الفقه الميسر في ضوء الكتاب والسنة

حادي عشر: كتاب الحدود
ويشتمل على ثمانية أبواب:

الباب الأول: في تعريف الحدود، ومشروعيتها، والحكمة منها، ومسائل أخرى:
1 - تعريفها: الحد لغة: هو المنع، وحدود الله: محارمه التي نهى عن ارتكابها وانتهاكها، قال تعالى: (تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَقْرَبُوهَا) [البقرة: 187] سميت بذلك لأنها تمنع من الإقدام على الوقوع فيها.
وشرعاً: عقوبة مقدرة في الشرع؛ لأجل حق الله تعالى. وقيل: عقوبة مقدرة شرعاً في معصية؛ لتمنع من الوقوع في مثلها أو في مثل الذنب الذي شرع له العقاب.
2 - دليل مشروعيتها: الأصل في مشروعية الحدود الكتاب والسنة والإجماع؛ فقد قرر الكتاب والسنة عقوبات محددة لجرائم ومعاصٍ معينة، كالزنى، والسرقة، وشرب الخمر، وغيرها، مما سيأتي تفصيله في الأبواب التالية إن شاء الله، مع ذكر أدلة ذلك كله.
3 - الحكمة من مشروعية الحدود: شرعت الحدود؛ زجراً للنفوس عن ارتكاب المعاصي والتعدي على حرمات الله سبحانه، فتتحقق الطمأنينة في المجتمع ويشيع الأمن بين أفراده، ويسود الاستقرار، ويطيب العيش.
كما أن فيها تطهيراً للعبد في الدنيا؛ لحديث عبادة بن الصامت مرفوعاً في البيعة، وفيه: (ومن أصاب من ذلك شيئاً فعوقب به فهو كفارته) (1). وحديث خزيمة ابن ثابت مرفوعاً: (من أصاب حداً أقيم عليه ذلك الحد، فهو كفارة ذنبه) (2).
__________
(1) أخرجه البخاري برقم (6784)، ومسلم برقم (1709).
(2) أخرجه أحمد في المسند (5/ 214)، والدارقطني في سننه رقم (397). قال الحافظ ابن حجر: سنده حسن. (الفتح 12/ 86). وصححه الشيخ الألباني (صحيح الجامع برقم 6039).

(1/361)


وهذه الحدود مع كونها محققة لمصلحة العباد، فإنها عدل كلها وإنصاف، بل هي غاية العدل.
4 - وجوب إقامة الحدود وتحريم الشفاعة فيها:
تجب إقامة الحدود بين الناس منعاً للمعاصي وردعاً للعصاة، وقد قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مرغباً في إقامة الحدود: (إقامة حد من حدود الله، خير من مطر أربعين ليلة في بلاد الله عز وجل) (1).
وتحرم الشفاعة في الحدود لإسقاطها وعدم إقامتها، إذا بلغت الإمام وثبتت عنده، كما يحرم على ولي الأمر قبول الشفاعة في ذلك؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (من حالت شفاعته دون حد من حدود الله، فقد ضاد الله في أمره) (2)، ولرده - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - شفاعة أسامة بن زيد في المخزومية التي سرقت، وغضبه لذلك، حتى قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (وايم الله لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطع محمد يدها) (3).
وأما العفو عن الحدّ قبل أن يبلغ الإمام فجائز؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - للذي سُرقَ رداؤه، فأراد أن يعفو عن السارق: (فهلاَّ قبل أن تأتيني به) (4).
5 - من يقيم الحد ومكان إقامته:
الذي يقيم الحد هو الإمام أو نائبه، فقد كان النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقيم الحدود في حياته، ثم خلفاؤه من بعده. وقد وَكَل النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من يقيم الحد نيابة عنه، فقال: (واغد يا أنيس إلى امرأة هذا، فإن اعترفت فارجمها) (5).
ووجب ذلك على الإمام؛ ضماناً للعدالة، ومنعاً للحيف والظلم.
__________
(1) أخرجه ابن ماجه برقم (2537)، وأحمد (2/ 402) واللفظ لابن ماجه، وحسنه الألباني (صحيح ابن ماجه برقم 2056 - 2057)، وانظر: السلسلة الصحيحة برقم (231).
(2) أخرجه أبو داود برقم (3597)، وأحمد (2/ 70)، والحاكم (2/ 27) وصحح إسناده، ووافقه الذهبي، وصححه الألباني (الصحيحة برقم 437).
(3) أخرجه البخاري برقم (6788)، ومسلم برقم (1688).
(4) أخرجه أبو داود برقم (4394)، والحاكم (4/ 380) وصححه، ووافقه الذهبي، وصححه الألباني (الإرواء برقم 2317).
(5) أخرجه البخاري برقم (6835، 6836)، ومسلم برقم (1697، 1698).

(1/362)


ويقام الحد في أيّ مكان غير المسجد، فقد (نهى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن يستقاد في المسجد، وأن تنشد فيه الأشعار، وأن تقام فيه الحدود) (1)؛ وذلك صيانة للمسجد عن التلوث ونحوه. وجاء في بعض الروايات في قصة رجم ماعز: (فأخرج إلى الحرة فرجم) (2).
__________
(1) أخرجه أبو داود برقم (4490)، وأحمد (3/ 434) وحسنه الألباني (الإرواء برقم 2327).
(2) أخرجه الترمذي برقم (1428). وقال: حديث حسن. وقال الألباني: حسن صحيح. (صحيح الترمذي برقم 1154).

(1/363)


الباب الثاني: في حد الزنى، وفيه مسائل:
المسألة الأولى: تعريف الزنى وحكمه وخطورته:
1 - تعريف الزنى:
الزنى لغة: يطلق على وطء المرأة من غير عقد شرعي، وعلى مباشرة المرأة الأجنبية.
وشرعاً: وطء الرجل المرأة في القُبُل من غير المِلك وشبهته. أو: هو فِعلُ الفاحشة في قبل أو دبر.
2 - حكم الزنى:
الزنى محرم، وهو من كبائر الذنوب، لقوله تعالى: (وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا) [الإسراء: 32].
ولحديث ابن مسعود - رضي الله عنه - قال: (سألت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن أي الذنب أعظم؟ قال: أن تجعل لله نداً وهو خلقك، قلت: ثم أي؟ قال: أن تقتل ولدك خشية أن يطعم معك، قلت: ثم أي؟ قال: أن تزني بحليلة جارك) (1).
وأجمع العلماء على تحريمه.
3 - خطورة جريمة الزنى، وشناعتها، ومفاسدها:
الزنى من أعظم الجرائم وأشنعها وأكثرها خطراً على الأفراد والمجتمعات، لما يترتب عليه من اختلاط الأنساب، مما يؤدي إلى ضياع الحقوق عند التوارث، وضياع التعارف، والتناصر على الحق. وهو سبب في تفكك الأسرة، وضياع الأبناء، وسوء تربيتهم، وفساد أخلاقهم. وفيه تغرير بالزوج؛ إذ قد ينتج عن الزنى حمل، فيربي الزوج غير ابنه. وأضراره كثيرة لا يخفى أثرها في الأفراد والمجتمعات: من ضياع وانحلال وتفكك.
لذا حذَّر منه الإسلام أشد التحذير، ورتب على ارتكابه أشد العقوبة، كما سيأتي بيانه.
__________
(1) رواه البخاري برقم (6861)، ومسلم برقم (86).

(1/364)


المسألة الثانية: حدُّ الزنى:
لا يخلو حال الزاني من أحد أمرين:
1 - أن يكون محصناً.
2 - أو يكون غير محصن.
أولاً: الزاني المحصن:
ويشترط للإحصان الموجب للحدِّ الشروط التالية:
أ- أن يحصل منه الوطء في القبل، وذلك بأن يتقدم للزاني والزانية وطء مباح في الفرج.
ب- أن يكون الوطء في نكاح صحيح.
ج- أن يكون الرجل والمرأة حال الوطء بالغين حرين عاقلين.
فالمحصن: هو من وَطِئ زوجته في قُبُلِهَا، بنكاح صحيح، وكانا بالغين عاقلين حرين.
فهذه خمسة شروط لا بد منها لحصول الإحصان الموجب للحدِّ، وهي: البلوغ، والعقل، والحرية، والوطء في الفرج، وأن يكون الوطء بنكاح صحيح.
حده: إذا زنى المحصن فإن حده الرجم بالحجارة حتى الموت، رجلاً كان، أو امرأة. والرجم ثابت عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بالتواتر من قوله وفعله. وقد كان الرجم مذكوراً في القرآن، ثم نسخ لفظه وبقي حكمه، وذلك في قوله عز وجل: (الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة نكالاً من الله والله عزيز حكيم).
فعن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - أنه خطب فقال: (إن الله بعث محمداً بالحق وأنزل عليه الكتاب، فكان فيما أنزل الله آية الرجم، قرأناها ووعيناها وعقلناها، فرجم رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ورجمنا بعده، فأخشى إن طال بالناس زمان أن يقول قائل: ما نجد الرجم في كتاب الله، فيضلوا بترك فريضة أنزلها الله، وإن الرجم حق في كتاب الله على من زنى، إذا أحصن من الرجال والنساء إذا

(1/365)


قامت البينة أو كان الحبل أو الاعتراف) (1)، ولحديث أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: أتى رجل من المسلمين رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وهو في المسجد فناداه، فقال: يا رسول الله إني زنيت. فأعرض عنه، فتنحى تلقاء وجهه، فقال: يا رسول الله إني زنيت، فأعرض عنه، حتى ثَنَى ذلك عليه أرج مرات، فلما شهد على نفسه أربع شهادات، دعاه رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: (أبك جنون؟) قال: لا، قال: (فهل أحصنت؟) قال: نعم، فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (اذهبوا به فارجموه) (2).
وأجمع العلماء على أن من زنى، وهو محصن، فحكمه الرجم بالحجارة حتى الموت.
ثانياً: الزاني غير المحصن:
وهو من لم تتوافر فيه الشروط السابقة في الزاني المحصن.
حده: إذا زنى غير المحصن فإن حده الجلد مائة جلدة، وتغريب عام، إلا أنه يشترط في تغريب المرأة وجود محرم معها؛ لقوله تعالى: (الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِئَةَ جَلْدَةٍ) [النور: 2] ولحديث عبادة بن الصامت - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (خذوا عني، خذوا عني، فقد جعل الله لهن سبيلاً، البكر بالبكر جلد مائة ونفي عام) (3). وتغريب الزاني: نفيه وإبعاده عن وطنه.
وإن زنى الرقيق -محصناً كان أو غير محصن، عبداً كان أو أمة- فإن حده أن يجلد خمسين جلدة، لقوله تعالى: (فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ) [النساء: 25]. فالعذاب المذكور في الآية هو الجَلْدُ مائة جلدة، فينصرف التنصيف إليه، ولأن الرجم لا يمكن تنصيفه.
ولا تغريب على الرقيق، إذ لم ترد السنة بتغريب المملوك إذا زنى، ولأن في تغريبه إضراراً بسيده. ولا تغرب المرأة إلا بمحرم كما سبق.
__________
(1) رواه البخاري برقم (3872)، ومسلم برقم (1691).
(2) رواه البخاري برقم (6825)، ومسلم برقم (1691) - 16، واللفظ لمسلم.
(3) رواه مسلم برقم (1690).

(1/366)


المسألة الثالثة: بِمَ يثبت الزنى؟
لإقامة حد الزنى لا بد من إثبات وقوعه، ولا يثبت وقوعه إلا بأحد أمرين: الأمر الأول: أن يقر به الزاني أربع مرات، ولو في مجالس متعددة؛ فقد أخذ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - باعتراف ماعز والغامدية. وأما اشتراط الأربع: فلأن ماعزاً اعترف عند النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثلاث مرات فرده، فلما اعترف الرابعة أقام عليه الحد.
- ولا بد أن يصرح في إقراره بحقيقة الزنى والوطء، لاحتمال أنه أراد غير الزنا من الاستمتاع الذي لا يوجب حداً، فقد قال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لماعز حين أقر عنده: (لعلك قَبَّلت أو غمزت؟) قال: لا. وكرر معه الاستيضاح عدة مرات حتى زال كل احتمال.
- ولا بد أن يثبت على إقراره حتى إقامة الحد، ولا يرجع عنه، فقد قرَّر النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ماعزاً مرة بعد مرة، لعله يرجع عن إقراره، ولأن ماعزاً لما هرب أثناء رجمه قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (هلا تركتموه؟!) (1).
الأمر الثاني: أن يشهد عليه بالزنى أربعة شهود، لقوله تعالى: (لَوْلَا جَاءُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ) [النور: 13]. وقوله: (فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ) [النساء: 15].
ويشترط لصحة شهادتهم عليه بالزنى شروط:
1 - أن يكون الشهود أربعة، للآيات المتقدمة، فإن كانوا أقل من أربعة لم تقبل.
2 - أن يكونوا مكلفين -بالغين عاقلين-، فلا تقبل شهادة الصبيان والمجانين.
3 - أن يكونوا رجالاً عدولاً، فلا تقبل شهادة النساء في حد الزنى، صيانة لهن وتكريماً، لأن الزنى فاحشة. ولا تقبل شهادة الفاسق أيضاً؛ لقوله تعالى: (وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ) [الطلاق: 2] وقوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا) [الحجرات: 6].
__________
(1) أخرجه الترمذي برقم (1428)، وابن ماجه برقم (2554) وحسنه الترمذي. وقال الألباني: حسن صحيح (صحيح الترمذي رقم 1154).

(1/367)


4 - أن يعاين الشهود الزنى ويصفوا ذلك وصفاً صريحاً يدفع كل الاحتمالات عن إرادة غيره من الاستمتاع المحرم، فيقولون: رأينا ذكره في فرجها كالميل في المكحلة، وإنما أبيح النظر في مثل ذلك للضرورة.
5 - أن يكون الشهود مسلمين، فلا تقبل شهادة الكافر لعدم تحقق عدالته.
6 - أن يشهدوا عليه في مجلس واحد، سواء جاءوا مجتمعين أو متفرقين في المجلس نفسه.
فإن اختل شرط من هذه الشروط، وجب إقامة حد القذف على الشهود جميعاً؛ لأنهم قذفة.

(1/368)


الباب الثالث: في حد القذف، وفيه مسائل:
المسألة الأولى: معنى القذف وحكمه:
1 - تعريف القذف:
القذف لغة: الرمي، ومنه القذف بالحجارة وغيرها، ثم استعمل في الرمي بالمكاره كالزنى واللواط ونحوهما؛ لعلاقة المشابهة بينهما، وهي الأذى.
وشرعاً: الرمي بزنى أو لواط، أو شهادة بأحدهما ولم تكمل البينة، أو نفي نسب موجب للحد فيهما.
2 - حكم القذف:
القذف في الأصل حرام بالكتاب، والسنة، والإجماع، وكبيرة من كبائر الذنوب، فيحرم الرمي بالفاحشة.
لقوله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ) [النور: 23].
ولحديث أبي هريرة - رضي الله عنه - أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: (اجتنبوا السبع الموبقات)، وذكر منها: (قذف المحصنات المؤمنات الغافلات) (1).
وقد أجمع المسلمون على تحريم القذف وعدوه من كبائر الذنوب.
ويجب القذف على من يرى زوجته تزني، ثم تلد ولداً يقوى في ظنه أنه من الزاني؛ لئلا يلحقه الولد، ويدخله على قومه وليس منهم. ويباح القذف لمن رأى زوجته تزني، ولم تلد من ذلك الزنى.

المسألة الثانية: حد القذف، والحكمة منه:
1 - حد القذف: لقد قرر الشارع أن من قذف مسلماً بالزنى، ولم تقم بينة على صدقه فيما قذف به أنه يجلد ثمانين جلدة إن كان حراً، وأربعين إن كان
__________
(1) رواه البخاري برقم (2766)، ومسلم برقم (89).

(1/369)


عبداً، رجلاً كان أو امرأة، لقوله تعالى: (وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً) [النور: 4]. ويجب على القاذف -مع إقامة الحد عليه- عقوبة، وهي رد شهادته والحكم بفسقه؛ لقوله تعالى: (وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ) [النور: 4].
فإذا تاب القاذف قبلت شهادته، وتوبته: أن يكذب نفسه فيما قذف به غيره، ويندم ويستغفر ربه، لقوله تعالى: (إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) [النور: 5].
2 - الحكمة منه: يهدف الإسلام من إقامة حد القذف إلى صيانة المجتمع، والمحافظة على أعراض الناس، وقطع ألسنة السوء، وسد باب إشاعة الفاحشة بين المؤمنين.

المسألة الثالثة: شروط إيجاب حد القذف:
لا يجب حد القذف إلا إذا توافرت شروط في القاذف، وشروط في المقذوف، حتى يصبح جريمة تستحق عقوبة الجلد:
أولاً: شروط القاذف، وهي خمسة:
1 - أن يكون بالغاً، فلا حد على الصغير.
2 - أن يكون عاقلاً، فلا حد على المجنون والمعتوه.
3 - ألا يكون أصلاً للمقذوف، كالأب والجد والأم والجدة، فلا حدَّ على الوالد -الأب أو الأم- إن قذف ولده -الابن أو البنت- وإن سفل.
4 - أن يكون مختاراً، فلا حد على النائم والمكره.
5 - أن يكون عالماً بالتحريم، فلا حد على الجاهل.
ثانياً: شروط المقذوف، وهي خمسة أيضاً:
1 - أن يكون المقذوف مسلماً، فلا حدَّ على من قذف كافراً؛ لأن حرمته ناقصة.
2 - أن يكون عاقلاً، فلا حدَّ على من قذف المجنون.

(1/370)


3 - أن يكون بالغاً أو يكون ممن يطأ ويوطأ مثله، وهو ابن عشر وبنت تسع فأكثر.
4 - أن يكون عفيفاً عن الزنى في الظاهر، فلا حدَّ على من قذف الفاجر.
5 - أن يكون المقذوف حراً، فلا حدَّ على من قذف مملوكاً، لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (من قذف مملوكه بالزنى يقام عليه الحد يوم القيامة، إلا أن يكون كما قال) (1).
قال الإمام النووي رحمه الله: "فيه إشارة إلى أنه لا حدَّ على قاذف العبد في الدنيا، وهذا مجمع عليه، لكن يعزر قاذفه؛ لأن العبد ليس بمحصن ... " (2).
فتبين مما تقدم أن شرط إقامة الحد على القاذف أن يكون المقذوف محصناً، وهو من كان: مسلماً، عاقلاً، حراً، عفيفاً عن الزنى، بالغاً أو يكون ممن يطأ أو يوطأ مثله. وذلك لقوله تعالى: (وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ) [النور: 4].
فمفهوم ذلك: أنه لا يُجلد من قذف غير المحصن.

المسألة الرابعة: شروط إقامة حدَّ القذف:
إذا وجب حدُّ القذف فإنه لا بد من شروط أربعة لإقامته، وهي:
1 - مطالبة المقذوف للقاذف، واستدامة الطلب حتى إقامة الحد؛ لأن حدَّ القذف حق للمقذوف لا يقام إلا بطلبه ويسقط بعفوه. فإذا عفا عن القاذف سقط الحد عنه، لكنه يُعَزر بما يردعه عن التمادي في القذف المحرم.
2 - ألا يأتي القاذف ببينة على ثبوت ما قذف به -وهي أربعة شهداء-؛ لقوله تعالى: (ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ) [النور: 4].
3 - ألا يصدقه المقذوف فيما قذفه به ويقر به، فإن أقر المقذوف، وصدَّق القاذف، فلا حدَّ؛ لأن ذلك أبلغ في إقامة البينة.
4 - ألا يلاعن القاذف المقذوف، إن كان القاذف زوجاً، فإن لاعنها سقط الحد، كما مضى في اللعان.
__________
(1) أخرجه مسلم برقم (1660).
(2) شرح مسلم (11/ 131 - 132).

(1/371)


الباب الرابع: في حد شارب الخمر، وفيه مسائل:
المسألة الأولى: تعريف الخمر وحكمه وحكمة تحريمه:
1 - تعريف الخمر:
الخمر لغة: كل ما خَامَرَ العقل، أي غطاه من أي مادة كان.
وشرعاً: كل ما أسكر سواء كان عصيراً أو نقيعاً من العنب أو غيره، أو مطبوخاً أو غير مطبوخ. والسُّكْر: هو اختلاط العقل، والمُسْكِر: هو الشراب الذي جعل صاحبه سكران، والسكران: خلاف الصاحي.
2 - حكمه:
حكم الخمر التحريم، وكذا سائر المسكرات، فكل مسكر خمر، فلا يجوز شرب الخمر، سواء كان قليلاً أو كثيراً، وشربه كبيرة من الكبائر، والخمر محرمة بالكتاب والسنة والإجماع؛ لقوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) [المائدة: 90].
فالأمر بالاجتناب دليل على التحريم.
ولحديث عائشة رضي الله عنها: أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: (كل شراب أسكر فهو حرام) (1). وعن ابن عمر رضي الله عنهما مرفوعاً: (كل مسكر خمر، وكل خمر حرام) (2). والأحاديث في تحريمها، والتنفير منها، كثيرة جداً تبلغ التواتر.
وقد أجمعت الأمة على تحريمها.
3 - الحكمة في تحريم الخمر:
لقد أنعم الله عز وجل على الإنسان بنعم كثيرة، منها نعمة العقل التي ميزه بها عن سائر المخلوقات، ولما كانت المسكرات من شأنها أن تفقد الإنسان نعمة العقل، وتثير الشحناء والبغضاء بين المؤمنين، وتصد عن الصلاة، وعن ذكر الله،
__________
(1) رواه البخاري برقم (5585)، ومسلم برقم (2001).
(2) أخرجه مسلم برقم (2003) -75.

(1/372)


حرمها الشارع، فالخمر خطرها عظيم، وشرها جسيم، فهي مطية الشيطان التي يركبها للإضرار بالمسلمين. قال الله تعالى: (إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ) [المائدة: 91].

المسألة الثانية: حد شارب الخمر، وشروطه، وبم يثبت؟
1 - حد شارب الخمر:
حد شارب الخمر الجلد، ومقداره: أربعون جلدة، ويجوز أن يبلغ ثمانين جلدة، وذلك راجع لاجتهاد الإمام، يفعل الزيادة عند الحاجة إلى ذلك، إذا أدمن الناس الخمر، ولم يرتدعوا بالأربعين؛ لحديث علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - في قصة الوليد بن عقبة: (جلد النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أربعين، وأبو بكر أربعين، وعمر ثمانين، وكلٌّ سنَّةٌ، وهذا أحب إليَّ) (1)، ولحديث أنس - رضي الله عنه -: (أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يضرب في الخمر بالنعال والجريد أربعين) (2).
2 - شروط إقامة حد الخمر: يشترط لإقامة الحد على السكران شروط، وهي:
- أن يكون مسلماً، فلا حدَّ على الكافر.
- أن يكون بالغاً، فلا حد على الصبي.
- أن يكون عاقلاً، فلا حد على المجنون، والمعتوه.
- أن يكون مختاراً، فلا حد على المكره والناسي وأمثاله. وهذه الشروط الثلاثة يدل عليها قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (إن الله تجاوز لأمتي عن الخطأ والنسيان، وما استكرهوا عليه). وقوله صلى الله عنه وسلم: (رفع القلم عن ثلاثة…) الحديث. وقد تقدما مراراً.
- أن يكون عالماً بالتحريم، فلا حد على الجاهل.
- أن يعلم أن هذا الشراب خمر، فإن شربه على أنه شراب آخر، فلا حد عليه.
__________
(1) رواه مسلم برقم (1707).
(2) رواه مسلم برقم (1706).

(1/373)


3 - ما يثبت به حد الخمر:
يثبت حد الخمر بأحد أمرين:
1 - الإقرار بالشرب، كأن يقر، ويعترف بأنه شرب الخمر مختاراً.
2 - البينة، وهي شهادة رجلين عدلين، مسلمين عليه.

المسألة الثالثة: حكم المخدرات والاتجار بها:
1 - حكم المخدرات سوى الخمر:
يقصد بالمخدرات ما يغشي العقل والفكر، ويصيب متعاطيها بالكسل، والثقل، والفتور، من البنج والأفيون والحشيش ونحوها. والمخدرات حرام كيفما كان تعاطيها؛ لحديث عائشة رضي الله عنها: أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: (كل شراب أسكر فهو حرام) (1)، ولحديث ابن عمر رضي الله عنهما، أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: (كل مسكر خمر، وكل مسكر حرام…) (2) الحديث، ولعظم خطر هذه المواد المخدرة، وشدة إفسادها، وفتكها بشباب الأمة، ورجالها، وشغلهم عن طاعة ربهم، وجهاد أعدائهم، ومعالي الأمور.
2 - حكم الاتجار بالمواد المخدرة:
ورد النهي عن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في تحريم بيع الخمر، فقد روى جابر - رضي الله عنه - عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: (إن الله حرم بيع الخمر والميتة والخنزير والأصنام) (3).
ولقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (إن الله إذا حرم شيئاً حرم ثمنه) (4).
ولذا قال العلماء: إن ما حرم الله الانتفاع به يحرم بيعه، وأكل ثمنه.
ولما كانت المخدرات يتناولها اسم الخمر، فإنَّ النهي عن بيع الخمر يتناول هذه المخدرات شرعاً، فلا يجوز بيعها إذن، ويكون المال المكتسب من الاتجار بها حراماً.
__________
(1) رواه البخاري برقم (5585)، ومسلم برقم (2001).
(2) رواه مسلم برقم (2003).
(3) رواه مسلم برقم (1581).
(4) رواه أبو داود برقم (3488)، وأحمد (1/ 242)، وهو صحيح (انظر التعليق على مسند أحمد 4/ 95 ح 2221) طبعة الأرناؤوط.

(1/374)


الباب الخامس: في حد السرقة، وفيه مسائل:
المسألة الأولى: تعريف السرقة، وحكمها، وحد فاعلها، والحكمة من إقامة الحد فيها:
1 - تعريف السرقة:
السرقة لغة: الأخذ خفية.
وشرعاً: أخذ مال الغير خفية ظلماً من حرز مثله بشروط معينة، على ما سيأتي بيانه إن شاء الله.
2 - حكم السرقة:
السرقة حرام؛ لأنها اعتداء على حقوق الآخرين، وأخذ أموالهم بالباطل. قد دلَّ على تحريمها الكتاب والسنة والإجماع، وهي من كبائر الذنوب؛ فقد لعن الله صاحبها كما في حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: (لعن الله السارق يسرق البيضة فتقطع يده ويسرق الحبل فتقطع يده) (1). وغير ذلك من الأحاديث في تحريم السرقة، والتنفير منها.
3 - حدُّ فاعلها:
ويجب على فاعلها الحد، وهو: قطع يده، رجلاً كان أو امرأة؛ لقوله تعالى: (وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالًا مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) [المائدة: 38].
ولحديث عائشة رضي الله عنها قالت: (كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقطع السارق في ربع دينار فصاعداً) (2)، ولحديث عائشة رضي الله عنها أيضاً قالت: إن قريشا أهمهم شأن المرأة المخزومية التي سرقت، وفيه قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (وايم الله لو أن
__________
(1) متفق عليه: رواه البخاري برقم (6783)، ومسلم برقم (1687).
(2) رواه البخاري برقم (6790)، ومسلم برقم (1684).

(1/375)


فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها)، ثم أمر بتلك المرأة التي سرقت فقطعت يدها (1).
وأجمع المسلمون على تحريم السرقة، وعلى وجوب قطع يد السارق في الجملة.
4 - الحكمة من إقامة حد السرقة:
احترم الإسلام المال، واحترم حق الأفراد في امتلاكه، وحَرَّم الاعتداء على هذا الحق: بسرقة أو اختلاس أو غش أو خيانة أو رشوة، أو غير ذلك من وجوه أكل أموال الناس بالباطل.
ولما كان السارق عضواً فاسداً في المجتمع -إذ لو ترك لسرى شرُّه، وعمَّ خطره وضرره- شرع الإسلام بتر هذا العضو الفاسد؛ عقاباً لهذه اليد على ظلمها وعدوانها، وردعاً لغيره عن اقتراف مثل هذه الجريمة، وصيانة لأموال الناس وحقوقهم.

المسألة الثانية: شروط وجوب حد السرقة:
يشترط لإقامة حد السرقة وقطع السارق الشروط التالية:
1 - أن يكون أخذ المال على وجه الخفية، فإن لم يكن كذلك فلا قطع، فالمنتهب على وجه الغلبة، والمغتصب، والمختطف، والخائن لا قطع عليهم؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (ليس على خائن ولا منتهب ولا مختلس قطع) (2).
2 - أن يكون السارق مكلفاً -بالغاً عاقلاً- فلا قطع على الصغير والمجنون؛ لأنه مرفوع عنهما التكليف كما مرَّ، ولكن يؤدب الصغير إذا سرق.
3 - أن يكون السارق مختاراً، فلا قطع على المكره؛ لأنه معذور؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه).
4 - أن يكون عالماً بالتحريم، فلا قطع على جاهل بتحريم السرقة.
__________
(1) رواه البخاري برقم (3475)، ومسلم برقم (1688).
(2) أخرجه الترمذي برقم (1488)، وابن ماجه برقم (2591) واللفظ للترمذي، وقال فيه: حسن صحيح.
وصححه الألباني (صحيح الترمذي برقم 1172).

(1/376)


5 - أن يكون المسروق مالاً محترماً، فما ليس بمال لا حرمه له؛ كآلات اللهو والخمر والخنزير والميتة، وكذا ما كان مالاً لكنه غير محترم؛ كمال الكافر الحربي -فإن الكافر الحربي حلال الدم والمال- لا قطع فيه.
6 - أن يبلغ الشيء المسروق نصاباً، وهو ربع دينار ذهباً فأكثر، أو ثلاثة دراهم فضة أو ما يقابل أحدهما من النقود الأخرى، فلا قطع في أقل من ذلك؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (لا تقطع يد السارق إلا في ربع دينار فصاعداً) (1).
7 - أن يكون المال المسروق من حرز مثله، وهو المكان الذي يحفظ فيه المال في العادة، وهو يختلف باختلاف الأموال والبلدان وغير ذلك، ويرجع فيه إلى العرف، فإن سرق من غير حرز، كأن يجد باباً مفتوحاً، أو حرزاً مهتوكاً؛ فلا قطع عليه.
8 - أن تنتفي الشبهة عن السارق، فإن كان له شبهة فيما سرق فلا قطع عليه؛ فإن الحدود تدرأ بالشبهات، فلا قطع على من سرق من مال أبيه، وكذا من سرق من مال ابنه؛ لأن نفقة كل منهما تجب في مال الآخر. ولا يقطع الشريك بالسرقة من مال له فيه شرك. وكذا كل من له استحقاق في مال، فأخذ منه، فلا قطع عليه، لكن يؤدب ويرد ما أخذ.
9 - أن تثبت السرقة عند الحاكم، إما بشهادة عدلين أو بإقرار السارق؛ لعموم قوله تعالى: (وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ) [البقرة: 282]. وأما الإقرار فلأن الإنسان غير متهم في الإقرار على نفسه بالإضرار بها.
10 - أن يطالب المسروق منه بماله؛ لأن المال يباح بالبذل والإباحة، فيحتمل إباحة صاحبه له، أو إذنه بدخول حرزه، أو غير ذلك مما يسقط الحد.

المسألة الثالثة: الشفاعة في حد السرقة، وهبة المسروق للسارق:
1 - الشفاعة في حد السرقة: لا تجوز الشفاعة في حد السرقة، ولا في غيره
__________
(1) أخرجه مسلم برقم (1684) -2.

(1/377)


من الحدود، إذا علمه الإمام ووصل الأمر إليه؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لأسامة بن زيد لما أراد الشفاعة للمرأة المخزومية التي سرقت: (أتشفع في حد من حدود الله؟!) (1)
وقد تقدم الكلام على ذلك في أول الحدود.
2 - هبة المسروق للسارق: يجوز هبة الشيء المسروق للسارق، وعفو المسروق منه عنه، قبل رفع الأمر للحاكم. أما إذا وصل إليه فلا؛ لحديث صفوان بن أمية في السارق الذي أخذ رداءه من تحت رأسه، فلما رفع الأمر إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأمر بقطعه، قال صفوان: (إني أعفو وأتجاوز). وفي رواية: (قال: يا رسول الله هو له). فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (هلاَّ قبل أن تأتيني به) (2).

المسألة الرابعة: كيفية القطع وموضعه:
إذا توافرت الشروط السابق ذكرها، ووجب القطع، قطعت يد السارق اليمنى من مفصل الكف. وبعد القطع تحسم يد السارق بكيِّها بالنار، أو غمسها في زيت مغليّ، أو غير ذلك من الوسائل التي توقف نزف الدم، وتجعل الجرح يندمل، حتى لا يتعرض المقطوع للتلف والهلاك.
فإذا عاد السارق إلى السرقة ثانية، قُطعت رجله اليسرى.
__________
(1) رواه البخاري برقم (3475)، ومسلم برقم (1688).
(2) أخرجه النسائي (2/ 255)، وأحمد (6/ 466)، وهو صحيح، وصححه الألباني في الإرواء برقم (2317).

(1/378)


الباب السادس: في التعزير، وفيه مسائل:
المسألة الأولى: تعريف التعزير، وحكمه، والحكمة منه:
1 - تعريف التعزير:
التعزير لغة: المنع والرد ويأتي بمعنى النصرة مع التعظيم، كما في قوله تعالى: (وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ) [الفتح: 9]، فإنه يمنع المعادي من الإيذاء. كما يأتي بمعنى الإهانة، يقال: عزره بمعنى أدَّبه على ذنب وقع منه، فهو بذلك من الأضداد. والأصل فيه المنع.
واصطلاحاً: التأديب في كل معصية لا حد فيها ولا كفارة.
2 - حكم التعزير:
التعزير واجب في كل معصية لا حدَّ فيها ولا كفارة من الشارع، من فعل المحرمات وترك الواجبات إذا رآه الإمام؛ لحديث أبي بردة بن نيار - رضي الله عنه - أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: (لا يجلد فوق عشر جلدات إلا في حد من حدود الله) (1)، ولأنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (حبس في تهمة) (2). وكان عمر - رضي الله عنه - يعزر ويؤدب بالنفي، وحَلْق الرأس وغير ذلك. والتعزير راجع إلى الإمام أو نائبه، يفعله إذا رأى المصلحة في فعله، ويتركه إذا اقتضت المصلحة تركه.
3 - الحكمة من مشروعية التعزير:
شرع التعزير؛ صيانة للمجتمع من الفوضى والفساد، ودفعاً للظلم، وردعاً وزجراً للعصاة وتأديباً لهم.

المسألة الثانية: أنواع المعاصي التي توجب التعزير:
المعاصي التي توجب التعزير نوعان:
1 - ترك الواجبات مع القدرة على أدائها؛ كقضاء الديون، وأداء الأمانات
__________
(1) متفق عليه: رواه البخاري برقم (6848، 6849)، ومسلم برقم (1708).
(2) أخرجه الترمذي برقم (1450)، وأبو داود برقم (3630) وحسنه الألباني (صحيح الترمذي رقم 1145).

(1/379)


وأموال اليتامى، فإن هذه الأمور ومثلها يعاقب عليها من ترك أداءها حتى يؤديها، لحديث أبي هريرة - رضي الله عنه - أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: (مطل الغني ظلم) (1).
وفي رواية: (لَيُّ الواجد يحل عرضه وعقوبته) (2).
2 - فعل المحرمات؛ كأن يختلي رجل بامرأة أجنبية أو يباشرها في غير الفرج، أو يُقَبِّلها أو يمازحها، وكإتيان المرأة المرأة، ففي هذا وأمثاله التعزير؛ إذ لم يرد فيه عقوبة محددة.

المسألة الثالثة: مقدار التعزير:
لم يقدر الشارع حدّاً معيناً في عقوبة التعزير، وإنما المرجع في ذلك لاجتهاد الحاكم وتقديره لما يراه مناسباً للفعل، حتى إن بعض العلماء يرى أن التعزير قد يصل إلى القتل إذا اقتضت المصلحة، كقتل الجاسوس المسلم، والمفرق لجماعة المسلمين، وغيرهما ممن لا يندفع شرهم إلا بالقتل.

المسألة الرابعة: أنواع العقوبات التعزيرية:
يمكن أن تصنف العقوبات التعزيرية حسب متعلقاتها على النحو التالي:
1 - ما يتعلق بالأبدان، كالجلد والقتل.
2 - ما يتعلق بالأموال؛ كالإتلاف والغرم، كإتلاف الأصنام وتكسيرها، وإتلاف آلات اللهو والطرب وأوعية الخمر.
3 - ما هو مركب منهما؛ كجلد السارق من غير حرز مع إضعاف الغرم عليه، فقد قضى - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على من سرق من الثمر المعلق قبل أن يؤويه الجَرِينُ: بالحدِّ وغَرَّمَه مرتين. والجرين: موضع تجفيف التمر.
4 - ما يتعلق بتقييد الإرادة، كالحبس، والنفي.
5 - ما يتعلق بالمعنويات؛ كإيلام النفوس بالتوبيخ، والزجر.
__________
(1) رواه البخاري برقم (2400)، ومسلم برقم (1564).
(2) أخرجه أبو داود برقم (3628)، والنسائي (7/ 316)، وابن ماجه برقم (2427)، وصححه غير واحد، وحسنه الألباني. (انظر: صحيح سنن النسائي رقم 4372، 4373). واللَّيُّ معناه: المطل.

(1/380)


الباب السابع: في حد الحرابة، وفيه مسائل:
المسألة الأولى: تعريف الحرابة، وحد المحاربين:
1 - تعريف الحَرَابَة:
لغة: مأخوذ من حَرِبَ حَرَباً أي. أخذ جميع ماله.
وشرعاً: البروز لأخذ مال أو لقتل أو لإرهاب، مكابرة، اعتماداً على الشوكة، مع البعد عن مسافة الغوث، من كل مكلف ملتزم للأحكام، ولو كان ذمياً أو مرتدا.
وتسمى أيضاً: قطع الطريق.
2 - حد الحرابة وعقوبة المحاربين:
الأصل في إقامة الحد على المحاربين وقطاع الطرق وعقوبتهم قوله تعالى: (إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ) [المائدة: 33].
وتختلف عقوبة المحاربين وحدُّهم باختلاف الجرائم التي ارتكبوها، وذلك على النحو التالي:
- من قتل منهم وأخذ المال: قتل وصلب، حتى يشتهر أمره، ولا يجوز العفو عنه بإجماع العلماء.
- ومن قتل منهم ولم يأخذ المال: قتل ولم يصلب.
- ومن أخذ المال ولم يقتل: قطعت يده ورجله من خلاف في آن واحد.
- ومن أخاف الناس والطريق فقط، ولم يقتل، ولم يأخذ مالاً، نفي من الأرض وشرد وطورد، فلا يُترك يأوي إلى بلد.
وهذا التفصيل في عقوبتهم مأخوذ من أن (أو) في الآية للتنويم في العقوبة وترتيبها لا للتخيير، وهو مرويٌّ عن ابن عباس رضي الله عنهما (1).
__________
(1) أخرجه الشافعي في مسنده برقم (282).

(1/381)


المسألة الثانية: شروط وجوب الحد على المحاربين:
يشترط لتطبيق الحد على المحاربين شروط، أهمها:
1 - التكليف: فلا بد من البلوغ والعقل حتى يعدَّ الشخص محارباً، ويقام عليه الحد. فالمجنون والصبي لا يُعَدَّان محاربين، ولا يقام عليهما الحد؛ لعدم تكليف واحد منهما شرعاً.
2 - أن يأتوا مجاهرة، ويأخذوا المال قهراً. فإن أخذوه مختفين فهم سُرَّاق، وإن اختطفوه، وهربوا فهم منتهبون، فلا قطع عليهم.
3 - ثبوت كونهم محاربين، إما بإقرارهم أو بشهادة عدلين، كما في السرقة.
4 - أن يكون المال الذي يؤخذ في حرز، بأن يأخذه من يد صاحبه قهراً، فإن كان المال متروكاً ليس بيد أحد، لم يكن آخذه محارباً.

المسألة الثالثة: سقوط الحد عن المحاربين:
يسقط حد الحرابة إذا تاب الجاني المحارب قبل القدرة عليه وتَمَكُّنِ الحاكم منه، كأن يهرب أو يختفي ثم يتوب؛ لقوله تعالى: (إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) [المائدة: 34]، فيسقط ما كان واجباً لله، من النفي عن البلد، وقطع اليد والرجل، وتحتَّم القتل. إلا أن حقوق الآدميين من نفس أو طرف أو مال لا تسقط؛ لأنه حق لآدمي تعلق به فلا يسقط كالدَّين، إلا أن يعفو عنها مستحقها.
أما من تاب بعد القدرة عليه، ورفعه إلى ولي الأمر، فلا يسقط الحد عنه، وإن كان صادقاً في توبته.

(1/382)


الباب الثامن: في الردة، وفيه مسائل:
المسألة الأولى: تعريفها، وشروطها، وحكم المرتد:
1 - تعريف الردة: الردة في اللغة: الرجوع عن الشيء، ومنه الرجوع عن الإسلام.
وفي الاصطلاح: الكفر بعد الإسلام طوعاً بنطق، أو اعتقاد، أو شك، أو فعل.
2 - شروطها: أما شروطها: فالعقل والتمييز والاختيار.
فلا يحكم على مجنون، أو صبي غير مميز، أو مكره بالردة، إذا وقعت منهم.
3 - حكم المرتد: أما حكمه في الدنيا: فهو القتل؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (من بَدل دينه فاقتلوه) (1). وينبغي قبل القتل أن يستتاب، ويدعى إلى الإسلام، وأن يضيق عليه ويحبس ثلاثة أيام، فإن تاب وإلا قتل؛ لحديث اليهودي الذي كان أسلم ثم ارتد. فقال معاذ - رضي الله عنه - لأبي موسى: لا أنزل عن دابتي حتى يقتل، فقتل. وفي رواية: (وكان قد استُتيب قبل ذلك) (2). ولقول عمر - رضي الله عنه - لما بلغه أن رجلاً كفر بعد إسلامه فضربت عنقه قبل أن يستتاب: (فهلاَّ حبستموه ثلاثاً، فأطعمتموه كل يوم رغيفاً، واستتبتموه، لعله يتوب، أو يراجع أمر ربه. اللهم إني لم أحضر، ولم أرض إذ بلغني) (3).
والذي يتولى قتله الإمام أو نائبه؛ لأنه حق لله تعالى فيكون إلى وليِّ الأمر.
ولا يقتل الصبي المميز -ولو قيل بصحة ردته- حتى يبلغ.
وأما حكمه في الآخرة: فقد بَيَّنه الله تعالى في قوله: (وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ) [البقرة: 217].
__________
(1) رواه البخاري برقم (6524).
(2) أخرجه أبو داود برقم (4355). وقواه الحافظ ابن حجر (الفتح 12/ 287).
(3) أخرجه مالك في الموطأ (2/ 737) برقم 16

(1/383)


المسألة الثانية: الأمور التي تحصل بها الردة:
والردة تحصل بارتكاب ما يوجبها جداً أو هزلاً أو استهزاءً، كالشرك بالله بجميع أنواعه، وجحود الصلاة وغيرها من أركان الإسلام، وسب الله ورسوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وجحود القرآن الكريم كله أو بعضه، ومن اعتقد أن بعض الناس يجوز له الخروج عن شريعة محمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كغلاة الصوفية، وكذلك مَنْ ظاهر المشركين وأعانهم على المسلمين، وغير ذلك من أنواع الردة التي تحصل بارتكاب ناقض من نواقض الإسلام الكثيرة. ومن ذلك: تحكيم القوانين الوضعية ممن يرى أنها أصلح مما جاءت به الشريعة الإسلامية أو أنها مساوية لها.
وعلى هذا فإنه يمكن حصر الأمور التي تحصل بها الردة فيما يلي:
1 - القول: كمن سبَّ الله تعالى أو رسوله أو الملائكة، أو ادعى النبوة، أو ادعى علم الغيب، وكذا الشرك بالله تعالى.
2 - الفعل: كالسجود للصنم والقبر ونحو ذلك، أو إلقاء المصحف، أو تعمد امتهانه، أو مظاهرة المشركين، ومعاونتهم على المسلمين، وغير ذلك.
3 - الاعتقاد: مثل اعتقاد الشريك لله تعالى أو الصاحبة أو الولد، أو اعتقاد حل الزنا أو الخمر، أو اعتقاد أن هدي غير النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أكمل من هديه.
4 - الشك: كأن يشك في حرمة ما أُجمع على حله، أو حل ما أجمع على حرمته، ومثله لا يجهله لكونه نشأ بين المسلمين.

المسألة الثالثة: الأحكام المتعلقة بالردة:
1 - المكره إذا نطق بما يوجب ردته بسبب الإكراه فإنه لا يحكم بارتداده؛ لقوله تعالى: (إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ) [النحل: 106].
2 - المرتد يستتاب ثلاثة أيام فإن تاب وإلا قتل، وقتله للإمام أو نائبه، كما مضى بيان ذلك.
3 - المرتد يمنع من التصرف في ماله، فإنْ أسلم مُكِّنَ من التصرف فيه، وإن

(1/384)


مات على ردته أو قتل مرتداً فماله فيءٌ لبيت مال المسلمين؛ لأنه لا وارث له، لأن المسلم لا يرث الكافر، ولا يرثه أحد من الكفار؛ لأنه لا يُقَرُّ على رِدَّته.
4 - المرتد لا يغسل ولا يصلى عليه، ولا يدفن مع المسلمين إذا قتل على ردته.
5 - تحصل توبة المرتد بإتيانه بالشهادتين، لعموم قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله، فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها) (1). ومن كانت ردته بسبب جحود شيء من أمور الدين فتوبته إلى جانب الإتيان بالشهادتين: إقراره بما جحد وأنكر، ورجوعه عما كفر به.
__________
(1) أخرجه البخاري برقم (25)، ومسلم برقم (21).

(1/385)