الفقه
الإسلامي وأدلته للزحيلي الخَاتمِةُ
على الرغم مما كتبت وحققت ودققت النظر، أقف مبهوراً مشدوهاً أمام عظمة
الفقه الإسلامي وخصوبته وشموله، وعمق فكر رجاله وسعة أفقهم وإحاطتهم،
وتتبعهم المسائل وحرصهم الشديد على استقصاء الفروع والجزئيات، ولكن على
منهجهم السائد وهو أن الفقه فروعي لا يعتمد في التفريع على بيان نظرية
معينة أولاً، ثم يبحث كل ما يتعلق بها.
وأصرح بأني لم أُحص جميع ما أبانه فقهاء المذاهب من تفريعات وجزئيات، فلم
يكن همي جمع الفروع الفقهية من فقه المذاهب، وإنما وضع التصور لبناء هيكل
البحث وأصول الموضوع الفقهي بما يمهد لوضع نظرية عامة، بالإضافة لإيراد
نظريات كثيرة في الكتاب.
ثم وجهت جهدي فيما عدا وضع الهيكل الأساسي لكل بحث، إلى التحقيق، والتنظيم،
والموازنة، والتأصيل، أي تحقيق المذهب ومعرفة الرأي الراجح أو المعتمد فيه،
وتنظيم البحث والعرض والبيان تنظيماً يلم بشتات كل موضوع ومعرفة جوانبه
المتعددة، والموازنة بين الآراء المذهبية لمعرفة أوجه التقابل واللقاء
بينها أو أوجه الافتراق والاختلاف فيها، إما مع الترجيح لرأي أو بدون
ترجيح، إبقاء على الثروة الفقهية الموجودة، ليتسنى للناس جميعاً إمكان
الاستفادة منها مع اختلاف الزمان والمكان.
وأما التأصيل فهو رد كل حكم مذهبي إلى مراجعه المعتمدة بقدر المستطاع.
وقد تأكد لدي من الحرص على بيان دليل كل مذهب أن الاختلافات الفقهية ضرورة،
ويعذر فيها الفقهاء بسبب الخلاف في فهم النص، أو ثبوت الحديث
(10/7967)
النبوي، أو وصول الخبر إلى الفقيه من طريق
موثوق مقبول، أو عدم وصوله، أو مراعاة المصالح والأعراف ونحوها من المسوغات
والاعتبارات.
أما عن الأسلوب: فقد حرصت على أن يكون مبسطاً سهلاً واضحاً، فلا أعدل عن
عبارات الفقهاء لدقتها وإيجازها إن كانت واضحة لا غموض ولا إشكال فيها، وإن
وجد شيء من التعقيد فيها، ذللت المراد بعبارة أخرى لا لبس فيها ولا صعوبة
في فهمها.
وقد حاولت إبراز وحدة الآراء بين المذاهب كلما أمكن عن طريق إيراد الشروط
المتفق عليها، ثم التنبيه على ما اختص به مذهب ما بإضافة شرط، أو الانفراد
بقيد، أو المخالفة في مفهوم شرط ما.
ويستطيع المسلم أن يطمئن إلى ما أوردته من آراء المذاهب، وأن يقلد ما شاء
منها، بشرط ألا يؤدي فعله إلى التخلص من ربقة التكليف الشرعي، أو الوقوع في
محظور أو معصية، أو التلاعب في التقليد، أو تتبع الرخص عبثاً لا لحاجة أو
ضرورة أو عذر.
ولم أتدخل غالباً في الترجيح بين المذاهب ليتمكن القارئ من الأخذ بما يطمئن
إلى صحته دون تعصب لمذهب معين، وقد أرجح أحياناً، ويمكن جعل رأي الجمهور هو
الراجح غالباً، مالم تظهر مصلحة معاصرة تقتضي الأخذ بالرأي المقابل.
ولم أعتن أصلاً بالآراء الشاذة التي أهملها أئمة الاجتهاد الأعلام، وأحياها
بعض الكاتبين الجدد، بزعم أنها فقه السنة النبوية، مما يوقع العوام في لبس،
دون التفات إلى مستند الرأي الشائع الأرجح لدى الجماهير ونسخ مثل هذا الرأي
الشاذ.
ولم أعتمد في نقل حكم مذهبي عن كتاب لمذهب آخر إلا ما ندر، حيث لم
(10/7968)
أعثر عليه بسهولة في كتاب المذهب المخصص
له.
وربما عثر امرؤ على ترجيح رأي مذهبي في حاشية من الحواشي أو كتاب غير ما
اطلعت عليه، إذ قد لا يتيسر لي الاطلاع على كل حواشي الكتب، ولكني اعتمدت
في الواقع على أكثر من مصدر من الأمهات المعتمدة ورجعت إليه.
فإن وفيت بالغاية المنشودة للقارئ أو الباحث، فهو المراد، وإن قصرت أو لم
أصب الحقيقة أو المطلب، فهو خطأ غير مقصود، يثاب القارئ عليه إن نبهني إلى
موضع الخطأ، قال الإمام مالك رحمه الله تعالى: «كل إنسان يؤخذ من كلامه
ويترك إلا صاحب هذه السارية صلّى الله عليه وسلم». وقال العماد الأصفهاني
الكاتب المشهور: «إني رأيت أنه لا يكتب إنسان كتاباً في يوم إلا قال في غده
أو بعد غده: لو غير هذا لكان أحسن، ولو زيد كذا، لكان يستحسن، ولو قدم هذا
لكان أفضل، ولو ترك هذا لكان أجمل، وهذا من أعظم العِبَر، وهو دليل على
استيلاء النقص على جملة البشر».
هذا .. ويلاحظ أمران بعد صدور الكتاب وتوزيعه في العالم الإسلامي وترجمته
للغات أخرى، وطبعه اثنتي عشر طبعة في تسع سنوات، لكونه الأكثر رواجاً في
معارض الكتب الدولية وغيرها مثل قرينه (التفسير المنير):
1 - ظن بعض الناس من خلال تقديمي الكلام عن المذهب الحنفي على غيره من
المذاهب أني حنفي، ولكني شافعي، وإنما قدمت المذهب الحنفي، وبعده المالكي،
ثم الشافعي، ثم الحنبلي، مراعاة لترتيب سبقها الزمني وتقدم أئمتها، ولأن
مذهب الحنفية الذي جعلته قاعدة البحث هو أخصب المذاهب وأكثرها تفريعاً، وإن
كان المذهب الشافعي أكثرها انتشاراً في العالم، كما يدل عليه واقع
أندونيسيا وماليزيا
(10/7969)
وجنوب شرقي آسيا الذي يضم مئات الملايين،
والأكراد، ومصر وبلاد الشام وعُمان وغيرها، مثل مقاطعة كيرالا - كاليكوت
جنوب الهند.
2 - إن الترجيح أو الاختيار بالمعنى الأدق الذي فعلته أحياناً لم يكن
ناشئاً عن هوى أو تعصب لمذهب، ولا فوقية على المذاهب، وإنما بسبب ضعف دليل
أو حديث الرأي الآخر الذي اعتمد عليه الفقيه، أو لكون الراجح في تقديري
محققاً لمصلحة معاصرة، وهو لايخرج عن كونه رأياً لمذهب، فلا وجه بعدئذ
للاستغراب أو النقد، أو مجافاة الحقيقية العلمية، علماً بأني أدرِّس الفقه
في الجامعات مدة تزيد عن أكثر من خمسة وثلاثين عاماً.
وعلى كلٍ فإني أعتز بهذا العمل الذي يسَّر الفقه للمتعلم والمتفقه والباحث،
والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات.
........................................................ الدّكتور وهبة
الزُّحيلي
.............................................. أستاذ ورئيس قسم الفقه
الإسلاميّ وأصوله
..................................................... بجامعة دمشق -
كلّيّة الشَّريعة
(10/7970)
|