الفقه الميسر في ضوء الكتاب والسنة

ثانياً: كتاب الصلاة
ويشتمل على خمسة عشر باباً

الباب الأول: في تعريف الصلاة، وفضلها، ووجوب الصلوات الخمس:
1 - تعريفها: الصلاة لغة: الدعاء.
وشرعاً: عبادة ذات أقوال وأفعال مخصوصة، مفتتحة بالتكبير، مختتمة بالتسليم.
ويأتي تفصيلها في الأبواب التالية إن شاء الله.
2 - فضلها: الصلاة من آكد أركان الإسلام بعد الشهادتين، بل هي عمود الإسلام، وقد فرضها الله على نبيه محمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ليلة المعراج فوق سبع سموات. وذلك دليل على أهميتها في حياة المسلم، وقد كان - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا حَزَبَه (1) أمرٌ فزع إلى الصلاة. وقد جاء في فضلها والحث عليها أحاديث كثيرة منها:
قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (الصلوات الخمس والجمعة إلى الجمعة ورمضان إلى رمضان، مكفرات لما بينهن ما اجتنبت الكبائر) (2).
وقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (أرأيتم لو أن نهراً بباب أحدكم يغتسل منه كل يوم خمس مرات، هل يبقى من دَرَنه شيء؟) قالوا: لا يبقى من دَرَنه شيء.
قال: (فذلك مَثَلُ الصلوات الخمَسَ، يمحو الله بهن الخطايا) (3). والدَّرَنُ: الوسخ.
3 - وجوبها: وفرضيتها معلومة بالكتاب، والسنة، والإجماع المعلوم من الدين بالضرورة، قال تعالى: (وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ) [البقرة: 43] في آيات كثيرة من كتاب الله، وقال تعالى: (قُلْ لِعِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا يُقِيمُوا الصَّلَاةَ) [إبراهيم: 31].
__________
(1) أي: أصابه.
(2) رواه مسلم برقم (233) (16).
(3) رواه البخاري برقم (528)، ومسلم برقم (667).

(1/43)


ومن السنة: حديث المعراج وفيه: (هي خمس وهي خمسون) (1). وفي "الصحيحين" قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لمن ساكه عن شراخ الإسلام: (خمس صلوات في اليوم والليلة) قال السائل: هل عليَّ غيرهن؟ قال: (لا، إلا أن تَطَّوَّع) (2).
وتجب الصلاة على المسلم البالغ العاقل، فلا تجب على الكافر، ولا الصغير، ولا المجنون، لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (رفع القلم عن ثلاثة: عن النائم حتى يستيقظ، وعن المجنون حتى يفيق، وعن الصغير حتى يبلغ). ولكن يؤمر بها الأولاد لتمام سبع سنين، ويضربون على تركها لعشر. فمن جحدها أو تركها فقد كفر، وارتدَّ عن دين الإسلام لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة، فمن تركها فقد كفر) (3).
__________
(1) رواه البخاري برقم (349). والمعنى: هي خمس في العدد باعتبار الفعل، وهي خمسون في الأجر والثواب.
(2) رواه البخاري برقم (46)، ومسلم برقم (11).
(3) رواه مسلم برقم (134).

(1/44)


الباب الثاني: الأذان، والإقامة، وفيه مسائل:
المسألة الأولى: تعريف الأذان والإقامة، وحكمهما:
أ- تعريف الأذان والإقامة:
الأذان لغة: الإعلام. قال تعالى: (وَأَذَانٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ) [التوبة: 3]. أي إعلام.
وشرعاً: الإعلام بدخول وقت الصلاة بذكر مخصوص.
والإقامة لغة هي: مصدر أقام، وحقيقته إقامة القاعد.
وشرعاً: الإعلام بالقيام إلى الصلاة بذكر مخصوص ورد به الشارع.
ب- حكمهما: ألاذان والإقامة مشروعان في حق الرجال للصلوات الخمس دون غيرها، وهما من فروض الكفايات إذا قام بهما من يكفي سقط الإثم عن الباقين؛ لأنهما من شعائر الإسلام الظاهرة، فلا يجوز تعطيلهما.

المسألة الثانية: شروط صحتهما:
1 - الإسلام: فلا يصحان من الكافر.
2 - العقل: فلا يصحان من المجنون والسكران وغير المميز، كسائر العبادات.
3 - الذكورية: فلا يصحان من المرأة للفتنة بصوتها، ولا من الخنثى لعدم العلم بكونه ذكراً.
4 - أن يكون الأذان في وقت الصلاة: فلا يصح قبل دخول وقتها، غير الأذان الأول للفجر والجمعة، فيجوز قبل الوقت، وأن تكون الإقامة عند إرادة القيام للصلاة.
5 - أن يكون الأذان مرتباً متوالياً: كما وردت بذلك السنة، وكذا الإقامة، وسيأتي بيانه في الكلام على صفة الأذان والإقامة.
6 - أن يكون الأذان، وكذا الإقامة، باللغة العربية وبالألفاظ التي وردت بها السنة.

(1/45)


المسألة الثالثة: في الصفات المستحبة في المؤذن:
1 - أن يكون عدلاً أميناً؛ لأنه مؤتمن يُرجع إليه في الصلاة والصيام، فلا يؤمن أن يغرهم بأذانه إذا لم يكن كذلك.
2 - أن يكون بالغاً عاقلا، ويصح أذان الصبيّ المميز.
3 - أن يكون عالماً بالأوقات ليتحراها فيؤذن في أولها، لأنه إن لم يكن عالماً ربما غلط أو أخطأ.
4 - أن يكون صَيِّتاً (1) ليُسْمِعَ الناس.
5 - أن يكون متطهراً من الحدث الأصغر والأكبر.
6 - أن يؤذن قائماً مستقبل القبلة.
7 - أن يجعل أصبعيه في أذنيه، وأن يدير وجهه على يمينه إذا قال: حَيَّ على الصلاة، وعلى يساره إذا قال: حَيَّ على الفلاح.
8 - أن يترسل في الأذان -أي يتمهل- ويحدر الإقامة -أي يسرع فيها-.

المسألة الرابعة: في صفة الأذان والإقامة:
كيفية الأذان والإقامة: ولهما كيفيات وردت بها النصوص النبوية، ومنها ما جاء في حديث أبي محذورة، أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - علمه الأذان بنفسه، فقال: (تقول: الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن محمداً رسول الله، أشهد أن محمداً رسول الله، حَيَّ على الصلاة، حَيَّ على الصلاة، حَيَّ على الفلاح، حَيَّ على الفلاح، الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله) (2).
وأما صفة الإقامة فهي: (الله أكبر الله أكبر، أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن محمداً رسول الله، حَيَّ على الصلاة، حَيَّ على الفلاح، قد قامت الصلاة قد قامت الصلاة، الله أكبر الله أكبر، لا إله إلا الله)؛ لحديث أنس - رضي الله عنه -
__________
(1) أي: قويَّ الصوت.
(2) أخرجه أبو داود برقم (503)، وابن ماجه برقم (708)، وصححه الألباني (صحيح سنن ابن ماجه برقم 581).

(1/46)


قال: (أمر بلالٌ أن يشفع الأذان، وأن يوتر الإقامة إلا الإقامة) (1). فتكون كلمات الأذان مرتين مرتين، وكلمات الإقامة مرة مرة، إلا في قوله: (قد قامت الصلاة) فتكون مرتين؛ للحديث الماضي.
فهذه صفة الأذان والإقامة المستحبة؛ لأن بلالاً كان يؤذن به حضراً وسفراً مع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلى أن مات. وإن رَجع (2) في الأذان، أو ثنَّى الإقامة، فلا بأس؛ لأنه من الاختلاف المباح. ويستحب أن يقول في أذان الصبح بعد حَيَّ على الفلاح: الصلاة خير من النوم (3) مرتين؛ لما روى أبو محذورة أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال له: (إن كان في أذان الصبح قلت: الصلاة خير من النوم) (4).

المسألة الخامسة: ما يقوله سامع الأذان، وما يدعو به بعده:
يستحب لمن سمع الأذان أن يقول مثل ما يقول المؤذن؛ لحديث أبي سعيد أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: (إذا سمعتم النداء فقولوا مثل ما يقول المؤذن) (5). إلا في الحَيْعَلَتَيْن، فيشرع لسامع الأذان أن يقول: "لا حول ولا قوة إلا بالله" عقب قول المؤذن: حَيَّ على الصلاة، وكذا عقب قوله: حَيَّ على الفلاح؛ لحديث عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - في ذلك (6).
وإذا قال المؤذن في صلاة الصبح: الصلاة خير من النوم، فإن المستمع يقول مثله، ولا يُسَنُّ ذلك عند الإقامة.
ثم يصلي على النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ثم يقول: "اللهم رَبَّ هذه الدعوة التامَّةِ والصلاة القائمةِ، آتِ محمداً الوسيلةَ والفضيلةَ، وابعثْهُ مقاماً محموداً الذي وعدته" (7).
__________
(1) أخرجه البخاري برقم (605)، ومسلم برقم (378) واللفظ للبخاري.
(2) الترجيع: الترديد، بمعنى أنه يخفض صوته في الشهادتين، ثم يعيدهما برفع الصوت، كما أخرجه أبو داود برقم (503).
(3) وهو التثويب، من ثاب يثوبُ: إذا رجع، فالمؤذن حين يقول هذه الجملة في صلاة الصبح، فهو رجوع منه إلى كلام فيه الحث على المبادرة إلى الصلاة.
(4) أخرجه النسائي (2/ 7، 8)، وصححه الألباني (صحيح سنن النسائي برقم 628).
(5) رواه البخاري برقم (621)، ومسلم برقم (1093).
(6) أخرجه مسلم برقم (385).
(7) أخرجه البخاري برقم (614)، وفيه: أن من قال ذلك حلت له شفاعة النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يوم القيامة.

(1/47)


الباب الثالث: في مواقيت الصلاة
الصلوات المفروضات خمس في اليوم والليلة، لكل صلاة منها وقت محدد حدده الشرع. قال تعالى: (إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا) [النساء: 103]. يعني: مفروضاً في أوقات محددة فلا تجزئ الصلاة قبل دخول وقتها.
وهذه المواقيت الأصل فيها حديث ابن عمر [و] رضي الله عنهما: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: (وقت الظهر إذا زالت الشمس وكان ظل الرجل كطوله ما لم يحضر العصر، ووقت العصر ما لم تصفر الشمس، ووقت صلاة المغرب ما لم يَغِبِ الشفق، ووقت صلاة العشاء إلى نصف الليل الأوسط، ووقت صلاة الصبح من طلوع الفجر ما لم تطلع الشمس) (1).
فصلاة الظهر يبدأ وقتها بزوال الشمس، أي: ميلها عن كبد السماء إلى جهة المغرب، ويمتد وقتها إلى أن يصير ظل كل شيء مثله في الطول، ويستحب تعجيلها في أول وقتها، إلا إذا اشتد الحر، فيستحب تأخيرها إلى الإبراد (2)؛ لقولى - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (إذا اشتد الحر فأبردوا بالصلاة فإن شدة الحر من فيح جهنم) (3).
وصلاة العصر يبدأ وقتها من نهاية وقت الظهر -أي من صيرورة ظل كل شيء مثله- وينتهي بغروب الشمس، أي عند آخر الاصفرار، ويسن تعجيلها في أول الوقت، وهي الصلاة الوسطى التي نصَّ الله عليها في قوله تعالى: (حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ) [البقرة: 238].
وقد أمر النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بالمحافظة عليها، فقال: (من فاتته صلاة العصر فكأنما وُترَ أهله وماله) (4). وقال أيضاً: (من ترك صلاة العصر فقد حبط عمله) (5).
__________
(1) رواه مسلم برقم (612)
(2) يعني: قرب صلاة العصر.
(3) رواه مسلم برقم (615)، والبخاري برقم (533 - 534).
(4) متفق عليه: البخاري برقم (552)، ومسلم برقم (626) (201) واللفظ لمسلم. ومعنى (وتر أهله وماله): انتزع منه أهله وماله، أو: فقد أهله وماله.
(5) رواه البخاري برقم (553).

(1/48)


ووقت صلاة المغرب من غروب الشمس إلى مغيب الشَّفَقِ (1) الأحمر؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (وقت صلاة المغرب ما لم يغب الشفق) (2). ويسن تعجيلها في أول وقتها؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (لا تزال أمتي بخير، ما لم يؤخروا المغرب حتى تشتبك النجوم) (3)، إلا ليلة المزدلفة للمحرم بالحج، فيسنُّ تأخيرها حتى تصلى مع العشاء جمع تأخير.
أما صلاة العشاء فيبدأ وقتها من مغيب الشفق الأحمر إلى نصف الليل، لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (وقت صلاة العشاء إلى نصف الليل الأوسط) (4). ويستحب تأخيرها إلى آخر الوقت المختار ما لم تكن مشقة، ويكره النوم قبلها، والحديث بعدها لغير مصلحة؛ لحديث أبي برزة - رضي الله عنه - (أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يكره النوم قبل العشاء، والحديث بعدها) (5).
ووقت صلاة الفجر من طلوع الفجر الثاني إلى طلوع الشمس، ويستحب تعجيلها إذا تحقق طلوع الفجر.
هذه هي الأوقات التي يشرع أداء الصلوات الخمس فيها، فيجب على المسلمين التقيد بذلك، والمحافظة عليها في وقتها، وترك تأخيرها؛ لأن الله توعد الذين يؤخرونها عن وقتها فقال تعالى: (فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ (4) الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ) [الماعون: 4 - 5]. وقال تعالى: (فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا) [مريم: 59]. والغيُّ: هو العذاب الشديد المضاعف والشر والخيبة في جهنم عياذاً بالله.
وأداء الصلوات في أوقاتها من أحب الأعمال إلى الله، وأفضلها، فقد سئل النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أيُّ العمل أحب إلى الله؟ قال: (الصلاة على وقتها) (6).
__________
(1) الشفق: الحمرة التي تكون من غروب الشمس إلى وقت العشاء الآخرة، وترى هذه الحمرة بعد سقوط الشمس.
(2) رواه مسلم برقم (173) (1/ 427)، وهو جزء من حديث المواقيت الطويل.
(3) رواه أحمد (4/ 174)، وأبو داود برقم (418)، والحاكم (1/ 190 - 191) وصححه على شرط مسلم، ووافقه الذهبي.
(4) رواه مسلم برقم (173) وهو جزء من حديث المواقيت الطويل (1/ 427).
(5) أخرجه البخاري برقم (568)، ومسلم برقم (647).
(6) متفق عليه: رواه البخاري برقم (527)، ومسلم برقم (85) (139).

(1/49)


الباب الرابع: في شروط الصلاة، وأركانها، وأدلة ذلك، وحكم تاركها.
وفيه مسائل:

المسألة الأولى: في عدد الصلوات المكتوبة:
عدد الصلوات المكتوبة خمس، وهي: الفجر والظهر والعصر والمغرب والعشاء. وهي مجمع عليها، وقد دلّ على ذلك حديث طلحة بن عبيد الله أن أعرابياً قال: يا رسول الله ماذا فرض الله عليَّ من الصلاة؟ قال: (خمس صلوات في اليوم والليلة .. الحديث) (1)، وحديث أنس - رضي الله عنه - في قصة الرجل من أهل البادية، وقوله للنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: وزعم رسولك أن علينا خمس صلوات في يومنا وليلتنا. قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (صدق) ... الحديث (2).

المسألة الثانية: على من تجب؟
تجب على المسلم البالغ العاقل، غيرَ الحائض والنفساء، ويؤمر بها الصبي إذا بلغ سبع سنين، ويُضرب عليها لعشر؛ لحديث: (رفع القلم عن ثلاثة)، فذكر منها: (وعن الصَّبيِّ حتى يحتلم)، ولقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (مروا أولادكم بالصلاة لسبع، واضربوهم عليها لعشر، وفَرِّقوا بينهم في المضاجع) (3).

المسألة الثالثة: في شروطها (4):
وشروطها تسعة:
1 - الإسلام: فلا تصح من كافر؛ لبطلان عمله.
2 - العقل: فلا تصح من مجنون؛ لعدم تكليفه.
__________
(1) رواه مسلم برقم (11).
(2) رواه مسلم برقم (12).
(3) رواه أحمد (3/ 201)، وأبو داود برقم (494)، والترمذي برقم (407) وقال: "حديث حسن"، وصححه الحاكم في المستدرك (1/ 201)، وصححه الألباني (الإرواء برقم 247).
(4) وهي التي يتوقف عليها صحة الصلاة.

(1/50)


3 - البلوغ: فلا تجب على الصبي حتى يبلغ، ولكن يؤمر بها لسبع، ويُضرب عليها لعشر؛ لحديث: (مروا أولادكم بالصلاة لسبع ... ) الحديث.
4 - الطهارة من الحَدَثين (1) مع القدرة: لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في حديث ابن عمر: (لا يقبل الله صلاة بغير طهور) (2).
5 - دخول الوقت للصلاة المؤقتة: لقوله تعالى: (إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا) [النساء: 103]، ولحديث جبريل حين أمّ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بالصلوات الخمس، ثم قال: (ما بين هذين الوقتين وقت) (3). فلا تصح الصلاة قبل دخول وقتها، ولا بعد خروجه، إلا لعذر.
6 - ستر العورة مع القدرة بشيء لا يصف البشرة: لقوله تعالى: (يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ) [الأعراف: 31]. وقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (لا يقبل الله صلاة حائض إلا بخمار) (4). وعورة الرجل البالغ ما بين السرة والركبة لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لجابر - رضي الله عنه -: (إذا صليت في ثوب واحد، فإن كان واسعاً فالتحف به، وإن كان ضيقاً فاتزر به) (5). والأولى والأفضل أن يجعل على عاتقه شيئاً من الثياب؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى الرجل أن يصلي في الثوب ليس على عاتقه منه شيء. والمرأة كلها عورة إلا وجهها وكفيها، إلا إذا صلَّت أمام الأجانب -أي غير المحارم- فإنها تغطي كل شيء؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (المرأة عورة) (6)، وقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (لا يقبل الله صلاة حائض إلا بخمار).
7 - اجتناب النجاسة في بدنه وثوبه وبقعته -أي مكان صلاته- مع القدرة:
__________
(1) الأكبر والأصغر
(2) رواه مسلم برقم (224).
(3) رواه أحمد (3/ 330)، والنسائي (1/ 91)، والترمذي برقم (150) وهو حديث صحيح (إرواء الغليل برقم 250).
(4) رواه أبو داود برقم (627)، والترمذي برقم (375)، وابن ماجه برقم (655)، وصححه الألباني (الإرواء برقم 196). والمقصود بالحائض: التي بلغت سن التكليف.
(5) أخرجه البخاري برقم (361)، ومسلم برقم (3010).
(6) رواه الترمذي برقم (397)، وصححه الألباني (الإرواء برقم 273).

(1/51)


لقوله تعالى: (وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ) [المدثر: 4]. وقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (تَنَزَّهوا عن البول؛ فإن عامة عذاب القبر منه) (1)، ولقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لأسماء في دم الحيض يصيب الثوب: (تحتُّه، ثم تقرصه بالماء، ثم تنضحه، ثم تصلي فيه) (2)، لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لأصحابه وقد بال الأعرابي في المسجد: (أريقوا على بوله سجلاً من ماء) (3).
8 - استقبال القبلة مع القدرة: لقوله تعالى: (فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ) [البقرة: 144]، ولحديث: (إذا قمت إلى الصلاة فأسبغ الوضوء، ثم استقبل القبلة) (4).
9 - النية: ولا تسقط بحال؛ لحديث عمر: (إنما الأعمال بالنيات). ومحلها القلب، وحقيقتها العزم على الشيء. ولا يشرع التلفظ بها؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم يتلفظ بها، ولم يَرِدْ أن أحداً من أصحابه فعل ذلك.

المسألة الرابعة: في أركانها:
الأركان: هي ما تتكون منها العبادات، ولا تصح العبادة إلا بها. والفرق بينها وبين الشروط: أن الشرط يتقدم على العبادة، ويستمر معها، وأما الأركان: فهي التي تشتمل عليها العبادة من أقوال وأفعال.
وأركانها أربعة عشر ركناً، لا تسقط عمداً، ولا سهواً، ولا جهلاً. وبيانها كما يلي:
1 - القيام: في الفرض على القادر منتصباً؛ لقوله تعالى: (وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ) [البقرة: 238]، ولقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لعمران بن حصين: (صَل قائماً، فإن لم تستطع فقاعداً، فإن لم تستطع فعلى جنب) (5)، فإن ترك القيام في الفريضة لعذر، كمرض وخوف وغير ذلك، فإنه يُعذر بذلك، ويصلي حسب حاله قاعداً أو على جنب.
__________
(1) رواه الدارقطني (1/ 97) برقم (453)، وصححه الألباني (الإرواء برقم 280).
(2) رواه البخاري برقم (227)، ومسلم برقم (291).
(3) رواه البخاري برقم (220).
(4) رواه البخاري برقم (6251)، ومسلم برقم (397).
(5) رواه البخاري برقم (1117).

(1/52)


أما صلاة النافلة: فإن القيام فيها سنة وليس ركناً، لكن صلاة القائم فيها أفضل من صلاة القاعد؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (صلاة القاعد على النصف من صلاة القائم) (1).
2 - تكبيرة الإحرام في أولها: وهي قول (الله أكبر) لا يُجْزئه غيرها؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - للمسيء الصلاة: (إذا قمت إلى الصلاة فكبر) (2)، وقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (تحريمها التكبير وتحليلها التسليم) (3)، فلا تنعقد الصلاة بدون التكبير.
3 - قراءة الفاتحة مرتبة في كل ركعة: لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب) (4). ويستثنى من ذلك المسبوق: إذا أدرك الإمام راكعاً، أو أدرك من قيامه ما لم يتمكن معه من قراءة الفاتحة، وكذا المأموم في الجهرية، يُستثنى من قراءتها، لكن لو قرأها في سكتات الإمام فإن ذلك أولى؛ أخذاً بالأحوط.
4 - الركوع في كل ركعة: لقوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا) [الحج: 77]. ولقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - للمسيء الصلاة: (ثم اركع حتى تطمئن راكعاً) (5).
5، 6 - الرفع من الركوع والاعتدال منه قائماً: لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في حديث المسيء: (واركع حتى تطمئن راكعاً ثم ارفع حتى تعتدل قائماً).
7 - السجود: لقوله تعالى: (وَاسْجُدُوا) [الحج: 77]، ولقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في حديث المسيء: (ثم اسجد حتى تطمئن ساجداً). ويكون السجود في كل ركعة مرتين على الأعضاء السبعة المذكورة في حديث ابن عباس. وفيه: (أمرت أن أسجد على سبعة أعظم: الجبهة -وأشار بيده إلى أنفه- واليدين، والركبتين، وأطراف القدمين) (6).
__________
(1) رواه مسلم برقم (735).
(2) رواه البخاري برقم (793)، ومسلم برقم (397).
(3) رواه أبو داود برقم (61)، وابن ماجه برقم (275)، والترمذي برقم (3)، وقال الألباني: حسن صحيح (صحيح سنن ابن ماجه برقم 224).
(4) رواه البخاري برقم (756)، ومسلم برقم (394).
(5) رواه البخاري برقم (6251)، ومسلم برقم (397).
(6) رواه البخاري (809)، ومسلم برقم (490) - 230. واللفظ لمسلم.

(1/53)


8، 9 - الرفع من السجود والجلوس بين السجدتين: لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - للمسيء: (ثم ارفع حتى تطمئن جالساً).
10 - الطمأنينة في جميع الأركان: وهي السكون، وتكون بقدر القول الواجب في كل ركن؛ لأمره - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - المسيء بها في صلاته في جميع الأركان، ولأمره له بإعادة الصلاة لتركه الطمأنينة فيها.
11 - التشهد الأخير: لقول ابن مسعود - رضي الله عنه -: (كنا نقول قبل أن يفرض علينا التشهد: السلام على الله من عباده). فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (لا تقولوا السلام على الله، ولكن قولوا: التحيات لله) (1). فدل قوله - رضي الله عنه -: "قبل أن يفرض" على أنه فرض.
12 - الجلوس للتشهد الأخير: لأنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فعله، وداوم عليه، وقال: (صلوا كما رأيتموني أصلي) (2).
13 - التسليم: لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (وتحليلها التسليم) (3)، فيقول عن يمينه: السلام عليكم ورحمة الله، وعن يساره: السلام عليكم ورحمة الله.
14 - ترتيب الأركان على ما تقدَّم بيانه: لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فعلها مرتبة، وقال: (صلوا كما رأيتموني أصلي)، وعَلَّمَهَا المسيء في صلاته بقوله: (ثم) التي تدل على الترتيب.

المسألة الخامسة: في واجباتها:
وواجباتها ثمانية، تبطل الصلاة بتركها عمداً، وتسقط سهواً وجهلاً، ويجب للسهو عنها سجود السهو، فالفرق بينها وبين الأركان: أن من نسي ركناً لم تصح صلاته إلا بالإتيان به، أمَّا من نسي واجباً أجزأ عنه سجود السهو، فالأركان أوكد من الواجبات. وبيانها على النحو الآتي:
1 - جميع التكبيرات غير تكبيرة الإحرام، وهو ما يسمى بتكبير الانتقال.
__________
(1) أخرجه النسائي (2/ 240)، وصححه الألباني (الإرواء برقم 319).
(2) رواه البخاري برقم (631).
(3) رواه أبو داود برقم (61)، والترمذي برقم (3)، وابن ماجه برقم (275)، وتقدم في الصفحة السابقة.

(1/54)


لقول ابن مسعود: (رأيت النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يكبر في كل رفع وخفض وقيام وقعود) (1)، فقد واظب النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عليه إلى أن مات، وقد قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (صلوا كما رأيتموني أصلي).
2 - قول: "سمع الله لمن حمده" للإمام والمنفرد: لحديث أبي هريرة: (كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يكبر حين يقوم إلى الصلاة، ثم يكبر حين يركع، ثم يقول: سمع الله لمن حمده حين يرفع صلبه من الركعة، ثم يقول وهو قائم: ربنا ولك الحمد) (2).
3 - قول: "ربنا ولك الحمد" للمأموم فقط، أما الإمام والمنفرد فيسن لهما الجمع بينهما؛ لحديث أبي هريرة المتقدم، ولحديث أبي موسى وفيه: (وإذا قال: سمع الله لمن حمده، فقولوا: ربنا لك الحمد) (3).
4 - وقول: "سبحان ربي العظيم" مرة في الركوع.
5 - قول: "سبحان ربي الأعلى" مرة في السجود. لقول حذيفة في حديثه: (كان -يعني النبي (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) - يقول في ركوعه: سبحان ربي العظيم. وفي سجوده: سبحان ربي الأعلى) (4). وتسنُّ الزيادة في التسبيح في السجود والركوع إلى ثلاث.
6 - قوله: "ربِّ اغفر لي" بين السجدتين: لحديث حذيفة: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يقول بين السجدتين: (رب اغفر لي. رب اغفر لي) (5).
7 - التشهد الأول على غير من قام إمامه سهواً، فإنه لا يجب عليه لوجوب متابعته؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لما نسي التشهد الأول لم يَعُدْ إليه، وجبره بسجود
__________
(1) رواه النسائي (2/ 205)، والترمذي برقم (253) وقال: حسن صحيح، وصححه الألباني (صحيح الترمذي برقم 208).
(2) رواه مسلم (1/ 293) برقم (28).
(3) رواه مسلم برقم (404)، وأحمد (4/ 399)،.
(4) رواه الخمسة: أبو داود برقم (874)، والترمذي برقم (262) وقال: حسن صحيح، والنسائي (1/ 172)، وابن ماجه برقم (897)، وصححه الألباني (صحيح النسائي برقم 1097).
(5) رواه النسائي (1/ 172)، وابن ماجه برقم (897)، وصححه الألباني (الإرواء برقم 335).

(1/55)


السهو (1). والتشهد الأول هو: "التحيات لله والصلوات والطيبات، السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله".
8 - الجلوس له -أي التشهد الأول- لحديث ابن مسعود مرفوعاً: (إذا قعدتم في كل ركعتين فقولوا: التحيات لله) (2). ولحديث رفاعة بن رافع: (فإذا جلست في وسط الصلاة فاطمئن، وافترش فخذك اليسرى، ثم تشهد) (3).

المسألة السادسة: في سننها:
وهي نوعان: سنن أفعال وسنن أقوال.
أما سنن الأفعال: فكرفع اليدين مع تكبيرة الإحرام وعند الركوع وعند الرفع منه وحطهما عقب ذلك؛ لأن مالك بن الحويرث كان إذا صلَّى كبَّر، ورفع يديه، وإذا أراد أن يركع رفع يديه، وإذا رفع رأسه من الركوع رفع يديه.
وحَدَّثَ أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صنع ذلك (4). ووضع اليمين على الشمال وجعلهما على صدره حال قيامه، ونظره في موضع سجوده، وتفرقته بين قدميه قائماً، وقبض ركبتيه بيديه مفرجتي الأصابع في ركوعه، ومد ظهره فيه، وجعل رأسه حياله.
وأما سنن الأقوال: فكدعاء الاستفتاح، والبسملة، والتعوذ، وقول: آمين، والزيادة على قراءة الفاتحة، والزيادة على تسبيح الركوع والسجود، والدعاء بعد التشهد قبل السلام.
__________
(1) أخرجه البخاري برقم (1230)، ومسلم برقم (570).
(2) رواه أحمد (1/ 437)، والنسائي (1/ 174)، وصححه الألباني (الإرواء برقم 336).
(3) رواه أبو داود برقم (856)، وحسنه الألباني (الإرواء برقم 337).
(4) أخرجه مسلم برقم (391).

(1/56)


المسألة السابعة: مبطلاتها:
يبطل الصلاة أمور نجملها فيما يأتي:
1 - يبطل الصلاة ما يبطل الطهارة؛ لأن الطهارة شرط لصحتها، فإذا بطلت الطهارة بطلت الصلاة.
2 - الضحك بصوت: وهو القهقهة، فإنه يبطلها بالإجماع؛ لأنه كالكلام، بل أشد، ولما في ذلك من الاستخفاف والتلاعب المنافي لمقصود الصلاة. أما التبسم بلا قهقهة فإنه لا يبطلها، كما نقله ابن المنذر وغيره.
3 - الكلام عمداً لغير مصلحة الصلاة: فعن زيد بن أرقم - رضي الله عنه - قال: كنا نتكلم في الصلاة، يكلم الرجل منا صاحبه، وهو إلى جنبه في الصلاة، حتى نزلت: (وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ) [البقرة: 238]. فأمرنا بالسكوت ونهينا عن الكلام (1). فإن تكلم جاهلاً أو ناسياً، لا تبطل صلاته.
4 - مرور المرأة البالغة، أو الحمار، أو الكلب الأسود بين يدي المصلي دون موضع سجوده: لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (إذا قام أحدكم يصلي فإنه يستره إذا كان بين يديه مثل آخرة الرحل، فإذا لم يكن بين يديه مثل آخِرَةِ الرَّحْلِ، فإنه يقطع صلاته الحمار والمرأة والكلب الأسود) (2). والرَّحْلُ: هو ما يركب عليه على الإبل، وهو كالسرج للفرس، ومؤخرة الرحل مقدارها ذراع، فيكون هذا المقدار هو المجزئ في السترة.
5 - كشف العورة عمداً: لما تقدم في الشروط.
6 - استدبار القبلة: لأن استقبالها شرط لصحة الصلاة.
7 - اتصال النجاسة بالمصلي، مع العلم بها، وتذكرها إذا لم يُزلها في الحال.
8 - ترك ركن من أركانها أو شرط من شروطها عمداً بدون عذر.
9 - العمل الكثير من غير جنسها لغير ضرورة، كالأكل والشرب عمداً.
10 - الاستناد لغير عذر، لأن القيام شرط لصحتها.
__________
(1) أخرجه البخاري برقم (1200)، ومسلم برقم (539).
(2) رواه مسلم برقم (510).

(1/57)


11 - تعمُّد زيادة ركن فعلي كالزيادة في الركوع والسجود؛ لأنه يخل بهيئتها، فتبطل إجماعاً.
12 - تعمُّد تقديم بعض الأركان على بعض؛ لأن ترتيبها ركن، كما تقدم.
13 - تعمُّد السلام قبل إتمامها.
14 - تعمُّد إحالة المعنى في القراءة، أي قراءة الفاتحة؛ لأنها ركن.
15 - فسخ النية بالتردد بالفسخ، وبالعزم عليه؛ لأن استدامة النية شرط.

المسألة الثامنة: ما يكره (1) في الصلاة:
يكره في الصلاة الأمور التالية:
1 - الاقتصار على الفاتحة في الركعتين الأوليين، لمخالفة ذلك لسنة النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وهديه في الصلاة.
2 - تكرار الفاتحة: لمخالفة ذلك -أيضاً- لسنة النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، لكن إن كررها لحاجة؛ كأن يكون فاته الخشوع وحضور القلب عند قراءتها، فأراد تكرارها ليحضر قلبه، فلا بأس بذلك، لكن بشرط ألا يَجُرَّهُ ذلك إلى الوسواس.
3 - يكره الالتفات اليسير في الصلاة بلا حاجة: لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حين سئل عن الالتفات في الصلاة: (هو اختلاس يختلسه الشيطان من صلاة العبد) (2).
والاختلاس: السرقة والنهب.
أما إذا كان الالتفات لحاجة فلا بأس به، كمن احتاج إلى أن يتفُل عن يساره في الصلاة ثلاثاً إذا أصابه الوسواس، فهذا التفات لحاجة، أمر به النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وكمن خافت على صبيّها الضياع، فصارت تلتفت في الصلاة؛ ملاحِظة له.
هذا كله في الالتفات اليسير، أما إذا التفت الشخص بكليته أو استدبر القبلة، فإنه تبطل صلاته، إذا كان ذلك بغير عذر من شدة خوف ونحوه.
__________
(1) الكراهة في اصطلاح الفقهاء: هي النهي عن الشيء من غير إلزام بالترك. وحكم المكروه: أنه يثاب تاركه امتثالاً، ولا يعاقب فاعله، ويجوز فعله عند الحاجة من غير اضطرار.
(2) أخرجه البخاري برقم (751).

(1/58)


4 - تغميض العينين في الصلاة: لأن ذلك يشبه فعل المجوس عند عبادتهم النيران. وقيل: يشبه فعل اليهود أيضاً، وقد نُهينا عن التشبه بالكفار.
5 - افتراش الذراعين في السجود: لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (اعتدلوا في السجود، ولا يبسط أحدكم ذراعيه انبساط الكلب) (1). فينبغي للمصلي أن يجافي بين ذراعيه، ويرفعهما عن الأرض، ولا يتشبه بالحيوان.
6 - كثرة العبث في الصلاة: لما فيه من انشغال القلب المنافي للخشوع المطلوب في الصلاة.
7 - التَخَصُّرُ: لحديث أبي هريرة - رضي الله عنه -: (نُهي أن يصلي الرجل مختصراً) (2). والتخصُّر والاختصار في الصلاة: وَضْعُ الرجل يده على الخَصْرِ والخاصِرَة، وهي وسط الإنسان المُستَدقّ فوق الوركين. وقد عللت عائشة رضي الله تعالى عنها الكراهة: بأن اليهود تفعله (3).
8 - السَّدْلُ وتغطية الفم في الصلاة: لحديث أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: (نهى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن السدل في الصلاة، وأن يغطي الرجل فاه) (4). والسدل: أن يطرح المصلي الثوب على كتفيه، ولا يردَّ طرفيه على الكتفين. وقيل: إرسال الثوب حتى يصيب الأرض، فيكون بمعنى الإسبال.
9 - مسابقة الإمام: لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (أما يخشى أحدكم إذا رفع رأسه قبل الإمام أن يجعل الله رأسه رأس حمار، أو يجعل صورته صورة حمار) (5).
10 - تشبيك الأصابع: لنهيه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من توضأ وأتى المسجد يريد الصلاة عن فعل ذلك (6)، فكراهته في الصلاة من باب أولى. والتشبيك بين الأصابع: إدخال
__________
(1) أخرجه البخاري برقم (822).
(2) أخرجه البخاري برقم (1220).
(3) روى ذلك عنها مسروق، أخرجه البخاري في صحيحه برقم (3458).
(4) أخرجه أبو داود برقم (643)، والترمذي برقم (379)، وحسنه الألباني (صحيح سنن الترمذي رقم 312).
(5) أخرجه البخاري برقم (691)، ومسلم برقم (427).
(6) أخرجه الحاكم (1/ 206) وصححه، ووافقه الذهبي، ووافقهما الألباني (الإرواء 2/ 102).

(1/59)


بعضها في بعض. وأما التشبيك خارج الصلاة فلا كراهة فيه، ولو كان في المسجد، لِفِعْله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إياه في قصة ذي اليدين.
11 - كَفُّ الشعر والثوب: لحديث ابن عباس رضي الله عنهما قال: (أُمر النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن يسجد على سبعة أعظم، ولا يكفَّ ثوبه ولا شعره) (1). والكفّ: قد يكون بمعنى الجمع، أي: لا يجمعهما ويضمهما، وقد يكون بمعنى المنع، أي: لا يمنعهما من الاسترسال حال السجود. وكله من العبث المنافي للخشوع في الصلاة.
12 - الصلاة بحضرة الطعام، أو وهو يدافع الأخبثين: لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (لا صلاة بحضرة الطعام، ولا وهو يدافعه الأخبثان) (2). أما كراهة الصلاة بحضرة الطعام: فذلك مشروط بتوقان نفسه إليه ورغبته فيه، مع قدرته على تناوله، وكونه حاضراً بين يديه. فلو كان الطعام حاضراً، لكنه صائم، أو شبعان لا يشتهيه، أو لا يستطيع تناوله لشدة حرارته، ففي ذلك كله لا يكره له الصلاة بحضرته. وأما الأخبثان: فهما البول والغائط. وقد نهي عن ذلك كله؛ لما فيه من انشغال قلب المصلي، وتشتت فكره، مما ينافي الخشوع في الصلاة. وقد يتضرر بحبس البول والغائط ومدافعتهما.
13 - رفع البصر إلى السماء: لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (لينتهين أقوام يرفعون أبصارهم إلى السماء في الصلاة، أو لتخطفن أبصارهم) (3).

المسألة التاسعة: حكم تارك الصلاة:
من ترك الصلاة جاحِداً لوجوبها، فهو كافر مرتد، لأنه مُكذِّبٌ لله ورسوله وإجماع المسلمين.
__________
(1) أخرجه البخاري برقم (815)، ومسلم برقم (490).
(2) أخرجه مسلم برقم (560).
(3) رواه مسلم برقم (429).

(1/60)


أمَّا من تركها تهاوناً وكسلاً: فالصحيح أنه كافر إذا كان تاركاً لها دائماً وبالكلية، لقوله تعالى عن المشركين: (فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ) [التوبة: 11]. فدلَّ على أنهم إن لم يحققوا شرط إقامة الصلاة فليسوا بمسلمين، ولا إخوة لنا في الدين. ولقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة، فمن تركها فقد كفر) (1). وقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (إن بين الرجل وبين الشرك والكفر تَرْكَ الصلاة) (2).
أمَّا من كان يصلي أحياناً ويترك أحياناً، أو يصلي فرضاً أو فرضين، فالظاهر أنه لا يكفر؛ لأنه لم يتركها بالكلية، كما هو نص الحديث: (ترك الصلاة) فهذا ترك (صلاة) لا (الصلاة). والأصل بقاء الإسلام، فلا نخرجه منه إلا بيقين، فما ثبت بيقين لا يرتفع إلا بيقين (3).
__________
(1) أخرجه الترمذي برقم (2126)، والنسائي (1/ 231)، وأحمد (5/ 346)، والحاكم (1/ 6، 7). قال الترمذي: حسن صحيح غريب، وصححه الحاكم ووافقه الذهبي، وصححه الألباني (صحيح الترمذي برقم 2113).
(2) أخرجه مسلم برقم (82).
(3) انظر: الشرح الممتع. (2/ 24 - 28).

(1/61)


الباب الخامس: في صلاة التطوع، وفيه مسائل:
والمراد بالتطوع: كل طاعة ليست بواجبة.

المسألة الأولى: فضلها، والحكمة من مشروعيتها:
1 - فضلها: التطوع بالصلاة من أفضل القربات بعد الجهاد في سبيل الله وطلب العلم؛ لمداومة النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على التقرب إلى ربه بنوافل الصلوات، ولحديث أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (إن الله تعالى قال: من عادى لي ولياً فقد آذنته بالحرب، وما تقرَّب إليّ عبدي بشيء أحب إلي مما افترضته عليه، وما يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه ... ) (1) الحديث.
2 - الحكمة من مشروعيتها: وقد شرع سبحانه التطوع رحمة بعباده، فجعل لكل فرض تطوعاً من جنسه؛ ليزداد المؤمن إيماناً ورفعة في الدرجات بفعل هذا التطوع، ولتكمل الفرائض، وتجبر يوم القيامة بهذا التطوع؛ فإن الفرائض يعتريها النقص، كما في حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -، عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: (إن أول ما يحاسب به العبد المسلم يوم القيامة الصلاة، فإن أتمها، وإلا قيل: انظروا هل له من تطوع؟ فإن كان له تطوع أكملت الفريضة منْ تطوُّعه، ثم يفعل بسائر الأعمال المفروضة مثل ذلك) (2).

المسألة الثانية: في أقسامها:
صلاة التطوع على نوعين:
النوع الأول: صلوات مؤقتة بأوقات معينة، وتسمى بالنوافل المقيدة، وهذه منها ما هو تابع للفرائض، كالسنن الرواتب، ومنها ما ليس بتابع كصلاة الوتر، والضحى والكسوف.
__________
(1) أخرجه البغوي في شرح السنة (5/ 21 برقم 1249)، وصححه الألباني (السلسلة الصحيحة برقم 1640).
(2) أخرجه أبو داود برقم (684)، والنسائي برقم (466، 467)، وابن ماجه برقم (1425) قال البغوي: حديث حسن (شرح السنة 4/ 159)، وصححه الألباني (صحيح النسائي برقم 451 - 453) واللفظ لابن ماجه.

(1/62)


النوع الثاني: صلوات غير مؤقتة بأوقات معينة، وتسمى بالنوافل المطلقة.
والنوع الأول أنواع متعددة بعضها آكد من بعض، وآكد أنواعه الكسوف، ثم الوتر، ثم صلاة الاستسقاء، ثم صلاة التراويح، وأما النوع الثاني فيشرع في الليل كله، وفي النهار -ما عدا أوقات النهي- وصلاة الليل أفضل من صلاة النهار.

المسألة الثالثة: ما تُسَنُّ له الجماعة من صلاة التطوع:
تسن صلاة الجماعة: للتراويح، والاستسقاء، والكسوف.

المسألة الرابعة: في عدد الرواتب:
والرواتب: جمع راتبة، وهي الدائمة المستمرة، وهي التابعة للفرائض.
وفائدة هذه الرواتب أنها تجبر الخلل والنقص الذي يقع في الفرائض، كما مضى بيانه.
وعدد الرواتب عشر ركعات، وهي المذكورة في حديث ابن عمر: (حفظت عن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ركعتين قبل الظهر، وركعتين بعد الظهر، وركعتين بعد المغرب، وركعتين بعد العشاء، وركعتين قبل الغداة، كانت ساعة لا أدخل على النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فيها، فحدثتني حفصة أنه كان إذا طلع الفجر، وأذَّن المؤذن، صلَّى ركعتين) (1).
ويتأكد للمسلم أن يحافظ على ثنتي عشرة ركعة؛ لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (ما من عبد مسلم يصلي لله تعالى في كل يوم ثنتي عشرة ركعة، إلا بنى الله له بيتاً -أو: (لا بُنِيَ له بيت- في الجنة) (2).
وهي العشر المذكورة سابقاً، إلا أنه يكون قبل الظهر أربع ركعات، فقد زاد
__________
(1) متفق عليه: رواه البخاري برقم (1180) ورقم (1181)، ومسلم برقم (729).
(2) رواه مسلم برقم (728) من حديث أم حبيبة رضي الله عنها.

(1/63)


الترمذي في رواية حديث أم حبيبة الماضي: (أربعاً قبل الظهر وركعتين بعدها، وركعتين بعد المغرب، وركعتين بعد العشاء، وركعتين قبل صلاة الفجر) (1)، ولما ثبت في الصحيح من حديث عائشة رضي الله عنها قالت: (كان النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لا يدع أربعاً قبل الظهر) (2).
وآكد هذه الرواتب: ركعتا الفجر -وهما سنة الفجر القبلية- لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (ركعتا الفجر خير من الدنيا وما فيها) (3). ولقول عائشة -رضي الله عنها- عن هاتين الركعتين: (ولم يكن يدعهما أبداً) (4).

المسألة الخامسة: حكم الوتر وفضله ووقته:
حكمه: سنة مؤكدة، حثَّ عليه الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ورغَّب فيه، فقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (إن الله وتر يحب الوتر) (5). وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (يا أهل القرآن أوتروا، فإن الله وتر يحب الوتر) (6).
ووقته: ما بين صلاة العشاء وصلاة الفجر بإجماع العلماء؛ لفعله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ولقوله: (إن الله أمدكم بصلاة هي خير لكم من حمر النعم: صلاة الوتر، ما بين صلاة العشاء إلى طلوع الفجر) (7).
فإذا طلع الفجر فلا وتر، لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (صلاة الليل مثنى مثنى، فإذا خشي أحدكم الصبح صلى ركعة واحدة، توتر له ما قد صلى) (8). فهذا دليل على خروج وقت الوتر بطلوع الفجر.
__________
(1) جامع الترمذي برقم (415). وقال: حسن صحيح، وصححه الألباني (صحيح سنن الترمذي برقم 833، 839).
(2) أخرجه البخاري برقم (1182).
(3) أخرجه مسلم برقم (725).
(4) أخرجه البخاري برقم (1159).
(5) أخرجه البخاري برقم (6410)، ومسلم برقم (2677).
(6) رواه أبو داود برقم (1416)، وصححه الألباني (التعليق على ابن خزيمة برقم (1067).
(7) أخرجه أبو داود برقم (1418)، والترمذي برقم (452)، والحاكم (1/ 306) وصححه ووافقه الذهبي.
وقال الألباني: صحيح دون قوله: (هي خير لكم من حمر النعم) (صحيح الترمذي برقم 373).
(8) أخرجه البخاري برقم (990).

(1/64)


قال الحافظ ابن حجر: (وأصرح منه -يعني في الدلالة- ما رواه أبو داود والنسائي، وصححه أبو عوانة وغيره ... أن ابن عمر كان يقول: من صلى من الليل فليجعل آخر صلاته وتراً؛ فإن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يأمر بذلك، فإذا كان الفجر فقد ذهب كل صلاة الليل والوتر) (1).
وصلاة الوتر آخر الليل أفضل منه في أوله، لكن يستحب تعجيله أول الليل لمن ظن أنه لا يقوم آخر الليل، وتأخيره لمن ظن أنه يقوم آخر الليل؛ لما رواه جابر - رضي الله عنه - أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: (من خاف أن لا يقوم من آخر الليل فليوتر أوله، ومن طمع أن يقوم آخر الليل فليوتر آخر الليل؛ فإن صلاة آخر الليل مشهودة، وذلك أفضل) (2).

المسألة السادسة: صفة الوتر وعدد ركعاته:
الوتر أقله ركعة واحدة، لحديث ابن عمر وابن عباس مرفوعاً: (الوتر ركعة من آخر الليل) (3). ولحديث ابن عمر الماضي قريباً: (صلى ركعة واحدة توتر له ما قد صلى).
ويجوز الوتر بثلاث ركعات؛ لحديث عائشة رضي الله عنها: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان (يصلِّي أربعاً فلا تسأل عن حسنهن وطولهن، ثم يُصَلِّي أربعاً، فلا تسأل عن حسنهن وطولهن، ثم يصلِّي ثلاثاً) (4).
وتجوز هذه الثلاث بسلامين؛ لأن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: (كان يُسَلِّم من ركعتين حتى يأمر ببعض حاجته) (5). وتجوز سرداً بتشهد واحد وسلام واحد؛ لحديث عائشة رضي الله عنها: (كان النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يوتر بثلاث لا
__________
(1) فتح الباري (2/ 557).
(2) رواه مسلم برقم (755).
(3) رواه مسلم برقم (753،752).
(4) رواه مسلم برقم (738).
(5) أخرجه البخاري برقم (991).

(1/65)


يقعد إلا في آخرهن) (1). ولا تصلَّى بتشهدين وسلام واحد؛ حتى لا تُشْبه صلاة المغرب، وقد نهى - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن ذلك (2).
ويجوز الوتر بسبع ركعات وبخمس، لا يجلس إلا في آخرها؛ لحديث عائشة رضي الله عنها: (كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يصلي من الليل ثلاث عشرة ركعة، يوتر من ذلك بخمس، لا يجلس في شىء إلا في آخرها) (3)، ولحديث أم سلمة رضي الله عنها: (كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يوتر بسبع أو بخمس، لا يفصل بينهن بتسليم ولا كلام) (4).

المسألة السابعة: الأوقات المنهي عن النافلة فيها:
هناك أوقات نهي عن صلاة التطوع فيها إلا ما استثني، وهي أوقات خمسة:
الأول: من بعد صلاة الصبح حتى تطلع الشمس. لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (لا صلاة بعد صلاة الفجر حتى تطلع الشمس) (5).
الثاني: من طلوع الشمس حتى ترتفع قدر رمح في رأي العين، وهو قدر متر تقريباً، ويقدر بالوقت بحوالي ربع الساعة أو ثلثها. فإذا ارتفعت الشمس بعد طلوعها قدر رمح فقد انتهى وقت النهي؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لعمرو بن عبسة: (صلِّ صلاة الصبح، ثم أقصر عن الصلاة حتى تطلع الشمس حتى ترتفع ... ) (6)، ولحديث عقبة بن عامر الآتي.
__________
(1) أخرجه النسائي برقم (1698) (3/ 234)، والحاكم (1/ 304)، والبيهقي (3/ 28) -واللفظ له-، وصححه الحاكم على شرط الشيخين، ووافقه الذهبي. وقال النووي: رواه النسائي بإسناد حسن، والبيهقي بإسناد صحيح. (المجموع 4/ 17 - 18).
(2) أخرجه الدارقطني (2/ 24 - 25)، والحاكم (1/ 304)، والبيهقي (3/ 31). قال الدارقطني عن رواته: كلهم ثقات. وصححه الحاكم على شرط الشيخين، ووافقه الذهبي. وقال ابن حجر في الفتح (2/ 558): إسناده على شرط الشيخين.
(3) أخرجه مسلم برقم (737).
(4) أخرجه ابن ماجه برقم (1192)، وصححه الألباني (صحيح سنن ابن ماجه برقم 980).
(5) أخرجه البخاري برقم (586)، ومسلم برقم (827) واللفظ لمسلم.
(6) أخرجه مسلم برقم (832).

(1/66)


والثالث: عند قيام الشمس (1) حتى تزول إلى جهة الغرب ويدخل وقت الظهر، لحديث عقبة بن عامر: (ثلاث ساعات كان النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ينهانا أن نصلي فيهن وأن نقبر فيهن موتانا: حين تطلع الشمس بازغة حتى ترتفع، وحين يقوم قائم الظهيرة حتى تزول، وحين تَتَضَيَّف للغروب حتى تغرب) (2). ومعنى تتضيف للغروب: تميل للغروب.
والرابع: من صلاة العصر إلى غروب الشمس (3) لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (لا صلاة بعد الفجر حتى تطلع الشمس، ولا صلاة بعد صلاة العصر حتى تغيب الشمس) (4).
والوقت الخامس: إذا شرعت في الغروب حتى تغيب كما تقدم في الحديث؛ فتكون هذه الأوقات الخمسة محصورة في ثلاثة أوقات وهي: من بعد صلاة الفجر حتى ترتفع الشمس قدر رمح، وحين يقوم قائم الظهيرة حتى تزول الشمس، ومن بعد صلاة العصر حتى يتم غروب الشمس.
أما حكمة النهي عن الصلاة في هذه الأوقات: فقد بيَّن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن الكفار يعبدون الشمس عند طلوعها وعند غروبها، فتكون صلاة المسلم في تلك الأوقات فيها مشابهة لهم، ففي حديث عمرو بن عبسة: (فإنها -أي الشمس- تطلع حين تطلع بين قرني شيطان، وحينئذ يسجد لها الكفار ... فإنها تغرب حين تغرب بين قرني شيطان، وحينئذ يسجد لها الكفار) (5).
هذا عن وقت طلوع الشمس ووقت غروبها، وأما عن وقت ارتفاعها وقيام قائم الظهيرة، فقد بَيَّن - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - علة النهي في الحديث السابق نفسه فقال: (فإن حينئذٍ تُسْجَرُ جهنم) (6).
__________
(1) يعني: منتهى ارتفاعها، لأن الشمس ترتفع في الأفق، فإذا انتهت بدأت بالانخفاض.
(2) رواه مسلم برقم (831).
(3) يعني: شروعها في الغروب.
(4) متفق عليه: رواه البخاري برقم (586)، ومسلم برقم (827).
(5) صحيح مسلم برقم (832) وقد تقدم.
(6) المصدر السابق.

(1/67)


فلا تجوز صلاة التطوع في هذه الأوقات إلا ما ورد الدليل باستثنائه؛ كركعتي الطواف، لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (يا بني عبد مناف لا تمنعوا أحداً طاف بهذا البيت وصلَّى فيه، أية ساعة شاء، من ليل أو نهار) (1). وكذا قضاء سنة الفجر بعد صلاة الفجر، وقضاء سنة الظهر بعد العصر، ولا سيما إذا جمع الظهر مع العصر، وكذلك فعل ذوات الأسباب من الصلوات؛ كصلاة الجنازة، وتحية المسجد، وصلاة الكسوف، وكذلك قضاء الفرائض الفائتة في هذه الأوقات؛ لعموم قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (من نام عن صلاة أو نسيها فليصلها إذا ذكرها) (2)، ولأن الفرائض دَيْنٌ واجب الأداء، فتؤدَّى متى ذكرها الإنسان.
__________
(1) أخرجه أبو داود برقم (1894)، والترمذي برقم (868)، وقال: حسن صحيح. وابن ماجه برقم (1254)، والحاكم في المستدرك (1/ 448) وصححه، ووافقه الذهبي، وصححه الألباني (صحيح ابن ماجه برقم 1036).
(2) أخرجه مسلم برقم (684).

(1/68)


الباب السادس: في سجود السهو والتلاوة والشكر، وفيه مسائل:
المسألة الأولى: في مشروعية سجود السهو وأسبابه:
والمراد به: السجود المطلوب في آخر الصلاة جبراً لنقص فيها أو زيادة أو شك.
وسجود السهو مشروع؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (إذا نسي أحدكم فليسجد سجدتين) (1)، ولفعله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، كما سيأتي بيانه.
وقد أجمع أهل العلم على مشروعية سجود السهو.
وأسبابه ثلاثة: الزيادة، والنقص، والشك.

المسألة الثانية: متى يجب؟
يجب سجود السهو لما يأتي:
1 - إذا زاد فعلاً من جنس الصلاة، كأن يزيد ركوعاً أو سجوداً أو قياماً أو قعوداً ولو قدر جلسة الاستراحة؛ لحديث ابن مسعود: (صلى بنا الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خمساً فلما انفتل من الصلاة تَوَشْوَش (2) القوم بينهم فقال: ما شأنكم؟ فقالوا: يا رسول الله هل زيد في الصلاة شيء؟ قال: لا. قالوا: فإنك صَلَّيت خمساً. فانْفَتَلَ (3)، فسجد سجدتين، ثم سلَّم، ثم قال: إنما أنا بشر مثلكم أنسى كما تنسون، فإذا نسي أحدكم فليسجد سجدتين) (4). فإذا علم بالزيادة وهو في الصلاة وجب عليه الجلوس حال علمه، حتى لو كان في أثناء الركوع، لأنه لو استمر في الزيادة مع علمه لزاد في الصلاة شيئاً عمداً، وهذا لا يجوز.
__________
(1) رواه مسلم برقم (572) - 92.
(2) ويقال بالسين المهملة (توسوس)، والوشوشة: صوت في اختلاط.
(3) أي: انصرف ورجع إلى القبلة.
(4) رواه مسلم، برقم (572) - 92.

(1/69)


2 - أو سلم قبل إتمام صلاته؛ لحديث عمران بن حصين قال: (سلم رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في ثلاث ركعات من العصر، ثم قام فدخل الحجرة، فقام رجل بسيط اليدين فقال: أقصرت الصلاة؟ فخرج، فصلى الركعة التي كان ترك، ثم سلم، ثم سجد سجدتي السهو، ثم سلم) (1).
3 - أو لحن لحناً يحيل المعنى سهواً؛ لأن عمده يبطل الصلاة، فوجب سجود السهو.
4 - أو ترك واجباً؛ لحديث ابن بحينة قال: (صلى لنا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ركعتين من بعض الصلوات ثم قام فلم يجلس (2)، فقام الناس معه، فلما قضى صلاته ونظرنا تسليمه كبر قبل التسليم فسجد سجدتين وهو جالس، ثم سلَّم) (3). ثبت هذا بالخبر فيمن ترك التشهد الأوسط، فيقاس عليه سائر الواجبات، كترك التسبيح في الركوع والسجود، وقوله بين السجدتين: ربِّ اغفر لي، وتكبيرات الانتقال.
5 - ويجب سجود السهو إذا شك في عدد الركعات فلم يدر كم صلى؟
وذلك أثناء الصلاة؛ لأنه أدى جزءاً من صلاته متردداً في كونه منها أو زائداً عليها، فضعفت النية، واحتاجت للجبر بالسجود؛ لعموم حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: (إن أحدكم إذا قام يصلي جاءه الشيطان فلبسَ عليه، حتى لا يدري كم صلى، فإذا وجد ذلك أحدكم فليسجد سجدتين وهو جالس) (4). وهو في هذه الحالة بين أمرين: إمَّا أن يكون الشك بدون ترجيح لأحد الاحتمالين، ففي هذه الحالة يأخذ بالأقل ويبني عليه، ويسجد للسهو؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (إذا شك أحدكم في صلاته فلم يدر كم صلى ثلاثاً أم أربعاً، فليطرح الشك، وليبن على ما استيقن، ثم يسجد سجدتين قبل أن يُسَلِّم) (5).
__________
(1) رواه مسلم برقم (574) (102).
(2) يعني: ترك التشهد الأول.
(3) متفق عليه: رواه البخاري برقم (1230)، ومسلم برقم (570).
(4) رواه البخاري برقم (1231)، ومسلم برقم (389).
(5) أخرجه مسلم برقم (571).

(1/70)


أما إذا غلب على ظنه وترجح أحد الاحتمالين، فإنه يعمل به، ويبني عليه، ويسجد سجدتين للسهو؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فيمن شك وتردد: (فليتحر الصواب، ثم ليتم عليه -أي على التحري- ثم ليسلِّم، ثم ليسجد سجدتين بعد أن يسلِّم) (1).

المسألة الثالثة: متى يُسَنُّ؟
يسن سجود السهو إذا أتى بقول مشروع في غير محله سهواً؛ كالقراءة في الركوع والسجود، والتشهد في القيام، مع الإتيان بالقول المشروع في ذلك الموضع، كأن يقرأ في الركوع مع قوله: سبحان ربي العظيم؛ لحديث النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (إذا نسي أحدكم فليسجد سجدتين) (2).

المسألة الرابعة: موضعه وصفته:
1 - موضعه:
لا ريب أن الأحاديث وردت في موضع سجود السهو على قسمين:
قسم دلَّ على مشروعيته قبل السلام، والقسم الآخر دل على مشروعيته بعد السلام؛ ولهذا قال بعض المحققين: إن المصلي مخيَّرٌ إن شاء سجد قبل السلام أو بعده؛ لأن الأحاديث وردت بكلا الأمرين، فلو سجد للكل قبل السلام أو بعده جاز. قال الزهري: كان آخر الأمرين السجود قبل السلام.
2 - صفة سجود السهو: سجدتان كسجود الصلاة، يكبر في كل سجدة للسجود وللرفع منه، ثم يُسَلِّم. وذهب بعضهم إلى أنه يتشهد إذا سجد للسهو بعد السلام؛ لورود ذلك عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في ثلاثة أحاديث حسنة بمجموعها، كما قال الحافظ ابن حجر (3).
__________
(1) أخرجه مسلم برقم (572).
(2) رواه مسلم برقم (572) إثر (92).
(3) انظر: فح الباري (3/ 119).

(1/71)


المسألة الخامسة: سجود التلاوة:
1 - مشروعيته وحكمه: وهو مشروع عند تلاوة الآيات التي وردت فيها السجدات واستماعها.
قال ابن عمررضي الله عنهما: (كان النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقرأ علينا السورة فيها السجدة فيسجد ونسجد معه، حتى ما يجد أحدنا موضعاً لجبهته) (1)، وهو سنة على الصحيح، وليس بواجب، فقد قرأ زيد ابن ثابت على النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - "والنجم"، فلم يسجد فيها (2). فدل على عدم الوجوب.
ويشرع سجود التلاوة في حق القارئ والمستمع، إذا قرأ آية سجدة في الصلاة أو خارجها؛ لفعله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ذلك عندما كان يقرأ السجدة، ولسجود الصحابة معه كما مرّ في حديث ابن عمر: (فيسجد ونسجد معه). والدليل على مشروعيته في الصلاة: ما رواه البخاري ومسلم عن أبي رافع قال: صليت مع أبي هريرة العتمة، فقرأ (إذا السماء انشقت) فسجد، فقلت: ما هذه؟ قال: سجدت بها خلف أبي القاسم - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فلا أزال أسجد فيها حتى ألقاه (3).
فإذا لم يسجد القارئ لا يسجد المستمع؛ لأن المستمع تبع فيها للقارئ، ولحديث زيد بن ثابت المتقدم، فإن زيداً لم يسجد، فلم يسجد النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
2 - فضله: عن أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: (إذا قرأ ابن آدم السجدة فسجد اعتزل الشيطان يبكي، يقول: ياويله، أُمر ابن آدم بالسجود فسجد، فله الجنة، وأمرت بالسجود فأبيت، فلي النار) (4).
__________
(1) متفق عليه: رواه البخاري برقم (1076)، ومسلم برقم (575).
(2) أخرجه البخاري برقم (1073).
(3) أخرجه البخاري برقم (1078)، ومسلم برقم (578) واللفظ للبخاري.
(4) رواه مسلم برقم (81).

(1/72)


3 - صفته وكيفيته: يسجد سجدة واحدة، ويكبِّر إذا سجد، ويقول في سجوده: (سبحان ربي الأعلى) كما يقول في سجود الصلاة، ويقول أيضاً: (سبحانك اللهم ربنا وبحمدك، اللهم اغفر لي)، وإن قال: (سجد وجهي للذي خلقه، وشقَّ سمعه وبصره بحوله وقوته) (1) فلا بأس.
4 - مواضع سجود التلاوة في القرآن:
مواضع سجود القرآن الكريم خمسة عشر موضعاً، وهي على الترتيب:
1 - آخر سورة الأعراف (آية رقم 206).
2 - سورة الرعد (آية رقم 15).
3 - سورة النحل (آية 49 - 50).
4 - سورة الإسراء (آية 107 - 109).
5 - سورة مريم (آية 58).
6 - أول سورة الحج (آية 18).
7 - آخر سورة الحج (آية 77).
8 - سورة الفرقان (آية 73).
9 - سورة النمل (آية 25 - 26).
10 - سورة السجدة (آية 15).
11 - سورة فصلت (آية 37 - 38).
12 - آخر سورة النجم (آية 62).
13 - سورة الانشقاق (آية 20 - 21).
14 - آخر سورة العلق (آية 19).
والخامسة عشرة: هي سجدة سورة (ص)، وهي سجدة شكر، فعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: (ليست "ص" من عزائم السجود، وقد رأيت النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يسجد فيها) (2).
__________
(1) أخرجه الترمذي برقم (585)، وقال: حسن صحيح، وصححه الألباني (صحيح الترمذي برقم 474).
(2) أخرجه البخاري برقم (1069).

(1/73)


المسألة السادسة: سجود الشكر:
يستحب لمن وردت عليه نعمة، أو دُفعت عنه نقمة، أو بُشَرَ بما يَسُرُّه، أن يَخِرَّ ساجداً لله؛ اقتداء بالنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. ولا يشترط فيها استقبال القبلة، ولكن إن استقبلها فهو أفضل.
وقد كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يفعله، فعن أبي بكرة: (أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان إذا أتاه أمر يسره -أو يُسَرُّ به- خر ساجداً شكراً لله تبارك وتعالى) (1)، وكذا فعله الصحابة رضوان الله عليهم.
وحكم هذا السجود حكم سجود التلاوة، وكذا صفته وكيفيته.
__________
(1) أخرجه أبو داود برقم (2774)، والترمذي برقم (1578)، وابن ماجه برقم (1394)، وقال الترمذي: هذا حديث حسن غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه، وحسنه الألباني في الإرواء (2/ 226).

(1/74)


الباب السابع: في صلاة الجماعة، وفيه مسائل:
المسألة الأولى: فضل صلاة الجماعة وحكمها:
1 - فضلها: صلاة الجماعة في المساجد شعيرة عظيمة من شعائر الإسلام.
واتفق المسلمون على أن أداء الصلوات الخمس في المساجد من أعظم الطاعات، فقد شرع الله لهذه الأمة الاجتماع في أوقات معلومة، منها الصلوات الخمس، وصلاة الجمعة، وصلاة العيدين، وصلاة الكسوف. وأعظم الاجتماعات وأهمها الاجتماع بعرفة، الذي يشير إلى وحدة الأمة الإسلامية في عقائدها وعباداتها وشعائر دينها، وشرعت هذه الاجتماعات العظيمة في الإسلام لأجل مصالح المسلمين؛ ففيها التواصل بينهم، وتفقُد بعضهم أحوال بعض، وغير ذلك مما يهم الأمة الإسلامية على اختلاف شعوبها وقبائلها، كما قال تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ) [الحجرات: 13].
وقد حثَّ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عليها، وبيَّن فضلها وعظيم أجرها، فقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (صلاة الجماعة أفضل من صلاة الفذ -يعني الفرد- بسبع وعشرين درجة) (1). وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (صلاة الرجل في الجماعة تضعَّف على صلاته في بيته وفي سوقه خمساً وعشرين ضعفاً؛ وذلك أنه إذا توضأ فأحسن الوضوء، ثم خرج إلى المسجد، لا يخرجه إلا الصلاة، لم يَخْطُ خطوة إلا رفعت له بها درجة، وحط عنه بها خطيئة، فإذا صلى لم تزل الملائكة تصلي عليه، ما دام في مصلاه ... ) (2) الحديث.
2 - حكمها: صلاة الجماعة واجبة في الصلوات الخمس، وقد دل على وجوبها الكتاب والسنة، فمن الكتاب: قوله تعالى: (وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلَاةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ) [النساء: 102]. والأمر للوجوب وإذا كان ذلك
__________
(1) أخرجه البخاري برقم (645، 646)، ومسلم برقم (650).
(2) أخرجه البخاري برقم (647).

(1/75)


مع الخوف فمع الأمن أولى.
ومن السنة: حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (أثقل الصلاة على المنافقين صلاة العشاء وصلاة الفجر، ولو يعلمون ما فيهما لأتوهما، ولو حبواً، ولقد هممت أن آمر بالصلاة فتقام ثم آمر رجلاً يصلي بالناس، ثم أنطلق معي برجال معهم حزم من حطب إلى قوم لا يشهدون الصلاة فأحرق عليهم بيوتهم بالنار) (1)، فدلَّ الحديث على وجوب صلاة الجماعة، وذلك لأنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أولاً: وصف المتخلفين عنها بالنفاق، والمتخلف عن السنة لا يعد منافقاً، فدل على أنهم تخلفوا عن واجب. ثانياً: أنه هَم بعقوبتهم على التخلف عنها، والعقوبة إنما تكون على ترك واجب، وإنما منعه من تنفيذ العقوبة أنه لا يعاقب بالنار إلا الله عز وجل. وقيل: منعه من ذلك مَنْ في البيوت من النساء والذرية الذين لا تجب عليهم صلاة الجماعة.
ومنها: أن رجلا كفيف البصر ليس له قائد، استأذن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن يصلي في بيته فقال: (أتسمع النداء؟). قال: نعم. قال: (أجب لا أجد لك رخصة) (2)، ولقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (من سمع النداء فلم يجب، فلا صلاة له إلا من عذر) (3)، ولقول ابن مسعود - رضي الله عنه -: (لقد رأيتنا وما يتخلف عنها إلا منافق معلوم النفاق) (4).
وهي واجبة على الرجال دون النساء والصبيان غير البالغين، لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في حق النساء: (وبيوتهن خير لهن) (5). ولا مانع من حضور النساء الجماعة في المسجد، مع التستر والصيانة وأمن الفتنة، بإذن الزوج. وتجب الجماعة في
__________
(1) متفق عليه: رواه البخاري برقم (644)، ومسلم برقم (651).
(2) رواه مسلم برقم (653).
(3) أخرجه أبو داود برقم (551)، وابن ماجه برقم (793)، والحاكم (1/ 245). وصححه الحاكم على شرط الشيخين، وصححه الألباني (صحيح ابن ماجه رقم (645).
(4) رواه مسلم برقم (654).
(5) أخرجه أبو داود برقم (567)، وأحمد (2/ 76)، والحاكم (1/ 209)، وصححه الحاكم، ووافقه الذهبي وصححه الألباني (الإرواء برقم 515).

(1/76)


المسجد على من تلزمه، على الصحيح.
ومن ترك الجماعة وصلى وحده بلا عذر صحت صلاته، لكنه آثم لترك الواجب.

المسألة الثانية: إذا دخل الرجل المسجد وقد صلى: هل يجب عليه أن يصلي مع الجماعة الصلاة التي قد صلاها أولا؟
لا تجب عليه إعادتها مع الجماعة، وإنما يسن له ذلك، والأولى فرض والثانية نافلة. لحديث أبي ذر: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (كيف أنت إذا كان عليك أمراء يؤخرون الصلاة عن وقتها أو يميتون الصلاة عن وقتها). قلت فما تأمرني؟ قال: (صَلّ الصلاة لوقتها، فإن أدركتها معهم فصلّ؛ فإنها لك نافلة) (1). ولقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - للرجلين اللذين اعتزلا صلاة الجماعة في المسجد: (إذا صليتما في رحالكما، ثم أتيتما مسجد جماعة فَصَلِّيَا معهم، فإنها لكما نافلة) (2).

المسألة الثالثة: أقل ما تنعقد به الجماعة:
أقل الجماعة اثنان بلا خلاف. لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لمالك بن الحويرث: (إذا حضرت الصلاة فأذِّنا، ثم أقيما، وليؤمكما أكبركما) (3).

المسألة الرابعة: بم تُدرك الجماعة؟
تدرك الجماعة بإدراك ركعة من الصلاة، ومن أدرك الركوع غير شاك أدرك الركعة، واطمأن، ثم تابع. لحديث أبي هريرة: (إذا جئتم إلى الصلاة ونحن سجود فاسجدوا، ولا تعدوها شيئاً ومن أدرك ركعة فقد أدرك الصلاة) (4).
__________
(1) رواه مسلم برقم (648).
(2) أخرجه أبو داود برقم (575، 576)، والترمذي برقم (219)، والنسائي (2/ 112). قال الترمذي: حسن صحيح. وصححه الألباني (صحيح الترمذي رقم 181).
(3) رواه البخاري برقم (658)، ومسلم برقم (674) - 293.
(4) أخرجه أبو داود برقم (875)، وابن ماجه برقم (468)، وصححه الألباني (الإرواء برقم 496).

(1/77)


المسألة الخامسة: من يعذر بترك الجماعة:
يعذر المسلم بترك الجماعة في الأحوال التالية:
1 - المريض مرضاً يلحقه منه مشقة لو ذهب إلى الجماعة، لقوله تعالى: (لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ) [الفتح: 17]، ولأنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لما مرض تخلف عن المسجد، وقال: (مروا أبا بكر فليصل بالناس) (1)، ولقول عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه -: (ولقد رأيتنا وما يتخلف عنها إلا منافق قد علم نفاقه، أو مريض) (2). وكذلك الخائف حدوث المرض؛ لأنه في معناه.
2 - المدافع أحد الأخبثين أو من بحضرة طعام محتاج إليه؛ لحديث عائشة مرفوعاً: (لا صلاة بحضرة طعام، ولا وهو يدافع الأخبثين) (3).
3 - من له ضائع يرجوه أو يخاف ضياع ماله أو قوته أو ضرراً فيه؛ لحديث ابن عباس مرفوعاً: (من سمع النداء فلم يمنعه من اتباعه عذر -قالوا: فما العذر يا رسول الله؟ قال: خوف أو مرض- لم يقبل الله منه الصلاة التي صلى) (4).
وكذا كل خائف على نفسه أو ماله أو أهله وولده، فإنه يعذر بترك الجماعة؛ فإن الخوف عذر.
4 - حصول الأذى بمطر ووحل وثلج وجليد، أو ريح باردة شديدة بليلة مظلمة. لحديث ابن عمر رضي الله عنهما قال: (كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يأمر المؤذن، إذا كانت ليلة باردة ذات مطر، يقول: ألا صَلُّوا في الرِّحال) (5).
5 - حصول المشقة بتطويل الإمام، لأن رجلاً صلى مع معاذ، ثم انفرد، فصلى وحده لما طَوَّل معاذ، فلم ينكر عليه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حين أخبره (6).
__________
(1) متفق عليه: رواه البخاري برقم (713)، ومسلم برقم (418).
(2) أخرجه مسلم برقم (654).
(3) رواه مسلم برقم (560).
(4) رواه أبو داود برقم (551)، وهو ضعيف بهذا اللفظ، لكنه صحيح بلفظ: (من سمع النداء فلم يأته، فلا صلاة له إلا من عذر) (الإرواء 2/ 336 - 337).
(5) متفق عليه: رواه البخاري برقم (632)، ومسلم برقم (697). واللفظ لمسلم.
(6) انظر: صحيح مسلم برقم (465).

(1/78)


6 - خوف فوات الرفقة في السفر؛ لما في ذلك من انشغال قلبه إذا انتظر الجماعة، أو دخل فيها، مخافة ضياع وفوات رفقته.
7 - الخوف من موت قريبه وهو غير حاضر معه، كأن يكون قريبه في سياق الموت، وأحب أن يكون معه يلقنه الشهادة ونحو ذلك، فيعذر بترك الجماعة لأجل ذلك.
8 - ملازمة غريم له، ولا شيء معه يقضيه، فله ترك الجماعة لما يلحقه من الأذية بمطالبة الغريم، وملازمته إياه.

المسألة السادسة: إعادة الجماعة في المسجد الواحد:
إذا تأخر البعض عن حضور جماعة المسجد مع الإمام الراتب، وفاتتهم الصلاة، فيصح أن يصلوا جماعة ثانية في المسجد نفسه؛ لعموم قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (صلاة الرجل مع الرجل أزكى من صلاته وحده ... ) (1) الحديث، ولقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - للرجل الذي حضر إلى المسجد بعد انتهاء صلاة الجماعة: (من يتصدق على هذا فيصلي معه؟) فقام أحد القوم، فصلى مع الرجل (2).
وكذلك إذا كان المسجد مسجد سوق أو طريق وما أشبه ذلك، فلا بأس بإعادة الجماعة فيه، وبخاصة إذا لم يكن لهذا المسجد إمام راتب، ويتردد عليه أهل السوق والمارة.
أما إذا كان المسجد فيه جماعتان أو أكثر دائماً وعلى نحو مستمر، واتخذ الناس ذلك عادة، فإنه لا يجوز؛ إذ لم يعرف ذلك في زمن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأصحابه، ولما فيه من تفرُّق الكلمة، والدعوة للكسل والتواني عن حضور الجماعة الأم مع الإمام الراتب، وربما كان ذلك مدعاة لتأخير الصلاة عن أول وقتها.
__________
(1) أخرجه أبو داود برقم (554)، والنسائي (2/ 104)، وأحمد (5/ 140)، والحاكم (1/ 247). وصححه الحاكم. وذكر ابن حجر في التلخيص الحبير (2/ 26). تصحيح ابن السكن والعقيلي والحاكم وابن المديني له.
(2) أخرجه الترمذي برقم (220) وأحمد (3/ 5). وحسنه الترمذي، وصححه الألباني (صحيح الترمذي برقم 182).

(1/79)


المسألة السابعة: حكم الصلاة إذا أقيمت الصلاة المكتوبة:
إذا شرع المؤذن في الإقامة لصلاة الفريضة، فلا يجوز لأحد أن يببتدئ صلاة نافلة، فيتشاغل بنافلة يقيمها وحده عن أداء فريضة تقيمها الجماعة؛ وذلك لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (إذا أقيمت الصلاة فلا صلاة إلا المكتوبة) (1). ورأى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رجلاً يصلي والمؤذن يقيم لصلاة الصبح، فقال له: (أتصلي الصبح أربعاً؟!) (2).
أما إذا شَرَعَ المؤذن في الإقامة بعد شروع المتنفل في صلاته، فإنه يتمها خفيفة لإدراك فضيلة تكبيرة الإحرام، والمبادرة إلى الدخول في الفريضة.
وذهب بعض أهل العلم: إلى أنه إن كان في الركعة الأولى فإنه يقطعها، وإن كان في الركعة الثانية فإنه يتمها خفيفة، ويلحق بالجماعة.
__________
(1) أخرجه مسلم برقم (710).
(2) أخرجه مسلم (711) - 66.

(1/80)


الباب الثامن: في الإمامة في الصلاة، وفيه مسائل:
والمقصود بالإمامة: ارتباط صلاة المؤتم بإمامه.

المسألة الأولى: من أحق بالإمامة؟
بَيَّنَ الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الأحق بالإمامة والأولى بها في قوله: (يؤمُّ القوم أقرؤهم لكتاب الله، فإن كانوا في القراءة سواء فأعلمهم بالسنة، فإن كانوا في السنة سواء فأقدمهم هجرة، فإن كانوا في الهجرة سواء فأقدمهم سِلْماً) (1). فأولى الناس وأحقهم بالإمامة يكون على النحو التالي:
1 - أجودهم قراءة، وهو الذي يتقن قراءة القرآن، ويأتي بها على أكمل وجه، العالم بفقه الصلاة، فإذا اجتمع من هو أجود قراءة ومن هو أقل قراءة منه لكنه أفقه، قُدِّم القارئ الأفقه على الأقرأ غير الفقيه، فالحاجة إلى الفقه في الصلاة وأحكامها أشد من الحاجة إلى إجادة القراءة.
2 - ثم الأفقه الأعلم بالسنة، فإذا اجتمع إمامان متساويان في القراءة، لكن أحدهما أفقه وأعلم بالسُّنَّة، قُدِّم الأفقه، لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (فإن كانوا في القراءة سواء فأعلمهم بالسنة).
3 - ثم الأقدم والأسبق هجرة من بلاد الكفر إلى بلاد الإسلام، إذا كانوا في القراءة والعلم بالسنة سواء.
4 - ثم الأقدم إسلاماً، إذا كانوا في الهجرة سواء.
5 - ثم الأكبر سناً، إذا استويا في الأمور الماضية كلها، قُدِّم الأكبر سناً، لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في الحديث الماضي: (فإن كانوا في الهجرة سواء فأقدمهم سلماً -وفي رواية: سناً-). ولقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (وليؤمكم أكبركم).
فإذا استويا في جميع ما سبق قُرع بينهما، فمن غلب في القرعة قُدِّم.
وصاحب البيت أحق بالإمامة من ضيفه، لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (لا يؤمَّنَّ الرجلُ
__________
(1) رواه مسلم برقم (673). وسلماً: يعني إسلاماً.

(1/81)


الرجلَ في أهله ولا في سلطانه) (1). وكذا السلطان أحق بالإمامة من غيره -وهو الإمام الأعظم- لعموم الحديث الماضي قبل قليل، وكذلك إمام المسجد الراتب أولى من غيره -إلا من السلطان- حتى وإن كان غيره أقرأ منه وأعلم؛ لعموم قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (لا يؤمَّنَّ الرجلُ الرجلَ في أهله ولا في سلطانه).

المسألة الثانية: من تحرم إمامته:
تحرم الإمامة في الحالات الآتية:
1 - إمامة المرأة بالرجل، لعموم قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (لن يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة) (2). ولأن الأصل تأخرها في آخر الصفوف صيانة لها وسترا، فلو قُدمت للإمامة لأصبح ذلك مخالفاً لهذا الأصل الشرعي.
2 - إمامة المُحْدِث ومن عليه نجاسة، وهو يعلم ذلك، فإن لم يعلم بذلك المأمومون حتى انقضت الصلاة، فصلاتهم صحيحة.
3 - إمامة الأُميِّ، وهو مَنْ لا يحسن الفاتحة، فلا يقرؤها حفظاً ولا تلاوة، أو يدغم فيها من الحروف ما لا يدغم، أو يبدل فيها حرفاً بحرف، أو يلحن فيها لحناً يحيل المعنى، فهذا لا تصح إمامته إلا بمثله لعجزه عن ركن الصلاة.
4 - إمامة الفاسق المبتدع، لا تصح الصلاة خلفه إذا كان فسقه ظاهراً، ويدعو إلى بدعة مكفرة لقوله تعالى: (أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِنًا كَمَنْ كَانَ فَاسِقًا لَا يَسْتَوُونَ) [السجدة: 18].
5 - العاجز عن الركوع والسجود والقيام والقعود، فلا تصح إمامته لمن هو أقدر منه على هذه الأمور.

المسألة الثالثة: من تكره إمامته:
وتكره إمامة كلٍّ من:
1 - اللَّحَّان: وهو كثير اللَّحْن والخطأ في القراءة، وهذا في غير الفاتحة، أما
__________
(1) رواه مسلم برقم (673).
(2) أخرجه البخاري برقم (4425).

(1/82)


اللحن في الفاتحة بما يحيل المعنى فلا تصح معه الصلاة، كما مضى، وذلك لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (يؤم القوم أقرؤهم).
2 - من أمَّ قوماً وهم له كارهون، أو يكرهه أكثرهم، لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (ثلاثة لا ترتفع صلاتهم فوق رؤوسهم شبراً: رجل أمَّ قوماً وهم له كارهون ... ) (1). الحديث.
3 - من يخفي بعض الحروف، ولا يفصح، وكذا من يكرر بعض الحروف، كالفأفاء الذي يكرر الفاء، والتمتام الذي يكرر التاء وغيرهما، وذلك من أجل زيادة الحرف في القراءة.

المسألة الرابعة: موضع الإمام من المأمومين:
السنة تقدُّم الإمام على المأمومين، فيقفون خلف الإمام إذا كانوا اثنين فأكثر؛ لأنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان إذا قام إلى الصلاة تقدم وقام أصحابه خلفه. ولمسلم وأبي داود: (أن جابراً وجباراً وقفا، أحدهما عن يمينه والآخر عن يساره فأخذ بأيديهما حتى أقامهما خلفه) (2)، ولقول أنس - رضي الله عنه - لما صلَّى بهم النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في البيت: (ثم يؤم رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ونقوم خلفه، فيصلي بنا) (3).
ويقف الرجل الواحد عن يمين الإمام محاذياً له: (لأنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أدار ابن عباس وجابراً إلى يمينه لما وقفا عن يساره) (4). ويصح وقوف الإمام وسط المأمومين؛ لأن ابن مسعود صلى بين علقمة والأسود، وقال: (هكذا رأيت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فعل) (5)، لكن يكون ذلك مقيداً بحال الضرورة، ويكون الأفضل: هو الوقوف خلف الإمام. وتكون النساء خلف صفوف الرجال؛ لحديث أنس - رضي الله عنه -: (صففت أنا واليتيم وراءه، والعجوز من ورائنا) (6).
__________
(1) أخرجه ابن ماجه برقم (971). وصحح البوصيري إسناده في الزوائد، وحسنه النووي في المجموع (4/ 154)، وحسنه الألباني (صحيح ابن ماجه رقم 792).
(2) رواه مسلم برقم (3010).
(3) أخرجه مسلم برقم (659).
(4) رواه مسلم برقم (3010).
(5) رواه أبو داود برقم (613) وهو صحيح، انظر إرواء الغليل (2/ 319).
(6) أخرجه مسلم برقم (658).

(1/83)


المسألة الخامسة: ما يتحمله الإمام عن المأموم:
يتحمل الإمام عن المأموم القراءة في الصلاة الجهرية، لحديث أبي هريرة مرفوعاً: (وإذا قرأ فأنصتوا) (1). ولقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (من كان له إمام فقراءته له قراءة) (2). أما في السرية فإن الإمام لا يتحمل قراءة الفاتحة عن المأموم.

المسألة السادسة: مسابقة الإمام:
لا يجوز للمأموم مسابقة إمامه، فمن أحرم قبل إمامه لم تنعقد صلاته؛ لأن شرطه أن يأتي بها بعد إمامه وقد فاته. وعلى المأموم أن يشرع في أفعال الصلاة بعد إمامه؛ لحديث: (إنما جعل الإمام ليؤتم به، فإذا كبر فكبروا، وإذا ركع فاركعوا وإذا قال: سمع الله لمن حمده فقولوا: ربنا ولك الحمد، وإذا سجد فاسجدوا) (3).
فإن وافقه فيها أو في السلام كره لمخالفته السنة، ولم تفسد صلاته؛ لأنه اجتمع معه في الركن. وإن سبقه حرم؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (لا تسبقوني بالركوع ولا بالسجود ولا بالقيام) (4). والنهي يقتضي التحريم. وعن أبي هريرة مرفوعاً: (أما يخشى الذي يرفع رأسه قبل الإمام أن يحول الله رأسه رأس حمار؟) (5).

المسألة السابعة: أحكام متفرقة في الإمامة والجماعة:
ومن الأحكام المتعلقة بالإمامة والجماعة غير ما تقدَّم:
1 - استحباب قرب أولي الأحلام والنهى من الإمام: فيقدم أولو الفضل
__________
(1) رواه الخمسة إلا الترمذي: أبو داود برقم (604)، والنسائي (1/ 146)، وابن ماجه برقم (846)، وأحمد (2/ 420)، وقال الألباني: حسن صحيح. (صحيح سنن النسائي برقم 882، 883). وهو جزء من حديث أوله: (إنما جعل الإمام ليؤتم به ... ).
(2) رواه أحمد (3/ 339)، وابن ماجه برقم (850). وحسنه الألباني (الإرواء برقم 500).
(3) متفق عليه: رواه البخاري برقم (389)، ومسلم برقم (411).
(4) رواه مسلم برقم (416).
(5) متفق عليه: رواه البخاري برقم (691)، ومسلم برقم (427).

(1/84)


والعقل والحلم والأناة خلف الإمام وقريباً منه، لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (ليلني منكم أولو
الأحلام والنُّهى، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم) (1).
والحكمة في ذلك: أن يأخذوا عن الإمام، ويفتحوا عليه في القراءة إذا احتاج إلى ذلك، ويستخلف منهم من شاء إذا نابه شيء في الصلاة.
2 - الحرص على الصف الأول: يستحب للمأمومين أن يتقدموا إلى الصف الأول ويحرصوا عليه ويحذروا من التأخر؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (تقدموا فأتموا بي، وليأتم بكم من بعدكم، لا يزال قوم يتأخرون حتى يؤخرهم الله) (2)، وقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (لو يعلم الناس ما في النداء والصف الأول، ثم لم يجدوا إلا أن يستهموا عليه لاستهموا) (3).
أما النساء فيستحب أن يَكُنَّ في الصفوف المتأخرة، لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (خير صفوف الرجال أولها وشرها آخرها، وخير صفوف النساء آخرها، وشرها أولها) (4).
3 - تسوية الصفوف والتراص فيها، وسد الفرج، وإتمام الصف الأول فالأول: يستحب للإمام أن يأمر بتسوية الصفوف وسد الفرج قبل الدخول في الصلاة، لفعله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ذلك، ولقوله. (سووا صفوفكم فإن تسوية الصفوف من تمام الصلاة) (5). وعن أنس - رضي الله عنه - قال: أقيمت الصلاة فأقبل علينا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بوجهه فقال: (أقيموا صفوفكم وتراصُّوا، فإني أراكم من وراء ظهري) (6). وقال أنس - رضي الله عنه -: (كان أحدنا يلزق منكبه بمنكب صاحبه وقدمه بقدمه) (7).
__________
(1) أخرجه مسلم برقم (432).
(2) رواه مسلم برقم (438).
(3) أخرجه مسلم برقم (437).
(4) أخرجه مسلم برقم (440).
(5) أخرجه مسلم برقم (433).
(6) أخرجه البخارى برقم (719).
(7) صحيح البخاري برقم (725).

(1/85)


ويستحب إتمام الصف الأول فالذي يليه، فإذا كان نقص فليكن في آخر الصفوف؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (ألا تصفُّون كما تصف الملائكة عند ربها؟) فقلنا: يا رسول الله، وكيف تصف الملائكة عند ربها؟ قال: (يتمون الصفوف الأُول، ويتراصون في الصف) (1).
4 - صلاة المنفرد خلف الصف: لا تصح صلاة الرجل وحده منفرداً خلف الصف، لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (لا صلاة لمنفرد خلف الصف) (2). ورأى رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلاً يصلي وحده خلف الصف، فأمره أن يعيد الصلاة (3).
__________
(1) أخرجه مسلم برقم (430).
(2) أخرجه أحمد (4/ 23)، وابن ماجه برقم (1003)، وحسنه الإمام أحمد، وصحح البوصيري إسناده في زوائد ابن ماجه، وصححه الألباني (صحيح ابن ماجه 822).
(3) أخرجه أحمد (4/ 228)، وأبو داود برقم (682)، والترمذي برقم (230)، وابن ماجه برقم (1004). وحسنه الترمذي. وصححه أحمد شاكر في حواشي الترمذي (1/ 448 - 450). وصححه الألباني (صحيح الترمذي رقم 191).

(1/86)


الباب التاسع: في صلاة أهل الأعذار
أهل الأعذار: هم المرضى والمسافرون والخائفون الذين لا يتمكنون من أداء الصلاة، على الصفة التي يؤديها غير المعذور، فقد خفف الشارع عنهم، فيصلون حسب استطاعتهم. قال الله تعالى: (وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ) [الحج: 78]. وقال تعالى: (لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا) [البقرة: 286]. وقال تعالى: (فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ) [التغابن: 16]. فكلما وُجدت المشقة وُجد التيسير.

أ- كيفية صلاة المريض
والمريض: هو الذي اعتلت صحة بدنه، سواء كان ذلك كلياً أو جزئياً.
ويلزم المريض أن يصلي المكتوبة قائماً على أيّ صفة كان، ولو على هيئة الراكع لمن بظهره مرض لا يستطيع أن يمد ظهره، أو مستنداً إلى جدار أو عمود أو على عصا؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم (1). فإن لم يستطع فقاعداً، فإن لم يستطع فعلى جنبه؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لعمران بن حصين: (صل قائماً، فإن لم تستطع فقاعداً، فإن لم تستطع فعلى جنب) (2). فإن عجز عن ذلك كله صلى على حسب حاله لقوله تعالى: (فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ) [التغابن: 16]. ولا تسقط الصلاة عن المريض ما دام عقله ثابتاً، حتى لو صَلَّاها بالإيماء؛ لقدرته على ذلك مع النية.
ويومئ المريض المصلي جالساً في الركوع والسجود برأسه إيماءً، ويجعل السجود أخفض من الركوع، فإذا عجز عن الإيماء برأسه أومأ بعينه.
__________
(1) متفق عليه: رواه البخاري (9/ 117)، ومسلم برقم (1337).
(2) رواه البخاري برقم (1117).

(1/87)


ب- صلاة المسافر وتشتمل على:
أولاً: قصر الصلاة الرباعية، وفيه مسائل:
المسألة الأولى: في حكم القصر:
لا خلاف بين أهل العلم في مشروعية قصر الصلاة الرباعية للمسافر، ودليل ذلك: القرآن والسنة والإجماع، أما القرآن: فقوله تعالى: (وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا) [النساء: 101].
والقصر جائز في السفر في حال الخوف وغيره، فقد قال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لما سئل عن القصر وقد أمن الناس: (صدقة تصدَّق الله بها عليكم، فاقبلوا صدقته) (1)، ولأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وخلفاءه داوموا عليه. فعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: (إني صحبت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في السفر فلم يزد على ركعتين حتى قبضه الله، وصحبت أبا بكر فلم يزد على ركعتين حتى قبضه الله ... ) (2). ثم ذكر عمر وعثمان رضي الله عنهم. وروى أحمد عن ابن عمر مرفوعاً: (إن الله يحب أن تُؤتى رخصه، كما يكره أن تؤتى معصيته) (3).
وأما الإجماع: فالقصر من الأمور المعلومة من الدين بالضرورة، وقد أجمعت عليه الأمة. وعلى هذا: فالمحافظة على هذه السنة والأخذ بهذه الرخصة أولى وأفضل من تركها، بل كره بعض أهل العلم الإتمام في السفر؛ وذلك لشدة مداومة النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأصحابه على هذه السنة، وأن ذلك كان هديه المستمر الدائم.

المسألة الثانية: في تحديد الصلاة التي يجوز فيها القصر:
الصلاة التي يجوز فيها القصر هي الصلاة الرباعية، وهي صلاة الظهر والعصر
__________
(1) رواه مسلم برقم (686).
(2) رواه مسلم برقم (689).
(3) رواه أحمد برقم (5832)، وصححه الشيخ الألباني (الإرواء برقم 564).

(1/88)


والعشاء، ولا تقصر صلاة الصبح ولا المغرب إجماعاً؛ لفعله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأصحابه من بعده، ولقول عبد الله بن عباس رضي الله عنهما: (فرض الله الصلاة على لسان نبيكم في الحضر أربعاً، وفي السفر ركعتين ... ) (1). فدلَّ على أن الرباعية هي المقصودة.

المسألة الثالثة: في حد السفر الذي تقصر فيه الصلاة ونوعه:
حد السفر الذي تقصر فيه الصلاة ستة عشر فرسخاً تقريباً، وهي أربعة بُرُد، وبالأميال ثمانية وأربعون ميلاً، وهو ما يقارب ثمانين كيلو متراً. وهي يومان قاصدان في زمن معتدل بسير الأثقال ودبيب الأقدام. وسمى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يوماً وليلة سفراً (2). وكان ابن عباس وابن عمر يقصران ويفطران في أربعة برد، وهي ستة عشر فرسخاً.
وأما نوعه: فهو السفر المباح؛ كالسفر للتجارة والنزهة، والسفر الواجب؛ كالسفر للحج والجهاد، والسفر المسنون المستحب؛ كالسفر للزيارة، والسفر للمرة الثانية في الحج، وعلى هذا فالسفر المحرم لا يجوز فيه القصر، على رأي كثير من العلماء.

المسألة الرابعة: هل يقصر من نوى الإقامة؟
من نوى الإقامة يحتاج إلى تفصيل، وبيان ذلك: أنه إن نوى الإقامة المطلقة لم يقصر؛ لانعدام السبب المبيح للقصر في حقه. كذلك إن نوى الإقامة أكثر من أربعة أيام، أو أقام لحاجة وظن ألَّا تنقضي إلا بعد الأربعة؛ (لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أقام بمكة فصلى بها إحدى وعشرين صلاة يقصر فيها، وذلك أنه قدم صبح رابعة، فأقام إلى يوم التروية، فصلى الصبح، ثم خرج). فمن أقام أربعة
__________
(1) أخرجه مسلم برقم (687).
(2) وذلك في قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تسافر مسيرة يوم وليلة ليس معها حرمة). رواه البخاري برقم (1088) واللفظ له، ومسلم برقم (1339) - 421.

(1/89)


أيام أو أقل مثل إقامته - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قصر ومن زاد أتم. ذكره الإمام أحمد (1). قال أنس: (أقمنا بمكة عشراً نقصر الصلاة). ومعناه ما ذكرنا، لأنه حسب خروجه إلى منى وعرفة وما بعده من العشر. ويقصر إن أقام لحاجة بلا نية الإقامة فوق أربعة أيام، ولا يدري: متى تنقضي؛ أو حبس ظلماً أو بمطر ولو أقام سنين. قال ابن المنذر: أجمعوا على أن المسافر يقصر ما لم يُجْمع إقامة.

المسألة الخامسة: الحالات التي يجب على المسافر فيها إتمام الصلاة:
هناك صور وحالات تستثنى من جواز القصر في السفر، منها:
1 - إذا ائتم المسافر بمقيم: فيلزمه الإتمام، لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (إنما جعل الإمام ليؤتم به) (2)، ولقول ابن عباس رضي الله عنهما لما سئل عن الإتمام خلف المقيم: (تلك سُنَّة أبي القاسم - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) (3).
2 - إذا ائتم بمن يشك فيه هل هو مسافر أو مقيم: فإذا دخل في الصلاة خلف إمام ولا يدري أهو مسافر أم مقيم -كأن يكون في الطار ونحوه- فإنه يلزمه الإتمام؛ لأن القصر لابد له من نية جازمة، أما مع التردد فإنه يتم.
3 - إذا ذكر صلاة حضر في السفر: كرجل مسافر، وفي أثناء سفره تذكر أنه صلى الظهر في بلده بغير وضوء أو تذكر صلاة فائتة في الحضر، هنا يلزمه أن يصليها تامة؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (من نام عن صلاة أو نسيها فليصلها إذا ذكرها) (4).
يعني: يصليها كما هي؛ ولأن هذه الصلاة لزمته تامة فيجب عليه قضاؤها تامة.
4 - إذا أحرم المسافر بصلاة يلزمه إتمامها ففسدت وأعادها: كأن يصلي المسافر خلف مقيم فيلزمه في هذه الحالة الإتمام، فإذا فسدت عليه هذه الصلاة، ثم أعادها، لزمه إعادتها تامة؛ لأنها إعادة لصلاة واجبة الإتمام.
__________
(1) انظر: المغني (2/ 134 - 135)، ومجموع فتاوى الشيخ ابن باز - فتاوى الصلاة (ص 458).
(2) سبق تخريجه في ص (84).
(3) رواه أحمد (1/ 216). وصححه الألباني في الإرواء (برقم 571).
(4) أخرجه البخاري برقم (597)، ومسلم برقم (684) - 315.

(1/90)


5 - إذا نوى المسافر الإقامة المطلقة أو الاستيطان: إذا نوى المسافر الإقامة المطلقة في البلد الذي سافر إليه دون أن يقيد ذلك بزمن معين أو عمل معين، وكذلك إذا نوى اتخاذ هذه البلد وطناً له، فإنه يلزمه إتمام الصلاة؛ لأنه قد انقطع حكم السفر في حقه. فإذا قيد السفر بزمن معين ينتهي، أو عمل ينقضي، فإنه مسافر يقصر الصلاة.

ثانياً: الجمع بين الصلاتين، وفيه مسائل:
المسألة الأولى: في مشروعية الجمع بين الصلاتين، ومن يباح له ذلك:
يباح بالسفر الذي تقصر فيه الصلاة الجمع بين الظهر والعصر، والمغرب والعشاء في وقت إحداهما؛ لحديث معاذ: (أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان في غزوة تبوك إذا ارتحل قبل زيغ الشمس أَخَّرَ الظهر حتى يجمعها إلى العصر يصليهما جميعاً، وإذا ارتحل بعد زيغ الشمس صلى الظهر والعصر جميعاً ثم سار. وكان يفعل مثل ذلك في المغرب والعشاء) (1). وسواء أكان سائراً أم نازلاً؛ لأنها رخصة من رخص السفر فلم يعتبر فيها وجود السير كسائر رخصه. إلا أن الأفضل للنازل عدم الجمع؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم يجمع بمنى وقد كان نازلاً.
ويباح الجمع لمقيم مريض يلحقه بتركه مشقة؛ لقول ابن عباس: (جمع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بين الظهر والعصر والمغرب والعشاء بالمدينة من غير خوف ولا مطر) وفي رواية (من غير خوف ولا سفر) (2) فلم يبق إلا عذر المرض، ولأنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (أمر المستحاضة بالجمع بين الصلاتين). والاستحاضة نوع من المرض، وقد قيل لابن عباس في الحديث الماضي: لمَ فعل ذلك؟ قال: (كي لا يُحرِجَ أمَّتَه). فمتى لحق الإنسان مشقة وحرج بترك الجمع جاز له الجمع، مريضاً كان
__________
(1) رواه أبو داود برقم (1208)، والترمذي برقم (553)، وقال: حسن غريب. وصححه الألباني (الإرواء برقم 578).
(2) رواهما مسلم برقم (705) 49 - 54.

(1/91)


أو معذوراً بغير المرض، مقيماً كان أو مسافراً. فمن الأعذار التي تبيح الجمع أيضاً غير السفر والمرض:
1 - المطر الكثير الغزير الذي يبل الثياب، ويلحق المكلف بسببه مشقة.
2 - الوحل والطين، وذلك إذا كان يشق على الناس بسببه المشي.
3 - الريح الشديدة الباردة التي تخرج عن العادة، وغير ذلك من الأعذار التي يلحق بالمكلف مشقة إذا ترك الجمع معها.

المسألة الثانية: في حد الجمع المشروع:
وحدّ الجمع المشروع هو الجمع بين صلاة الظهر والعصر، والمغرب والعشاء بالنسبة للمسافر ومن في حكمه، وكذا الجمع في الحضر بسبب المطر وما في حكمه، فيجوز بين العشاءين والظهرين (1)؛ لحديث ابن عباس الماضي قبل قليل، وقد فعله أبو بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم، ولأن العلة من الجمع بين العشاءين وجود المشقة، وهي في الظهرين أيضاً.
__________
(1) العشاءان: المغرب والعشاء، والظهران: الظهر والعصر، وقد أطلق اسم أحدهما على الآخر تغليباً.

(1/92)


الباب العاشر: في صلاة الجمعة، وفيه مسائل:
المسألة الأولى: حكمها ودليل ذلك:
الجمعة فرض عين على الرجال، لقوله سبحانه: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ) [الجمعة: 9]. ولقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (رواح الجمعة واجب على كل محتلم) (1). وقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (لينتهين أقوام عن وَدْعهم الجمعات، أو ليختمن الله على قلوبهم، ثم ليكونن من الغافلين) (2).
قال النووي رحمه الله: "فيه أن الجمعة فرض عين" (3). وللحديث الآتي بعد قليل، وفيه: (الجمعة حق واجب على كل مسلم ... ).

المسألة الثانية: على من تجب؟
تجب الجمعة على كل مسلم ذكر حر بالغ عاقل، قادر على إتيانها، مقيم، فلا تجب على: عبد مملوك أو امرأة أو صبي أو مجنون أو مريض أو مسافر؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (الجمعة حق واجب على كل مسلم في جماعة، إلا أربعة عبد مملوك أو امرأة أو صبي أو مريض) (4). وأما المسافر فلا تلزمه الجمعة؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم يكن يصليها في أسفاره، وقد وافق يوم عرفة في حجته جمعة، ومع ذلك صلاها ظهراً وجمع العصر معها. أما المسافر الذي ينزل بلداً تقام فيه الجمعة فإنه يصليها مع المسلمين. وإذا حضرها العبد أو المرأة أو الصبي أو المريض أو المسافر صحت منه، وأجزأته عن صلاة الظهر.

المسألة الثالثة: وقتها:
وقت الجمعة هو وقت الظهر، من بعد الزوال إلى أن يصير ظل الشيء
__________
(1) أخرجه النسائي. (3/ 89) ح 1371 وصححه الألباني (صحيح الجامع رقم 3521).
(2) أخرجه مسلم برقم (865).
(3) شرح النووي على مسلم: (6/ 152).
(4) أخرجه أبو داود برقم (1054)، وصححه الألباني (الإرواء برقم 592).

(1/93)


كطوله؛ لحديث أنس بن مالك - رضي الله عنه - أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يصلي الجمعة حين تميل الشمس (1). وهو المروي عن أصحاب النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من فعلهم (2). وعلى هذا فمن أدرك ركعة منها قبل خروج وقتها فقد أدركها، وإلا صلاها ظهراً؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (من أدرك ركعة من الصلاة فقد أدرك الصلاة). وقد تقدم.

المسألة الرابعة: الخطبة:
الخطبة ركن من أركان الجمعة لا تصح إلا بها؛ لمواظبته - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عليها وعدم تركه لها أبداً، وهما خطبتان، يشترط لصحة صلاة الجمعة أن يتقدما على الصلاة.

المسألة الخامسة: في سنن الخطبة:
ويسن الدعاء للمسلمين بما فيه صلاح دينهم ودنياهم، مع الدعاء لولاة أمور المسلمين بالصلاح والتوفيق؛ لأنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (كان إذا خطب يوم الجمعة دعا، وأشار بأصبعه، وأَمَّنَ الناس)، وأن يتولاهما مع الصلاة واحد، ويرفع صوته بهما حسب الطاقة، وأن يخطب قائماً لقوله تعالى: (وَتَرَكُوكَ قَائِمًا) [الجمعة: 11]. وقال جابر ابن سمرة - رضي الله عنه -: (كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يخطب قائماً ثم يجلس ثم يقوم فيخطب، فمن حدثك أنه يخطب جالساً فقد كذب) (3)، وأن يكون على منبر أو مكان مرتفع؛ لأنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (كان يخطب على منبره). وهو مرتفع، ولأن ذلك أبلغ في الإعلام، وأبلغ في الوعظ. وأن يجلس بين الخطبتين قليلاً؛ لقول ابن عمر رضي الله عنهما: (كان النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يخطب خطبتين وهو قائم يفصل بينهما بجلوس) (4). ويسن قصر الخطبتين، والثانية أقصر من الأولى؛ لحديث عمار
__________
(1) رواه البخاري برقم (904).
(2) انظر: فتح الباري (2/ 450).
(3) رواه مسلم برقم (862).
(4) متفق عليه: البخاري برقم (928)، ومسلم برقم (861).

(1/94)


مرفوعاً: (إن طول صلاة الرجل وقصر خطبته مَئِنَّةٌ من فقهه، فأطيلوا الصلاة، واقصروا الخطبة) (1) والمئنة: العلامة. ويسن أن يسلم الخطيب على المأمومين إذا أقبل عليهم؛ لقول جابر - رضي الله عنه -: (كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا صعد المنبر سلم). ويسن أن يجلس على المنبر إلى فراغ المؤذن؛ لقول ابن عمر رضي الله عنهما: (كان النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يجلس إذا صعد المنبر حتى يفرغ المؤذن ثم يقوم فيخطب). ويسن أن يعتمد الخطيب على عصا ونحوها، ويسن للخطيب أن يقصد تلقاء وجهه لفعله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ذلك.

المسألة السادسة: ما يحرم فعله في الجمعة:
يحرم الكلام والإمام يخطب؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (من تكلم يوم الجمعة والإمام يخطب فهو كالحمار يحمل أسفاراً ... ) (2)، ولقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (إذا قلت لصاحبك أنصت والإمام يخطب فقد لَغَوت) (3) أي: تكلمت باللغو، وهو الكلام الباطل المردود. ويحرم تخطي رقاب الناس أثناء الخطبة؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لرجل رآه يتخطى الرقاب: (اجلس فقد آذيت) (4)، ففيه أذية للمصلين، وإشغال لهم عن سماع الخطبة، أما الإمام فلا بأس بتخطيه الرقاب إن لم يمكنه الوصول إلى مكانه إلا بذلك. ويكره التفريق بين اثنين لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (من اغتسل يوم الجمعة ... ثم راح فلم يفرق بين اثنين فصلَّى ما كتب له ... غُفر له ما بينه وبين الجمعة الأخرى) (5).
__________
(1) رواه مسلم برقم (869).
(2) أخرجه أحمد (1/ 230). وقال ابن حجر في بلوغ المرام: "إسناده لا بأس به" (سبل السلام 2/ 101 - 102 ح 421).
(3) متفق عليه: البخاري برقم (394)، ومسلم برقم (851). وانظر: إرواء الغليل (3/ 84).
(4) أخرجه أبو داود برقم (1118)، والنسائي (3/ 103)، والحاكم (1/ 288)، وصححه ووافقه الذهبي. وصححه الألباني (صحيح ابن ماجه برقم 916).
(5) أخرجه البخاري برقم (910).

(1/95)


المسألة السابعة: بم تدرك الجمعة؟
تدرك الجمعة بإدراك ركعة مع الإمام؛ فعن أبي هريرة مرفوعاً: (من أدرك من الجمعة ركعة فقد أدرك الصلاة) (1). وإن أدرك أقل من ركعة صلى ظهراً.

المسألة الثامنة: في نافلة الجمعة:
ليس لصلاة الجمعة سنة قبلها، ولكن من صلى قبلها نافلة مطلقة قبل دخول وقتها فلا بأس به؛ لترغيب النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في ذلك، كما في حديث سلمان الماضي قبل قليل: (من اغتسل يوم الجمعة ... ثم راح فلم يفرق بين اثنين فصلى ما كتب له)، ولفعل الصحابة رضي الله عنهم، ولأفضلية صلاة النافلة. ولا يُنْكر عليه إذا ترك؛ لأن السنة الراتبة تكون بعد الجمعة بركعتين أو أربع ركعات أو ست ركعات؛ لفعله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأمره، فقد (كان يصلي بعد الجمعة ركعتين) (2). وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (إذا صلى أحدكم الجمعة فليصل بعدها أربع ركعات) (3). وفي رواية: (من كان منكم مصلياً، بعد الجمعة فليصل أربعاً) (4).
وأما الست: فلأنه ورد عن ابن عمر رضي الله عنهما (أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يصلي بعد الجمعة ستاً) (5). وكان ابن عمر يفعله (6).
فتبين من ذلك أن أقل الراتبة بعد الجمعة ركعتان، وأكثرها ست. ويرى شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: أن الراتبة إن صليت في المسجد صليت أربعاً، وإن صليت في البيت صليت ركعتين (7)، فتكون صلاتها على أحوال متنوعة.
__________
(1) رواه ابن ماجه برقم (1121)، وصححه الألباني (صحيح سنن ابن ماجه برقم 927، 928).
(2) متفق عليه: البخاري برقم (937)، ومسلم برقم (882).
(3) رواه مسلم برقم (881).
(4) صحيح مسلم (رقم 881) 69.
(5) الشرح الممتع (4/ 102).
(6) أخرجه أبو داود برقم (1130).
(7) زاد المعاد (1/ 440).

(1/96)


المسألة التاسعة: كيفية صلاة الجمعة:
صلاة الجمعة ركعتان يجهر فيهما بالقراءة؛ لأنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يفعل ذلك، وفعله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من سنته، وقد أجمع أهل العلم على ذلك. ويسن أن يقرأ في الركعة الأولى بسورة الجمعة بعد الفاتحة، وفي الثانية بسورة المنافقون (1)، أو يقرأ في الأولى بسورة الأعلى، وفي الثانية بسورة الغاشية (2)؛ لفعله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.

المسألة العاشرة: في سنن الجمعة:
1 - يسن التبكير إلى الصلاة للحصول على الأجر الكبير؛ ففي حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: (من اغتسل يوم الجمعة غسل الجنابة، ثم راح في الساعة الأولى، فكأنما قَرَّب بدنة، ومن راح في الساعة الثانية فكأنما قَرَّب بقرة، ومن راح في الساعة الثالثة فكأنما قَرَّب كبشاً أقرن، ومن راح في الساعة الرابعة فكأنما قَرَّب دجاجة، ومن راح في الساعة الخامسة فكأنما قَرَّب بيضة، فإذا خرج الإمام حضرت الملائكة، يستمعون الذكر) (3).
وقال أيضاً: (من غَسَّلَ يوم الجمعة واغتسل، وبَكَّر وابتكر، كان له بكل خطوة يخطوها أجر سنة صيامها وقيامها) (4).
2 - ويسن الاغتسال في يومها؛ لحديث أبي هريرة الماضي: (من اغتسل يوم الجمعة غسل الجنابة ... ) وينبغي الحرص عليه وعدم تركه، وبخاصة لأصحاب الروائح الكريهة. ومن العلماء مَنْ أوجبه؛ لحديث أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - مرفوعاً: (غسل الجمعة واجب على كل محتلم) (5). ولعل القول بوجوبه أقوى وأحوط، وأنه لا يسقط إلا لعذر.
__________
(1) أخرجه مسلم برقم (877).
(2) أخرجه مسلم برقم (878).
(3) متفق عليه: رواه البخاري برقم (881)، ومسلم برقم (850).
(4) رواه الترمذي برقم (496) وحسنه، وحسَّنه أيضاً: المنذري (الترغيب والترهيب 1/ 247).
(5) أخرجه البخاري برقم (879)، ومسلم برقم (846).

(1/97)


3 - ويسن التطيب والتنظف، وإزالة ما ينبغي إزالته من الجسم؛ كتقليم الأظافر وغيره.
والتنظف أمر زائد على الاغتسال، ويكون ذلك بقطع الروائح الكريهة وأسبابها، كالشعور التي أمر الشارع بإزالتها، والأظافر، ويسن حلق العانة، ونتف الإبط، وتقليم الأظافر، وحف الشارب، مع التطيب، لحديث سلمان - رضي الله عنه - مرفوعاً: (لا يغتسل رجل يوم الجمعة، ويتطهر ما استطاع من طهر، ويدهن من دهنه، أو يمس من طيب بيته ... ). قال ابن حجر: "من طهر: المراد به المبالغة في التنظيف، ويؤخذ من عطفه على الغسل ... أن المراد به التنظيف بأخذ الشارب والظفر والعانة" (1).
4 - ويسن له أن يلبس أحسن الثياب؛ لحديث ابن عمر رضي الله عنهما: (أن عمر بن الخطاب رأى حلة سيراء عند باب المسجد، فقال: يا رسول الله لو اشتريت هذه، فلبستها يوم الجمعة، وللوفد إذا قدموا عليك). فقد استدل به البخاري -رحمه الله- على لبس أحسن الثياب للجمعة، فقال: (باب: يلبس أحسن ما يجد). قال الحافظ ابن حجر: "ووجه الاستدلال به: من جهة تقريره - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لعمر على أصل التجمل للجمعة" (2)، ولقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (ما على أحدكم لو اشترى ثوبين ليوم الجمعة سوى ثوبي مِهْنَتِه) (3). أي: ثوب خدمته وشغله.
5 - ويسن في يومها وليلتها الإكثار من الصلاة على النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (أكثروا من الصلاة عليَّ يوم الجمعة) (4).
6 - ويسن أن يقرأ في فجرها في الصلاة بسورتي السجدة، والإنسان؛ لمواظبته - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على ذلك (5). وفي يومها بسورة الكهف لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (من قرأ سورة
__________
(1) أخرجه البخاري برقم (883) وانظر فتح الباري (2/ 432).
(2) فتح الباري (2/ 434).
(3) أخرجه أبو داود برقم (1078)، وابن ماجه برقم (1095)، وصححه الألباني (صحيح ابن ماجه 898).
(4) أخرجه أبو داود برقم (1047)، والنسائي (3/ 91)، وابن ماجه (1085)، والحاكم (1/ 278)، وصححه ووافقه الذهبي. وصححه الألباني (صحيح ابن ماجه برقم 889).
(5) صحيح البخاري (رقم 891).

(1/98)


الكهف يوم الجمعة سطع له نور من تحت قدمه إلى عنان السماء يضيء به يوم القيامة، وغُفر له ما بين الجمعتين) (1).
7 - ويسن لمن دخل المسجد يوم الجمعة ألا يجلس حتى يصلي ركعتين؛ لأمره - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بذلك (2)، ويوجز فيهما إذا كان الإمام يخطب.
8 - ويسن أن يكثر من الدعاء، ويتحرى ساعة الإجابة؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (إن في الجمعة لساعة لا يوافقها عبد مسلم وهو قائم يصلي، يسأل الله شيئاً، إلا أعطاه إياه) (3).
__________
(1) أخرجه الحاكم (2/ 368)، وصححه، وصححه الألباني (الإرواء 3/ 93).
(2) صحيح البخاري برقم (930).
(3) أخرجه البخاري برقم (935)، ومسلم برقم (852).

(1/99)


الباب الحادي عشر: في صلاة الخوف، وفيه مسائل:
هذا هو العذر الثالث من الأعذار التي تختلف بها الصلاة في هيئتها، أو عددها، وقد تقدم الكلام على عذر المرض والسفر.

المسألة الأولى: حكمها، ودليل مشروعيتها، وشروطها:
1 - حكمها:
صلاة الخوف تشرِع في كل قتال مباح، كقتال الكفار والبغاة والمحاربين؛ لقوله تعالى: (إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا) [النساء: 101]. وقيس عليه الباقي، ممن يجوز قتاله.
فتشرع عند الخوف من هجوم العدو، أو الهرب من عدو إن كان الهرب مباحاً. ويدخل في العدو كل عدو -آدمياً أو سبعاً- مما يخاف الإنسان على نفسه منه، كالصائل الذي يريد أهله أو ماله، والغريم الظالم وغير ذلك.
2 - دليل مشروعيتها:
والدليل على مشروعيتها: الكتاب والسنة والإجماع، أما الكتاب: فقوله تعالى: (وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلَاةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذَا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرَائِكُمْ وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ) [النساء: 102]. وصلاها رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وأجمع الصحابة على فعلها.
3 - شروطها:
وتشرع صلاة الخوف بشرطين:
الشرط الأول: أن يكون العدو ممن يحل قتاله، كقتال الكفار، والبغاة، والمحاربين، كما سبق.
والشرط الثاني: أن يُخاف هجومه على المسلمين حال الصلاة.

(1/100)


المسألة الثانية: كيفية صلاة الخوف:
جاءت صلاة الخوف على عدة صفات، ومنها الصفة الواردة عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في حديث سهل بن أبي حثمة الأنصاري - رضي الله عنه -، وهي أشبه بالصفة المذكورة في القرآن الكريم، وفيها احتياط للصلاة، واحتياط للحرب، وفيها نكاية بالعدو. وقد فعل -عليه الصلاة والسلام- هذه الصلاة في غزوة ذات الرقاع، وصفتها كما رواها سهل: أن طائفة صفَّت مع النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وطائفة وجاه العدو، فصلَّى بالتي معه ركعة، ثم ثبت قائماً، وأتموا لأنفسهم، ثم انصرفوا وصفوا وجاه العدو، وجاءت الطائفة الأخرى، فصلى بهم الركعة التي بقيت من صلاته، ثم ثبت جالساً، وأتموا لأنفسهم، ثم سَلَّم بهم (1).
__________
(1) رواه مسلم برقم (841).

(1/101)


الباب الثاني عشر: في صلاة العيدين، وفيه مسائل:
والعيدان هما: عيد الأضحى وعيد الفطر، وكلاهما له مناسبة شرعية، فعيد الفطر بمناسبة انتهاء المسلمين من صيام شهر رمضان، والأضحى بمناسبة اختتام عشر ذي الحجة، وسُمِّي عيداً؛ لأنه يعود، ويتكرر في وقته.

المسألة الأولى: حكمها، ودليل ذلك:
صلاة العيد فرض كفاية، إذا قام بها البعض سقط الإثم عن الباقين، وإذا تركت من الكل أثم الجميع؛ لأنها من شعائر الإسلام الظاهرة، ولأنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - داوم عليها، وكذلك أصحابه من بعده. وقد أمر النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بها حتى النساء، إلا أنه أمر الحُيَّض باعتزال المصلى، وهذا مما يدلُّ على أهميتها، وعظيم فضلها؛ لأنه إذا أمر بها النساء مع أنهن لسن من أهل الاجتماع فالرجال من باب أولى. ومن أهل العلم مَنْ يُقَوِّي كونها فرض عين.

المسألة الثانية: شروطها:
ومن أهم شروطها: دخول الوقت، ووجود العدد المعتبر، والاستيطان.
فلا تجوز قبل وقتها، ولا تجوز في أقل من ثلاثة أشخاص، ولا تجب على المسافر غير المستوطن.

المسألة الثالثة: المواضع التي تصلى فيها:
يسن أن تصلى في الصحراء خارج البنيان؛ لحديث أبي سعيد: (كان النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يخرج في الفطر والأضحى إلى المصلى) (1)، والقصد من ذلك -والله أعلم- إظهار هذه الشعيرة، وإبرازها. ويجوز صلاتها في المسجد الجامع، مِنْ عذر كالمطر والريح الشديدة، ونحو ذلك.
__________
(1) متقق عليه: البخاري برقم (956)، ومسلم برقم (889).

(1/102)


المسألة الرابعة: وقتها:
ووقتها كصلاة الضحى بعد ارتفاع الشمس قدر رمح إلى وقت الزوال؛ لأنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وخلفاءه كانوا يصلونها بعد ارتفاع الشمس، ولأن ما قبل ارتفاع الشمس وقت نهي (1). ويسن تعجيل الأضحى فى أول وقتها، وتأخير الفطر؛ لفعله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ولأن الناس في حاجة إلى تعجيل الأضحى لذبح الأضاحي، وهم في حاجة إلى امتداد وقت صلاة الفطر ليتسع لأداء زكاة الفطر.

المسألة الخامسة: صفتها وما يقرأ فيها:
وصفتها: ركعتان قبل الخطبة لقول عمر: (صلاة الفطر والأضحى ركعتان ركعتان، تمام غير قصر على لسان نبيكم. وقد خاب من افترى) (2).
يكبِّر في الأولى بعد تكبيرة الإحرام والاستفتاح، وقبل التعوذ ستاً. وفي الثانية قبل القراءة خمساً، غير تكبيرة القيام. لحديث عائشة مرفوعاً: (التكبير في الفطر والأضحى في الأولى سبع تكبيرات، وفي الثانية خمس تكبيرات سوى تكبيرتي الركوع) (3). ويرفع يديه مع كل تكبيرة؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (كان يرفع يديه مع التكبير) (4)، ثم يقرأ بعد الاستعاذة جهراً بغير خلاف، ويقرأ الفاتحة، وفي الأولى بسبح اسم ربك الأعلى. وفي الثانية بالغاشية لقول سمرة: (كان - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقرأ في العيدين (سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى) و (هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ)) (5)، وصحَّ عنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه كان يقرأ في الأولى بـ (ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ) وفي الثانية (اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ) (6)،
__________
(1) انظر: المغني (2/ 232 - 233).
(2) رواه أحمد (1/ 37)، والنسائي (1/ 232)، والبيهقي (3/ 200)، وهو صحيح، انظر إرواء الغليل (3/ 106).
(3) رواه أبو داود برقم (1149)، وهو صحيح، انظر إرواء الغليل (3/ 286).
(4) رواه أحمد (4/ 316)، وحسنه الألباني (الإرواء برقم 641).
(5) رواه أحمد (5/ 7) وابن ماجه برقم (1283)، وصححه الألباني (الإرواء برقم 644).
(6) أخرجه مسلم برقم (891).

(1/103)


فيراعى الإتيان بهذا مرة، وهذا مرة، عملاً بالسنة، مع مراعاة ظروف المصلين، فيأخذهم بالأرفق.

المسألة السادسة: موضع الخطبة:
موضع الخطبة في صلاة العيد بعد الصلاة؛ لقول ابن عمر رضي الله عنهما: (كان النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأبو بكر وعمر يصلون العيدين قبل الخطبة) (1).

المسألة السابعة: قضاء العيد:
لا يسن لمن فاتته صلاة العيد قضاؤها؛ لعدم ورود الدليل عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بذلك، ولأنها صلاة ذات اجتماع معين، فلا تشرع إلا على هذا الوجه.

المسألة الثامنة: سننها:
1 - يسن أن تؤدى صلاة العيد في مكان بارز وواسع، خارج البلد، يجتمع فيه المسلمون لإظهار هذه الشعيرة، وإذا صليت في المسجد لعذر فلا بأس بذلك.
2 - ويسن تقديم صلاة الأضحى وتأخير صلاة الفطر، كما تقدَّم بيان ذلك عند الكلام على وقتها.
3 - وأن يأكل قبل الخروج لصلاة الفطر تمرات، وألا يطعم يوم النحر حتى يصلي، لفعله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فكان لا يخرج يوم الفطر حتى يفطر على تمرات يأكلهن وتراً (2). ولا يطعم يوم النحر حتى يصلي (3).
4 - ويسن التبكير في الخروج لصلاة العيد بعد صلاة الصبح ماشياً؛ ليتمكن من الدنو من الإمام، وتحصل له فضيلة انتظار الصلاة.
5 - ويسن أن يتجمل المسلم، ويغتسل، ويلبس أحسن الثياب، ويتطيب.
__________
(1) أخرجه البخاري برقم (963)، ومسلم برقم (888).
(2) أخرجه البخاري برقم (953).
(3) أخرجه الترمذي برقم (542)، وابن ماجه برقم (1756)، وصححه الألباني (صحيح ابن ماجه رقم 1422).

(1/104)


6 - ويسن أن يخطب في صلاة العيد بخطبة جامعة شاملة لجميع أمور الدين، ويحثهم على زكاة الفطر، ويبين لهم ما يخرجون، ويرغبهم في الأضحية، ويبين لهم أحكامها، وتكون للنساء فيها نصيب؛ لأنهن في حاجة لذلك واقتداء بالنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فقد أتى النساء بعد فراغه من الصلاة والخطبة فوعظهن وَذَكرَهُن (1). وتكون بعد الصلاة كما سبق.
7 - ويسن كثرة الذكر بالتكبير والتهليل لقوله تعالى: (وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) [البقرة: 185]، ويجهر به الرجال في البيوت والمساجد والأسواق، ويُسِرُّ به النساء.
8 - مخالفة الطريق، فيذهب إلى العيد من طريق، ويرجع من طريق آخر؛ لحديث جابر - رضي الله عنه -: (كان النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا كان يوم عيد خالف الطريق) (2).
وقيل في الحكمة من ذلك: ليشهد له الطريقان جميعاً، وقيل: لإظهار شعيرة الإسلام فيهما، وقيل غير ذلك.
ولا بأس بتهنئة الناس بعضهم بعضاً يوم العيد، بأن يقول لغيره: تَقَبَّلَ الله منا ومنك صالح الأعمال، فكان يفعله أصحاب النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، مع إظهار البشاشة والفرح في وجه من يلقاه.
__________
(1) أخرجه البخاري برقم (978).
(2) أخرجه البخاري برقم (986).

(1/105)


الباب الثالث عشر: في صلاة الاستسقاء، وفيه مسائل:
المسألة الأولى: تعريفها، وحكمها ودليل ذلك:
1 - تعريفها: الاستسقاء هو طلب السقي من الله تعالى عند حاجة العباد إليه، على صفة مخصوصة؛ وذلك إذا أجدبت الأرض، وقحط المطر؛ لأنه لا يسقي ولا ينزل الغيث إلا الله وحده.
2 - حكمها: حكم صلاة الاستسقاء أنها سنة مؤكدة؛ لقول عبد الله بن زيد: (خرج رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يستسقي فتوجَّه إلى القبلة، يدعو وحَوَّل رداءه، وصلى ركعتين، جهر فيهما بالقراءة) (1).

المسألة الثانية: سببها:
وسببها القحط، وهو انحباس المطر؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يفعلها لذلك.

المسألة الثالثة: وقتها وكيفيتها:
وقت صلاة الاستسقاء وصفتها كصلاة العيد، لقول ابن عباس: (صلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ركعتين كما يصلي في العيدين) (2). فيستحب فعلها في المصلى، كصلاة العيد، وتصلى ركعتين، ويجهر بالقراءة فيهما كصلاة العيد، وتكون قبل الخطبة، وكذلك في عدد التكبيرات وما يقرأ فيها. ويجوز الاستسقاء على أي صفة كانت، فيدعو الإنسان، ويستسقي في صلاته إذا سجد، ويستسقي الإمام على المنبر في صلاة الجمعة، فقد استسقى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على المنبر يوم الجمعة (3).

المسألة الرابعة: الخروج إليها:
إذا أراد الإمام الخروج لها وعظ الناس، وأمرهم بالتوبة، والخروج من المظالم، وترك
__________
(1) رواه البخاري برقم (1011)، ومسلم برقم (894).
(2) رواه النسائي برقم (1521)، والترمذي برقم (558)، وهو حسن، انظر إرواء الغليل (13/ 33).
(3) أخرجه البخاري برقم (933)، ومسلم برقم (897).

(1/106)


التباغض والتشاحن؛ لأنه سبب في منع الخير من الله سبحانه، ولأن المعاصي سبب القحط والتقوى سبب البركات. قال تعالى: (وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ) [الأعراف: 96]. ويتنظف لها، ولا يتطيب، ولا يلبس الزينة؛ لأنه يوم استكانة وخشوع، ويخرج متواضعاً، متخشعاً، متذللاً، متضرعاً؛ لقول ابن عباس: (خرج النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - للاستسقاء متذللاً، متواضعاً، متخشعاً، متضرعاً) (1).

المسألة الخامسة: الخطبة فيها:
يسن أن يخطب الإمام في صلاة الاستسقاء بخطبة واحدة بعد الصلاة، تكون جامعة وشاملة، يأمر فيها بالتوبة، وكثرة الصدقة، والرجوع إلى الله، وترك المعاصي.
وينبغي أن يكثر في الخطبة من الاستغفار، وقراءة الآيات التي تأمر به، ويكثر من الدعاء بطلب الغيث من الله تعالى كقوله: (اللهم أغثنا) (2)، وقوله: (اللهم أسقنا غيثاً مغيثاً، مَرِيئاً مَرِيعاً، عاجلاً غير آجل، نافعاً غير ضار) (3).
ومعنى مريئاً: سهلاً طيباً، ومريعاً: مخصباً. وقوله: (اللهم أنت الله لا إله إلا أنت، أنت الغني ونحن الفقراء، أنزل علينا الغيث، واجعل ما أنزلت لنا قوة وبلاغاً إلى حين) (4). ونحو ذلك، ويرفع يديه؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يفعل ذلك، حتى كان يرى بياض إبطه، ويرفع الناس أيديهم؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لما رفع يديه يستسقي في صلاة الجمعة، رفع الناس أيديهم. ويكثر من الصلاة على النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؛ لأن ذلك من أسباب الإجابة.
__________
(1) رواه الترمذي برقم (458)، وابن ماجه برقم (1266)، وهو حسن، انظر: إرواء الغليل (3/ 133).
(2) أخرجه البخاري برقم (1014)، ومسلم برقم (897)، ضمن حديث الاستسقاء الطويل.
(3) أخرجه أبو داود برقم (1169)، وصحح الشيخ الألباني إسناده. (تخريج المشكاة برقم 1507).
(4) أخرجه أبو داود برقم (1173)، وحسَّن الشيخ الألباني إسناده. (تخريج المشكاة برقم 1508).

(1/107)


المسألة السادسة: السنن التي ينبغي فعلها فيها:
1 - أن يكثر من الدعاء المأثور عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في ذلك، ويستقبل القبلة في آخر الدعاء، ويحوِّل رداءه، فيجعل اليمين على الشمال والشمال على اليمين، وكذلك ما شابه الرداء كالعباءة ونحوها. فقد ثبت أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَوَّل إلى الناس ظهره، واستقبل القبلة يدعو، ثم حوَّل رداءه (1). وقيل: الحكمة من تحويل الرداء التفاؤل بتحويل الحال عما هي عليه.
2 - يسن أن يخرج إلى صلاة الاستسقاء جميع المسلمين، حتى النساء والصبيان.
3 - يسن الخروج إليها بخضوع، وخشوع، وتذلل، فقد خرج النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - للاستسقاء متذللاً، متواضعاً، متخشعاً، متضرعاً (2).
4 - يسن عند نزول المطر أن يقف في أوله ليصيبه منه ويقول: (اللهم صَيِّباً نافعاً). والصيِّب: المنهمر المتدفق. ويقول: (مُطرنا بفضل الله ورحمته).
5 - وإذا كثر المطر، وخيف من الضرر، يسن أن يقول: (اللهم حوالينا ولا علينا، اللهم على الظراب والآكام وبطون الأودية ومنابت الشجر) (3). والظراب: الجبال الصغار. والآكام: جمع أَكَمة، وهي التلّ، وهو ما اجتمع من الحجارة في مكان واحد.
__________
(1) متفق عليه: رواه البخاري برقم (1011)، ومسلم برقم (894).
(2) رواه الترمذي وقال: حسن صحيح. وتقدم في الصفحة السابقة.
(3) متفق عليه: رواه البخاري برقم (1021)، ومسلم برقم (897) واللفظ له.

(1/108)


الباب الرابع عشر: في صلاة الكسوف، وفيه مسائل:
المسألة الأولى: تعريف الكسوف، والحكمة منه:
الكسوف: هو انحجاب ضوء أحد النَّيِّرين -الشمس والقمر- بسبب غير معتاد، والكسوف والخسوف بمعنى واحد. ويحدث الله -عز وجل- ذلك تخويفاً لعباده حتى يرجعوا إليه سبحانه، كما قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله لا ينكسفان لموت أحد ولا لحياته، وإنما يُخَوِّف الله بهما عباده) (1).

المسألة الثانية: حكم صلاة الكسوف ودليلها:
وصلاة الكسوف واجبة على ما صرح به أبو عوانة في صحيحه، وَحُكي عن أبي حنيفة، وأجراها مالك مجرى الجمعة، وقَوَّى ابن القيم رحمه الله القول بوجوبها، وأيده الشيخ ابن عثيمين؛ وذلك لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أمر بها، وخرج فزعاً إليها، وأخبر أنها تخويف للعباد (2).

المسألة الثالثة: وقتها:
وقتها من ابتداء الكسوف إلى ذهابه لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (إذا رأيتم شيئاً من ذلك فصلوا حتى ينجلي) (3).

المسألة الرابعة: كيفيتها وما يقرأ فيها:
وكيفيتها: ركعتان. يقرأ في الأولى جهراً -ليلاً كانت أو نهاراً- الفاتحة، وسورة طويلة، ثم يركع طويلاً، ثم يرفع، فيسمع، ويحمد، ولا يسجد. بل يقرأ الفاتحة وسورة طويلة دون الأولى، ثم يركع، ثم يرفع، ثم يسجد سجدتين
__________
(1) أخرجه البخاري برقم (1048)، ومسلم برقم (911).
(2) انظر: فتح الباري (2/ 612)، والصلاة لابن القيم (ص 15)، والشرح الممتع (4/ 237 - 238).
(3) رواه مسلم برقم (915).

(1/109)


طويلتين، ثم يصلى الثانية كالأولى، لكن دونها في كل ما يفعل، ثم يتشهد ويسلم. لقول جابر: (كسفت الشمس على عهد رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في يوم شديد الحر، فصلى بأصحابه، فأطال القيام، حتى جعلوا يخرون، ثم ركع فأطال، ثم رفع فأطال، ثم ركع فأطال، ثم سجد سجدتين، ثم قام، فصنع نحو ذلك، فكانت أربع ركعات وأربع سجدات) (1).
ويسن أن يعظ الإمام الناس بعد صلاة الكسوف ويحذِّرهم من الغفلة والاغترار بالدنيا ويأمرهم بالإكثار من الدعاء والاستغفار؛ لفعل النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فقد خطب الناس بعد الصلاة وقال: (إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله لا ينكسفان لموت أحد ولا لحياته، فإذا رأيتم ذلك فادعوا الله وكَبِّروا، وصلوا وتصدقوا) (2).
فإذا انتهت الصلاة قبل الانجلاء فلا تعاد، بل يذكر الله، ويكثر من دعائه؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (فصلوا وادعوا حتى يكشف ما بكم). فدلَّ على أنه إنْ سَلَّمَ من الصلاة قبل الانجلاء تشاغل بالدعاء. وإذا تم الانجلاء وهو في الصلاة أتمها خفيفة، ولا يقطعها.
__________
(1) رواه مسلم برقم (904).
(2) أخرجه البخاري برقم (1044).

(1/110)


الباب الخامس عشر: في صلاة الجنازة وأحكام الجنائر، وفيه مسائل:
الجنائز: جمع جنازة -بفتح الجيم وكسرها- بمعنى واحد. وقيل: بالفتح اسم للميت، وبالكسر اسم لما يحمل عليه.
وينبغي للإنسان أن يتذكر الموت ونهايته في هذه الدنيا، فيستعد لذلك بالعمل الصالح، والتزود للآخرة، والتوبة من المعاصي، والخروج من المظالم.
وتسن عيادة المريض، وتذكيره التوبة والوصية، فإذا احتضر يسنُّ تلقينه (لا إله إلا الله) وتوجيهه للقبلة، فإذا مات سُنَّ تغميضه، والإسراع بتجهيزه ودفنه.

المسألة الأولى: حكم غسل الميت وكيفيته:
1 - حكمه: غسل الميت واجب؛ لأمره - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - به، كما في قولى - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في المحرم الذي وقصته ناقته: (اغسلوه بماء وسدر) (1). وقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في ابنته زينب رضي الله عنها: (اغسلنها ثلاثاً، أو خمساً، أو سبعاً) (2). وهو فرض كفاية إجماعاً.
2 - كيفية الغسل: ينبغي أن يختار لتغسيل الموتى من هو ثقة عدل عارف بأحكام الغسل، ويقدم في التغسيل الوصي، ثم الأقرب فالأقرب، كالأب والجد والابن إذا كانوا عارفين بأحكام الغسل، وإلا قدم غيرهم ممن هو عالم بذلك. والرجل يغسله الرجال، والمرأة تغسلها النساء، ولكل واحد من الزوجين تغسيل الآخر فالرجل يغسل زوجته والمرأة تغسل زوجها. ولكل من الرجال والنساء تغسيل الأطفال دون سن السابعة. ولا يجوز للمسلم رجلاً كان أو امرأة تغسيل الكافر، ولا حمل جنازته ولا تكفينه، ولا الصلاة عليه، ولو كان قريباً كالأب والأم.
ويشترط أن يكون الماء الذي يغسل به الميت طهوراً مباحاً، وأن يغسل في مكان مستور، ولا ينبغي حضور مَنْ لا علاقة له بتغسيل الميت.
__________
(1) متفق عليه: أخرجه البخاري برقم (1266)، ومسلم برقم (1206).
(2) متفق عليه: أخرجه البخاري برقم (1259)، ومسلم برقم (939).

(1/111)


وصفة الغسل: هي أن يضعه على سرير غسله، ثم يستر عورته، ثم يجرده من ثيابه، ويواريه عن العيون في حجرة أو نحوها، ثم يرفع الغاسل رأس الميت إلى قرب جلوسه، ثم يمرر يده على بطنه ويعصره، ثم ينظف الخرجين، وينجِّي الميت، فيغسل ما على الخرجين من نجاسة، وذلك بلف خرقة على يده، ثم ينوي الغسل، ويسمِّي، ويوضئه كوضوء الصلاة، إلا في المضمضة والاستنشاق، فيكفي المسح على الفم والأنف، ثم يغسل رأسه ولحيته بماء السدر، أو صابون، أو غير ذلك، ثم يغسل الميامن ثم المياسر، ثم يكمل غسل باقي الجسم. ويستحب أن يلف على يده خرقة حال التغسيل، والواجب غسلة واحدة إذا حصل بها الإنقاء، والمستحب ثلاث غسلات وإن حصل الإنقاء.
ويستحب أن يجعل في الغسلة الأخيرة كافوراً، ثم ينشف الميت، ويزيل عنه ما يشرع إزالته من الأظافر والشعور، ويضفر شعر المرأة، ويسدل من ورائها. وإذا تعذر غسل الميت لعدم وجود الماء، أو كان مقطع الجسم بحرق ونحوه، فإنه ييمم بالتراب، ويستحب لمن غسل ميتاً أن يغتسل بعد تغسيله.

المسألة الثانية: من يتولَّى الغسل:
الأفضل أن يتولى غسل الميت من هو أعرف بسنة الغسل من الثقات الأمناء العدول، ولا سيما إذا كان من أهله وأقاربه، لأن الذين تولوا غسله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كانوا من أهله كعليٍّ - رضي الله عنه - وغيره (1)، وأولى الناس بغسله: وصيه الذي أوصى أن يغسله، ثم أبوه ثم جده، ثم الأقرب فالأقرب من عصباته، ثم ذوو أرحامه.
ويجب أن يتولى غسل الذكر الرجال، والأنثى النساء، ويستثنى من ذلك الزوجان فإنه لكل واحد منهما غسل الآخر، لحديث عائشة رضي الله عنها: (لو كنت استقبلت من أمري ما استدبرت ما غسل النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - غير نسائه) (2).
__________
(1) رواه ابن ماجه برقم (1467)، وصححه الألباني (صحيح ابن ماجه برقم 1207)، وانظر أيضاً: (الإرواء رقم 699).
(2) رواه أبو داود برقم (3215)، وابن ماجه برقم (1464)، وحسَّنه الألباني (الإرواء برقم 702).

(1/112)


وقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لعائشة رضي الله عنها: (لو متِّ قبلي لغسلتك وكفنتك) (1)، وغسلت أسماء بنت عميس زوجها أبا بكر الصديق - رضي الله عنه - (2).
ولا يغسل شهيد المعركة؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (أمر بقتلى أحد أن يدفنوا في ثيابهم، ولم يغسلوا، ولم يصلَّ عليهم) (3). وكذلك لا يكفن، ولا يصلى عليه، بل يدفن بثيابه، كما في الحديث السابق.
والسِّقْطُ -وهو الولد يسقط من بطن أمه قبل تمامه، ذكراً كان أو أنثى-: إذا بلغ أربعة أشهر غسل، وكفن، وصلي عليه، لأنه بعد أربعة أشهر يكون إنساناً.

المسألة الثالثة: حكم تكفينه وكيفيته:
وتكفينه واجب لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في المحرم الذي وَقَصَتْه راحلته: (وكفنوه في ثوبين) (4). والواجب ستر جميع البدن، فإن لم يوجد إلا ثوب قصير لا يكفي لجميع البدن غطي رأسه، وجُعل على رجليه شيْء من الإذخر؛ لقول خباب في قصة تكفين مصعب بن عمير - رضي الله عنه -: (فأمرنا النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن نغطي رأسه، وأن نجعل على رجليه من الإذخر) (5). ولا يغطى رأس المحرم الذكر؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (ولا تخمروا رأسه) ويكون ذلك بثوب لا يصف البشرة ساتراً، ويجب أن يكون من ملبوس مثله؛ لأنه لا إجحاف على الميت ولا على ورثته. والسنة تكفين الرجل في ثلاث لفائف بيض من قطن، تبسط على بعضها، ويوضع عليها مستلقياً، ثم يرد طرف العليا من الجانب الأيسر على شقه الأيمن، ثم طرفها الأيمن على الأيسر، ثم الثانية، ثم الثالثة، ثم يجعل الزائد عند رأسه ثم يعقد، فلو كان الزائد أكثر جعل عند قدميه كذلك ويعقد، فإن ذلك أثبت للكفن؛ لقول عائشة: (كفن
__________
(1) رواه ابن ماجه برقم (1465)، وهو صحيح، انظر إرواء الغليل (3/ 160).
(2) أخرجه مالك في الموطأ: (1/ 223).
(3) أخرجه البخاري برقم (1343).
(4) متفق عليه: البخاري برقم (1266)، ومسلم برقم (1206).
(5) متفق عليه: البخاري برقم (1276)، ومسلم برقم (940).

(1/113)


رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في ثلاث أثواب بيض سُحُولية (1) جدد يمانية، ليس فيها قميص ولا عمامة، أدرج فيها إدراجاً) (2)، ولقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (البسوا من ثيابكم البياض، فإنها من خير ثيابكم، وكفنوا فيها موتاكم) (3). والأنثى خمسة أثواب من قطن إزار وخمار وقميص ولفافتين. والصبي في ثوب واحد، ويباح في ثلاثة، والصغيرة في قميص ولفافتين.

المسألة الرابعة: الصلاة على الميت، حكمها ودليل ذلك:
الصلاة على الميت فرض كفاية، إذا فعلها البعض سقط الإثم عن الباقين.
ودليلها: قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فيمن مات وعليه دين: (صَلُّوا على صاحبكم) (4).
وقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يوم موت النجاشي: (إن أخاً لكم قد مات، فقوموا، فصَلُّوا عليه) (5).

المسألة الخامسة: شروط الصلاة على الميت وأركانها وسننها:
1 - شروطها: وشروطها كالآتي: النية، والتكليف، واستقبال القبلة، وستر العورة، واجتناب النجاسة؛ لأنها من الصلوات، وحضور الميت بين يدي المصلي إن كان بالبلد، وإسلام المصلي والمصلَّى عليه، وطهارتهما ولو بتراب لعذر.
2 - أركانها: وأركانها كالآتي: القيام مِنْ قادر في فرضها؛ لأنها صلاة وجب القيام فيها كالمفروضة. والتكبيرات الأربع. (لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَبَّر على النجاشي أربعاً). وقراءة الفاتحة لعموم حديث: (لا صلاة لمن لم يقرأ بأم القرآن) (6)،
__________
(1) بضم المهِملتين، جمع سَحْل، وهو الثوب الأبيض النقي ولا يكون إلا من القطن، ويروى بفتح السين أيضاً، منسوب إلى (سَحُول) قرية باليمن. (النهاية 2/ 313 - سحل).
(2) متفق عليه: البخاري برقم (1264)، ومسلم برقم (941) واللفظ الأخير عند أحمد (6/ 118).
(3) رواه أبو داود برقم (3878)، والترمذي برقم (1005)، وابن ماجه برقم (1472) واللفظ للترمذي. قال الترمذي: حسن صحيح. وصححه الألباني (صحيح الترمذي برقم 792).
(4) رواه مسلم برقم (1619).
(5) رواه مسلم برقم (952) - 64.
(6) رواه مسلم برقم (394).

(1/114)


والصلاة على النبيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، والدعاء للميت؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (إذا صليتم على الميت فأخلصوا له الدعاء) (1)، والسلام لعموم حديث (وتحليلها التسليم)، والترتيب بين الأركان فلا يُقَدِّم ركناً على الآخر.
3 - سننها: ومن سننها: رفع اليدين مع كل تكبيرة، والاستعاذة قبل القراءة، وأن يدعو لنفسه وللمسلمين، والإسرار بالقراءة.

المسألة السادسة: وقت الصلاة على الميت وفضلها وكيفيتها:
1 - وقتها: وقت الصلاة على الميت يبدأ بعد تغسيله، وتكفينه، وتجهيزه، إن كان حاضراً، أو بلوغ خبر وفاته إن كان غائباً.
2 - فضلها: قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (من شهد الجنازة حتى يُصَلَّى عليها فله قيراط، ومن شهدها حتى تدفن فله قيراطان) قيل: وما القيراطان؟ قال: (مثل الجبلين العظيمين) (2).
3 - كيفيتها: يقوم الإمام والمنفرد عند رأس الرجل، ووسط المرأة، لثبوت ذلك من فعله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فيما رواه عنه أنس - رضي الله عنه - (3)، ثم يكبر للإحرام، ويتعوذ بعد التكبير، ثم يسمي، ثم يقرأ الفاتحة سراً، ولو كان ذلك بالليل، ثم يكبر ويصلي على النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كما يصلي في التشهد، ثم يكِّبر، ويدعو للميت بالدعاء الوارد عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ومنه قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (اللهم اغفر لحينا وميتنا وشاهدنا وغائبنا وصغيرنا وكبيرنا وذكرنا وأنثانا، اللهم من أحييته منا فأَحْيِه على الإسلام، ومن توفيته منا فتوفَّه على الإيمان) (4). (اللهم اغفر له، وارحمه وعافه، واعف عنه، وأكرم نزله، ووسع مدخله، واغسله بالماء والثلج والبرد، ونَقِّهِ من الذنوب
__________
(1) رواه أبو داود برقم (3199)، وهو حسن. انظر: إرواء الغليل (3/ 179).
(2) متفق عليه: رواه البخاري برقم (1325)، ومسلم برقم (945).
(3) أخرجه أبو داود برقم (3194)، والترمذي برقم (1045)، وابن ماجه برقم (1494). قال الترمذي: حديث حسن. وصححه الألباني (صحيح الترمذي برقم 826).
(4) رواه أبو داود برقم (3201)، والترمذي برقم (1024)، والحاكم في المستدرك (1/ 358). قال الترمذي: "حسن صحيح". وقال الحاكم: "صحيح على شرط الشيخين" ووافقه الذهبي.

(1/115)


والخطايا كما ينقى الثوب الأبيض من الدنس، وأبدله داراً خيراً من داره، وأهلاً خيراً من أهله وزوجاً خيراً من زوجه، وأدخله الجنة، وأعذه من عذاب القبر، أو عذاب النار) (1). وإن كان الميت صغيراً قال: (اللهم اجعله سلفاً لوالديه، وفرطاً، وأجراً) (2)، ثم يكبر، ويقف بعدها قليلاً. وإن دعا بما تيسر فحسن كأن يقول: (اللهم لا تحرمنا أجره، ولا تفتنا بعده) (3). ثم يسلم تسليمة واحدة عن يمينه، وإن سلم تسليمتين فلا بأس به. ومن فاته بعض الصلاة دخل مع الإمام، وإذا سلم قضى ما فاته على صفته، ومن فاتته الصلاة قبل الدفن فله أن يصلي على القبر؛ لفعله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ذلك في قصة المرأة التي كانت تَقُمُّ المسجد (4).
ويصلى على الغائب عن البلد عند العلم بوفاته ولو بشهر أو أكثر. ويصلى على السقط إذا تم له أربعة أشهر فأكثر، وإن كان أقل من ذلك فلا يصلى عليه.

المسألة السابعة: حمل الجنازة والسير بها:
يسن اتباع الجنازة وتشييعها إلى القبر، لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (من شهد الجنازة حتى يصلى عليها فله قيراط، ومن شهدها حتى تدفن فله قيراطان. قيل: وما القيراطان؟ قال: مثل الجبلين العظيمين) (5).
وينبغي للمسلم إذا علم بوفاة أحد من المسلمين أن يخرج لحمل جنازته والصلاة عليه ودفنه؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (حق المسلم على المسلم خمس: رد السلام، وعيادة المريض، واتباع الجنائز ... ) (6). ويتأكد ذلك إذا لم يخرج أحد في جنازته. ولا بأس بحملها في سيارة أو على دابة، ولاسيما إذا كانت المقبرة
__________
(1) أخرجه مسلم برقم (963).
(2) أخرجه عبد الرازق في مصنفه (3/ 529) برقم 6589.
(3) أخرجه مالك في الموطأ (1/ 228) برقم 17، وعبد الرزاق في مصنفه (3/ 488) برقم 6425، وابن حبان، كما في الإحسان (7/ 342) برقم 3073. وقال محققه: "إسناده صحيح على شرط مسلم".
(4) أخرجه البخاري برقم (458)، ومسلم برقم (956).
(5) تقدَّم تخريجه في الصفحة السابقة.
(6) أخرجه البخاري برقم (1240).

(1/116)


بعيدة، وعلى التابع لها المشاركة في الحمل.
ويشرع دفن الميت في مقبرة خاصة بالموتى؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يدفن الموتى في مقبرة البقيع، كما تواترت الأخبار بذلك، ولم ينقل عن أحد من السلف أنه دفن في غير المقبرة.
ويسن الإسراع بالجنازة، في غسلها، وتكفينها، والصلاة عليها، ودفنها؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (إذا مات أحدكم فلا تحبسوه، وأسرعوا به إلى قبره) (1). وما يفعله بعض الناس من تأخيرها ونقلها من مكان إلى آخر أو اختيار يوم من الأسبوع تدفن فيه، فهذا كله خلاف السنة. كما يسنُّ الإسراع في المشي بها أثناء حملها لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (أسرعوا بالجنازة فإن تك صالحة فخير تقدمونها إليه، وإن تك سوى ذلك فشر تضعونه عن رقابكم) (2)، لكن لا يكون إسراعاً شديداً، بل دون الخَبَبِ كما اختاره بعض العلماء.
وعلى الحاملين للجنازة السكينة والوقار، وعدم رفع الصوت، لا بقراءة ولا بغيرها؛ لأنه لم يثبت عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - شيء في ذلك، ومن فعله فقد خالف السنة.
ولا يجوز للنساء الخروج مع الجنازة؛ لحديث أم عطية: (نهينا عن اتباع الجنائز) (3)، فحمل الجنازة وتشييعها خاص بالرجال، ويكره للمشيع الجلوس حتى توضع الجنازة على الأرض، لنهيه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن الجلوس حتى توضع (4).

المسألة الثامنة: دفن الميت وصفة القبر وما يسن فيه:
ويسن أن يعمق القبر، وأن يوسع، وأن يُلْحَدَ له فيه، وهو: أن يحفر في قاع القبر حفرة في جانبه إلى جهة القبلة، فإن تعذر اللحد فلا بأس بالشق، وهو: أن يحفر للميت في وسط القبر، لكن اللحد أفضل، لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (اللحد لنا، والشق لغيرنا) (5).
__________
(1) أخرجه الطبراني (12/ 340) ح 13613 وحسنه ابن حجر (الفتح 3/ 219).
(2) متفق عليه: أخرجه البخاري برقم (1351)، ومسلم برقم (944) واللفظ للبخاري.
(3) رواه البخاري برقم (1278)، ومسلم برقم (938)، واللفظ لمسلم.
(4) أخرجه البخاري برقم (1310)، ومسلم برقم (959).
(5) أخرجه الترمذي برقم (1056) وحسنه، وصححه الألباني (صحيح الترمذي برقم 835).

(1/117)


ويوضع الميت في لحده على شقه الأيمن مستقبل القبلة، وتسد فتحة اللحد باللبن والطين، ثم يهال عليه التراب، ويرفع القبر عن الأرض قدر شبر مسنماً -أي على هيئة السنام- لثبوت ذلك في صفة قبر النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وصاحبيه (1)، ليعلم أنه قبر فلا يهان، ولا بأس بوضع أحجار أو غيرها على أطرافه لبيان حدوده ومعرفته، ويحرم البناء على القبور وتجصيصها والجلوس عليها، كما يكره الكتابة عليها، إلا بقدر الحاجة للإعلام؛ لحديث جابر - رضي الله عنه - قال: (نهى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن يُجَصَّص (2) القبر، وأن يقعد عليه، وأن يبنى عليه) (3). زاد الترمذي: (وأن يكتب عليها).
ولأن هذا من وسائل الشرك والتعلق بالأضرحة، وهذا مما يغترُّ به الجُهَّال ويتعلقون به.
ويحرم أيضاً إسراج القبور أي إضاءتها؛ لما فيه من التشبه بالكفار، وإضاعة المال، وبناء المساجد عليها، والصلاة عندها أو إليها؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (لعن الله اليهود والنصارى؛ اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد) (4).
وتحرم إهانتها بالمشي عليها أو وطئها بالنعال أو الجلوس عليها وغير ذلك؛ لحديث أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (لأن يجلس أحدكم على جمرة فتحرق ثيابه فتخلص إلى جلده، خير من أن يجلس على قبر) (5)، ولنهيه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن الوطء على القبور (6).
ويستحب عند الفراغ من الدفن الدعاء للميت؛ لفعله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. فإنه كان إذا فرغ من دفن الميت وقف عليه، وقال: (استغفروا لأخيكم واسألوا له التثبيت فإنه الآن يسأل) (7). وأما قراءة الفاتحة أو شيء من القرآن عند القبر فإنه بدعة
__________
(1) انظر: الشرح الممتع (4/ 458).
(2) أي: يطلى بالجص، وهو الكلس أو الكج الذي تطلى به البيوت.
(3) رواه مسلم برقم (970)، والترمذي برقم (1064)، وقال: حسن صحيح.
(4) أخرجه البخاري برقم (1330)، ومسلم برقم (529).
(5) رواه مسلم برقم (971).
(6) أخرجه الترمذي برقم (1064) وقال: حسن صحيح.
(7) رواه أبو داود برقم (3221)، وصححه الحاكم في المستدرك (1/ 370)، ووافقه الذهبي، وحسنه النووي والحافظ ابن حجر (انظر: التعليق على الطحاوية 2/ 265 - 666).

(1/118)


منكرة؛ لأنه لم يفعله النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ولا صحابته الكرام، وقد قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (من
عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد) (1).

المسألة التاسعة: التعزية، حكمها، وكيفيتها:
والتعزية: هي تسلية المصاب وتقويته على تحمل مصيبته، فتذكر له الأدعية والأذكار الواردة في فضيلة الصبر والاحتساب.
وتشرع تعزية أهل الميت بما يخفف عنهم من مصابهم، ويحملهم على الرضا والصبر، بما ثبت عنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إن كان يعلمه، ويستحضره، وإلا فبما تيسر له من الكلام الحسن الذي يحقق الغرض، ولا يخالف الشرع. فعن أسامة بن زيد قال: كنا عند النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فأرسلت إليه إحدى بناته تدعوه وتخبره أن صبياً لها أو ابناً لها في الموت، فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (ارجع إليها فأخبرها: أن لله ما أخذ وله ما أعطى، وكل شيء عنده بأجل مسمى، فمُرْها فلتصبر، ولتحتسب) (2) وهذا من أحسن الألفاظ الواردة في التعزية. وينبغي عند العزاء تجنُّب بعض الأمور التي انتشرت بين الناس، وليس لها أصل في الشرع، منها:
1 - الاجتماع للتعزية في مكان خاص بجلب الكراسي والإضاءة والقراء.
2 - عمل الطعام خلال أيام العزاء من قبل أهل الميت لضيافة الواردين للعزاء. لحديث جرير البجلي - رضي الله عنه - قال: (كنا نعدُّ الاجتماع إلى أهل الميت وصنيعة الطعام بعد دفنه من النياحة) (3).
3 - تكرار التعزية، فبعض الناس يذهب إلى أهل الميت أكثر من مرة ويعزيهم، والأصل أن تكون التعزية مرة واحدة، ولكن إذا كان القصد من تكرارها التذكير والأمر بالصبر، والرضا بقضاء الله وقدره، فلا بأس. وأما إن كان
__________
(1) متفق عليه: رواه البخاري برقم (2697)، ومسلم برقم (1718) - 18 واللفظ لمسلم.
(2) رواه البخاري برقم (284)، ومسلم برقم (923).
(3) رواه ابن ماجه برقم (1612)، وصححه الألباني (صحيح ابن ماجه برقم 1318).

(1/119)


تكرارها لغير هذا القصد فلا ينبغي؛ لعدم ثبوت ذلك عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأصحابه.
والسنة أن يعمل أقرباء الميت وجيرانه لأهل الميت طعاماً؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (اصنعوا لآل جعفر طعاماً فقد أتاهم أمر يشغلهم -أو أتاهم ما يشغلهم-) (1).
وأما البكاء والحزن على الميت فلا بأس به ويحصل في الغالب، وهو الذي تمليه الطبيعة دون تكلف، فقد بكى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على ابنه إبراهيم حين مات، وقال: (إن العين تدمع، والقلب يحزن، ولا نقول إلا ما يرضي ربنا ... ) (2).
لكن لا يكون ذلك على وجه التسخط والجزع والتشكي. ويحرم الندب، والنياحة، وضرب الخدود، وشق الجيوب؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (ليس منا من لطم الخدود، وشق الجيوب، ودعا بدعوى الجاهلية) (3)، كقوله: يا ويلاه، يا ثبوراه وما أشبه ذلك، ولقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (النائحة إذا لم تتب قبل موتها تقام يوم القيامة، وعليها سربال من قطران، ودرع من جَرَب) (4).
__________
(1) رواه أبو داود برقم (3116)، والترمذي برقم (1003)، وابن ماجه برقم (1610)، وحسَّنه الألباني (صحيح ابن ماجه برقم 1316).
(2) أخرجه البخاري برقم (1303).
(3) أخرجه البخاري برقم (1294)، ومسلم برقم (103).
(4) أخرجه مسلم برقم (934). والجرب: مرض معروف، وهو بثور تعلو الجلد، ويكون معها حكة.

(1/120)