الفقه على المذاهب الأربعة

واجبات الحج
رمي الجمار - المبيت بمنى - الوجود بمزدلفة
وقد عرفت مما تقدم أن كل ركن من أركان الحج له شروط وواجبات، وسنن، وقد بينا كل ما يخص كل ركن منها قريباً، وبقيت واجبات عامة لا تخص ركناً دون ركن، وهي التي نريد بيانها ها هنا ذا، ومنها رمي الجمار، والمبيت بمنى، والوجود بالمزدلفة، والحلق، والتقصير، وغير ذلك مما هو مفصل في المذاهب، فانظره تحت الخط (1) .
__________
الثاني: أن ينوي بمروره الحضور، فلو مر بها. ولم ينو ذلك، فلا يكفيه وأما غير المار. وهو من لبث بها. فلا يشترط فيه شيء من ذلك: فيكفي مكثه بها وهو نائم. أو مغمى عليه. وقد تقدم أن الركن هو الحضور لحظة من الليل من غروب شمس اليوم التاسع من ذي الحجة إلى طلوع الفجر. وواجب الركن الطمأنينة في حضوره. فإن لم يطمئن لزمه دم، كما يجب الوقوف في نهار التاسع بعد الزوال إلى الغروب، فإذا تركه بغير عذر فعليه دم، فالحضور بعرفة نوعان: ركن يفسد الحجر بتركه، وواجب يلزم في تركه دم. فالأول: لحظة من غروب شمس يوم عرفة إلى طلوع فجر يوم النحر. والثاني: لحظة من زوال شمس يوم عرفة إلى غروب الشمس من ذلك اليوم. ويجزئ الوقوف بأي جزء من عرفة كان. ولكن الأفضل الوقوف بمحل وقوفه عليه الصلاة والسلام. وذلك عند الصخرات العظام المنبسطة في أسفل جبل الرحمة. ويندب السير لعرفة بعد طلوع الشمس من اليوم التاسع وأن ينزل إذا وصلها بالمحل المعروف بنمرة. والاغتسال للوقوف. والتضرع والابتهال إلى الله تعالى بالدعاء، والتطهر من الحدث، والركوب، والقيام للرجال. إلا لعذر. وأما النساء فلا يندب لهن القيام. ويسن الجمع بين صلاتي الظهر والعصر بعرفة تقديماً. وأن يخطب الإمام خطبتين يعلم الناس فيهما ما يفعل بعرفة إلى آخر الحج. وتكون الخطبتان إثر زوال الشمس من اليوم التاسع. ثم يؤذن. ويقام للظهر وهو على المنبر. ثم ينزل فيصلي بالناس الظهر. ثم يؤذن. ويقام ثانياً للعصر. ثم يصليها بهم.
ويجمع هذا الجمع، ولو كان اليوم يوم جمعة، وعليه فلا جمعة في هذا اليوم، ثم ينصرف الناس بعد الصلاة للوقوف إلى الغروب فإذا غربت الشمس، ودخل الليل، وهم بعرفة، فقد حصل الركن، كما حصل الواجب بالحضور نهاراً

(1) الشافعية قالوا: واجبات الحج العامة خمسة؛ الأول: الإحرام من الميقات على التفصيل المتقدم، الثاني: الوجود بمزدلفة، ولو لحظة، بشرط أن يكون ذلك في النصف الثاني من الليل بعد الوقوف بعرفة، ولا يشترط المكث؛ بل يكفي مجرد المرور بها، سواء أعلم بأنها المزدلفة أم لا، الثالث: رمي الجمار؛ بأن يرمي جمرة العقبة وحدها يوم النحر. والجمرات الثلاث كل يوم من أيام التشريق الثلاثة التي هي عقب النحر؛ ويدخل وقت الرمي بانتصاف ليلة النحر، بشرط تقدم

(1/599)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
__________
الوقوف، ويمتد وقته إلى آخر أيام التشريق؛ ولا بد من تحقق معنى الرمي، فلو وضع الحجر في المرمى لم يعتد به، وكذا لا بد من قصد مكان الرمي. فلا يجزئ الرمي في الهواء وإن وقع في المرمى، ولا يجزئ الرمي إلا إذا تحقق إصابة المرمى، والرمي المعتبر شرعاً هو ما كان باليد لا بقوس ونحوه، فإنه لا يجزئه إلا لعذر، ولا يجزئ في الرمي إلا الحجر، أما اللؤلؤ، والملح، والآجر ونحوه فلا يجزئ، ولا بد أن يجزم الرامي بأنه رمى سبع حصيات في كل جمرة من الجمرات الثلاث، وذلك في اليوم الثاني، والثالث، والرابع من أيام العيد، كما أنه لا بد أن يتحقق رمي سبع حصيات في جمرة العقة، وهي التي تتكون في يوم العيد، فإن شك كمل حتى يتحقق السبع ويشترط في السبع حصيات أن ترمى في سبع مرات، أما لو رماها على غير ذلك فلا تحسب إلا واحدة؛ ولا بد من الترتيب بين الجمرات الثلاث التي يرميها أيام التشريق، فيبدأ برمي الجمرة التي تلي مسجد الخيف، ثم الوسطى؛ ثم العقبة، فلا ينتقل إلى واحدة إلا بعد تمام ما قبلها.
وسنن الرمي: منها الاغتسال له كل يوم ومنها تقديم الرمي أيام التشريق على صلاة الظهر. ومنها الموالاة بين الرميات وبين الجمرات. ومنها أن يكون الرمي باليد اليمنى إن سهل، ومنها غسل الحصى إن احتملت نجاسة. ومنها أن يكون الجمر صغيراً أقل من الأنملة. ومنها إبدال التلبية بالتكبير عند أول حصاة يرميها ومنها أن يرمي راكباً إذا أتى من منى راكباً. ومنها أن يرمي بحصيات جديدة لم يرم هو ولا غيره بها. وكره مخالفة شيء من تلك السنن. الرابع: من واجبات الحج: المبيت بمنى. ويشترط فيه أن يكون معظم الليل من ليالي أيام التشريق الثلاثة لمن لم يتعجل. أما من أراد أن يتعجل. ويخرج من منى إلى مكة في اليوم الثاني من أيام التشريق وهو الثالث من أيام العيد، فيسقط عنه المبيت بمنى ليلة الثالث من أيام التشريق والرمي فيه. لقوله تعالى: {فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه} - الآية. بشرط أن يخرج من منى قبل غروب الشمس من اليوم الثاني، فلو غربت عليه الشمس، وهو بمنى، تعين عليه المبيت ليلة الثالث. والرمي فيه، إلا إذا كان تأخيره لعذر، ويشترط لجواز الخروج المذكور أن يكون بنية مقارنة له، فلو خرج من غير نية لزمه العود وأن لا يعزم على العود حال خروجه. فلو خرج عازماً على العود لزمه العود. ولا تفيد نية الخروج، وإنما يجب المبيت بمنى ليالي الرمي على غير المعذور، أما المعذور: كرعاة الإبل. وأهل السقاية بمكة أو بالطريق، ومن خاف على نفسه وماله من المبيت فيرخص له في ترك المبيت ولا يلزمه أما الرمي فلا يسقط، الخامس: التباعد عن محرمات الإحرام السابقة.
الحنفية قالوا: واجبات الحج الأصلية خمسة: أولاً: السعي بين الصفا والمروة؛ ثانياً؛ الحضور بمزدلفة، ولو ساعة قبل الفجر، فلو ترك الحضور بالمزدلفة قبل طلوع الفجر لزمه دم إلا إذا كانت به علة أو مرض فلا شيء عليه، ثالثاً: رمي الجمار لكل حاج؛ وكيفيته أن يرمي يوم النحر جمرة العقبة من بطن الوادي بسبع حصيات ونحوها، مما يجوز عليه التيمم، ولو كفاً من تراب، فإنه يقوم مقام الحصاة الواحدة، ولا يجوز الرمي: بخشب، وعنبر، ولؤلؤ، وذهب وفضة، وجوهر، وبعر، ونحو ذلك، لأنه ليس من جنس الأرض، ويكره أخذ الحصاة ونحوها من عند الجمرة، كما يكره نثرها، ويكره أن يرمي

(1/600)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
__________
أكثر من سبع حصيات، ويسن في الرمي أن يكون بين الرامي وبين الجمرة - أي المكان الذي يرمي فيه الحصى - خمسة أذرع، وأن يمسكها برؤوس اصابعه، فإن رماها ونزلت على رجل أو جمل، فإن وقعت بنفسها بقرب الجمرة جاز، أما إن وقعت في مكان بعيد عن الجمرة، فإنها لا تجزئه، ويرمي غيرها وجوباً، ويقدر البعد بثلاثة أذرع؛ وأن يكبر مع رمي كل حصاة، بأن يقول؛ باسم الله؛ الله أكبر، ويقطع التلبية لأولها، ويكره أن يتخذ حجراً واحداً يكسره إلى حصى صغير يرمي به؛ ووقت أداء رمي جمرة العقبة فجر يوم النحر إلى فجر اليوم الثاني منه.
فإن قدمه عن ذلك لا يجزئه، وإن أخره عن ذلك لزمه دم، ويستحب أن يكون هذا الرمي بعد شروق الشمس إلى الزوال، ويباح بعد ذلك إلى الغروب، ويكره بالليل، كما يكره بعد فجر النحر إلى طلوع الشمس؛ ثم يرمي ثاني يوم النحر الجمار الثلاث؛ ويسن أن يبدأ برمي الجمرة الأولى، وهي التي تلي مسجد الخيف، ثم بالجمرة الوسطى، ثم بجمرة العقبة؛ وفي كل منها يرمي سبع حصيات بالكيفية المتقدمة، فإن عكس هذا الترتيب بأن رمى الجمرة الوسطى مثلاً قبل الجمرة الأولى، سن له إعادة الرمي، ويسن أن يقف بعد أن يتم الرمي الذي بعده رمي آخر بمقدار قراءة ثلاثة أرباع جزء من القرآن - ثلث ساعة تقريباً - ووقت الرمي في اليوم الثاني والثالث هو من بعد الزوال إلى الغروب: ويكره في الليل إلى الفجر وقبل الزوال لا يجزئ، وبعد فجر اليوم الثاني يلزمه دم بالتأخير ويدعو لنفسه أو لغيره بما شاء؛ رافعاً يديه نحو القبلة أو نحو السماء؛ ثم يرمي كذلك في ثالث أيام النحر. وكذا في تاليه إن بقي هناك، ويجوز له أن يرمي ماشياً أو راكباً. والأفضل في رمي الأولى والوسطى أن يكون ماشياً، وفي رمي جمرة العقبة أن يكون راكباً؛ رابعاً: الحلق أو التقصير، خامساً: طواف الصدر، أما ما عدا ذلك من الواجبات فهي متعلقة بكل واجب من هذه الواجبات الأصلية، أو متعلقة بشرط أو ركن على حدته، وقد علمت مما تقدم واجبات الطواف؛ وواجبات السعي، وواجبات الوقوف، وبقي من الواجبات: الترتيب بين الرمي والحلق. والذبح يوم النحر، وتوقيت الحلق بالزمان والمكان. والضابط أن كل ما يترتب على تركه دم فهو واجب، وسيأتي بيان كل ما يترتب على تركه دم في مبحث "جناية الحج".
الحنابلة قالوا: للحج واجبات سبعة: الأول: الإحرام من الميقات المعتبر شرعاً. الثاني: وقوفه بعرفة إلى الغروب إذا وقف نهاراً؛ الثالث: المبيت بالمزدلفة ليلة النحر على غير السقاة والرعاة ويتحقق بالوجود في أي لحظة من النصف الثاني من الليل، الرابع: المبيت بمنى على غير السقاة والرعاة ليالي أيام التشريق، الخامس: رمي الجمار على الترتيب، بأن يبدأ بالتي تلي مسجد الخيف، ثمبالوسطى، ثم بجمرة العقبة، ولا يجزئ في الرمي أن يرمي بحصاة صغيرة جداً، أو كبيرة، ولا بما رمى بها غيره، ولا يجزئ أيضاً بغير الحصى. كجوهر، وذهب، ونحوهما، ويشترط رمي الحصى، فلا يكفي وضعه في المرمى بدون رمي؛ ويشترط كون الرمي واحدة بعد واحدة إلى تمام السبع، فلو رمى أكثر من واحدة في مرة واحدة حسب ذلك واحدة، ويشترط أيضاً أن يعلم وصول الحصى إلى المرمى، فلا يكفي ظن الوصول، ولو رمى حصاة ووقعت خارج المرمى، ثم تدحرجت حتى سقطت

(1/601)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
__________
فيه أجزأته؛ وكذا إن رماها فوقعت على ثوب إنسان فسقطت في المرمى، ولو بدفع غيره أجزأته أيضاً، ووقته من نصف ليلة النحر لمن وقف قبله بعرفة، ولا يصح الرمي في أيام التشريق إلا بعد الزوال؛ السادس: الحلق أو التقصير. السابع: طواف الوداع.
المالكية قالوا: واجبات الحج العامة التي لا تخص ركناً من أركانه أمور: منها النزول بمزدلفة بقدر حط الرحال بعد أن ينزل من عرفة ليلاً؛ وهو سائر إلى منى إذا لم يكن عنده عذر، وإلا فلا يجب عليه النزول بها، ومنها تقديم رمي جمرة العقبة في اليوم العاشر على الحلق، وطواف الإفاضة، فلو حلق قبل الرمي، أو طاف للإفاضة قبله فعليه دم، وأما تقديم الرمي على النحر، وتقديم النحر على الحلق؛ وتقديم الحلق على طواف الإفاضة فهو مندوب، فالمطلوب في يم النحر أربعة أمور: رمي جمرة العقبة، نحر الهدي، أو ذبحه، الحلق، طواف الإفاضة، وتفعل على هذا الترتيب ورمي جمرة العقبة في ذاته واجب، ووقته من طلوع فجر يوم النحر، ويندب أن يكون بعد طلوع الشمس إلى الزوال، ويكره تأخيره عنه، ومنها الرجوع للمبيت بمنى بعد طواف الإفاضة، فيبيت بها ثلاث ليال وجوباً، وهي: ليلة الثاني، والثالث، والرابع من يوم النحر إن لم يتعجل، أما إذا تعجل فيكفيه المبيت ليلتين، ويسقط عنه البيات ليلة الرابع والرمي في ذلك اليوم، بشرط أن يجاوز جمرة العقبة قبل غروب اليوم الثالث، وإلا تعين عليه المبيت بها ليلة الرابع، والرمي فيه، ومنها رمي الجمار في أيام التشريق الثلاثة بعد يوم عيد النحر يرمي في كل يوم ثلاث جمرات كل منها بسبع حصيات، ووقت الرمي في كل يوم منها من زوالالشمس إلى الغروب، فلو قدم الرمي على الزوال لا يكفي، وعليه دم إن لم يعده بعد الزوال؛ وإن أخره إلى الليل أو إلى اليوم الثاني فعليه دم، ويندب أن يكون في كل يوم قبل أن يصلي الظهر، ويشترط في صحة الرمي أمور، أولاً: أن يبدأ برمي الجمرة الكبرى؛ وهي التي تلي مسجد مني، ثم الوسطى التي في السوق، ثم يختم بالعقبة، وليس في يوم النحر سوى رمي جمرة العقبة، كما تقدم، ثانياً: أن يكون ما يرمى به من جنس الحجر فلو رمي
بطين لا يكفي، ثالثاً: أن لا يكون صغيراً جداً: كالقمحة، بل يكون كالحصى الذي يتحاذف به الصبيان وقت اللعب، أو يجعل الحصى بين السبابة وافبهام من يده اليسرى، ثم يحذفها بسبابة اليمنى، فلو رمى بصغير جداً لا يجزئ، وإن رمي بكبير أجزأه مع الكراهة؛ ولا يشترط طهارة ما يرمى به؛ فلو رمي بمتنجس أجزأه، وندب أن يعيده بطاهر، رابعاً: أن يكون الرمي باليد فلو رمى برجله لا يكفي، ويندب أن يكون الرمي بيده المينى إن كان يحسن الرمي بها، ومن الواجبات: الحلق، فلو تركه لزمه دم وكذا يلزمه دم إذا أخره حتى رجع لبلده، أو أخره عن أيام التشريق ولم يفعله بمكة، أما إذا فعله بها ولو بعد أيام التشريق فلا دم عليه، ويجزئ عن الحلق التقصير بالنسبة للرجل، وخالف السنة، وأما المرأة فالواجب في حقها التقصير، ولا تحلق، لأنه مثله، وكيفية التقصير بالنسبة لها: أن تأخذ قدر الأنملة من شعر رأسها وأما الرجل، فيأخذ الشعر من قرب أصله وجذوره، فلو أخذ من أطرافه كما تفعل المرأة أجزأه ذلك وأساء، ومن واجباته الفدية، وهيد للفساد؛ وهدي للقران أو التمتع، وسيأتي بيانها عند الكلام عليها

(1/602)


سنن الحج
أما سنن الحج: فمنها ما يتعلق بالإحرام، وقد تقدمت في مبحث ما يطلب من مريد الإحرام قبل الشروع فيه، ومنها ما يتعلق بالطواف. ومنها ما يتعلق بالسعي، ومنها ما يتعلق بالوقوف، وقد تقدم جميع ذلك في المباحث السابقة، وبقيت سنن أخرى مفصلة في المذاهب، فانظرها تحت الخط (1) .
__________
(1) الحنفية قالوا: بقي سنن. منها المبيت بمنى في ليالي أيام النحر، ومنها المبيت بمزدلفة ليلة النحر بعد الخروج من عرفة، ومنها أن يذهب من مزدلفة إلى منى قبل طلوع الشمس، ومنها الترتيب بين الجمار الثلاث، وقد تقدم لك أن أصل رمي الجمار واجب.
وللحج داب أيضاً، وهي كثيرة: منها أن يقضي ديونه قبل حجه، ومنها أن يستشير ذا رأي في سفره ذلك العام الذي يريد فيه أداء الحج، ومنها أن يستخير الله تعالى، وسنة الاستخارة: أن يصلي ركعتين بسورة الإخلاص بعد أم الكتاب؛ ويدعو بدعاء الاستخارة المأثور، ثم يبدأ بالتوبة وإخلاص النية ورد المظالم؛ ومنها أن يستسمح خصومه وكل من له معاملة، ومنها أن يقضي ما قصر فيه من العبادات، ومنها أن يتجرد من الرياء والسمعة والفخر، ومنها أن يجتهد في تحصيل النفقة الحلال، فإنه لا ثواب للحج بالمال الحرام وإن سقط به الفرض حتى ولو كان المال مغصوباً، ومنها أن يتخذ رفيقاً صالحاً يذكره إن نسي، ويصبره إذا جزع، ويعينه إذا عجز.
ومنها أن يجعل خروجه يوم الخميس؛ وإلا فيوم الإثنين أول النهار من أول الشهر، ومنها أن يودع أهله وإخوانه ويستسمحهم، ويطلب دعاءهم، ويذهب إليهم لذلك؛ وأما هم فيسن لهم أن يذهبوا إليه عند فدومه، ومنها أن يصلي ركعتين قبل أن يخرج من بيته وبعد الرجوع إلى بيته، ويقول عقب الصلاة حين يخرج: اللهم غليك توجهت، وبك اعتصمت؛ وعليك توكلت، اللهم أنت ثقتي وأنت رجائي، اللهم اكفني ما أهمني، وما لا اهتم به، وما أنت أعلم به مني، عز جارك، ولا إله غيرك، اللهم زودني التقوى، واغفر لي ذنوبي، ووجهني إلى الخير أينما توجهت، اللهم إني أعوذ بك من وعثاء السفر، وكآبة المنقلب، والحور بعد الكور، وسوء المنظر في الأهل والمال وإذا خرج يقول: بسم الله: ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، توكلت على الله، اللهم وفقني لما تحب وترضى، واحفظني من الشيطان الرجيم، ويقرأ آية الكرسي، وسورة الإخلاص، والمعوذتين، وإذا ركب الدابة يقول: بسم الله، والحمد لله الذي هدانا للإسلام، وعلمنا القرآن، ومنّ علينا بمحمد صلى الله عليه وسلم، الحمد لله الذي جعلني من خير أمة أخرجت للناس، سبحان الذي سخر لنا هذا وما كنا له مقرنين، وإنا إلى ربنا لمنقلبون الحمد لله رب العالمين.
الشافعية قالوا: سنن الحج كثيرة: منها المبيت بمنى ليلة عرفة، وإنما كان سنة لأن المقصود منه الاستراحة؛ بخلاف المبيت ليالي التشريق، فإنه واجب، كما تقدم ومنها سرعة السير في بطن وادي محسر، وهو مكان فاصل بين مزدلفة ومنى، سمي بذلك لأنه حسر، أي عجز فيه الفيل الذي أراد أبرهة هدم الكعبة به، وهو المذكور في الآية، ومنها الخطب المسنونة فيه، وهي أربع: إحداها: يوم السابع من ذي الحجة، وهي خطبة مفردة يخطبها الإمام أو نائبه: كأمير الحج بعد صلاة الظهر بالمسجد

(1/603)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
__________
الحرام، يفتتحها بالتكبير إن كان غير محرم، وبالتلبية إن كان محرماً، والأفضل أن يكون الخطيب محرماً، ثانيها: يوم عرفة بنمرة قبل صلاة الظهر؛ وهما خطبتان، ثالثها: يوم النحر بمنى، وهي واحدة بعد صلاة الظهر، رابعها: يوم النفر الأول بمنى، وهي واحدة بعد الظهر، وينبغي للخطيب أن يعلم الناس في كل الخطب المذكورة ما يكون بعد كل خطبة من أعمال الحج؛ ومن السنن حلق الرجل، وتقصير الأنثى، ومنها الوقوف بالمشعر الحرام؛ وهو جبل قزح - بوزن عمر - يذكرون الله تعالى عنده، ويدعون ربهم إلى الإسفار مع استقبال القبلة، ومنها أن لا يتعجل من منى، بل يبقى بها جميع ليالي التشريق؛ ومنها الذكر المسنون؛ كأن يقول عند رؤية البيت الحرام ما سبق بيانه؛ ويقول في أول طوافه ما تقدم أيضاً، ويقول قبالة البيت: اللهم إن البيت بيتك، والحرم حرمك.
والأمن أمنك، وهذا مقام العائذ بك من النار، ويقول بين الركنين اليمانيين: ربنا آتنا في الدنيا حسنة، وفي الآخرة حسنة، وقنا عذاب النار، ويقول في الرمي: اللهم حجاً مبروراً، وذنباً مغفوراً، وسعياً مشكوراً، ويقول في السعي: رب اغفر وارحم وتجاوز عما تعلم، إنك أنت الأعز الأكرم، ومنها أن يقضي ديونه قبل حجه، ومنها إرضاء خصومه، وأن يتوب من جميع المعاصي، وأن يتعلم كيفية الحج. وأن يستسمح كل من كان بينه وبينه معاملة أو مصاحبة، ومنها أن يكتب قبل سفرة وصية، ويشهد عليها، وأن يطلب رفيقاً صالحاً موافقاً راغباً في الحج، وأن يكثر من الزاد والنفقة ليواسي من المحتاجين، ومن السنن الإكثار من الصلاة والطواف والاعتكاف في المسجد الحرام كلما دخله، ومنها دخول الكعبة والصلاة فيها ولو نفلاً، ومنها الإكثار من شرب ماء زمزم مع التضلع منه مستقبلاً القبلة عند شربه قائلاً: اللهم إني بلغين عن نبيك محمد صلى الله عليه وسلم أنه قال: "ماء زمزم لم اشرب له" وأنا أشربه لسعادة الدنيا والآخرة، اللهم فافعل، ثم يسمي الله تعالى. ويشرب، ويتنفس ثلاثاً، ويسن الدخول إلى البئر، والنظر فيها، والنزح منها بالدول، ونضح وجهه ورأسه وصدره بمائها، ويتزود منها عند سفره.
المالكية قالوا: للحج سنن ومندوبات، فأما سننه فهي أولاً: الخطبتان بعد الزوال بمسجد عرفة، كما تقدم؛ ثانياً: جمع الظهر والعصر به جمع تقديم كما تقدم؛ ثالثاً: قصر الظهر والعصر المذكورين لغير أهل عرفة، أما هم فلا يقصرون؛ رابعاً: جمع المغرب والعشاء بمزدلفة بعد الدفع من عرفة إليها، وهذا الجمع يكون تأخيراً في وقت العشاء، وإنما يسن لمن وقف بعرفة مع الإمام، ثم سار إلى المزدلفة مع الناس، أو لم يسر معهم؛ وهو قادر عليه، فإن لم يقف مع الإمام، فلا يجمع بنيهما، بل يصلي كل صلاة في وقتها، وإذا لم يسر مع الناس لعجزه عن السير معهم.
فإنه يؤخر المغرب، ويجمعها مع العشاء عند دخول وقتها في أي مكان شاء، خامساً: قصر العشاء لغير أهل مزدلفة: فالجمع بعرفة ومزدلفة سنة لكل حاج ولو كان من أهلهما، والقصر إنما لا يسن لغير أهل المحل الذي فيه القصر؛ سادساً: تقليد الهدي؛ سابعاً: الإشعار، وقد تقدم بيان معناها، وبيان ما يقلد، وما يشعر من الأنعام، وما لا يقلد منها، ولا يشعر، ومن السنن غير ذلك مما تقدم في خلال الأركان؛ وأما مندوباته فهي النزول بذي طوى لمن وصل مكة ليلاً، فيبيت بها ليدخل مكة نهاراً صحوة، والغسل لمن دخلها إن لم

(1/604)


ما يمنع الحاج من فعله
يمنع الحاج من أمور بعضها مفسد للحج بحيث لو فعله بطل حجه، ومنها ما يترتب لعيه هدي وهو من الإبل أو البقر أو الغنم، كما سيأتي في مبحثه، ومنها ما يترتب عليه فدية، وهي صدقة من طعام أو غيره.

مفسدات الحج
يفسد الحج بترك الوقوف بعرفة في وقته المتقدم باتفاق المذاهب، وكذا يفسد بترك ركن من أركانه، على التفصيل المتقدم في المذاهب، وكذا يفسد بالجماع. باتفاق أيضاً، ولكن
__________
يكن حائضاً، أو نفساء، أما هما فلا يندب لهما الغسل، لأنه للطواف بالبيت، ولا يصح منهما، كما تقدم، والدعاء بعد تمام الطواف، والإكثار من شرب ماء زمزم بنية حسنة، فقد ورد "ماء زمزم لما شرب له"، ونقل ماء زمزم، والوقوف مع الناس بعرفة؛ والدعاء، والتضرع، حال الوقوف إلى الغروب، والبيات بمزدلفة ليلة العاشر من ذي الحجة، والارتحال منها إلى منى بعد صلاة الصبح وقبل الإسفار، ووقوفه بالمشعر الحرام، مستقبلاً يدعو الله تعالى، ويثنى عليه للإسفار، والإسراع ببطن محسر، وهو واد بين مزدلفة ومنى قدر رمية حجر، سمي بذلك لحسر أصحاب الفيل ونزول العذاب عليهم فيه، كما في سورة "الفيل" وإنما يندب الإسراع فيه لغير المرأة؛ وأما المرأة فلا يندب لها إلا إذا كانت راكبة؛ ومنها رمي جمرة العقبة حين وصوله إلى منى، وبعد طلوع الشمس، كما تقدم؛ والمشي في غير جمرة العقبة، والتكبير مع كل حصاة يرميها، وتتابع الحصيات حال الرمي، بأن لا يفصل بين رمي بعضها والبعض الآخر، والتقاط الحصيات التي يرميها بنفسه، وفعل الذبح والحلق قبل الزوال يوم العيد، وتأخير الحلق عن الذبح، وفعل طواف الإفاضة في ثوبي إحرامه وعقب حلقه، ووقوفه عقب رمي الجمرتين الأوليين، وهما الكبرى
والوسطى للدعاء، وجعل الجمرة الأولى خلفه، ونزول غير المستعجل بالمحصب، وهو واد يكثر فيه الحصى جهة مقبرة مكة عند كداء، فإذا رجع من منى إلى مكة بعد رمي اليوم الرابع ندب له النزول بهذا المكان قبل أن ينزل مكة، فإذا نزل به أقام حتى يؤدي به أربع صلوات وهي من الظهر إلى العشاء، فيؤخر صلاة الظهر ليوقعها به إن لم يخف خروج وقتها الاختياري، وإنما يستحب النزول به إن لم يصادف رجوعه يوم الجمعة، وإلا فلينزل إلى مكة، ولا يعرج عليه كما لا يستحب النزول به لمن تعجل، وخرج من منى بعد رمي الثاني من أيام التشريق، وطواف الوداع لمن أراد الخروج من مكة. وقد تقدم، ومن المندوبات عدا ذلك ما تقدم مع الأركان.
الحنابلة قالوا: بقي من مسنونات الحج أمور: منها المبيت بمنى ليلة التاسع من ذي الحجة. ومنها خطبة الإمام للحججاج يوم الثامن من ذي الحجة بالمسجد الحرام، ويوم عرفة بها ويوم الأضحى بمنى. ومنها استمرار التلبية إلى رمي جمرة العقبة. ومنها غير ذلك. كاستقبال القبلة حال رمي الجمار

(1/605)


وقت الفساد بالجماع وشروطه مختلفة في المذاهب، فانظرها تحت الخط (1) .
__________
(1) المالكية قالوا: الجماع مفسد للحج. وهو أن يغيب الحشفة أو قدرها في قبل أو دبر آدمي أو غيره. سواء كان الفاعل صغيراً أو كبيراً، وسواء كان المفعول به مطيقاً أو لا. فإذا كان الحاج متزوجاً بصغيرة مرافقة له في حجة. وفعل بها ذلك. بطل حجهما، والكبيرة من باب أولى، ولا فرق في بطلان الحج بذلك بين أن يكون ذاكراً، أو ناسياً أو جاهلاً، ومثل ذلك ما إذا أمنى بتقبيل أو مباشرة، أو نظر أو فكر، أو غير ذلك، إلا أنه يشترط في فساد الحج بالإنزال بسبب النظر أو الفكر أن يطلهما، أما الإمناء بمجرد النظر أو الفكر، فإنه لا يفسد. أما إذا أمنى بسبب القبلة، فإن حجه يفسد، ولو لم يكررها، فمن كانت معه زوجه في الحج فينبغي أن يتجنب مداعبتها أو تقبيلها في الوقت الذي يحظر الشارع فيه إتيان النساء: وإنما يفسد الحج بالجماع أو بإنزال المني بسبب من الأسباب المذكورة إن وقع قبل رمي جمرة العقبة، ووقت رميها هو يوم النحر قبل طواف الإفاضة.
وقبل مضي يوم النحر، ويفسد حجه بالجماع أو الإنزال المذكورين قبل رمي الجمرة المذكورة، سواء حصل قبل الوقوف بعرفة أو بعده؛ أما إذا جامع أو أخرج المني بسبب من الأسباب المذكورة بعد أن قام برمي جمرة العقبة، أو بعد طواف الإفاضة، أو بعد أن مضى يوم النحر، ولم يكن رمى ولا طاف، فإن حجة لا يفسد، ولكن يلزمه في هذه الأحوال ذبح فداء؛ فلا تحل النساء بجماع أو مقدماته، كما لا يحل عقد النكاح بعد رمي جمرة العقبة، ومن فعل ذلك فإن حجه لا يفسد، ولكن يكون قد فعل ما لا يحل، وعليه الفداء؛ أما إذا فعل ذلك بعد طواف الإفاضة، وقبل الحلق، فإنه يكون قد فعل ما هو حلال له، ولكن يلزمه هدي، فإذا فعل بعد الحلق فقد فعل ما هو حلال، ولا يلزم بشيء بعد ذلك؛ ويجب عليه الهدي أيضاً إذا أمذى، أو أخرج المني بمجرد نظر أو فكر بدون أن يستديمهما، ويجب على من فسد حجه إتمامه، فلو ترك إتمام الحج لظنه أنه خرج من الإحرام يبقى على إحرامه، فلو أحرم في العام القابل إحراماً جديداً كان إحرامه لغواً، ويتم إحرامه الذي أفسده.
هذا، ومن فسد حجه بجماع أو غيره فإنه يجب عليه أربعة أشياء: الأول: إتمام الحج الذي أفسده؛ الثاني: قضاؤه فوراً متى كان قادراً، فإن أخر قضاءه أثم؛ الثالث: نحر هدي من أجل إفساد الحجر؛ أن يؤخر نحر الهدي لزمن القضاء.
الحنفية قالوا: يفسد الحج بالجماع، بشرط أن يكون قبل الوقوف بعرفة؛ أما إذا أتى زوجته بعد الوقوف قبل أداء الركن الثاني وهو طواف الزيارة، فإن حجه لا يفسد، وذلك لأن الحج عند الحنفية لا يكون قابلاً للفساد بعد الوقوف بعرفة؛ ولا فرق في الفساد بالجماع بين أن يكون ناسياً أو عامداً، مستيقظاً أو نائماً، مختاراً أو مكرهاً، فمن أتى زوجته وهو نائم، أو هي نائمة، فإن حجهما يفسد، نعم يشترط لفساد الحج بالجماع أن يكون بالغاً عاقلاً، فإذا جامع الصبي، أو المجنون امرأة عاقلة فسد حجمها دونهما، وكذا إذا جامع البالغ صغيرة أو مجنونة فسد حجه دونهما، ولا يشترط في الفساد الإنزال، بل يفسد الحج بمجرد تغيب الحشفة في القبل أو الدبر، سواء حصل إنزال أو لا، ومن فسد

(1/606)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
__________
حجه بالجماع فعليه أن يستمر في إتمامه فاسداً، كما يقول المالكية، ويقضيه في قابل، وعلى كل واحد منهما دم، وتجزئ الشاة في ذلك، فإذا تعدد الجماع فإن كان في مجلس واحد اكتفى بشاة واحدة، أما إذا تعدد في مجالس مختلفة ففي كل واحد منها شاة.
الشافعية قالوا: يفسد الحج بالجماع بشروط: أحدها: أن يولج الحشفة أو قدرها إذا لم تكن له حشفة في قبل أو دبر، ولو بهيمة، ولو بحائل؛ ثانيهما: أن يكون عالماً عامداً مختاراً، فإذا كان جاهلاً، أو ناسياً أو مكرهاً، فإن حجه لا يفسد بالجماع؛ ثالثها: أن يقع منه قبل التحلل الأول، وبيان ذلك أن أسباب التحلل عند الشافعية ثلاثة: رمي الجمار، والحلق، والطواف الذي هو ركن، فإذا أتى بأمرين من هذه الثلاثة فقد تحلل أحد التحللين، فإذا رمى وحلق فقد وقع منه التحلل الأول، فلا يفسد حجه من هذه الثلاثة فقد تحلل أحد التحللين، فإذا رمى وحلق فقد وقع منه التحلل الأول، فلا يفسد حجه من هذه الثلاثة فقد تحلل أحد التحللين، فإذا رمى وحلق فقد وقع منه التحلل الأول، فلا يفسد حجه بالجماع، وكذا إذا طاف وحلق أو حلق ورمى.
فإن الترتيب بين هذه الأمور الثلاثة ليس شرطا؛ إنما الأحسن أن يرتبها، فيرمي الجمار، ثم يحلق، ثم يطوف، على أنه وإن كان لا يفسد حجه قبل التحلل الثاني بالجماع ولكنه يحرم عليه كما تحرم مقدماته، كالقبلة، والمباشرة بشهوة، سواء أنزل أو لم ينزل، وتجب عليه في هذه الحالة الفدية، وذلك لأن شرط الحرمة الاستمتاع، وهو حاصل بالنظر واللمس، أما الاستمناء باليد فهو حرام أيضاً، إلا أنه لا تجب فيه الفدية عند عدم الإنزال، وكذا النظر واللمس مع وجود حائل من ثوب ونحوه بشهوة، فإنه حرام، ولكن لا تجب فيه الفدية، سواء أنزل أو لم ينزل، وذلك لأن شرط الحرمة الاستمتاع، وهو حاصل بالنظر واللمس المذكورين، وشرط الفدية المباشرة بشهوة، وهذه لم تحصل؛ وإذا فسد الحج بالجماع فإنه يجب إتمام جميع أعماله، وعليه أن يجتنب ما كان يلزمه اجتنابه لو كان صحيحاً، فإن فعل محظوراً بعد ذلك لزمته الفدية إن كانت فيه فدية، ويجب قضاء الحج الذي أفسده بالجماع فوراً، أي في العام الذي يليه مباشرةن ولو كان الحج الذي أفسده نفلاً؛ وتلزمه كفارة الجماع المفسد، وهي ناقة أو جمل، بشرط أن تكون متصفة بالأوصاف التي تكفي في الأضحية: وسيأتي بيانها في بابها، فارجع إليه، فإن عجز عنها وجبت عليه بقرة تجزئ في الأضحية، فإن عجز عنها أيضاً وجب عليه سبع شياه تجزئ في الأضحية أيضاً، فإن عجز عنها أيضاً، قومت بسعر مكة، وتصدق بقيمتها طعاماً لا نقداً على مساكين الحرم وفقرائه، ثلاثة فأكثر، ويشترط في الطعام أن يخرجه من الأصناف التي تجزئ في صدقة الفطر. وقد تقدم بيانها في "مباحث الصيام" فإن عجز عن ذلك صام عن كل مد يوماً بنية الكفارة، كأن يقول: نويت صوم غد عن كفارة الجماع.
هذا إذا كان رجلاً، أما المرأة فلا كفارة عليها، وإن فسد حجها مع الإثم إن كانت مميزة مختارة عامدة عالمة بالتحريم وإلا فلا إثم ولا فساد.
الحنابلة قالوا: يفسد الحج بالجماع في قبل أو دبر، من آدمي أو غيره، بشرط أن يقع منه ذلك قبل التحلل الأول. فإن جامع بعد التحلل الأول فإن حجه لا يفسد، كما يقول الشافعية. وأسباب التحلل عند الحنابلة، ثلاثة: وهي الجمار، والطواف، والحلق، والتحلل الأول يحصل بفعل اثنين منها، كما يقول الشافعية، فإذا رمى جمرة العقبة وحلق، ثم جامع قبل الطواف لم يفسد حجه، ولكن

(1/607)


ما يوجب الفدية، وبيان معنى التحلل
قد عرفت أن الحاج يمنع من أمور: بعضها يفسد، وبعضها يوجب الفدية، وبعضها يوجب الإطعام: فأما ما يوجب الفدية فهو أمور مفصلة في المذاهب، فانظرها تحت الخط (1) .
__________
عليه أن ينحر جزراً، ولا يفسد الإحرام شيء غير الجماع المذكور، وعليه أن يمضي في حجه بعد الإفساد، كما لو كان صحيحاً، وعليه أن يجتنب ما كان يجتنبه قبل الإفساد، وإذا فعل محظوراً بعد هذا وجبت عليه الفدية، وعلى الفاعل والمفعول القضاء فوراً في العام القابل

(1) الحنابلة قالوا: ما يوجب الفدية ينقسم إلى قسمين: الأول، ما يوجبها، على التخيير، والثاني: ما يوجبها على الترتيب، فالذي يوجبها على التخيير فهو أمور:
-1 - لبس المخيط، أو المحيط 2 - استعمال الطيب 3 - تغطية الرجل رأسه، أو الأنثى وجهها 4 - إزالة أكثر من شعرتين من الجسد، أو أكثر من ظفرين، فكل واحد من هذه فيه فدية على التخيير بين ثلاثة أشياء: فإما أن يذبح شاة سنها ستة أشهر على الأقل، إن كانت من الضأن، وسنة إن كانت من المعز، وإما أن يصوم ثلاثة أيام، وإما أن يطعم ستة مساكين لكل واحد منهم مدّ من برّ أو نسف صاع - مدّان - من تمر، أو زبيب أو شعير، أو أقطن ومما يوجب الفدية على التخيير جزاء الصيد. والصيد إما أن يكون له مثل من النعم أو لا يكون، فإن كان له مثل، فيخير في فديته بين ثلاثة أشياء: ذبح المثل، وإعطاء لحمه لفقراء الحرم في أي وقت شاء، وتقويم مثله في المحل الذي تلف فيه الصيد، ويكون التقويم بدراهم، ثم يشتري بها طعاماً من الأصناف السابقة، ويعطي كل مسكين مدّاً من برّ، ومدّين من غيره، كما تقدم، وصيام أيام بعدد الأمداد بحيث يكون كل يوم بدل ما يعطي من الطعام لكل مسكين: فإن بقي أقل من إطعام مسكين صام عنه يوماً كاملاً، وإن لم يكن له مثل فيخير في فديته بين الأمرين الأخيرين، إطعام القيمة، والصيام.
وأما ما يوجب الفدية على الترتيب، فهو الوطء قبل التحلل الأول من الحج، والتحلل الأول يحصل باثنين من ثلاثة، وهي: رمي جمرة العقبة، والحلق أو التقصير، وطواف الزيارة، ومثل الوطء الإنزال بتكرار النظر، أو بالمباشرة لغير الفرج، أو بالتقبيل، أو باللمس بشهوة قبل التحلل الأول، فإذا حصل الوطء أو الإنزال بواحد مما ذكر وجب عليه ذبح بدنة من الإبل سنها خمس سنين، فإن لم يجد بدنة صام عشرة أيام: ثلاثة قبل الفراغ من أعمال الحج وسبعة بعد الفراغ منها، والمرأة كالرجل فيما يترتب على الوطء والإنزال إن كانت طائعة، وأما المباشرة بدون إنزال فتوجب الفدية على التخيير بين الأنواع الثلاثة المتقدمة؛ وهي: ذبح الشاة؛ أو إطعام ستة مساكين أو صوم ثلاثة أيام؛ وكذا الإمناء بنظره بدون تكرار، وكذا إذا حصل الوطء بعد التحلل الأول، وقد تقدم بيانه، وإذا جاوز الشخص ميقاته بلا إحرام، أو ترك شيئاً من واجبات الحج: كرمي الجمار فعليه الفدية على الترتيب: بأن يذبح شاة، فإن لم يجدها صام عشرة أيام ثلاثة في الحج، وسبعة بعده، كما تقدم، وأما ما يوجب الإطعام فهو قص ظفرين، أو أقل: وإزالة شعرتين، أو أقل، فيجب في

(1/608)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
__________
الظفر الواحد أو بعضه، وفي إزالة الشعرة الواحدة أو بعضها إطعام مسكين واحد مدّاً من برّ، أو نصف صاع من غيره، كما تقدم، وفي الظفرين أو الشعرتين إطعام مسكينين. وأما ما يوجب القيمة فهو كسر بيض الصيد، وقتل الجراد، فإذا كسر بيضاً، أو قتل جراداً فعليه قيمة كل منهما يتصدق بها في محل الإتلاق، وأما ما لا يوجب شيئاً فهو قتل القمل، وعقد النكاح.
وقد سبق أنه يحرم على المحرم قطع شجر الحرم، وحشيشه إلا ما استثنى، فإن فعل شيئاً من ذلك فعليه في قطع الشجرة الصغيرة عرفاً ذبح شاة، وفي قطع الشجرة الكبيرة أو المتوسطة ذبح بقرة، وفي الحشيش والورق إخراج القيمة.
المالكية قالوا: يوجب الفدية كل فعل محرم يحصل به ترفه وتنعم للمحرم، أو إزالة الشعث عنه: كالاغتسال في الحمام، فمتى جلس في الجمام حتى عرق ثم صب الماء الحار على جسده، ولو لم يتدلك، فإنه يجب عليه الفدية، لأن ذلك مظنة زوال الوسخ عن الجسد، ومثل ذلك مس شيء مما يتطيب به، وقص الشارب: ولبس الثياب، وتغطية الرأس، أو تغطية المرأة وجهها ويديها بقفاز لا بقصد التستر كما تقدم، وقص أظفاره، ونتف إبطه، وغير ذلك: كالاختضاب بالحناء، وإنما تجب الفدية في لبس الثياب ونحوها إذا حصل به انتفاع من حر أو برد، أما لو لبس الثوب ونزعه فوراً قبل الانتفاع به، فلا تجب فيه الفدية، وأما الطيب ونحوه مما ينتفع به بمجرد مزاولته، فإن الفدية تجب فيه، ولو أزاله فوراً، والفدية ثلاثة أنواع على التخيير: الأول: إطعام ستة مساكين لكل منهم مدان بمد النبي صلى الله عليه وسلم من غالب قوت البلد؛ ويجزئ بدل المدَّين الغداء والعشاء إذا بلغ مقدارهما المدين، لكن تمليك المدين أفضل، الثاني: صيام ثلاثة أيام، الثالث: نسك - ذبيحة - شاة فأعلى: كبقرة وبدنة، ويعتبر في سنها ما ذكر في الهدي، ولا يختص ذبح هذا النسك بزمان أن مكان، فله أن يذبحه بأي زمان ومكان شاء، إلا إذا نوى به الهدي فإنه يذبح بمنى أو مكة على ما ذكر في تفصيل الهدي، وأما ما يوجب الحفنة من الطعام فأمور:
-1 - قلم الظفر الواحد بدون قصد إزالة الأذى - الوسخ - كأن يقلمه لمداواة قرحة تحته، أو لاستقباح طوله، أو يقلمه عبثاً، أما إذا قلمه بقصد إزالة الأذى ففيه فدية، 2 - إزالة شعرة أو أكثر إلى اثنتي عشرة أيضاً، 3 - إزالة القراد عن بعيره أو قتله، ففي كل منهما حفنة من طعام ولو كثر القراد: وإذا تعدد موجب الفدية أو الحفنة فإنهما يتعددان، مثلاً إذا لبس الثياب وتطيب فعليه فديتان فدية للبس، وفدية لاستعمال الطيب، وإذا قلم ظفراً واحداً، وأزال شعره فعليه حفنتان، ويستثنى مما ذكر مسائلي لا تتعدد فيها الفدية ولا الحفنة بتعدد الموجب: 1 - أن يظن إباحة ما فعله لفساد الحج؛ أو لأنه رفضه؛ أو حفنة. ثم ظهر له فساد الطواف، فلا تتعدد الكفارة - الفدية أو الحفنة 3 - أن ينوي عند فعل الأول منها التكرار والتعدد، كأن يلبس الثوب ونوى عنده أن يتطبب أيضاً، فإذا لبس وتطيب فعليه فدية واحدة، بشرط، أن لا يفدي للأول قبل فعل الثاني وإلا فعليه فديتان 4 - أن يقدم ما نفعه أعم، كأن يلبس الثوب أولاً، ثم السراويل بعد فعليه فدية واحدة.

(1/609)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
__________
الحنفية قالوا: الفدية هي ذبح شاة ونحوها، وتجب بأمور؛ أولاً: دواعي الجماع: كالمعانقة، والمباشرة والقبلة واللمس بشهوة، سواء أنزل أو لم ينزل، ومثل ذلك ما لو نظر إلى فرج امرأة، أو تفكر فأنزل، وكذا إذا أولج في فرج بهيمة فأنزل، أما إذا أولج في البهيمة بدون إنزال فلا شيء عليه، ويلزمه دم بالتبطين والتفخيذ، أنزل أو لم ينزل، ثانياً: إزالة شعر كل رأسه أو لحيته، أو إزالة ربعهما، وليس في أقل من الربع دم؛ وكذا إزالة شعر رقبته، أو إبطيه، أو أحدهما، أو إزالة شعر عانته، وإنما يجب الدم بإزالة الشعر إذا كان لغير عذر؛ كأن علقت به الهوام وآذته، فهو مخير بين أمور ثلاثة: ذبح شاة، صام ثلاثة أيام، إطعام ستة مساكين لكل مسكين نصف صاع قال تعالى: {فمن كان منكم مريضاً، أو ب الله أذى من رأسه، ففدية من صيام أو صدقة أو نسك} ثالثاً: أن يلبس الرجل المحيط، أما المرأة فإنها تلبس ما شاءت إلا أنها لا تستر وجهها بساتر ملاصق، كما تقدم والذي يضر هو اللبس المعتاد، فلو التحف بالمخيط؛ أو وضعه على بدنه بوضع غير معتاد فلا شيء عليه.
هذا إذا لبس لغير عذر، فإن كان لعذر ففيه التفصيل المتقدم فيما قبله، رابعاً: أن يستر رأسه بساتر معتاد يوماً كاملاً، وقد تقدم تفصيل الكلام في الساتر المعتاد، خامساً: أن يطيب عضواً كاملاً من الأعضاء الكبيرة: كالفخذ، والساق، والذراع، والوجه، والرأس، والرقبة بأي نوع من أنواع الطيب المتقدم ذكرها، أما إذا طيب ثوبه فإنه لا يلزمه الدم، إلا إذا لبس الثوب يوماً كاملاً، وكان الطيب كثيراً في ذاته، أو كان قليلاً واستغرق من الثوب ما تبلغ مساحته شبراً في شبر؛ والحناء من الطيب، فلو وضعها على رأسه وكانت رقيقة لا تستر ما تحتها فعليه دم، وإلا فعليه دمان، لأنه يكون في هذه الحالة قد تطيب وستر رأسه، ومنه العصفر والزعفران كما تقدم، فإن تطيب لعذر ففيه التفصيل المتقدم، ومثل الطيب دهان عضو كامل بزيت الزيتون؛ أو السمسم لغير عذر، فإن فعل لعذر: كالتداوي، فلا شيء عليه، سادساً: قص أظافر يد واحدة أو رجل واحدة؛ وكذا لو قص أظفار يديه ورجليه جميعها في مجلس واحد، أما إذا قصها في مجالس متعددة لزمه أربعة دماء لكل أظافر عضو دم، سابعاً: أن يترك طواف القدوم أو طواف الصدر، أو يترك شوطاً من أشواط العمرة، أو واجباً من الواجبات المتقدمة.
الشافعية قالوا: الفديةة هي دم شاة توفرت فيها شروط الأضحية الآتي بيانها في مبحث "الأضحية" أو إطعام ستة مساكين، أو صوم ثلاثة أيام، وتجب بأمور. أحدها: التطيب، فمن تطيب في الحج برائحة عطرية، فعليه أن يذبح شاة يتصدق بها، ثانيها: أن يلبس قميصاً أو سراويل، أو خفاً، أو عمامة، أو نحو ذلك من الأشياء المخيطة أو المحيطة ببده، فمن لبس شيئاً من ذلك فعليه فدية، وإنما تجب الفدية بلبس المخيطة والمجيطة ببدنه بشروط أحدها: أن يكون عالماً بالتحريم فلو فعله جهلاً فلا فدية عليه، ثانيها: أن يفعل ذلك قبل التحلل الأول المتقدم بيانه؛ ثالثها: أن يكون مميزاً مختاراً، رابعها: أن يكون ذكراً، أما المرأة فلا تتجرد من ثيابها، ولا يجب عليها إلا كشف وجهها؛ فإو وضعت عليه ساتراً ملتصقاً به فإن الفدية تجب عليها، نعم لها أن تستر وجهها بشيء غير ملاصق له، كما إذا

(1/610)


جزاء من اصطاد حيواناً قبل أن يتحلل من إحرامه
لا يجوز للمحرم أن يصطاد حيواناً قبل أن يتحلل. وقد عرفت ما به التحلل في المذاهب. ومن يفعل ذلك كان عليه جزاء في تقديره تفصيل المذاهب. فانظره تحت الخط (1) .
__________
وضعت فوق رأسها مشطاً كبيراً بارزاً وألصقت به برقعاً وسترت به وجهها من غير أن يمسه، فإنه يصح، ولا يضر تغطية الجزء الذي تضطر لتغطيته تبعاً للرأس.
هذا. وإذا ستر المرأة يدها بقفاز ونحوه، فإن الفدية تجب عليها، ثالثها: أن يحلق شعره، أو يقلم أظافره؛ ومن يفعل ذلك فإن عليه فدية، ولا فرق في إزالة الشعر بين حلقه، أو تقصيره بالمقص، أو الموسى، أو نتفه أو حرقه، وسواء أزالة بفعله أو بفعل غيره، بثلاثة شروط: الشرط الأول: أن يكون باختياره، أما لو أزيل شعره وهو نائم بدون اختياره، أو احتك بشيء وهو غافل فأزال بعض شعره فإنه لا شيء عليه. الشرط الثاني: أن يزيل شعره لغير ضرورة. أما لو أزاله لضرورة كأن طال شعر جفنه فآذاه. فأزال ما يؤذيه. فإنه لا فدية عليه، ولا يشترط أن يكون شعر الرأس، بل لو أزال ثلاث شعرات من أي جزء من بدنه بدون ضرورة، وباختياره، فإن الفدية تلزمه؛ الشروط الثالث: أن تكون إزالة الشعر مقصودة، فإذا كشط جلده النابت عليه الشعر فإنه لا فدية عليه، مثلاً إذا كان بجزء من أجزاء بدنه قرحة عليها شعر وأزالها، فإنه لا فدية عليه، وقد عرفت مما تقدم أنه لا بأس بالكحل، ودخول الحمام، والفصد، والحجامة، وترجيل الشعر - تسريحه -؛ رابعها: مقدمات الجماع: كالقبلة، والملامسة التي تنقض الطهر مع النساء، ومن فعل ذلك قبل التحلل التام المتقدم بيانه فإنه يحرم عليه، وعليه فدية. أما النظر بشهوة، والقبلة بحائل، فلا فدية فيهما، خامسها: الاستمناء باليد. فإنه يحرم وفيه الفدية المذكورة، سادسها: أن يدهن شيئاً من شعر رأسه ولحيته وباقي شعر الوجه بأي دهن. سواء كان زيتاً أو دهن حيوان أو غيرهما، وسواء كان مخلوطاً بذي رائحة عطرية أو لا. وإنما تجب الفدية في ذلك بأربعة شروط: الأول: أن يكون العضو المدهون مما ينبت به الشعر. فلا فدية على الأقرع الذي لا ينبت برأسه شعر. ومثله الأصلع الذي سقط شعره. ولم يبق له أثر. فيجوز له دهن محل الصلع. مثله الأمرد الذي لم ينبت شعر لحيته.
فإنه يجوز له دهن لحيته ووجهه. ومن كان برأسه جرح فإنه يجوز دهنه من الداخل. الشرط الثاني: أن يفعل ذلك عمداً. فلا فدية على من دهن وهو ساه. الشرط الثالث: أن يكون عالماً بالتحريم. فلا فدية على الجاهل، الشرط الرابع: أن يكون مختاراً. فلا فدية على من فعل معه رغم إرادته

(1) الشافعية قالوا: من اصطاد حيواناً برياً وحشياً: كظبي، أو بقر وحش أو نحوهما. أو دل صائداً عليه. أو كان تحت يده حيوان من هذا النوع. فأتلفه. أو أمرضه. فإنه يلزمه الجزاء الآتي بيانه

(1/611)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
__________
بشرطين: أحدهما: أن لا يؤذيه ذلك الحيوان في ماله أو نفسه كالضبع مثلاً. ثانيهما: أن لا يوصل إليه ضرراً كأن ينجس متاعه، أو يأكل طعامه، أو يمنعه من سلوك الطريق: كالجراد الكثير المنتشر، فإذا قتله، فلا فدية فيه، ولا ضمان؛ أما ذلك الجزاء فهو إن كان الصيدله مثلاً من النعم: كالحمام، واليمام والقمري، ففي الواحدة شاة من ضأن أو معز، وفي النعامة ذكراً أو أنثى بدنة، أي بعير، وفي البقرة الوحشية أو الحمار الوحشي بقرة أهلية، وفي الظبي تيس، وفي الظبية عنز، وفي الغزال معز صغير، وفي الأرنب عناق، وهي أنثى المعز إذا قويت، ولم تبلغ سنة. وفي كل من اليربوع والوبر معز أنثى بلغت أربعة أشهر. وفي الضبع كبش، وفي الثعلب شاة.
هذا كله فيما ورد في حكمه نقل صحيح عن الشارع، وإلا حكم عدلان خبيران بمثله في الشبة والصورة تقريباً، ولا بد من مراعاة المماثلة في الصفات، فيلزم في الكبير كبير، وفي الصغير صغير، وفي الصحيح صحيح، وفي المعيب معيب إن اتحد جنس العيب: كالعور فيهما؛ أما إن اختلف العيب فلا يكفي؛ وهكذا: كالسمن والهزال. والحبل. لكن لا تذبح الحامل؛ بل تقوم؛ ويتصدق بقيمتها طعاماً، أو يوم عن كل مد يوماً. فإن لم يرد فيه نقل ولا حكم بمثله عدلان. وجبت قيمته بحكم عدلين. والفدية الواجبة هي أحد أمور ثلاثة: إما أن يذبح مثل الصيد من النعم ويتصدق به على فقراء الحرم؛ وإما أن يشتري بقيمته طعاماً كالطعام الذي يجزئ في صدقة الفطر. ويتصدق به عليهم؛ وإما أن يصوم يوماً عن كل مد من الطعام. وهذا في المثلي، أما غير المثلي: كالجراد. وبقية الطيور ما عدا الحمام ونحوه. فهو مخير بين أمرين؛ إما أن يخرج بقدر قيمة الصيد طعاماً ويتصدق به على من ذكر، وإما أن يصوم يوماً عن كل مد من الطعام. ولا فرق في ذلك بين صيد الحل والحرم متى كان المتعرض محرماً، وأما إن كان حلالاً فإن الحكم يختص بصيد الحرم، وإنما يجب ما ذكر في الصيد إذا كان المتعرض مميزاً، ولو كان ناسياً أو جاهلاً أو مخطئاً أو مكرهاً. ومن المحظور غير المفسد التعرض لحشيش الحرم وأشجاره على التفصيل المتقدم فإن قطع شجرة كبيرة لزمه بقرة. وإن قطع صغيرة لزمه شاة؛ أما الصغيرة جداً ففيها القيمة. وهو مخير بين ذبح ما ذكر والتصدق بلحمه. وبين شراء طعام بقيمتها والتصدق به. أو يصوم لكل مد يوماً. أما الحشيش ففيه القيمة إن لم ينبت بدله فإن نبت بدله فلا ضمان ولا فدية.
هذا. ويجب ذبح شاة مجزئة في الأضحية حال القدرة. ثم صام ثلاثة أيام في الحج وسبعة أيام إذا رَجع لأهله إن عجز عن الذبح على كل من ترك شيئاً مما يأتي: 1 - على المتمتع وسيأتي بيانه لأنه ترك تقديم الحج على العمرة. 2 - على القارن وسيأتي بيانه. لأنه ترك الإفراد بالحج. 3 - على من ترك رمي ثلاث حصيات، فأكثر من حصى الجمارَ. 4 - على من ترك المبيت بمنى ليالي التشريق لغير عذر. 5 - على من ترك المبيت بمزدلفة لغير عذر. 6 - على من ترك الإحرام من الميقات لغير عذر. 7 - على من ترك طواف الوداع لغير عذر. 8 - على من ترك الفعل الذي نذره في الحج؛ كالمشي، أو الركوب، أو الحلق، أو الإفراد. 9 - على من فاته الوقوف بعرفة من غير حصر بأن يطلع فجر يوم النحر

(1/612)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
__________
قبل حضوره في جزء من أرضها، ويجب له الدم على المحرم بالحج أو القارن، ويجب على من فاته الوقوف أن يتحلل بعمرة بأن يأتي بالأعمال الباقية من أعمال الحج غير الوقوف، ويسقط عنه المبيت بمزدلفة ومنى ورمي الجمار. يطوف ويسعى إن لم يكن سعى، ويحلق بنية التحلل، ويجب عليه القضاء فوراً من قابل، ولو فاته لعذر ولو كان الحج نفلاً، سواء كان مستطيعاً أو لا، ولا يصح ذبحه في سنة الفوات، فالذبح يكون في القضاء، أما المحصر فسيأتي حكمه.
الحنفية قالوا: من اصطاد حيواناً برياً فإنه يجب عليه قيمته بالقيود المتقدمة في صيد الحرم، ومثله من قطع حشيش الحرم السابق أيضاً، فإذا اصطاد المحرم ما لا يجوز له اصطياده قوم عليه ما صاده في مكانه أو في مكان قريب منه بمعرفة عدلين، فإن بلغت قيمته ثمن هدي خير بين أمور ثلاثة: أحدها: أن يشتري بهذه القيمة هدياً يذبحه في الحرم، ثانيها: أن يشتري به طعاماً يتصدق به على الفقراء في أي مكان لكل واحد نصف صاع، ثالثها: أن يصوم بدل كل نصف صاع يوماً، ولا يلزم في هذا الصوم التتابع، وإن لم تبلغ قيمته ثمن هدي خير بين الأمرين الأخيرين فقط، وهما: الطعام: والصيام، ولا فرق في هذا الباببين العمد والخطأ، ولا يلزمه أن يأتي بمثل ما صاد، بل تكفي قيمته وأما العمد والمثلية الواردان في الآية الكريمة، فإن العمد ذكر فيها لأنه الغالب، والمثلية المراد بها أن يكون مثلاً في المعنى، قال تعالى: {يا أيها الذين آمنوا لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم، ومن قتله منكم متعمداً، فجزاء مثل ما قتل من النعم، يحكم به ذوا عدل منكم} الآية.
هذا إذا كان الصيد غير مملوك لأحد: فإن كان مملوكاً للغير فعليه مثلان: أحدهما: الجزاء المتقدم، والثاني: لمالكه، والصيد في الحرم مطلقاً، ولو كان الصائد غير محرم، وإن صاد وذبحه لا يؤكل، ويكون كالميتة: بل يقدم أكل الميتة على هذا الصيد عند الاضطرار، وإذا أتلف عضواً أو نتف ريشاً أو نحو ذلك يلزم بالفرق، ولا شيء في قتل الهوام: كقرد، وسلحفاة، وزنبور، وفراش، وذباب، ونمل، وقنفذ، وكذلك الحية، والعقرب، والفأرة، والغراب، والكلب العقور. وإذا قطع حشيش الحرم لزمته قيمة ما قطع منه، كما تقدم.
هذا. وقال الحنفية؛ تجب صدقة قدرها نصف صاع من بر أو قيمته لأمور: أن يطيب أقل من يوم كامل، أو ثوباً مطيباً أقل من يوم، أو يستر رأسه كذلك أو يحلق أقل من ربع الرأس أو اللحية، أو يحلق ساقه أو عضده، أو يقص ظفر أو ظفرين، أن يطوف طواف القدوم، أو الصدر محدثاً حدثاً أصغر، أن يترك شوطاً أو أقل من أشواط طواف الصدر؛ أن يحلق رأس غيره، سواء كان غيره محرماً أو لا، وأما ما يوجب صدقة أقل من نصف صاع فهو أن يقتل جرادة، فالواحدة من ذلك يتصدق لها بما شاء، والإثنتان والثلاث يتصدق لها بكف من طعام، فإن زاد على ذلك فعليه نصف صاع.
المالكية قالوا: إذا اصطاد حيواناً في الحرم وجب عليه الجزاء الآتي بيانه. وكذا إذا تسبب في

(1/613)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
__________
موته. كما إذا رآه الصيد ففزع منه فوقع فمات أو ركز رمحاً فعطب فيه الصيد فمات، وهذا هو المعتمد في المذهب؛ وبعضهم يقول: لا يجب الجزاء في مثل ذلك، لأن الحاج لا يقصد صيده؛ وإذا دل محرم على الصيد فلا جزاء على الدال، ولا يجوز أكل صيد المحرم على كل حال فهو كالميتة. وبيضه مثل لحمه في ذلك، ويجب الجزاء في قتل الصيد المذكور، وتعريضه للتلف، كأن ينتف ريشه، ولم تتحقق سلامته، أو يجرحه كذلك، أو يطرده من الحرم فصاده صائد في الحل. أو هلك فيه قبل أن يعود للحرم، والجزاء الواجب في الصيد ثلاثة أنواع على التخيير:
-1 - مثل الصيد من النعم، أي ما يقاربه في الصورة والقدر، فإن لم يوجد له مقارب في الصورة كفى إخراج مقارب له في القدر، ولا يجزئ من النعم في الجزاء إلا ما يصحفي الضحية، وهو ما أو في سنة إن كان من الغنم، وثلاث سنين إن كان من البقر، وخمساً إن كان من الإبل، كما ذكر من الهدي. 2 - قيمته طعاماً، وتعتبر القيمة يوم تلفه، وبنفس المحل الذي حصل فيه التلف، فإن لم يكن له قيمة بمحل التلف اعتبرت قيمته بأقرب الأماكن إليه، وتعطي هذه القيمة لمساكين المحل الذي وجد فيه التلف، كل يأخذ مداً بمد النبي عليه الصلاة والسلام؛ 3 - صيام أيام بعدد الأمداد التي يقوم بها الصيد من الطعام، ويصوم يوماً كاملاً عن بعض المد، لأن الصوم لا يتجزأ، ولا يكون الجزاء إلا بعد حكم عدلين فقيهين بأحكامه، لأن تقدير المثل أو القيمة يحتاج إلى ذلك، والصوم لا يكون إلا بعدد الأمداد، فلا بد من التقويم أيضاً حتى يصوم، ويستثنى من المثل حمام مكة والحرم ويمامهما، ففي ذلك شاة من الضأن أو المعز، ولا يحتاج إلى حكم، فإن عجز عن الشاة صام عشرة أيام، ثم إن جزاء كل حيوان بحسبة، فإذا أراد أن يخرج المثل فعليه في صيد النعامة مثلها، والمثل هنا معناه الناقة أو الجمل، لأنهما يقاربان النعامة في القدر والصورة في الجملة، وعليه في صيد الفيل بدنة ذات سنامين. وعليه في حمار الوحش وبقر الوحش بقرة، وعليه في الضبع والثعلب شاة. والجزاء المذكور يكون بحكم عدلين فقيهين بأحكام الصيد. فيحكمان بالمثل. أو القيمة أو صيام الأيام المذكورة.
وفي صيد الضب والأرنب واليربوع وجميع طير الحل والحرم سوى حمام الحرم ويمامه المذكورين القيمة حين الضب والأرنب واليربوع وجميع طير الحل والحرم سوى حمام الحرم ويمامه المذكورين القيمة حين إتلافه، أو صيام عشرة أيام، فهو مخير بين إخراج القيمة طعاماً، وبين الصيام على الوجه المتقدم.
الحنابلة قالوا: من أتلف صيداً في الحرم بفعله المباشر، أو كان سبباً في إتلافه، فلا يخلو إما أن يكون ذلك الصيد مملوكاً للغير أو لا، فإن كان مملوكاً فإنه يجب على الصائد أمران: جزاء الصيد؛ ويفرق على مساكين الحرم، والضمان لمالكه بحيث يقوّم الصيد إن لم يكن له مثل، أو يشتري مثله ويعطي لمالكه، أما إذا لم يكن مملوكاً فعلى صائده الجزاء فقط، وينقسم الصيد إلى قسمين: الأول: ما له مثل من النَّعم في الخلقة: كالحمار الوحشي، وتيس الجبل ونحوهما، وحكم هذا ينقسم إلى قسمين أيضاً، أحدهما: ما ورد عن الصحابة فيه نص، ثانيهما: ما لم يرد؛ فالأول أشياء، أحدها: النعامة، فإذا اصطاد نعامة في الحرم لزمه نحر بدنة - ناقة أو جمل - وبذلك حكم عمر، وعثمان، وعلي، وغيرهم، الثاني: حمار الوحش، وتيس الجبل، ويقال له: الوعل، فمن اصطاده لزمته بقرة يذبحها

(1/614)