الفقه
الإسلامي وأدلته للزحيلي الفَصْلُ الثَّاني عَشَر: الشُّفعة
تبحث الشفعة في المباحث الثمانية الآتية:
المبحث الأول ـ تعريف الشفعة، ودليلها وحكمتها، وركنها وعناصرها، وسببها،
وحكمها وصفتها.
المبحث الثاني ـ محل الشفعة (المشفوع فيه، أو ما تجب فيه الشفعة وما لا
تجب).
المبحث الثالث ـ الشفيع، مراتب الشفعة (أو أسباب استحقاقها) تزاحم الشفعاء
(أي تعددهم) غيبة بعض الشفعاء، إسقاط بعض الشفعاء حقه.
المبحث الرابع ـ أحكام الشفعة.
المبحث الخامس ـ شروط الشفعة.
المبحث السادس ـ إجراءات الشفعة (طلب الشفعة).
المبحث السابع ـ مايطرأ على المشفوع فيه بيد المشتري من تصرفات أو نماء أو
نقص.
المبحث الثامن ـ مسقطات الشفعة.
وبحثها على ترتيبها المذكور.
(6/4885)
المبحث الأول ـ
تعريف الشفعة، ودليلها وحكمتها، وركنها وأطرافها، وحكمها وصفتها:
أولاً ـ تعريف الشفعة: الشفعة لغة: مأخوذة من الشفع بمعنى الضمّ أو الزيادة
والتقوية، تقول: شفعت الشيء: ضممته، سميت شفعة؛ لأن الشفيع يضم مايتملكه
بهذا الحق إلى نصيبه أو ملكه، فيزيده عليه، ويتقوى به، فقد كان الشفيع
منفرداً في ملكه، فبالشفعة ضم المبيع إلى ملكه، فصار شفعاً ضد الوتر.
وفي الاصطلاح الفقهي: هي حق تملك العقار المبيع جبراً عن المشتري، بما قام
عليه، من ثمن وتكاليف (أي النفقات التي أنفقها) لدفع ضرر الشريك الدخيل أو
الجوار. وهذا عند الحنفية (1)؛ لأن الشفعة تثبت عندهم للشريك والجار.
وعرفها الجمهور غير الحنفية: بأنها استحقاق شريك أخذ ما عاوض به شريكه، من
عقار، بثمنه أو قيمته، بصيغة. وبعبارة أخرى: هي حق تملك قهري يثبت للشريك
القديم على الحادث، فيما ملك بعوض (2). وهذا لأن الشفعة حق للشريك فقط دون
الجار عند الجمهور.
ويلاحظ أن المذاهب الأربعة حصروا الشفعة في العقار. أما الظاهرية فقد
أجازوها أيضاً في المنقول، كالحيوان ونحوه (3).
ثانياً ـ دليلها وحكمة مشروعيتها: الدليل على مشروعية الشفعة هو السنة
والإجماع:
_________
(1) الدرالمختار: 152/ 5، تكملة الفتح: 406/ 7، تبيين الحقائق: 239/ 5،
اللباب: 106/ 2.
(2) الشرح الصغير: 630/ 3، الشرح الكبير: 473/ 3، مغني المحتاج: 296/ 2،
كشاف القناع: 196/ 4، المغني: 284/ 5.
(3) المحلى: 101/ 9، م 1594.
(6/4886)
أما السنة، فأحاديث كثيرة: منها حديث جابر
رضي الله عنه: «قضى رسول الله صلّى الله عليه وسلم بالشفعة فيما لم يقسم،
فإذا وقعت الحدود، وصُرِّفت الطرق، فلا شفعة» (1) وفي رواية «في أرض، أو
رَبْع، أو حائط» والربع: المنزل، والحائط: البستان.
ومنها حديث آخر لجابر: «الجار أحق بشفعة جاره يُنتظر بها، وإن كان غائباً،
إذا كان طريقهما واحداً» (2).
ومنها حديث سمرة: «جار الدار أحق بالدار من غيره» (3).
ومنها حديث أبي رافع: «الجار أحق بسقبه» أو «بصقبه» (4) أي أحق بقربه
وبشفعته؛ لأن السقب أو الصقب: ما قرب من الدار.
وأما الإجماع: فقال ابن المنذر: أجمع أهل العلم على إثبات الشفعة للشريك
الذي لم يقاسم، فيما بيع من أرض أو دار أو حائط .. ولا نعلم أحداً خالف هذا
إلا الأصم، فإنه قال: لا تثبت الشفعة؛ لأن في ذلك إضراراً بأرباب الأملاك،
فإن المشتري إذا علم أنه يؤخذ منه إذا ابتاعه لم يبتعه، ويتقاعد الشريك عن
الشراء، فسيتضر المالك؛ أي أن الشفعة تصادم مبدأ حرية المتعاقد في التصرف.
ورد عليه: بأن قوله ليس بشيء لمخالفته الآثار الثابتة والإجماع المنعقد
قبله (5).
_________
(1) رواه أحمد والبخاري وأبو داود وابن ماجه، وهو صحيح. وصرفت: بتخفيف
الراء، وقيل بتشديدها، أي بينت مصارفها.
(2) رواه الخمسة (أحمد وأصحاب السنن) إلا النسائي.
(3) رواه أحمد وأبو داود والترمذي وصححه، والبيهقي والطبراني والضياء، لكن
في إسناده كلام واضطراب.
(4) أخرجه البخاري (راجع الأحاديث في نصب الراية: 172/ 4 - 175، نيل
الأوطار: 331/ 5 - 336).
(5) المغني: 284/ 5.
(6/4887)
وحكمتها:
دفع ضرر الدخيل الأجنبي الذي يأتي على الدوام، بسبب سوء المعاشرة
والمعاملة، في استعمال أواستحداث المرافق المشتركة، أو إعلاء الجدار، أو
إيقاد النار، أو منع ضوء النهار، وإثارة الغبار، وإيقاف الدواب، ولعب
الأولاد، لاسيما إذا كان خصماً أو ضداً.
وقد تكون الحكمة: دفع ضرر مؤنة القسمة، كما قال المالكية والشافعية
والحنابلة.
وكل ما ذكر مظاهر للضرر، والمقرر في الإسلام أنه «لا ضرر ولا ضرار».
كما أن حسن العشرة يقتضي رعاية مصلحة الشريك أو الجار، ورعاية المصلحة أمر
مطلوب شرعاً أيضاً (1).
وهذه المعاني كما هي متوقعة بين الناس بسبب الشركة، أو الخلطة في المنافع،
كذلك هي متوقعة ـ في رأي الحنفية ـ بسبب الجوار.
ثالثاً ـ ركنها وعناصرها وسببها (سبب الأخذ):
قال الحنفية (2): ركن الشفعة: أخذ
الشفيع من أحد المتعاقدين عند وجود سببها
وشرطها. ويسمى العقار الذي بسببه تطلب
الشفعة: المشفوع به، والعقار الذي يتملك بالشفعة: المشفوع فيه، ومشتري
العقار: هو المشفوع عليه، والمطالب بالشفعة: هو الشفيع.
وسببها: اتصال ملك الشفيع بالمشتري بشركة أو جوار.
_________
(1) تبيين الحقائق: 239/ 5، مغني المحتاج: 296/ 2، أعلام الموقعين: 120/ 2،
المغني: 284/ 5، حاشية الدسوقي على الدردير: 476/ 3.
(2) الدر المختار: 152/ 5 وما بعدها، تبيين الحقائق، المكان السابق.
(6/4888)
وشرطها: أن يكون المحل المبيع عقاراً،
سفلاً كان أو علواً. وقال المالكية (1): للشفعة أركان أربعة:
آخذ (شافع)، ومأخوذ منه (مشفوع عليه) ومشفوع فيه، وصيغة. والمراد بالصيغة:
ما يدل على الأخذ، لفظاً أو غيره.
وقال الشافعية والحنابلة (2): أركان الشفعة ثلاثة: آخذ، ومأخوذ منه،
ومأخوذ. وأما الصيغة فتجب في التمليك، فيشترط لفظ من الشفيع، مثل تملكت، أو
أخذت بالشفعة.
رابعاً ـ حكمها وصفتها: إن الأخذ بها بمنزلة شراء مبتدأ (جديد)، قال
الحنفية (3): حكمها: جواز الطلب عند تحقق السبب، ولو بعد سنين، أي إذا لم
يعلم بها. وصفتها: أن الأخذ بها بمنزلة شراء مبتدأ، يستحقها الشفيع بعد
البيع، فيثبت بها ما يثبت بالشراء، كالرد بخيار الرؤية، والعيب.
المبحث الثاني ـ محل الشفعة (المشفوع فيه، أو
ما تجب فيه الشفعة وما لا تجب): اتفق المسلمون على أن الشفعة حق في
العقار من دور وأرضين وبساتين وبئر، وما يتبعها من بناء وشجر، واختلفوا
فيما عداها.
قررت المذاهب الأربعة أنه لا شفعة في منقول كالحيوان والثياب والعروض
التجارية للحديث السابق: «قضى رسول الله صلّى الله عليه وسلم بالشفعة في
أرض أو ربَعْ أو حائط .. » ورواية الحديث عند مسلم والنسائي وأبي داود: «أن
النبي صلّى الله عليه وسلم قضى
_________
(1) الشرح الصغير: 630/ 3 وما بعدها، بداية المجتهد: 253/ 2.
(2) مغني المحتاج: 296/ 2، 300، المغني: 297/ 5، كشاف القناع: 158/ 4.
(3) الدرالمختار: 153/ 5 وما بعدها، تبيين الحقائق، المكان السابق.
(6/4889)
بالشفعة في كل شركة لم تقسم، ربعة أو حائط
.. » ولأن الشفعة شفعت لدفع ضرر سوء الشركة بالاتفاق، أو الجوار عند
الحنفية، بسبب الاستمرار والدوام، والمنقول لا يدوم، بخلاف العقار، فيتأبد
فيه ضرر المشاركة؛ ولأن الشفعة تملك بالقهر، فهي كما بينت «استحقاق الشريك
ـ عند الحنفية ـ انتزاع حصة شريكه المنتقلة عنه، من يد من انتقلت إليه»،
فناسب أن تكون عند شدة الضرر، وإطلاقاً لحرية التصرف والبيع (1).
الِعُلْوُ والسُفْل: ألحق الحنفية بالعقار: ما في حكمه كالعلو، وإن لم يكن
طريقه في السفل؛ لأنه التحق بالعقار بماله من حق القرار، فلا فرق في العقار
بين كونه سفلاً أو علواً (2)، وهذا هو المعقول.
ولم يجز الشافعية في الأصح والحنابلة الشفعة في العلو، لأن البناء يرتكز
على السقف، والسقف الذي هو أرض البناء لا ثبات له، فكان كالمنقولات (3).
وسواء عند الحنفية أكان العقار مما يحتمل القسمة، أم لا يحتملها، كالدار
الصغيرة والحمام والطاحون والبئر؛ لأن علة الشفعة عندهم دفع ضرر الشركة أو
الجوار مطلقاً، وهو يتحقق فيما لا يقبل القسمة.
واشترط الجمهور غير الحنفية، في المشهور عند المالكية، وفي ظاهر مذهب
الحنابلة، وفي الأصح عند الشافعية: أن يكون العقار قابلاً للقسمة،
استدلالاً
_________
(1) الدر المختار: 153/ 5، تكملة الفتح: 435/ 7، تبيين الحقائق: 239/ 5،
البدائع: 12/ 5، اللباب: 109/ 2، بداية المجتهد: 254/ 2، الشرح الكبير:
482/ 3، الشرح الصغير: 634/ 3، مغني المحتاج: 296/ 2، المهذب: 376/ 1،
المغني: 287/ 5، كشاف القناع: 153/ 4 - 155.
(2) الدر المختار واللباب، المكان السابق، تكملة الفتح: 435/ 7.
(3) مغني المحتاج: 297/ 2، كشاف القناع: 155/ 4.
(6/4890)
بدليل الخطاب في حديث جابر السابق: «الشفعة
فيما لم يقسم ... » فكأنه قال: الشفعة فيما تمكن فيه القسمة، ما دام لم
يقسم. وقد أجمع عليه في هذا الموضوع فقهاء الأمصار، مع اختلافهم في صحة
الاستدلال به؛ ولأن علة مشروعية الشفعة عندهم هو دفع ضرر القسمة، ومالا
ينقسم لا تتيسر القسمة فيه، فلا حاجة للشفعة فيه، فلا يترتب فيه ضرر الشريك
بعدم الشفعة (1).
حقوق الارتفاق: تثبت الشفعة عند الحنفية
(2) في حقوق العقار، كالشِّرْب (النصيب من الماء في نوبة مالك الأرض) (3)
والطريق الخاصين. فإن لم يكونا خاصين، فلا يستحق بهما الشفعة. والطريق
الخاص: أن يكون غير نافذ، فإن كان نافذاً فليس بخاص.
فلو كان هناك شِرْب نهر صغير مشترك بين قوم، تسقى أراضيهم منه، فبيعت أرض
منها، فلكل أهل الشِّرْب من ذلك النهر الخاص الشفعة. أما لو كان النهر
عاماً، فالشفعة فقط للجار الملاصق. ومثله الطريق الخاص، فكل أهله شفعاء.
وقال المالكية (4): لا شفعة في الطريق (أي المجاز الذي يتوصل منه إلى ساحة
الدار) إذا قسم بين الشريكين أو الشركاء متبوعُهما من البيوت إذا بقي الممر
مشتركاً بينهما؛ لأنه لما كان تابعاً لما لا شفعة فيه، وهو البيوت
المنقسمة، كان لا شفعة فيه.
وكذلك العَرْصة (ساحة الدار التي بين بيوتها، تسمى في عرف العامة بالحوش)
لا شفعة فيها إذا قسم متبوعها، كحكم الطريق السابق.
_________
(1) بداية المجتهد: 255/ 2، حاشية الدسوقي على الدردير: 476/ 3، الشرح
الصغير: 634/ 3 ومابعدها، مغني المحتاج: 297/ 2، المهذب: 377/ 1، المغني:
289/ 5.
(2) تبيين الحقائق: 239/ 5 وما بعدها، الدر المختار: 154/ 5، اللباب: 106/
2.
(3) الشرب: هو نوبة الانتفاع بسقي الحيوان والزرع (م 1262) مجلة.
(4) الشرح الكبير: 482/ 3، الشرح الصغير: 640/ 3، بداية المجتهد: 255/ 2.
(6/4891)
وقال الشافعية (1): لا شفعة قطعاً في ممر
الدار المبيعة من الدرب النافذ؛ لأنه غير مملوك. وأما الدرب غير النافذ،
فالصحيح ثبوت الشفعة في الممر، بما يخصه من الثمن، إن كان لمشتري الممر
الخاص المشترك طريق آخر لداره، أو أمكن من غير مؤنة وضرر عليه الوصول لداره
من طريق آخر، بفتح باب إلى شارع عام مثلاً، فلا تثبت الشفعة في الممر، لما
فيها من ضرر المشتري، والشفعة شرعت لدفع الضرر، فلا يزال ضرر بآخر؛ لأن
الضرر لا يزال بالضرر.
والحنابلة كالشافعية قالوا (2): إذا بيعت الدار، ولها طريق في شارع أو درب
نافذ، فلا شفعة في تلك الدار، ولا في الطريق؛ لأنه لا شركة لأحد فيهما.
وإن كان الطريق في درب غير نافذ، ولا طريق للدار سوى ذ لك الطريق، فلا شفعة
أيضاً؛ لأن إثباتها يضر بالمشتري؛ لأن الدار تبقى لا طريق لها.
وإن كان للدار باب آخر يستطرق منه، أو كان لها موضع يفتح منه باب لها إلى
طريق نافذ، نظرنا في الطريق المبيع مع الدار:
فإن كان ممراً لا تمكن قسمته، فلا شفعة فيه.
وإن كان تمكن قسمته، وجبت الشفعة فيه؛ لأنه أرض مشتركة، تحتمل القسمة،
فوجبت فيه الشفعة كغير الطريق.
الشفعة في السفن: لا تثبت الشفعة في
السفن عند فقهاء المذاهب (3) لأنها
_________
(1) نهاية المحتاج: 145/ 4، مغني المحتاج: 298/ 2.
(2) كشاف القناع: 154/ 4، المغني: 290/ 5.
(3) الكتاب مع اللباب: 190/ 2، المهذب: 376/ 1، مغني المحتاج: 296/ 2، كشاف
القناع: 155/ 4.
(6/4892)
كالعروض التجارية من المنقولات، والشفعة
مشروعة في الأرض التي تبقى على الدوام، ويدوم ضررها.
ونقل الكاساني (1) عن الإمام مالك: أنه يرى الشفعة في السفن؛ لأن السفينة
أحد المسكنين، فتجب فيها الشفعة، كما تجب في المسكن الآخر، وهو العقار، لكن
هذا لم يصح عن مالك، كما حقق ابن عبد السلام. وبه يتبين أن المذاهب الأربعة
متفقة على عدم الشفعة في السفن.
الشفعة في الزرع والثمر والشجر: لا شفعة
عند الجمهور (غير المالكية) (2) فيما ليس بعقار كالبناء والشجر المفرد عن
الأرض، فإن كان تبعاً في البيع للأرض، وجبت الشفعة فيه (3).
ومما يتبع الأرض عند الشافعية في الأصح: ثمر لم يؤبر؛ لأنه يتبع الأصل في
البيع، فيتبعه في الأخذ، قياساً على البناء والغراس.
واقتصر الحنابلة على إتباع الغراس والبناء للأرض؛ لأنهما يؤخذان تبعاً
للأرض، ففيهما الشفعة تبعاً. ولم يتبعوا الزرع والثمرة للأرض؛ لأن من شروط
وجوب الشفعة أن يكون المبيع أرضاً؛ لأنها هي التي تبقى على الدوام، ويدوم
ضررها.
_________
(1) البدائع: 12/ 5. ولم أر في كتب المالكية التي اطلعت عليها تصريحاً لهم
بالشفعة في السفينة، وإنما يوجبونها في العقار فقط. قال ابن عبد السلام من
المالكية: ما نقله بعض الحنفية عن مالك في السفينة: لا يصح (شرح التنوخي
لرسالة القيرواني: 193/ 2).
(2) تكملة الفتح: 435/ 7، مغني المحتاج: 296/ 2 وما بعدها، كشاف القناع:
155/ 4.
(3) نصت المادة (1019) مجلة على أنه لا تجري الشفعة في الأشجار والأبنية في
أرض الوقف.
(6/4893)
وأجاز المالكية (1) الشفعة في البناء
والشجر إذا بيع أحدهما مستقلاً عن الأرض؛ لأن كلاً منهما عندهم عقار،
والعقار: هو الأرض وما اتصل بها من بناء وشجر، فلا شفعة في حيوان أو عرض
تجاري إلا إذا بيع تبعاً للأرض.
مثاله: الشجر أو البناء في أرض موقوفة (محبَّسة) أو معارة: بأن اقتضت
المصلحة إجارة الأرض الموقوفة، سنين، ثم بنى فيها المستأجر أو غرس بإذن
ناظرها، على أن ذلك له، فإذا كان المستأجر متعدداً، وباع أحدهم، فللآخر
الشفعة.
وأجاز المالكية أيضاً الشفعة في الثمار (2) (الفاكهة) والخضر، كالقِثَّاء،
والبطيخ بنوعيه الأخضر والأصفر، والخيار، والباذنجان والفول الأخضر، ونحوه
مما له أصل تجنى ثمرته، ويبقى في الأرض وقتاً ما، فإذا باع أحد الشريكين
نصيبه منها، ولو مفرداً عن أصله، فللآخر أخذه بالشفعة.
واشترطوا في الثمرة المأخوذة بالشفعة منفردة: أن تكون موجودة حين الشراء،
بشرط كونها مؤبرة.
ولم يجز المالكية الشفعة في زرع كقمح وكتان وبرسيم، ولا في بَقْل مما ينزع
أصله كفجل وجزر وبصل وقلقاس، وملوخية. فلو بيع الزرع أو البقل مع أرضه، فلا
شفعة فيه، وإنما هي في الأرض فقط، بما ينو بها من الثمن.
وأما الظاهرية: فقد توسعوا في إيجاب حق الشفعة للشفيع أكثر من سائر
_________
(1) الشرح الكبير: 479/ 3 وما بعدها، الشرح الصغير: 634/ 3، 638 - 639،
بداية المجتهد: 254/ 2 وما بعدها، القوانين الفقهية: ص 286، شرح الرسالة:
192/ 2.
(2) قال مالك عن الشفعة في الثمرة: ما علمت أحداً من أهل العلم قاله قبلي،
ولكني استحسنته (شرح التنوخي لرسالة ابن أبي زيد القيرواني: 192/ 2).
(6/4894)
المذاهب الأخرى، فأجازوا الشفعة في كل
مبيع، عقاراً أو منقولاً، سواء أكان المنقول متصلاً بالعقار أم لا، وسواء
أكان الشيء المبيع مما ينقسم، أم مما لا ينقسم، من أرض أو شجرة واحدة
فأكثر، أو ثوب، أو سيف أوطعام أو حيوان، أو أي شيء بيع، فلا يحل لمن له
الجزء، أن يبيعه حتى يعرضه على شريكه أو شركائه فيه (1).
المبحث الثالث ـ الشفيع أولاً ـ من
الشفيع؟ للفقهاء رأيان فيمن يحق له الأخذ بالشفعة: رأي للحنفية: في أن
الشفيع: هو الشريك، أو الجار. ورأي للجمهور: في أن الشفيع هو الشريك فقط.
قال الحنفية (2): تثبت الشفعة للشريك (الخليط) في المبيع نفسه، أو في حق من
حقوق الارتفاق الخاصة، كالشِّرب (النصيب من الماء)، والطريق الخاصين، كما
تثبت للجار الملاصق للمبيع، ولو كان باب داره من سكة أخرى. والملاصق من
جانب واحد ولو بشبر، كالملاصق من ثلاثة جوانب، وواضع جذع على حائط، وشريك
في خشبة على حائط: جار لا شِريك؛ لأن وضع الجذوع على الحائط لا يصير صاحبه
شريكاً في الدار، والشفعة تثبت في العقار دون المنقول، والخشبة منقول. ولا
فرق بين مسلم وذمي في استحقاق الشفعة، لعموم أدلة مشروعيتها، ولتساويهما في
سبب الشفعة وحكمتها، فيتساويان في الاستحقاق.
_________
(1) المحلى: 101/ 9، م 1594.
(2) البدائع: 4/ 5، تكملة الفتح: 406/ 7، 414، 436، تبيين الحقائق: 239/ 5
- 241، اللباب: 106/ 2، الدر المختار: 155/ 5.
(6/4895)
ودليلهم الأحاديث السابقة في مشروعية
الشفعة، والتي منها: «جار الدار أحق بسقبه» (1) و «جار الدار أحق بدار
الجار، والأرض» (2) و «الجار أحق بشفعته» (3). ويؤكده أن العلة الموجب
للشفعة هو دفع الضرر الدائم، الذي يلحق المرء بسبب سوء العشرة على الدوام.
وهذا يتحقق في الجار، كما يتحقق في الشريك، فتكون حكمة مشروعية الشفعة
ظاهرة فيهما، وهو دفع الضرر عنهما.
وقال الجمهور (غير الحنفية) (4): لا شفعة إلا لشريك في ذات المبيع، لم
يقاسم (أي أن حقه مشاع لم يقسم) فلا شفعة عندهم لشريك مقاسم، ولا لشريك في
حق من حقوق الارتفاق الخاصة بالمبيع، ولا للجار.
وتثبت الشفعة عند المالكية والشافعية والظاهرية للذمي الكافر على المسلم،
كما قال الحنفية. ولا تثبت للكافر عند الحنابلة في بيع عقار لمسلم، للحديث
النبوي: «لا شفعة لنصراني» (5) فهو يخص عموم ما احتجوا به، ولأن الأخذ
بالشفعة يختص به العقار فأشبه الاستعلاء في البنيان، والكافر ممنوع من ذلك
بالنسبة للمسلم، ولأن في شركته ضرراً بالمسلم. ولكن رأي الجمهور في هذا
أرجح، بسبب ضعف الحديث الذي احتج به الحنابلة.
_________
(1) سبق تخريجه، أخرجه البخاري عن أبي رافع مولى النبي صلّى الله عليه وسلم
(نصب الراية: 174/ 4).
(2) أخرجه أبو داود والترمذي والنسائي، وأحمد في مسنده، والطبراني في
معجمه، وابن أبي شيبة في مصنفه، وابن حبان في صحيحه، وقال عنه الترمذي:
حديث حسن صحيح، من حديث الحسن عن سمرة (نصب الراية: 172/ 4).
(3) من حديث جابر عند الترمذي.
(4) بداية المجتهد: 253/ 2، الشرح الكبير: 473/ 3، الشرح الصغير: 631/ 3،
مغني المحتاج: 297/ 2، المهذب: 377/ 1 وما بعدها، المغني: 285/ 5 وما
بعدها، 357، كشاف القناع: 149/ 4، 182، القوانين الفقهية: ص 286، المحلى:
115/ 9، م1598.
(5) رواه الدارقطني في كتاب العلل بإسناده عن أنس، وأبي بكر، لكن في
إسنادهما بابل بن نجيج، ضعفه الدارقطني وابن عدي.
(6/4896)
واتفق الفقهاء ماعدا الحنابلة على أن
الشفعة تثبت للذمي على الذمي، لعموم الأخبار الواردة في الشفعة، ولأنهما
تساويا في الدين والحرمة، فتثبت لأحدهما على الآخر كالمسلم على المسلم.
وتثبت الشفعة لأهل البدع الذين حكم بإسلامهم؛ لأن عموم الأدلة يقتضي ثبوتها
لكل شريك. وأما أصحاب البدع الذين حكم بكفرهم فلا شفعة لهم على مسلم عند
الحنابلة، بخلاف الجمهور (1).
وأدلة الجمهور: حديث جابر السابق: «قضى رسول الله صلّى الله عليه وسلم
بالشفعة في كل ما لم يُقْسم، فإذا وقعت الحدود، وصرِّفت الطرق، فلا شفعة»
وحديث سعيد بن المسيب: «إذا قسمت الأرض، وحُدَّت، فلا شفعة فيها» (2)، فإذا
كانت الشفعة غير واجبة للشريك المقاسم، فهي أحرى ألا تكون واجبة للجار،
والشريك المقاسم إذا قاسم: جارٌ.
ولأن الشفعة تثبت على خلاف الأصل، فيقتصر فيها على مورد النص.
وأما حديث أبي رافع: «الجار أحق بصقبه» فليس بصريح في الشفعة، فيحتمل أنه
أراد بالصقب: إحسان جاره وصلته وعيادته ونحوها. وخبر جابر صريح صحيح،
فيقدم. وبقية الأحاديث في أسانيدها مقال، فحديث سمرة يرويه عنه الحسن، ولم
يسمع منه إلا حديث العقيقة. ويتعين حمل أحاديث شفعة الجوار على مثل ما دلت
عليه أحاديث شفعة الشركة، فيكون لفظ الجار مراداً به الشريك. وهذا الرأي في
تقديري أولى؛ لأن الشفعة تثير مشكلات متعددة، والأصل المقرر في الشريعة هو
حرية التعاقد، فيقتصر فيها على حالة الشركة فقط.
وقد توسط ابن القيم بين الرأيين، فقرر ثبوت الشفعة للجار إذا كان شريكاً مع
_________
(1) المغني: 358/ 5 وما بعدها، كشاف القناع: 183/ 4.
(2) رواه أبو داود، ومالك مرسلاً، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن.
(6/4897)
جاره في حق من حقوق الارتفاق الخاصة، مثل
الطريق أو الشرب، وإلا فلا شفعة له (1).
وارتأى الشوكاني وبعض الشافعية هذا الحل الوسط عملاً بلفظ في حديث جابر:
«إذا كان طريقهما واحداً» (2)
ثانياً - مراتب الشفعة (أو أسباب استحقاقها) وكيفية التوزيع عند تزاحم
الشفعاء: قال الحنفية (3): الشفعة واجبة للخليط (الشريك) في نفس المبيع، ثم
إذا لم يكن، أو كان وسَلَّم (تنازل عن الشفعة) تثبت للشريك في حق من حقوق
الارتفاق الخاصة بالمبيع: وهو الذي قاسم وبقيت له شركة في حق العقار الخاص،
كالشِّرب والطريق الخاصين، ثم تثبت الشفعة لجار ملاصق.
ولا فرق في ثبوت حق الشفعة لصاحب حق الارتفاق بين الأرض المجاورة للمبيع
والبعيدة عنه، ولا بين التي تسقى من المجرى الخاص مباشرة، أو من جدول مأخوذ
منه، ما دام أن الكل يشرب من المجرى، وأن سبب الاستحقاق واحد: وهو الاشتراك
في المرفق الخاص.
والمقصود من الشِّرب الخاص عند أبي حنيفة ومحمد (4): شرب نهر صغير: وهو
الذي لا يجري فيه أصغر السفن، وما تجري فيه السفن فهو عام، وعامة المشايخ
على أن الشركاء في النهر إن كانوا يحصون، فصغير، وإلا فكبير. وما لا
_________
(1) راجع أعلام الموقعين: 123/ 2 - 132، تحقيق عبد الحميد.
(2) نيل الأوطار: 333/ 5.
(3) تكملة الفتح: 406/ 7، 412 وما بعدها، الدر المختار ورد المحتار: 154/ 5
وما بعدها، البدائع: 8/ 5 - 9، تبيين الحقائق: 239/ 5، اللباب: 106/ 2 وما
بعدها، م (1008) مجلة.
(4) وقال أبو يوسف: الشرب الخاص: أن يكون نهراً يسقى منه قراحان أو ثلاثة،
وما زاد على ذلك فهو عام (اللباب: 107/ 2) والقراح: المزرعة التي ليس عليها
بناء ولا فيها شجر.
(6/4898)
يحصى: قيل: أربعون، وقيل: خمس مئة، وقيل:
الأصح تفويضه إلى رأي كل مجتهد في زمان.
والمقصود بالطريق الخاص: هو الذي لا يكون نافذاً، فكل أهله شفعاء. فإن كان
الشرب والطريق عامين، فلا شفعة بهما. والمراد بعدم نفاذ الطريق: أن يكون
بحيث يمنع أهله من أن يستطرقه غيرهم.
وتصور الشفعة بسبب الشرب مثلاً: إذا بيعت أرض لها حق الشرب في مجرى نهر خاص
مشترك بين قوم تسقى أراضيهم منه، فلكل أهل الشرب الشفعة، سواء أكانت
أراضيهم المجاورة للنهر ملاصقة له، أم بعيدة عنه.
ودليل الحنفية على ترتيب الشفعاء على النحو المذكور (الشريك في المبيع، ثم
شريك الارتفاق، ثم الجار) هو قوله عليه الصلاة والسلام: «الشريك أحق من
الخليط، والخليط أحق من الشفيع» (1) ولأن الاتصال في المبيع أقوى من غيره،
والاتصال في حق الارتفاق أقوى من الجار؛ لأنه اشتراك في مرافق الملك،
والترجيح يكون بقوة السبب؛ ولأن دفع ضرر مؤنة القسمة، وإن لم يصلح علة عند
الحنفية لاستحقاق الشفعة، صلح مرجحاً للأخذ عند تزاحم الشفعاء.
كيفية التوزيع عند تزاحم الشفعاء:
يتبين مما سبق كيفية توزيع حق الشفعة عند تزاحم الشفعاء، بأن كانوا أكثر من
واحد، وكل منهم يطلب الشفعة.
_________
(1) قال عنه الزيلعي: غريب: وقال عنه ابن الجوزي: إنه حديث لا يعرف. وقال
شريح: «الخليط أحق من الجار، والجار أحق من غيره» وقال إبراهيم النخعي:
الشريك أحق بالشفعة، فإن لم يكن شريك، فالجار، والخليط أحق من الشفيع،
والشفيع أحق ممن سواه» (نصب الراية: 176/ 4).
(6/4899)
أـ فإن لم يكونوا من
مرتبة واحدة: بأن كان أحدهم شريكاً في المبيع،
والآخر شريكاً في حق الارتفاق، والآخر جاراً ملاصقاً، فيقدم الشريك في
المبيع أولاً، ثم الشريك في حق المبيع (حق الارتفاق)، ثم الجار (م 1009)
مجلة.
والمشارك في حائط الدار في حكم المشارك في الدار نفسها. وأما صاحب الأخشاب
الممتدة على حائط جاره، فيعد جاراً ملاصقاً، لا شريكاً (م 1012) مجلة.
وكل من صاحب الطابق الأعلى والأسفل: جار ملاصق (م 1011) مجلة. وحق الشرب
مقدم على حق الطريق (م 1016) مجلة. وإذا باع صاحب حق الشرب أو الطريق الخاص
أرضه فقط، دون حق الارتفاق، فليس للشركاء في الارتفاق شفعة (م 1015) مجلة.
وإذا اجتمع صنفان من الشركاء يقدم الأخص على الأعم، فالمشترك في شرب من
جدول من الشرب أولى من المشترك في الشرب (م 1014).
ب ـ وإن كان الشفعاء من مرتبة واحدة،
كالشركاء في المبيع، قسم العقار المشفوع فيه بين الطالبين جميعاً، بالتساوي
بحسب عدد الرؤوس، لا بمقدار الملك أو السهام، عند الحنفية (1) والظاهرية
(2)، لاستوائهم في سبب استحقاق الشفعة، وهو الاتصال بالشركة أو الجوار، أي
لأنهم متساوون في أصل الملك.
_________
(1) البدائع: 6/ 5، تبيين الحقائق: 241/ 5، الكتاب مع اللباب: 116/ 2، الدر
المختار: 154/ 5، تكملة الفتح: 414/ 7، م 1013 مجلة.
(2) المحلى: 120/ 9، م 1609.
(6/4900)
وقال الجمهور (1) (غير الحنفية والظاهرية):
يقسم العقار المشفوع فيه بين الشفعاء على قدر حصصهم أو أنصبائهم في الملك،
لا على الرؤوس؛ لأن الشفعة حق ناشئ بسبب الملك، فكان على قدر الملك، كالغلة
والثمرة والأجرة المستفادة من الملك، وكالربح في شركة الأموال، فيأخذ كل
واحد من الشركاء الشفعاء بقدر ما يملكه في العقار (المشفوع به وفيه).
فلو كانت الأرض بين ثلاثة، لواحد نصفها، ولآخر ثلثها، ولآخر سدسها، فباع
الأول حصته، أخذ الثاني سهمين، والثالث سهماً. ولأن الشفعة شرعت لإزالة
الضرر، والضرر داخل على كل واحد من الشركاء بحسب نسبة ما يملكه، لا بحسب
التساوي، فوجب أن يكون استحقاقهم لدفع الضرر على تلك النسبة من الحصص. وقال
المالكية في تزاحم الشركاء الشفعاء (2): يقدم في الأخذ بالشفعة الأخص في
الشركة على غيره، وهو المشارك في السهم أي الفرض، فلو مات ذو عقار عن جدتين
وزوجتين وأختين، فباعت إحداهن نصيبها، فالشفعة لمن شاركها في السهم، دون
بقية الورثة، حتى ولو كان المشارك في السهم أختاً لأب مع أخت شقيقه، أو
بنتَ ابن مع بنت، فإذا باعت الشقيقة أو البنت نصيبها، فللأخت لأب أو لبنت
الابن الأخذ بالشفعة، دون العاصب.
ويدخل الأخص (3) من ذوي السهام (الفروض) على الأعم، وهو غير المشارك في
السهم، أي غير ذوي الفروض وهو غير الأقوى في القرابة، كالعاصب
_________
(1) الشرح الصغير: 646/ 3، الشرح الكبير: 486/ 3 وما بعدها، بداية المجتهد:
257/ 2، القوانين الفقهية ص 287، مغني المحتاج: 305/ 2، المهذب: 381/ 1،
335/ 5، كشاف القناع: 164/ 4.
(2) الشرح الكبير: 492/ 3، الشرح الصغير: 650/ 3 وما بعدها.
(3) الأخص: أي الأقوى والأزيد في القرب.
(6/4901)
وغيره، فإذا مات شخص عن بنت فأكثر، وعن
أخوين أو عمين، فباع أحد الأخوين، فإن البنات يدخلن في الشفعة، ولا يختص
الحق بالأخ أو العم الذي لم يبع. وإذا مات شخص عن ثلاث بنات، ثم ماتت
إحداهن عن بنتين، فباعت إحدى أخوات الميتة حصتها، فأولاد الميتة يدخلن على
خالاتهن، إذ الطبقة السفلى أخص؛ لأنهن أقرب للميت الثاني، والعليا أعم.
ويدخل الوارث ذو الفرض أو العاصب على الموصى لهم بعقار، باع أحدهم حصته،
فلا يختص بالشفعة بقية الموصى لهم، بل يدخل معه الوارث.
ثم يقدم الوارث مطلقاً، سواء أكان ذا فرض أم عاصباً، على أجنبي.
ثم يقدم الأجنبي، إن أسقط الوارث حقه.
ثالثاً ـ غيبة بعض الشفعاء: قال الحنفية (1): لو كان بعض الشفعاء حين البيع
وطلب الشفعة غائباً، فطلبها الحاضر، يقضى له بالشفعة؛ لأن الحاضر ثابت
بيقين، والغائب مشكوك في طلبه الشفعة، فلا يؤخر الحاضر؛ لأن المشكوك فيه لا
يزاحم المتيقن، لاحتمال عدم طلب الغائب، فلا يؤخر بالشك.
ثم إذا جاء الغائب وطلب الشفعة، وكان مع الحاضر في مرتبة واحدة، قاسم
الحاضر فيما أخذ، أي تنقض القسمة الأولى، ويعاد تقسيم العقار.
وإن لم يكن الغائب في مرتبة واحدة مع الحاضر الذي أخذ بالشفعة ـ وهذا لا
يتصور إلا عند الحنفية ـ كالشريك والجار، فإن كان الغائب فوق الحاضر (أعلى
منه)
_________
(1) البدائع: 6/ 5، الدر المختار: 156/ 5، تبيين الحقائق: 242/ 5.
(6/4902)
كالشريك مع الجار قضي له بكل المشفوع فيه،
وإن كان دونه كالجار مع الشريك منع من الشفعة.
ويتفق المالكية والشافعية والحنابلة والظاهرية (1) مع الحنفية في ثبوت حق
الشفعة للغائب، لعموم قوله عليه السلام: «الشفعة فيما لم يقسم» ولأن الشفعة
حق مالي، وجد سببه بالنسبة إلى الغائب، فيثبت له، كالإرث، ولأن الغائب شريك
لم يعلم بالبيع، فتثبت له الشفعة عند علمه كالحاضر، إذا كتم عنه البيع،
ويندفع ضرر المشتري المشفوع عليه بدفع القيمة له.
رابعاً ـ إسقاط بعض الشفعاء حقه: قال الحنفية (2): إذ أسقط بعض الشفعاء
حقه:
أـ فإن كان قبل أن يقضى لهم، فلمن بقي أخذ كل المشفوع فيه، لزوال المزاحمة.
ب ـ وأما إن أسقط حقه بعد القضاء بالشفعة، فليس لمن بقي أخذ نصيب التارك؛
لأنه بالقضاء قطع حق كل واحد منهم في نصيب الآخر.
وقال المالكية، والشافعية في الأصح، والحنابلة (3): إذا أسقط بعض الشفعاء
حقه في الشفعة، بأن عفا، سقط حقه، كسائر الحقوق المالية، وتخير الآخر بين
أخذ جميع المشفوع فيه، أو تركه كله، وليس له أخذ حقه فقط، أو الاقتصار على
_________
(1) الشرح الكبير: 490/ 3، مغني المحتاج: 306/ 2، المغني: 305/ 5 وما
بعدها، كشاف القناع: 164/ 4، المحلى: 115/ 9، م 1598، الشرح الصغير: 644/
3.
(2) الدر المختار: 156/ 5، تبيين الحقائق: 241/ 5، م 1043 مجلة.
(3) الشرح الكبير: 490/ 3، مغني المحتاج: 306/ 2، كشاف القناع: 164/ 4،
المغني: 338/ 5.
(6/4903)
حصته، لأن الشفيع الواحد إذا أسقط بعض حقه،
سقط كله كالقصاص، لئلا تتبعض الصفقة على المشتري. قال ابن المنذر: أجمع كل
من أحفظ عنه من أهل العلم هذا؛ لأن في أخذ البعض إضراراً بالمشتري بتبعيض
الصفقة عليه، والضرر لا يزال بالضرر.
المبحث الرابع ـ أحكام الشفعة:
أولاً ـ طريق التملك بالشفعة: قال الحنفية (1): الشفعة تجب بعقد البيع أي
تستحق بعد البيع، حتى ولو كان البيع فاسداً وسقط الفسخ بوجه ما، أو كان
مشتملاً على خيار للمشتري، ولا شفعة بمجرد الشراء الفاسد لأنه مستحق الفسخ
شرعاً، وفي إثبات حق الشفعة تقرير الفساد، فلا يجوز، فإن سقط الفسخ بوجه من
الوجوه كالتصرف بالمبيع أو البناء عليه، وجبت الشفعة لزوال المانع. كما لا
شفعة إذا كان الخيار للبائع؛ لأنه يمنع زوال الملك عن البائع، أما خيار
المشتري فلا يمنع زوال الملك عن البائع، والشفعة تبتنى عليه.
ولا بد من طلب المواثبة (أي طلب الشفعة كما سمع، على وجه السرعة)، وتستقر
بالإشهاد بعد الطلب، أي بالطلب الثاني: وهو طلب التقرير، وتملك بالأخذ
بالتراضي، أو بقضاء القاضي.
أي أن طريق التملك بالشفعة للشفيع يكون بأحد طريقين: إما بتسليم المشتري
المبيع للشفيع بالتراضي، وإما بقضاء القاضي أي بحكم الحاكم من غير
_________
(1) البدائع: 23/ 5 وما بعدها، تكملة الفتح: 417/ 7، تبيين الحقائق: 242/
5، 254، الدر المختار: 154/ 5، اللباب: 107/ 2، 114، م 1036، 1038 مجلة.
(6/4904)
أخذ؛ لأن الملك للمشتري قد تم بالشراء، فلا
ينتقل إلى الشفيع إلا بالتراضي، أو قضاء القاضي، كما في الرجوع في الهبة؛
لأن للحاكم ولاية عامة، فيقدر على القضاء في ضمن الحكم بالحق.
ويترتب عليه: أنه لا يثبت للشفيع في شفعته شيء من أحكام الملك قبل تملكه
بأحد الأمرين المذكورين، فلا تورث عنه عند الحنفية إذا مات في هذه الحالة،
وتبطل شفعته إذا باع داره التي يشفع بها، ولو بيعت دار بجنبها في هذه
الحالة لا يستحقها بالشفعة لعدم ملكه فيها.
والتملك بأحد هذين الطريقين متفق عليه بين المذاهب (1)، لكن قال المالكية:
تملك الشفعة بأحد أمور ثلاثة: بحكم من حاكم، أو دفع ثمن للمشتري، أو إشهاد
بالأخذ بالشفعة ولو في غيبة المشتري.
ولا شفعة عند غير الحنفية في بيع فاسد؛ لأنه باطل عندهم أي منعدم شرعاً.
واستثنى المالكية حالة تصرف المشتري بشراء فاسد بالشيء إلى غيره ببيع صحيح،
فللشفيع أن يأخذه من المشتري الثاني بما دفعه من الثمن. فإن طرأ في يد
المشتري على المبيع بيعاً فاسداً ما يغير ذاته كالهدم مثلاً، فللشفيع الأخذ
بما لزم المشتري: وهو القيمة إن كان الفساد متفقاً عليه، والثمن إن كان
الفساد مختلفاً فيه.
وتملك العقار بالشفعة هو بمنزلة شراء جديد مبتدأ، فيثبت للشفيع حق الرد
بخيار الرؤية وخيار العيب (2)، كما هو مقرر في كل عقد بيع.
والذي يتملكه الشفيع بالشفعة: هو الذي ملكه المشتري بالشراء، سواء ملكه
_________
(1) الشرح الصغير: 640/ 3، 647، مغني المحتاج: 300/ 2، كشاف القناع: 177/
4، المغني: 346/ 5 وما بعدها، الشرح الكبير: 487/ 3.
(2) البدائع: 24/ 5، م 1037 مجلة، تبيين الحقائق: 246/ 5 وما بعدها.
(6/4905)
أصلاً، أو تبعاً لغيره إذا كان متصلاً به
وقت التملك بالشفعة، كالبناء والغرس والزرع والثمر. وهذا استحسان عند
الحنفية؛ لأن الحق إذا ثبت في العقار، ثبت فيما هو تبع له إن كان منقولاً
متصلاً به؛ لأن حكم التبع حكم الأصل (1).
ثانياً ـ ما يلزم الشفيع دفعه أو ما يؤخذ به المشفوع:
1) ـ الثمن الواجب دفعه:
اتفق الفقهاء على أن الشفيع يأخذ المبيع بالثمن، أو العوض الذي ملك به،
أوبمثل الثمن الذي تملك به المشتري، لا بمثل المبيع الذي يملكه المشتري؛
لأن الشرع أثبت للشفيع ولاية التملك على المشتري بمثل ما يملك به (2) قدراً
وجنساً، لحديث جابر «فهو أحق به بالثمن» (3)، كما يلزم بما أنفقه المشتري
كأجرة دلال وكاتب ورسوم، فإن كان الثمن مثلياً كالمكيل والموزون، أخذه
الشفيع بقيمته (أي قيمة الثمن)؛ لأنها بدله في القرض والإتلاف، وقت لزوم
العقد؛ لأنه حين استحقاق الأخذ.
وإن بيع عقار بعقار (مقايضة) وكان شفيعهما واحداً، أخذ الشفيع كل واحد من
العقارين بقيمة الآخر، لأنه بدله، وهو من ذوات القيم (القيميات)، فيأخذه
بقيمته. وإن اختلف شفيعهما، يأخذ شفيع كل منهما ماله فيه الشفعة بقيمة
الآخر.
وإن اشترى ذمي داراً بخمر أو خنزير، وكان الشفيع ذمياً، أخذها بمثل
_________
(1) البدائع: 27/ 5 وما بعدها.
(2) تكملة الفتح: 427/ 7، تبيين الحقائق: 249/ 5، اللباب: 114/ 2 - 115،
الشرح الصغير: 635/ 3، 637، مغني المحتاج: 301/ 2، المهذب: 378/ 1 وما
بعدها، المغني: 322/ 5، كشاف القناع: 177/ 4، بداية المجتهد: 256/ 2.
(3) رواه أبو إسحاق الجوزجاني في المتر جم.
(6/4906)
الخمر، وقيمة الخنزير، وإن كان الشفيع
مسلماً أخذها عند غير الحنابلة بقيمة الخمر والخنزير. أما الخنزير فظاهر
أنه مال قيمي، وأما الخمر فلمنع المسلم عن التصرف فيه، فالتحق بغير المثلي.
وتحسب قيمة الشيء المبيع يوم البيع، لا يوم الأخذ بالشفعة، باتفاق الفقهاء،
لأنه وقت إثبات العوض، واستحقاق الشفعة.
وقال الحنابلة (1): لا شفعة فيما اشتراه الذمي بخمر أو خنزير، لأنهما ليسا
بمال.
2) ـ الحط من الثمن أو الزيادة عليه:
قال الحنفية (2): إذا حط البائع عن المشتري بعض الثمن سواء قبل الأخذ
بالشفعة أم بعدها، سقط قدر المحطوط عن الشفيع؛ لأن حط البعض يلتحق بأصل
العقد، فيظهر ذلك في حق الشفيع؛ لأنه يأخذ الشفعة بالثمن، والثمن هو الباقي
المستقر عليه.
أما إن حط البائع عن المشتري جميع الثمن، لم يسقط عن الشفيع منه شيء؛ لأن
حط الكل لا يلتحق بأصل العقد بحال، لخروج العقد عن موضوعه، فيصبح هبة، ولم
يبق ما يعد ثمناً.
وإذا زاد المشتري البائع في الثمن، أو جَدَّد العقد بأكثر من الثمن الأول،
لم تلزم تلك الزيادة الشفيع، لأن في الزيادة ضرراً به، لاستحقاقه الأخذ
بالثمن الأول الأصلي، بخلاف مسألة الحط من الثمن، لأن فيه منفعة له.
_________
(1) كشاف القناع: 152/ 4.
(2) المبسوط: 107/ 14، الكتاب مع اللباب: 115/ 2 وما بعدها، تكملة الفتح:
427/ 7، تبيين الحقائق: 248/ 5 وما بعدها، البدائع: 27/ 5.
(6/4907)
والخلاصة: أنه يثبت في حق الشفيع الحط أو
النقص من الثمن دون الزيادة.
واتفق بقية الفقهاء مع الحنفية على أنه لو حط البائع جميع الثمن، فلا شفعة،
لانتفاء البيع.
وقال الشافعية والحنابلة (1): لو حط بعض الثمن عن المشتري أو زيد قبل لزوم
العقد أي في مدة الخيار، انحط عن الشفيع مقدار النقص، ويلزم بالزيادة؛ لأن
حق الشفيع إنما يثبت إذا تم العقد، وزال الخيار، والتغيير يلحق العقد. فأما
إذا انقضى الخيار وانبرم العقد، فحط أو زيد في الثمن، لم يلحق بالعقد؛ لأن
النقص حينئذ إبراء مبتدأ جديد، ولا يثبت ذلك في حق الشفيع، والزيادة بعد
مدة الخيار هبة، تطبق عليها شروط الهبة.
3) ـ تأجيل الثمن:
قال الحنفية ما عدا زفر، والشافعية في الأظهر من أقوال الشافعي في الجديد
(2): إذا أجل الثمن كله أو بعضه، ليس للشفيع الاستفادة من هذا الأجل
الممنوح للمشتري، وإنما يكون الشفيع بالخيار بين أن يعجل (يدفع الثمن
حالاً) ويأخذ المبيع (أو الشقص أي الحصة) في الحال، أو يصبر حتى ينقضي
الأجل، ولا يسقط حقه بتأخيره إلى حلول الأجل، لعذره، لكن يجب عليه طلب
الشفعة في حينها، وإلا سقط حقه فيها؛ لأن العقد هو شرط ثبوتها، وقد وجد.
والسبب في عدم إفادته من الأجل: هو أن الشفعة ليست تحويل الصفقة
_________
(1) نهاية المحتاج: 149/ 4، المغني: 322/ 5، كشاف القناع: 177/ 4.
(2) المبسوط: 103/ 14، البدائع: 24/ 5، 27، تكملة الفتح: 428/ 7، تبيين
الحقائق: 249/ 5، نهاية المحتاج: 150/ 4، مغني المحتاج: 301/ 2، الإفصاح
لابن هبيرة: ص277.
(6/4908)
بصفتها للشفيع من المشتري، وإنما هي نقض
العقد الذي تم بين البائع والمشتري، ثم انعقاد بيع آخر للشفيع.
وقال زفر: للشفيع الاستفادة من الأجل؛ لأن الأجل وصف في الثمن كالزيافة،
والأخذ بالشفعة يكون بالثمن، فيأخذه به وصفاً وأصلاً.
وقال المالكية والحنابلة (1): للشفيع الاستفادة من تأجيل الثمن الذي تم به
العقد، إذا كان مليئاً ثقة، أو كفله مليء ثقة. فإن لم يكن موسراً، ولا ضمنه
مليء، وجب عليه دفع الثمن حالاً، رعاية للمشتري. وهذا الرأي أولى بالاتباع
ضماناً لمصلحة المشتري الذي فقد الصفقة بسبب الشفعة.
4) ـ هل يتوقف القضاء بالشفعة على دفع الشفيع
الثمن؟ قال الحنفية في ظاهر الرواية، والشافعية والمالكية والحنابلة
(2): لا يشترط في التملك بالشفعة حكم الحاكم، ولا إحضار الثمن، ولا حضور
المشتري، فلا يتوقف صدور الحكم القضائي بالشفعة على إحضار الشفيع الثمن إلى
مجلس القضاء؛ لأن حقه ثبت بمجرد البيع لأجنبي دفعاً للضرر عنه، فصار كما لو
صدر الشراء له من البائع من أول الأمر، أو لأن الشفيع يصير متملكاً المشفوع
فيه بمقتضى القضاء بالشفعة، فكأنه اشتراه من البائع، والتملك بالشراء لا
يتوقف على إحضار الثمن، كالشراء أو البيع المبتدأ بجامع أنه تملك بعوض.
_________
(1) الشرح الصغير: 637/ 3، بداية المجتهد: 256/ 2، المغني: 323/ 5، كشاف
القناع: 179/ 4.
(2) المبسوط: 119/ 14، تبيين الحقائق: 245/ 5، تكملة الفتح: 422/ 7،
اللباب: 112/ 2، البدائع: 24/ 5 وما بعدها، مغني المحتاج: 300/ 2، الشرح
الصغير: 647/ 3 - 649، كشاف القناع: 177/ 4.
(6/4909)
لكن قال المالكية: إن قال الشفيع: أنا آخذ
الشفعة، أجل ثلاثة أيام لإحضار الثمن، فإن أتى به فيها وإلا سقطت شفعته.
وقال محمد بن الحسن: لا يقضي القاضي بالشفعة حتى يحضر الشفيع الثمن، دفعاً
للضرر عن المشتري؛ لأن الشفيع ربما يكون مفلساً، فيتوقف القضاء على إحضار
الثمن، ويؤجله القاضي يومين أو ثلاثة تمكيناً له من نقد الثمن، إذ لا يصح
دفع الضرر عن الشفيع بإضرار غيره.
لكن ما يخشاه محمد من هذا المحذور يمكن دفعه، كما يقول أبو حنيفة وأبو
يوسف، بأن للمشتري حبس العين في يده، حتى يدفع الشفيع الثمن.
ووفق الكاساني بين الرأيين، فقال: هذا عندي ليس باختلاف على الحقيقة،
وللقاضي أن يقضي بالشفعة قبل إحضار الثمن بلا خلاف؛ لأن لفظ محمد رحمه
الله: «ليس ينبغي للقاضي أن يقضي بالشفعة، حتى يحضر الشفيع المال» لا يدل
على أنه ليس له أن يقضي، بل هو إشارة إلى نوع احتياط، ولهذا لو قضى جاز،
ونفذ قضاؤه، نص عليه محمد.
5) ـ استحقاق المشفوع فيه:
إذا استحق المشفوع فيه فمن الذي يتحمل العهدة وضمان الثمن؟ الأمر مختلف فيه
على رأيين. والمراد بالعهدة: رجوع من انتقل الملك إليه وهو الشفيع على من
انتقل الملك عنه من بائع أو مشتر بالثمن عند الاستحقاق أو الأرش (التعويض)
عند ظهور عيب من العيوب.
فقال الحنفية (1): إن ضمان الثمن عند الاستحقاق يكون على المشتري، إن
_________
(1) تكملة الفتح: 433/ 7، الدر المختار: 160/ 5، الكتاب مع اللباب: 119/ 2،
البدائع: 30/ 5.
(6/4910)
أخذ الشفيع المبيع منه، ونقده الثمن؛ لأنه
هو الذي قبض الثمن، ولأن المبيع قد انتقل منه إلى الشفيع. وهذا هو الغالب.
وقد يكون على البائع، إذا كان الشفيع قد أخذ المبيع منه قبل تسليمه إلى
المشتري؛ لأنه هو الذي قبض الثمن، وانتقل المبيع منه إلى الشفيع.
وقال الجمهور (المالكية والشافعية والحنابلة) (1): إذا أخذ الشفيع الشقص
(الجزء المبيع المشترك فيه) فظهر مستحقاً أو معيباً، فيرجع بالثمن أو الأرش
(التعويض) على المشتري، ويرجع المشتري على البائع؛ لأن الشفيع أخذ المبيع
من المشتري على أنه ملكه، فيرجع بالعهدة عليه كما لو اشتراه منه.
6) ـ اختلاف الشفيع والمشتري في قدر الثمن:
إذا اختلف الشفيع والمشتري في قدر الثمن، فادعى المشتري ـ بطبيعة الحال ـ
الأكثر، وادعى الشفيع الأقل، فمن الذي يصدق قوله؟
يرى جمهور الفقهاء (في المذاهب الأربعة وغيرها) (2): أن الشفيع والمشتري
إذا اختلفا في قدر الثمن، فقال المشتري: اشتريته بمئة، وقال الشفيع: بل
بخمسين، فالقول قول المشتري بيمينه؛ لأنه أعلم بما باشره من الشفيع، ولأن
الشفيع مدع الأقل، والمشفوع عليه مدعى عليه، ينكر ذلك، والقول قول المنكر
مع يمينه.
_________
(1) الشرح الكبير: 493/ 3، المهذب: 383/ 1، المغني: 344/ 5 وما بعدها، كشاف
القناع: 182/ 4.
(2) البدائع: 30/ 5 - 32، تكملة الفتح: 424/ 7، اللباب مع الكتاب: 115/ 2،
بداية المجتهد: 261/ 2، الشرح الصغير: 656/ 3، مغني المحتاج: 304/ 2،
المغني: 328/ 5، 333.
(6/4911)
إلا أن المالكية قيدوا الأخذ بقول المشتري
بقيد، فقرروا أن القول قول المشتري إذا أتى بما يشبه تقدير المقدرين، أو
ثمن المثل، وإلا أي إن أتى بما لا يشبه تقديرهم، بأن ادعى ما شأنه ألا يكون
ثمناً، فالقول قول الشفيع إن أتى بما يشبه التقدير المعقول.
فإن لم يكن قول كل من المشتري والشفيع مشبهاً التقدير المعقول، حُلِّف كل
منهما على مقتضى دعواه، ورد دعوى صاحبه، ورد الثمن إلى القيمة الوسط بين
الناس وهي قيمة الحصة يوم البيع، كما لو نكلا معاً عن حلف اليمين.
وأضاف الحنفية (1) أن القول قول المشتري إذا اختلف مع الشفيع في جنس الثمن
أو في صفته، مثال الأول: أن يقول المشتري: اشتريت بمئة دينار، وقال الشفيع:
لا، بل بألف درهم، فالقول قول المشتري؛ لأن الشفيع يدعي عليه التملك بهذا
الجنس، وهو ينكر، والقول قول المنكر مع يمينه، ولأن المشتري أعرف بجنس
الثمن من الشفيع؛ لأن الشراء وجد منه، لا من الشفيع، فكان أعرف به من
الشفيع، فيرجع في معرفة الجنس إليه.
ومثال الاختلاف في صفة الثمن: أن يقول المشتري: اشتريت بثمن معجل، وقال
الشفيع: لا، بل اشتريته بثمن مؤجل، فالقول قول المشتري؛ لأن الحلول في
الثمن أصل، والأجل عارض، والمشتري يتمسك بالأصل، فيكون القول قوله بيمينه،
ولأن العاقد أعرف بصفة الثمن من غيره، ولأن الأجل يثبت بالشرط، والشفيع
يدعي عليه شرط التأجيل، وهو ينكر، فكان القول قوله.
_________
(1) البدائع: 30/ 5 - 32.
(6/4912)
المبحث الخامس ـ
شروط الشفعة:
للأخذ بالشفعة شروط، وقع في بعضها اختلاف بين الفقهاء، وهي ما يلي:
1 - خروج العقار عن ملك صاحبه خروجاً باتاً لا خيار فيه.
2 - أن يكون العقد عقد معاوضة وهو البيع وما في معناه.
3 - أن يكون العقد صحيحاً.
4 - أن يكون الشفيع مالكاً وقت الشراء وإلى القضاء له بالشفعة: (شرط ملك
الشفيع).
5 - عدم رضا الشفيع بالبيع.
واشترط الجمهور غير الحنفية أن يكون الشفيع شريكاً، فلا شفعة لجار عندهم،
وقد ذكر في بحث الشفيع، كما اشترطوا أن يكون المبيع شقصاً (جزءاً) مشاعاً
مع شريك قابلاً لقسمة الإجبار، وقد ذكر في بحث المشفوع فيه، ولم يشترطه
الحنفية.
واشترط كل الفقهاء أن يأخذ الشريك جميع الشقص المبيع، لئلا يتضرر المشتري
بتبعيض الصفقة في حقه، بأخذ بعض المبيع، وترك البعض الآخر؛ لأن الضرر لا
يزال بالضرر، فإن أخذ البعض وترك البعض سقطت شفعته.
ولم أجد حاجة للكلام عن اشتراط كون المشفوع فيه عقاراً، لأن الكلام عنه في
بحث مستقل في المبحث الثاني.
كما لا داعي للبحث في اشتراط عدم كون المشفوع فيه ملكاً للشفيع وقت البيع،
فإن كان ملكاً له لم تجب الشفعة، لاستحالة تملك الإنسان مال نفسه. فهذا
مفهوم بداهة، إذ لا يثير نزاعاً يؤدي إلى اللجوء إلى الشفعة.
(6/4913)
وأما اشتراط المبادرة إلى طلب الشفعة
بالتراضي أو بالتقاضي، فمحله بحث مستقل في إجراءات الشفعة.
الشرط الأول ـ خروج العقار عن ملك صاحبه خروجاً باتاً: يجب أن يزول ملك
البائع عن العقار المبيع، من طريق البيع البات النهائي اللازم الذي لا خيار
فيه، فلا تستحق الشفعة في العقار إذا بيع بشرط الخيار. وهذا شرط متفق عليه
بين المذاهب الأربعة، فقد اتفق فقهاؤهم على أن البيع المشتمل على خيار فيه
للبائع، لا شفعة فيه، حتى يجب البيع أو يلزم. وعلى هذا لو كان الخيار لكل
من العاقدين، فلا شفعة، لأجل خيار البائع.
واختلفوا في البيع المشتمل على خيار للمشتري، فقال الحنفية، والشافعية في
الأظهر الراجح عندهم (1): لو كان الخيار للمشتري، تجب الشفعة؛ لأن خياره
عند الحنفية لا يمنع زوال المبيع عن ملك البائع، ولأن المبيع في زمن الخيار
للمشتري على الراجح عند الشافعية. هذا في خيار الشرط.
أما خيار العيب والرؤية، فلا يمنع وجوب الشفعة؛ لأنه لا يمنع زوال ملك
البائع.
وقال المالكية والحنابلة (2): لا تثبت الشفعة في بيع الخيار قبل انقضائه،
سواء أكان الخيار لكل من البائع والمشتري، أم لأحدهما، فوجود الخيار
للمشتري يمنع
_________
(1) البدائع: 13/ 5، الهداية مع تكملة الفتح: 438/ 7، تبيين الحقائق: 253/
5 ومابعدها، الدر المختار: 160/ 5، 167، الكتاب مع اللباب: 114/ 2، مغني
المحتاج: 299/ 2.
(2) بداية المجتهد: 256/ 2، الشرح الصغير: 633/ 3، المغني: 294/ 5، كشاف
القناع: /4 181.
(6/4914)
الشفعة؛ لأن الأخذ بالشفعة يلزم المشتري
بالعقد بغير رضاه، ويوجب العهدة (1) عليه، ويفوت حقه من الرجوع في عين
الثمن، فلم يجز، كما لو كان الخيار للبائع.
الشرط الثاني ـ أن يكون العقد عقد معاوضة:
لا يثبت الحق في الشفعة إلا إذا خرج العقار عن ملك صاحبه بعقد معاوضة، وهو
البيع، أو ما في معناه كالهبة بشرط العوض إن تقابضا، والصلح عن مال لأنه
معاوضة، سواء أكان العقار المبيع وقفاً أم غير وقف.
ففي البيع تجب الشفعة، لانتقال المبيع إلى المشتري بعوض، لحديث جابر
السابق: «فإن باعه، ولم يؤذنه، فهو أحق به». وفي الهبة بعوض تجب الشفعة عند
الحنفية إن تقابضا، لوجود معنى المعاوضة، عند التقابض؛ لأن الهبة لا تثبت
إلا بالقبض، فإن قبض أحدهما دون الآخر، فلا شفعة عند أئمة الحنفية الثلاثة
(أبي حنيفة وصاحبيه). وعند زفر: تجب الشفعة بنفس العقد؛ لأن الهبة بشرط
العوض عند الثلاثة: تقع تبرعاً ابتداء، معاوضة انتهاء، وبناء عليه: يشترط
ألا يكون الموهوب ولا عوضه شائعاً، لأنه هبة ابتداء. وعند زفر: تقع معاوضة
ابتداء وانتهاء.
ولم يشترط التقابض عند الجمهور غير الحنفية في الهبة بشرط العوض (الثواب)؛
لأن الهبة عندهم عقد لازم، ولأن الموهوب له يملك الموهوب بعوض هو مال، فلم
يفتقر إلى القبض في استحقاق الشفعة.
_________
(1) المراد بالعهدة هنا: رجوع من انتقل الملك إليه من شفيع أو مشتر على من
انتقل عنه الملك من بائع أو مشتر بالثمن أو الأرش عند استحقاق الشقص (الحصة
من المبيع) أو عيبه (كشاف القناع: 182/ 4).
(6/4915)
وتجب الشفعة في الدار التي هي بدل الصلح،
سواء أكان الصلح على الدار عند الحنفية عن إقرار أم إنكار، أم سكوت، لوجود
معنى المعاوضة.
وهذا الشرط متفق عليه بين الفقهاء في المشهور عن مالك (1)، فلا شفعة بناء
عليه إذا زالت ملكية البائع عن ملكه بلا عوض مطلقاً، كالهبة بغير شرط
العوض، والوقف، والوصية والميراث؛ لأن الشفعة حق تملك جبري، يملك به المبيع
جبراً عن المشتري بمثل ما ملك (أي بالثمن والتكاليف التي دفعها). وهذه
التصرفات تؤدي إلى نقل الملكية بغير عوض أي بالمجان، فلا يتأتى تحقق شرط
الشارع في تملك الشفعة وهو البيع بمعاوضة وما في معناه.
لكن الفقهاء اختلفوا في التملك بعوض غير مالي، كالمهر، وبدل الخلع، أو أجر
طبيب أو محام مثلاً، أو أجرة دار، أو عوض في الصلح عن دم عمد.
فقال الحنفية والحنابلة (2): يشترط أن يكون عقد المعاوضة مال بمال، فلا
شفعة إذا كان العوض غيرمال، كما في هذه الأحوال، لأن الشيء في المعاوضة غير
المالية يشبه الموهوب والموروث، ولأن هذه الأعواض لا مثل لها، حتى يأخذ
الشفيع الشيء بمثلها، فلا يمكن مراعاة شرط الشرع فيه، وهو التملك بما تملك
به المشتري، فلم يكن مشروعاً. وأوضح الحنابلة أنه لا تجب الشفعة بفسخ يرجع
به المبيع إلى البائع، كرده بعيب أو إقالة. وقال الحنفية: إذا اقتسم
الشركاء العقار المشترك بينهم فلا شفعة لجارهم بالقسمة، لأنها ليست بمعاوضة
مطلقاً، ولأن
_________
(1) البدائع: 11/ 5، تبيين الحقائق: 239/ 5، 252، الهداية مع التكملة: 436/
7 - 438، الدر المختار: 157/ 5، 165، الكتاب مع اللباب: 110/ 2، بداية
المجتهد: 255/ 2 وما بعدها، القوانين الفقهية: ص 287، الشرح الصغير: 633/ 3
وما بعدها، مغني المحتاج: 298/ 2، المهذب: 376/ 1 وما بعدها، المغني: 291/
5، كشاف القناع: 152/ 4.
(2) تبيين الحقائق: 229/ 5، 252 - 253، المغني: 292/ 5.
(6/4916)
الشريك أولى من الجار. وإذا سلّم (أي
تنازل) الشفيع الشفعة، ثم رد المشتري ما اشتراه بخيار رؤية أو شرط أو عيب
بقضاء قاض، فلا شفعة للشفيع؛ لأن هذا الرد فسخ تام، فعاد المبيع لقديم
ملكه، والشفعة تكون في حالة إنشاء العقد. وإن كان الرد للمبيع بغير قضاء،
أو تقايلا (فسخا) البيع، فللشفيع الشفعة؛ لأن الرد فسخ في حق الطرفين، وبيع
جديد في حق شخص
ثالث، لوجود معنى البيع (وهو مبادلة المال بالمال بالتراضي) والشفيع هنا هو
الثالث (1).
وقال المالكية والشافعية (2): يكفي أن يكون العقد عقد معاوضة، سواء أكانت
بمال أم غير مال، فتثبت الشفعة بالمعاوضة على غير مال؛ لأن الغرض من الشفعة
دفع ضرر الدخيل، وهذا متحقق هنا، ولأنه عقار مملوك بعقد معاوضة، فأشبه
البيع، ويطالب الشفيع حينئذ بدفع قيمة البدل، كما لو باعه بعرض تجاري؛ لأن
هذه الأعواض أموال متقومة عندهم، فيؤخذ الشيء بقيمته عند تعذر الأخذ
بالمثل، فيدفع الشفيع مهر المثل، وعوض الخلع.
الشرط الثالث ـ أن يكون العقد صحيحا ً:
اتفق الفقهاء على هذا الشرط (3)،لأن المطلوب هو زوال حق البائع في المبيع،
فلا تثبت الشفعة في المشترى شراء فاسداً؛ لأن هذا العقد يجب ديناً نقضه،
ورد المبيع إلى ملك بائعه، للتخلص من الفساد، فلا يكون البيع لازماً،
لاحتمال فسخه من كل العاقدين، وفي إثبات الشفعة تقرير الفساد.
_________
(1) اللباب: 120/ 2 وما بعدها، كشاف القناع: 152/ 4 وما بعدها.
(2) بداية المجتهد: 255/ 2، القوانين الفقهية: ص 287، مغني المحتاج: 298/
2.
(3) البدائع: 13/ 5، تبيين الحقائق: 254/ 5، اللباب: 114/ 2، الشرح الصغير:
640/ 3، مغني المحتاج: 298/ 2، المغني: 291/ 5.
(6/4917)
لكن لو سقط حق فسخ البيع الفاسد بأسباب
مسقطة للفسخ، كزيادة المبيع، وزوال ملك المشتري بالتصرف في المشترى إلى
غيره، كان للشفيع عند الحنفية والمالكية (1) أن يأخذ بالشفعة؛ لأن المانع
قيام احتمال الفسخ ولقد زال المانع، كما لو باع شخص بشرط الخيار له، ثم
أسقط الخيار، وجبت الشفعة لزوال المانع من ثبوت الحق، وهو الخيار، فكذا هو.
وفي حالة بيع المشتري الشيء المشترى شراء فاسداً، يكون الشفيع عند الحنفية
بالخيار، إن شاء أخذ الشفعة بالبيع الأول، وإن شاء أخذها بالبيع الثاني؛
لأن حق الشفيع ثابت عند كل من البيعين، غير أنه إن أخذ بالبيع الثاني أخذ
بالثمن، وإن أخذ بالبيع الأول، أخذ بقيمة المبيع يوم القبض؛ لأن البيع
الفاسد يفيد الملك بقيمة المبيع لا بالثمن. وإنما تقدر القيمة يوم القبض؛
لأن المبيع بيعاً فاسداً مضمون بالقبض، كالمغصوب.
ورأي المالكية قريب من هذا، كما ظهر في مبدأ الكلام عن المبحث الرابع.
الشرط الرابع ـ ملك الشفيع المشفوع به وقت
البيع:
اتفق الفقهاء على شرط كون الشفيع مالكاً ما يشفع به قبل البيع، واختلفوا في
استمرار الملك حتى القضاء بالشفعة على رأيين:
فقال الحنفية (2): يشترط استمرار ملك الشفيع حتى يقضى له بالشفعة، فلو بيع
عقار، فطلبه الشريك أو الجار بالشفعة، ثم باع ما يشفع به، سقط حقه فيها؛
لأن الشفعة شرعت لدفع الضرر عن الشفيع (الشريك أو الجار عندهم) ولا ضرر
يصيبه من المشتري بعد بيع ملكه.
_________
(1) البدائع، والشرح الصغير، المكان السابق.
(2) البدائع: 14/ 5، تكلمة الفتح: 446/ 7، الكتاب مع اللباب: 113/ 2، الدر
المختار ورد المحتار: 157/ 5، 170.
(6/4918)
وكذا لو باع الشفيع ما يشفع به قبل أن يقضى
له بالشفعة، سقط حقه، سواء أكان عالماً ببيع الدار المشفوع فيها، أم لم
يعلم.
وقال جمهور الفقهاء (غير الحنفية) (1): يشترط ثبوت ملك الشفيع وقت البيع
فقط، ولايشترط استمرار الملك إلى وقت القضاء بالشفعة. وعليه نص الشافعية
فقالوا: لو باع الشفيع حصته، أو أخرجها عن ملكه بغير البيع كالهبة، جاهلاً
بالشفعة، فالأصح بطلانها، لزوال سببها، وهو الشركة أي حين البيع.
أـ ويترتب على هذا الشرط بالاتفاق أنه لا شفعة لشخص بدار يسكنها بالإجارة،
أو الإعارة، ولا بدار باعها قبل بيع المشفوع فيه، ولا بدار جعلها مسجداً،
ولا بدار جعلها وقفاً، فلا شفعة للوقف، أي ليس لناظر الوقف أن يطلب تملك
العقار المبيع بجوار الأراضي الموقوفة، إذ لا مالك للوقف.
أما إذا بيع الوقف عند الحنفية القائلين بجواز الاستبدال بالعين الموقوفة
للضرورة أو للحاجة والمصلحة، فيثبت حق الشفعة للجار؛ لأنه بالبيع يصبح غير
موقوف، فيجوز أخذه بالشفعة.
كذلك تثبت الشفعة عند الحنفية في حالة بيع العقار الموقوف غير المحكوم به
(2)، كما تثبت في بيع الأراضي العشرية والخراجية لأنها مملوكة، بخلاف
الأراضي السلطانية، فإنه لا شفعة فيها.
_________
(1) بداية المجتهد: 260/ 2، القوانين الفقهية: ص 287، مغني المحتاج: 298/
2، 303، 308 وما بعدها، نهاية المحتاج: 308/ 4، المهذب: 383/ 1، المغني:
317/ 5، 346، غاية المنتهى: 263/ 2، كشاف القناع: 153/ 4، 158، 176، الشرح
الصغير للدردير: 645/ 3، الشرح الكبير: 474/ 3، 487.
(2) يرى أبو حنيفة أن الوقف لا يلزم ويزول ملك الواقف عنه إلا إذا حكم به
الحاكم، أو علقه الواقف بموته (الهداية: 10/ 3).
(6/4919)
وأجاز المالكية (1) لا للسلطان الأخذ
بالشفعة لبيت المال، كما إذا مات أحد الشريكين، ولا وارث له، فأخذ السلطان
نصيبه لبيت المال، ثم باع الشريك الآخر حصته، فللسلطان الأخذ بالشفعة لبيت
المال. وكما لو مات إنسان عن بنت مثلاً، فأخذت النصف، ثم باعته، كان
للسلطان الأخذ من المشتري لبيت المال.
ب ـ ويتفرع على الخلاف السابق بين الفقهاء في شرط استمرار ملك المشفوع به:
إرث حق الشفعة.
قال الحنفية: لا يثبت للوارث حق الأخذ بالشفعة إذا مات الشفيع بعد طلب
الشفعة قبل القضاء، فليس للوارث الشفعة في عقار بيع في حياة مورثه؛ لأن
الوارث لم يكن مالكاً ما ورثه وقت العقد.
وقال الجمهور: يثبت حق الشفعة للوارث، إذا طالب به الشفيع المورث بعد البيع
قبل موته، بخلاف ما إذا مات قبل الطلب؛ لأن الوارث خليفة المورث، فله كل
حقوق مورثه، ومنها حق الشفعة، دفعاً لضرر الدخيل عن نفسه.
ومنشأ الخلاف في هذه المسألة كالخلاف في إرث خيار الشرط: هو هل تورث الحقوق
كما تورث الأموال؟ عند أبي حنيفة: لا تورث، وعند الجمهور: تورث (2).
الشرط الخامس ـ عدم رضا الشفيع بالبيع وحكمه:
اتفق الفقهاء على اشتراط ألا يصدر من الشفيع ما يدل على رضاه ببيع العقار
المشفوع فيه، فإن رضي بالبيع أو بحكمه قولاً، أو فعلاً بأن باع الشفيع
المشفوع به
_________
(1) الشرح الصغير: 632/ 3، الشرح الكبير: 474/ 3.
(2) المبسوط: 116/ 14.
(6/4920)
أو سكت مدة طويلة من غير عذر، سقط حقه في
طلب الشفعة؛ لأن الشفيع بالخيار بين الأخذ والترك؛ لأن الشفعة حق ثبت له
لدفع الضرر عنه، فيخير بين أخذه وتركه.
وقدر المالكية مدة السكوت فقالوا: ألا يظهر من الشفيع ما يدل على إسقاط
الشفعة من قول أو فعل أو سكوت مدة سنة كاملة بعد العقد فأكثر بلا مانع، مع
علمه وحضوره.
لكن يشترط لسقوط هذا الحق: ألا يكون هناك تدليس أو خديعة للشفيع لإسقاط
الشفعة، من
طريق المشتري، أو الثمن، أو قدر المبيع نفسه (1).
فإذا أخبر أن المشتري فلان، وكان المشتري بالفعل غيره؛ أو أن الثمن كذا،
وكان الثمن بالفعل أقل أو من جنس أو نوع أو وصف آخر، أو أن المبيع جزء
معين، وكان المبيع بالفعل جزءاً وأكثر أو كل المبيع، فسلم الشفعة أي أعرض
عنها، ثم تبين الحقيقة والوافع، بقي حقه، وكان له الشفعة؛ لأنه إنما تركها
لغرض بان خلافه ولم يتركه رغبة عنه.
لكن لو كان الأمر على عكس بعض هذه الحالات الثلاث السابقة، كأن أخبر بأن
الثمن ألف، فبان أكثر من ألف، أو أن المبيع كله، فبان بعضه، أو أن الثمن
مؤجل، فبان حالاً نقداً، سقط حقه في الشفعة، لأنه إذا لم يرغب فيه بالأقل،
أو بالمؤجل، فبالأكثر، أو المعجل أولى. ومن رغب عن شراء الكل، رغب عن شراء
البعض بالأولى، خوف ضرر الشركة. والحالة الأخيرة هي الرواية المشهورة (ظاهر
_________
(1) البدائع: 15/ 5، 19 - 20، المبسوط: 105/ 14، 111، الدر المختار ورد
المحتار: 173/ 5، اللباب: 118/ 2، الشرح الصغير: 643/ 3 وما بعدها، نهاية
المحتاج: 159/ 4، المهذب: 379/ 1، مغني المحتاج: 308/ 2، المغني: 302/ 5،
القوانين الفقهية: ص 286.
(6/4921)
الرواية) عند الحنفية، وهي مذهب المالكية،
أي أن الشفعة تسقط إذا أخبر الشفيع أن شريكه باع الكل، فترك الشفعة، ثم
تبين أنه لم يبع إلا النصف مثلاً.
وقال أبو يوسف والحنابلة: إن للشفيع في الحالة الأخيرة؛ لأنه قد يعجز عن
ثمن الكل ويقدر على ثمن النصف مثلاً، وقد تكون حاجته إلى النصف لإتمام
مرافق ملكه، ولا يحتاج إلى الكل.
والخلاصة عند الجمهور: أن الشفيع إذا أخبر بما هو الأنفع له، فترك الأخذ
بالشفعة، بطل حقه، وإلا فلا.
الاحتيال لإسقاط الشفعة:
اتفق الحنفية على كراهية الحيلة تحريماً لإسقاط الشفعة بعد ثبوتها أي بعد
البيع، أما الحيلة لدفع ثبوت الشفعة قبل البيع، فيروى عن أبي يوسف، وبقوله
يفتى: أنه لا تكره، إذا كان الجار غير محتاج للمشفوع فيه؛ لأنها منع عن
إثبات الحق، فلا يعد ضرراً. وتكره عند محمد؛ لأن الشفعة
إنما وجدت لدفع الضرر، ولو أبحنا الحيلة لما تحقق دفع الضرر (1).
والخلاصة: أن المقرر عند الحنفية ومثلهم الشافعية: أنه يجوز الاحتيال
لإسقاط الشفعة، كأن يقر له ببعض الملك ثم يبيعه الباقي.
أما الحنابلة والمالكية: فقد حرموا صراحة الاحتيال لإسقاط الشفعة، وإن فعل
لم تسقط؛ لأنها شرعت لدفع الضرر، فلو سقطت بالتحيل لترتب الضرر (2).
_________
(1) الهداية مع تكملة الفتح: 450/ 7، الدر المختار ورد المحتار: 173/ 5،
اللباب: 118/ 2.
(2) المغني: 326/ 5 وما بعدها، كشاف القناع: 149/ 4 وما بعدها، الإفصاح: ص
276.
(6/4922)
المبحث السادس ـ
إجراءات الشفعة بما أن الشفعة حق ضعيف كما يقول
الفقهاء، فلا تكون سبيلاً للتملك بها إلا باتخاذ إجراءات خاصة بطلبها من
الشفيع بمجرد العلم بالبيع، حتى يحكم له بها.
قال الحنفية: يلزم في الشفعة طلبات ثلاثة: هي طلب المواثبة، وطلب التقرير
والإشهاد، وطلب الخصومة والتملك (1). ويحسن قبل الكلام عن هذه الإجراءات
بيان اختلاف الفقهاء حول وقت وجوب الشفعة.
وقت وجوب الشفعة: اشترط الحنفية طلب
الشفعة فور العلم بالبيع؛ لأنها حق ضعيف، فيتقوى بالطلب الفوري بحسب
المعتاد.
ولم يشترط الإمام مالك المطالبة بالشفعة على الفور، وإنما وقت وجوب الأخذ
بالشفعة عنده متسع، وهو في حدود السنة بعد العقد، على أشهر الأقوال عنه
(2).
واشترط الشافعية على الأظهر (3): المبادرة إلى طلب الشفعة على الفور، أي
بعد علم الشفيع بالبيع؛ لأنها حق ثبت لدفع الضرر، فكان على الفور كالرد
بالعيب، فإذا علم الشفيع بالبيع، فليبادر على العادة، فلو كان الشفيع في
الصلاة أو في الحمام أو في حال قضاء الحاجة، لم يكلف قطع ما هو فيه، وإنما
له التأخير
_________
(1) م 1028 مجلة، البدائع: 17/ 5، مختصر الطحاوي: ص 120 وما بعدها، تكملة
الفتح: 416/ 7، 418 وما بعدها، تبيين الحقائق: 242/ 5، الدر المختار: 157/
5 وما بعدها، اللباب: 107/ 2، 112.
(2) الشرح الكبير: 487/ 3 وما بعدها، الشرح الصغير: 639/ 3، 645، بداية
المجتهد: 259/ 2.
(3) المهذب: 380/ 1، مغني المحتاج: 307/ 2، حاشية الباجوري: 19/ 2، المحلي
على المنهاج مع حاشية قليوبي وعميرة: 50/ 3.
(6/4923)
إلى الفراغ مما هو فيه. والضابط فيه: أن ما
عد توانياً في طلب الشفعة أسقطها، وإلا فلا.
وإن كان مريضاً أو غائباً عن بلد المشتري، أو خائفاً من عدو، فليوكل إن
قدر، وإلا بأن عجز عن التوكيل، فليشهد على طلب الشفعة رجلين عدلين أو عدلاً
وامرأتين. فإن ترك الشفيع المقدور عليه من التوكيل والإشهاد، بطل حقه في
الأظهر.
والحنابلة كالشافعية قالوا (1): يشترط المطالبة بالشفعة على الفور بمجرد
العلم بالبيع، بأن يشهد الشفيع على طلب الشفعة، حين يعلم بالبيع، إن لم يكن
له عذر يمنعه من الطلب. ثم إذا أشهد على الطلب له أن يخاصم المشتري، ولو
بعد أيام أو أشهر أو سنين.
وبه يتبين أن الجمهور يقولون: إن الشفعة على الفور، للحديث النبوي: «الشفعة
كحل العقال» (2)، ولأن ثبوتها على التراخي ربما أضر بالمشتري لعدم استقرار
ملكه.
وأما المالكية: فلم يشترطوا الفورية، فلو سكت الشفيع بلا مانع سنة كاملة
بعد العقد، فما دونها، أو غاب وعاد في أثناء السنة، ثم طلب الشفعة، أخذها؛
لأن السكوت لا يبطل حق امرئ مسلم ما لم يظهر من قرائن الأحوال ما يدل على
إسقاطه. لكن يحق للمشتري المطالبة عند الحاكم للشفيع بعد الشراء بأن يحدد
موقفه، إما بالأخذ بالشفعة أو الترك، فإن أجاب بواحد منهما فظاهر، وإلا
أسقط الحاكم شفعته.
_________
(1) كشاف القناع: 156/ 4، المغني: 299/ 5، 306 وما بعدها.
(2) ويروى «كنشطة العقال» رواه ابن ماجه، والبزار وابن عدي من حديث ابن
عمر، وهو ضعيف (نصب الراية: 176/ 4 وما بعدها).
(6/4924)
مراحل طلب الشفعة:
يبدأ الشفيع بطلب الشفعة عند الحنفية كما يلي:
1 - طلب المواثبة: أي المبادرة والسرعة،
وهو أن يطلب الشفيع في مجلس علمه بالبيع الأخذ بالشفعة، بلفظ يفهم منه
طلبها مثل: أطلب الشفعة أو أنا طالبها، أو أنا شفيع المبيع وأطلبه بالشفعة
ونحوه (1)، لقوله صلّى الله عليه وسلم: «الشفعة لمن واثبها» (2) ولا يلزم
الإشهاد من الشفيع على هذا الطلب، وإنما هو أفضل، لمخافة جحود أو إنكار
الخصم (المشتري) الطلب في ساحة القضاء. فالمعتبر هو الطلب، وإنما الإشهاد
ليثبت الطلب بالشهادة عند الإنكار، كالطلب والإشهاد لهدم الحائط المائل، لا
يشترط الإشهاد للضمان، وإنما لإثبات سبب الضمان.
ويلاحظ أن أصح الروايتين عند الحنفية: هو بقاء الحق في الطلب ما دام الشفيع
في مجلس العلم بالبيع، مهما امتد.
والأظهر عند الشافعية كما تقدم أن هذا الطلب على الفور.
وكذلك قال الحنابلة: الشفعة بالمواثبة ساعة العلم بالبيع أي على الفور.
وأما المالكية: فوقت الطلب عندهم كما تبين على التراخي، لمدة سنة، على أشهر
أقوال مالك.
2 - طلب التقرير: وهو أن يتقدم الشفيع
بطلب آخر يؤكد به طلبه الأول. إذ قد يكون الطلب الأول عن رغبة عارضة من
الشفيع، ثم يتبين أمره وظروفه وإمكاناته المادية، فلا بد من هذا الطلب
لتأكيد وتقرير الطلب الأول (3).
_________
(1) م (1029) مجلة.
(2) رواه الفقهاء في كتبهم، وهو كما قال الزيلعي عنه: غريب، وأخرجه عبد
الرزاق من قول شريح: «إنما الشفعة لمن واثبها» فهو أثر، وليس بحديث (نصب
الراية: 176/ 4).
(3) البدائع: 18/ 5 - 19، تكملة الفتح: 419/ 7 ومابعدها، الدر المختار ورد
المحتار: 158/ 5، تبيين الحقائق: 243/ 5 ومابعدها، اللباب: 108/ 2 - 109، م
(1020) مجلة.
(6/4925)
ويشترط في هذا الطلب: أن يكون على فور
الطلب الأول، والإشهاد عليه، بأن يشهد الشفيع على رغبته بالشفعة رجلين أو
رجل وامرأتين، ومدة هذا الطلب ليست على فور المجلس في الأكثر، بل هي مقدرة
بمدة التمكن من الإشهاد.
والإشهاد يكون على البائع إن كان المبيع في يده، أو على المشتري، وإن لم
يكن قد تسلم المبيع؛ لأنه مالك؛ أوعند العقار لتعلق الحق به. وصورة الإشهاد
والطلب: أن يقول الشفيع: إن فلاناً اشترى هذه الدار، وأنا شفيعها، وقد كنت
طلبت الشفعة، وأطلبها الآن، فاشهدوا على ذلك، أو نحوه.
ويلاحظ أن الإشهاد على هذا الطلب ليس بشرط لصحته، كما ليس بشرط لصحة طلب
المواثبة، وإنما هو لتوثيقه عند إنكار الخصم.
وإن كان الشفيع في محل بعيد، ولم يمكنه طلب التقرير والإشهاد بهذا الوجه،
يوكل آخر، وإن لم يجد وكيلاً أرسل مكتوباً.
وإذا كان الشفيع قد تقدم بطلب المواثبة أمام شهود، عند البائع إذا كان
المبيع في يده، أو عند المشتري، أو عند المبيع نفسه، كفاه ذلك عن طلب
التقرير، لحصول المقصود، وهو إظهار كونه مصراً على طلب الشفعة.
حكم الطلب: إذا فعل الشفيع طلب التقرير،
استقرت شفعته أي حقه، ولم تسقط بعده بالتأخير عند أبي حنيفة وفي رواية عن
أبي يوسف، وهو ظاهر المذهب وعليه الفتوى؛ لأن الحق متى ثبت واستقر لا يسقط
إلا بالإسقاط.
وقال محمد: إن تركها شهراً بعد الإشهاد من غير عذر، بطلت شفعته، لئلا يتضرر
المشتري بالتأخير. وقد قال بعض الحنفية: والفتوى اليوم على قول محمد، لتغير
أحوال الناس في قصد الإضرار، وقد أخذت المجلة بهذا الرأي في المادة (1034).
(6/4926)
وقال الحنابلة: إذا حدث الإشهاد على الطلب،
فللشفيع مخاصمة المشتري ولو بعد سنين. وحدد المالكية لطلب الشفعة الأول مدة
سنة تامة، فإذا سكت بلا مانع سنة كاملة بعد العقد، أو سكت بلا مانع مع علمه
بهدم أو بناء سقطت شفعته، لأن سكوته دليل الإعراض عن أخذه بالشفعة.
3 - طلب الخصومة والتملك: وهو أن يقدم
الشفيع طلباً للقضاء يطلب فيه الحكم بالشفعة وتسليم المبيع، بأن يقول:
اشترى فلان دار كذا، وأنا شفيعها بدار كذا لي، أو أنا شريكه فيها، فأطلب
منه تسليم الدار إلي (1).
جزاء التأخر في هذه الطلبات:
لو أخر الشفيع طلب المواثبة عن مجلس علمه بالبيع بدون عذر، كأن اشتغل بأمر
آخر، أو بحث في أمر آخر، أو قام من المجلس من دون أن يطلب الشفعة، سقط حقه
في الشفعة. فإن وجد عذر مانع من المبادرة بالطلب كوجود حائل مخيف من وحش أو
سيل مثلاً، لا تبطل شفعته حتى يزول المانع (2).
ولو أخر الشفيع طلب التقرير والإشهاد، مدة يمكن إجراؤها فيها، ولو بإرسال
مكتوب، يسقط حق شفعته (م 1033) مجلة.
ولو أخر الشفيع طلب الخصومة بعد طلب التقرير والإشهاد شهراً، من دون عذر
شرعي، ككونه في ديار أخرى، يسقط حق شفعته (م 1034) مجلة.
طالب الشفعة للمحجور: للصغير الأخذ
بالشفعة عند أكثر الفقهاء. وطلب
_________
(1) الدر المختار: 158/ 5 وما بعدها.
(2) البدائع: 18/ 5، م (1032) مجلة.
(6/4927)
الولي حق شفعة الصغير ونحوه من المحجورين،
فاعلاً ما يراه المصلحة للصغير في الأخذ بها، مثل كون ثمن المبيع رخيصاً أو
بثمن المثل، وللصغير مال لشراء العقار. فإذا أخذ الولي بالشفعة لم يملك
الصغير نقضها بعد البلوغ باتفاق المذاهب الأربعة.
وإن لم يطلب الولي حق شفعة الصغير، فلا تبقى له عند أبي حنيفة وأبي يوسف
صلاحية طلب حق الشفعة بعد البلوغ؛ لأن من ملك الأخذ بها، ملك العفو عنها،
كالمالك.
وقال المالكية والشافعية: ليس للصغير إذا بلغ المطالبة بالشفعة إذا عفا
عنها وليه لمصلحة رآها للصغير، أو لم يكن للصغير ما يأخذها به، فتسقط
الشفعة؛ لأن الولي فعل ماله فعله، فلم يجز للصبي نقضه كالرد بالبيع، ولأنه
فعل ما فيه الحظ للصبي. فإن أسقط الولي الشفعة بلا نظر ولا تقدير للمصلحة،
لم تسقط، ويكون للصغير الحق فيها إذا بلغ.
وقال الحنابلة، وزفر ومحمد من الحنفية: للصغير إذا بلغ المطالبة بالشفعة،
سواء عفا عنها الولي أو لم يعف، وسواء أكان في الأخذ بها أم في تركها
مصلحة، أم لا؟ لأن المستحق للشفعة يملك الأخذ بها، سواء أكان له فيها الحظ،
أم لم يكن، فهي حق ثابت للصغير، لا يملك الولي إبطاله، فلم يسقط بترك غير
الصغير له، كالغائب إذا ترك وكيله الأخذ بها (1).
نظر القاضي في طلب الشفعة وإثبات الدعاوى:
إذا تقدم الشفيع ليأخذ بالشفعة، وادعى شراء الدار المشفوعة، سأل
_________
(1) تكملة الفتح: 436/ 7، 451، تبيين الحقائق: 263/ 5، م (1035) مجلة،
الشرح الصغير: 645/ 3، الشرح الكبير: 486/ 3، المغني: 313/ 5 - 314، كشاف
القناع: 161/ 4 وما بعدها.
(6/4928)
القاضي (1) أولاً الشفيع عن موضع الدار
وحدودها، لدعواه فيها حقاً. ثم هل قبض المشتري الدار؛ إذ لو لم يقبض لم تصح
دعواه على المشتري ما لم يحضر البائع.
ثم يسأل القاضي عن سبب شفعة الشفيع وحدود ما يشفع به، إذ قد تكون دعواه
بسبب غير صالح، ثم يسأل عن طلب التقرير كيف كان وعند من أشهد. فإذا تحقق
ذلك كله صحت الدعوى.
ثم سأل القاضي المدعى عليه عن مالكية الشفيع لما يشفع به، فإن أقر بملكية
الشفيع ما يشفع به، فبها، وإن أنكر تلك الملكية، كلف القاضي الشفيع إقامة
البينة على ملكه؛ لأن ظاهر اليد (أو الحيازة) لا يكفي لإثبات الاستحقاق.
فإن عجز الشفيع عن البينة، استحلف ـ بطلب الشفيع ـ المشتري، بالله ما يعلم
أن الشفيع مالك لما ذكره، مما يشفع به.
فإن نكل المشتري عن اليمين، أو قامت بينة للشفيع، ثبت ملكه الدار التي يشفع
بها، وثبت له حق الشفعة.
ثم يسأل القاضي المدعى عليه أيضاً: هل اشترى (ابتاع) الدار المشفوعة، أو
لا؟ فإن أقر فبها، وإن أنكر الابتياع، قيل للشفيع: أقم البينة على شرائه؛
لأن الشفعة لا تثبت إلا بعد ثبوت البيع بالحجة.
فإن عجز عنها، استحلف المشتري بالله، ما ابتاع هذه الدار، أو بالله، ما
يستحق عليَّ في هذه الدار شفعة، من الوجه الذي ذكره الشفيع.
_________
(1) الدر المختار ورد المحتار: 159/ 5، تكملة الفتح: 421/ 7، اللباب: 111/
2، تبيين الحقائق: 244/ 5 وما بعدها.
(6/4929)
فإن نكل المشتري عن اليمين، أو أقر
بالشراء، أو بَرْهن الشفيع على مايدعي، قضي له بها، إذا لم ينكر المشتري
طلب الشفيع الشفعة: فإن أنكر، فالقول له (للمشتري) بيمينه (1). فإن أنكر
طلب المواثبة حلف على العلم أي ما يعلم به؛ وإن أنكر طلب التقرير، حلف على
البتات، أي الحزم بأنه لم يحصل.
ويلاحظ أن الخصم للشفيع: هو المشتري مطلقاً، سواء تسلم المبيع أم لا؛ لأنه
مالك، والبائع قبل التسليم لقيام يده (حيازته).
لكن لا تسمع البينة على البائع، حتى يحضر المشتري؛ لأنه المالك، ويفسخ
بحضوره. فإن سلم المبيع للمشتري، لا يلزم حضور البائع، لزوال الملك واليد
عنه (2).
المبحث السابع ـ ما يطرأ على المشفوع فيه بيد
المشتري:
قد يطرأ على المشفوع فيه في يد المشتري قبل القضاء بالشفعة للشفيع بعض
التغيرات من عقود وتصرفات ناقلة للملكية كالبيع والهبة، أو مرتبة لحق
انتفاع وغيره كالإجارة والإعارة، أو حدوث زيادة كبناء وغرس، أو نقص كهلاك
وهدم أو نقض. فما أثر هذه التغيرات الطارئة على حق الشفيع، وهل تسقط شفعته؟
أولاً ـ العقود والتصرفات: قد تصدر تصرفات من المشتري في الشيء المشترى قبل
أن يقضى للشفيع بالشفعة. وتلك التصرفات:
_________
(1) هذا محمول على ما إذا قال الشفيع: علمت أمس بالبيع، وطلبت الشفعة،
فيكلف إقامة البينة، فإن عجز قبلت يمين المشتري. أما لو قال الشفيع: طلبت
حين علمت، فالقول قوله بيمينه (رد المحتار: 158/ 5، 160).
(2) الدر المختار: 160/ 5.
(6/4930)
إما ناقلة للملكية كالبيع والهبة مع
التسليم والوقف، وجعل المبيع مهراً في زواج.
وإما مرتبة لحق انتفاع، أو حبس كالإجارة والإعارة، والرهن.
وقد اتفقت المذاهب الأربعة (1) على جواز نقض بعض التصرفات الناقلة للملكية
وهو البيع، بعد حكم القاضي بالشفعة لمستحقها، لتعلق حق الغير في المبيع.
كما اتفقوا على جواز نقض الرهن والإجارة والإعارة، مما لا شفعة فيه ابتداء.
وفي حالة البيع: يخير الشفيع بين أن يأخذ العقار المبيع بالثمن الذي تم به
الشراء الأول، أو الثاني؛ لأن كل واحد من العقدين سبب تام لثبوت حق الأخذ
له بالشفعة كما قال السرخسي، ولأن حق الشفيع سابق على هذا التصرف، فلا يبطل
به.
واتفق الحنفية والشافعية والمالكية على جواز نقض ما لا شفعة فيه ابتداء،
كالوقف وجعله مسجداً أو مقبرة، والهبة له، والوصية به.
وقال الحنابلة: تسقط الشفعة إذا تصرف المشتري بالمبيع قبل طلب الشفعة بهبة
أو صدقة، أو وقف على معين كمسجد كذا، أو على الفقراء أو المجاهدين، أو جعله
عوضاً عن طلاق أو خلع أو صلح عن دم عمد ونحوه، مما لا شفعة فيه ابتداء؛ لأن
في الشفعة إضراراً بالموقوف عليه، والموهوب له، والمتصدق عليه ونحوه، بسبب
زوال ملكه يزول عنه بغير عوض؛ لأن الثمن إنما يأخذه المشتري،
_________
(1) المبسوط: 108/ 14 وما بعدها، الدرا لمختار: 164/ 5، الشرح الصغير: 652/
3، القوانين الفقهية: ص 287، الشرح الكبير: 493/ 3، مغني المحتاج: 303/ 2
وما بعدها، المهذب: 382/ 1، كشاف القناع: 169/ 4 وما بعدها.
(6/4931)
والضرر لا يزال بالضرر. ولا يصح عند
الحنابلة تصرف المشتري بعد طلب الشفيع الشفعة، لانتقال الملك إلى الشفيع
بالطلب في الأصح. ولو أوصى المشتري بالشقص المشترى (الحصة المبيعة) فإن
أخذه الشفيع قبل القبول بطلت الوصية، واستقر الأخذ للشفيع، لسبق حقه على حق
الموصى له، والوصية قبل القبول بعد الموت جائزة، لا لازمة.
ثانياً ـ نماء المشفوع فيه وزيادته: قد يَحْدث نمو طبيعي في العقار المشفوع
فيه، وقد يُحدث المشتري فيه زيادة بالبناء أو الغراس، قبل الحكم بالشفعة
لصاحبها، فمن الأحق بذلك، الشفيع أم المشتري، وإذا كان المستحق هو المشتري،
فهل يعوض عن حقه، وما التعويض؟
1 - النماء الطبيعي:
إذا نما المبيع في يد المشتري، كأن أثمر الشجر في يده بعد الشراء:
قال الحنفية (1): القياس ألا يكون للشفيع، لأنه نما على ملك المشتري
وبعلمه. والاستحسان أنه للشفيع؛ لأن الثمر متصل خلقه بالشجر، فكان تبعاً
له، ولأنه متولد من المبيع، فيسري إليه الحق الثابت في الأصل (الشجر)
الحادث قبل الأخذ، كالمبيعة إذا ولدت قبل القبض، فإن المشتري يملك الولد
تبعاً للأم.
والخلاصة: أنه يأخذه الشفيع؛ لأنه مبيع تبعاً لأصله.
وقال المالكية (2): الغلة قبل الشفعة للمشتري؛ لأن الضمان عليه، والغلة (أو
الخراج) بالضمان.
_________
(1) تبيين الحقائق: 251/ 5، تكملة الفتح: 434/ 7، الكتاب مع اللباب: 119/
2، الدر المختار ورد المحتار: 164/ 5 - 165.
(2) الشرح الصغير: 654/ 3.
(6/4932)
وقال الشافعية والحنابلة (1): للنماء
حالتان:
أـ إذا كان نماء متصلاً، كالثمرة غير الظاهرة، والشجر إذا تكاثر، فهو
للشفيع، يأخذ المبيع مع زيادته، لأن مالا يتميز يتبع الأصل في الملك، كما
يتبعه في حالة الرد بالعيب أو الخيار أو الإقالة.
ب ـ وإذا كان نماء منفصلاً، كالثمرة الظاهرة، والطلع المؤبر، والغلة
والأجرة، فهي للمشتري لاحق للشفيع فيها عند الحنابلة، وفي المذ هب الجديد
للشافعي؛ لأنها حدثت في ملك المشتري، فلا تتبع المبيع، فلا يؤخذ به إلا ما
دخل بالعقد، ولا يستحق شيء بغير تراض.
والخلاصة: أن هذين المذهبين يلتقيان مع مقتضى القياس عند الحنفية.
2 - الزيادة المحدثة:
إذا أحدث المشتري زيادة في المبيع، بالبناء أو الغرس أو الزرع.
أـ ففي حالة الزرع الذي له نهاية معلومة: اتفق الفقهاء على أن للشفيع الأخذ
بالشفعة، ويكون الزرع للمشتري على أن يبقى في الأرض إلى أوان الحصاد، وعليه
الأجرة عند الحنفية عن المدة التي تمضي بين القضاء بالشفعة وبين الحصاد
(2).
وقال الشافعية والحنابلة: يبقى الزرع بلا أجر على المشتري، لأنه زرعه في
ملكه (3).
_________
(1) المهذب: 382/ 1، المغني: 319/ 5 وما بعدها، كشاف القناع: 174/ 4.
(2) المبسوط: 115/ 14، البدائع: 27/ 5 وما بعدها، الدر المختار ورد
المحتار: 164/ 5، تبيين الحقائق: 250/ 5.
(3) المغني: 319/ 5، نهاية المحتاج:154/ 4، مغني المحتاج: 304/ 2، كشاف
القناع: 174/ 4.
(6/4933)
ب ـ وأما في حالة البناء والغرس: فللشفيع
الأخذ بالشفعة أيضاً، لكن الفقهاء اختلفوا فيما يجب عليه من دفع قيمة
البناء والغراس.
قال الحنفية في ظاهر الرواية (1): إذا بنى المشتري أو غرس فيما اشتراه، ثم
قضي للشفيع بالشفعة، كان للشفيع الخيار: إن شاء كلف المشتري بالقلع وتخلية
الأرض مما أحدث فيها؛ لأنه وضعه في محل تعلق به حق متأكد للغير من غير إذن،
وتكون الأنقاض للمشتري، لا للشفيع، لزوال التبعية بالانفصال.
وإن شاء أخذ الأرض بالثمن الذي دفعه المشتري، على أن يدفع قيمة البناء
والغرس مقلوعاً أي مستَحَق القلع أنقاضاً.
وقال الجمهور (المالكية والشافعية والحنابلة) (2)، ورأيهم هو الأعدل: إن
اختار المشتري قلع الغراس والبناء، لم يمنع إذا لم يكن فيه ضرر؛ إذ لا ضرر
ولا ضرار؛ لأنه ملكه، فيملك إزالته ونقله، ولا يلزمه تسوية الأرض؛ لأنه غير
متعد.
وإن لم يختر المشتري القلع، فالشفيع بالخيار بين ترك الشفعة، وبين دفع قيمة
البناء والغراس مستَحَق البقاء.
وهذا هو رأي أبي يوسف أيضاً.
والسبب في اختلاف الرأيين كما قال ابن رشد الحفيد الفيلسوف في بداية
المجتهد: تردد تصرف المشفوع عليه، العالم بوجوب الشفعة عليه بين شبهة تصرف
الغاصب، وتصرف المشتري الذي يطرأ عليه الاستحقاق، عندما بنى في الأرض
_________
(1) البدائع: 29/ 5، تبيين الحقائق: 250/ 5، المبسوط: 114/ 14، الدر
المختار: 164/ 5، اللباب: 118/ 2 وما بعدها.
(2) بداية المجتهد: 260/ 2، نهاية المحتاج، ومغني المحتاج: المكان السابق،
المغني: 317/ 5 وما بعدها، كشاف القناع: 175/ 4.
(6/4934)
أو غرس. فمن غلب على فعله شَبَه الاستحقاق
وهم الجمهور، قرر أنه لا بد للمشتري من أن يأخذ القيمة. ومن غلب على فعله
شَبَه التعدي قال وهم الحنفية: للشفيع أن يعطي قيمة البناء والغراس
منقوضاً.
ثالثاً ـ نقص المشفوع فيه: للفقهاء حول هذا الموضوع رأيان متعارضان: رأي
الحنفية وقريب منه مذهب المالكية، ورأي الشافعية والحنابلة.
قال الحنفية (1): قد يكون النقص جزءاً من توابع الأرض، أو متصلاً بالأرض،
أو بعضاً من الأرض نفسها.
أـ فإن كان النقص جزءاً من توابع الأرض، مثل قطف الثمر، وهلاك الآلات
الزراعية أو الصناعية، ثم حكم بالشفعة للشفيع، سقط من الثمن قيمة هذه
الثمار والآلات، سواء أكان النقص بفعل المشتري؛ لأنها مقصودة بالبيع، وقد
أخذها المشتري، أم كان الهلاك بآفة سماوية؛ لأنها كانت بعض المعقود عليه،
ودخلت في البيع مقصودة، فيقابلها حصتها من الثمن.
ب ـ وإن كان النقص جزءاً متصلاً بالأرض، مثل يبس الشجر أو جفافه، وانهدام
البناء، واحتراقه، ونقضه، ثم قضي للشفيع بالشفعة، فإن كان ذلك بصنع المشتري
أو غيره، نقص من الثمن قيمة ما زال، كالحالة الأولى، فتقوَّم الأرض بدون
شجر وبناء، وتقوَّم وفيها البناء والشجر، ويسقط عن الشفيع مقدار التفاوت أو
الفرق بينهما، لوجود التعدي والإتلاف، فيقابله شيء من الثمن. وتكون الأنقاض
حينئذ للمشتري.
_________
(1) المبسوط: 115/ 14، تبيين الحقائق: 251/ 5 وما بعدها، الدرالمختار ورد
المحتار: 164/ 5 وما بعدها، تكملة الفتح: 434/ 7، اللباب: 119/ 2، الأموال
ونظرية العقد في الفقه الإسلامي لأستاذنا المرحوم الدكتور محمد يوسف موسى:
ص 236 وما بعدها.
(6/4935)
وأما إن حدث ذلك بلا تعد من أحد، وإنما
بآفة سماوية، كزلزال أو صقيع أو ريح عاتية، كان على الشفيع دفع الثمن كله،
ولا يسقط منه شيء مقابل الجزء التالف أو الضائع؛ لأن النقص ليس بجناية أحد،
ولأن الشجر والبناء تابعان للأرض، حتى إنهما يدخلان في عقد البيع بدون ذكر،
فلا يقابلهما شيء من الثمن؛ لأن الأصل أن الثمن يقابل الأصل لا الوصف.
وأما مصير الأنقاض من أحجار وأخشاب: فإن لم يبق منها شيء، فلا إشكال. وإ ن
بقي منها شيء، وأخذه المشتري لانفصاله من الأرض وعدم تبعيته لها، سقطت حصته
من الثمن، بقيمته يوم الأخذ. وأما الدار فتقوم يوم العقد، ويوزع الثمن بين
الدار والأنقاض بحسب قيمتها على النحو المذكور.
وإن لم يأخذ المشتري الأنقاض، كأن هلكت بعد انفصالها، لم يسقط شيء من
الثمن، لعدم حبس الأنقاض من قبله، ولأنها من التوابع، والتوابع لا يقابلها
شيء من الثمن، وبالأخذ بالشفعة تحولت الصفقة إلى الشفيع.
جـ ـ وأما إن كان النقص في الأرض نفسها، لا فيما عليها من شجر أو بناء، كأن
أغرقها السيل، فأزال بعضها، كان للشفيع الخيار بين ترك الشفعة، وبين أخذ
الباقي بحصته من الثمن؛ لأن حقه ثابت في الكل، وقد تمكن من أخذ البعض،
فيأخذه بحصته من الثمن، لهلاك بعض الأصل.
ومذهب المالكية إجمالاً كالحنفية، فإنهم قالوا (1): لا يضمن المشتري نقص
الشقص (الجزء المشفوع فيه) إذا طرأ عليه بسب سماوي، أو بسبب من المشتري
لمصلحة، كأن هدم ليبني أو لأجل توسعة.
فإن كان النقص بسبب من المشتري، كأن هدم لا لمصلحة، ضمن.
فإن هدم وبنى، فللمشتري قيمته يوم البناء على الشفيع قائماً، لعدم تعديه.
_________
(1) الشرح الصغير: 654/ 3، الشرح الكبير: 494/ 3.
(6/4936)
وتحسب للشفيع من الثمن قيمة الأنقاض يوم
الشراء، فيحط عنه من الثمن، ويغرم ما بقي مع قيمة البناء قائماً.
وقال الشافعية والحنابلة (1): إن تلف الشقص (الجزء المشفوع فيه) أو بعضه،
في يد المشتري، فهو من ضمانه، لأنه ملكه، تلف في يده.
ثم إن أراد الشفيع الأخذ بعد تلف بعض المشفوع فيه، أخذ الموجود بحصته من
الثمن، سواء أكان التلف بفعل الله تعالى، أم بفعل آدمي، وسواء تلف باختيار
المشتري كنقضه البناء، أو بغير اختياره كانهدام البناء نفسه.
والأنقاض إن كانت موجودة أخذها الشفيع مع الأرض بحصتها من الثمن، وإن كانت
معدومة أخذ الأرض وما بقي من البناء.
المبحث الثامن ـ مسقطات الشفعة:
تعرف الأسباب التي تؤدي إلى إسقاط حق الشفعة، عند الكلام على شروط الأخذ
بالشفعة، لذا أوجز الكلام في بيان ما تسقط به الشفعة فيما يأتي، مع ملاحظة
أن بعض الحالات متفق عليها، وبعضها مختلف فيها:
1 - بيع الشفيع ما يشفع به من عقار قبل أن يقضى
له بالشفعة: إذا باع الشفيع ما يشفع به قبل العلم بالشفعة، أو بعد
العلم بالشفعة، وقبل الحكم بها، سقطت شفعته، باتفاق الفقهاء ما عدا ابن حزم
الظاهري، لزوال السبب الذي يستحق به الشفعة، وهو الملك الذي يخاف الضرر
بسببه. فبطلان هذه الشفعة أمر منطقي بدهي، لانتفاء الضرر عن الشفيع الذي
شرعت الشفعة من أجل دفعه عن الشريك باتفاق الفقهاء. أو عن الجار عند
الحنفية (2).
_________
(1) المغني: 320/ 5.
(2) الهداية مع تكملة الفتح: 446/ 7، تبيين الحقائق: 258/ 5، الدر المختار:
170/ 5، الكتاب مع اللباب: 113/ 2، المهذب: 381/ 1، كشاف القناع: 169/ 4،
المحلى: 116/ 9، م 1601، الشرح الصغير: 642/ 3.
(6/4937)
2 - تسليم الشفعة أو
الرغبة عنها بعد البيع: سواء أكان عالماً بحقه
فيها، أم غير عالم، صراحة، أم دلالة وضمناً؛ لأن الشفعة حق ضعيف يسقط بأوهى
الأسباب، وذلك في المذاهب الأربعة (1).
أما تسليم الشفعة صراحة: فمثل أن يقول الشفيع: لا أرغب فيها، أو لا أريدها،
أو أسقطتها أو أبطلتها، أو أبرأتك عنها أو عفوت عنها أو سلمتها، ونحوها على
أن يكون تسليمها بعد البيع وقبل الحكم بها؛ لأنه لا حق له قبل البيع
فيسقطه، ولأنه بعد الحكم لا يملك إسقاطها إلا بعقد ناقل للملكية.
وأما تسليم الشفعة دلالة: فهو أن يوجد من الشفيع ما يدل على رضاه بالعقد
وحكمه للمشتري، وهو ثبوت الملك له، مثل ترك طلب المواثبة أو طلب التقرير
بعد العلم بالبيع مع القدرة عليه بأن يترك الطلب على الفور من غير عذر، أو
قام عن المجلس الذي علم فيه بالبيع، أو تشاغل عن الطلب بعمل آخر؛ لأن ترك
الطلب مع القدرة عليه دليل الرضا بالعقد وحكمه للمشتري الدخيل.
ومثل: أن يساوم الشفيع المشتري على شراء ما اشتراه أو إيجاره له، لأن
مساومته دليل على إعراضه عن الأخذ بالشفعة.
ومثل أن يكون الشفيع وكيلاً عن البائع فيما باعه؛ لأنه يسعى في نقض ما تم
من جهته. أما إذا كان الشفيع وكيل المشتري فيما ابتاع أي اشترى لموكله، فله
الشفعة، لأنه لا ينتقض شراؤه بالأخذ بها (أي الشفعة)؛ لأنها مثل الشراء.
وهذا التفصيل عند الحنفية، وبعض الحنابلة وبعض الشافعية.
_________
(1) المبسوط: 154/ 14 وما بعدها، البدائع: 19/ 5 - 20، تبيين الحقائق: 257/
5، الهداية مع التكملة: 442/ 7 - 445، الدر المختار: 168/ 5 وما بعدها،
الكتاب مع اللباب: 112/ 2 - 113، الشرح الصغير: 642/ 3، 645، المهذب: 380/
1، مغني المحتاج: 306/ 2، المغني: 349/ 5 وما بعدها، بداية المجتهد: 259/
2، القوانين الفقهية: ص286.
(6/4938)
وقال الشافعية والحنابلة في الأرجح (1):
إذا وكل الشفيع في البيع، لم تسقط شفعته بالتوكيل، سواء أكان وكيل البائع
أم وكيل المشتري، لأنه وكيل فلا تسقط شفعته كالآخر. أما التهمة فلا تؤثر؛
لأن الموكل وكله مع علمه بثبوت شفعته راضياً بتصرفه مع ذلك، فلا يؤثر، كما
لو أذن لوكيل في الشراء من نفسه.
وهناك أمران في تسليم الشفعة: وهما
تسليم الولي شفعة الصبي، والصلح عن الشفعة.
أـ تسليم الشفعة من الولي: أوضحت هذا
الموضوع في بحث طلب الشفعة، وأشير إليه هنا بإيجاز يتصل بأمر سقوط الشفعة.
قال الشيخان (أبو حنيفة وأبو يوسف) (2): تسليم الأب والوصي الشفعة على
الصغير جائز، فيسقط حقه فيها حينئذٍ؛ لأن الأخذ بالشفعة في معنى التجارة،
بل عين التجارة؛ لأنه مبادلة المال بالمال، وترك الأخذ بها ترك التجارة،
فيملكه الولي، كما يملك ترك التجارة برد بيع شيء للصبي، عندما يقال للأب
مثلاِ: بعتك هذا المال لابنك الصغير؛ ولأنه أي الأخذ بالشفعة تصرف دائر بين
النفع والضرر، وقد تكون المصلحة في ترك الشراء للصبي، رعاية لمصلحته، ليبقى
الثمن على ملكه، والولاية: نظر بحسب المصلحة.
وفصل المالكية في الأمر (3): فقالوا: إن كان ترك الشفعة لمصلحة القاصر، صح
إسقاطها من الأب أو الوصي، وإلا فلا يصح، وللقاصر حينئذ طلبها متى بلغ.
_________
(1) المغني: 351/ 5.
(2) تبيين الحقائق: 263/ 5، تكملة الفتح: 451/ 7، م (1035) مجلة.
(3) الشرح الكبير: 486/ 3، الشرح الصغير: 645/ 3.
(6/4939)
وقال زفر ومحمد والحنابلة (1): ليس للولي
إسقاط شفعة الصغير، سواء لمصلحة أو لغير مصلحة، ويظل الصغير على شفعته متى
بلغ؛ لأن هذا حق ثابت للصغير، فلا يملك الولي إبطاله، كالتنازل عن ديته،
وقَوَده (حقه في القصاص) ولأنه شرع لدفع الضرر، فكان إبطاله إضراراً به.
ويجري هذا الخلاف عند الحنفية في تسليم الوكيل طلب الشفعة عن موكله. عند
أبي حنيفة: يصح منه تسليمها في مجلس القاضي؛ لأن الوكيل قائم مقام الموكل
في الخصومة ومحلها مجلس القاضي.
وعند أبي يوسف: يصح للوكيل تسليم الشفعة في مجلس القاضي وفي غيره، لكونه
نائباً عن الموكل مطلقاً.
وعند محمد وزفر: لا يصح من الوكيل تسليم الشفعة أصلاً.
ب ـ الصلح عن الشفعة: قال الحنفية (2):
إن صالح الشفيع عن حقه في الشفعة بأخذ عوض عنه، سقطت شفعته لتضمن فعله
الإعراض عن الشفعة، وعليه رد العوض الذي أخذه، لبطلان الصلح وبيع الحق؛ لأن
الشفعة مجرد حق في التملك، وقد شرعت لدفع الضرر عن الشفيع، فلا تصح
المعاوضة عن هذا الحق، ويكون الاعتياض عنه رشوة.
والخلاصة: أن الصلح وإن لم يصح، فإسقاط حق الشفعة صحيح؛ لأن صحته لا تتوقف
على العوض، بل هو شيء من الحقوق المالية لا تصح المعاوضة عنه، فصار الشفيع
كأنه سلَّم الشفعة بلا عوض.
_________
(1) المغني: 313/ 5، كشاف القناع: 161/ 4 وما بعدها.
(2) البدائع: 20/ 5، تكملة الفتح: 443/ 7، تبيين الحقائق: 257/ 5، الكتاب
مع اللباب: 113/ 2، الدر المختار: 169/ 5.
(6/4940)
3 - ضمان الدَّرَك: تسقط الشفعة عند
الحنفية (1) إذا ضمن الشفيع الدرك عن المشتري للبائع أي ضمن له الثمن عند
المشتري؛ لأن هذا دليل على الرضا بالبيع الحادث للمشتري.
كما أن البائع إذا شرط الخيار للشفيع في إمضاء البيع أو عدم إمضائه، فأمضى
المشروط له الخيار (وهو الشفيع) البيع؛ لأن البيع تم بإمضائه، وهذا في
تقديري هو الأحق بالاتباع.
وقال الشافعية والحنابلة (2): لا تسقط الشفعة إن ضمن الشفيع العهدة
(المطالبة بالثمن عند استحقاق المبيع أو عيبه) للمشتري، أو شرط له الخيار،
فاختار إمضاء العقد، لم تسقط شفعته؛ لأن المسقط لها هو الرضا بتركها بعد
وجوبها بالبيع، وهذا لم يوجد، فإنه سبب سَبَق وجوب الشفعة، فلم تسقط به
الشفعة، كالإذن بالبيع، والعفو عن الشفعة قبل تمام البيع.
4 - تجزئة المشفوع فيه: اتفق الفقهاء
(3) على أن الشفعة حق لا يقبل التجزئة، فإذا تنازل (سلم) الشفيع عن بعض
المشفوع فيه كالنصف مثلاً، سقط حقه في كل المبيع؛ لأنه لما سلَّم في النصف
بطل حقه فيه بصريح الإسقاط، وبطل حقه في الباقي؛ لأنه لا يملك حق تفريق
الصفقة على المشتري، فسقطت شفعته في الكل، منعاً من إضرار المشتري في تفريق
الصفقة عليه، والضرر لا يزال بالضرر، لكن كما لو قال أبو يوسف، ورأيه هو
الراجح عند الحنفية: لا تسقط الشفعة في حال طلب نصف المشفوع فيه ويظل الحق
للشفيع في أخذ الكل أو ترك الكل.
_________
(1) تبيين الحقائق: 258/ 5، الهداية مع التكملة: 447/ 7، اللباب: 113/ 2.
(2) المغني: 351/ 5، كشاف القناع: 182/ 4.
(3) البدائع: 21/ 5، بداية المجتهد: 258/ 2، مغني المحتاج: 306/ 2، المهذب:
381/ 1، كشاف القناع: 164/ 4، المحلى: 118/ 9، م 1604.
(6/4941)
وإذا تعدد الشفعاء، فليس لبعضهم أن يهب
حصته لبعض، وإن فعل أحدهم أسقط حق شفعته م (1042) مجلة (1).
وإن أسقط أحد الشفعاء حقه قبل حكم الحاكم، فللشفيع الآخر أن يأخذ تمام
العقار المشفوع. وإن أسقطه بعد حكم الحاكم، فليس للآخر أن يأخذ حقه م
(1043) مجلة.
5 - وفاة الشفيع: تسقط الشفعة عند
الحنفية (2) بوفاة الشفيع، سواء بعد الطلب (أي طلبي المواثبة والتقرير) أو
قبله، قبل الأخذ بالقضاء له أو تسليم المشتري إليه؛ لأن حق الشفعة لا يورث
كخيار الشرط، إذ الحقوق لا تورث عندهم، ولأنه بالموت يزول ملك الشفيع عن
داره ويثبت الملك للوارث بعد البيع، والمطلوب تحقق الملك وقت البيع.
ولا تبطل الشفعة بموت المشتري لبقاء المستحق، أي أن المستحق باق، ولم يتغير
سبب حقه.
وفصل الظاهرية والحنابلة في الأمر (3)، فقالوا: إن مات الشفيع قبل أن يطلب
الشفعة، سقطت شفعته (4)، ولا حق لورثته في الأخذ بالشفعة أصلاً؛ لأن الله
تعالى إنما جعل الحق له، لا لغيره، والخيار لا يورث.
وتورث الشفعة إن أشهد الشفيع على مطالبته، ثم مات، وللورثة المطالبة بها؛
لأن الإشهاد على الطلب عند العجز عنه يقوم مقامه.
_________
(1) المهذب: المكان السابق، البدائع: 5/ 5 وما بعدها، الدر المختار: 173/
5.
(2) الدر المختار: 170/ 5، تكملة الفتح: 446/ 7، تبيين الحقائق: 257/ 5،
اللباب: 113/ 2، البدائع: 22/ 5، م (1038) مجلة.
(3) المحلى: 117/ 9، م 1603، المغني: 346/ 5، كشاف القناع: 176/ 4.
(4) قال الإمام أحمد: الموت يبطل به ثلاثة أشياء: الشفعة، والحد إذا مات
المقذوف، والخيار إذا مات الذي اشترط الخيار.
(6/4942)
وهذا التفصيل يؤدي إلى الاتفاق مع مذهب
الحنفية في عدم إرث الشفعة قبل الطلب.
وقال المالكية والشافعية (1): يورث حق الشفعة، إذا مات الشفيع بعد الطلب
قبل الأخذ، فالشفعة موروثة عندهم؛ لأنه خيار ثابت لدفع الضرر عن المال،
فيورث كخيار العيب.
والظاهر مما نقل عن هذين المدهبين في كتب غيرهم أن حق الشفعة يورث، ولو قبل
طلبها من الشفيع أيضاً، لإطلاق عباراتهم. لكن الحق أنه لا بد عند الشافعية
من الطلب وإلا سقط حق الشفيع نفسه فيكون مذهبهم كالحنابلة (2).
والخلاصة: أن الشفعة لا تورث عند الحنفية بعد الطلب، وتورث بعد الطلب في
المذاهب الثلاثة وعند الظاهرية.
والخلاف محصور فيما إذا مات الشفيع قبل القضاء بالشفعة له، فإذا مات بعد
القضاء قبل نقد الثمن وقبض المبيع، فالبيع لازم لورثته بالاتفاق.
ومن الكلام في مسقطات الشفعة يتبين لنا الحقائق
التالية (3):
1 - الشفعة حق ضعيف، يجب أن يتقوى
ويتأكد بالطلب.
2 - الشفعة شرعت لدفع الضرر عن صاحبها
وهو الشريك باتفاق الفقهاء، والجار عند الحنفية.
3 - لا يصح أن تكون الشفعة سبباً لضرر المشتري بتفريق الصفقة عليه، إذا طلب
الشفيع أخذ بعض المبيع فقط.
_________
(1) بداية المجتهد: 260/ 2، القوانين الفقهية: ص 287، المهذب: 383/ 1،
نهاية المحتاج: 158/ 4.
(2) أما المالكية فقد أثبتوا للشفيع حق الأخذ بالشفعة مدة سنة، فإذا مات
قبل الطلب فيورث عنه هذا الحق، ما لم يكن الحاكم قد أسقط شفعته إذا لم يحدد
رغبته إما بالأخذ أو بالترك، بناء على طلب المشتري.
(3) الأموال ونظرية العقد للمرحوم موسى: ص 238.
(6/4943)
انتهى الجزء السادس ويتبعه
الجزء السابع: الفقه العام - معالم النظام الاقتصادي - الحدود والجنايات
(6/4944)
|