المحلى
بالآثار شرح المجلى بالإختصار
كتاب المعاملة في الثمار
المعاملة في الثمار سنة وبيانها وكيفية
التعامل
...
بسم الله الرحمن الرحيم
كِتَابُ الْمُعَامَلَةِ فِي الثِّمَارِ
1344 - مَسْأَلَةٌ - الْمُعَامَلَةُ فِيهَا سُنَّةٌ،
وَهِيَ أَنْ يَدْفَعَ الْمَرْءُ أَشْجَارَهُ أَيَّ شَجَرٍ كَانَ مِنْ
نَخْلٍ، أَوْ عِنَبٍ، أَوْ تِينٍ، أَوْ يَاسَمِينٍ، أَوْ مَوْزٍ، أَوْ
غَيْرِ ذَلِكَ، لاَ تُحَاشِ شَيْئًا مِمَّا يَقُومُ عَلَى سَاقٍ
وَيُطْعَمُ سَنَةً بَعْدَ سَنَةٍ لِمَنْ يَحْفِرُهَا وَيُزَبِّلُهَا
وَيَسْقِيهَا إنْ كَانَتْ مِمَّا يُسْقَى بِسَانِيَةٍ، أَوْ
نَاعُورَةٍ، أَوْ سَاقِيَّةٍ، وَيُؤَبِّرُ النَّخْلَ، وَيُزْبِرُ
الدَّوَالِيَ، وَيَحْرُثُ مَا احْتَاجَ إلَى حَرْثِهِ وَيَحْفَظُهُ
حَتَّى يَتِمَّ وَيُجْمَعُ، أَوْ يَيْبَسُ إنْ كَانَ مِمَّا يَيْبَسُ،
أَوْ يُخْرِجُ دُهْنَهُ إنْ كَانَ مِمَّا يُخْرَجُ دُهْنُهُ، أَوْ
حَتَّى يَحِلَّ بَيْعُهُ إنْ كَانَ مِمَّا يُبَاعُ كَذَلِكَ، عَلَى
سَهْمٍ مُسَمًّى مِنْ ذَلِكَ الثَّمَرِ، أَوْ مِمَّا تَحْمِلُهُ
الأُُصُولُ كَنِصْفٍ أَوْ ثُلُثٍ، أَوْ رُبُعٍ، أَوْ أَكْثَرَ، أَوْ
أَقَلَّ، كَمَا قلنا فِي " الْمُزَارَعَةِ " سَوَاءٌ سَوَاءٌ.
بُرْهَانُ ذَلِكَ مَا ذَكَرْنَاهُ هُنَالِكَ مِنْ فِعْلِ رَسُولِ
اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِخَيْبَرَ، وَرُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ
أَبِي دَاوُد، حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ، حَدَّثَنَا
يَعْقُوبُ بْنُ إبْرَاهِيمَ بْنِ سَعْدٍ، حَدَّثَنَا أَبِي، عَنْ
مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ حَدَّثَنِي نَافِعٌ مَوْلَى ابْنِ عُمَرَ،
عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ قَالَ: قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ
لِلنَّاسِ " أَيُّهَا النَّاسُ إنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه
وسلم كَانَ عَامَلَ يَهُودَ خَيْبَرَ عَلَى أَنَّنَا نُخْرِجُهُمْ إذَا
شِئْنَا، فَمَنْ كَانَ لَهُ مَالٌ فَلْيَلْحَقْ بِهِ، فَإِنِّي
مُخْرِجٌ يَهُودَ، فَأَخْرَجَهُمْ ".
قال أبو محمد: وَبِهَذَا يَقُولُ جُمْهُورُ النَّاسِ، إِلاَّ أَنَّنَا
رُوِّينَا، عَنِ الْحَسَنِ، وَإِبْرَاهِيمَ كَرَاهَةَ ذَلِكَ وَلَمْ
يُجِزْهُ أَبُو حَنِيفَةَ، وَلاَ زُفَرُ. وَأَجَازَهُ ابْنُ أَبِي
لَيْلَى، وَسُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ، وَالأَوْزَاعِيُّ، وَأَبُو
يُوسُفَ، وَمُحَمَّدٌ وَالشَّافِعِيُّ، وَمَالِكٌ، وَأَحْمَدُ، وَأَبُو
سُلَيْمَانَ، وَغَيْرُهُمْ. وَأَجَازَهُ مَالِكٌ فِي كُلِّ شَجَرٍ
قَائِمِ الأَصْلِ إِلاَّ فِيمَا يُخْلَفُ وَيُجْنَى مَرَّةً بَعْدَ
أُخْرَى كَالْمَوْزِ، وَالْقَصَبِ، وَالْبُقُولِ، فَلَمْ يُجِزْ
فِيهَا، وَلاَ أَجَازَ ذَلِكَ أَيْضًا فِي الْبُقُولِ إِلاَّ فِي
السَّقْيِ خَاصَّةً. وَلَمْ يُجِزْهُ الشَّافِعِيُّ فِي أَشْهَرِ
قَوْلَيْهِ، إِلاَّ فِي النَّخْلِ، وَالْعِنَبِ فَقَطْ وَمِنْ
أَصْحَابِ أَبِي سُلَيْمَانَ مَنْ لَمْ يُجِزْ ذَلِكَ، إِلاَّ فِي
النَّخْلِ فَقَطْ.
قال أبو محمد : مَنْ مَنَعَ مِنْ ذَلِكَ إِلاَّ فِي النَّخْلِ
وَحْدَهُ، أَوْ فِي النَّخْلِ وَالْعِنَبِ، أَوْ فِي بَعْضٍ دُونَ
بَعْضٍ، أَوْ فِي سَقْيٍ دُونَ بَعْلٍ، فَقَدْ خَالَفَ الْحَدِيثَ،
عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم كَمَا ذَكَرْنَا قَبْلُ وَدَخَلُوا
فِي الَّذِينَ أَنْكَرُوا عَلَى أَبِي حَنِيفَةَ فَلاَ مَعْنَى
لِقَوْلِهِمْ. وَاحْتَجَّ بَعْضُ الْمُقَلِّدِينَ
(8/229)
لأََبِي
حَنِيفَةَ بِأَنْ قَالُوا: لاَ تَجُوزُ الإِجَارَةُ إِلاَّ بِأُجْرَةٍ
مَعْلُومَةٍ.
قال أبو محمد : لَيْسَتْ الْمُزَارَعَةُ، وَلاَ إعْطَاءُ الشَّجَرِ
بِبَعْضِ مَا يَخْرُجُ مِنْهَا: إجَارَةٌ، وَالتَّسْمِيَةُ فِي
الدِّينِ إنَّمَا هِيَ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ
رَبِّهِ تَعَالَى قَالَ تَعَالَى {إنْ هِيَ إِلاَّ أَسْمَاءٌ
سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا
مِنْ سُلْطَانٍ} . وَيُقَالُ لَهُمْ: هَلَّا أَبْطَلْتُمْ بِهَذَا
الدَّلِيلِ بِعَيْنِهِ الْمُضَارَبَةَ، وَقُلْتُمْ: إنَّهَا إجَارَةٌ
بِأُجْرَةٍ مَجْهُولَةٍ فَإِنْ قَالُوا: إنَّ الْمُضَارَبَةَ مُتَّفَقٌ
عَلَيْهَا قلنا: وَدَفْعُ الأَرْضِ بِجُزْءٍ مِمَّا يَخْرُجُ مِنْهَا،
وَدَفْعُ الشَّجَرِ مِمَّا يَخْرُجُ مِنْهَا: مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ
بِيَقِينٍ مِنْ فِعْلِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَعَمَلِ
جَمِيعِ أَصْحَابِهِ رضي الله عنهم، وَلاَ تُحَاشِ مِنْهُمْ أَحَدًا،
فَمَا غَابَ مِنْهُمْ، عَنْ خَيْبَرَ إِلاَّ مَعْذُورٌ بِمَرَضٍ أَوْ
ضَعْفٍ أَوْ وِلاَيَةٍ تَشْغَلُهُ، وَمَعَ ذَلِكَ فَكُلُّ مَنْ غَابَ
بِأَحَدِ هَذِهِ الْوُجُوهِ فَقَدْ عَرَفَ أَمْرَ خَيْبَرَ، وَاتَّصَلَ
الأَمْرُ فِيهَا عَامًا بَعْدَ عَامٍ إلَى آخِرِ خِلاَفَةِ عُمَرَ
فَهَذَا هُوَ الإِجْمَاعُ الْمُتَيَقَّنُ الْمَقْطُوعُ عَلَيْهِ، لاَ
مَا يَدَّعُونَهُ مِنْ الْبَاطِلِ وَالظَّنِّ الْكَاذِبِ فِي
الإِجْمَاعِ عَلَى الْمُضَارَبَةِ الَّتِي لاَ تُرْوَى إِلاَّ، عَنْ
سِتَّةٍ مِنْ الصَّحَابَةِ رضي الله عنهم، فَاعْتَرَضُوا فِي أَمْرِ
خَيْبَرَ بِأَنْ قَالُوا: لاَ يَخْلُو أَهْلُ خَيْبَرَ مِنْ أَنْ
يَكُونُوا عَبِيدًا أَوْ أَحْرَارًا، فَإِنْ كَانُوا عَبِيدًا
فَمُعَامَلَةُ الْمَرْءِ لِعَبْدِهِ بِمِثْلِ هَذَا جَائِزٌ، وَإِنْ
كَانُوا أَحْرَارًا فَيَكُونُ الَّذِي أُخِذَ مِنْهُمْ بِمَنْزِلَةِ
الْجِزْيَةِ ; لأََنَّهُ لَمْ يَأْتِ فِي شَيْءٍ مِنْ الأَخْبَارِ
أَنَّهُ عليه السلام قَدْ أَخَذَ مِنْهُمْ جِزْيَةً، وَلاَ زَكَاةً.
قال أبو محمد : وَهَذَا مِمَّا جَرَوْا فِيهِ عَلَى الْكَذِبِ
وَالْبَهْتِ وَالتَّوَقُّحِ الْبَارِدِ: أَمَّا قَوْلُهُمْ: لاَ
يَخْلُو أَهْلُ خَيْبَرَ مِنْ أَنْ يَكُونُوا عَبِيدًا، فَكَيْفَ
انْطَلَقَتْ أَلْسِنَتُهُمْ بِهَذَا، وَهُمْ أَوَّلُ مُخَالِفٍ لِهَذَا
الْحُكْمِ فَلاَ يَخْتَلِفُونَ فِي أَنَّ أَهْلَ الْعَنْوَةِ
أَحْرَارٌ، وَأَنَّهُ إنْ رَأَى الإِمَامُ إرْقَاقَهُمْ فَلاَ بُدَّ
فِيهِمْ مِنْ التَّخْمِيسِ، وَالْبَيْعِ لِقِسْمَةِ أَثْمَانِهِمْ.
ثُمَّ كَيْفَ اسْتَجَازُوا أَنْ يَقُولُوا: لَعَلَّهُمْ كَانُوا
عَبِيدًا وَقَدْ صَحَّ أَنَّ عُمَرَ أَجْلاَهُمْ بِحَضْرَةِ
الصَّحَابَةِ رضي الله عنهم، عَنْ عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله
عليه وسلم بِإِخْرَاجِ الْيَهُودِ، عَنْ جَزِيرَةِ الْعَرَبِ فَكَيْفَ
يُمْكِنُ أَنْ يَسْتَجِيزَ عُمَرُ تَفْوِيتَ عَبِيدِ الْمُسْلِمِينَ،
وَفِيهِمْ حَظٌّ لِلْيَتَامَى وَالأَرَامِلِ إنَّ مَنْ نَسَبَ هَذَا
إلَى عُمَرَ لَضَالٌّ مُضِلٌّ، بَلْ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله
عليه وسلم. وَقَدْ صَحَّ أَنَّهُ عليه السلام أَرَادَ إجْلاَءَهُمْ
فَرَغِبُوا فِي إقْرَارِهِمْ فَأَقَرَّهُمْ عَلَى أَنْ يُخْرِجَهُمْ
إذَا شَاءَ الْمُسْلِمُونَ، وَهُوَ عليه السلام لاَ يَجُوزُ أَنْ
يُنْسَبَ إلَيْهِ تَضْيِيعُ رَقِيقِ الْمُسْلِمِينَ. وَمِنْ الْمُحَالِ
أَنْ يَكُونُوا عَبِيدًا لَهُ عليه السلام خَاصَّةً; لأََنَّهُ عليه
السلام لَيْسَ لَهُ مِنْ الْمَغْنَمِ إِلاَّ خُمُسُ الْخُمُسِ
وَسَهْمُهُ مَعَ الْمُسْلِمِينَ وَقَدْ قَالَ قَوْمٌ: وَالصَّفِيُّ،
وَلَمْ يَقُلْ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الإِسْلاَمِ: إنَّ جَمِيعَ مَنْ
مَلَكَ عَنْوَةً عَبِيدٌ لَهُ عليه السلام. ثُمَّ لَوْ أَمْكَنَ أَنْ
يَكُونَ مَا زَعَمُوا مِنْ الْبَاطِلِ وَكَانُوا لَهُ عَبِيدًا لَكَانَ
قَدْ أَعْتَقَهُمْ بِلاَ شَكٍّ: كَمَا رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ
الْبُخَارِيِّ حَدَّثَنَا إبْرَاهِيمُ
(8/230)
ابْنُ
الْحَرِثِ، حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ أَبِي بُكَيْرٍ، حَدَّثَنَا
زُهَيْرٌ، هُوَ ابْنُ مُعَاوِيَةَ الْجُعْفِيُّ، حَدَّثَنَا أَبُو
إِسْحَاقَ هُوَ السَّبِيعِيِّ، عَنْ عَمْرِو بْنِ الْحَارِثِ خَتْنِ
رَسُولِ اللَّهِ وَأَخِي أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ جُوَيْرِيَةَ بِنْتِ
الْحَارِثِ قَالَ: " مَا تَرَكَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم
عِنْدَ مَوْتِهِ دِينَارًا، وَلاَ دِرْهَمًا، وَلاَ عَبْدًا، وَلاَ
أَمَةً، وَلاَ شَيْئًا إِلاَّ بَغْلَتَهُ الْبَيْضَاءَ، وَسِلاَحَهُ،
وَأَرْضًا جَعَلَهَا صَدَقَةً ". وَقَدْ قَسَمَ عليه السلام مَنْ
أُخِذَ عَنْوَةً بِخَيْبَرَ: كَمَا رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ مُسْلِمٍ،
حَدَّثَنَا زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، حَدَّثَنَا إسْمَاعِيلُ ابْنُ
عُلَيَّةَ، عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ صُهَيْبٍ، عَنْ أَنَسٍ أَنَّ
رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم غَزَا خَيْبَرَ فَذَكَرَ
الْحَدِيثَ وَفِيهِ: قَالَ: فَأَصَبْنَاهَا عَنْوَةً وَجَمَعَ
السَّبْيَ فَجَاءَهُ دِحْيَةُ فَقَالَ:" يَا رَسُولَ اللَّهِ أَعْطِنِي
جَارِيَةً مِنْ السَّبْيِ قَالَ: اذْهَبْ فَخُذْ جَارِيَةً، فَأَخَذَ
صَفِيَّةَ بِنْتَ حُيَيِّ "وَذَكَرَ الْحَدِيثَ.
قال أبو محمد : وَكَانَتْ الأَرْضُ كُلُّهَا عَنْوَةً، وَصَالَحَ
أَهْلَ بَعْضِ الْحُصُونِ عَلَى الأَمَانِ، فَنَزَلُوا ذِمَّةً
أَحْرَارًا وَقَدْ صَحَّ مِنْ حَدِيثِ عُمَرَ قَوْلُهُ كَمَا قَسَّمَ
رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم خَيْبَرَ.فَصَحَّ أَنَّ
الْبَاقِينَ بِهَا أَحْرَارٌ. وَأَمَّا قَوْلُهُمْ: إنَّ ذَلِكَ
الْمَأْخُوذَ مِنْهُمْ كَانَ مَكَانَ الْجِزْيَةِ، فَكَلاَمُ مَنْ لاَ
يَتَّقِي اللَّهَ تَعَالَى، وَكَيْفَ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ
النِّصْفُ مَكَانَ الْجِزْيَةِ وَإِنَّمَا كَانَ حُقُوقَ أَرْبَابِ
الضِّيَاعِ الْمَقْسُومَةِ عَلَيْهِمْ الَّذِي عُومِلَ الْيَهُودُ
عَلَى كِفَايَتِهِمْ الْعَمَلَ، وَاَلَّذِينَ خَطَبَهُمْ عُمَرُ كَمَا
ذَكَرْنَا وَأَمَرَهُمْ أَنْ يَلْحَقُوا بِأَمْوَالِهِمْ
فَلْيَنْظُرُوا فِيهَا إذَا أَرَادَ إجْلاَءَ الْيَهُودِ عَنْهَا.
وَالآثَارُ بِهَذَا مُتَوَاتِرَةٌ مُتَظَاهِرَةٌ كَالْمَالِ الَّذِي
حَصَلَ لِعُمَرَ بِهَا فَجَعَلَهُ صَدَقَةً وَكَقَوْلِ ابْنِ عُمَرَ
فِي سَبَبِ إجْلاَءِ الْيَهُودِ: خَرَجْنَا إلَى خَيْبَرَ
فَتَفَرَّقْنَا فِي أَمْوَالِنَا وَكَانَ إعْطَاءُ أُمَّهَاتِ
الْمُؤْمِنِينَ بَعْضَ الأَرْضِ وَالْمَاءِ، وَبَعْضِهِنَّ
الأَوْسَاقَ، وَأَنَّ بَقَايَا أَبْنَاءِ الْمُهَاجِرِينَ إلَيْهَا
إلَى الْيَوْمِ عَلَى مَوَارِيثِهِمْ، فَظَهَرَ هَذَيَانُ هَؤُلاَءِ
النَّوْكَى. وَالْعَجَبُ أَنَّهُمْ قَالُوا: لَوْ كَانَ إجْمَاعًا
لَكَفَرَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَذُفَرُ! فَقُلْنَا: عُذْرًا بِجَهْلِهِمَا
كَمَا يُعْذَرُ مَنْ قَرَأَ الْقُرْآنَ فَأَخْطَأَ فِيهِ وَبَدَّلَهُ
وَزَادَ وَنَقَصَ وَهُوَ يَظُنُّ أَنَّهُ عَلَى صَوَابٍ، وَأَمَّا مَنْ
قَامَتْ الْحُجَّةُ عَلَيْهِ وَتَمَادَى مُعَانِدًا لِرَسُولِ اللَّهِ
صلى الله عليه وسلم فَهُوَ كَافِرٌ بِلاَ شَكٍّ. وَشَغَبَ أَصْحَابُ
الشَّافِعِيِّ بِأَنْ قَالُوا: لَمَّا صَحَّتْ الْمُسَاقَاةُ فِي
النَّخْلِ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ أَيْضًا فِي الْعِنَبِ; لأََنَّ
كِلَيْهِمَا فِيهِ الزَّكَاةُ، وَلاَ تَجِبُ الزَّكَاةُ فِي شَيْءٍ
مِنْ الثِّمَارِ غَيْرَهُمَا.
قال أبو محمد : وَهَذَا فَاسِدٌ وَقِيَاسٌ بَارِدٌ، وَيُقَالُ لَهُمْ:
لَمَّا كَانَ ثَمَرُ النَّخْلِ ذَا نَوًى وَجَبَ أَنْ يُقَاسَ عَلَيْهِ
كُلُّ ذِي نَوًى، أَوْ لَمَّا كَانَ ثَمَرُ النَّخْلِ حُلْوًا وَجَبَ
أَنْ يُقَاسَ عَلَيْهِ كُلُّ حُلْوٍ، وَإِلَّا فَمَا الَّذِي جَعَلَ
وُجُوبَ الزَّكَاةِ حُجَّةً فِي إعْطَائِهَا بِسَهْمٍ مِنْ ثِمَارِهَا
وَقَالَ أَيْضًا: إنَّ ثَمَرَ النَّخْلِ ظَاهِرٌ يُحَاطُ بِهِ
وَكَذَلِكَ الْعِنَبُ .
(8/231)
وَقَالَ
عَلِيٌّ: وَكَذَلِكَ التِّينُ، وَالْفُسْتُقُ، وَغَيْرُ ذَلِكَ.
وَأَمَّا مَنْعُ الْمَالِكِيِّينَ مِنْ ذَلِكَ فِي الْمَوْزِ
وَالْبَقْلِ فَدَعْوَى بِلاَ دَلِيلٍ. فَإِنْ قَالُوا: لَفْظُ "
الْمُسَاقَاةِ " يَدُلُّ عَلَى السَّقْيِ .فَقُلْنَا: وَمَنْ سَمَّى
هَذَا الْعَمَلَ " مُسَاقَاةً " حَتَّى تَجْعَلُوا هَذِهِ اللَّفْظَةَ
حُجَّةً؟ مَا عَلِمْنَاهَا، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم
وَلاَ عَنْ أَحَدٍ مِنْ الصَّحَابَةِ رضي الله عنهم، وَإِنَّمَا
نَقُولُهَا مَعَكُمْ مُسَاعَدَةً فَقَطْ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى
التَّوْفِيقُ. وَقَدْ كَانَ بِخَيْبَرَ بِلاَ شَكٍّ بَقْلٌ وَكُلُّ مَا
يَنْبُتُ فِي أَرْضِ الْعَرَبِ مِنْ الرُّمَّانِ، وَالْمَوْزِ،
وَالْقَصَبِ، وَالْبُقُولِ، فَعَامَلَهُمْ عليه السلام عَلَى نِصْفِ
كُلِّ مَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
(8/232)
لا يجوز أن يشترط على صاحب الأرض في المزارعة والمغارسة والمعاملة في
ثمار الأشجار لا أجير ولا عبد ولا سانية
...
1345 - مَسْأَلَةٌ - وَلاَ يَجُوزُ أَنْ يُشْتَرَطَ عَلَى صَاحِبِ
الأَرْضِ فِي " الْمُزَارَعَةِ " " وَالْمُغَارَسَةِ " "
وَالْمُعَامَلَةِ فِي ثِمَارِ الشَّجَرِ " لاَ أَجِيرٌ، وَلاَ عَبْدٌ،
وَلاَ سَانِيَةٌ،
وَلاَ قَادُوسٌ، وَلاَ حَبْلٌ، وَلاَ دَلْوٌ، وَلاَ عَمَلٌ، وَلاَ
زِبْلٌ، وَلاَ شَيْءٌ أَصْلاً وَكُلُّ ذَلِكَ عَلَى الْعَامِلِ
لِشَرْطِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَلَيْهِمْ أَنْ
يُعْمِلُوهَا مِنْ أَمْوَالِهِمْ فَوَجَبَ الْعَمَلُ كُلُّهُ عَلَى
الْعَامِلِ، فَلَوْ تَطَوَّعَ صَاحِبُ الأَصْلِ بِكُلِّ ذَلِكَ أَوْ
بِبَعْضِهِ فَهُوَ حَسَنٌ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى { وَلاَ تَنْسَوْا
الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ} .
(8/232)
كل ماثبت في المزارعة يثبت هنا
...
1346 - مَسْأَلَةٌ - وَكُلُّ مَا قُلْنَاهُ فِي " الْمُزَارَعَةِ "
فَهُوَ كَذَلِكَ هَهُنَا
لاَ تُحَاشِ شَيْئًا مِنْ تِلْكَ الْمَسَائِلِ فَأَغْنَى عَنْ
تَكْرَارِهَا وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
(8/232)
1347 -
مَسْأَلَةٌ - وَلاَ يَجُوزُ أَنْ يُشْتَرَطَ فِي " الْمُزَارَعَةِ "
وَإِعْطَاءِ الأُُصُولِ بِجُزْءٍ مُسَمًّى مِمَّا يَخْرُجُ مِنْهَا
مُشَاعٌ فِي جَمِيعِهَا عَلَى الْعَامِلِ: بِنَاءُ حَائِطٍ، وَلاَ
سَدُّ ثُلْمَةٍ،
وَلاَ حَفْرُ بِئْرٍ، وَلاَ تَنْقِيَتُهَا، وَلاَ حَفْرُ عَيْنٍ، وَلاَ
تَنْقِيَتُهَا، وَلاَ حَفْرُ سَانِيَةٍ، وَلاَ تَنْقِيَتُهَا، وَلاَ
حَفْرُ نَهْرٍ، وَلاَ تَنْقِيَتُهُ، وَلاَ عَمَلُ صِهْرِيجٍ، وَلاَ
إصْلاَحُهُ، وَلاَ بِنَاءُ دَارٍ، وَلاَ إصْلاَحُهَا، وَلاَ بِنَاءُ
بَيْتٍ، وَلاَ إصْلاَحُهُ، وَلاَ آلَةٌ سَانِيَةٌ، وَلاَ خَطَّارَةٌ،
وَلاَ نَاعُورَةٌ ; لأََنَّ كُلَّ ذَلِكَ شَرْطٌ لَيْسَ فِي كِتَابِ
اللَّهِ تَعَالَى فَهُوَ بَاطِلٌ فَإِنْ تَطَوَّعَ بِشَيْءٍ مِنْ
ذَلِكَ بِغَيْرِ شَرْطٍ جَازَ; لأََنَّ السُّنَّةَ إنَّمَا وَرَدَتْ
بِأَنَّ الشَّرْطَ عَلَيْهِمْ أَنَّ يَعْتَمِلُوهَا بِأَمْوَالِهِمْ،
وَبِأَنْفُسِهِمْ فَقَطْ: وَكُلُّ هَذَا لَيْسَ مِنْ عَمَلِ الأَرْضِ،
وَلاَ مِنْ عَمَلِ الشَّجَرِ فِي شَيْءٍ. وَأَمَّا آلَةُ الْحَرْثِ،
وَالْحَفْرِ كُلُّهَا وَآلَةُ السَّقْيِ كُلُّهَا، وَآلَةُ
التَّقْلِيمِ، وَآلَةُ التَّزْبِيلِ، وَالدَّوَابِّ، وَالأُُجَرَاءِ
فَكُلُّ ذَلِكَ عَلَى الْعَامِلِ، وَلاَ بُدَّ ; لأََنَّهُ لاَ يَكُونُ
الْعَمَلُ الْوَاجِبُ عَلَيْهِمْ إِلاَّ بِذَلِكَ، فَهُوَ عَلَيْهِمْ.
وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
تَمَّ كِتَابُ الْمُعَامَلَةِ فِي الثِّمَارِ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ
رَبِّ الْعَالَمِينَ.
(8/232)
كتاب إحياء الموات
مدخل
كل أرض لا مالك لها ولا يعرف أنها عمرت في
الإسلام فهي لمن سبق إليها وأحياها
...
كِتَابُ إحْيَاءِ الْمَوَاتِ. وَالإِقْطَاعِ. وَالْحِمَى. وَالصَّيْدِ
يَتَوَحَّشُ. وَمَنْ تَرَكَ مَالَهُ بِمَضْيَعَةٍ، أَوْ عَطِبَ مَالُهُ
فِي الْبَحْرِ
1348 - مَسْأَلَةٌ - كُلُّ أَرْضٍ لاَ مَالِكَ لَهَا، وَلاَ يُعْرَفُ
أَنَّهَا عُمِّرَتْ فِي الإِسْلاَمِ فَهِيَ لِمَنْ سَبَقَ إلَيْهَا
وَأَحْيَاهَا
سَوَاءٌ بِإِذْنِ الإِمَامِ فَعَلَ ذَلِكَ أَوْ بِغَيْرِ إذْنِهِ لاَ
إذْنَ فِي ذَلِكَ لِلإِمَامِ، وَلاَ لِلأَمِيرِ وَلَوْ أَنَّهُ بَيْنَ
الدُّورِ فِي الأَمْصَارِ، وَلاَ لأََحَدٍ أَنْ يَحْمِيَ شَيْئًا مِنْ
الأَرْضِ عَمَّنْ سَبَقَ إلَيْهَا بَعْدَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله
عليه وسلم. فَلَوْ أَنَّ الإِمَامَ أَقْطَعَ إنْسَانًا شَيْئًا لَمْ
يَضُرَّهُ ذَلِكَ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَحْمِيَهُ مِمَّنْ سَبَقَ
إلَيْهِ; فَإِنْ كَانَ إحْيَاؤُهُ لِذَلِكَ مُضِرًّا بِأَهْلِ
الْقَرْيَةِ ضَرَرًا ظَاهِرًا لَمْ يَكُنْ لأََحَدٍ أَنْ يَنْفَرِدَ
بِهِ لاَ بِإِقْطَاعِ الإِمَامِ، وَلاَ بِغَيْرِهِ، كَالْمِلْحِ
الظَّاهِرِ، وَالْمَاءِ الظَّاهِرِ، وَالْمَرَاحِ وَرَحْبَةِ السُّوقِ
وَالطَّرِيقِ، وَالْمُصَلَّى، وَنَحْوِ ذَلِكَ. وَأَمَّا مَا مُلِكَ
يَوْمًا مَا بِإِحْيَاءٍ أَوْ بِغَيْرِهِ ثُمَّ دَثَرَ وَأُشْغِرَ
حَتَّى عَادَ كَأَوَّلِ حَالِهِ فَهُوَ مِلْكٌ لِمَنْ كَانَ لَهُ، لاَ
يَجُوزُ لأََحَدٍ تَمَلُّكُهُ بِالإِحْيَاءِ أَبَدًا، فَإِنْ جُهِلَ
أَصْحَابُهُ فَالنَّظَرُ فِيهِ إلَى الإِمَامِ، وَلاَ يُمْلَكُ إِلاَّ
بِإِذْنِهِ.
وَقَدْ اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي هَذَا: فَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لاَ
تَكُونُ الأَرْضُ لِمَنْ أَحْيَاهَا إِلاَّ بِإِذْنِ الإِمَامِ لَهُ
فِي ذَلِكَ. وقال مالك: أَمَّا مَا يَتَشَاحُّ النَّاسُ فِيهِ مِمَّا
يَقْرُبُ مِنْ الْعُمْرَانِ فَإِنَّهُ لاَ يَكُونُ لأََحَدٍ إِلاَّ
بِقَطِيعَةِ الإِمَامِ، وَأَمَّا حِمَى مَا كَانَ فِي الصَّحَارِي
وَغَيْرِ الْعُمْرَانِ فَهُوَ لِمَنْ أَحْيَاهُ فَإِنْ تَرَكَهُ
يَوْمًا مَا حَتَّى عَادَ كَمَا كَانَ، فَقَدْ صَارَ أَيْضًا لِمَنْ
أَحْيَاهُ وَسَقَطَ عَنْهُ مِلْكُهُ وَهَكَذَا قَالَ فِي الصَّيْدِ
يُتَمَلَّكُ ثُمَّ يَتَوَحَّشُ فَإِنَّهُ لِمَنْ أَخَذَهُ، فَإِنْ
كَانَ فِي أُذُنِهِ شَنْفٌ أَوْ نَحْوُ ذَلِكَ فَالشَّنْفُ الَّذِي
كَانَ لَهُ وَالصَّيْدُ لِمَنْ أَخَذَهُ. وَقَالَ الْحَسَنُ بْنُ
حَيٍّ: لَيْسَ الْمَوَاتُ إِلاَّ فِي أَرْضِ الْعَرَبِ فَقَطْ. وَقَالَ
أَبُو يُوسُفَ: مَنْ أَحْيَا الْمَوَاتَ فَهُوَ لَهُ، وَلاَ مَعْنَى
لأَِذْنِ الإِمَامِ، إِلاَّ أَنَّ حَدَّ الْمَوَاتِ عِنْدَهُ مَا إذَا
وَقَفَ الْمَرْءُ فِي أَدْنَى الْمِصْرِ إلَيْهِ ثُمَّ صَاحَ لَمْ
يُسْمَعْ فِيهِ، فَمَا سُمِعَ فِيهِ الصَّوْتُ لاَ يَكُونُ إِلاَّ
بِإِذْنِ الإِمَامِ. وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْحَسَنِ،
وَمُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ، وَالشَّافِعِيُّ، وَأَبُو ثَوْرٍ، وَأَبُو
سُلَيْمَانَ وَأَصْحَابُهُ: كَقَوْلِنَا. فأما مَنْ ذَهَبَ مَذْهَبَ
أَبِي حَنِيفَةَ فَاحْتَجُّوا بِخَبَرٍ مِنْ طَرِيقِ عَمْرِو بْنِ
وَاقِدٍ، عَنْ مُوسَى بْنِ يَسَارٍ، عَنْ مَكْحُولٍ، عَنْ جُنَادَةَ
بْنِ أَبِي أُمَيَّةَ قَالَ: نَزَلْنَا دَابِقَ وَعَلَيْنَا أَبُو
عُبَيْدَةَ بْنُ الْجَرَّاحِ فَقَتَلَ حَبِيبُ بْنُ مَسْلَمَةَ
قَتِيلاً مِنْ الرُّومِ فَأَرَادَ أَبُو عُبَيْدَةَ أَنْ يُخَمِّسَ
سَلَبَهُ فَقَالَ لَهُ حَبِيبٌ: إنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه
وسلم جَعَلَ السَّلْبَ لِلْقَاتِلِ، فَقَالَ لَهُ
(8/233)
مُعَاذُ
بْنُ جَبَلٍ: مَهْ يَا حَبِيبُ إنِّي سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صلى الله
عليه وسلم يَقُولُ: إنَّمَا لِلْمَرْءِ مَا طَابَتْ بِهِ نَفْسُ
إمَامِهِ وَقَالُوا: لَمَّا كَانَ الْمَوَاتُ لَيْسَ أَحَدٌ أَوْلَى
بِهِ مِنْ أَحَدٍ أَشْبَهَ مَا فِي بَيْتِ الْمَالِ، مَا نَعْلَمُ
لَهُمْ شُبْهَةً غَيْرَ هَذَا.
قَالَ عَلِيٌّ: أَمَّا الأَثَرُ فَمَوْضُوعٌ; لأََنَّهُ مِنْ طَرِيقِ
عَمْرِو بْنِ وَاقِدٍ وَهُوَ مَتْرُوكٌ بِاتِّفَاقٍ مِنْ أَهْلِ
الْعِلْمِ بِالآثَارِ ثُمَّ هُوَ حُجَّةٌ عَلَيْهِمْ; لأََنَّهُمْ
أَوَّلُ مَنْ خَالَفَهُ فَأَبَاحُوا الصَّيْدَ لِمَنْ أَخَذَهُ
بِغَيْرِ إذْنِ الإِمَامِ، فَإِنْ ادَّعَوْا إجْمَاعًا كَذَبُوا
لأََنَّ فِي التَّابِعِينَ مَنْ مَنَعَ مِنْ الصَّيْدِ فِي دَارِ
الْحَرْبِ وَجَعَلَهُ مِنْ الْمَغْنَمِ، وَلاَ يُعَارَضُ بِمِثْلِ
هَذَا الأَثَرِ الْكَاذِبِ حُكْمُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم
بِالسَّلَبِ لِلْقَاتِلِ، وَبِالأَرْضِ لِمَنْ أَحْيَاهَا. وَأَمَّا
تَشْبِيهُهُمْ ذَلِكَ بِمَا فِي بَيْتِ الْمَالِ فَهُوَ قِيَاسٌ
وَالْقِيَاسُ كُلُّهُ بَاطِلٌ; لأََنَّ مَا فِي بَيْتِ الْمَالِ
أَمْوَالٌ مَمْلُوكَةٌ، أُخِذَتْ بِجِزْيَةٍ أَوْ بِصَدَقَةٍ أَوْ مِنْ
بَيْتِ مَالٍ كَانَ لَهُ رَبٌّ فَلَمْ يَعْرِفْهُ، وَلاَ يَجُوزُ أَنْ
يُشَبَّهَ مَا لَمْ يُعْرَفْ أَكَانَ لَهُ رَبٌّ أَمْ لَمْ يَكُنْ لَهُ
رَبٌّ بِمَا يُوقَنُ أَنَّهُ كَانَ لَهُ رَبٌّ. لَوْ كَانَ الأَمْرُ
بِالْقِيَاسِ حَقًّا لَكَانَ قِيَاسُ الأَرْضِ الْمَوَاتِ الَّتِي لَمْ
يَكُنْ لَهَا رَبٌّ بِالصَّيْدِ وَالْحَطَبُ أَوْلَى وَأَشْبَهُ،
وَلَكِنْ لاَ النُّصُوصَ يَتَّبِعُونَ، وَلاَ الْقِيَاسَ يُحْسِنُونَ.
ثُمَّ لَوْ صَحَّ هَذَا الْخَبَرُ الْمَوْضُوعُ لَكَانَ حُجَّةً لَنَا;
لأََنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَدْ قَضَى بِالْمَوَاتِ لِمَنْ
أَحْيَاهُ، وَهُوَ عليه السلام الإِمَامُ الَّذِي لاَ إمَامَةَ لِمَنْ
لَمْ يَأْتَمَّ بِهِ، وَهُوَ الَّذِي قَالَ فِيهِ تَعَالَى {يَوْمَ
نَدْعُو كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ} فَهُوَ إمَامُنَا نُشْهِدُ
اللَّهَ تَعَالَى عَلَى ذَلِكَ وَجَمِيعَ عِبَادِهِ، لاَ إمَامَ لَنَا
دُونَهُ، وَنَسْأَلُ اللَّهَ أَنْ لاَ يَدْعُونَا مَعَ إمَامٍ غَيْرِهِ
فَمَنْ اتَّخَذَ إمَامًا دُونَهُ عليه السلام يُغَلِّبُ حُكْمَهُ عَلَى
حُكْمِهِ عليه السلام فَسَيُرَدُّ وَيُعْلَمُ وَنَحْنُ إلَى اللَّهِ
مِنْهُ بُرَآءُ.
وَأَمَّا قَوْلُ مَالِكٍ فَظَاهِرُ الْفَسَادِ; لأََنَّهُ قَسَّمَ
تَقْسِيمًا لاَ نَعْلَمُهُ، عَنْ أَحَدٍ قَبْلَهُ، وَلاَ جَاءَ بِهِ
قُرْآنٌ، وَلاَ سَنَةٌ، وَلاَ رِوَايَةٌ سَقِيمَةٌ، وَلاَ قِيَاسٌ.
وأعجب شَيْءٍ فِيهِ أَنَّهُ لَمْ يَجْعَلْ الْمَوَاتَ الْقَرِيبَ
الَّذِي لَمْ يَكُنْ لَهُ قَطُّ مَالِكٌ لِمَنْ أَحْيَاهُ، وَقَدْ
جَعَلَهُ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى لِسَانِ رَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم
ثُمَّ جَعَلَ الْمَالَ الْمُتَمَلَّكَ الَّذِي حَرَّمَهُ اللَّهُ
تَعَالَى فِي الْقُرْآنِ، وَعَلَى لِسَانِ رَسُولِهِ صلى الله عليه
وسلم إذْ يَقُولُ " إنَّ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ عَلَيْكُمْ
حَرَامٌ " فَجَعَلَهَا مِلْكًا لِمَنْ أَخَذَهَا كَالْقَوْلِ الَّذِي
ذَكَرْنَا عَنْهُ فِي الْمَوَاتِ يُعَمَّرُ ثُمَّ يُتَشَغَّرُ،
وَمِثْلُ الصَّيْدِ يَتَوَحَّشُ، وَمَا وَجَبَ سُقُوطُ الْمِلْكِ
بِالتَّوَعُّرِ وَالتَّوَحُّشِ لاَ بِقُرْآنٍ، وَلاَ بِسُنَّةٍ، وَلاَ
بِرِوَايَةٍ سَقِيمَةٍ، وَلاَ بِقِيَاسٍ، وَلاَ بِرَأْيٍ لَهُ وَجْهٌ.
وَأَيْضًا فَلاَ يَخْلُو مَا قَرُبَ مِنْ الْعُمْرَانِ أَوْ تَشَاحَّ
فِيهِ النَّاسُ مِنْ أَنْ يَكُونَ فِيهِ ضَرَرٌ عَلَى أَهْلِ
الْقَرْيَةِ وَالْمِصْرِ، أَوْ لاَ ضَرَرَ فِيهِ عَلَيْهِمْ، فَإِنْ
كَانَ فِيهِ ضَرَرٌ فَمَا لِلإِمَامِ أَنْ يَقْطَعَهُ أَحَدًا، وَلاَ
أَنْ يَضُرَّ بِهِمْ وَإِنْ
(8/234)
كَانَ لاَ
ضَرَرَ فِيهِ عَلَيْهِمْ، فَأَيُّ فَرْقٍ بَيْنَهُ وَبَيْنَ
الْبَعِيدِ، عَنِ الْعُمْرَانِ؟ فَصَحَّ أَنْ لاَ مَعْنَى لِلإِمَامِ
فِي ذَلِكَ أَصْلاً،وَكَذَلِكَ تَقْسِيمُ أَبِي يُوسُفَ، وَالْحَسَنِ
بْنِ حَيٍّ فَفَاسِدٌ أَيْضًا; لأََنَّهُ قَوْلٌ بِلاَ بُرْهَانٍ،
فَهُوَ سَاقِطٌ.
قال أبو محمد : وَبُرْهَانُ صِحَّةِ قَوْلِنَا مَا رُوِّينَاهُ مِنْ
طَرِيقِ أَحْمَدَ بْنِ شُعَيْبٍ النَّسَائِيّ، حَدَّثَنَا يُونُسُ بْنُ
عَبْدِ الأَعْلَى، حَدَّثَنَا يَحْيَى، هُوَ ابْنُ بُكَيْرٍ، عَنِ
اللَّيْثِ، هُوَ ابْنُ سَعْدٍ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي
جَعْفَرٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَانِ بْنِ نَوْفَلٍ هُوَ
أَبُو الأَسْوَدِ، عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ، عَنْ عَائِشَةَ
أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:
أَنَّهُ قَالَ: " مَنْ أَحْيَا أَرْضًا مَيِّتَةً لَيْسَتْ لأََحَدٍ
فَهُوَ أَحَقُّ بِهَا ".
وَمِنْ طَرِيقِ الْبُخَارِيِّ، حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ،
حَدَّثَنَا اللَّيْثُ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي جَعْفَرٍ،
عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَانِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ
عَائِشَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:" مَنْ عَمَّرَ
أَرْضًا لَيْسَتْ لأََحَدٍ فَهُوَ أَحَقُّ بِهَا " قَالَ عُرْوَةُ:
وَقَضَى بِهِ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ.
قال أبو محمد : هَذَا الْخَبَرُ هُوَ نَصُّ قَوْلِنَا، وَهُوَ
الْمُبْطِلُ لِقَوْلِ مَنْ لَمْ يَجْعَلْ ذَلِكَ إِلاَّ بِإِذْنِ
غَيْرِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم إمَّا عُمُومًا وَأَمَّا فِي
مَكَان دُونَ مَكَان، وَلِقَوْلِ مَنْ قَالَ: مَنْ عَمَّرَ أَرْضًا
قَدْ عُمِّرَتْ ثُمَّ أُشْغِرَتْ فَهِيَ لِلَّذِي عَمَّرَهَا آخِرًا
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلاَ مُؤْمِنَةٍ
إذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمْ
الْخِيرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} . فَصَحَّ أَنَّ كُلَّ قَضِيَّةٍ قَضَاهَا
رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَكُلَّ عَطِيَّةٍ أَعْطَاهَا عليه
السلام فَلَيْسَ لأََحَدٍ يَأْتِي بَعْدَهُ لاَ إمَامٍ، وَلاَ غَيْرِهِ
أَنْ يَعْتَرِضَ فِيهَا، وَلاَ أَنْ يُدْخِلَ فِيهَا حُكْمًا وَقَدْ
اتَّصَلَ كَمَا تَرَى أَنَّ عُمَرَ قَضَى بِذَلِكَ ; وَلاَ يُعْرَفُ
لَهُ مُخَالِفٌ مِنْ الصَّحَابَةِ رضي الله عنهم. وَمِنْ طَرِيقِ أَبِي
دَاوُد، حَدَّثَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، حَدَّثَنَا
عَبْدُ الْوَهَّابِ، هُوَ ابْنُ عَبْدِ الْمَجِيدِ الثَّقَفِيُّ
حَدَّثَنَا أَيُّوبُ هُوَ السِّخْتِيَانِيُّ، عَنْ هِشَامِ بْنِ
عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ زَيْدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ
نُفَيْلٍ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: " مَنْ أَحْيَا
أَرْضًا مَيِّتَةً فَهِيَ لَهُ وَلَيْسَ لِعِرْقٍ ظَالِمٍ حَقٌّ ".
وَمِنْ طَرِيقِ أَحْمَدَ بْنِ شُعَيْبٍ، حَدَّثَنَا يُونُسُ بْنُ
عَبْدِ الأَعْلَى، حَدَّثَنَا ابْنُ وَهْبٍ أَخْبَرَنِي حَيْوَةُ بْنُ
شُرَيْحٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَانِ بْنِ نَوْفَلٍ،
عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ، أَنَّهُ قَالَ: الْعِرْقُ الظَّالِمُ
هُوَ الرَّجُلُ يَعْمُرُ الأَرْضَ الْخَرِبَةَ وَهِيَ لِلنَّاسِ قَدْ
عَجَزُوا عَنْهَا فَتَرَكُوهَا حَتَّى خَرِبَتْ.
قال أبو محمد : فَهَذَا عُرْوَةُ سَمَّى هَذِهِ الصِّفَةَ عِرْقَ
ظَالِمٍ، وَصَدَقَ عُرْوَةُ وَهَذَا هُوَ الَّذِي أَبَاحَهُ
الْمَالِكِيُّونَ. وَرُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ أَحْمَدَ بْنِ شُعَيْبٍ،
حَدَّثَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى بْنُ أَيُّوبَ، وَعَلِيُّ
بْنُ مُسْلِمٍ، قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى: حَدَّثَنَا عَبْدُ
الْوَهَّابِ، هُوَ ابْنُ عَبْدِ الْمَجِيدِ الثَّقَفِيُّ، حَدَّثَنَا
أَيُّوبُ هُوَ السِّخْتِيَانِيُّ وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ مُسْلِمٍ:
حَدَّثَنَا عَبَّادُ بْنُ عَبَّادٍ الْمُهَلَّبِيُّ، ثُمَّ اتَّفَقَ
أَيُّوبُ، وَعَبَّادٌ كِلاَهُمَا
(8/235)
عَنْ
هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ وَهْبِ بْنِ كَيْسَانَ، عَنْ جَابِرِ بْنِ
عَبْدِ اللَّهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "
مَنْ أَحْيَا أَرْضًا مَيِّتَةً فَلَهُ فِيهَا أَجْرٌ، وَمَا أَكَلَتْ
الْعَوَافِي مِنْهَا فَهُوَ لَهُ صَدَقَةٌ ".
قَالَ عَلِيٌّ: لاَ مَعْنَى لأََخْذِ رَأْيِ الإِمَامِ فِي
الصَّدَقَةِ، وَلاَ مَا فِيهِ أَجْرٌ، وَلَوْ أَرَادَ الْمَنْعَ مِنْ
ذَلِكَ لَكَانَ عَاصِيًا لِلَّهِ تَعَالَى. وَمِنْ طَرِيقِ أَبِي
دَاوُد، حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدَةَ الآمِلِيُّ، حَدَّثَنَا
عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُثْمَانَ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ
الْمُبَارَكِ أَنَا نَافِعُ بْنُ عُمَرَ الْجُمَحِيُّ، عَنِ ابْنِ
أَبِي مُلَيْكَةَ، عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ قَالَ:" أَشْهَدُ
أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَضَى أَنَّ الأَرْضَ أَرْضُ
اللَّهِ، وَالْعِبَادَ عِبَادُ اللَّهِ، وَمَنْ أَحْيَا مَوَاتًا
فَهُوَ أَحَقُّ بِهِ جَاءَنَا بِهَذَا، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه
وسلم الَّذِينَ جَاءُوا بِالصَّلَوَاتِ عَنْهُ. وَمِنْ طَرِيقِ أَبِي
دَاوُد السَّرْحِ، حَدَّثَنَا ابْنُ وَهْبٍ أَخْبَرَنِي يُونُسُ، هُوَ
ابْنُ يَزِيدَ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ
اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، عَنِ الصَّعْبِ بْنِ
جَثَّامَةَ اللَّيْثِيِّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم
قَالَ: " لاَ حِمَى إِلاَّ لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ ". فَصَحَّ أَنْ
لَيْسَ لِلإِمَامِ أَنْ يَحْمِيَ شَيْئًا مِنْ الأَرْضِ، عَنْ أَنْ
تَحْيَا. وَمِنْ طَرِيقِ أَبِي دَاوُد، حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ
سَعِيدٍ الدَّارِمِيُّ، حَدَّثَنَا وَهْبُ بْنُ جَرِيرِ بْنِ حَازِمٍ،
عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ، عَنْ يَحْيَى بْنِ عُرْوَةَ بْنِ
الزُّبَيْرِ، عَنْ أَبِيهِ أَنَّ رَجُلاً غَرَسَ نَخْلاً فِي أَرْضِ
غَيْرِهِ فَقَضَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لِصَاحِبِ
الأَرْضِ بِأَرْضِهِ وَأَمَرَ صَاحِبَ النَّخْلِ أَنْ يُخْرِجَ
نَخْلَهُ مِنْهَا. قَالَ عُرْوَةُ: حَدَّثَنِي رَجُلٌ مِنْ أَصْحَابِ
رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَأَكْبَرُ ظَنِّي أَنَّهُ أَبُو
سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ، فَأَنَا رَأَيْتُ الرَّجُلَ يَضْرِبُ فِي
أُصُولِ النَّخْلِ.
قال أبو محمد: هَذَا هُوَ الْحَقُّ الَّذِي لاَ يَجُوزُ غَيْرُهُ،
وَعُرْوَةُ لاَ يَخْفَى عَلَيْهِ مَنْ صَحَّتْ صُحْبَتُهُ مِمَّنْ لَمْ
تَصِحَّ، وَقَدْ اعْتَمَرَ مِنْ مَكَّةَ إلَى الْمَدِينَةِ مَعَ عُمَرَ
بْنِ الْخَطَّابِ، وَأَدْرَكَهُ فَمَنْ دُونَهُ، لاَ قَوْلَ مَالِكٍ:
إنَّهُ إنْ لَمْ يَنْتَفِعْ بِالشَّجَرِ إنْ قُلِعَتْ كَانَ
لِغَارِسِهَا قِيمَتُهَا مَقْلُوعَةً أَحَبَّ أَمْ كَرِهَ، وَتُرِكَتْ
لِصَاحِبِ الأَرْضِ أَحَبَّ أَمْ كَرِهَ، وَمَا يَزَالُونَ يَقْضُونَ
لِلنَّاسِ بِأَمْوَالِ النَّاسِ الْمُحَرَّمَةِ عَلَيْهِمْ بِغَيْرِ
بُرْهَانٍ، وَالْمُتَعَدِّي وَإِنْ ظَلَمَ فَظُلْمُهُ لاَ يَحِلُّ أَنْ
يَظْلِمَ فَيُؤْخَذَ مِنْ مَالِهِ مَا لَمْ يُوجِبْ اللَّهُ تَعَالَى،
وَلاَ رَسُولُهُ صلى الله عليه وسلم أَخْذَهُ وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ
اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ وَمِنْ طَرِيقِ أَبِي عُبَيْدٍ
حَدَّثَنِي أَحْمَدُ بْنُ خَالِدٍ الْحِمْصِيُّ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ
إِسْحَاقَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ سَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ
عُمَرَ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: كَانَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ يَخْطُبُ
عَلَى هَذَا الْمِنْبَرِ يَقُولُ: "يَا أَيُّهَا النَّاسُ مَنْ أَحْيَا
أَرْضًا مَيِّتَةً فَهِيَ لَهُ"، وَجَاءَ أَيْضًا، عَنْ عَلِيٍّ
فَهَذَا بِحَضْرَةِ الصَّحَابَةِ عَلاَنِيَةً لاَ يُنْكِرُهُ أَحَدٌ
مِنْهُمْ. وَمِنْ طَرِيقِ أَبِي عُبَيْدٍ، حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ
عُثْمَانَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُبَارَكِ، عَنْ حَكِيمِ بْنِ
زُرَيْقٍ قَالَ: قَرَأْت كِتَابَ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ إلَى
أَبِي: مَنْ أَحْيَا أَرْضًا مَيِّتَةً بِبُنْيَانٍ أَوْ حَرْثٍ مَا
لَمْ تَكُنْ مِنْ أَمْوَالِ قَوْمٍ
(8/236)
ابْتَاعُوهَا أَوْ أَحْيَوْا بَعْضًا وَتَرَكُوا بَعْضًا فَأَجَازَ
لِلْقَوْمِ إحْيَاءَهُمْ وَأَمَّا مَا كَانَ مَكْشُوفًا فَلِجَمِيعِ
الْمُسْلِمِينَ يَأْخُذُونَ مِنْهُ الْمَاءَ أَوْ الْمِلْحَ، أَوْ
يُرِيحُونَ فِيهِ دَوَابَّهُمْ، فَلأََنَّهُمْ قَدْ مَلَكُوهُ فَلَيْسَ
لأََحَدٍ أَنْ يَنْفَرِدَ بِهِ.
وَرُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ، عَنْ عَمْرِو
بْنِ يَحْيَى بْنِ قَيْسٍ الْمَازِنِيِّ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبْيَضَ
بْنِ حَمَالٍ هُوَ الْمَازِنِيُّ قَالَ: " اسْتَقْطَعْتُ رَسُولَ
اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَعْدِنَ الْمِلْحِ الَّذِي بِمَأْرِبَ
فَأَقْطَعَنِيهِ، فَقِيلَ لَهُ: إنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الْمَاءِ الْعِدِّ
قَالَ: فَلاَ إذًا .
قال أبو محمد: فإن قيل: فَقَدْ أَقْطَعَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه
وسلم وَأَقْطَعَ أَبُو بَكْرٍ، وَعُمَرُ وَعُثْمَانُ، وَمُعَاوِيَةُ
فَمَا مَعْنَى إقْطَاعِهِمْ قلنا: أَمَّا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله
عليه وسلم فَهُوَ الَّذِي لَهُ الْحِمَى وَالإِقْطَاعُ، وَاَلَّذِي
لَوْ مَلَّكَ إنْسَانًا رَقَبَةَ حُرٍّ لَكَانَ لَهُ عَبْدًا وَأَمَّا
مَنْ دُونَهُ عليه السلام فَقَدْ يَفْعَلُونَ ذَلِكَ قَطْعًا
لِلتَّشَاحِّ وَالتَّنَازُعِ، وَلاَ حُجَّةَ فِي أَحَدٍ دُونَهُ عليه
السلام.
قال أبو محمد: وَلَيْسَ الْمَرْعَى مُتَمَلَّكًا، بَلْ مَنْ أَحْيَا
فِيهِ فَهُوَ لَهُ، وَيُقَالُ لأََهْلِ الْمَاشِيَةِ: أَعْزِبُوا
وَأَبْعِدُوا فِي طَلَبِ الْمَرْعَى، وَإِنَّمَا التَّمَلُّكُ
بِالإِحْيَاءِ فَقَطْ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ وَالرَّعْيُ
لَيْسَ إحْيَاءً، وَلَوْ كَانَ إحْيَاءً لَمَلَكَ الْمَكَانَ مَنْ
رَعَاهُ، وَهَذَا بَاطِلٌ مُتَيَقَّنٌ فِي اللُّغَةِ وَفِي
الشَّرِيعَةِ. وَاحْتَجَّ بَعْضُ الْمَالِكِيِّينَ لِقَوْلِهِمْ فِي
الصَّيْدِ الْمُتَوَحِّشِ بِأَسْخَفِ مُعَارَضَةٍ سُمِعَتْ، وَهُوَ،
أَنَّهُ قَالَ: الصَّيْدُ إذَا تَوَحَّشَ بِمَنْزِلَةِ مَنْ أَخَذَ
مَاءً مِنْ بِئْرٍ مُتَمَلَّكَةٍ فِي وِعَائِهِ فَانْهَرَقَ الْمَاءُ
فِي الْبِئْرِ، أَيَكُونُ شَرِيكًا بِذَلِكَ فِي الْمَاءِ الَّذِي فِي
الْبِئْرِ؟.
قال أبو محمد: الْبِئْرُ وَأَخْذُ الْمَاءِ مِنْهَا لاَ يَخْلُو أَنْ
تَكُونَ مُبَاحَةً أَوْ مُتَمَلَّكَةً، فَإِنْ كَانَتْ مُبَاحَةً
فَلَهُ أَنْ يَأْخُذَ مِنْهَا أَضْعَافَ مَا انْهَرَقَ لَهُ إنْ شَاءَ،
وَلَهُ أَنْ يَتْرُكَ إنْ شَاءَ، كَمَا يَتْرُكُ النَّاسُ مَا لاَ
قِيمَةَ لَهُ عِنْدَهُمْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ وَيُبِيحُونَهُ لِمَنْ
أَخَذَهُ، كَالنَّوَى، وَالتِّبْنِ، وَالزِّبْلِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ.
وَلَوْ أَنَّ صَاحِبَ كُلِّ ذَلِكَ لَمْ يُطْلِقْهُ، وَلاَ أَبَاحَ
أَخْذَهُ لأََحَدٍ، لَكَانَ ذَلِكَ لَهُ، وَلَمَا حَلَّ لأََحَدٍ
أَخْذُهُ، فَلاَ يَحِلُّ مَالُ أَحَدٍ قَلَّ أَوْ كَثُرَ إِلاَّ
بِإِبَاحَتِهِ لَهُ، أَوْ حَيْثُ أَبَاحَتْهُ الدِّيَانَةُ، عَنِ
اللَّهِ تَعَالَى. وَقَدْ نَصَّ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم
عَلَى أَنَّ مَنْ اقْتَطَعَ بِيَمِينِهِ حَقَّ مُسْلِمٍ أَوْجَبَ
اللَّهُ لَهُ النَّارَ وَلَوْ كَانَ قَضِيبًا مِنْ أَرَاكٍ، فَأَيُّمَا
أَكْثَرُ عِنْدَهُمْ وَهُمْ أَصْحَابُ قِيَاسٍ بِزَعْمِهِمْ قَضِيبُ
أَرَاكٍ، أَوْ أُيَّلٌ، أَوْ حِمَارُ وَحْشٍ، يُسَاوِي كُلُّ وَاحِدِ
مِنْهَا مَالاً، أَوْ أَرْضٌ تُسَاوِي الأَمْوَالَ، وَإِنْ كَانَتْ
الْبِئْرُ مُتَمَلَّكَةً، فَلاَ يَخْلُو آخِذُ الْمَاءِ مِنْهَا مِنْ
أَنْ يَكُونَ مُحْتَاجًا إلَى مَا أَخَذَ أَوْ غَيْرَ مُحْتَاجٍ،
فَإِنْ كَانَ مُحْتَاجًا فَلَهُ أَنْ يَأْخُذَ مِنْهَا مِثْلَ مَا
انْهَرَقَ لَهُ أَوْ أَكْثَرَ أَوْ أَضْعَافَهُ إذَا احْتَاجَ إلَيْهِ،
وَإِنْ
(8/237)
كَانَ
غَيْرَ مُحْتَاجٍ لَمْ يَجُزْ لَهُ أَخْذُ شَيْءٍ مِنْ مَائِهَا لاَ
مَا قَلَّ، وَلاَ مَا كَثُرَ فَظَهَرَ هَذَرُ هَذَا الْجَاهِلِ
وَتَخْلِيطُهُ.
(8/238)
تفسير الأحياء
...
1349 - مَسْأَلَةٌ - وَالإِحْيَاءُ
هُوَ قَلْعُ مَا فِيهَا مِنْ عُشْبٍ، أَوْ شَجَرٍ، أَوْ نَبَاتٍ،
بِنِيَّةِ الإِحْيَاءِ، لاَ بِنِيَّةِ أَخْذِ الْعُشْبِ
وَالأَحْتِطَابِ فَقَطْ، أَوْ جَلْبِ مَاءٍ إلَيْهَا مِنْ نَهْرٍ، أَوْ
مِنْ عَيْنٍ، أَوْ حَفْرِ بِئْرٍ فِيهَا لِسَقْيِهَا مِنْهُ، أَوْ
حَرْثِهَا، أَوْ غَرْسِهَا، أَوْ تَزْبِيلِهَا، أَوْ مَا يَقُومُ
مَقَامَ التَّزْبِيلِ مِنْ نَقْلِ تُرَابٍ إلَيْهَا، أَوْ رَمَادٍ،
أَوْ قَلْعِ حِجَارَةٍ، أَوْ جَرْدِ تُرَابِ مِلْحٍ، عَنْ وَجْهِهَا
حَتَّى يُمْكِنَ بِذَلِكَ حَرْثُهَا، أَوْ غَرْسُهَا، أَوْ أَنْ
يُخْتَطَّ عَلَيْهَا بِحَظِيرٍ لِلْبِنَاءِ فَهَذَا كُلُّهُ إحْيَاءٌ
فِي لُغَةِ الْعَرَبِ الَّتِي بِهَا خَاطَبَنَا اللَّهُ تَعَالَى عَلَى
لِسَانِ نَبِيِّهِ صلى الله عليه وسلم فَيَكُونُ لَهُ بِذَلِكَ مَا
أَدْرَكَ الْمَاءَ فِي فَوْرِهِ وَكَثْرَتِهِ فِي جَمِيعِ جِهَاتِ
الْبِئْرِ، أَوْ الْعَيْنِ، أَوْ النَّهْرِ، أَوْ السَّاقِيَّةِ، قَدْ
مَلَكَهُ وَاسْتَحَقَّهُ; لأََنَّهُ أَحْيَاهُ .وَلاَ خِلاَفَ فِي
ضَرُورَةِ الْحِسِّ وَاللُّغَةِ أَنَّ الأَحْتِطَابَ وَأَخْذَ
الْعُشْبِ لِلرَّعْيِ لَيْسَ إحْيَاءً وَمَا تَوَلَّى الْمَرْءُ مِنْ
ذَلِكَ بِأُجَرَائِهِ وَأَعْوَانِهِ، فَهُوَ لَهُ، لاَ لَهُمْ لِقَوْلِ
رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " إنَّمَا الأَعْمَالُ
بِالنِّيَّاتِ وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى ".
(8/238)
من خرج في أرضه معدن فهو له ويورث عنه ولا حق للإمام معه فيه ولا لغيره
...
1350 - مَسْأَلَةٌ - وَمَنْ خَرَجَ فِي أَرْضِهِ مَعْدِنُ فِضَّةٍ،
أَوْ ذَهَبٍ، أَوْ نُحَاسٍ أَوْ حَدِيدٍ، أَوْ رَصَاصٍ، أَوْ
قَزْدِيرٍ، أَوْ زِئْبَقٍ، أَوْ مِلْحٍ، أَوْ شَبٍّ، أَوْ زِرْنِيخٍ،
أَوْ كُحْلٍ، أَوْ يَاقُوتٍ، أَوْ زُمُرُّدٍ، أَوْ بَجَادِيٍّ، أَوْ
رهوبي، أَوْ بِلَّوْرٍ، أَوْ كَذَّانٍ، أَوْ أَيِّ شَيْءٍ كَانَ فَهُوَ
لَهُ، وَيُورَثُ عَنْهُ، وَلَهُ بَيْعُهُ، وَلاَ حَقَّ لِلإِمَامِ
مَعَهُ فِيهِ، وَلاَ لِغَيْرِهِ
وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ، وَالشَّافِعِيِّ، وَأَبِي سُلَيْمَانَ.
وقال مالك: تَصِيرُ الأَرْضُ لِلسُّلْطَانِ.
قال أبو محمد: وَهَذَا بَاطِلٌ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى {لاَ
تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ} وَلِقَوْلِ رَسُولِ
اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " مَنْ أَحْيَا أَرْضًا مَيِّتَةً فَهِيَ
لَهُ وَلِعَقِبِهِ ". وَلِقَوْلِهِ عليه السلام " مَنْ غَصَبَ شِبْرًا
مِنْ الأَرْضِ طَوَّقَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنْ سَبْعِ أَرَضِينَ "
وَلِقَوْلِهِ عليه السلام: " إنَّ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ
عَلَيْكُمْ حَرَامٌ ". فَلَيْتَ شِعْرِي بِأَيِّ وَجْهٍ تَخْرُجُ
أَرْضُهُ الَّتِي مَلَكَ بِإِرْثٍ، أَوْ الَّتِي أَحْيَا، عَنْ يَدِهِ
مِنْ أَجْلِ وُجُودِ الْمَعْدِنِ فِيهَا وَمَا عَلِمْنَا لِهَذَا
الْقَوْلِ مُتَعَلَّقًا لاَ مِنْ قُرْآنٍ، وَلاَ مِنْ سُنَّةٍ، وَلاَ
رِوَايَةٍ سَقِيمَةٍ، وَلاَ مِنْ قَوْلِ أَحَدٍ قَبْلَهُ نَعْلَمُهُ،
وَلاَ مِنْ قِيَاسٍ، وَلاَ مِنْ رَأْيٍ سَدِيدٍ، وَنَسْأَلُهُ، عَنْ
مَسْجِدٍ ظَهَرَ فِيهِ مَعْدِنٌ، أَوْ لَوْ ظَهَرَ مَعْدِنٌ فِي
الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، أَوْ فِي مَسْجِدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله
عليه وسلم أَوْ فِي مَقْبَرَةٍ لِلْمُسْلِمِينَ أَيَكُونُ لِلإِمَامِ
أَخْذُ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، وَأَخْذُ مَسْجِدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى
الله عليه وسلم وَالْمَقْبَرَةِ فَيَمْنَعُ النَّاسَ مِنْ كُلِّ ذَلِكَ
(8/238)
من ساق ساقية أو حفر بئرا أو عينا فله ماسقي ولا يحفر أحد بحيث يضر
بتلك العين أو تلك البئر
...
1351 - مَسْأَلَةٌ - وَمَنْ سَاقَ سَاقِيَةً، أَوْ حَفَرَ بِئْرًا،
أَوْ عَيْنًا فَلَهُ مَا سَقَى كَمَا قَدَّمْنَا.
وَلاَ يَحْفِرُ أَحَدٌ بِحَيْثُ يَضُرُّ بِتِلْكَ الْعَيْنِ، أَوْ
بِتِلْكَ الْبِئْرِ، أَوْ بِتِلْكَ السَّاقِيَةِ، أَوْ ذَلِكَ
النَّهْرِ، أَوْ بِحَيْثُ يَجْلِبُ شَيْئًا مِنْ مَائِهَا عَنْهَا
فَقَطْ، لاَ حَرِيمَ لِذَلِكَ أَصْلاً غَيْرَ مَا ذَكَرْنَا ;
لأََنَّهُ إذَا مَلَكَ تِلْكَ الأَرْضَ فَقَدْ مَلَكَ مَا فِيهَا مِنْ
الْمَاءِ فَلاَ يَجُوزُ أَخْذُ مَالِهِ بِغَيْرِ حَقٍّ. وَرُوِّينَا
مِنْ طَرِيقِ إسْمَاعِيلَ ابْنِ عُلَيَّةَ، عَنْ رَجُلٍ، عَنْ سَعِيدِ
بْنِ الْمُسَيِّبِ. وَمِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ مُسْلِمٍ
الطَّائِفِيِّ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ الأَنْصَارِيِّ، عَنْ
سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ "أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم
قَالَ: حَرِيمُ الْبِئْرِ الْمُحْدَثَةِ خَمْسٌ وَعِشْرُونَ ذِرَاعًا،
وَحَرِيمُ الْبِئْرِ الْعَادِيَةِ خَمْسُونَ ذِرَاعًا ". وَعَنْ
سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ، وَيَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ الأَنْصَارِيِّ
مِنْ قَوْلِهِمَا مِثْلُ ذَلِكَ. وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ،
وَالشَّعْبِيِّ، وَالْحَسَنِ: حَرِيمُ الْبِئْرِ أَرْبَعُونَ ذِرَاعًا
لأََعْطَانِ الإِبِلِ، وَالْغَنَمِ. وَعَنِ ابْنِ الْمُسَيِّبِ:
حَرِيمُ بِئْرِ الزَّرْعِ ثَلاَثُمِائَةِ ذِرَاعٍ. قَالَ الزُّهْرِيُّ:
سَمِعْت النَّاسَ يَقُولُونَ: حَرِيمُ الْعَيْنِ خَمْسُمِائَةِ
ذِرَاعٍ. وَعَنْ عِكْرِمَةَ: حَرِيمُ مَا بَيْنَ الْعَيْنَيْنِ
مِائَتَا ذِرَاعٍ وَلَيْسَ عِنْدَ مَالِكٍ فِي ذَلِكَ حَدٌّ. وقال أبو
حنيفة: حَرِيمُ بِئْرِ الْعَطَنِ أَرْبَعُونَ ذِرَاعًا، وَحَرِيمُ
بِئْرِ النَّاضِحِ سِتُّونَ ذِرَاعًا مِنْ كُلِّ جِهَةٍ إِلاَّ أَنْ
يَكُونَ حَبْلُهُمَا أَطْوَلَ، وَحَرِيمُ الْعَيْنِ خَمْسُمِائَةِ
ذِرَاعٍ. وَلاَ يُعْلَمُ لأََبِي حَنِيفَةَ سَلَفًا فِي قَوْلٍ فِي
بِئْرِ النَّاضِحِ، وَقَدْ خَالَفَ الْمُرْسَلَ فِي هَذَا الْحُكْمِ.
وَقَالَ يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ فِي قَوْلِهِ الْمَذْكُورِ: هُوَ
السُّنَّةُ، وَالْمَالِكِيُّونَ يَحْتَجُّونَ فِي أَصَابِعِ
الْمَرْأَةِ بِقَوْلِ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ: هِيَ السُّنَّةُ
فَهَلاَّ احْتَجُّوا هَهُنَا بِقَوْلِ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ: هِيَ
السُّنَّةُ؟.
(8/239)
حكم الشرب في نهر غير ممتلك فيشرع السقي للأعلى فالأعلى لا حق للأسفل
حتى يستوفي الأعلى حاجته
...
1352 - مَسْأَلَةٌ - وَأَمَّا الشُّرْبُ مِنْ نَهْرٍ غَيْرِ
مُتَمَلَّكٍ فَالْحُكْمُ أَنَّ السَّقْيَ لِلأَعْلَى فَالأَعْلَى
لاَحِقٌ لِلأَسْفَلِ حَتَّى يَسْتَوْفِيَ الأَعْلَى حَاجَتَهُ، وَحَقُّ
ذَلِكَ أَنْ يُغَطِّيَ وَجْهَ الأَرْضِ حَتَّى لاَ تَشْرَبَهُ
وَيَرْجِعُ لِلْجِدَارِ أَوْ السِّيَاجِ، ثُمَّ يُطْلِقُهُ، وَلاَ
يُمْسِكُهُ أَكْثَرَ، وَسَوَاءٌ كَانَ الأَعْلَى أَحْدَثَ مِلْكًا أَوْ
إحْيَاءً مِنْ الأَسْفَلِ، أَوْ مُسَاوِيًا لَهُ، أَوْ أَقْدَمَ
مِنْهُ، وَلاَ يُتَمَلَّكُ شِرْبُ نَهْرٍ غَيْرِ مُتَمَلَّكٍ أَصْلاً،
وَلاَ شِرْبُ سَيْلٍ، وَتَبْطُلُ الدُّوَلُ وَالْقِسْمَةُ فِيهَا
وَإِنْ تَقَدَّمَتْ إِلاَّ أَنْ يَكُونَ قَوْمٌ حَفَرُوا سَاقِيَةً
وَبَنَوْهَا، فَلَهُمْ أَنْ يَقْتَسِمُوا مَاءَهَا بِقَدْرِ حِصَصِهِمْ
فِيهَا.
بُرْهَانُ ذَلِكَ: مَا رُوِّينَاهُ مِنْ طَرِيقِ أَبِي دَاوُد،
حَدَّثَنَا أَبُو الْوَلِيدِ هُوَ الطَّيَالِسِيُّ أَنَا اللَّيْثُ،
هُوَ ابْنُ سَعْدٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عُرْوَةَ بْنِ
الزُّبَيْرِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ قَالَ: "خَاصَمَ
الزُّبَيْرُ رَجُلاً فِي شِرَاجِ الْحَرَّةِ الَّتِي يَسْقُونَ بِهَا،
فَقَالَ الأَنْصَارِيُّ لِلزُّبَيْرِ: سَرِّحْ الْمَاءَ يَمُرُّ
فَأَبَى عَلَيْهِ الزُّبَيْرُ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه
وسلم لِلزُّبَيْرِ: اسْقِ يَا زُبَيْرُ ثُمَّ أَرْسِلْ إلَى
(8/239)
1353 -
مَسْأَلَةٌ - وَمَنْ غَرَسَ أَشْجَارًا فَلَهُ مَا أَظَلَّتْ
أَغْصَانُهَا عِنْدَ تَمَامِهَا، فَإِنْ انْتَثَرَتْ عَلَى أَرْضِ
غَيْرِهِ أَخَذَ بِقَطْعِ مَا انْتَثَرَ مِنْهَا عَلَى أَرْضِ
غَيْرِهِ.
رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ أَبِي دَاوُد، حَدَّثَنَا مَحْمُودُ بْنُ
خَالِدٍ أَنَّ مُحَمَّدَ بْنَ عُثْمَانَ حَدَّثَهُمْ قَالَ حَدَّثَنَا
عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ مُحَمَّدٍ هُوَ الدَّرَاوَرْدِيُّ، عَنْ
عَمْرِو بْنِ يَحْيَى الْمَازِنِيِّ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ
الْخُدْرِيِّ قَالَ: اخْتَصَمَ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه
وسلم رَجُلاَنِ فِي حَرِيمِ نَخْلَةٍ فَأَمَرَ عليه السلام بِجَرِيدَةٍ
مِنْ جَرِيدِهَا فَذُرِعَتْ فَقَضَى بِذَلِكَ يَعْنِي بِمَبْلَغِهَا.
وَأَمَّا انْتِثَارُهَا عَلَى أَرْضِ غَيْرِهِ فَلِقَوْلِ رَسُولِ
اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " إنَّ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ
عَلَيْكُمْ حَرَامٌ " فَلاَ يَحِلُّ لأََحَدٍ الأَنْتِفَاعُ بِمَالِ
غَيْرِهِ إِلاَّ مَا دَامَتْ نَفْسُهُ لَهُ طَيِّبَةً بِذَلِكَ
وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
(8/240)
من ترك دابته بفلاة ضائعة فأخذها إنسان فقام عليها فصلحت أو أعطب في
بحر أو نهر فرمى البحر متاعه فأخذه إنسان أو غاص عليه إنسان فأخذه فكل
ذلك لصاحبه
...
1354 - مَسْأَلَةٌ - وَمَنْ تَرَكَ دَابَّتَهُ بِفَلاَةٍ ضَائِعَةً
فَأَخَذَهَا إنْسَانٌ فَقَامَ عَلَيْهَا فَصَلَحَتْ، أَوْ عَطِبَ فِي
بَحْرٍ أَوْ نَهْرٍ فَرَمَى الْبَحْرُ مَتَاعَهُ فَأَخَذَهُ إنْسَانٌ
أَوْ غَاصَ عَلَيْهِ إنْسَانٌ فَأَخَذَهُ، فَكُلُّ ذَلِكَ لِصَاحِبِهِ
الأَوَّلِ،
وَلاَ حَقَّ فِيهِ لِمَنْ أَخَذَ شَيْئًا مِنْهُ، لِقَوْلِ رَسُولِ
اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " إنَّ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ
عَلَيْكُمْ حَرَامٌ ". وَقَدْ جَاءَ فِي ذَلِكَ خِلاَفٌ: كَمَا
رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ سَعِيدِ بْنِ مَنْصُورٍ، حَدَّثَنَا هُشَيْمٌ
أَنَا مَنْصُورٌ، هُوَ ابْنُ الْمُعْتَمِرِ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ
بْنِ حُمَيْدٍ الْحِمْيَرِيِّ قَالَ: سَمِعْت الشَّعْبِيَّ يَقُولُ:
مَنْ قَامَتْ عَلَيْهِ دَابَّتُهُ فَتَرَكَهَا فَهِيَ لِمَنْ
أَحْيَاهَا: فَقُلْت لَهُ: عَمَّنْ يَا أَبَا عَمْرٍو قَالَ: إنْ شِئْت
عَدَّدَتْ لَك كَذَا وَكَذَا مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله
عليه وسلم. وَمِنْ طَرِيقِ سَعِيدِ بْنِ مَنْصُورٍ حَدَّثَنَا خَالِدٌ
هُوَ ابْنُ عَبْدِ اللَّهِ الطَّحَّانُ الْوَاسِطِيُّ أَنَا مُطَرِّفٌ
هُوَ ابْنُ طَرِيفٍ عَنِ الشَّعْبِيِّ فِي رَجُلٍ سَيَّبَ دَابَّتَهُ
فَأَخَذَهَا رَجُلٌ فَأَصْلَحَهَا فَقَالَ الشَّعْبِيُّ: هَذَا قَدْ
قَضَى فِيهِ إنْ كَانَ سَيَّبَهَا فِي كَلاٍَ، وَأَمْنٍ، وَمَاءٍ،
فَصَاحِبُهَا أَحَقُّ بِهَا، وَإِنْ كَانَ سَيَّبَهَا فِي مَخَافَةٍ
أَوْ مَفَازَةٍ فَاَلَّذِي أَخَذَهَا أَحَقُّ بِهَا. وَمِنْ طَرِيقِ
ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ، عَنْ عُثْمَانَ
بْنِ غِيَاثٍ قَالَ: سُئِلَ الْحَسَنُ عَمَّنْ تَرَكَ دَابَّتَهُ
بِأَرْضِ قَفْرٍ فَأَخَذَهَا رَجُلٌ فَقَامَ عَلَيْهَا حَتَّى صَلَحَتْ
قَالَ: هِيَ لِمَنْ أَحْيَاهَا. قَالَ: وَسُئِلَ الْحَسَنُ، عَنِ
السَّفِينَةِ تَغْرَقُ فِي الْبَحْرِ فِيهَا مَتَاعٌ لِقَوْمٍ شَتَّى
فَقَالَ:
(8/240)
1354 -
مَسْأَلَةٌ: وَلاَ يَلْزَمُ مَنْ وَجَدَ مَتَاعَهُ إذَا أَخَذَهُ أَنْ
يُؤَدِّيَ إلَى الَّذِي وَجَدَهُ عِنْدَهُ مَا أَنْفَقَ عَلَيْهِ،
لأََنَّهُ لَمْ يَأْمُرْهُ بِذَلِكَ،
فَهُوَ مُتَطَوِّعٌ بِمَا أَنْفَقَ. وَرُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ سَعِيدِ
بْنِ مَنْصُورٍ، حَدَّثَنَا هُشَيْمٌ أَنَا دَاوُد بْنُ أَبِي هِنْدٍ،
عَنِ الشَّعْبِيِّ أَنَّ رَجُلاً أَضَلَّ بَعِيرًا لَهُ نِضْوًا
فَأَخَذَهُ رَجُلٌ فَأَنْفَقَ عَلَيْهِ حَتَّى صَلَحَ وَسَمُنَ،
فَوَجَدَهُ صَاحِبُهُ عِنْدَهُ فَخَاصَمَهُ إلَى عُمَرَ بْنِ عَبْدِ
الْعَزِيزِ فَقَضَى لَهُ بِالنَّفَقَةِ وَرَدِّ الدَّابَّةِ إلَى
صَاحِبِهَا قَالَ الشَّعْبِيُّ: أَمَّا أَنَا فَأَقُولُ: يَأْخُذُ
مَالَهُ حَيْثُ وَجَدَهُ سَمِينًا أَوْ مَهْزُولاً، وَلاَ شَيْءَ
عَلَيْهِ.
الْمَرْفِقُ
(8/241)
المرفق
لكل أحد أن يفتح ما شاء في حائطه من كوة أو
باب أو أن يهدمه إن شاء في دار جاره أو في درب غير نافذ
...
1355 - مَسْأَلَةٌ - وَلِكُلِّ أَحَدٍ أَنْ يَفْتَحَ مَا شَاءَ فِي
حَائِطِهِ مِنْ كُوَّةٍ أَوْ بَابٍ،
أَوْ أَنْ يَهْدِمَهُ إنْ شَاءَ فِي دَارِ جَارِهِ، أَوْ فِي دَرْبٍ
غَيْرِ نَافِذٍ أَوْ نَافِذٍ، وَيُقَالُ لِجَارِهِ: ابْنِ فِي حَقِّك
مَا تَسْتُرُ بِهِ عَلَى نَفْسِك إِلاَّ أَنَّهُ يُمْنَعُ مِنْ
الأَطِّلاَعِ فَقَطْ. وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ، وَالشَّافِعِيِّ،
وَأَبِي سُلَيْمَانَ. وقال مالك: يُمْنَعُ مِنْ كُلِّ ذَلِكَ.
قال أبو محمد : وَهَذَا خَطَأٌ; لأََنَّ كُلَّ ذِي حَقٍّ أَوْلَى
بِحَقِّهِ. وَلاَ يَحِلُّ لِلْجَارِ أَنْ يَنْتَفِعَ بِحَائِطِ جَارِهِ
إِلاَّ حَيْثُ جَاءَ النَّصُّ بِذَلِكَ. وَلاَ فَرْقَ بَيْنَ أَنْ
يَهْدِمَ حَائِطَهُ فَلاَ يُكَلَّفُ بُنْيَانَهُ وَيَقُولُ لِجَارِهِ:
اُسْتُرْ عَلَى نَفْسِك إنْ شِئْت، وَبَيْنَ أَنْ يَهْدِمَ هُوَ
حَائِطُ نَفْسِهِ. وَلاَ فَرْقَ بَيْنَ السَّقْفِ وَالأَطِّلاَعِ
مِنْهُ وَبَيْنَ قَاعِ الدَّارِ وَالأَطِّلاَعِ مِنْهُ، وَلاَ فَرْقَ
بَيْنَ فَتْحِ كُوَّةٍ لِلضَّوْءِ وَبَيْنَ فَتْحِهَا هَكَذَا وَكِلاَ
الأَمْرَيْنِ، يُمْكِنُ الأَطِّلاَعُ مِنْهُ، وَلَمْ يَأْتِ قَطُّ
قُرْآنٌ، وَلاَ سُنَّةٌ، وَلاَ رِوَايَةٌ سَقِيمَةٌ، وَلاَ قَوْلُ
صَاحِبٍ يَمْنَعُ الْمَرْءَ مِنْ أَنْ يَفْتَحَ فِي حَقِّهِ وَفِي
حَائِطِهِ مَا شَاءَ. فَإِنْ احْتَجُّوا بِالْخَبَرِ " لاَ ضَرَرَ،
وَلاَ ضِرَارَ " هَذَا خَبَرٌ لاَ يَصِحُّ; لأََنَّهُ إنَّمَا جَاءَ
مُرْسَلاً، أَوْ مِنْ طَرِيقٍ فِيهَا زُهَيْرُ بْنُ ثَابِتٍ وَهُوَ
ضَعِيفٌ إِلاَّ أَنَّ مَعْنَاهُ صَحِيحٌ. وَلاَ ضَرَرَ أَعْظَمَ مِنْ
أَنْ يُمْنَعَ الْمَرْءُ مِنْ التَّصَرُّفِ فِي مَالِ نَفْسِهِ
مُرَاعَاةً لِنَفْعِ غَيْرِهِ فَهَذَا هُوَ الضَّرَرُ حَقًّا. وَأَمَّا
الأَطِّلاَعُ فَمَنْعُهُ وَاجِبٌ: لِمَا رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ
الْبُخَارِيِّ، حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ
الْمَدِينِيِّ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ، حَدَّثَنَا
أَبُو الزِّنَادِ، عَنِ الأَعْرَجِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ:
قَالَ أَبُو الْقَاسِمِ صلى الله عليه وسلم:" لَوْ أَنَّ امْرَأً
اطَّلَعَ عَلَيْكَ بِغَيْرِ إذْنٍ فَحَذَفْتَهُ بِعَصًا فَفَقَأْتَ
عَيْنَهُ لَمْ يَكُنْ عَلَيْكَ جُنَاحٌ " وَرُوِّينَاهُ أَيْضًا مِنْ
طَرِيقٍ أُخْرَى بِحَصَاةٍ هُوَ أَصَحُّ.
(8/241)
1356-
مَسْأَلَةٌ: وَلَيْسَ لأََحَدٍ أَنْ يُرْسِلَ مَاءَ سَقْفِهِ أَوْ
دَارِهِ عَلَى أَرْضِ جَارِهِ أَصْلاً،
فَإِنْ أَذِنَ لَهُ كَانَ لَهُ الرُّجُوعُ مَتَى شَاءَ لِقَوْلِ
رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " إنَّ دِمَاءَكُمْ
وَأَمْوَالَكُمْ عَلَيْكُمْ حَرَامٌ " فَإِطْلاَقُهُ مَاءَ دَارِهِ
عَلَى أَرْضِ جَارِهِ تَصَرُّفٌ مِنْهُ فِي مَالِ غَيْرِهِ وَهُوَ
عَلَيْهِ حَرَامٌ وَالإِذْنُ فِي ذَلِكَ إنَّمَا هُوَ مَا دَامَ
إذْنًا; لأََنَّهُ لَمْ يُمَلِّكْهُ الرَّقَبَةَ، وَالإِذْنُ فِي
شَيْءٍ مَا الْيَوْمَ غَيْرُ مَا لَمْ يُؤْذَنْ لَهُ فِيهِ غَدًا بِلاَ
شَكٍّ وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ.
(8/242)
1357 -
مَسْأَلَةٌ - وَلاَ يَجُوزُ لأََحَدٍ أَنْ يُدَخِّنَ عَلَى جَارِهِ;
لأََنَّهُ أَذًى، وَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ تَعَالَى أَذَى الْمُسْلِمِ.
وَلِكُلِّ أَحَدٍ أَنْ يُعَلِّيَ بُنْيَانَهُ مَا شَاءَ وَإِنْ مَنَعَ
جَارَهُ الرِّيحَ وَالشَّمْسَ لأََنَّهُ لَمْ يُبَاشِرْ مَنْعَهُ
بِغَيْرِ مَا أُبِيحَ لَهُ. وَلِكُلِّ أَحَدٍ أَنْ يَبْنِيَ فِي
حَقِّهِ مَا شَاءَ مِنْ حَمَّامٍ، أَوْ فُرْنٍ، أَوْ رَحًى، أَوْ
كَمَرٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ، إذْ لَمْ يَأْتِ نَصٌّ بِالْمَنْعِ مِنْ
شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ.
(8/242)
لا يحل لأحد أن يمنع جاره من أن يدخل خشبا في جداره ويجبر إن لم يأذن
له
...
1358 - مَسْأَلَةٌ - وَلاَ يَحِلُّ لأََحَدٍ أَنْ يَمْنَعَ جَارَهُ
مِنْ أَنْ يُدْخِلَ خَشَبًا فِي جِدَارِهِ وَيُجْبَرَ عَلَى ذَلِكَ
أَحَبَّ أَمْ كَرِهَ إنْ لَمْ يَأْذَنْ لَهُ، فَإِنْ أَرَادَ صَاحِبُ
الْحَائِطِ هَدْمَ حَائِطِهِ كَانَ لَهُ ذَلِكَ، وَعَلَيْهِ أَنْ
يَقُولَ لِجَارِهِ: دَعِّمْ خَشَبَك أَوْ انْزَعْهُ فَإِنِّي أَهْدِمُ
حَائِطِي، وَيُجْبَرُ صَاحِبُ الْخَشَبِ عَلَى ذَلِكَ: لِمَا رُوِّينَا
مِنْ طَرِيقِ مَالِكٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنِ الأَعْرَجِ، عَنْ
أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "
لاَ يَمْنَعُ أَحَدُكُمْ جَارَهُ أَنْ يَغْرِزَ خَشَبَةً فِي جِدَارِهِ
ثُمَّ يَقُولُ أَبُو هُرَيْرَةَ: مَالِي أَرَاكُمْ عَنْهَا مُعْرِضِينَ
وَاَللَّهِ لاََرْمِيَنَّ بِهَا بَيْنَ أَكْتَافِكُمْ" فَهَذَا قَوْلُ
أَبِي هُرَيْرَةَ، وَلاَ يُعْرَفُ لَهُ مُخَالِفٌ مِنْ الصَّحَابَةِ
رضي الله عنهم وَهُوَ قَوْلُ أَصْحَابِنَا. وقال أبو حنيفة، وَمَالِكٌ:
لَيْسَ لَهُ أَنْ يَضَعَ خَشَبَهُ فِي جِدَارِ جَارِهِ.
قال أبو محمد : وَهَذَا خِلاَفٌ مُجَرَّدٌ لِلْخَبَرِ وَمَا نَعْلَمُ
لَهُمْ حُجَّةً أَصْلاً، إِلاَّ أَنَّ بَعْضَهُمْ ذَكَرَ قَوْلَ
رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:" إنَّ دِمَاءَكُمْ
وَأَمْوَالَكُمْ عَلَيْكُمْ حَرَامٌ ".
قَالَ عَلِيٌّ: الَّذِي قَالَ هَذَا هُوَ الَّذِي قَالَ ذَلِكَ،
وَقَوْلُهُ كُلُّهُ حَقٌّ وَعَنِ اللَّهِ تَعَالَى، وَكُلُّهُ وَاجِبٌ
عَلَيْنَا السَّمْعُ لَهُ وَالطَّاعَةُ، وَلَيْسَ بَعْضُهُ مُعَارِضًا
لِبَعْضٍ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ، وَلاَ
مُؤْمِنَةٍ إذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ
لَهُمْ الْخِيرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} وَاَلَّذِي قَضَى بِالشُّفْعَةِ
وَإِسْقَاطِ الْمِلْكِ بَعْدَ تَمَامِهِ، وَإِبْطَالِ الشِّرَاءِ
بَعْدَ صِحَّتِهِ وَقَضَى بِالْعَاقِلَةِ، وَأَنْ يَغْرَمُوا مَا لَمْ
يَجْنُوا، وَأَبَاحَ أَمْوَالَهُمْ فِي ذَلِكَ أَحَبُّوا أَمْ كَرِهُوا
هُوَ الَّذِي قَضَى بِأَنْ يَغْرِزَ الْجَارُ خَشَبَهُ فِي جِدَارِ
جَارِهِ، وَنَهَى، عَنْ مَنْعِهِ مِنْ ذَلِكَ. وَلَوْ أَنَّهُمْ
اسْتَعْمَلُوا هَذَا الْحُكْمَ حَيْثُ أَبَاحُوا ثَمَرَ النَّخْلِ،
وَكِرَاءِ الدَّارِ الْمَغْصُوبَةِ: كُلُّ ذَلِكَ لِمَنْ اشْتَرَاهُ
مِنْ الْغَاصِبِ بِالْبَاطِلِ لَكَانَ أَوْلَى بِهِمْ،
(8/242)
كل من ملك ماء في نهر حفره أو ساقية أو عين أوبئر فهو أحق بماء كل ذلك
ما دام محتاجا إليه
...
1359 - مَسْأَلَةٌ - وَكُلُّ مَنْ مَلَكَ مَاءً فِي نَهْرٍ حَفَرَهُ،
أَوْ سَاقِيَةٍ حَفَرَهَا، أَوْ عَيْنٍ اسْتَخْرَجَهَا، أَوْ بِئْرٍ
اسْتَنْبَطَهَا فَهُوَ أَحَقُّ بِمَاءِ كُلِّ ذَلِكَ مَا دَامَ
مُحْتَاجًا إلَيْهِ،
وَلاَ يَحِلُّ لَهُ مَنْعُ الْفَضْلِ، بَلْ يُجْبَرُ عَلَى بَذْلِهِ
لِمَنْ يَحْتَاجُ إلَيْهِ، وَلاَ يَحِلُّ لَهُ أَخْذُ عِوَضٍ عَنْهُ،
لاَ بِبَيْعٍ، وَلاَ غَيْرِهِ: لِمَا رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ جَرِيرٍ،
عَنِ الأَعْمَشِ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ:
قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " لاَ يُمْنَعُ فَضْلُ
الْمَاءِ لِيُمْنَعَ بِهِ الْكَلاَ "ُ. وَمِنْ طَرِيقِ أَبِي دَاوُد،
حَدَّثَنَا النُّفَيْلِيُّ، حَدَّثَنَا دَاوُد بْنُ عَبْدِ
الرَّحْمَانِ الْعَطَّارِ، عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ، عَنْ أَبِي
الْمِنْهَالِ، عَنْ إيَاسِ بْنِ عَبْدٍ قَالَ: " نَهَى رَسُولُ اللَّهِ
صلى الله عليه وسلم عَنْ بَيْعِ فَضْلِ الْمَاءِ ".
(8/243)
ما غلب عليه الماء من نهر أو نشع أو سير فاستغار فهو لصاحبه كما كان
...
1360 - مَسْأَلَةٌ - وَمَا غَلَبَ عَلَيْهِ الْمَاءُ مِنْ نَهْرٍ، أَوْ
نَشْعٍ، أَوْ سَيْلٍ، فَاسْتَغَارَ فَهُوَ لِصَاحِبِهِ كَمَا كَانَ،
فَإِنْ انْتَقَلَ عَنْهُ يَوْمًا مَا وَلَوْ بَعْدَ أَلْفِ عَامٍ
فَهُوَ لَهُ وَلِوَرَثَتِهِ، وَمَا رَمَى النَّهْرُ مِنْ أَحَدِ
عَدْوَتَيْهِ إلَى أُخْرَى فَهُوَ بَاقٍ بِحَسْبِهِ كَمَا كَانَ لِمَنْ
كَانَ لَهُ. وَقَالَ الْمَالِكِيُّونَ: بِخِلاَفِ ذَلِكَ وَهَذَا
بَاطِلٌ لأََنَّ تَبَدُّلَ مَجْرَى الْمَاءِ لاَ يُسْقِطُ مِلْكًا،
عَنْ مَالِكِهِ، وَلاَ يُحِلُّ مَالاً مُحَرَّمًا لِمَنْ حَرَّمَهُ
اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ، وَهَذَا حُكْمٌ فِي الدِّينِ بِلاَ
بُرْهَانٍ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " إنَّ
دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ عَلَيْكُمْ حَرَام "ٌ.
(8/243)
1361 -
مَسْأَلَةٌ: وَلاَ تَكُونُ الأَرْضُ بِالإِحْيَاءِ إِلاَّ لِمُسْلِمٍ،
وَأَمَّا الذِّمِّيُّ فَلاَ، لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى {إنَّ الأَرْضَ
لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ} وَقَوْله تَعَالَى
{أَنَّ الأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِي الصَّالِحُونَ} وَنَحْنُ أُولَئِكَ
لاَ الْكُفَّارُ، فَنَحْنُ الَّذِينَ أَوْرَثَنَا اللَّهُ تَعَالَى
الأَرْضَ فَلَهُ الْحَمْدُ كَثِيرًا.
(8/243)
|