداً
أو سهواً (2)، لقوله تعالى: {فمن كان منكم مريضاً أو على سفر فعدة من أيام
أخر} [البقرة:184/ 2 - 185] والتقدير: فأفطر فعدة. وقالت عائشة في حديث
سابق: «كنا نحيض على عهد رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فنؤمر بقضاء
الصوم».
ويأثم المفطر بلا عذر، لقوله صلّى الله عليه وسلم: «من أفطر يوماً من رمضان
من غير
_________
(1) القوانين الفقهية: ص122 - 125.
(2) فتح القدير: 80/ 2 ومابعدها، بداية المجتهد: 288/ 1، الشرح الصغير:
703/ 1، مغني المحتاج: 437/ 1، كشاف القناع: 389/ 2، المغني: 135/ 3.
(3/1734)
رخصة (1)، ولا مرض، لم يقضه (2) صوم الدهر
كله، وإن صامه» (3).
والمقضي وجوباً: هو رمضان، وأيام الكفارة، والنذر، وحالة الشروع في التطوع
في رأي الحنفية والمالكية، لكن المالكية أوجبوا القضاء على من أفطر في
التطوع متعمداً، أما من أفطر فيه ناسياً، أتم ولا قضاء عليه إجماعاً، وإن
أفطر فيه بعذر مبيح فلا قضاء.
ووقت قضاء رمضان: ما بعد انتهائه إلى
مجيء رمضان المقبل، ويندب تعجيل القضاء إبراء للذمة ومسارعة إلى إسقاط
الواجب، ويجب العزم على قضاء كل عبادة إذا لم يفعلها فوراً، ويتعين القضاء
فوراً إذا بقي من الوقت لحلول رمضان الثاني بقدر ما فاته، ويرى الشافعية
وجوب المبادرة بالقضاء أي القضاء فوراً إذا كان الفطر في رمضان بغير عذر
شرعي، ويكره لمن عليه قضاء رمضان أن يتطوع بصوم. وأما إذا أخر القضاء حتى
دخل رمضان آخر، فقال الجمهور: يجب عليه بعد صيام رمضان الداخل القضاء
والكفارة (الفدية). وقال الحنفية: لا فدية عليه سواء أكان التأخير بعذر أم
بغير عذر. وتتكرر الفدية عند الشافعية بتكرر الأعوام.
ولكن لا يجزئ القضاء في الأيام المنهي عن صومها كأيام العيد، ولا في الوقت
المنذور صومه كالأيام الأولى من ذي الحجة، ولا في أيام رمضان الحاضر؛ لأنه
متعين للأداء، فلا يقبل صوماً آخر سواه. ويجزئ القضاء في يوم الشك لصحة
صومه تطوعاً، كما تقدم.
_________
(1) الرخصة في الأمر: خلاف التشديد فيه، والمراد هنا: إجازة تثبت العذر
كسفر في طاعة، أو سبب أباح الله له به الفطر.
(2) أي لم يؤد قضاءه بالفعل، ولم يجزه في الواقع.
(3) رواه الترمذي، واللفظ له، وأبو داود والنسائي، وابن ماجه وابن خزيمة في
صحيحه، والبيهقي، من حديث أبي هريرة (الترغيب والترهيب: 108/ 2).
(3/1735)
والقضاء يكون بالعدد، فإذا كان رمضان تسعة
وعشرين يوماً، وجب قضاء ذلك المقدار فقط من شهر آخر.
تتابع القضاء: اتفق أكثر الفقهاء (1)
على أنه يستحب موالاة القضاء أو تتابعه، لكن لا يشترط التتابع والفور في
قضاء رمضان، فإن شاء فرقه وإن شاء تابعه، لإطلاق النص القرآني الموجب
للقضاء، إلا إذا لم يبق من شعبان المقبل إلا ما يتسع للقضاء فقط، فيتعين
التتابع لضيق الوقت، كأداء رمضان في حق من لاعذر له.
ودليل عدم وجوب التتابع ظاهر قوله تعالى: {فعدة من أيام أخر} [البقرة:184/
2 - 185] فإنه يقتضي إيجاب العدد فقط، لا إيجاب التتابع.
وشرط الظاهرية والحسن البصري التتابع، لما روي عن عائشة أنها قالت: «نزلت:
فعدة من أيام أخر متتابعات» فسقط: متتابعات.
صوم الولي عن الميت قضاء: من مات وعليه
صيام شيء من رمضان فله حالان (2):
أحدهما ـ أن يموت قبل إمكان الصيام، إما لضيق الوقت أو لعذر من مرض أو سفر
أو عجز عن الصوم، فلا شيء عليه عند أكثر العلماء لعدم تقصيره، ولا إثم
عليه؛ لأنه فرض لم يتمكن منه إلى الموت، فسقط حكمه إلى غير بدل كالحج.
وبناء عليه: إن مات المريض أو المسافر، وهما على حالهما، لم يلزمهما
القضاء.
_________
(1) فتح القدير: 81/ 2، اللباب: 171/ 1، مراقي الفلاح: ص116، بداية
المجتهد: 289/ 1، مغني المحتاج: 445/ 1، الحضرمية: ص113، كشاف القناع: 388/
2 ومابعدها، القوانين الفقهية: ص121، المغني: 150/ 3.
(2) اللباب: 170/ 1، فتح القدير: 83/ 2 - 85، بداية المجتهد: 290/ 1، مغني
المحتاج: 438/ 1 ومابعدها، المغني: 142/ 3 ومابعدها، كشاف القناع: 360/ 2،
القوانين الفقهية: ص121، المهذب: 187/ 1.
(3/1736)
الحال الثاني ـ أن يموت بعد إمكان القضاء،
فلا يصوم عنه وليه أي لم يجب صومه عند أكثر الفقهاء، ولم يصح صومه عنه عند
الشافعية في الجديد؛ لأنه عبادة بدنية محضة، وجبت بأصل الشرع فلم تدخلها
النيابة في الحياة وبعد الموت كالصلاة، ولحديث: «لا يصلي أحد عن أحد، ولا
يصوم أحد عن أحد، ولكن يطعم عنه مكان كل يوم مدّ من حنطة» (1) ويستحب عند
الحنابلة للولي أن يصوم عن الميت؛ لأنه أحوط لبراءة الميت.
وهل يجب الإطعام عنه من التركة؟ قال
الحنفية والمالكية: إن أوصى بالإطعام، أطعم عنه وليه لكل يوم مسكيناً نصف
صاع (2) من تمر أوشعير؛ لأنه عجز عن الأداء في آخر عمره، فصار كالشيخ
الفاني، ولا بد من الإيصاء.
وقال الشافعية في الجديد والحنابلة على الراجح: الواجب أن يطعم عنه لكل يوم
مد طعام (3) لكل مسكين، للحديث السابق، ولقول عائشة أيضاً: «يطعم عنه في
قضاء رمضان، ولا يصام عنه» (4) ولحديث ابن عمر: «من مات وعليه صيام شهر،
فليطعم عنه مكان كل يوم مسكيناً» (5).
هذا ... ويرى أصحاب الحديث وجماعة من محدثي الشافعية وأبو ثور
_________
(1) قال عنه الحافظ الزيلعي: غريب مرفوعاً، وروي موقوفاً على ابن عباس،
وابن عمر، فحديث الأول رواه النسائي، والثاني رواه عبد الرزاق في مصنفه
(نصب الراية: 463/ 2).
(2) الصاع: أربعة أمداد وهو يساوي 2751 غم.
(3) المد: رطل وثلث بالرطل البغدادي، وبالكيل المصري: نصف قدح من غالب قوت
بلده ويساوي 675 غم.
(4) قال الشوكاني عنه: وهو ضعيف جداً.
(5) رواه ابن ماجه.
(3/1737)
والأوزاعي والظاهرية وغيرهم أنه يصوم الولي
عن الميت إذا مات، وعليه صوم، أي صوم كان من رمضان أو نذراً، والولي على
الأرجح: هو كل قريب، ودليلهم أحاديث ثابتة، منها حديث عائشة المتفق عليه أن
رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: «من مات وعليه صيام، صام عنه وليه» (1)
وقيد ابن عباس والليث وأبو عبيد وأبو ثور ذلك بصوم النذر.
المطلب الثاني ـ الكفارة:
وأما الكفارة: فالكلام في موجبها وحكمها
ودليلها، وأنواعها وتعددها (2):
فموجبها: إفساد صوم رمضان خاصة، عمداً قصداً، لانتهاك حرمة الصوم من غير
مبيح للفطر، فلا كفارة على من أفطر في قضاء رمضان عند الجمهور، ولا كفارة
على الناسي والمكره، ولا تجب في القبلة، ولا على الحائض والنفساء والمجنون
والمغمى عليه؛ لأنه من غير فعلهم، ولاعلى المريض والمسافر، والمرهق بالجوع
والعطش، والحامل، لعذرهم، ولا على المرتد؛ لأنه هتك حرمة الإسلام، لا حرمة
الصيام خصوصاً. وقد سبق بحث الحالات الموجبة للكفارة في المذاهب، وأهمها
الجماع بالاتفاق، والإفطار المتعمد بالأكل ونحوه عند الحنفية والمالكية.
وحكمها: أنها واجبة بالفطر في رمضان فقط دون غيره إن أفطر فيه ـ لدى
الحنفية والمالكية ـ منتهكاً لحرمته، أي غير مبال بها، بأن تعمدها
اختياراً، بلا تأويل
_________
(1) نيل الأوطار: 235/ 4 - 237.
(2) الدر المختار: 150/ 2 ومابعدها، مراقي الفلاح: ص112، البدائع: 89/ 2
ومابعدها، الشرح الصغير: 706/ 1 - 715، بداية المجتهد: 289/ 1 - 297،
القوانين الفقهية: ص122 - 124، مغني المحتاج: 444/ 1، المهذب: 184/ 1،
المغني 125/ 3 - 134، كشاف القناع: 381/ 2 - 382.
(3/1738)
قريب ـ على حد تعبير المالكية ـ احترازاً
من الناسي والجاهل والمتأول، فلا كفارة عليهم، كما أبنت، وكان الفطر بجماع
ونحوه، وبأكل ونحوه عند الحنفية والمالكية. واشترط الشافعية لإيجاب هذه
الكفارة أن يكون المجامع ذاكراً لصومه، عالماً بالحرمة، غير مترخص بسفر أو
مرض. فمن جامع ناسياً أو جاهلاً بالحرمة، أو أفسد صوماً غير صوم رمضان، أو
أفطر متعمداً بغير الجماع، أو كان مسافراً، فلا كفارة عليه، وعليه القضاء
فقط.
ودليل إيجابها: حديث أبي هريرة قال: جاء
رجل إلى النبي صلّى الله عليه وسلم، فقال: هلكتُ يا رسول الله، قال: وما
أهلكك؟ قال: وقعت على امرأتي في رمضان، قال: هل تجد ما تعتق رقبة؟ قال: لا،
قال: فهل تستطيع أن تصوم شهرين متتابعين؟ قال: لا، قال: فهل تجد ما تطعم
ستين مسكيناً؟ قال: لا.
قال: ثم جلس، فأُتي النبي صلّى الله عليه وسلم بعَرَق (1) فيه تمر، قال:
تصدق بهذا، قال: فهل على أفقر منا، فما بين لابتيها (2) أهلُ بيت أحوج إليه
منا؟! فضحك النبي صلّى الله عليه وسلم حتى بدت نواجذه، وقال: اذهب فأطعمه
أهلك (3).
وفي لفظ ابن ماجه قال: أعتق رقبة؟ قال: لا أجدها، قال: صم شهرين متتابعين؟
قال: لا أطيق، قال: أطعم ستين مسكيناً. وفي لفظ لابن ماجه وأبي داود في
رواية: «وصم يوماً مكانه».
_________
(1) العرق: الزنبيل، وهو المكتل، يسع خمسة عشر صاعاً، ووقع عند الطبراني في
الأوسط: أنه أتي بمكتل فيه عشرون صاعاً، فقال: تصدق بهذا.
(2) اللابتان: تثنية لابة، وهي الحرة، والحرة: الأرض التي فيهاحجارة سود.
(3) رواه الجماعة عن أبي هريرة (نيل الأوطار:214/ 4).
(3/1739)
قال الشوكاني: استدل به على سقوط الكفارة
بالإعسار لما تقرر أنها لا تصرف في النفس والعيال، ولم يبين صلّى الله عليه
وسلم استقرارها في ذمته إلى حين يساره، وهو أحد قولي الشافعي، وجزم به عيسى
بن دينار من المالكية، وقال الجمهور: لاتسقط بالإعسار، قالوا: وليس في
الخبر ما يدل على سقوطها عن المعسر، بل فيه ما يدل على استقرارها عليه،
والذي أذن له في التصرف فيه ليس على سبيل الكفارة (نيل الأوطار: 216/ 4).
قال ابن تيمية الجد: وفيه دلالة قوية على الترتيب. وظاهر لفظ الدارقطني: أن
المرأة كانت مكرهة.
ويجب قضاء اليوم مع الكفارة. ويجب القضاء على الزوجة الموطوءة إن لم تجب
عليها الكفارة.
أنواع الكفارة: ثلاثة: عتق، وصيام،
وإطعام، مثل كفارة الظهار والقتل الخطأ في الترتيب عند الجمهور، فإن عجز عن
العتق بأن لم يجد رقبة فصيام شهرين متتابعين، فإن لم يستطع صومهما أطعم
ستين مسكيناً. والإطعام عند المالكية أفضل الخصال، والكفارة واجبة عندهم
على التخيير لا على الترتيب (1). قال الشوكاني: في حديث أبي هريرة دليل على
أنه يجزئ التكفير بواحدة من الثلاث الخصال. وظاهر الحديث أيضاً أن الكفارة
بالخصال الثلاث على الترتيب. قال البيضاوي: لأن ترتيب الخصال بالفاء. وأضاف
الشوكاني قائلاً: وقد وقع في الروايات ما يدل على الترتيب والتخيير، والذين
رووا الترتيب أكثر، ومعهم الزيادة (2)، فيكون دليل المالكية العمل برواية
أخرى فيها التخيير.
والخلاصة: إن الكفارة مرتبة في رأي الجمهور، وقال المالكية: الكفارة واجبة
في ثلاثة أنواع على التخيير، إما إطعام ستين مسكيناً وهو الأفضل، وصيام
شهرين متتابعين، أوعتق رقبة.
فالعتق: تحرير رقبة مؤمنة عند الجمهور غير الحنفية: سليمة من العيوب أي
عيوب فوات منفعة البطش والمشي والكلام والنظر والعقل، قياساً في اشتراط
الإيمان على كفارة القتل الخطأ، وقال الحنفية: ولو كانت غير مؤمنة، لإطلاق
نص الحديث السابق.
_________
(1) الشرح الصغير: 713/ 1.
(2) نيل الأوطار: 215/ 4.
(3/1740)
والصيام عند العجز عن الرقبة: صيام شهرين
متتابعين، ليس فيهما يوم عيد، ولا أيام التشريق، ولا يجزئه الصوم إن قدر
على العتق قبل البدء بالصوم، فلو قدر على العتق في أثناء الصوم ولو في آخر
يوم، لزمه العتق عند الحنفية، ولم يلزمه عند الجمهور الانتقال عن الصوم إلى
العتق، إلا أن يشاء أن يعتق، فيجزئه، ويكون قد فعل الأولى أي يندب له عتق
الرقبة. فلو أفطر ولو لعذر إلا لعذر الحيض استأنف عند الحنفية الصوم من
جديد، ويستأنف الصوم عند المالكية إن أفطر متعمداً.
ولا يستأنف إن أفطر ناسياً أو لعذر، أو لغلط في العدد. وقال الشافعية: لو
أفسد يوماً ولو اليوم الأخير ولو بعذر كسفر ومرض وإرضاع ونسيان نية، استأنف
الشهرين، لكن لا يضر الفطر بحيض ونفاس وجنون وإغماء مستغرق؛ لأن كلاً منها
ينافي الصوم مع كونه اضطرارياً، وقال الحنابلة: لا ينقطع التتابع بالفطر
لمرض أو حيض.
والإطعام عند عدم استطاعة الصوم: إطعام ستين مسكيناً، لكل مسكين عند
الجمهور مد من القمح بمد النبي صلّى الله عليه وسلم أو نصف صاع من تمر
أوشعير، وعند الحنفية: مدان، أو يغذيهم ويعشيهم غداء وعشاء مشبعين، أو
غداءين أو عشاءين، أو عشاء وسحوراً. والمدان أو نصف الصاع: هما من بُر أو
دقيقه أو سويقه، أو يعطي كل فقير صاع تمر أوصاع شعير أوزبيب أو يعطي عند
الحنفية قيمة نصف الصاع من البر، أو الصاع من غيره من غير المنصوص عليه،
ولو في أوقات متفرقة، لحصول الواجب.
ولا يجوز للفقير صرف الكفارة إلى عياله، كالزكاة وسائر الكفارات، وأما خبر
«أطعمه أهلك» فهو خصوصية، أو أن لغير المكفر الذي تطوع بالتكفير عن
(3/1741)
غيره صرف الكفارة للمكفر عنه تطوعاً.
والأصح عند الشافعية أن له العدول عن الصوم إلى الإطعام لغُلمة (أي شدة
الحاجة للنكاح)؛ لأن حرارة الصوم وشدة الغلمة قد يفضيان به إلى الوقاع، ولو
في يوم واحد من الشهرين، وذلك يقتضي استئنافها لبطلان التتابع، وهو حرج
شديد.
وتشترط النية عند أداء الكفارة في رأي الشافعية، بأن ينوي العتق أو الصوم
أو الإطعام عن الكفارة؛ لأنها حق مالي أو بدني يجب تطهيراً كالزكاة
والصيام، فلا بد لصحتها من النية.
تعدد الكفارة أو تداخلها بتعدد الإفطار في أيام:
إن تكرر الجماع، أو الإفطار بأكل ونحوه في رأي الحنفية والمالكية، قبل
التكفير عن الأول، فإما أن يكون في يوم واحد، أو في يومين:
أـ فإن كان في يوم واحد، فكفارة واحدة تجزئه، بالاتفاق.
ب ـ وإن كان في يومين أو أكثر من رمضان: فعليه كفارتان أو أكثر، عند
الجمهور؛ لأن كل يوم عبادة منفردة، فإذا وجبت بإفساده، لم تتداخل، كرمضانين
وكالحجتين.
وتجزئ كفارة واحدة عند الحنفية عن جماع وأكل متعمد متعدد في أيام لم يتخلله
تكفير، ولو من رمضانين على الصحيح، فإن تخلل تكفير لا تكفي كفارة واحدة في
ظاهر الرواية؛ لأن الكفارة جزاء عن جناية تكرر سببها قبل استيفائها،
والمقصود بها الزجر، فيجب أن تتداخل كالحد، ويحصل بها مقصودها، وفي حال
تخلل التكفير لم يحصل الزجر بعوده لانتهاك حرمة الشهر.
ومن عجز عن الكفارة، استقرت في ذمته، والمعتبر حاله حين التكفير، فإن قدر
على خصلة فعلها.
(3/1742)
طروء العذر بعد
الإفطار عمدا ً: إن حدوث السفر أو المرض بعد
الجماع، أو الأكل المقيس عليه عند القائلين به، لا يسقط الكفارة عند
الشافعية والمالكية والحنابلة؛ لأن العذر معنى طرأ بعد وجوب الكفارة، فلم
يسقطها، ولأن السفر المنشأ في أثناء النهار لا يبيح الفطر عند غير
الحنابلة، فلا يؤثر فيما وجب من الكفارة، ولأن المرض، لا ينافي الصوم،
فيتحقق هتك حرمته.
ورأى الحنفية أن الكفارة تسقط بعد الإفطار بطروء حيض أو نفاس أو مرض مبيح
للفطر في يومه الذي أفسده؛ لأن اليوم لا يتجزأ ثبوتاً وسقوطاً للكفارة،
فتمكنت الشبهة في عدم استحقاقه من أوله بعروض العذر في آخره، ولا تسقط عمن
سوفر به كرهاً أو سافر اختياراً، بعد لزومها في ظاهر الرواية، والفرق بين
الحالين أنه في السفر المكره عليه لم يجئ العذر من قبل صاحب الحق، وفي غير
السفر تمكنت الشبهة في عدم استحقاق الكفارة من أول اليوم بعروض العذر في
آخره؛ لأن الكفارة إنما تجب في صوم مستحق، وهو لا يتجزأ ثبوتاً وسقوطاً.
المطلب الثالث ـ الفدية:
أما الفدية: فالكلام في حكمها، وسببها، وتكررها بتكرر السنين (1):
ف حكم الفدية: الوجوب، لقوله تعالى:
{وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسكين} [البقرة:184/ 2] أي على الذين
يتحملون الصوم بمشقة شديدة الفدية. والفدية عند الحنفية: نصف صاع من بُرّ،
أي قيمته، بشرط دوام عجز الفاني والفانية إلى
_________
(1) مراقي الفلاح: ص116، الكتاب مع اللباب: 170/ 1 - 171، فتح القدير: 81/
2 - 82، الشرح الصغير: 720/ 1 - 722، بداية المجتهد: 289/ 1، القوانين
الفقهية: ص124، مغني المحتاج: 440/ 1 ومابعدها، المهذب: 178/ 1،187،
المغني: 139/ 3 - 143، كشاف القناع:389/ 2 ومابعدها.
(3/1743)
الموت. ومد من الطعام من غالب قوت البلد عن
كل يوم عند الجمهور، بقدر ما فاته من الأيام. ومصارف الفدية والنذور
المطلقة والكفارات والصدقات الواجبة: هي مصارف الزكاة.
وسببها:
1 - العجز عن الصيام، فتجب باتفاق الفقهاء على من لا يقدر على الصوم بحال،
وهو الشيخ الكبير والعجوز، إذا كان يجهدهما الصوم ويشق عليهما مشقة شديدة،
فلهما أن يفطرا ويطعما لكل يوم مسكيناً، للآية السابقة: {وعلى الذين
يطيقونه فدية طعام مسكين} [البقرة:184/ 2] وقول ابن عباس: «نزلت رخصة للشيخ
الكبير» ولأن الأداء صوم واجب، فجاز أن يسقط إلى الكفارة كالقضاء. والشيخ
الهمّ (1) له ذمة صحيحة، فإن كان عاجزاً عن الإطعام أيضاً فلا شيء عليه، و
{لا يكلف الله نفساً إلا وسعها} [البقرة:286/ 2] وقال الحنفية: يستغفر الله
سبحانه، ويستقبله أي يطلب منه العفو عن تقصيره في حقه.
وأما المريض إذا مات فلا يجب الإطعام عنه؛ لأن ذلك يؤدي إلى أن يجب على
الميت ابتداء، بخلاف ما إذا أمكنه الصوم فلم يفعل، حتى مات؛ لأن وجوب
الإطعام يستند إلى حال الحياة.
2 - وتجب الفدية أيضاً بالاتفاق على المريض الذي لا يرجى برؤه، لعدم وجوب
الصوم عليه، كما تقدم، لقوله عز وجل: {وما جعل عليكم في الدين من حرج}
[الحج:78/ 22].
3 - وتجب الفدية كذلك عند الجمهور (غير الحنفية) مع القضاء على الحامل
_________
(1) الهم: الشيخ الفاني، والمرأة: هِمَّة.
(3/1744)
والمرضع إذا خافتا على ولدهما، أما إن
خافتا على أنفسهما، فلهما الفطر، وعليهما القضاء فقط، بالاتفاق. ودليله
الآية السابقة: {وعلى الذين يطيقونه فدية .. } [البقرة:184/ 2] وهما
داخلتان في عموم الآية، قال ابن عباس: «كانت رخصة الشيخ الكبير والمرأة
الكبيرة، وهما يطيقان الصيام أن يفطرا، ويطعما مكان كل يوم مسكيناً،
والحبلى والمرضع إذا خافتا على أولادهما أفطرتا وأطعمتا» (1)، ولأنه فطر
بسبب نفس عاجزة من طريق الخلقة، فوجبت به الكفارة كالشيخ الهرم.
ولا تجب عليهما الفدية مطلقاً عند الحنفية، لحديث أنس بن مالك الكعبي: «إن
الله وضع عن المسافر شطر الصلاة، وعن الحامل والمرضع الصوم ـ أو الصيام ـ
والله لقد قالها رسول الله صلّى الله عليه وسلم، أحدهما أو كليهما» (2) فلم
يأمر بكفارة، ولأنه فطر أبيح لعذر، فلم يجب به كفارة كالفطر للمرضى.
ورأي الجمهور أقوى وأصح لدي؛ لأنه نص في المطلوب، وحديث أنس مطلق لم يتعرض
للكفارة.
4 - وتجب الفدية أيضاً مع القضاء عند الجمهور (غير الحنفية) على من فرط في
قضاء رمضان، فأخره حتى جاء رمضان آخر مثله بقدر ما فاته من الأيام، قياساً
على من أفطر متعمداً؛ لأن كليهما مستهين بحرمة الصوم، ولا تجب على من اتصل
عذره من مرض أو سفر أو جنون أو حيض أو نفاس.
تكرر الفدية: ولا تتكرر الفدية عند
المالكية والحنابلة بتكرر الأعوام وإنما
_________
(1) رواه أبو داود (نيل الأوطار: 231/ 4).
(2) رواه النسائي والترمذي، وقال: هذا حديث حسن، وبقية الخمسة (أحمد وأبو
داود وابن ماجه) (نيل الأوطار: 230/ 4).
(3/1745)
تتداخل كالحدود، والأصح في رأي الشافعية:
أنها تتكرر بتكرر السنين؛ لأن الحقوق المالية لا تتداخل (1). وقال الحنفية:
لا فدية بالتأخير إلى رمضان آخر، لإطلاق النص القرآني. {فمن كان منكم
مريضاً أو على سفر فعدة من أيام أخر} [البقرة:184/ 2 - 185] فكان وجوب
القضاء على التراخي، حتى كان له أن يتطوع، فلا يلزمه بالتأخير شيء ولأنه
القياس في الكفارات، غير أنه تارك للأولِى من المسارعة في القضاء.
والفدية والكفارة والنذر وقتها العمر كله، والأولى التعجيل بقدر الإمكان
وأن تكون الفدية في رمضان، لأن الثواب فيه أكثر. ويرى الحنابلة أن النذر
والكفارة واجبان على الفور؛ لأنه مقتضى الأمر.
باقي لوازم الإفطار: أما إمساك بقية
اليوم وعقوبة منتهك حرمة صوم رمضان فقد سبق الكلام عليهما.
وأما قطع التتابع: فهو عند المالكية لمن
أفطر متعمداً في صيام النذر والكفارات المتتابعات كالقتل والظهار، فيستأنف،
بخلاف من قطع الصوم ناسياً أو لعذر، أو لغلط في العدة، فإنه يبني على ما
كان معه. وقد عرفنا رأي بقية المذاهب الأخرى.
وأما قطع النية: فإنها تنقطع بإفساد
الصوم أو تركه مطلقاً لعذر أو لغير عذر، ولزوال تحتم الصوم كالسفر، وإن صام
فيه، وإنما ينقطع استصحابها حكماً. وهذا عند المالكية الذين يكتفون بنية
واحدة أول شهر رمضان.
_________
(1) يؤيده ما يروى بإسناد ضعيف عن أبي هريرة عن النبي صلّى الله عليه وسلم
في رجل مرض في رمضان، فأفطر، ثم صح، ولم يصم حتى أدركه رمضان آخر، فقال:
يصوم الذي أدركه، ثم يصوم الشهر الذي أفطر فيه، ويطعم كل يوم مسكيناً»
ورواه الدارقطني موقوفاً (نيل الأوطار: 233/ 4).
(3/1746)
ملحق ـ ما يلزم
الوفاء به من منذور الصوم والصلاة وغيرهما:
قال الحنفية (1): إذا نذر الإنسان شيئاً لزمه الوفاء به بشروط أربعة:
1ً - أن يكون من جنسه واجب:
فلا تلزم عيادة المريض أو قراءة المولد النبوي، إذ ليس من جنسها واجب،
وإيجاب الإنسان شيئاً على نفسه معتبر بإيجاب الله تعالى، إذ له الاتباع، لا
الابتداع.
وأجاز الحنفية نذر صوم يوم العيد، لأن صومه عندهم حرام بوصفه، لا بأصله، أي
لما يترتب عليه من الإعراض عن ضيافة الله، أما أصل الصوم فمشروع.
2ً - أن يكون مقصوداً
لذاته، لا لغيره: فلا يلزم الوضوء بنذره، ولا قراءة القرآن، لكون الوضوء
ليس مقصوداً لذاته، لأنه شرع شرطاً لغيره، كحل الصلاة.
3ً - ألا يكون واجباً: فلا
يصح نذر الواجبات كالصلوات الخمس؛ لأن إيجاب الواجب محال، ولا يصح نذر
الوتر وسجدة التلاوة عند الحنفية القائلين بوجوبهما؛ لأنها واجبة بإيجاب
الشارع.
4ً - ألا يكون المنذور
محالاً كقوله: لله علي صوم الأمس أو البارحة، إذ لايلزمه.
وبناء عليه يصح نذر الاعتكاف، والصلاة غير المفروضة، والصوم والتصدق
بالمال، والذبح، لوجود شيء من جنسها شرعاً كالأضحية. ويصح ـ كما تقدم ـ عند
الحنفية نذر صوم العيدين وأيام التشريق في المختار، لكن يجب فطرها وقضاؤها،
وإن صامها أجزأه مع الحرمة.
_________
(1) مراقي الفلاح: ص117.
(3/1747)
وإن نذر شيئاً مطلقاً كصلاة ركعتين، أو
معلقاً بشرط، مثل إن رزقني الله غلاماً، فعلي إطعام عشرة مساكين، ووجد
الشرط، لزمه الوفاء به، لقوله تعالى: {وليوفوا نذورهم} [الحج:29/ 22]
ولقوله صلّى الله عليه وسلم: «من نذر أن يطيع الله فليطعه، ومن نذر أن يعصي
الله، فلا يعصه» (1).
ويلغى عند الحنفية ماعدا زفر تعيين الزمان والمكان والدرهم والفقير، فيجزئه
صوم رجب عن نذره صوم شعبان، ويجزئه صلاة ركعتين بأي بلد، وقد كان نذر
أداءهما بمكة، أو المسجد النبوي، أو الأقصى، لأن صحة النذر باعتبار القربة،
لا المكان؛ لأن الصلاة تعظيم الله تعالى بجميع البدن، والأمكنة كلها في هذا
المعنى سواء، وإن تفاوت الفضل. ويجزئه التصدق بدرهم عن درهم عينه له،
والصرف لزيد الفقير بنذره لعمر؛ لأن المقصود من الصدقة سد خلة المحتاج، أو
ابتغاء وجه الله، وهذا المعنى حاصل بدون مراعاة زمان ومكان وشخص.
وإن علق النذر بشرط، مثل «إن قدم فلان فلله علي أن أتصدق بكذا» لا يجزئه
عنه ما فعله قبل وجود شرطه؛ لأن المعلق بالشرط عدم قبل وجوده، وإنما يجوز
الأداء بعد وجود السبب الذي علق النذر به.
وسيأتي في بحث النذر تفصيل آراء المذاهب الأخرى.
_________
(1) رواه البخاري.
(3/1748)
|