الموسوعة الفقهية الكويتية

إِجْهَازٌ

التَّعْرِيفُ:
1 - مِنْ مَعَانِي الإِْجْهَازِ فِي اللُّغَةِ: الإِْسْرَاعُ، فَالإِْجْهَازُ عَلَى الْجَرِيحِ: إِتْمَامُ قَتْلِهِ (2) . وَيَسْتَعْمِل الْفُقَهَاءُ " الإِْجْهَازَ " بِهَذَا الْمَعْنَى (3) .
__________
(1) انظر مثلا: ابن عابدين 1 / 272 و5 / 233 - 235، والمغني 6 / 556 - 560 ط 3
(2) انظر لسان العرب، والمصباح المنير، ومعجم متن اللغة (جهز)
(3) انظر طلبة الطلبة ص 88 ط دار الطباعة العامرة 1311 هـ وحاشية ابن عابدين 3 / 311 ط 1

(2/55)


كَمَا يَسْتَعْمِلُونَ لِهَذَا الْمَعْنَى أَيْضًا كَلِمَةَ " تَذْفِيفٍ (1) ".

الْحُكْمُ الْعَامُّ:
2 - الإِْجْهَازُ عَلَى الإِْنْسَانِ الْجَرِيحِ: الإِْجْهَازُ عَلَى جَرْحَى الْكُفَّارِ الْمُقَاتِلِينَ جَائِزٌ، وَكَذَلِكَ جَرْحَى الْبُغَاةِ الْمُقَاتِلِينَ إِذَا كَانَتْ لَهُمْ فِئَةٌ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ لَهُمْ فِئَةٌ فَلاَ يَجُوزُ قَتْل جَرِيحِهِمْ (2) . أَمَّا الإِْجْهَازُ عَلَى مَنْ وَجَبَ عَلَيْهِ الْمَوْتُ فِي حَدٍّ أَوْ قِصَاصٍ فَهُوَ وَاجِبٌ بِالاِتِّفَاقِ.
3 - الإِْجْهَازُ عَلَى الْحَيَوَانِ: الْحَيَوَانُ عَلَى نَوْعَيْنِ: نَوْعٌ يَجُوزُ ذَبْحُهُ، بِأَنْ كَانَ مَأْكُول اللَّحْمِ، أَوْ قَتْلُهُ، بِأَنْ كَانَ مُؤْذِيًا. وَهَذَا النَّوْعُ يَجُوزُ الإِْجْهَازُ عَلَيْهِ إِنْ أَصَابَهُ مَرَضٌ أَوْ جُرْحٌ؛ لأَِنَّهُ يَجُوزُ ذَبْحُهُ أَوْ قَتْلُهُ ابْتِدَاءً، وَنَوْعٌ لاَ يَجُوزُ قَتْلُهُ كَالْحِمَارِ وَنَحْوِهِ، وَفِي جَوَازِ الإِْجْهَازِ عَلَيْهِ إِنْ أَصَابَهُ مَرَضٌ أَوْ جُرْحٌ - إِرَاحَةً لَهُ - خِلاَفٌ، أَجَازَ ذَلِكَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ، وَمَنَعَهُ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ (3) . وَقَدْ ذَكَرَ ذَلِكَ الْفُقَهَاءُ فِي كِتَابِ الذَّبَائِحِ، وَذَكَرَهُ الْحَنَفِيَّةُ فِي كِتَابِ الْحَظْرِ وَالإِْبَاحَةِ.
__________
(1) طلبة الطلبة ص 88
(2) حاشية ابن عابدين 3 / 311 ط الأولى، وحاشية الجمل على المنهج 5 / 117 طبع دار إحياء التراث العربي، والمغني 8 / 109، 115، 478، 479 ط مكتبة الجمهورية العربية بمصر، وحاشية الصاوي على الشرح الصغير 4 / 429 ط دار المعارف بمصر.
(3) الفتاوى الهندية 5 / 361 ط بولاق، وجواهر الإكليل 1 / 213 والبجيرمي على الخطيب 4 / 248 ط دار المعرفة، والمغني 7 / 635، وحاشية ابن عابدين 5 / 188 ط بولاق، والمهذب 1 / 254 ط مصطفى البابي الحلبي.

(2/56)


إِجْهَاضٌ

التَّعْرِيفُ:
1 - يُطْلَقُ الإِْجْهَاضُ فِي اللُّغَةِ عَلَى صُورَتَيْنِ: إِلْقَاءِ الْحَمْل نَاقِصَ الْخَلْقِ، أَوْ نَاقِصَ الْمُدَّةِ، سَوَاءٌ مِنَ الْمَرْأَةِ أَوْ غَيْرِهَا، وَالإِْطْلاَقُ اللُّغَوِيُّ يَصْدُقُ سَوَاءٌ كَانَ الإِْلْقَاءُ بِفِعْل فَاعِلٍ أَمْ تِلْقَائِيًّا (1) .
2 - وَلاَ يَخْرُجُ اسْتِعْمَال الْفُقَهَاءِ لِكَلِمَةِ إِجْهَاضٍ عَنْ هَذَا الْمَعْنَى (2) . وَكَثِيرًا مَا يُعَبِّرُونَ عَنِ الإِْجْهَاضِ بِمُرَادِفَاتِهِ كَالإِْسْقَاطِ وَالإِْلْقَاءِ وَالطَّرْحِ وَالإِْمْلاَصِ.

صِفَةُ الإِْجْهَاضِ حُكْمُهُ التَّكْلِيفِيُّ:
3 - مِنَ الْفُقَهَاءِ مَنْ فَرَّقَ بَيْنَ حُكْمِ الإِْجْهَاضِ بَعْدَ نَفْخِ الرُّوحِ، وَبَيْنَ حُكْمِهِ قَبْل ذَلِكَ وَبَعْدَ التَّكَوُّنِ فِي الرَّحِمِ وَالاِسْتِقْرَارِ، وَلَمَّا كَانَ حُكْمُ الإِْجْهَاضِ بَعْدَ نَفْخِ الرُّوحِ مَوْضِعَ اتِّفَاقٍ كَانَ الأَْنْسَبُ الْبَدْءَ بِهِ ثُمَّ التَّعْقِيبُ بِحُكْمِهِ قَبْل نَفْخِ الرُّوحِ، مَعَ بَيَانِ آرَاءِ الْفُقَهَاءِ وَاتِّجَاهَاتِهِمْ فِيهِ
__________
(1) المصباح والقاموس واللسان (جهض) . وفي المعجم الوسيط: أن مجمع اللغة العربية أقر إطلاق كلمة إجهاض على خروج الجنين قبل الشهر الرابع، وكلمة إسقاط على إلقائه ما بين الشهر الرابع والسابع. وهذا اصطلاح متأخر بعد القرن الثالث عشر الهجري.
(2) البحر الرائق 8 / 389، وحاشية البجيرمي 2 / 250

(2/56)


أ - حُكْمُ الإِْجْهَاضِ بَعْدَ نَفْخِ الرُّوحِ:
4 - نَفْخُ الرُّوحِ يَكُونُ بَعْدَ مِائَةٍ وَعِشْرِينَ يَوْمًا، كَمَا ثَبَتَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ الَّذِي رَوَاهُ ابْنُ مَسْعُودٍ مَرْفُوعًا: إِنَّ أَحَدَكُمْ يُجْمَعُ خَلْقُهُ فِي بَطْنِ أُمِّهِ أَرْبَعِينَ يَوْمًا نُطْفَةً، ثُمَّ يَكُونُ عَلَقَةً مِثْل ذَلِكَ، ثُمَّ يَكُونُ مُضْغَةً مِثْل ذَلِكَ، ثُمَّ يُرْسِل الْمَلَكَ فَيَنْفُخُ فِيهِ الرُّوحَ (1) . وَلاَ يُعْلَمُ خِلاَفٌ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي تَحْرِيمِ الإِْجْهَاضِ بَعْدَ نَفْخِ الرُّوحِ. فَقَدْ نَصُّوا عَلَى أَنَّهُ إِذَا نُفِخَتْ فِي الْجَنِينِ الرُّوحُ حُرِّمَ الإِْجْهَاضُ إِجْمَاعًا. وَقَالُوا إِنَّهُ قَتْلٌ لَهُ، بِلاَ خِلاَفٍ (2) .
وَالَّذِي يُؤْخَذُ مِنْ إِطْلاَقِ الْفُقَهَاءِ تَحْرِيمَ الإِْجْهَاضِ بَعْدَ نَفْخِ الرُّوحِ أَنَّهُ يَشْمَل مَا لَوْ كَانَ فِي بَقَائِهِ خَطَرٌ عَلَى حَيَاةِ الأُْمِّ وَمَا لَوْ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ. وَصَرَّحَ ابْنُ
__________
(1) حديث " إن أحدكم. . "، رواه البخاري ومسلم (اللؤلؤ والمرجان 1906) وهو الحديث الرابع في الأربعين النووية.
(2) الشرح الكبير المطبوع مع حاشية الدسوقي 2 / 267 ط عيسى الحلبي، وحاشية الرهوني على شرح الزرقاني 3 / 264 ط سنة 1306. وانظر البحر الرائق 8 / 233 ط العلمية الأولى، وحاشية ابن عابدين 1 / 602، 5 / 378 ط 1272، وفتح القدير 2 / 495 ط بولاق، ونهاية المحتاج 8 / 416 ط مصطفى الحلبي، وحاشية الجمل 5 / 490 ط الميمنية، وحاشية البجيرمي 3 / 303 ط مصطفى الحلبي، والزرقاني على التحفة 6 / 248، والإنصاف 1 / 186، والفروع 1 / 191، والمغني 7 / 815 ط الرياض، والمحلى 11 / 29 - 31 ط المنيرية سنة 1352

(2/57)


عَابِدِينَ بِذَلِكَ فَقَال: لَوْ كَانَ الْجَنِينُ حَيًّا، وَيُخْشَى عَلَى حَيَاةِ الأُْمِّ مِنْ بَقَائِهِ، فَإِنَّهُ لاَ يَجُوزُ تَقْطِيعُهُ؛ لأَِنَّ مَوْتَ الأُْمِّ بِهِ مَوْهُومٌ، فَلاَ يَجُوزُ قَتْل آدَمِيٍّ لأَِمْرٍ مَوْهُومٍ (1) .

ب - حُكْمُ الإِْجْهَاضِ قَبْل نَفْخِ الرُّوحِ:
5 - فِي حُكْمِ الإِْجْهَاضِ قَبْل نَفْخِ الرُّوحِ اتِّجَاهَاتٌ مُخْتَلِفَةٌ وَأَقْوَالٌ مُتَعَدِّدَةٌ، حَتَّى فِي الْمَذْهَبِ الْوَاحِدِ، فَمِنْهُمْ مَنْ قَال بِالإِْبَاحَةِ مُطْلَقًا، وَهُوَ مَا ذَكَرَهُ بَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ، فَقَدْ ذَكَرُوا أَنَّهُ يُبَاحُ الإِْسْقَاطُ بَعْدَ الْحَمْل، مَا لَمْ يَتَخَلَّقْ شَيْءٌ مِنْهُ. وَالْمُرَادُ بِالتَّخَلُّقِ فِي عِبَارَتِهِمْ تِلْكَ نَفْخُ الرُّوحِ (2) . وَهُوَ مَا انْفَرَدَ بِهِ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ اللَّخْمِيُّ فِيمَا قَبْل الأَْرْبَعِينَ يَوْمًا (3) ، وَقَال بِهِ أَبُو إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيُّ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ قَبْل الأَْرْبَعِينَ أَيْضًا، وَقَال
__________
(1) الدر وحاشية ابن عابدين 1 / 602، وانظر البحر الرائق 8 / 233، والمجموع 5 / 301 ط المنيرية. واللجنة ترى أنه إذا كان الفقهاء منعوا هتك حرمة جسد الأم وهي ميتة وضحوا بالجنين الحي. فإن الحفاظ على حياة الأم إذا كان في بقاء الجنين في بطنها خطر عليها أولى بالاعتبار لأنها الأصل وحياتها ثابتة بيقين، علما بأن بقاء الجنين سيترتب عليه موت الأم وموت الجنين
(2) فتح القدير 2 / 495، وحاشية ابن عابدين 2 / 380
(3) حاشية الرهوني على شرح الزرقاني 3 / 264 ط الأولى.

(2/57)


الرَّمْلِيُّ: لَوْ كَانَتِ النُّطْفَةُ مِنْ زِنًا فَقَدْ يُتَخَيَّل الْجَوَازُ قَبْل نَفْخِ الرُّوحِ (1) . وَالإِْبَاحَةُ قَوْلٌ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ فِي أَوَّل مَرَاحِل الْحَمْل، إِذْ أَجَازُوا لِلْمَرْأَةِ شُرْبَ الدَّوَاءِ الْمُبَاحِ لإِِلْقَاءِ نُطْفَةٍ لاَ عَلَقَةٍ، وَعَنِ ابْنِ عَقِيلٍ أَنَّ مَا لَمْ تَحِلَّهُ الرُّوحُ لاَ يُبْعَثُ، فَيُؤْخَذُ مِنْهُ أَنَّهُ لاَ يَحْرُمُ إِسْقَاطُهُ، وَقَال صَاحِبُ الْفُرُوعِ: وَلِكَلاَمِ ابْنِ عَقِيلٍ وَجْهٌ (2) .
6 - وَمِنْهُمْ مَنْ قَال بِالإِْبَاحَةِ لِعُذْرٍ فَقَطْ، وَهُوَ حَقِيقَةُ مَذْهَبِ الْحَنَفِيَّةِ. فَقَدْ نَقَل ابْنُ عَابِدِينَ عَنْ كَرَاهَةِ الْخَانِيَّةِ عَدَمَ الْحِل لِغَيْرِ عُذْرٍ، إِذِ الْمُحْرِمُ لَوْ كَسَرَ بَيْضَ الصَّيْدِ ضَمِنَ لأَِنَّهُ أَصْل الصَّيْدِ. فَلَمَّا كَانَ يُؤَاخَذُ بِالْجَزَاءِ فَلاَ أَقَل مِنْ أَنْ يَلْحَقَهَا - مَنْ أَجْهَضَتْ نَفْسَهَا - إِثْمٌ هُنَا إِذَا أَسْقَطَتْ بِغَيْرِ عُذْرٍ، وَنُقِل عَنِ ابْنِ وَهْبَانَ أَنَّ مِنَ الأَْعْذَارِ أَنْ يَنْقَطِعَ لَبَنُهَا بَعْدَ ظُهُورِ الْحَمْل وَلَيْسَ لأَِبِي الصَّبِيِّ مَا يَسْتَأْجِرُ بِهِ الظِّئْرَ (الْمُرْضِعَ) وَيَخَافُ هَلاَكَهُ، وَقَال ابْنُ وَهْبَانَ: إِنَّ إِبَاحَةَ الإِْسْقَاطِ مَحْمُولَةٌ عَلَى حَالَةِ الضَّرُورَةِ (3) . وَمَنْ قَال مِنَ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ بِالإِْبَاحَةِ دُونَ تَقْيِيدٍ بِالْعُذْرِ فَإِنَّهُ يُبِيحُهُ هُنَا بِالأَْوْلَى، وَقَدْ نَقَل الْخَطِيبُ الشِّرْبِينِيُّ عَنِ الزَّرْكَشِيِّ: أَنَّ الْمَرْأَةَ لَوْ دَعَتْهَا ضَرُورَةٌ لِشُرْبِ دَوَاءٍ مُبَاحٍ يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ الإِْجْهَاضُ فَيَنْبَغِي أَنَّهَا لاَ تَضْمَنُ بِسَبَبِهِ (4) .
__________
(1) تحفة الحبيب 3 / 303، وحاشية الشررواني 6 / 248، ونهاية المحتاج 8 / 416
(2) الفروع 6 / 191، والإنصاف 1 / 386، وغاية المنتهى 1 / 81، والروض المربع 2 / 316 ط السادسة، وكشاف القناع 6 / 54
(3) حاشية ابن عابدين 2 / 380 ط 1272
(4) الإقناع بحاشية البجيرمي 4 / 129 فما بعدها

(2/58)


7 - وَمِنْهُمْ مَنْ قَال بِالْكَرَاهَةِ مُطْلَقًا. وَهُوَ مَا قَال بِهِ عَلِيُّ بْنُ مُوسَى مِنْ فُقَهَاءِ الْحَنَفِيَّةِ. فَقَدْ نَقَل ابْنُ عَابِدِينَ عَنْهُ: أَنَّهُ يُكْرَهُ الإِْلْقَاءُ قَبْل مُضِيِّ زَمَنٍ تُنْفَخُ فِيهِ الرُّوحُ؛ لأَِنَّ الْمَاءَ بَعْدَمَا وَقَعَ فِي الرَّحِمِ مَآلُهُ الْحَيَاةُ، فَيَكُونُ لَهُ حُكْمُ الْحَيَاةِ، كَمَا فِي بَيْضَةِ صَيْدِ الْحَرَمِ (1) . وَهُوَ رَأْيٌ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ فِيمَا قَبْل الأَْرْبَعِينَ يَوْمًا (2) ، وَقَوْلٌ مُحْتَمَلٌ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ. يَقُول الرَّمْلِيُّ: لاَ يُقَال فِي الإِْجْهَاضِ قَبْل نَفْخِ الرُّوحِ إِنَّهُ خِلاَفُ الأَْوْلَى، بَل مُحْتَمَلٌ لِلتَّنْزِيهِ وَالتَّحْرِيمِ، وَيَقْوَى التَّحْرِيمُ فِيمَا قَرُبَ مِنْ زَمَنِ النَّفْخِ لأَِنَّهُ جَرِيمَةٌ (3) .
8 - وَمِنْهُمْ مَنْ قَال بِالتَّحْرِيمِ، وَهُوَ الْمُعْتَمَدُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ. يَقُول الدَّرْدِيرُ: لاَ يَجُوزُ إِخْرَاجُ الْمَنِيِّ الْمُتَكَوِّنِ فِي الرَّحِمِ وَلَوْ قَبْل الأَْرْبَعِينَ يَوْمًا، وَعَلَّقَ الدُّسُوقِيُّ عَلَى ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: هَذَا هُوَ الْمُعْتَمَدُ. وَقِيل يُكْرَهُ. مِمَّا يُفِيدُ أَنَّ الْمَقْصُودَ بِعَدَمِ الْجَوَازِ فِي عِبَارَةِ الدَّرْدِيرِ التَّحْرِيمُ (4) . كَمَا نَقَل ابْنُ رُشْدٍ أَنَّ مَالِكًا قَال: كُل مَا طَرَحَتْهُ الْمَرْأَةُ جِنَايَةٌ، مِنْ مُضْغَةٍ أَوْ عَلَقَةٍ، مِمَّا يُعْلَمُ أَنَّهُ وَلَدٌ، فَفِيهِ الْغُرَّةُ (5) وَقَال: وَاسْتَحْسَنَ مَالِكٌ الْكَفَّارَةَ مَعَ الْغُرَّةِ.
__________
(1) حاشية ابن عابدين 2 / 380
(2) حاشية الدسوقي 2 / 266 - 267 ط عيسى الحلبي.
(3) نهاية المحتاج 8 / 416
(4) الشرح الكبير بحاشية الدسوقي 2 / 266 - 267
(5) بداية المجتهد 2 / 453 ط 1386 هـ والغرة كما في كتب اللغة عبد أو أمة. وأصل الغرة البياض في وجه الفرس واستعملت بمعنى العبد والأمة مجازا. ورجح القاضي عياض أن لفظ الغرة جاء في الحديث القائل: " غرة: عبد أو أمة ". جاء منونا فيكون ما بعده جاء على سبيل التفسير. وقال وتفصيل الكلام عن الغرة موضعه مصطلح غرة.

(2/58)


وَالْقَوْل بِالتَّحْرِيمِ هُوَ الأَْوْجَهُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ؛ لأَِنَّ النُّطْفَةَ بَعْدَ الاِسْتِقْرَارِ آيِلَةٌ إِلَى التَّخَلُّقِ مُهَيَّأَةٌ لِنَفْخِ الرُّوحِ (1) . وَهُوَ مَذْهَبُ الْحَنَابِلَةِ مُطْلَقًا كَمَا ذَكَرَهُ ابْنُ الْجَوْزِيِّ، وَهُوَ ظَاهِرُ كَلاَمِ ابْنِ عَقِيلٍ، وَمَا يُشْعِرُ بِهِ كَلاَمُ ابْنِ قُدَامَةَ وَغَيْرِهِ بَعْدَ مَرْحَلَةِ النُّطْفَةِ، إِذْ رَتَّبُوا الْكَفَّارَةَ وَالْغُرَّةَ عَلَى مَنْ ضَرَبَ بَطْنَ امْرَأَةٍ فَأَلْقَتْ جَنِينًا، وَعَلَى الْحَامِل إِذَا شَرِبَتْ دَوَاءً فَأَلْقَتْ جَنِينًا (2) .

بَوَاعِثُ الإِْجْهَاضِ وَوَسَائِلُهُ:
9 - بَوَاعِثُ الإِْجْهَاضِ كَثِيرَةٌ، مِنْهَا قَصْدُ التَّخَلُّصِ مِنَ الْحَمْل سَوَاءٌ أَكَانَ الْحَمْل نَتِيجَةَ نِكَاحٍ أَمْ سِفَاحٍ، أَوْ قَصْدُ سَلاَمَةِ الأُْمِّ لِدَفْعِ خَطَرٍ عَنْهَا مِنْ بَقَاءِ الْحَمْل أَوْ خَوْفًا عَلَى رَضِيعِهَا، عَلَى مَا سَبَقَ بَيَانُهُ.
كَمَا أَنَّ وَسَائِل الإِْجْهَاضِ كَثِيرَةٌ قَدِيمًا وَحَدِيثًا، وَهِيَ إِمَّا إِيجَابِيَّةٌ وَإِمَّا سَلْبِيَّةٌ. فَمِنَ الإِْيجَابِيَّةِ: التَّخْوِيفُ أَوِ الإِْفْزَاعُ كَأَنْ يَطْلُبَ السُّلْطَانُ مَنْ ذُكِرَتْ عِنْدَهُ بِسُوءٍ فَتُجْهَضُ فَزَعًا، وَمِنْهَا شَمُّ رَائِحَةٍ، أَوْ تَجْوِيعٌ، أَوْ غَضَبٌ، أَوْ حُزْنٌ شَدِيدٌ، نَتِيجَةَ خَبَرٍ مُؤْلِمٍ أَوْ إِسَاءَةٍ بَالِغَةٍ، وَلاَ أَثَرَ لاِخْتِلاَفِ كُل هَذَا.
وَمِنَ السَّلْبِيَّةِ امْتِنَاعُ الْمَرْأَةِ عَنِ الطَّعَامِ، أَوْ عَنْ
__________
(1) تحفة الحبيب 3 / 303، وحاشية الشرواني 6 / 248، ونهاية المحتاج 8 / 416
(2) الإنصاف 1 / 386، والمغني 7 / 816 ط الرياض.

(2/59)


دَوَاءٍ مَوْصُوفٍ لَهَا لِبَقَاءِ الْحَمْل. وَمِنْهُ مَا ذَكَرَهُ الدُّسُوقِيُّ مِنْ أَنَّ الْمَرْأَةَ إِذَا شَمَّتْ رَائِحَةَ طَعَامٍ مِنَ الْجِيرَانِ مَثَلاً، وَغَلَبَ عَلَى ظَنِّهَا أَنَّهَا إِنْ لَمْ تَأْكُل مِنْهُ أُجْهِضَتْ فَعَلَيْهَا الطَّلَبُ. فَإِنْ لَمْ تَطْلُبْ، وَلَمْ يَعْلَمُوا بِحَمْلِهَا، حَتَّى أَلْقَتْهُ، فَعَلَيْهَا الْغُرَّةُ لِتَقْصِيرِهَا وَلِتَسَبُّبِهَا (1) .

عُقُوبَةُ الإِْجْهَاضِ:
10 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الْوَاجِبَ فِي الْجِنَايَةِ عَلَى جَنِينِ الْحُرَّةِ هُوَ غُرَّةٌ. لِمَا ثَبَتَ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ وَغَيْرِهِ: أَنَّ امْرَأَتَيْنِ مِنْ هُذَيْلٍ رَمَتْ إِحْدَاهُمَا الأُْخْرَى، فَطَرَحَتْ جَنِينَهَا، فَقَضَى فِيهِ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِغُرَّةِ عَبْدٍ أَوْ وَلِيدَةٍ (2) .
11 - وَاتَّفَقَ فُقَهَاءُ الْمَذَاهِبِ عَلَى أَنَّ مِقْدَارَ الْغُرَّةِ فِي ذَلِكَ هُوَ نِصْفُ عُشْرِ الدِّيَةِ الْكَامِلَةِ، وَأَنَّ الْمُوجِبَ لِلْغُرَّةِ كُل جِنَايَةٍ تَرَتَّبَ عَلَيْهَا انْفِصَال الْجَنِينِ عَنْ أُمِّهِ مَيِّتًا، سَوَاءٌ أَكَانَتِ الْجِنَايَةُ نَتِيجَةَ فِعْلٍ أَمْ قَوْلٍ أَمْ تَرْكٍ، وَلَوْ مِنَ الْحَامِل نَفْسِهَا أَوْ زَوْجِهَا، عَمْدًا كَانَ أَوْ خَطَأً (3) .
__________
(1) حاشية ابن عابدين 5 / 377، وحاشية الدسوقي 4 / 268، وشرح الخرشي 5 / 274، ومواهب الجليل 6 / 257، والإقناع 4 / 129، 130
(2) نيل الأوطار للشوكاني 7 / 70، والمراجع السابقة.
(3) حاشية ابن عابدين 5 / 377، وبداية المجتهد 2 / 407، وأسنى المطالب وحاشية الرملي 4 / 89 فما بعدها، والمغني، والشرح الكبير 9 / 557، ومنتهى الإرادات 2 / 431، 432 ط مكتبة دار العروبة.

(2/59)


12 - وَيَخْتَلِفُ الْفُقَهَاءُ فِي وُجُوبِ الْكَفَّارَةِ - وَهِيَ الْعُقُوبَةُ الْمُقَدَّرَةُ حَقًّا لِلَّهِ تَعَالَى - مَعَ الْغُرَّةِ. (وَالْكَفَّارَةُ هُنَا هِيَ عِتْقُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ، فَإِنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ) فَالْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ يَرَوْنَ أَنَّهَا مَنْدُوبَةٌ وَلَيْسَتْ وَاجِبَةً، لأَِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَقْضِ إِلاَّ بِالْغُرَّةِ. كَمَا أَنَّ الْكَفَّارَةَ فِيهَا مَعْنَى الْعُقُوبَةِ؛ لأَِنَّهَا شُرِعَتْ زَاجِرَةً، وَفِيهَا مَعْنَى الْعِبَادَةِ؛ لأَِنَّهَا تَتَأَدَّى بِالصَّوْمِ. وَقَدْ عُرِفَ وُجُوبُهَا فِي النُّفُوسِ الْمُطْلَقَةِ فَلاَ يَتَعَدَّاهَا لأَِنَّ الْعُقُوبَةَ لاَ يَجْرِي فِيهَا الْقِيَاسُ، وَالْجَنِينُ يُعْتَبَرُ نَفْسًا مِنْ وَجْهٍ دُونَ وَجْهٍ لاَ مُطْلَقًا. وَلِهَذَا لَمْ يَجِبْ فِيهِ كُل الْبَدَل، فَكَذَا لاَ تَجِبُ فِيهِ الْكَفَّارَةُ لأَِنَّ الأَْعْضَاءَ لاَ كَفَّارَةَ فِيهَا. وَإِذَا تُقُرِّبَ بِهَا إِلَى اللَّهِ كَانَ أَفْضَل. وَعَلَى هَذَا فَإِنَّهَا غَيْرُ وَاجِبَةٍ (1) .
وَيَرَى الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وُجُوبَ الْكَفَّارَةِ مَعَ الْغُرَّةِ. لأَِنَّهَا إِنَّمَا تَجِبُ حَقًّا لِلَّهِ تَعَالَى لاَ لِحَقِّ الآْدَمِيِّ؛ وَلأَِنَّهُ نَفْسٌ مَضْمُونَةٌ بِالدِّيَةِ، فَوَجَبَتْ فِيهِ الْكَفَّارَةُ.
وَتَرْكُ ذِكْرِ الْكَفَّارَةِ لاَ يَمْنَعُ وُجُوبَهَا. فَقَدْ ذَكَرَ الرَّسُول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ الدِّيَةَ، وَلَمْ يَذْكُرِ الْكَفَّارَةَ (2) .
وَهَذَا الْخِلاَفُ إِنَّمَا هُوَ فِي الْجَنِينِ الْمَحْكُومِ بِإِيمَانِهِ لإِِيمَانِ أَبَوَيْهِ أَوْ أَحَدِهِمَا، أَوِ الْمَحْكُومِ لَهُ بِالذِّمَّةِ.
__________
(1) تبيين الحقائق وحاشية الشلبي 6 / 141، والهداية وتكملة الفتح 8 / 324 - 329 ط 1318، وحاشية الدسوقي 4 / 268 - 269 ط عيسى الحلبي، وشرح الخرشي 5 / 274، 275 ط الأولى، والتاج والإكليل، ومواهب الجليل 6 / 257
(2) المغني 7 / 816 ط الرياض.

(2/60)


كَمَا نَصَّ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ عَلَى أَنَّهُ إِذَا اشْتَرَكَ أَكْثَرُ مِنْ وَاحِدٍ فِي جِنَايَةِ الإِْجْهَاضِ لَزِمَ كُل شَرِيكٍ كَفَّارَةٌ، وَهَذَا لأَِنَّ الْغَايَةَ مِنَ الْكَفَّارَةِ الزَّجْرُ. أَمَّا الْغُرَّةُ فَوَاحِدَةٌ لأَِنَّهَا لِلْبَدَلِيَّةِ (1) .

الإِْجْهَاضُ الْمُعَاقَبُ عَلَيْهِ:
13 - يَتَّفِقُ الْفُقَهَاءُ عَلَى وُجُوبِ الْغُرَّةِ بِمَوْتِ الْجَنِينِ بِسَبَبِ الاِعْتِدَاءِ، كَمَا يَتَّفِقُونَ عَلَى اشْتِرَاطِ انْفِصَالِهِ مَيِّتًا، أَوِ انْفِصَال الْبَعْضِ الدَّال عَلَى مَوْتِهِ. إِذْ لاَ يَثْبُتُ حُكْمُ الْمَوْلُودِ إِلاَّ بِخُرُوجِهِ؛ وَلأَِنَّ الْحَرَكَةَ يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ لِرِيحٍ فِي الْبَطْنِ سَكَنَتْ، وَبِالإِْلْقَاءِ ظَهَرَ تَلَفُهُ بِسَبَبِ الضَّرْبِ أَوِ الْفَزَعِ وَنَحْوِهِمَا، غَيْرَ أَنَّ الشَّافِعِيَّةَ قَالُوا: لَوْ عُلِمَ مَوْتُ الْجَنِينِ وَإِنْ لَمْ يَنْفَصِل مِنْهُ شَيْءٌ فَكَالْمُنْفَصِل (2) . وَالْحَنَفِيَّةُ يَعْتَبِرُونَ انْفِصَال الأَْكْثَرِ كَانْفِصَال الْكُل، فَإِنْ نَزَل مِنْ قِبَل الرَّأْسِ فَالأَْكْثَرُ خُرُوجُ صَدْرِهِ، وَإِنْ كَانَ مِنْ قِبَل الرِّجْلَيْنِ فَالأَْكْثَرُ انْفِصَال سُرَّتِهِ (3) . وَالْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ عَلَى أَنَّهُ لاَ بُدَّ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ قَبْل مَوْتِ أُمِّهِ يَقُول ابْنُ عَابِدِينَ: وَإِنْ خَرَجَ جَنِينٌ مَيِّتٌ بَعْدَ مَوْتِ الأُْمِّ فَلاَ شَيْءَ فِيهِ؛ لأَِنَّ مَوْتَ الأُْمِّ سَبَبٌ لِمَوْتِهِ ظَاهِرًا، إِذْ حَيَاتُهُ بِحَيَاتِهَا،
__________
(1) أسنى المطالب وحاشية الرملي 4 / 95، والمغني 7 / 816
(2) حاشية ابن عابدين 5 / 377، وتبيين الحقائق 6 / 137، وحاشية الدسوقي 4 / 268 وشرح الخرشي 5 / 274، والتاج والإكليل 6 / 257، والإقناع وحاشية البجيرمي 4 / 129 فما بعدها وأسنى المطالب، وحاشية الرملي 4 / 89 ط الميمنية، والمغني 7 / 801 ط الرياض.
(3) ابن عابدين 1 / 595، والبحر 3 / 202

(2/60)


فَيَتَحَقَّقُ مَوْتُهُ بِمَوْتِهَا، فَلاَ يَكُونُ فِي مَعْنَى مَا وَرَدَ بِهِ النَّصُّ، إِذِ الاِحْتِمَال فِيهِ أَقَل، فَلاَ يُضْمَنُ بِالشَّكِّ؛ وَلأَِنَّهُ يَجْرِي مَجْرَى أَعْضَائِهَا، وَبِمَوْتِهَا سَقَطَ حُكْمُ أَعْضَائِهَا (1) .
وَقَال الْحَطَّابُ وَالْمَوَّاقُ: الْغُرَّةُ وَاجِبَةٌ فِي الْجَنِينِ بِمَوْتِهِ قَبْل مَوْتِ أُمِّهِ (2) . وَقَال ابْنُ رُشْدٍ: وَيُشْتَرَطُ أَنْ يَخْرُجَ الْجَنِينُ مَيِّتًا وَلاَ تَمُوتُ أُمُّهُ مِنَ الضَّرْبِ (3) .
أَمَّا الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ فَيُوجِبُونَ الْغُرَّةَ سَوَاءٌ أَكَانَ انْفِصَال الْجَنِينِ مَيِّتًا حَدَثَ فِي حَيَاةِ الأُْمِّ أَوْ بَعْدَ مَوْتِهَا لأَِنَّهُ كَمَا يَقُول ابْنُ قُدَامَةَ: جَنِينٌ تَلِفَ بِجِنَايَةٍ، وَعُلِمَ ذَلِكَ بِخُرُوجِهِ، فَوَجَبَ ضَمَانُهُ كَمَا لَوْ سَقَطَ فِي حَيَاتِهَا. وَلأَِنَّهُ لَوْ سَقَطَ حَيًّا ضَمِنَهُ، فَكَذَلِكَ إِذَا سَقَطَ مَيِّتًا كَمَا لَوْ أَسْقَطَتْهُ فِي حَيَاتِهَا (4) . وَيَقُول الْقَاضِي زَكَرِيَّا الأَْنْصَارِيُّ: ضَرَبَ الأُْمَّ، فَمَاتَتْ، ثُمَّ أَلْقَتْ مَيِّتًا، وَجَبَتِ الْغُرَّةُ، كَمَا لَوِ انْفَصَل فِي حَيَاتِهَا (5) . يَتَّفِقُ الْفُقَهَاءُ فِي أَصْل تَرَتُّبِ الْعُقُوبَةِ إِذَا اسْتَبَانَ بَعْضُ خَلْقِ الْجَنِينِ، كَظُفُرٍ وَشَعْرٍ، فَإِنَّهُ يَكُونُ فِي حُكْمِ تَامِّ الْخَلْقِ اتِّفَاقًا وَلاَ يَكُونُ ذَلِكَ كَمَا يَقُول ابْنُ عَابِدِينَ إِلاَّ بَعْدَ مِائَةٍ وَعِشْرِينَ يَوْمًا، وَتَوَسَّعَ الْمَالِكِيَّةُ فَأَوْجَبُوا الْغُرَّةَ حَتَّى لَوْ لَمْ يَسْتَبِنْ شَيْءٌ مِنْ خَلْقِهِ، وَلَوْ أَلْقَتْهُ عَلَقَةً أَيْ دَمًا مُجْتَمِعًا، وَنَقَل ابْنُ رُشْدٍ عَنِ الإِْمَامِ مَالِكٍ قَوْلَهُ: كُل مَا طَرَحَتْ مِنْ
__________
(1) حاشية ابن عابدين 5 / 378
(2) مواهب الجليل والتاج والإكليل بهامشه 6 / 257
(3) بداية المجتهد 2 / 407 ط المعاهد 1354
(4) المغني 7 / 801، 802 ط الرياض.
(5) أسنى المطالب بحاشية الرملي 4 / 89 فما بعدها، والاقناع وحاشية البجيرمي 4 / 429 فما بعدها.

(2/61)


مُضْغَةٍ أَوْ عَلَقَةٍ مِمَّا يُعْلَمُ أَنَّهُ وَلَدٌ فَفِيهِ غُرَّةٌ وَالأَْجْوَدُ أَنْ يُعْتَبَرَ نَفْخُ الرُّوحِ فِيهِ.
وَالشَّافِعِيَّةُ يُوجِبُونَ الْغُرَّةَ أَيْضًا لَوْ أَلْقَتْهُ لَحْمًا فِي صُورَةِ آدَمِيٍّ، وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ إِذَا أَلْقَتْ مُضْغَةً، فَشَهِدَ ثِقَاتٌ مِنَ الْقَوَابِل أَنَّهُ مُبْتَدَأُ خَلْقِ آدَمِيٍّ، وَجْهَانِ: أَصَحُّهُمَا لاَ شَيْءَ فِيهِ، وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ فِيمَا لَيْسَ فِيهِ صُورَةُ آدَمِيٍّ. أَمَّا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ فَفِيهِ حُكُومَةُ عَدْلٍ، إِذْ يَنْقُل ابْنُ عَابِدِينَ عَنِ الشُّمُنِّيِّ: أَنَّ الْمُضْغَةَ غَيْرَ الْمُتَبَيِّنَةِ الَّتِي يَشْهَدُ الثِّقَاتُ مِنَ الْقَوَابِل أَنَّهَا بَدْءُ خَلْقِ آدَمِيٍّ فِيهَا حُكُومَةُ عَدْلٍ (1) .

تَعَدُّدُ الأَْجِنَّةِ فِي الإِْجْهَاضِ:
14 - لاَ خِلاَفَ بَيْنَ فُقَهَاءِ الْمَذَاهِبِ فِي أَنَّ الْوَاجِبَ الْمَالِيَّ مِنْ غُرَّةٍ أَوْ دِيَةٍ يَتَعَدَّدُ بِتَعَدُّدِ الأَْجِنَّةِ. فَإِنْ أَلْقَتِ الْمَرْأَةُ بِسَبَبِ الْجِنَايَةِ جَنِينَيْنِ أَوْ أَكْثَرَ تَعَدَّدَ الْوَاجِبُ بِتَعَدُّدِهِمْ؛ لأَِنَّهُ ضَمَانُ آدَمِيٍّ، فَتَعَدَّدَ بِتَعَدُّدِهِ، كَالدِّيَاتِ (2) . وَالْقَائِلُونَ بِوُجُوبِ الْكَفَّارَةِ مَعَ الْغُرَّةِ - وَهُمُ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ كَمَا تَقَدَّمَ - يَرَوْنَ أَنَّهَا
__________
(1) ابن عابدين 5 / 379، وحاشية الدسوقي 4 / 268، 269، وأسنى المطالب 4 / 89، والمغني 7 / 802
(2) حاشية ابن عابدين والدر 5 / 377، وتبيين الحقائق، وحاشية الشلبي 6 / 140، والشرح الكبير وحاشية الدسوقي 4 / 268، 269، ومواهب الجليل، والتاج والإكليل 6 / 257، 258، وشرح الروض وحاشية الرملي 4 / 89 فما بعدها، وشرح المنهج بحاشية الجمل 5 / 100، ونهاية المحتاج 7 / 362، وحاشية القليوبي 4 / 162، 163، والمغني 7 / 806 ط الرياض.

(2/61)


تَتَعَدَّدُ بِتَعَدُّدِ الْجَنِينِ أَيْضًا (1) .

مَنْ تَلْزَمُهُ الْغُرَّةُ:
15 - الْغُرَّةُ تَلْزَمُ الْعَاقِلَةَ فِي سَنَةٍ بِالنِّسْبَةِ لِلْجَنِينِ الْحُرِّ عِنْدَ فُقَهَاءِ الْحَنَفِيَّةِ، لِلْخَبَرِ الَّذِي رُوِيَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَضَى بِالْغُرَّةِ عَلَى الْعَاقِلَةِ فِي سَنَةٍ، وَلاَ يَرِثُ الْجَانِي وَهَذَا هُوَ الأَْصَحُّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، فَقَدْ قَالُوا: الْغُرَّةُ عَلَى عَاقِلَةِ الْجَانِي وَلَوِ الْحَامِل نَفْسَهَا؛ لأَِنَّ الْجِنَايَةَ عَلَى الْجَنِينِ لاَ عَمْدَ فِيهَا حَتَّى يُقْصَدَ بِالْجِنَايَةِ، بَل يَجْرِي فِيهَا الْخَطَأُ وَشِبْهُ الْعَمْدِ. سَوَاءٌ أَكَانَتِ الْجِنَايَةُ عَلَى أُمِّهِ خَطَأً أَمْ عَمْدًا أَمْ شِبْهَ عَمْدٍ (2) . وَلِلْحَنَفِيَّةِ تَفْصِيلٌ: فَلَوْ ضَرَبَ الرَّجُل بَطْنَ امْرَأَتِهِ، فَأَلْقَتْ جَنِينًا مَيِّتًا، فَعَلَى عَاقِلَةِ الأَْبِ الْغُرَّةُ، وَلاَ يَرِثُ فِيهَا، وَالْمَرْأَةُ إِنْ أَجْهَضَتْ نَفْسَهَا مُتَعَمِّدَةً دُونَ إِذْنِ الزَّوْجِ، فَإِنَّ عَاقِلَتَهَا تَضْمَنُ الْغُرَّةَ وَلاَ تَرِثُ فِيهَا، وَأَمَّا إِنْ أَذِنَ الزَّوْجُ، أَوْ لَمْ تَتَعَمَّدْ، فَقِيل. لاَ غُرَّةَ؛ لِعَدَمِ التَّعَدِّي، لأَِنَّهُ هُوَ الْوَارِثُ وَالْغُرَّةُ حَقُّهُ، وَقَدْ أَذِنَ بِإِتْلاَفِ حَقِّهِ. وَالصَّحِيحُ أَنَّ الْغُرَّةَ وَاجِبَةٌ عَلَى عَاقِلَتِهَا أَيْضًا؛ لأَِنَّهُ بِالنَّظَرِ إِلَى أَنَّ الْغُرَّةَ حَقُّهُ لَمْ يَجِبْ بِضَرْبِهِ شَيْءٌ، وَلَكِنْ لأَِنَّ الآْدَمِيَّ لاَ يَمْلِكُ أَحَدٌ إِهْدَارَ آدَمِيَّتِهِ وَجَبَتْ عَلَى الْعَاقِلَةِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا عَاقِلَةٌ فَقِيل فِي مَالِهَا، وَفِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ: فِي بَيْتِ الْمَال، وَقَالُوا: إِنَّ الزَّوْجَةَ لَوْ أَمَرَتْ غَيْرَهَا أَنْ تُجْهِضَهَا، فَفَعَلَتْ، لاَ
__________
(1) شرح المنهج بحاشية الجمل 5 / 100 والمغني 7 / 816 ط الرياض.
(2) أسنى المطالب 4 / 94

(2/62)


تَضْمَنُ الْمَأْمُورَةُ، إِذَا كَانَ ذَلِكَ بِإِذْنِ الزَّوْجِ (1) . وَيَرَى الْمَالِكِيَّةُ وُجُوبَ الْغُرَّةِ فِي مَال الْجَانِي فِي الْعَمْدِ مُطْلَقًا، وَكَذَا فِي الْخَطَأِ، إِلاَّ أَنْ يَبْلُغَ ثُلُثَ دِيَتِهِ فَأَكْثَرَ فَعَلَى عَاقِلَتِهِ، كَمَا لَوْ ضَرَبَ مَجُوسِيٌّ حُرَّةً حُبْلَى، فَأَلْقَتْ جَنِينًا، فَإِنَّ الْغُرَّةَ الْوَاجِبَةَ هُنَا أَكْثَرُ مِنْ ثُلُثِ دِيَةِ الْجَانِي (2) . وَيُوَافِقُهُمُ الشَّافِعِيَّةُ فِي قَوْلٍ غَيْرِ صَحِيحٍ عِنْدَهُمْ فِيمَا إِذَا كَانَتِ الْجِنَايَةُ عَمْدًا، إِذْ قَالُوا: وَقِيل: إِنْ تَعَمَّدَ الْجِنَايَةَ فَعَلَيْهِ الْغُرَّةُ لاَ عَلَى عَاقِلَتِهِ، بِنَاءً عَلَى تَصَوُّرِ الْعَمْدِ فِيهِ وَالأَْصَحُّ عَدَمُ تَصَوُّرِهِ لِتَوَقُّفِهِ عَلَى عِلْمِ وُجُودِهِ وَحَيَاتِهِ (3) .
أَمَّا الْحَنَابِلَةُ فَقَدْ جَعَلُوا الْغُرَّةَ عَلَى الْعَاقِلَةِ إِذَا مَاتَ الْجَنِينُ مَعَ أُمِّهِ وَكَانَتِ الْجِنَايَةُ عَلَيْهَا خَطَأً أَوْ شِبْهَ عَمْدٍ. أَمَّا إِذَا كَانَ الْقَتْل عَمْدًا، أَوْ مَاتَ الْجَنِينُ وَحْدَهُ، فَتَكُونُ فِي مَال الْجَانِي، وَمَا تَحْمِلُهُ الْعَاقِلَةُ يَجِبُ مُؤَجَّلاً فِي ثَلاَثِ سِنِينَ، وَقِيل: مَنْ لَزِمَتْهُ الْكَفَّارَةُ فَفِي مَالِهِ مُطْلَقًا عَلَى الصَّحِيحِ مِنَ الْمَذْهَبِ، وَقِيل مَا حَمَلَهُ بَيْتُ الْمَال مِنْ خَطَأِ الإِْمَامِ
__________
(1) حاشية ابن عابدين والدر المختار 5 / 377 فما بعدها، وتبيين الحقائق وحاشية الشلبي 6 / 140 فما بعدها.
(2) لأن دية الجاني المجوسي ستة وستون دينارا وثلث، ثلثها اثنان وعشرون دينارا وسدس وثلث السدس. بينما دية الأم هنا خمسمائة دينار. عشرها خمسون دينارا وهي أكثر من ثلث دية الجاني - حاشية الدسوقي 4 / 368
(3) حاشية الدسوقي 4 / 268، ومواهب الجليل والتاج والإكليل بهامشه 6 / 257، 258، ونهاية المحتاج 7 / 363

(2/62)


وَالْحَاكِمِ فَفِي بَيْتِ الْمَال (1) . وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحَاتِ (عَاقِلَةٌ. غُرَّة. جَنِينٌ. دِيَةٌ. كَفَّارَةٌ.)

الآْثَارُ التَّبَعِيَّةُ لِلإِْجْهَاضِ:
16 - بِالإِْجْهَاضِ يَنْفَصِل الْجَنِينُ عَنْ أُمِّهِ مَيِّتًا، وَيُسَمَّى سِقْطًا (2) . وَالسِّقْطُ هُوَ الْوَلَدُ تَضَعُهُ الْمَرْأَةُ مَيِّتًا أَوْ لِغَيْرِ تَمَامِ أَشْهُرِهِ وَلَمْ يَسْتَهِل (3) . وَقَدْ تَكَلَّمَ الْفُقَهَاءُ عَنْ حُكْمِ تَسْمِيَتِهِ وَتَغْسِيلِهِ وَتَكْفِينِهِ وَالصَّلاَةِ عَلَيْهِ وَدَفْنِهِ (4) . وَمَوْضِعُ بَيَانِ ذَلِكَ وَتَفْصِيلُهُ مُصْطَلَحُ سِقْطٍ.

أَثَرُ الإِْجْهَاضِ فِي الطَّهَارَةِ وَالْعِدَّةِ وَالطَّلاَقِ:
17 - لاَ خِلاَفَ فِي أَنَّ الإِْجْهَاضَ بَعْدَ تَمَامِ الْخَلْقِ
__________
(1) المغني 7 / 806، والإنصاف 10 / 69، 119، 123، 126، 135، 138، وانظر الفروع 3 / 431، 449، 451
(2) جاء في المصباح: السقط الولد ذكرا كان أم أنثى يسقط قبل تمامه وهو مستبين الخلق. يقال سقط الولد من بطن أمه سقوطا فهو سقط بالكسر والتثليث لغة. مادة (سقط) .
(3) المغني 2 / 522، ونهاية المحتاج 2 / 487
(4) بدائع الصنائع 1 / 307، وحاشية ابن عابدين 1 / 594 ط 1272، وتبيين الحقائق 1 / 243 ط 1312 هـ، وفتح القدير 1 / 465 ط 1318، وبداية المجتهد 1 / 232 ط 1354، والشرح الصغير 1 / 219، وشرح الخرشي 2 / 42 ط 1316، والإقناع 1 / 188 ط الحلبي، ونهاية المحتاج 2 / 487، 488 ط الحلبي، وروض الطالب 1 / 313 ط المكتبة الإسلامية، والمهذب 1 / 134 ط الحلبي، والمغني 2 / 523، 524 ط الرياض، والإنصاف 2 / 504، 505 ط الأولى 1374 هـ.

(2/63)


تَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ الأَْحْكَامُ الَّتِي تَتَرَتَّبُ عَلَى الْوِلاَدَةِ. مِنْ حَيْثُ الطَّهَارَةُ، وَانْقِضَاءُ الْعِدَّةِ، وَوُقُوعُ الطَّلاَقِ الْمُعَلَّقِ عَلَى الْوِلاَدَةِ، لِتَيَقُّنِ بَرَاءَةِ الرَّحِمِ بِذَلِكَ، وَلاَ خِلاَفَ فِي أَنَّ الإِْجْهَاضَ لاَ أَثَرَ لَهُ فِيمَا يَتَوَقَّفُ فِيهِ اسْتِحْقَاقُ الْجَنِينِ عَلَى تَحَقُّقِ الْحَيَاةِ وَانْفِصَالِهِ عَنْ أُمِّهِ حَيًّا كَالإِْرْثِ وَالْوَصِيَّةِ وَالْوَقْفِ.
أَمَّا الإِْجْهَاضُ فِي مَرَاحِل الْحَمْل الأُْولَى قَبْل نَفْخِ الرُّوحِ فَفِيهِ الاِتِّجَاهَاتُ الْفِقْهِيَّةُ الآْتِيَةُ: فَبِالنِّسْبَةِ لاِعْتِبَارِ أُمِّهِ نُفَسَاءَ، وَمَا يَتَطَلَّبُهُ ذَلِكَ مِنْ تَطَهُّرٍ، يَرَى الْمَالِكِيَّةُ فِي الْمُعْتَمَدِ عِنْدَهُمْ، وَالشَّافِعِيَّةُ، اعْتِبَارَهَا نُفَسَاءَ، وَلَوْ بِإِلْقَاءِ مُضْغَةٍ هِيَ أَصْل آدَمِيٍّ، أَوْ بِإِلْقَاءِ عَلَقَةٍ (1) .
وَيَرَى الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ أَنَّهُ إِذَا لَمْ يَظْهَرْ شَيْءٌ مِنْ خَلْقِهِ فَإِنَّ الْمَرْأَةَ لاَ تَصِيرُ بِهِ نُفَسَاءَ (2) . وَيَرَى أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ فِي رِوَايَةٍ عَنْهُ أَنَّهُ لاَ غُسْل عَلَيْهَا، لَكِنْ يَجِبُ عَلَيْهَا الْوُضُوءُ، وَهُوَ الصَّحِيحُ (3) .
وَبِالنِّسْبَةِ لاِنْقِضَاءِ الْعِدَّةِ وَوُقُوعِ الطَّلاَقِ الْمُعَلَّقِ عَلَى الْوِلاَدَةِ فَإِنَّ الْحَنَفِيَّةَ وَالشَّافِعِيَّةَ وَالْحَنَابِلَةَ يَرَوْنَ أَنَّ الْعَلَقَةَ وَالْمُضْغَةَ الَّتِي لَيْسَ فِيهَا أَيُّ صُورَةِ آدَمِيٍّ لاَ تَنْقَضِي بِهَا الْعِدَّةُ، وَلاَ يَقَعُ الطَّلاَقُ الْمُعَلَّقُ عَلَى الْوِلاَدَةِ؛ لأَِنَّهُ لَمْ يَثْبُتْ أَنَّهُ وَلَدٌ بِالْمُشَاهَدَةِ وَلاَ بِالْبَيِّنَةِ. أَمَّا الْمُضْغَةُ الْمُخَلَّقَةُ وَالَّتِي بِهَا صُورَةُ آدَمِيٍّ وَلَوْ خَفِيَّةً، وَشَهِدَتِ الثِّقَاتُ الْقَوَابِل بِأَنَّهَا لَوْ بَقِيَتْ لَتُصُوِّرَتْ، فَإِنَّهَا تَنْقَضِي بِهَا الْعِدَّةُ وَيَقَعُ الطَّلاَقُ؛ لأَِنَّهُ عُلِمَ بِهِ
__________
(1) حاشية الدسوقي 1 / 117 ط المكتبة التجارية.
(2) ابن عابدين 1 / 201 منقول بتصرف.
(3) تبيين الحقائق وحاشية الشلبي 1 / 63، وكشاف القناع 1 / 131

(2/63)


بَرَاءَةُ الرَّحِمِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ. لَكِنَّ الشَّافِعِيَّةَ لاَ يُوقِعُونَ الطَّلاَقَ الْمُعَلَّقَ عَلَى الْوِلاَدَةِ؛ لأَِنَّهُ لاَ يُسَمَّى وِلاَدَةً، أَمَّا الْمَالِكِيَّةُ فَإِنَّهُمْ يَنُصُّونَ عَلَى أَنَّ الْعِدَّةَ تَنْقَضِي بِانْفِصَال الْحَمْل كُلِّهِ وَلَوْ عَلَقَةً (1) .

إِجْهَاضُ جَنِينِ الْبَهِيمَةِ:
18 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ، وَهُوَ الصَّحِيحُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ، إِلَى أَنَّهُ يَجِبُ فِي جَنِينِ الْبَهِيمَةِ إِذَا أَلْقَتْهُ بِجِنَايَةٍ مَيِّتًا مَا نَقَصَتِ الأُْمُّ، أَيْ حُكُومَةُ عَدْلٍ، وَهُوَ أَرْشُ مَا نَقَصَ مِنْ قِيمَتِهَا. وَإِذَا نَزَل حَيًّا ثُمَّ مَاتَ مِنْ أَثَرِ الْجِنَايَةِ فَقِيمَتُهُ مَعَ الْحُكُومَةِ، وَفِي الْمَسَائِل الْمَلْقُوطَةِ الَّتِي انْفَرَدَ بِهَا مَالِكٌ أَنَّ عَلَيْهِ عُشْرَ قِيمَةِ أُمِّهِ، وَهُوَ مَا قَال بِهِ أَبُو بَكْرٍ مِنَ الْحَنَابِلَةِ (2) . وَلَمْ نَقِفْ لِلشَّافِعِيَّةِ عَلَى كَلاَمٍ فِي هَذَا أَكْثَرَ مِنْ قَوْلِهِمْ: لَوْ صَالَتِ الْبَهِيمَةُ وَهِيَ حَامِلٌ عَلَى إِنْسَانٍ، فَدَفَعَهَا، فَسَقَطَ جَنِينُهَا، فَلاَ ضَمَانَ. وَهَذَا يُفِيدُ أَنَّ الدَّفْعَ لَوْ كَانَ عُدْوَانًا لَزِمَهُ الضَّمَانُ (3) .
__________
(1) بدائع الصنائع 3 / 116، وحاشية ابن عابدين 1 / 201، ونهاية المحتاج 1 / 128، والقليوبي على المنهاج 4 / 44، والشرواني على التحفة 8 / 6 ط بولاق، وكشاف القناع 5 / 337، والشرح الصغير 2 / 672، والشرح الكبير وحاشية الدسوقي 2 / 474
(2) حاشية ابن عابدين 5 / 379، وتبيين الحقائق 6 / 139 - 141، وتكملة الفتح 8 / 324 - 329، والشرح الكبير، وحاشية الدسوقي 4 / 270، وحاشية الرهوني 8 / 39، ومواهب الجليل 6 / 257، 258، التاج والإكليل 6 / 259، والمغني 7 / 816 ط الرياض، والإنصاف 10 / 74
(3) حاشية الشرواني 9 / 210

(2/64)


أَجِيرٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الأَْجِيرُ هُوَ الْمُسْتَأْجَرُ، وَالْجَمْعُ أُجَرَاءُ (1) . وَلاَ يَخْرُجُ اسْتِعْمَال الْفُقَهَاءِ لَهُ عَنْ هَذَا الْمَعْنَى، وَهُوَ عَلَى قِسْمَيْنِ:

أَجِيرٌ خَاصٌّ:
وَهُوَ الَّذِي يَقَعُ الْعَقْدُ عَلَيْهِ فِي مُدَّةٍ مَعْلُومَةٍ يَسْتَحِقُّ الْمُسْتَأْجِرُ مَنْفَعَتَهُ الْمَعْقُودَ عَلَيْهَا فِي تِلْكَ الْمُدَّةِ، وَيُسَمَّى بِالأَْجِيرِ الْوَحْدِ؛ لأَِنَّهُ لاَ يَعْمَل لِغَيْرِ مُسْتَأْجِرِهِ، كَمَنِ اسْتُؤْجِرَ شَهْرًا لِلْخِدْمَةِ.

وَأَجِيرٌ مُشْتَرَكٌ: وَهُوَ مَنْ يَعْمَل لِعَامَّةِ النَّاسِ كَالنَّجَّارِ وَالطَّبِيبِ (2) .

الْحُكْمُ الإِْجْمَالِيُّ:
2 - اسْتِئْجَارُ الآْدَمِيِّ جَائِزٌ شَرْعًا لِقَوْل اللَّهِ تَعَالَى {قَال إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ} (3) وَقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
__________
(1) تاج العروس (أجر)
(2) المغني مع الشرح الكبير 6 / 105 ط المنار الأولى، والهداية 3 / 244، 245 ط مصطفى الحلبي، ونهاية المحتاج 5 / 307 ط مصطفى الحلبي، ومواهب الجليل لشرح مختصر خليل 5 / 426 نشر ليبيا، وفتح العلي المالك 2 / 228 ط مصطفى الحلبي.
(3) سورة القصص / 27

(2/64)


أَعْطُوا الأَْجِيرَ أَجْرَهُ قَبْل أَنْ يَجِفَّ عَرَقُهُ. . وَمَتَى كَانَ الأَْجِيرُ جَائِزَ التَّصَرُّفِ، مُسْتَوْفِيًا لِشُرُوطِ الْعَقْدِ مِنْ سَلاَمَةِ الأَْسْبَابِ وَالآْلاَتِ، قَادِرًا عَلَى تَسْلِيمِ الْمَنْفَعَةِ الْمَطْلُوبَةِ مِنْهُ حِسًّا وَشَرْعًا، وَلَمْ يَكُنْ فِيمَا يُسْتَأْجَرُ عَلَيْهِ مَعْصِيَةٌ، فَإِنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ الْوَفَاءُ بِمَا تَمَّ الْعَقْدُ عَلَيْهِ.
فَإِنْ كَانَ أَجِيرًا خَاصًّا وَجَبَ عَلَيْهِ تَسْلِيمُ نَفْسِهِ لِمُسْتَأْجِرِهِ، وَتَمْكِينُهُ مِنَ اسْتِيفَاءِ مَنْفَعَتِهِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهَا فِي هَذِهِ الْمُدَّةِ، وَامْتِنَاعُهُ مِنَ الْعَمَل لِغَيْرِ مُسْتَأْجِرِهِ فِيهَا، إِلاَّ أَدَاءَ الصَّلاَةِ الْمَفْرُوضَةِ بِاتِّفَاقٍ، وَالسُّنَنُ عَلَى خِلاَفٍ، وَإِذَا سَلَّمَ نَفْسَهُ فِي الْمُدَّةِ فَإِنَّهُ يَسْتَحِقُّ الأُْجْرَةَ الْمُسَمَّاةَ، وَإِنْ لَمْ يَعْمَل شَيْئًا، وَإِنْ كَانَ أَجِيرًا مُشْتَرَكًا وَجَبَ عَلَيْهِ الْوَفَاءُ بِالْعَمَل الْمَطْلُوبِ مِنْهُ وَالتَّسْلِيمُ لِلْمُسْتَأْجِرِ، وَيَسْتَحِقُّ الأُْجْرَةَ بِالْوَفَاءِ بِذَلِكَ. وَمَا مَرَّ مَحَل اتِّفَاقٍ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ (1) .
__________
(1) بدائع الصنائع 4 / 175، 176، 179، 189، 191 ط الجمالية، والهداية 3 / 178، 142، 233 ط مصطفى الحلبي. ابن عابدين 5 / 24، 40، 41، 44 ط الأولى، والشرح الكبير على حاشية الدسوقي 4 / 3، 19، 20، 22، 26، 50 ط عيسى الحلبي، ونهاية المحتاج 5 / 259، 269 270، 288، 307، 322، والمغني مع الشرح الكبير 6 / 4، 41، 105، 108، 134 وكشاف القناع 4 / 2، 26، 286 ط أنصار السنة، والمهذب 1 / 409 ط عيسى الحلبي.

(2/65)


مَوَاطِنُ الْبَحْثِ:
3 - هَذَا، وَلِلأَْجِيرِ أَحْكَامٌ كَثِيرَةٌ بِاعْتِبَارِهِ أَحَدَ طَرَفَيْ عَقْدِ الإِْجَارَةِ، وَبِاعْتِبَارِ الْمَنْفَعَةِ الْمَطْلُوبَةِ مِنْهُ، وَبَيَانِ مُدَّتِهَا، أَوْ نَوْعِهَا وَمَحَلِّهَا، وَالأُْجْرَةِ وَتَعْجِيلِهَا، أَوْ تَأْجِيلِهَا، وَمِنْ نَاحِيَةِ خِيَارِهِ وَعَدَمِهِ، وَمَتَى تَنْفَسِخُ مَعَهُ الإِْجَارَةُ وَمَتَى لاَ تَنْفَسِخُ، وَغَيْرِ ذَلِكَ. وَيُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ (إِجَارَةٌ) .

إِحَالَةٌ
.
انْظُرْ: حَوَالَةٌ.

أَحْبَاسٌ

انْظُرْ: وَقْفٌ.

إِحْبَالٌ
.
انْظُرْ: حَمْلٌ

(2/65)


احْتِبَاءٌ

التَّعْرِيفُ:
1 - الاِحْتِبَاءُ فِي اللُّغَةِ الْقُعُودُ عَلَى مَقْعَدَتِهِ وَضَمُّ فَخِذَيْهِ إِلَى بَطْنِهِ وَاشْتِمَالُهُمَا مَعَ ظَهْرِهِ بِثَوْبٍ أَوْ نَحْوِهِ، أَوْ بِالْيَدَيْنِ (1) .
وَهُوَ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ كَذَلِكَ (2) .

الْفَرْقُ بَيْنَ الاِحْتِبَاءِ وَالإِْقْعَاءِ:
2 - الإِْقْعَاءُ وَضْعُ الأَْلْيَتَيْنِ وَالْيَدَيْنِ عَلَى الأَْرْضِ مَعَ نَصْبِ الرُّكْبَتَيْنِ (3) وَعَلَى هَذَا يَكُونُ الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّهُ يُرَافِقُ الاِحْتِبَاءَ ضَمُّ الْفَخِذَيْنِ إِلَى الْبَطْنِ، وَالرُّكْبَتَيْنِ إِلَى الصَّدْرِ، وَالْتِزَامَهُمَا بِالْيَدَيْنِ أَوْ بِثَوْبٍ بَيْنَمَا لاَ يَكُونُ فِي الإِْقْعَاءِ ذَلِكَ الاِلْتِزَامُ.

الْحُكْمُ الْعَامُّ وَمَوَاطِنُ الْبَحْثِ:
3 - الاِحْتِبَاءُ خَارِجُ الصَّلاَةِ مُبَاحٌ إِنْ لَمْ يُرَافِقْهُ مَحْظُورٌ شَرْعِيٌّ آخَرُ كَكَشْفِ الْعَوْرَةِ مَثَلاً. وَالأَْوْلَى تَرْكُهُ وَقْتَ الْخُطْبَةِ وَعِنْدَ انْتِظَارِ الصَّلاَةِ؛ لأَِنَّهُ يَكُونُ مُتَهَيِّئًا
__________
(1) لسان العرب، وتاج العروس، والنهاية لابن الأثير (حبو)
(2) جواهر الإكليل 1 / 42، نشر عباس، ومواهب الجليل 1 / 176 ط مكتبة النجاح - ليبيا.
(3) الهداية 1 / 64 ط مصطفى الحلبي، وحاشية ابن عابدين 1 / 432، ط بولاق، وجواهر الإكليل 1 / 54، القليوبي 1 / 145 ط مصطفى الحلبي.

(2/66)


لِلنَّوْمِ وَالْوُقُوعِ وَانْتِقَاضِ الْوُضُوءِ (1) . هُوَ مَكْرُوهٌ فِي الصَّلاَةِ لِمَا وَرَدَ مِنَ النَّهْيِ عَنْهُ، وَمَا فِيهِ مِنْ مُخَالَفَةِ الْوَضْعِ الْمَسْنُونِ فِي الصَّلاَةِ (2) .
4 - وَقَدْ فَصَّل الْفُقَهَاءُ حُكْمَ الاِحْتِبَاءِ فِي كِتَابِ الصَّلاَةِ، عِنْدَ كَلاَمِهِمْ عَلَى مَكْرُوهَاتِ الصَّلاَةِ.

احْتِبَاسٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الْحَبْسُ وَالاِحْتِبَاسُ، ضِدُّ التَّخْلِيَةِ، أَوْ هُوَ الْمَنْعُ مِنْ حُرِّيَّةِ السَّعْيِ، وَلَكِنِ الاِحْتِبَاسُ - كَمَا يَقُول أَهْل اللُّغَةِ - يَخْتَصُّ بِمَا يَحْبِسُهُ الإِْنْسَانُ لِنَفْسِهِ، قَال فِي لِسَانِ الْعَرَبِ: احْتَبَسْتُ الشَّيْءَ إِذَا اخْتَصَصْتَهُ لِنَفْسِكَ خَاصَّةً (3) .
وَكَمَا أَنَّهُ يَأْتِي مُتَعَدِّيًا فَإِنَّهُ يَأْتِي لاَزِمًا، مِثْل مَا فِي الْحَدِيثِ: احْتَبَسَ جِبْرِيل عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَوْلُهُمْ: احْتَبَسَ الْمَطَرُ أَوِ اللِّسَانُ.

الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - الْحَبْسُ:
2 - الْفَرْقُ بَيْنَ الْحَبْسِ وَالاِحْتِبَاسِ، أَنَّ الْحَبْسَ لاَ يَأْتِي إِلاَّ مُتَعَدِّيًا، وَلَيْسَ كَذَلِكَ الاِحْتِبَاسُ فَإِنَّهُ يَأْتِي مُتَعَدِّيًا وَلاَزِمًا.
__________
(1) نهاية المحتاج 2 / 315.
(2) نهاية المحتاج 2 / 315، وكشاف القناع 2 / 32، والمبسوط 2 / 36 والمغني 2 / 72، 326 وفتح الباري 11 / 75 ط البهية.
(3) رواه أبو داود والتزمذي وحسنه (فيض القدير)

(2/66)


ب - الْحَجْرُ:
3 - وَالْفَرْقُ بَيْنَ الاِحْتِبَاسِ وَالْحَجْرِ، أَنَّ الْحَجْرَ مَنْعُ شَخْصٍ مِنَ التَّصَرُّفِ فِي مَالِهِ رِعَايَةً لِمَصْلَحَتِهِ (1) . وَبِذَلِكَ يَكُونُ الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ الاِحْتِبَاسَ هُوَ مَنْعٌ لِصَالِحِ الْمُحْتَبِسِ (بِكَسْرِ الْبَاءِ) ، وَالْحَجْرَ مَنْعٌ لِصَالِحِ الْمَحْجُورِ عَلَيْهِ.

ج - الْحَصْرُ:
4 - وَالْفَرْقُ بَيْنَ الاِحْتِبَاسِ وَالْحَصْرِ، أَنَّ الْحَصْرَ هُوَ الْحَبْسُ مَعَ التَّضْيِيقِ، وَالتَّضْيِيقُ لاَ يَرِدُ إِلاَّ عَلَى ذِي رُوحٍ، وَالاِحْتِبَاسُ يَرِدُ عَلَى ذِي الرُّوحِ وَغَيْرِهِ، كَمَا لاَ يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ فِي الاِحْتِبَاسِ تَضْيِيقٌ.

د - الاِعْتِقَال:
5 - وَالْفَرْقُ بَيْنَ الاِحْتِبَاسِ وَالاِعْتِقَال: أَنَّ الاِعْتِقَال هُوَ الْحَبْسُ عَنْ حَاجَتِهِ، أَوْ هُوَ الْحَبْسُ عَنْ أَدَاءِ مَا هُوَ مِنْ وَظِيفَتِهِ، وَمِنْ هُنَا يَقُولُونَ: اعْتَقَل لِسَانُهُ إِذَا حُبِسَ وَمُنِعَ عَنِ الْكَلاَمِ (2) . وَلَيْسَ كَذَلِكَ الاِحْتِبَاسُ، إِذْ لاَ يُقْصَدُ مِنْهُ الْمَنْعُ مِنْ أَدَاءِ الْوَظِيفَةِ.

الْحُكْمُ الإِْجْمَالِيُّ وَمَوَاطِنُ الْبَحْثِ:
6 - يَجُوزُ الاِحْتِبَاسُ فِي حَالَتَيْنِ:
الْحَالَةِ الأُْولَى: عِنْدَمَا يَكُونُ حَقُّ الْمُحْتَبِسِ فِي الْمَحْبُوسِ هُوَ الْغَالِبَ (3) ، كَحَبْسِ الْمَرْهُونِ بِالدَّيْنِ - كَمَا
__________
(1) لسان العرب، وانظر تعريف الحجر عند الفقهاء
(2) لسان العرب (عقل)
(3) المغني 4 / 326، 380، وحواشي التحفة 5 / 50 المطبعة الميمنية 1315. وحاشية البجيرمي على الخطيب 3 / 23 ط دار المعرفة.

(2/67)


ذَكَرَ ذَلِكَ الْفُقَهَاءُ فِي كِتَابِ الرَّهْنِ، وَحَبْسِ الأَْجِيرِ الْمُشْتَرَكِ الْعَيْنَ الَّتِي لَهُ فِيهَا أَثَرٌ حَتَّى يَتَسَلَّمَ الأُْجْرَةَ، وَاحْتِبَاسِ الْبَائِعِ مَا فِي يَدِهِ مِنَ الْبَيْعِ حَتَّى يُسَلِّمَ الْمُشْتَرِي مَا فِي يَدِهِ مِنَ الثَّمَنِ إِلاَّ بِشَرْطٍ مُخَالِفٍ.
الْحَالَةُ الثَّانِيَةُ: عِنْدَمَا تَتَطَلَّبُ الْمَصْلَحَةُ هَذَا الاِحْتِبَاسَ (1) ، كَاحْتِبَاسِ الْمَال عَنْ مَالِكِهِ السَّفِيهِ، كَمَا ذَكَرَ ذَلِكَ الْفُقَهَاءُ فِي كِتَابِ الْحَجْرِ، وَاحْتِبَاسِ مَا غَنِمَهُ أَهْل الْعَدْل مِنْ أَمْوَال الْبُغَاةِ حَتَّى يَتُوبُوا، كَمَا ذَكَرَ ذَلِكَ الْفُقَهَاءُ فِي كِتَابِ الْبُغَاةِ، وَاحْتِبَاسِ الأَْرْضِ الْمَفْتُوحَةِ عَنْوَةً لِلْمُسْلِمِينَ، وَعَدَمِ تَوْزِيعِهَا بَيْنَ الْمُحَارِبِينَ، وَنَحْوِ ذَلِكَ.

7 - وَيَمْتَنِعُ الاِحْتِبَاسُ فِي أَحْوَالٍ:
الْحَال الأُْولَى: عِنْدَمَا يَكُونُ حَقُّ الْغَيْرِ هُوَ الْغَالِبُ، كَحَقِّ الْمُرْتَهِنِ فِي الْعَيْنِ الْمَرْهُونَةِ فَفِي هَذِهِ الْحَال يَمْتَنِعُ عَلَى الْمَالِكِ (الرَّاهِنِ) حَقُّهُ الأَْصْلِيُّ فِي الاِحْتِبَاسِ. الْحَال الثَّانِيَةُ: حَالَةُ الضَّرُورَةِ، كَاحْتِبَاسِ الضَّرُورِيَّاتِ لإِِغْلاَءِ السِّعْرِ عَلَى النَّاسِ، وَتَفْصِيل الْكَلاَمِ عَلَى ذَلِكَ مَوْطِنُهُ مُصْطَلَحُ " احْتِكَارٌ ".
الْحَال الثَّالِثَةُ: حَال الْحَاجَةِ (2) ، وَلِذَلِكَ كُرِهَ
__________
(1) انظر الأحكام السلطانية لأبي يعلى ص 40 ط الحلبي 1357، وحاشية ابن عابدين 3 / 226، 228، والأحكام السلطانية للماوردي ص - 137 ط الحلبي، وجواهر الإكليل 2 / 277 و 1 / 260 نشر عباس شقرون.
(2) انظر تفسير قوله تعالى " ويمنعون الماعون " في تفسير النسفي، وأحكام القرآن للجصاص 3 / 584 ط المطبعة البهية المصرية، وأحكام القرآن لابن العربي 4 / 1974 ط عيسى الحلبي 1378 هـ

(2/67)


حَبْسُ الأَْشْيَاءِ الْمُعْتَادُ إِعَارَتُهَا عَنِ الْغَيْرِ إِنِ احْتَاجَ إِلَيْهِ ذَلِكَ الْغَيْرُ.

مِنْ آثَارِ الاِحْتِبَاسِ:
8 - مَنْ احْتَبَسَ إِنْسَانًا أَوْ حَيَوَانًا وَجَبَتْ عَلَيْهِ مُؤْنَتُهُ، وَلِذَلِكَ وَجَبَتِ النَّفَقَةُ لِلزَّوْجَةِ، وَالْقَاضِي، وَالْمَغْصُوبِ، وَالْحَيَوَانِ الْمُحْتَبَسِ، وَوَجَبَتِ الأُْجْرَةُ لِلأَْجِيرِ الْخَاصِّ بِمُجَرَّدِ الاِحْتِبَاسِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ (1) . وَتُكْرَهُ الصَّلاَةُ مَعَ احْتِبَاسِ الرِّيحِ أَوْ الْغَائِطِ - مُدَافَعَةِ الأَْخْبَثَيْنِ - وَقَدْ ذَكَرَ ذَلِكَ الْفُقَهَاءُ فِي كِتَابِ الصَّلاَةِ عِنْدَ كَلاَمِهِمْ عَلَى مَكْرُوهَاتِ الصَّلاَةِ، وَتُسَنُّ صَلاَةُ الاِسْتِسْقَاءِ عِنْدَ احْتِبَاسِ الْمَطَرِ، وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي كِتَابِ الصَّلاَةِ، فَصْل صَلاَةِ الاِسْتِسْقَاءِ مِنْ كُتُبِ الْفِقْهِ. وَيُعَامَل مُحْتَبَسُ الْكَلاَمِ - أَيْ مَنِ اعْتَقَل لِسَانُهُ - مُعَامَلَةَ الأَْخْرَسِ إِذَا طَال احْتِبَاسُ الْكَلاَمِ عَنْهُ كَمَا سَنُفَصِّل ذَلِكَ فِي كَلِمَةِ " أَخْرَسُ ".

احْتِجَامٌ

التَّعْرِيفُ:
1 - (الاِحْتِجَامُ طَلَبُ الْحِجَامَةِ (2)) . وَالْحَجْمُ فِي لُغَةٍ:
__________
(1) انظر حاشية ابن عابدين 2 / 377، 688، 4 / 369، وجواهر الإكليل 1 / 53، 391، 407، وحاشية القليوبي 4 / 78،94، والمغني لابن قدامة 9 / 37،38،و7 / 634، و5 / 486
(2) لسان العرب، والقاموس المحيط (حجم)

(2/68)


الْمَصُّ، يُقَال: حَجَمَ الصَّبِيُّ ثَدْيَ أُمِّهِ، أَيْ، مَصَّهُ، وَمِنْ هُنَا سُمِّيَ الْحِجَامُ بِذَلِكَ، لأَِنَّهُ يَمُصُّ الْجُرْحَ، وَفِعْل الْمَصِّ وَاحْتِرَافُهُ يُسَمَّى الْحِجَامَةَ، وَلاَ يَخْرُجُ اسْتِعْمَال الْفُقَهَاءِ لِهَذِهِ الْكَلِمَةِ عَنْ هَذَا الْمَعْنَى (1) . وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْحِجَامَةِ وَالْفَصْدِ: أَنَّ الْفَصْدَ هُوَ شَقُّ الْعِرْقِ لإِِخْرَاجِ الدَّمِ مِنْهُ فَهُوَ غَيْرُ الاِحْتِجَامِ.

الْحُكْمُ الإِْجْمَالِيُّ:
2 - الاِحْتِجَامُ مُبَاحٌ لِلتَّطْبِيبِ، وَيُكْرَهُ فِي الْوَقْتِ الَّذِي يَحْتَاجُ فِيهِ الْمُسْلِمُ لِلْقُوَّةِ وَالنَّشَاطِ لأَِدَاءِ عِبَادَةٍ وَنَحْوِهَا، لِمَا يُورِثُهُ مِنْ ضَعْفٍ فِي الْبَدَنِ، وَكَذَلِكَ لِلصَّائِمِ (2) . كَمَا نَصَّ الْفُقَهَاءُ عَلَى ذَلِكَ فِي كِتَابِ الصَّوْمِ، عِنْدَ كَلاَمِهِمْ عَلَى مَكْرُوهَاتِ الصِّيَامِ. وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى فَسَادِ الصِّيَامِ بِالْحِجَامَةِ، وَقَدْ ذَكَرُوا ذَلِكَ فِي كِتَابِ الصَّوْمِ عِنْدَ كَلاَمِهِمْ عَلَى مَا يُفْسِدُ الصَّوْمَ وَلاَ يُوجِبُ الْكَفَّارَةَ (3) .
3 - وَالْحِجَامَةُ حِرْفَةٌ دَنِيئَةٌ لِمُخَالَطَةِ مُحْتَرِفِهَا النَّجَاسَةَ، وَيَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا مِنَ الآْثَارِ مَا يَتَرَتَّبُ عَلَى الْحِرَفِ الدَّنِيئَةِ (4) . وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ
__________
(1) لسان العرب (فصد) والقليوبي 4 / 261
(2) القليوبي 2 / 59، وجواهر الإكليل 1 / 147، 188 ط مطبعة عباس.
(3) المغني 3 / 103 ط الثالثة.
(4) سنن أبي داود، كتاب البيوع، باب الصائغ، وسنن البيهقي 7 / 134 ط الأولى، وابن عابدين 3 / 327، والبحر الرائق 3 / 143 ط المطبعة العلمية، والمبسوط 30 / 258 ط الحلبي، ونهاية المحتاج 6 / 254 ط الأولى، ومغني المحتاج 3 / 161، 167 ط مصطفى الحلبي، وروض الطالبين 6 / 254 ط المكتب الإسلامي، وحاشية القليوبي 3 / 235، والبهجة شرح التحفة 1 / 261 ط مصطفى الحلبي، والمغني 7 / 377، والآداب الشرعية لابن مفلح 2 / 302، 303. 305

(2/68)


احْتِرَافٌ " وَيَذْكُرُهُ الْفُقَهَاءُ فِي الْكَفَاءَةِ مِنْ بَابِ النِّكَاحِ، وَفِي بَابِ الإِْجَارَةِ.
4 - الْحِجَامَةُ تَطْبِيبٌ، فَيَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا مَا يَتَرَتَّبُ عَلَى التَّطْبِيبِ مِنْ آثَارٍ: كَجَوَازِ نَظَرِ الْحَاجِمِ إِلَى عَوْرَةِ الْمَحْجُومِ عِنْدَ الضَّرُورَةِ (1) . وَذَكَرَ الْحَنَفِيَّةُ ذَلِكَ فِي كِتَابِ الْحَظْرِ وَالإِْبَاحَةِ فِي بَابِ النَّظَرِ، وَيَذْكُرُهُ غَيْرُهُمْ غَالِبًا فِي كِتَابِ النِّكَاحِ اسْتِطْرَادًا أَوْ فِي كِتَابِ الصَّلاَةِ عِنْدَ كَلاَمِهِمْ عَلَى سَتْرِ الْعَوْرَةِ، وَكَضَمَانِ مَا تَلِفَ بِفِعْل الْحَجَّامِ، ذَكَرَ ذَلِكَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ فِي كِتَابِ الْجِنَايَاتِ. وَذَكَرَهُ الْمَالِكِيَّةُ فِي الإِْجَارَةِ، وَذَكَرَهُ ابْنُ قُدَامَةَ مِنَ الْحَنَابِلَةِ فِي التَّعْزِيرِ.
5 - وَدَمُ الْحِجَامَةِ نَجِسٌ كَغَيْرِهِ، وَلَكِنْ يُجْزِئُ الْمَسْحُ فِي تَطْهِيرِ مَكَانِ الْجُرْحِ مِنْهُ (2) لِلضَّرُورَةِ، وَيَجِبُ أَنْ يُنَزَّهَ الْمَسْجِدُ عَنِ الْحِجَامَةِ فِيهِ (3) .
__________
(1) قليوبي 3 / 212، والفتاوى الهندية 5 / 330 ط المكتبة الإسلامية بتركيا ديار بكر، والمغني 6 / 558، وحاشية ابن عابدين 5 / 364، وجواهر الإكليل 2 / 191 والمغني 8 / 328
(2) ابن عابدين 1 / 185، 206، وجواهر الإكليل 1 / 12
(3) جواهر الإكليل 1 / 156 وابن عابدين 1 / 116، وجواهر الإكليل 2 / 203

(2/69)


احْتِرَافٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الاِحْتِرَافُ فِي اللُّغَةِ: الاِكْتِسَابُ، أَوْ طَلَبُ حِرْفَةٍ لِلْكَسْبِ (1) . وَالْحِرْفَةُ كُل مَا اشْتَغَل بِهِ الإِْنْسَانُ وَاشْتُهِرَ بِهِ، فَيَقُولُونَ حِرْفَةُ فُلاَنٍ كَذَا، يُرِيدُونَ دَأْبَهُ وَدَيْدَنَهُ (2) . وَهِيَ بِهَذَا تُرَادِفُ كَلِمَتَيْ صَنْعَةَ، وَعَمَلٍ (3) . أَمَّا الاِمْتِهَانُ فَإِنَّهُ لاَ فَرْقَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ احْتِرَافٍ؛ لأَِنَّ مَعْنَى الْمِهْنَةِ يُرَادِفُ مَعْنَى الْحِرْفَةِ، وَكُلٌّ مِنْهُمَا يُرَادُ بِهِ حِذْقُ الْعَمَل (4) . وَيُوَافِقُ الْفُقَهَاءُ اللُّغَوِيِّينَ فِي هَذَا، فَيُطْلِقُونَ الاِحْتِرَافَ عَلَى مُزَاوَلَةِ الْحِرْفَةِ وَعَلَى الاِكْتِسَابِ نَفْسِهِ (5) .

الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - الصِّنَاعَةُ:
2 - الاِحْتِرَافُ يَفْتَرِقُ عَنِ " الصِّنَاعَةِ " لأَِنَّهَا عِنْدَ أَهْل اللُّغَةِ تَرْتِيبُ الْعَمَل عَلَى مَا تَقَدَّمَ عِلْمٌ بِهِ، وَبِمَا
__________
(1) مفردات الراغب الأصبهاني.
(2) تاج العروس مادة (حرف)
(3) تاج العروس، ومفردات الراغب الأصبهاني، مادة (حرف، عمل) ، والفروق في اللغة لأبي هلال العسكري ط دار الآفاق الجديدة بيروت ص 127
(4) لسان العرب.
(5) حاشية القليوبي 4 / 215 ط عيسى الحلبي، والبحر الرائق 3 / 143

(2/69)


يُوَصِّل إِلَى الْمُرَادِ مِنْهُ (1) ، وَلِذَا قِيل لِلنَّجَّارِ صَانِعٌ وَلاَ يُقَال لِلتَّاجِرِ صَانِعٌ. فَلاَ يَشْتَرِطُونَ فِي الصِّنَاعَةِ أَنْ يَجْعَلَهَا الشَّخْصُ دَأْبَهُ وَدَيْدَنَهُ، وَيَخُصُّ الْفُقَهَاءُ، كَلِمَةَ " صِنَاعَةٍ " بِالْحِرَفِ الَّتِي تُسْتَعْمَل فِيهَا الآْلَةُ، فَقَالُوا: الصِّنَاعَةُ مَا كَانَ بِآلَةٍ (2) .

ب - الْعَمَل.
3 - يَفْتَرِقُ الاِحْتِرَافُ عَنِ الْعَمَل، بِأَنَّ الْعَمَل يُطْلَقُ عَلَى الْفِعْل سَوَاءٌ حَذَقَهُ الإِْنْسَانُ أَوْ لَمْ يَحْذِقْهُ، اتَّخَذَهُ دَيْدَنًا لَهُ أَوْ لَمْ يَتَّخِذْهُ، وَلِذَلِكَ قَالُوا: الْعَمَل الْمِهْنَةُ وَالْفِعْل (3) . وَغَالِبُ اسْتِعْمَال الْفُقَهَاءِ إِطْلاَقُ الْعَمَل عَلَى مَا هُوَ أَعَمُّ مِنَ الاِحْتِرَافِ وَالصَّنْعَةِ، كَمَا أَنَّ الاِحْتِرَافَ أَعَمُّ مِنَ الصَّنْعَةِ.

ج - الاِكْتِسَابُ أَوِ الْكَسْبُ:
4 - يَفْتَرِقُ مَعْنَى الاِحْتِرَافِ عَنْ مَعْنَى الاِكْتِسَابِ أَوِ الْكَسْبِ، بِأَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا أَعَمُّ مِنَ الاِحْتِرَافِ، لأَِنَّهُمَا عِنْدَ أَهْل اللُّغَةِ مَا يَتَحَرَّاهُ الإِْنْسَانُ مِمَّا فِيهِ اجْتِلاَبُ نَفْعٍ وَتَحْصِيل حَظٍّ (4) ، فَلاَ يُشْتَرَطُ فِيهِ أَنْ يَجْعَلَهُ الشَّخْصُ دَأْبَهُ وَدَيْدَنَهُ كَمَا هُوَ الْحَال فِي الاِحْتِرَافِ،
__________
(1) الفروق في اللغة ص 128 بتصرف
(2) حاشية القليوبي 4 / 215
(3) لسان العرب مادة (عمل)
(4) مفردات الراغب الأصبهاني

(2/70)


وَيُطْلِقُ الْفُقَهَاءُ الاِكْتِسَابَ أَوِ الْكَسْبَ عَلَى تَحْصِيل الْمَال بِمَا حَل أَوْ حَرُمَ مِنَ الأَْسْبَابِ (1) سَوَاءٌ أَكَانَ بِاحْتِرَافٍ أَوْ بِغَيْرِ احْتِرَافٍ، كَمَا يُطْلِقُونَ الْكَسْبَ عَلَى الْحَاصِل بِالاِكْتِسَابِ.

الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ إِجْمَالاً:
5 - الاِحْتِرَافُ فَرْضُ كِفَايَةٍ عَلَى الْعُمُومِ لاِحْتِيَاجِ النَّاسِ إِلَيْهِ وَعَدَمِ اسْتِغْنَائِهِمْ عَنْهُ. وَسَيَأْتِي تَفْصِيل ذَلِكَ فِيمَا بَعْدُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ.

تَصْنِيفُ الْحِرَفِ:
6 - تُصَنَّفُ الْحِرَفُ إِلَى صِنْفَيْنِ: الصِّنْفُ الأَْوَّل: حِرَفٌ شَرِيفَةٌ، وَالصِّنْفُ الثَّانِي حِرَفٌ دَنِيئَةٌ. وَالأَْصْل فِي هَذَا التَّصْنِيفِ مَا رَوَاهُ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ، قَال: سَمِعْتُ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُول: إِنِّي وَهَبْتُ لِخَالَتِي غُلاَمًا، وَأَنَا أَرْجُو أَنْ يُبَارَكَ لَهَا فِيهِ. فَقُلْتُ لَهَا: لاَ تُسَلِّمِيهِ حَجَّامًا، وَلاَ صَائِغًا، وَلاَ قَصَّابًا.
(2) قَال ابْنُ الأَْثِيرِ: الصَّائِغُ رُبَّمَا كَانَ مِنْ صُنْعِهِ شَيْءٌ لِلرِّجَال وَهُوَ حَرَامٌ، أَوْ كَانَ مِنْ آنِيَةٍ وَهِيَ حَرَامٌ، أَمَّا الْقَصَّابُ فَلأَِجْل النَّجَاسَةِ الْغَالِبَةِ عَلَى ثَوْبِهِ وَبَدَنِهِ مَعَ تَعَذُّرِ الاِحْتِرَازِ (3) .
وَرُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: الْعَرَبُ أَكْفَاءٌ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ إِلاَّ حَائِكًا أَوْ
__________
(1) المبسوط للسرخسي 3 / 244، وحاشية القليوبي 3 / 195، 196 و 197
(2) رواه أبو داود بسند ضعيف. (جامع الأصول 10 / 597)
(3) جامع الأصول رقم 8181

(2/70)


حَجَّامًا (1) . قِيل لِلإِْمَامِ أَحْمَدَ: وَكَيْفَ تَأْخُذُ بِهَذَا الْحَدِيثِ وَأَنْتَ تُضَعِّفُهُ؟ قَال: الْعَمَل عَلَيْهِ. (2)

تَفَاوُتُ الْحِرَفِ الشَّرِيفَةِ فِيمَا بَيْنَهَا:
7 - فَاضَل الْفُقَهَاءُ بَيْنَ الْحِرَفِ الشَّرِيفَةِ لاِعْتِبَارَاتٍ ذَكَرُوهَا، فَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ أَشْرَفَ الْحِرَفِ الْعِلْمُ (3) وَمَا آل إِلَيْهِ، كَالْقَضَاءِ وَالْحُكْمِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَلِذَلِكَ نَصَّ الْحَنَفِيَّةُ عَلَى أَنَّ الْمُدَرِّسَ كُفْءٌ لِبِنْتِ الأَْمِيرِ (4) . وَذَكَرَ ابْنُ مُفْلِحٍ إِجْمَاعَ الْعُلَمَاءِ عَلَى أَنَّ أَشْرَفَ الْكَسْبِ الْغَنَائِمُ إِذَا سَلِمَ مِنَ الْغُلُول (5) . ثُمَّ اخْتَلَفُوا فِيمَا يَتْلُوهُ فِي الْفَضْل.
هَذَا وَإِنَّ لِلْفُقَهَاءِ فِي كُتُبِهِمْ (6) كَلاَمًا فِي الْمُفَاضَلَةِ
__________
(1) رواه الحاكم بسند منقطع. تلخيص الحبير 3 / 164
(2) المغني لابن قدامة 7 / 377
(3) نهاية المحتاج 6 / 254، وروضة الطالبين 7 / 82، ومنهاج اليقين للأرزنجاني، شرح أدب الدنيا والدين للماوردي ط، استانبول ص 368، وحاشية ابن عابدين 2 / 322 و 5 / 297، وحاشية القليوبي 3 / 236
(4) حاشية ابن عابدين 2 / 322
(5) الآداب الشرعية لابن مفلح 3 / 303، ومنهاج اليقين ص 368، وحاشية ابن عابدين 5 / 297، والفتاوى الهندية 5 / 349 ط بولاق.
(6) المبسوط 30 / 259، وحاشية ابن عابدين 2 / 322 و5 / 297، والفتاوى الهندية 5 / 349 ط. بولاق، وحاشية محمد بن المدني على كنون بهامش الرهوني 5 / 6، والإتحاف شرح إحياء علوم الدين 5 / 418، وحاشية القليوبي 2 / 152، ومجمع الأنهر 1 / 330 - مطبعة الحاج محمد أفندي سنة 1292 هـ، ونهاية المحتاج 6 / 254، وروضة الطالبين 7 / 82، ومنهاج اليقين ص 366 و 368، والآداب الشرعية لابن مفلح 3 / 303، 307.

(2/71)


بَيْنَ الْحِرَفِ الشَّرِيفَةِ، مِنْ عِلْمٍ أَوْ تِجَارَةٍ أَوْ صِنَاعَةٍ أَوْ زِرَاعَةٍ. . إِلَخْ وَلَهُمْ فِي اتِّجَاهَاتِهِمُ الْمُخْتَلِفَةِ فِيمَا هُوَ أَشْرَفُ اسْتِدْلاَلٌ بِأَحَادِيثَ وَوُجُوهٌ مِنَ الْمَعْقُول ظَنِّيَّةُ الْوُرُودِ أَوِ الدَّلاَلَةِ، وَلَعَل فِي آرَائِهِمْ تِلْكَ مُرَاعَاةً لِبَعْضِ الأَْعْرَافِ وَالْمُلاَبَسَاتِ الَّتِي كَانَتْ سَائِدَةً فِي زَمَانِهِمْ، وَنَجْتَزِئُ بِهَذِهِ الإِْشَارَةِ عَنْ إِيرَادِ الاِتِّجَاهَاتِ الْمُخْتَلِفَةِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ.

الْحِرَفُ الدَّنِيئَةُ:
8 - لَقَدْ حَرَصَ الْفُقَهَاءُ عَلَى تَحْدِيدِ الْحِرَفِ الدَّنِيئَةِ لِيَبْقَى مَا وَرَاءَهَا مِنَ الْحِرَفِ شَرِيفًا. فَقَالُوا: الْحِرَفُ الدَّنِيئَةُ هِيَ كُل حِرْفَةٍ دَلَّتْ مُلاَبَسَتُهَا عَلَى انْحِطَاطِ الْمُرُوءَةِ وَسُقُوطِ النَّفْسِ (1) . وَقَدِ اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى اعْتِبَارِهِمُ الْحِرَفَ الْمُحَرَّمَةَ، كَاحْتِرَافِ الزِّنَا وَبَيْعِ الْخَمْرِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، حِرَفًا دَنِيئَةً كَمَا سَيَأْتِي، وَقَدْ سَلَكَ الْفُقَهَاءُ فِي تَحْدِيدِ الْحِرَفِ الدَّنِيئَةِ - فِيمَا عَدَا الْمُحَرَّمَةِ مِنْهَا - مَسْلَكَيْنِ:
الأَْوَّل: تَحْدِيدُهَا بِالضَّابِطِ، وَمِنْهُ مَا نَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيَّةُ مِنْ أَنَّ كُل حِرْفَةٍ فِيهَا مُبَاشَرَةُ نَجَاسَةٍ هِيَ حِرْفَةٌ دَنِيئَةٌ. (2) الثَّانِيَ: تَحْدِيدَهَا بِالْعُرْفِ، وَهُوَ مَسْلَكُ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ، وَمِنْهُمُ الشَّافِعِيَّةُ (3) أَيْضًا، وَاجْتَهَدُوا اسْتِنَادًا إِلَى الأَْعْرَافِ السَّائِدَةِ فِي
__________
(1) نهاية المحتاج 6 / 253، وحاشية القليوبي 3 / 235
(2) نهاية المحتاج 6 / 254، ومغني المحتاج 3 / 166، 167
(3) نهاية المحتاج 6 / 253، 254، والبهجة شرح التحفة 1 / 262، والمغني 6 / 377.

(2/71)


عُصُورِهِمْ فِي تَحْدِيدِ الْحِرَفِ الدَّنِيئَةِ (1) .
هَذَا، وَإِنَّ مَا جَاءَ فِي بَعْضِ الْكُتُبِ الْفِقْهِيَّةِ مِنْ وَصْفِ بَعْضِ أَنْوَاعٍ مِنَ الْحِرَفِ بِالدَّنَاءَةِ - تَبَعًا لأَِوْضَاعٍ زَمَنِيَّةٍ - فَإِنَّ الْقَائِلِينَ بِذَلِكَ صَرَّحُوا بِأَنَّهُ تَزُول كَرَاهَةُ الاِحْتِرَافِ بِحِرْفَةٍ دَنِيئَةٍ إِذَا كَانَ احْتِرَافُهَا لِلْقِيَامِ بِفَرْضِ الْكِفَايَةِ، إِذْ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ فِي كُل بَلَدٍ جَمِيعُ الصَّنَائِعِ الْمُحْتَاجِ إِلَيْهَا (2) .

التَّحَوُّل مِنْ حِرْفَةٍ إِلَى حِرْفَةٍ:
9 - قَال ابْنُ مُفْلِحٍ فِي الآْدَابِ الشَّرْعِيَّةِ: قَال الْقَاضِي أَبُو يَعْلَى: يُسْتَحَبُّ إِذَا وَجَدَ الْخَيْرَ فِي نَوْعٍ مِنَ التِّجَارَةِ أَنْ يَلْزَمَهُ، وَإِنْ قَصَدَ إِلَى جِهَةٍ مِنَ التِّجَارَةِ فَلَمْ يُقْسَمْ لَهُ فِيهَا رِزْقُهُ، عَدَل إِلَى غَيْرِهِ، لِمَا رَوَى ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا عَنْ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ مَرْفُوعًا: إِذَا رُزِقَ أَحَدُكُمْ فِي الْوَجْهِ مِنَ التِّجَارَةِ فَلْيَلْزَمْهُ (3) .
وَرَوَى ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ قَال: مَنِ اتَّجَرَ فِي شَيْءٍ ثَلاَثَ مَرَّاتٍ، فَلَمْ يُصِبْ فِيهِ فَلْيَتَحَوَّل إِلَى غَيْرِهِ (4) . وَقَال عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ: مَنِ اتَّجَرَ فِي شَيْءٍ ثَلاَثَ مَرَّاتٍ فَلَمْ يُصِبْ فِيهِ، فَلْيَتَحَوَّل إِلَى غَيْرِهِ (5) .
__________
(1) انظر: حاشية الدسوقي 2 / 25، والبهجة شرح التحفة 1 / 261، والمغني 7 / 377، والآداب الشرعية لابن مفلح 3 / 302، 303، والقليوبي 3 / 235، ونهاية المحتاج 6 / 254، وروضة الطالبين 7 / 82، ومغني المحتاج 3 / 167، والبحر الرائق 3 / 143، وابن عابدين 2 / 321، والجوهرة شرح القدوري 2 / 12
(2) الآداب الشرعية 3 / 305
(3) الآداب الشرعية 3 / 305
(4) كنز العمال 9865 ط دمشق
(5) الآداب الشرعية 2 / 305

(2/72)


وَلَكِنْ هَل لِهَذَا التَّحَوُّل أَثَرٌ فِي الْكَفَاءَةِ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ فِي الْحِرْفَةِ؟ (ر: كَفَاءَةٌ. نِكَاحٌ)

الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ لِلاِحْتِرَافِ تَفْصِيلاً:
10 - أ - يُنْدَبُ لِلْمَرْءِ أَنْ يَخْتَارَ حِرْفَةً لِكَسْبِ رِزْقِهِ، قَال عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ: إِنِّي لأََرَى الرَّجُل فَيُعْجِبُنِي، فَأَقُول: لَهُ حِرْفَةٌ؟ فَإِنْ قَالُوا: لاَ، سَقَطَ مِنْ عَيْنِي (1) .
ب - وَيَجِبُ - عَلَى الْكِفَايَةِ - أَنْ يَتَوَفَّرَ فِي بِلاَدِ الْمُسْلِمِينَ أُصُول الْحِرَفِ جَمِيعِهَا، احْتِيجَ إِلَيْهَا أَوْ لاَ. قَال ابْنُ تَيْمِيَّةَ: قَال غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ وَغَيْرُهُمْ كَالْغَزَالِيِّ، وَابْنِ الْجَوْزِيِّ، وَغَيْرِهِمْ: إِنَّ هَذِهِ الصِّنَاعَاتِ فَرْضٌ عَلَى الْكِفَايَةِ، فَإِنَّهُ لاَ تَتِمُّ مَصْلَحَةُ النَّاسِ إِلاَّ بِهَا. (2)
وَقَدِ اخْتَارَ ابْنُ تَيْمِيَّةَ أَنَّ احْتِرَافَ بَعْضِ الْحِرَفِ يُصْبِحُ فَرْضَ كِفَايَةٍ إِذَا احْتَاجَ الْمُسْلِمُونَ إِلَيْهَا، فَإِنِ اسْتَغْنَوْا عَنْهَا بِمَا يَجْلِبُونَهُ أَوْ يُجْلَبُ إِلَيْهِمْ فَقَدْ سَقَطَ وُجُوبُ احْتِرَافِهَا (3) . فَإِذَا امْتَنَعَ الْمُحْتَرِفُونَ عَنِ الْقِيَامِ بِهَذَا الْفَرْضِ أَجْبَرَهُمُ الإِْمَامُ عَلَيْهِ بِعِوَضِ الْمِثْل. قَال ابْنُ تَيْمِيَّةَ: إِنَّ هَذِهِ الأَْعْمَال الَّتِي هِيَ فَرْضٌ عَلَى الْكِفَايَةِ مَتَى لَمْ يَقُمْ بِهَا إِلاَّ إِنْسَانٌ بِعَيْنِهِ صَارَتْ فَرْضَ عَيْنٍ عَلَيْهِ، إِنْ كَانَ غَيْرُهُ عَاجِزًا عَنْهَا، فَإِذَا كَانَ النَّاسُ مُحْتَاجِينَ إِلَى فِلاَحَةِ قَوْمٍ أَوْ نِسَاجَتِهِمْ أَوْ بِنَائِهِمْ
__________
(1) كنز العمال برقم 9859
(2) فتاوى ابن تيمية 28 / 79، 29 / 194 ط مطابع الرياض 1383 هـ
(3) فتاوى ابن تيمية 28 / 82، 86 و 29 / 194 والآداب الشرعية 3 / 305

(2/72)


صَارَ هَذَا الْعَمَل وَاجِبًا يُجْبِرُهُمْ وَلِيُّ الأَْمْرِ عَلَيْهِ إِذَا امْتَنَعُوا عَنْهُ بِعِوَضِ الْمِثْل، وَلاَ يُمَكِّنُهُمْ مِنْ مُطَالَبَةِ النَّاسِ بِزِيَادَةٍ عَنْ عِوَضِ الْمِثْل (1) .
11 - ج - وَلَمَّا كَانَ إِقَامَةُ الصِّنَاعَاتِ فَرْضَ كِفَايَةٍ كَانَ تَوْفِيرُ الْمُحْتَرِفِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ فِي هَذِهِ الصِّنَاعَاتِ فَرْضًا، لأَِنَّ مَا لاَ يَتِمُّ الْوَاجِبُ إِلاَّ بِهِ فَهُوَ وَاجِبٌ، وَهُوَ مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الشَّافِعِيَّةُ، قَال الْقَلْيُوبِيُّ فِي حَاشِيَتِهِ مَا مُفَادُهُ: يَجِبُ أَنْ يُسَلِّمَ الْوَلِيُّ الصَّغِيرَ لِذِي حِرْفَةٍ يَتَعَلَّمُ مِنْهُ الْحِرْفَةَ (2) . وَرَغْمَ أَنَّ الْحَنَفِيَّةَ وَالْمَالِكِيَّةَ وَالْحَنَابِلَةَ لَمْ يَنُصُّوا عَلَى وُجُوبِ دَفْعِ الْوَلِيِّ الصَّغِيرَ إِلَى مَنْ يُعَلِّمُهُ الْحِرْفَةَ إِلاَّ أَنَّ كَلاَمَهُمْ يَقْتَضِي ذَلِكَ. (3)

حُكْمُ الْحِرَفِ الدَّنِيئَةِ:
12 - د - وَجُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ عَلَى أَنَّ الْمَكَاسِبَ غَيْرَ الْمُحَرَّمَةِ كُلُّهَا فِي الإِْبَاحَةِ سَوَاءٌ (4) . وَلَكِنَّ هَذِهِ الإِْبَاحَةَ تَكْتَنِفُهَا الْكَرَاهَةُ إِذَا اخْتَارَ الْمَرْءُ لِنَفْسِهِ أَوْ وَلَدِهِ حِرْفَةً دَنِيئَةً إِنْ وَسِعَهُ احْتِرَافُ مَا هُوَ أَصْلَحُ مِنْهَا (5) . وَمَعَ هَذَا فَقَدْ قَال عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: مَكْسَبَةٌ فِيهَا بَعْضُ الدَّنَاءَةِ خَيْرٌ مِنْ مَسْأَلَةِ النَّاسِ (6) . وَقَال ابْنُ عَقِيلٍ: يُكْرَهُ تَعَلُّمُ الصَّنَائِعِ الرَّدِيئَةِ مَعَ إِمْكَانِ مَا هُوَ أَصْلَحُ مِنْهَا (7) . وَنَصَّ الشَّافِعِيَّةُ عَلَى زَوَال هَذِهِ
__________
(1) فتاوى ابن تيميه 28 / 82، 86
(2) حاشية القليوبي 4 / 91
(3) حاشية ابن عابدين 2 / 642 و 671، والمغني 9 / 304، والخرشي 3 / 348
(4) المبسوط 30 / 258، وحاشية ابن عابدين 5 / 297
(5) انظر: الآداب الشرعية 3 / 305، والقليوبي 4 / 91، والمبسوط 30 / 258
(6) كنز العمال برقم 9854
(7) الآداب الشرعية 3 / 305

(2/73)


الْكَرَاهَةِ إِذَا كَانَتِ الْحِرْفَةُ الدَّنِيئَةُ هِيَ حِرْفَةُ أَبِيهِ (1) . وَنَصَّ ابْنُ مُفْلِحٍ الْحَنْبَلِيُّ عَلَى زَوَال هَذِهِ الْكَرَاهَةِ إِذَا احْتَرَفَ الْمَرْءُ حِرْفَةً دَنِيئَةً لِلْقِيَامِ بِفَرْضِ الْكِفَايَةِ (2) .
وَقَال بَعْضُ الْمُتَشَدِّدِينَ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ: مَا يَرْجِعُ إِلَى الدَّنَاءَةِ مِنَ الْمَكَاسِبِ فِي عُرْفِ النَّاسِ لاَ يَسَعُ الإِْقْدَامُ عَلَيْهِ إِلاَّ عِنْدَ الضَّرُورَةِ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَيْسَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يُذِل نَفْسَهُ (3) . وَقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ مَعَالِيَ الأُْمُورِ وَيُبْغِضُ سَفْسَافَهَا (4) وَلَكِنَّ الصَّحِيحَ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ الأَْوَّل (5) .

الْحِرَفُ الْمَحْظُورَةُ:
13 - أ - الأَْصْل أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ احْتِرَافُ عَمَلٍ مُحَرَّمٍ بِذَاتِهِ، وَمِنْ هُنَا مُنِعَ الاِتِّجَارُ بِالْخَمْرِ وَاحْتِرَافُ الْكِهَانَةِ.
ب - كَمَا لاَ يَجُوزُ احْتِرَافُ مَا يُؤَدِّي إِلَى الْحَرَامِ أَوْ مَا يَكُونُ فِيهِ إِعَانَةٌ عَلَيْهِ، كَالْوَشْمِ: لِمَا فِيهِ مِنْ تَغْيِيرِ خَلْقِ اللَّهِ وَكَكِتَابَةِ الرِّبَا: لِمَا فِيهِ مِنَ الإِْعَانَةِ عَلَى أَكْل أَمْوَال النَّاسِ بِالْبَاطِل وَنَحْوِ ذَلِكَ. وَتَعَرَّضَ الْفُقَهَاءُ إِلَى اتِّخَاذِ حِرَفٍ يَتَكَسَّبُ مِنْهَا الْمُحْتَرِفُ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَبْذُل فِيهَا جَهْدًا، أَوْ يَزِيدَ زِيَادَةً،
__________
(1) (القليوبي 4 / 91)
(2) الآداب الشرعية 3 / 305
(3) " ليس لمؤمن. . . " رواه الترمذي بلفظ " لا ينبغي لمؤمن. . . " وقال: حسن غريب. وضعفه غير الترمذي. ورواه أحمد وابن ماجه. انظر تحفة الأحوذي 6 / 531
(4) رواه البيهقي بسند رجاله ثقات. (فيض القدير 2 / 296)
(5) (انظر المبسوط 30 / 258)

(2/73)


كَالْخَيَّاطِ يَتَسَلَّمُ الثَّوْبَ لِيَخِيطَهُ بِدِينَارَيْنِ فَيُعْطِيَهُ لِمَنْ يَخِيطَهُ بِدِينَارٍ وَيَأْخُذَ الْفَرْقَ.
فَذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى جَوَازِ ذَلِكَ؛ لأَِنَّ مِثْل هَذِهِ الإِْجَارَةِ كَالْبَيْعِ، وَبَيْعُ الْمَبِيعِ يَجُوزُ بِرَأْسِ الْمَال وَبِأَقَل مِنْهُ وَبِأَكْثَرَ، فَكَذَلِكَ الإِْجَارَةُ إِلاَّ أَنَّ الْحَنَفِيَّةَ نَصُّوا عَلَى أَنَّهُ إِذَا كَانَتِ الأُْجْرَةُ الثَّانِيَةُ مِنْ جِنْسِ الأُْجْرَةِ الأُْولَى فَإِنَّ الزِّيَادَةَ لاَ تَطِيبُ لَهُ إِلاَّ إِذَا بَذَل جَهْدًا أَوْ زَادَ زِيَادَةً، فَإِنَّهَا تَطِيبُ وَلَوِ اتَّحَدَ الْجِنْسُ (1) .

آثَارُ الاِحْتِرَافِ:
14 - أ - يُعْطَى الْفَقِيرُ الْمُحْتَرِفُ الَّذِي لاَ يَمْلِكُ آلاَتِ حِرْفَتِهِ مِنَ الزَّكَاةِ مَا يَشْتَرِي بِهِ آلَةَ حِرْفَتِهِ (2) . وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي (زَكَاةٌ) .
ب - إِذَا فَعَل الْمُحْتَرِفُ فِعْلاً فِي حُدُودِ حِرْفَتِهِ، فَأَخْطَأَ فِيهِ خَطَأً يُحْتَمَل أَنْ يُخْطِئَ فِيهِ الْمُحْتَرِفُونَ، فَلاَ ضَمَانَ عَلَيْهِ، كَالطَّبِيبِ. أَمَّا مَنْ عَدَاهُ فَيَضْمَنُ (3) . وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي بَابِ الضَّمَانِ.
ج - يَرَى بَعْضُ الْفُقَهَاءِ جَوَازَ إِفْطَارِ رَمَضَانَ لِمَنْ يَحْتَرِفُ حِرْفَةً شَاقَّةً يَتَعَذَّرُ عَلَيْهِ الصِّيَامُ مَعَهَا، وَلَيْسَ بِإِمْكَانِهِ تَرْكُهَا فِي رَمَضَانَ (4) .
د - لِلْمُعْتَدَّةِ - وَلاَ سِيَّمَا الْمُحْتَرِفَةِ - الْخُرُوجُ فِي
__________
(1) المهذب 1 / 410 ط دار المعرفة، والحطاب 6 / 417، والمواق 6 / 407، والقواعد لابن رجب 197، والمغني 5 / 479، والفتاوى الهندية 4 / 425
(2) الغرر البهية شرح البهجة 4 / 72، ومغني المحتاج 3 / 115، وإعانة الطالبين 2 / 189، وحاشية ابن عابدين 2 / 22
(3) معين الحكام 237، 238، وحاشية القليوبي 4 / 209، وأسنى المطالب 4 / 166، والمغني 8 / 328
(4) حاشية ابن عابدين 2 / 114

(2/74)


حَوَائِجِهَا نَهَارًا سَوَاءٌ أَكَانَتْ مُطَلَّقَةً أَوْ مُتَوَفًّى عَنْهَا وَلَيْسَ لَهَا الْمَبِيتُ فِي غَيْرِ بَيْتِهَا وَلاَ الْخُرُوجُ لَيْلاً إِلاَّ لِضَرُورَةٍ (1) . وَتَفْصِيلُهُ فِي (عِدَّةٌ) (وَإِحْدَادٌ) .
هـ - لِلاِحْتِرَافِ أَثَرٌ فِي الْكَفَاءَةِ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ وَتَفْصِيلُهُ فِي (نِكَاحٌ) ،
و لِلاِحْتِرَافِ أَثَرٌ فِي تَخْفِيفِ بَعْضِ الأَْحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ، كَالتَّرْخِيصِ لِلْقَصَّابِ بِالصَّلاَةِ فِي ثِيَابِ مِهْنَتِهِ مَعَ مَا عَلَيْهَا مِنَ الدَّمِ، مَا لَمْ يَفْحُشْ. وَتَفْصِيلُهُ فِي (نَجَاسَةٌ - مَا يُعْفَى عَنْهُ مِنَ النَّجَاسَاتِ) .

احْتِسَابٌ

التَّعْرِيفُ:
1 - تَأْتِي كَلِمَةُ " احْتِسَابٍ " فِي اللُّغَةِ بِمَعَانٍ عَدِيدَةٍ مِنْهَا:
أ - الاِعْتِدَادُ بِالشَّيْءِ، مِنَ الْحَسْبِ، وَهُوَ الْعَدُّ.
ب - طَلَبُ الثَّوَابِ، وَقَدِ اسْتَعْمَل الْفُقَهَاءُ هَذَا اللَّفْظَ بِهَذَيْنِ الْمَعْنَيَيْنِ كِلَيْهِمَا، عَلَى أَنَّهُ عِنْدَ الإِْطْلاَقِ يَنْصَرِفُ إِلَى مَعْنَى طَلَبِ الثَّوَابِ (2) .

الاِحْتِسَابُ بِمَعْنَى الاِعْتِدَادِ أَوِ الاِعْتِبَارِ:
2 - يُطْلِقُ الْفُقَهَاءُ كَلِمَةَ " احْتِسَابٍ " عِنْدَمَا يَأْتِي الْمُكَلَّفُ بِالْفِعْل عَلَى غَيْرِ وَجْهِ الْكَمَال، وَمَعَ ذَلِكَ فَإِنَّ
__________
(1) المغني مع الشرح الكبير 9 / 176
(2) المصباح المنير مادة (حسب)

(2/74)


الشَّارِعَ يَعْتَبِرُهُ صَحِيحًا مَقْبُولاً (1) .
فَالْمَسْبُوقُ فِي الصَّلاَةِ إِذَا أَدْرَكَ الرُّكُوعَ مَعَ الإِْمَامِ احْتُسِبَتْ لَهُ رَكْعَةٌ، وَإِنْ لَمْ يَأْتِ بِالْفَرَائِضِ الَّتِي قَبْلَهُ، وَمَنْ دَخَل الْمَسْجِدَ، فَرَأَى الْجَمَاعَةَ قَائِمَةً لِصَلاَةِ الظُّهْرِ فَنَوَى تَحِيَّةَ الْمَسْجِدِ وَصَلاَةَ الظُّهْرِ وَدَخَل مَعَهُمْ فِي صَلاَتِهِمْ، احْتُسِبَتْ لَهُ تِلْكَ الصَّلاَةُ تَحِيَّةَ مَسْجِدٍ وَصَلاَةَ ظُهْرٍ. وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي " الصَّلاَةِ ".

الاِحْتِسَابُ بِمَعْنَى طَلَبِ الثَّوَابِ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى:
3 - طَلَبُ الثَّوَابِ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى بِالاِحْتِسَابِ يَتَحَقَّقُ فِي أُمُورٍ كَثِيرَةٍ مِنْهَا:
أ - تَنَازُل الْمُسْلِمِ عَنْ حَقِّهِ الْمُتَرَتِّبِ عَلَى الْغَيْرِ طَلَبًا لِثَوَابِ اللَّهِ تَعَالَى، لاَ عَجْزًا (2) ، كَعِتْقِ الرَّقِيقِ، احْتِسَابًا، وَوَضْعِ السَّيِّدِ بَعْضَ مَال الْكِتَابَةِ احْتِسَابًا (3) وَالْعَفْوِ عَنِ الْقِصَاصِ دُونَ مُقَابِلٍ احْتِسَابًا، وَإِرْضَاعِ الصَّغِيرِ دُونَ مُقَابِلٍ احْتِسَابًا.
ب - أَدَاءُ حَقٍّ مِنْ حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى الْمَحْضَةِ كَالصَّلاَةِ، وَالصَّوْمِ، وَأَدَاءِ الشَّهَادَةِ دُونَ طَلَبٍ فِي حَقٍّ مِنْ حُقُوقِ اللَّهِ الْمَحْضَةِ، وَفِيمَا لِلَّهِ تَعَالَى فِيهِ حَقٌّ
__________
(1) المغني 1 / 504 وما بعدها، وجواهر الإكليل 1 / 399، 84، 46، وحاشية ابن عابدين 1 / 456، وحاشية القليوبي 1 / 215
(2) المغني 7 / 629
(3) انظر القليوبي 4 / 366

(2/75)


غَالِبٌ مُؤَكَّدٌ (1) ، وَهُوَ مَا لاَ يَتَأَثَّرُ بِرِضَا الآْدَمِيِّ - كَطَلاَقٍ، وَعِتْقٍ، وَعَفْوٍ عَنْ قِصَاصٍ، وَبَقَاءِ عِدَّةٍ، وَانْقِضَائِهَا، وَحَدٍّ، وَنَسَبٍ.
وَقَدْ فَصَّل الْفُقَهَاءُ الْقَوْل فِي ذَلِكَ فِي كِتَابِ الشَّهَادَاتِ عِنْدَ كَلاَمِهِمْ عَلَى مَا يُؤَدَّى حِسْبَةً مِنَ الشَّهَادَاتِ، وَمَا يَتَّصِل بِأَحْكَامِ الْمُحْتَسِبِ يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ " حِسْبَةٌ ".

احْتِشَاشٌ

التَّعْرِيفُ:
1 - الاِحْتِشَاشُ مَعْنَاهُ فِي اللُّغَةِ طَلَبُ الْحَشِيشِ وَجَمْعُهُ، وَالْحَشِيشُ يَابِسُ الْكَلأَِ. قَال الأَْزْهَرِيُّ: لاَ يُقَال لِلرَّطْبِ حَشِيشٌ (2) .
وَاصْطِلاَحًا: قَطْعُ الْحَشِيشِ، سَوَاءٌ أَكَانَ يَابِسًا أَمْ رَطْبًا. وَإِطْلاَقُهُ فِي الرَّطْبِ مِنْ قَبِيل الْمَجَازِ، بِاعْتِبَارِ مَا يَؤُول إِلَيْهِ. (3)

الْحُكْمُ الإِْجْمَالِيُّ:
2 - اتَّفَقَتِ الْمَذَاهِبُ فِي الْجُمْلَةِ عَلَى إِبَاحَةِ الاِحْتِشَاشِ، رَطْبًا كَانَ الْكَلأَُ أَوْ جَافًّا، فِي غَيْرِ
__________
(1) القليوبي 4 / 366، والبدائع 9 / 4049 ط مطبعة الإمام ومواهب الجليل 6 / 165 نشر مكتبة النجاح - ليبيا - والمغني 9 / 216 ط 3 المنار.
(2) لسان العرب (حشش)
(3) ابن عابدين 2 / 216

(2/75)


الْحَرَمِ، مَا دَامَ غَيْرَ مَمْلُوكٍ لأَِحَدٍ. أَمَّا إِذَا كَانَ مَمْلُوكًا فَلاَ يَجُوزُ احْتِشَاشُهُ إِلاَّ بِإِذْنِ مَالِكِهِ (1) . أَمَّا فِي الْحَرَمِ فَقَدِ اتَّفَقَتِ الْمَذَاهِبُ عَلَى أَنَّهُ لاَ يَحِل قَطْعُ حَشِيشِ الْحَرَمِ غَيْرِ الْمَمْلُوكِ لأَِحَدٍ، إِلاَّ أَنَّهُمْ أَبَاحُوا الإِْذْخِرَ وَمُلْحَقَاتِهِ وَالسِّوَاكَ وَالْعَوْسَجَ، وَقَدْ أَبَاحَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ فِي رَأْيٍ وَأَبُو يُوسُفَ فِي رَأْيٍ أَيْضًا الاِحْتِشَاشَ فِي الْحَرَمِ لِعَلَفِ الدَّوَابِّ. وَلِتَفْصِيل ذَلِكَ يُنْظَرُ الْجِنَايَاتُ فِي الإِْحْرَامِ (2) .

السَّرِقَةُ فِي الاِحْتِشَاشِ:
3 - قَال الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ، وَهُوَ رَأْيٌ لِلْحَنَابِلَةِ: تُقْطَعُ الْيَدُ فِي الْعُشْبِ الْمُحْتَشِّ إِذَا أُخِذَ مِنْ حِرْزٍ وَبَلَغَتْ قِيمَتُهُ نِصَابًا، وَقَال الْحَنَفِيَّةُ وَهُوَ رَأْيٌ لِلْحَنَابِلَةِ: لاَ قَطْعَ فِيهِ (3) .

حِمَايَةُ الْكَلأَِ مِنَ الاِحْتِشَاشِ:
4 - قَال الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَهُوَ رَأْيٌ لِلشَّافِعِيَّةِ أَنَّهُ يَجُوزُ لِلإِْمَامِ أَنْ يَمْنَعَ الاِحْتِشَاشَ فِي مَكَانٍ مُعَيَّنٍ يَجْعَلُهُ
__________
(1) ابن عابدين 5 / 283 ط الأول، والقليوبي وعميرة 3 / 95، والمغني 6 / 184 ط المنار.
(2) الهداية 1 / 175 ط مصطفى الحلبي، ونهاية المحتاج 3 / 343 ط مصطفى الحلبي، والمقنع 2 / 149، 183 ط السلفية، وبلغة السالك لأقرب المسالك 1 / 297 ط مصطفى الحلبي، وبدائع الصنائع 6 / 193 ط الجمالية.
(3) ابن عابدين 3 / 98 ط الأولى، والدسوقي 4 / 334 ط دار الفكر، وأسنى المطالب شرح روض الطالب 4 / 141 نشر المكتبة الإسلامية، والمغني 8 / 246 ط الرياض، وفتح القدير 4 / 226

(2/76)


حِمًى لِرَعْيِ خَيْل الْمُجَاهِدِينَ، وَلِمَا يُشْبِهُ ذَلِكَ مِنَ الْمَصَالِحِ الْعَامَّةِ. أَمَّا الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ فَهُمْ لاَ يُجِيزُونَ الْمَنْعَ مِنَ الاِحْتِشَاشِ.

الشَّرِكَةُ فِي الاِحْتِشَاشِ:
5 - الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ لاَ يُجِيزُونَ عَقْدَ الشَّرِكَةِ فِي تَحْصِيل الْمُبَاحَاتِ الْعَامَّةِ وَلاَ التَّوْكِيل فِيهَا. وَالاِحْتِشَاشُ وَالاِحْتِطَابُ مِنْ هَذَا الْقَبِيل. أَمَّا الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ فَقَدْ أَجَازُوا ذَلِكَ. وَلِتَفْصِيل ذَلِكَ يُرْجَعُ إِلَى أَبْوَابِ الشَّرِكَةِ وَالْوَكَالَةِ (1) .

احْتِضَارٌ

التَّعْرِيفُ:
1 - الاِحْتِضَارُ لُغَةً: الإِْشْرَافُ عَلَى الْمَوْتِ بِظُهُورِ عَلاَمَاتِهِ. وَقَدْ يُطْلَقُ عَلَى الإِْصَابَةِ بِاللَّمَمِ أَوِ الْجُنُونِ، وَلاَ يَخْرُجُ مَعْنَاهُ فِي الاِصْطِلاَحِ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ الأَْوَّل (2) .

عَلاَمَاتُ الاِحْتِضَارِ:
2 - لِلاِحْتِضَارِ عَلاَمَاتٌ كَثِيرَةٌ يَعْرِفُهَا الْمُخْتَصُّونَ،
__________
(1) المغني 5 / 428 ط المنار، ورد المحتار 3 / 360، 361 ط الأولى، وفتح القدير 5 / 31، 32، والخرشي 4 / 267، 269، ومطالب أولي النهى 3 / 45، والقليوبي وعميرة 2 / 339 ط مصطفى الحلبي.
(2) تاج العروس، والمصباح، والمفردات للأصفهاني (حضر) ، وكفاية الطالب 1 / 312، ومجمع الأنهر 1 / 173

(2/76)


ذَكَرَ مِنْهَا الْفُقَهَاءُ: اسْتِرْخَاءَ الْقَدَمَيْنِ، وَاعْوِجَاجَ الأَْنْفِ، وَانْخِسَافَ الصُّدْغَيْنِ، وَامْتِدَادَ جِلْدَةِ الْوَجْهِ (1) .

مُلاَزَمَةُ أَهْل الْمُحْتَضَرِ لَهُ:
3 - يَجِبُ عَلَى أَقَارِبِ الْمُحْتَضَرِ أَنْ يُلاَزِمُوهُ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فَعَلَى أَصْحَابِهِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فَعَلَى جِيرَانِهِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فَعَلَى عُمُومِ الْمُسْلِمِينَ عَلَى وَجْهِ الْكِفَايَةِ، وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَلِيَهُ مِنْ أَقَارِبِهِ أَحْسَنُهُمْ خَلْقًا وَخُلُقًا وَدِينًا، وَأَرْفَقُهُمْ بِهِ، وَأَعْلَمُهُمْ بِسِيَاسَتِهِ، وَأَتْقَاهُمْ لِلَّهِ. وَنُدِبَ أَنْ يُحْضِرُوا عِنْدَهُ طِيبًا، وَأَنْ يُبْعِدُوا النِّسَاءَ لِقِلَّةِ صَبْرِهِنَّ، وَنُدِبَ إِظْهَارُ التَّجَلُّدِ لِمَنْ حَضَرَ مِنَ الرِّجَال (2) . وَلاَ بَأْسَ بِحُضُورِ الْحَائِضِ وَالنُّفَسَاءِ وَالْجُنُبِ عِنْدَ الْمُحْتَضَرِ وَقْتَ الْمَوْتِ، إِذْ إِنَّهُ قَدْ لاَ يُمْكِنُ مَنْعُهُنَّ، لِلشَّفَقَةِ، أَوْ لِلاِحْتِيَاجِ إِلَيْهِنَّ. وَعَنْ الْحَسَنِ أَنَّهُ كَانَ لاَ يَرَى بَأْسًا أَنْ تَحْضُرَ الْحَائِضُ الْمَيِّتَ (3) وَالْكَرَاهَةُ قَوْل الْحَنَابِلَةِ (4) . وَقَالَتِ الْمَالِكِيَّةُ: يُنْدَبُ تَجَنُّبُ حَائِضٍ وَجُنُبٍ وَتِمْثَالٍ وَآلَةِ لَهْوٍ (5) .

مَنْ يَجْرِي عَلَيْهِمْ حُكْمُ الاِحْتِضَارِ:
4 - يَجْرِي حُكْمُ الاِحْتِضَارِ عَلَى مَنْ قُدِّمَ لِلْقَتْل
__________
(1) الفتاوى الهندية 1 / 157، وفتح القدير 1 / 446
(2) كفاية الطالب 1 / 313، وبلغة السالك 1 / 227، وفتح القدير 1 / 446
(3) المصنف لابن أبي شيبة 4 / 75
(4) كشاف القناع 2 / 83
(5) مصنف ابن أبي شبة 4 / 87، وكفاية الطالب 1 / 313

(2/77)


حَدًّا، أَوْ قِصَاصًا، أَوْ ظُلْمًا، أَوْ مَنْ أُصِيبَ إِصَابَةً قَاتِلَةً (1) ، كَمَا يَجْرِي عَلَى مَنْ كَانَ عِنْدَ الْتِحَامِ صُفُوفِ الْمَعْرَكَةِ.

مَا يَفْعَلُهُ الْمُحْتَضَرُ:
5 - أ - يَنْبَغِي لِلْمُحْتَضَرِ تَحْسِينُ الظَّنِّ بِاللَّهِ تَعَالَى، فَيُنْدَبُ لِمَنْ حَضَرَتْهُ الْوَفَاةُ أَنْ يَرْجُوَ رَحْمَةَ رَبِّهِ وَمَغْفِرَتَهُ وَسَعَةَ عَفْوِهِ، زِيَادَةً عَلَى حَالَةِ الصِّحَّةِ، تَرْجِيحًا لِلرَّجَاءِ عَلَى الْخَوْفِ (2) ، لِمَا رُوِيَ عَنْ جَابِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَال: " سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُول قَبْل مَوْتِهِ بِثَلاَثٍ: لاَ يَمُوتَنَّ أَحَدُكُمْ إِلاَّ وَهُوَ يُحْسِنُ الظَّنَّ بِاللَّهِ تَعَالَى (3) وَلِخَبَرِ الشَّيْخَيْنِ فِي الْحَدِيثِ الْقُدُسِيِّ قَال اللَّهُ تَعَالَى: أَنَا عِنْدَ حُسْنِ ظَنِّ عَبْدِي بِي، فَلاَ يَظُنُّ بِي إِلاَّ خَيْرًا. وَلِحَدِيثِ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَخَل عَلَى شَابٍّ وَهُوَ بِالْمَوْتِ، فَقَال: كَيْفَ تَجِدُكَ؟ قَال: وَاللَّهِ يَا رَسُول اللَّهِ إِنِّي أَرْجُو اللَّهَ، وَإِنِّي أَخَافُ ذُنُوبِي، فَقَال رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لاَ يَجْتَمِعَانِ فِي قَلْبِ عَبْدٍ فِي مِثْل هَذَا الْمَوْطِنِ إِلاَّ أَعْطَاهُ اللَّهُ مَا يَرْجُو وَأَمَّنَهُ مِمَّا يَخَافُ. (4)
ب - وُجُوبُ الإِْيصَاءِ بِأَدَاءِ الْحُقُوقِ
__________
(1) حاشية الطحطاوي على مراقي الفلاح 305، والمغني6 / 505 والقليوبي 3 / 164
(2) حاشية الدسوقي على الشرح الكبير 1 / 414، وحاشية الجمل على شرح المنهج 1 / 138
(3) أخرجه مسلم.
(4) أخرجه ابن ماجه والترمذي عن أنس بسند حسن.

(2/77)


لأَِصْحَابِهَا (1) .
ج - تَوْصِيَةُ أَهْلِهِ بِاتِّبَاعِ مَا جَرَتْ بِهِ السُّنَّةُ فِي التَّجْهِيزِ وَالدَّفْنِ وَاجْتِنَابِ الْبِدَعِ فِي ذَلِكَ اتِّبَاعًا لأَِصْحَابِ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَدْ وَرَدَتِ الآْثَارُ الْكَثِيرَةُ عَنْهُمْ فِي هَذَا الْمَجَال، مِنْهَا مَا وَرَدَ عَنْ أَبِي بُرْدَةَ قَال: أَوْصَى أَبُو مُوسَى رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ حِينَ حَضَرَهُ الْمَوْتُ، قَال: إِذَا انْطَلَقْتُمْ بِجِنَازَتِي فَأَسْرِعُوا بِيَ الْمَشْيَ، وَلاَ تَتْبَعُونِي بِمُجَمِّرٍ، وَلاَ تَجْعَلُوا عَلَى لَحْدِي شَيْئًا يَحُول بَيْنِي وَبَيْنَ التُّرَابِ، وَلاَ تَجْعَلُوا عَلَى قَبْرِي بِنَاءً. وَأُشْهِدُكُمْ أَنِّي بَرِيءٌ مِنْ كُل حَالِقَةٍ (2) أَوْ سَالِقَةٍ أَوْ خَارِقَةٍ (3) . قَالُوا: سَمِعْتَ فِيهِ شَيْئًا؟ قَال: نَعَمْ مِنْ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (4) .
د - التَّوْصِيَةُ لأَِقْرِبَائِهِ الَّذِينَ لاَ يَرِثُونَ مِنْهُ، إِنْ لَمْ يَكُنْ وَصَّى لَهُمْ فِي حَال صِحَّتِهِ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالأَْقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ (5) } . وَلِحَدِيثِ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَال: كُنْتُ مَعَ رَسُول اللَّهِ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ، فَمَرِضْتُ مَرَضًا أَشْفَيْتُ مِنْهُ عَلَى الْمَوْتِ، فَعَادَنِي رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقُلْتُ: يَا رَسُول اللَّهِ إِنَّ لِي مَالاً كَثِيرًا، وَلَيْسَ يَرِثُنِي إِلاَّ ابْنَةٌ لِي، أَفَأُوصِي بِثُلُثَيْ مَالِي؟ قَال: لاَ. قُلْتُ: بِشَطْرِ
__________
(1) الاختيار 5 / 72 - 76، وكشاف القناع 4 / 335، 351، ومغني المحتاج، وشرح الروض 3 / 67
(2) التي تحلق شعرها عند المصيبة.
(3) السالقة: هي التي ترفع صوتها عند المصيبة. والخارقة: التي تخرق ثوبها.
(4) أخرجه أحمد والبيهقي وابن ماجه بسند حسن
(5) سورة البقرة / 180

(2/78)


مَالِي؟ قَال: لاَ. قُلْتُ: فَثُلُثُ مَالِي؟ قَال: الثُّلُثُ، وَالثُّلُثُ كَثِيرٌ، إِنَّكَ يَا سَعْدُ إِنْ تَدَعْ وَرَثَتَكَ أَغْنِيَاءَ خَيْرٌ لَكَ مِنْ أَنْ تَدَعَهُمْ عَالَةً يَتَكَفَّفُونَ النَّاسَ (1) .

التَّوْبَةُ إِلَى اللَّهِ:
6 - يَجِبُ عَلَى الْمُحْتَضَرِ وَمَنْ فِي حُكْمِهِ أَنْ يَتُوبَ إِلَى اللَّهِ مِنْ ذُنُوبِهِ قَبْل وُصُول الرُّوحِ إِلَى الْحُلْقُومِ؛ لأَِنَّ قُرْبَ الْمَوْتِ لاَ يَمْنَعُ مِنْ قَبُول التَّوْبَةِ، لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: إِنَّ اللَّهَ يَقْبَل تَوْبَةَ الْعَبْدِ مَا لَمْ يُغَرْغِرْ. (2) وَتَفْصِيل مَا يَتَّصِل بِالتَّوْبَةِ مِنْ أَحْكَامٍ فِي مُصْطَلَحِ " تَوْبَةٌ ".

تَصَرُّفَاتُ الْمُحْتَضَرِ وَمَنْ فِي حُكْمِهِ:
7 - يَجْرِي عَلَى تَصَرُّفَاتِ الْمُحْتَضَرِ وَمَنْ فِي حُكْمِهِ مَا يَجْرِي عَلَى تَصَرُّفَاتِ الْمَرِيضِ مَرَضَ الْمَوْتِ مِنْ أَحْكَامٍ، إِذَا كَانَ فِي وَعْيِهِ، وَتَفْصِيلُهُ فِي مُصْطَلَحِ " مَرَضُ الْمَوْتِ ".

مَا يُسَنُّ لِلْحَاضِرِينَ أَنْ يَفْعَلُوهُ عِنْدَ الاِحْتِضَارِ:

أَوَّلاً: التَّلْقِينُ:
8 - يَنْبَغِي تَلْقِينُ الْمُحْتَضَرِ: " لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ " لِقَوْل الرَّسُول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَقِّنُوا مَوْتَاكُمْ
__________
(1) أخرجه أحمد والشيخان.
(2) أخرجه أبو داود. وانظر حاشية ابن عابدين 1 / 570، وكشاف القناع 2 / 81

(2/78)


لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ. (1) قَال النَّوَوِيُّ: الْمُرَادُ بِالْمَوْتَى فِي الْحَدِيثِ الْمُحْتَضَرُونَ الَّذِينَ هُمْ فِي سِيَاقِ الْمَوْتِ، سُمُّوا مَوْتَى لِقُرْبِهِمْ مِنَ الْمَوْتِ، تَسْمِيَةً لِلشَّيْءِ بِاسْمِ مَا يَصِيرُ إِلَيْهِ مَجَازًا (2) .
وَظَاهِرُ الْحَدِيثِ يَقْتَضِي وُجُوبَ التَّلْقِينِ، وَإِلَيْهِ مَال الْقُرْطُبِيُّ، وَالَّذِي عَلَيْهِ الْجُمْهُورُ أَنَّهُ مَنْدُوبٌ، وَأَنَّهُ لاَ يُسَنُّ زِيَادَةُ " مُحَمَّدٌ رَسُول اللَّهِ " وَهُوَ مَا صَحَّحَهُ فِي الرَّوْضَةِ، وَالْمَجْمُوعِ (3) .
وَيَكُونُ التَّلْقِينُ قَبْل الْغَرْغَرَةِ، جَهْرًا وَهُوَ يَسْمَعُ؛ لأَِنَّ الْغَرْغَرَةَ تَكُونُ قُرْبَ كَوْنِ الرُّوحِ فِي الْحُلْقُومِ، وَحِينَئِذٍ لاَ يُمْكِنُ النُّطْقُ بِهَا (4) . وَالتَّلْقِينُ إِنَّمَا يَكُونُ لِمَنْ حَضَرَ عَقْلُهُ وَقَدَرَ عَلَى الْكَلاَمِ، فَإِنَّ شَارِدَ اللُّبِّ لاَ يُمْكِنُ تَلْقِينُهُ، وَالْعَاجِزُ عَنِ الْكَلاَمِ يُرَدِّدُ الشَّهَادَةَ فِي نَفْسِهِ. وَالْمُرَادُ بِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: لَقِّنُوا مَوْتَاكُمْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ ذَكِّرُوا الْمُحْتَضَرَ " لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ " لِكَيْ تَكُونَ آخِرَ كَلاَمِهِ، كَمَا فِي الْحَدِيثِ: مَنْ كَانَ آخِرُ كَلاَمِهِ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ دَخَل الْجَنَّةَ.
(5) وَيَرَى جَمَاعَةٌ أَنَّهُ يُلَقَّنُ الشَّهَادَةَ، وَقَالُوا: صُورَةُ التَّلْقِينِ أَنْ يُقَال عِنْدَهُ فِي حَالَةِ النَّزْعِ قَبْل الْغَرْغَرَةِ،
__________
(1) رواه مسلم وأبو داود والترمذي عن أبي سعيد الخدري.
(2) الفتاوى الهندية 1 / 157، وفتح القدير 1 / 466، ونهاية المحتاج 2 / 428
(3) نهاية المحتاج شرح المنهاج 2 / 428
(4) حاشية ابن عابدين 1 / 570 وما بعدها.
(5) رواه أبو داود وصححه الحاكم عن معاذ بن جبل.

(2/79)


جَهْرًا وَهُوَ يَسْمَعُ: " أَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُول اللَّهِ " وَلاَ يُقَال لَهُ: قُل، وَلاَ يُلَحُّ عَلَيْهِ فِي قَوْلِهَا، مَخَافَةَ أَنْ يَضْجَرَ فَيَأْتِي بِكَلاَمٍ غَيْرِ لاَئِقٍ. فَإِذَا قَالَهَا مَرَّةً لاَ يُعِيدُهَا عَلَيْهِ الْمُلَقِّنُ، إِلاَّ أَنْ يَتَكَلَّمَ بِكَلاَمٍ غَيْرِهَا. وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَكُونَ الْمُلَقِّنُ غَيْرَ مُتَّهَمٍ بِالْمَسَرَّةِ بِمَوْتِهِ، كَعَدُوٍّ أَوْ حَاسِدٍ أَوْ وَارِثٍ غَيْرِ وَلَدِهِ، وَأَنْ يَكُونَ مِمَّنْ يُعْتَقَدُ فِيهِ الْخَيْرُ. وَإِذَا ظَهَرَتْ مِنَ الْمُحْتَضَرِ كَلِمَاتٌ تُوجِبُ الْكُفْرَ لاَ يُحْكَمُ بِكُفْرِهِ، وَيُعَامَل مُعَامَلَةَ مَوْتَى الْمُسْلِمِينَ (1) .

ثَانِيًا: قِرَاءَةُ الْقُرْآنِ:
9 - يُنْدَبُ قِرَاءَةُ سُورَةِ (يس) عِنْدَ الْمُحْتَضَرِ، لِمَا رَوَى أَحْمَدُ فِي مُسْنَدِهِ عَنْ صَفْوَانَ، قَال: " كَانَتِ الْمَشْيَخَةُ يَقُولُونَ: إِذَا قُرِئَتْ (يس) عِنْدَ الْمَوْتِ خُفِّفَ عَنْهُ بِهَا. وَأَسْنَدَهُ صَاحِبُ مُسْنَدِ الْفِرْدَوْسِ إِلَى أَبِي الدَّرْدَاءِ وَأَبِي ذَرٍّ، قَالاَ: قَال رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَا مِنْ مَيِّتٍ يَمُوتُ فَتُقْرَأُ عِنْدَهُ يس إِلاَّ هَوَّنَ اللَّهُ عَلَيْهِ.
قَال ابْنُ حِبَّانَ: أَرَادَ بِهِ مَنْ حَضَرَتْهُ الْمَنِيَّةُ، لاَ أَنَّ الْمَيِّتَ يُقْرَأُ عَلَيْهِ. وَبِهِ قَال الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ (2) . وَزَادَتِ الْحَنَابِلَةُ قِرَاءَةَ الْفَاتِحَةِ. وَقَال الشَّعْبِيُّ: " كَانَ الأَْنْصَارُ يَقْرَءُونَ عِنْدَ
__________
(1) المغني لابن قدامة 1 / 303، والفتاوى الهندية 1 / 157، ونهاية المحتاج 2 / 428
(2) الفتاوى الهندية 1 / 157، والمغني 2 / 303، ونهاية المحتاج 2 / 428

(2/79)


الْمَيِّتِ بِسُورَةِ الْبَقَرَةِ ".
وَعَنْ جَابِرِ بْنِ زَيْدٍ أَنَّهُ كَانَ يَقْرَأُ عِنْدَ الْمَيِّتِ سُورَةَ الرَّعْدِ (1) . وَقَالَتِ الْمَالِكِيَّةُ: يُكْرَهُ قِرَاءَةُ شَيْءٍ مِنَ الْقُرْآنِ عِنْدَ الْمَوْتِ وَبَعْدَهُ وَعَلَى الْقُبُورِ؛ لأَِنَّهُ لَيْسَ مِنْ عَمَل السَّلَفِ (2) .

ثَالِثًا: التَّوْجِيهُ:
10 - يُوَجَّهُ الْمُحْتَضَرُ لِلْقِبْلَةِ عِنْدَ شُخُوصِ بَصَرِهِ إِلَى السَّمَاءِ، لاَ قَبْل ذَلِكَ، لِئَلاَّ يُفْزِعَهُ، وَيُوَجَّهُ إِلَيْهَا مُضْطَجِعًا عَلَى شِقِّهِ الأَْيْمَنِ اعْتِبَارًا بِحَال الْوَضْعِ فِي الْقَبْرِ؛ لأَِنَّهُ أَشْرَفُ عَلَيْهِ (3) . وَفِي تَوْجِيهِ الْمُحْتَضَرِ إِلَى الْقِبْلَةِ وَرَدَ: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا قَدِمَ الْمَدِينَةَ سَأَل عَنِ الْبَرَاءِ بْنِ مَعْرُورٍ. فَقَالُوا: تُوُفِّيَ وَأَوْصَى بِثُلُثِ مَالِهِ لَكَ، وَأَنْ يُوَجَّهَ لِلْقِبْلَةِ لَمَّا احْتُضِرَ. فَقَال النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَصَابَ الْفِطْرَةَ، وَقَدْ رَدَدْتُ ثُلُثَ مَالِهِ عَلَى وَلَدِهِ، ثُمَّ ذَهَبَ فَصَلَّى عَلَيْهِ، وَقَال: اللَّهُمَّ اغْفِرْ لَهُ وَارْحَمْهُ وَأَدْخِلْهُ جَنَّتَكَ، وَقَدْ فَعَلْتَ (4) . قَال الْحَاكِمُ: وَلاَ أَعْلَمُ فِي تَوْجِيهِ الْمُحْتَضَرِ إِلَى الْقِبْلَةِ غَيْرَهُ.
وَفِي اضْطِجَاعِهِ عَلَى شِقِّهِ الأَْيْمَنِ قِيل: يُمْكِنُ الاِسْتِدْلاَل عَلَيْهِ بِحَدِيثِ النَّوْمِ، فَعَنِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال:
__________
(1) المصنف لابن أبي شيبة.
(2) الشرح الصغير 1 / 228
(3) فتح القدير 1 / 446، وبدائع الصنائع 1 / 299
(4) رواه البيهقي والحاكم وصححه عن أبي قتادة.

(2/80)


إِذَا أَتَيْتَ مَضْجَعَكَ فَتَوَضَّأْ وُضُوءَكَ لِلصَّلاَةِ، ثُمَّ اضْطَجِعْ عَلَى شِقِّكَ الأَْيْمَنِ، وَقُل: اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْلَمْتُ نَفْسِي إِلَيْكَ. . . إِلَى أَنْ قَال: فَإِنْ مِتَّ مِتَّ عَلَى الْفِطْرَةِ (1) وَلَيْسَ فِيهِ ذِكْرُ الْقِبْلَةِ.
وَلَمْ يَذْكُرِ ابْنُ شَاهِينَ فِي بَابِ الْمُحْتَضَرِ مِنْ كِتَابِ الْجَنَائِزِ لَهُ غَيْرَ أَثَرٍ عَنْ إِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ قَال: " يُسْتَقْبَل بِالْمَيِّتِ الْقِبْلَةُ " وَزَادَ عَطَاءُ بْنُ أَبِي رَبَاحٍ: " عَلَى شِقِّهِ الأَْيْمَنِ. مَا عَلِمْتُ أَحَدًا تَرَكَهُ مِنْ مَيِّتٍ "، وَلأَِنَّهُ قَرِيبٌ مِنَ الْوَضْعِ فِي الْقَبْرِ، وَمِنَ اضْطِجَاعِهِ فِي مَرَضِهِ، وَالسُّنَّةُ فِيهِمَا ذَلِكَ، فَكَذَلِكَ فِيمَا قَرُبَ مِنْهُمَا. وَيُسْتَدَل عَلَيْهِ أَيْضًا بِمَا رَوَى أَحْمَدُ أَنَّ فَاطِمَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا عِنْدَ مَوْتِهَا اسْتَقْبَلَتِ الْقِبْلَةَ، ثُمَّ تَوَسَّدَتْ يَمِينَهَا.
وَيَصِحُّ أَنْ يُوَجَّهَ الْمُحْتَضَرُ إِلَى الْقِبْلَةِ مُسْتَلْقِيًا عَلَى ظَهْرِهِ، فَذَلِكَ أَسْهَل لِخُرُوجِ الرُّوحِ، وَأَيْسَرُ لِتَغْمِيضِهِ وَشَدِّ لَحْيَيْهِ، وَأَمْنَعُ مِنْ تَقَوُّسِ أَعْضَائِهِ، ثُمَّ إِذَا أُلْقِيَ عَلَى الْقَفَا يُرْفَعُ رَأْسُهُ قَلِيلاً لِيَصِيرَ وَجْهُهُ إِلَى الْقِبْلَةِ دُونَ السَّمَاءِ (2) .
وَيَقُول بَعْضُ الْفُقَهَاءِ: إِنَّهُ لَمْ يَصِحَّ حَدِيثٌ فِي تَوْجِيهِ الْمُحْتَضَرِ إِلَى الْقِبْلَةِ، بَل كَرِهَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ تَوْجِيهَهُ إِلَيْهَا. فَقَدْ وَرَدَ عَنْ زُرْعَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ: " أَنَّهُ شَهِدَ سَعِيدَ بْنَ الْمُسَيِّبِ فِي مَرَضِهِ، وَعِنْدَهُ أَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، فَغُشِيَ عَلَى سَعِيدٍ، فَأَمَرَ أَبُو سَلَمَةَ أَنْ يُحَوَّل فِرَاشُهُ إِلَى الْكَعْبَةِ، فَأَفَاقَ، فَقَال: حَوَّلْتُمْ فِرَاشِي؟ قَالُوا: نَعَمْ، فَنَظَرَ إِلَى أَبِي سَلَمَةَ
__________
(1) أخرجه البخاري ومسلم.
(2) فتح القدير 1 / 446، والهندية 1 / 154

(2/80)


فَقَال: أَرَاهُ بِعِلْمِكَ، فَقَال: أَنَا أَمَرْتُهُمْ. فَأَمَرَ سَعِيدٌ أَنْ يُعَادَ فِرَاشُهُ (1) ".

رَابِعًا: بَل حَلْقِ الْمُحْتَضَرِ بِالْمَاءِ:
11 - يُسَنُّ لِلْحَاضِرِينَ أَنْ يَتَعَاهَدُوا بَل حَلْقِ الْمُحْتَضَرِ بِمَاءٍ أَوْ شَرَابٍ، وَأَنْ يَتَعَاهَدُوا تَنْدِيَةَ شَفَتَيْهِ بِقُطْنَةٍ لأَِنَّهُ رُبَّمَا يَنْشَفُ حَلْقُهُ مِنْ شِدَّةِ مَا نَزَل بِهِ فَيَعْجِزُ عَنِ الْكَلاَمِ. وَتَعَاهُدُهُ بِذَلِكَ يُطْفِئُ مَا نَزَل بِهِ مِنَ الشِّدَّةِ، وَيُسَهِّل عَلَيْهِ النُّطْقَ بِالشَّهَادَةِ (2) .

خَامِسًا: ذِكْرُ اللَّهِ تَعَالَى:
12 - يُسْتَحَبُّ لِلصَّالِحِينَ مِمَّنْ يَحْضُرُونَ عِنْدَ الْمُحْتَضَرِ أَنْ يَذْكُرُوا اللَّهَ تَعَالَى، وَأَنْ يُكْثِرُوا مِنَ الدُّعَاءِ لَهُ بِتَسْهِيل الأَْمْرِ الَّذِي هُوَ فِيهِ، وَأَنْ يَدْعُوا لِلْحَاضِرِينَ، إِذْ هُوَ مِنْ مَوَاطِنِ الإِْجَابَةِ؛ لأَِنَّ الْمَلاَئِكَةَ يُؤَمِّنُونَ عَلَى قَوْلِهِمْ (3) قَال رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إِذَا حَضَرْتُمُ الْمَرِيضَ، أَوِ الْمَيِّتَ، فَقُولُوا خَيْرًا، فَإِنَّ الْمَلاَئِكَةَ يُؤَمِّنُونَ عَلَى مَا تَقُولُونَ (4) ".

سَادِسًا: تَحْسِينُ ظَنِّ الْمُحْتَضَرِ بِاللَّهِ تَعَالَى:
13 - إِذَا رَأَى الْحَاضِرُونَ مِنَ الْمُحْتَضَرِ أَمَارَاتِ الْيَأْسِ وَالْقُنُوطِ وَجَبَ عَلَيْهِمْ أَنْ يُحَسِّنُوا ظَنَّهُ بِرَبِّهِ، وَأَنْ يُطَمِّعُوهُ فِي رَحْمَتِهِ، إِذْ قَدْ يُفَارِقُ عَلَى ذَلِكَ فَيَهْلِكُ،
__________
(1) أخرجه ابن أبي شيبة في المصنف 4 / 71 بسند صحيح.
(2) مطالب أولي النهى في شرح غاية المنتهى 1 / 836، والمغني لابن قدامة 2 / 455 ط المنار الثالثة.
(3) حاشية الدسوقي على الشرح الكبير 1 / 414
(4) رواه أحمد ومسلم وأصحاب السنن عن أم سلمة.

(2/81)


فَتَعَيَّنَ عَلَيْهِمْ ذَلِكَ، أَخْذًا مِنْ قَاعِدَةِ النَّصِيحَةِ الْوَاجِبَةِ. وَهَذَا الْحَال مِنْ أَهَمِّهَا (1) .

مَا يُسَنُّ لِلْحَاضِرِينَ أَنْ يَفْعَلُوهُ عِنْدَ مَوْتِ الْمُحْتَضَرِ:
14 - إِذَا تَيَقَّنَ الْحَاضِرُونَ مَوْتَ الْمُحْتَضَرِ، وَعَلاَمَةُ ذَلِكَ انْقِطَاعُ نَفَسِهِ وَانْفِرَاجُ شَفَتَيْهِ تَوَلَّى أَرْفَقُ أَهْلِهِ بِهِ إِغْمَاضَ عَيْنَيْهِ، وَالدُّعَاءَ لَهُ، وَشَدَّ لَحْيَيْهِ بِعِصَابَةٍ عَرِيضَةٍ تُشَدُّ فِي لَحْيَيْهِ لِلأَْسْفَل وَتُرْبَطُ فَوْقَ رَأْسِهِ، لأَِنَّهُ لَوْ تُرِكَ مَفْتُوحَ الْعَيْنَيْنِ وَالْفَمِ حَتَّى يَبْرُدَ بَقِيَ مَفْتُوحَهُمَا فَيَقْبُحُ مَنْظَرُهُ، وَلاَ يُؤْمَنُ دُخُول الْهَوَامِّ فِيهِ وَالْمَاءُ فِي وَقْتِ غُسْلِهِ، وَيُلَيِّنُ مَفَاصِلَهُ وَيَرُدُّ ذِرَاعَيْهِ إِلَى عَضُدَيْهِ ثُمَّ يَمُدُّهُمَا، وَيَرُدُّ أَصَابِعَ يَدَيْهِ إِلَى كَفَّيْهِ ثُمَّ يَمُدُّهَا، وَيَرُدُّ فَخِذَيْهِ إِلَى بَطْنِهِ، وَسَاقَيْهِ إِلَى فَخِذَيْهِ ثُمَّ يَمُدُّهُمَا (2) . وَيَقُول مُغْمِضُهُ: " بِاسْمِ اللَّهِ، وَعَلَى مِلَّةِ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. اللَّهُمَّ يَسِّرْ عَلَيْهِ أَمْرَهُ، وَسَهِّل عَلَيْهِ مَا بَعْدَهُ، وَأَسْعِدْهُ بِلِقَائِكَ، وَاجْعَل مَا خَرَجَ إِلَيْهِ خَيْرًا مِمَّا خَرَجَ مِنْهُ (3) ". فَقَدْ رُوِيَ عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ أَنَّهَا قَالَتْ: دَخَل رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى أَبِي سَلَمَةَ وَقَدْ شُقَّ بَصَرُهُ، فَأَغْمَضَهُ ثُمَّ قَال: إِنَّ الرُّوحَ إِذَا قُبِضَ تَبِعَهُ الْبَصَرُ. فَضَجَّ نَاسٌ مِنْ أَهْلِهِ فَقَال: لاَ تَدْعُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ إِلاَّ بِخَيْرٍ، فَإِنَّ الْمَلاَئِكَةَ يُؤَمِّنُونَ عَلَى مَا تَقُولُونَ. ثُمَّ قَال: اللَّهُمَّ اغْفِرْ لأَِبِي سَلَمَةَ، وَارْفَعْ دَرَجَتَهُ فِي الْمَهْدِيِّينَ الْمُقَرَّبِينَ وَاخْلُفْهُ
__________
(1) نهاية المحتاج إلى شرح المنهاج 2 / 428
(2) الفتاوى الهندية 1 / 154 وغاية المنتهى 1 / 228، ومختصر المزني 1 / 199
(3) الفتاوى الهندية 1 / 154، ومختصر خليل 1 / 37

(2/81)


فِي عَقِبِهِ فِي الْغَابِرِينَ، وَاغْفِرْ لَنَا وَلَهُ يَا رَبَّ الْعَالَمِينَ، وَأَفْسِحْ لَهُ فِي قَبْرِهِ، وَنَوِّرْ لَهُ فِيهِ. (1)
وَعَنْ شَدَّادِ بْنِ أَوْسٍ: قَال: قَال رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِذَا حَضَرْتُمْ مَوْتَاكُمْ فَأَغْمِضُوا الْبَصَرَ. وَإِنَّ الْبَصَرَ يَتْبَعُ الرُّوحَ. وَقُولُوا خَيْرًا، فَإِنَّهُ يُؤَمَّنُ عَلَى مَا قَال أَهْل الْمَيِّتِ. (2)

كَشْفُ وَجْهِ الْمَيِّتِ وَالْبُكَاءُ عَلَيْهِ:
15 - يَجُوزُ لِلْحَاضِرِينَ وَغَيْرِهِمْ كَشْفُ وَجْهِ الْمَيِّتِ وَتَقْبِيلُهُ، وَالْبُكَاءُ عَلَيْهِ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ بُكَاءً خَالِيًا مِنَ الصُّرَاخِ وَالنُّوَاحِ، لِمَا وَرَدَ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَال: لَمَّا قُتِل أَبِي جَعَلْتُ أَكْشِفُ الثَّوْبَ عَنْ وَجْهِهِ أَبْكِي، وَنَهَوْنِي، وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لاَ يَنْهَانِي، فَأَمَرَ بِهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَرُفِعَ فَجَعَلَتْ عَمَّتِي فَاطِمَةُ تَبْكِي. فَقَال النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: تَبْكِينَ أَوْ لاَ تَبْكِينَ، مَا زَالَتِ الْمَلاَئِكَةُ تُظِلُّهُ بِأَجْنِحَتِهَا حَتَّى رَفَعْتُمُوهُ. (3) وَلِمَا وَرَدَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: أَنَّ أَبَا بَكْرٍ كَشَفَ وَجْهَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَبَّلَهُ بَيْنَ عَيْنَيْهِ، ثُمَّ بَكَى، وَقَال: بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي يَا رَسُول اللَّهِ، طِبْتَ حَيًّا وَمَيِّتًا (4) ، وَأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَخَل عَلَى عُثْمَانَ بْنِ مَظْعُونٍ وَهُوَ مَيِّتٌ، فَكَشَفَ عَنْ وَجْهِهِ، ثُمَّ أَكَبَّ عَلَيْهِ، فَقَبَّلَهُ وَبَكَى حَتَّى رَأَيْتُ
__________
(1) أخرجه مسلم.
(2) رواه أحمد وابن ماجه عن شداد بن أوس.
(3) أخرجه الشيخان.
(4) أخرجه البخاري.

(2/82)


الدُّمُوعَ تَسِيل عَلَى وَجْنَتَيْهِ (1) وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَعْفَرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ أَمْهَل آل جَعْفَرٍ ثَلاَثًا أَنْ يَأْتِيَهُمْ، ثُمَّ أَتَاهُمْ، فَقَال: لاَ تَبْكُوا عَلَى أَخِي بَعْدَ الْيَوْمِ. (2)

احْتِطَابٌ

التَّعْرِيفُ:
1 - الاِحْتِطَابُ مَصْدَرُ احْتَطَبَ، يُقَال احْتَطَبَ بِمَعْنَى جَمَعَ الْحَطَبَ، وَالْحَطَبُ: مَا أُعِدَّ مِنْ شَجَرٍ وُقُودًا لِلنَّارِ. وَالْمَعْنَى الاِصْطِلاَحِيُّ لاَ يَخْرُجُ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ.

صِفَتُهُ (حُكْمُهُ التَّكْلِيفِيُّ) :
2 - اتَّفَقَتِ الْمَذَاهِبُ فِي الْجُمْلَةِ عَلَى إِبَاحَةِ الاِحْتِطَابِ رَطْبًا كَانَ الشَّجَرُ أَوْ جَافًّا فِي غَيْرِ الْحَرَمِ مَا دَامَ لاَ يَمْلِكُهُ أَحَدٌ. أَمَّا إِذَا كَانَ مَحُوزًا أَوْ مَمْلُوكًا، فَلاَ يَجُوزُ أَخْذُهُ أَوِ الاِحْتِطَابُ مِنْهُ إِلاَّ بِإِذْنِ صَاحِبِهِ (3) .
__________
(1) أخرجه الترمذي وصححه عن عائشة.
(2) رواه أبو داود والنسائي.
(3) ابن عابدين 2 / 216، 3 / 197، 198 ط بولاق، والقليوبي وعميرة 3 / 95 ط الحلبي، والمغني 6 / 184 ط المنار و8 / 246 ط الرياض، والمقنع 2 / 149، 183، والدسوقي 4 / 334 ط دار الفكر، وفتح القدير 4 / 226 ط بولاق، وأسنى المطالب شرح روض الطالب 4 / 141 ص المكتبة الإسلامية.

(2/82)


الْحُكْمُ الإِْجْمَالِيُّ:
3 - يَأْخُذُ الاِحْتِطَابُ حُكْمَ الاِحْتِشَاشِ التَّكْلِيفِيِّ (ر: احْتِشَاشٌ) ، غَيْرَ أَنَّهُ يُخَالِفُهُ فِي أَمْرَيْنِ: الأَْوَّل: يُبَاحُ فِي الاِحْتِشَاشِ فِي الْحَرَمِ قَطْعُ الإِْذْخِرِ وَالْعَوْسَجِ وَمُلْحَقَاتِهِمَا وَلاَ يُبَاحُ ذَلِكَ فِي الاِحْتِطَابِ. الثَّانِي: أَبَاحَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ فِي الاِحْتِشَاشِ مِنَ الْحَرَمِ عَلْفَ الدَّوَابِّ مِنْهُ بِخِلاَفِ الاِحْتِطَابِ الَّذِي لَمْ يُبَحْ فِيهِ ذَلِكَ.

احْتِقَانٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الاِحْتِقَانُ لُغَةً: مَصْدَرُ احْتَقَنَ، بِمَعْنَى احْتَبَسَ. يُقَال: حَقَنَ الرَّجُل بَوْلَهُ: حَبَسَهُ وَجَمَعَهُ، فَهُوَ حَاقِنٌ وَمُطَاوِعُهُ: الاِحْتِقَانُ: وَحَقَنْتُ الْمَرِيضَ إِذَا أَوْصَلْتَ الدَّوَاءَ إِلَى بَاطِنِهِ بِالْمِحْقَنِ (1) . وَيُطْلَقُ فِي الشَّرِيعَةِ عَلَى احْتِبَاسِ الْبَوْل، كَمَا يُطْلِقُونَهُ عَلَى تَعَاطِي الدَّوَاءِ بِالْحُقْنَةِ فِي الدُّبُرِ (2) .

الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
2 - الاِحْتِبَاسُ. مَصْدَرُ احْتَبَسَ. يُقَال: حَبَسْتُهُ فَاحْتَبَسَ بِمَعْنَى مَنَعْتُهُ فَامْتَنَعَ (3) . فَالاِحْتِبَاسُ أَعَمُّ.
__________
(1) لسان العرب، والمصباح مادة (حقن) .
(2) العدوي على الخرشي 1 / 152، ومراقي الفلاح بهامش الطحطاوي ص 368 ط العثمانية.
(3) لسان العرب، والمصباح، مادة (حبس) .

(2/83)


الْحَصْرُ: هُوَ الإِْحَاطَةُ وَالْمَنْعُ وَالْحَبْسُ. يُقَال حَصَرَهُ الْعَدُوُّ فِي مَنْزِلِهِ: حَبَسَهُ، وَأَحْصَرَهُ الْمَرَضُ: مَنَعَهُ مِنَ السَّفَرِ. وَيُطْلَقُ عَلَى احْتِبَاسِ النَّجْوِ مِنْ ضِيقِ الْمَخْرَجِ، فَهُوَ كَذَلِكَ أَعَمُّ (1) .

الْحُقْبُ: حَقِبَ بِالْكَسْرِ حُقْبًا فَهُوَ حَقِيبٌ: تَعَسَّرَ عَلَيْهِ الْبَوْل، أَوْ أَعْجَلَهُ (2) . وَقِيل: الْحَاقِبُ الَّذِي احْتَبَسَ غَائِطُهُ. فَهُوَ عَلَى الْمَعْنَى الثَّانِي مُبَايِنٌ لِلاِحْتِقَانِ.

صِفَتُهُ (حُكْمُهُ التَّكْلِيفِيُّ) :
3 - يَخْتَلِفُ حُكْمُ الاِحْتِقَانِ تَبَعًا لإِِطْلاَقَاتِهِ، فَيُطْلَقُ الاِحْتِقَانُ عَلَى امْتِنَاعِ خُرُوجِ الْبَوْل لِمَرَضٍ أَوْ غَيْرِهِ، وَهَذَا هُوَ الاِحْتِقَانُ الطَّبِيعِيُّ. وَيُعْتَبَرُ أَحَدَ الأَْعْذَارِ الَّتِي يَسْقُطُ مَعَهَا الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ مَا دَامَتْ مَوْجُودَةً.
أَمَّا مَنْعُ الإِْنْسَانِ نَفْسَهُ مِنْ خُرُوجِ الْبَوْل عِنْدَ الشُّعُورِ بِالْحَاجَةِ لِلتَّبَوُّل فَهُوَ الْحَقْنُ. وَيُسَمَّى الإِْنْسَانُ حِينَئِذٍ حَاقِنًا. وَحُكْمُهُ التَّكْلِيفِيُّ الْكَرَاهَةُ أَوِ الْحُرْمَةُ - عَلَى خِلاَفٍ سَيَأْتِي ذِكْرُهُ - فِي حَالَتَيِ الصَّلاَةِ، وَالْقَضَاءِ بَيْنَ النَّاسِ.
وَيُطْلَقُ الاِحْتِقَانُ أَيْضًا عَلَى تَعَاطِي الدَّوَاءِ أَوِ الْمَاءِ عَنْ طَرِيقِ الشَّرَجِ، وَحُكْمُهُ التَّكْلِيفِيُّ تَارَةً الإِْبَاحَةُ، وَتَارَةً الْحَظْرُ، عَلَى خِلاَفٍ وَتَفْصِيلٍ سَيَأْتِي
__________
(1) لسان العرب والصحاح والمصباح، مادة (حصر) .
(2) لسان العرب، مادة (حقب) ، والخرشي 1 / 152 ط دار صادر. والفروق في اللغة ص 107 بتصرف. ط دار الآفاق.

(2/83)


بَيَانُهُ (1) . وَدَلِيل حُكْمِ الْحَقْنِ فِي الصَّلاَةِ أَوِ الْقَضَاءِ بَيْنَ النَّاسِ هُوَ حَدِيثُ عَائِشَةَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: لاَ صَلاَةَ بِحَضْرَةِ الطَّعَامِ وَلاَ وَهُوَ يُدَافِعُ الأَْخْبَثَيْنِ (2) وَحَدِيثُ لاَ يَحِل لاِمْرِئٍ مُسْلِمٍ أَنْ يَنْظُرَ فِي جَوْفِ امْرِئٍ حَتَّى يَسْتَأْذِنَ، وَلاَ يَقُومَ إِلَى الصَّلاَةِ وَهُوَ حَاقِنٌ. (3) وَحَدِيثُ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الَّذِي رَوَاهُ أَبُو بَكْرَةَ عَنْهُ قَال: لاَ يَحْكُمُ أَحَدُكُمْ بَيْنَ اثْنَيْنِ وَهُوَ غَضْبَانُ (4) . وَقَاسُوا عَلَيْهِ الْحَاقِنَ. وَدَلِيل الاِحْتِقَانِ لِلتَّدَاوِي هُوَ دَلِيل التَّدَاوِي نَفْسِهِ بِشُرُوطٍ. (ر: تَدَاوِي) .

أَوَّلاً - احْتِقَانُ الْبَوْل
وُضُوءُ الْحَاقِنِ:
4 - فِي الْمَسْأَلَةِ رَأْيَانِ: ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ لاَ يُنْتَقَضُ وُضُوءُ الْحَاقِنِ؛ لأَِنَّهُمُ اعْتَبَرُوا لاِنْتِقَاضِ الْوُضُوءِ الْخُرُوجَ الْفِعْلِيَّ مِنَ السَّبِيلَيْنِ، لاَ الْخُرُوجَ
__________
(1) الدسوقي 1 / 106، والطحطاوي على مراقي الفلاح 1 / 197 ط العثمانية، والمغني 1 / 450، 451 ط مكتبة القاهرة، والمجموع 4 / 105 ط التضامن.
(2) رواه البخاري ومسلم وأبو داود (فيض القدير 6 / 447) .
(3) رواه الترمذي وحسنه، وقال الشيخ أحمد شاكر في تحقيقه: وصححه ابن خزيمة ورواه أحمد في المسند 3 / 436، 437 و5 / 93، وأبو داود 1 / 232، والنسائي 1 / 127 (سنن الترمذي 3 / 188 ط مصطفى الحلبي) .
(4) رواه مسلم والترمذي والنسائي (الفتح الكبير 3 / 335)

(2/84)


الْحُكْمِيَّ. وَالْحَاقِنُ لَمْ يَخْرُجْ مِنْهُ شَيْءٌ مِنَ السَّبِيلَيْنِ. أَمَّا الْمَالِكِيَّةُ فَإِنَّهُمُ اعْتَبَرُوا الْخُرُوجَ الْفِعْلِيَّ أَوِ الْحُكْمِيَّ نَاقِضًا لِلْوُضُوءِ، وَاعْتَبَرُوا الْحَقْنَ الشَّدِيدَ خُرُوجًا حُكْمِيًّا يَنْقُضُ الْوُضُوءَ. وَلَكِنَّهُمُ انْقَسَمُوا إِلَى رَأْيَيْنِ فِي تَحْدِيدِ دَرَجَةِ الاِحْتِقَانِ الَّتِي تَنْقُضُ الْوُضُوءَ، فَقَال بَعْضُهُمْ: إِذَا كَانَ الاِحْتِقَانُ شَدِيدًا بِحَيْثُ يَمْنَعُ مِنَ الإِْتْيَانِ بِشَيْءٍ مِنْ أَرْكَانِ الصَّلاَةِ حَقِيقَةً أَوْ حُكْمًا، كَمَا لَوْ كَانَ يَقْدِرُ عَلَى الإِْتْيَانِ بِهَا بِعُسْرٍ، فَقَدْ أَبْطَل الْحَقْنُ الْوُضُوءَ، فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَفْعَل بِهِ مَا يَتَوَقَّفُ عَلَى الطَّهَارَةِ، كَمَسِّ الْمُصْحَفِ. وَاعْتَبَرُوا هَذَا خُرُوجًا حُكْمِيًّا يَنْقُضُ الْوُضُوءَ.
وَقَال الْبَعْضُ الآْخَرُ: الْحَقْنُ الشَّدِيدُ يَنْقُضُ الْوُضُوءَ، وَإِنْ لَمْ يَمْنَعْ مِنَ الإِْتْيَانِ بِشَيْءٍ مِنْ أَرْكَانِ الصَّلاَةِ (1) .

صَلاَةُ الْحَاقِنِ:
5 - لِلْفُقَهَاءِ فِي حُكْمِ صَلاَةِ الْحَاقِنِ اتِّجَاهَانِ: فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ، وَهُوَ رَأْيٌ لِلشَّافِعِيَّةِ، إِلَى أَنَّ صَلاَةَ الْحَاقِنِ مَكْرُوهَةٌ، لِمَا وَرَدَ مِنَ الأَْحَادِيثِ السَّابِقَةِ. وَقَال الْخُرَاسَانِيُّونَ وَأَبُو زَيْدٍ الْمَرْوَزِيُّ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ: إِذَا كَانَتْ مُدَافَعَةُ الأَْخْبَثَيْنِ شَدِيدَةً لَمْ تَصِحَّ الصَّلاَةُ (2) . وَاسْتَدَل الْجَمِيعُ بِحَدِيثِ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: لاَ
__________
(1) حاشية الدسوقي 1 / 106 ط عيسى الحلبي.
(2) الطحطاوي على مراقي الفلاح 197، والمغني 1 / 450، والمجموع للنووي 4 / 105

(2/84)


صَلاَةَ بِحَضْرَةِ الطَّعَامِ، وَلاَ وَهُوَ يُدَافِعُهُ الأَْخْبَثَانِ. (1) وَمَا رَوَى ثَوْبَانُ عَنْ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَال: لاَ يَحِل لاِمْرِئٍ أَنْ يَنْظُرَ فِي جَوْفِ بَيْتِ امْرِئٍ حَتَّى يَسْتَأْذِنَ، وَلاَ يَقُومَ إِلَى الصَّلاَةِ وَهُوَ حَاقِنٌ (2) ، فَالْقَائِلُونَ بِالْكَرَاهَةِ حَمَلُوا النَّهْيَ فِي الأَْحَادِيثِ عَلَى الْكَرَاهَةِ. وَأَخَذَ بِظَاهِرِ الْحَدِيثِ أَصْحَابُ الرَّأْيِ الثَّانِي فَحَمَلُوهُ عَلَى الْفَسَادِ. أَمَّا الْمَالِكِيَّةُ فَقَدْ ذَهَبُوا إِلَى أَنَّ الْحَقْنَ الشَّدِيدَ نَاقِضٌ لِلْوُضُوءِ، فَتَكُونُ صَلاَتُهُ بَاطِلَةً.

إِعَادَةُ الْحَاقِنِ لِلصَّلاَةِ:
6 - لَمْ يَقُل بِإِعَادَةِ صَلاَةِ الْحَاقِنِ أَحَدٌ مِمَّنْ قَال بِصِحَّةِ الصَّلاَةِ مَعَ الْكَرَاهَةِ، إِلاَّ الْحَنَابِلَةُ عَلَى رَأْيٍ، فَقَدْ صَرَّحُوا بِإِعَادَةِ الصَّلاَةِ لِلْحَاقِنِ لِظَاهِرِ الْحَدِيثَيْنِ السَّابِقَيْنِ (3) . وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ الْمَالِكِيَّةَ يَرَوْنَ بُطْلاَنَ صَلاَةِ الْحَاقِنِ حَقْنًا شَدِيدًا فَلاَ بُدَّ مِنْ إِعَادَتِهَا.

الْحَاقِنُ وَخَوْفُ فَوْتِ الْوَقْتِ:
7 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ إِذَا كَانَ فِي الْوَقْتِ مُتَّسَعٌ فَيَنْبَغِي أَنْ يُزِيل الْعَارِضَ أَوَّلاً، ثُمَّ يَشْرَعَ فِي الصَّلاَةِ. فَإِنْ خَافَ فَوْتَ الْوَقْتِ فَفِي الْمَسْأَلَةِ رَأْيَانِ: ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ، وَهُوَ رَأْيٌ لِلشَّافِعِيَّةِ، إِلَى أَنَّهُ يُصَلِّي وَهُوَ حَاقِنٌ، وَلاَ يَتْرُكُ الْوَقْتَ يَضِيعُ مِنْهُ، إِلاَّ أَنَّ الْحَنَابِلَةَ قَالُوا بِالإِْعَادَةِ فِي الظَّاهِرِ
__________
(1) تقدم تخريجه. وانظر أيضا المغني 1 / 450، 451.
(2) قال الترمذي: حديث حسن (المغني 1 / 450، 451) .
(3) المغني 1 / 451

(2/85)


عِنْدَ ابْنِ أَبِي مُوسَى لِلْحَدِيثِ (1) . وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ فِي رَأْيٍ آخَرَ حَكَاهُ الْمُتَوَلِّي إِلَى أَنَّهُ يُزِيل الْعَارِضَ أَوَّلاً وَيَتَوَضَّأُ وَإِنْ خَرَجَ الْوَقْتُ، ثُمَّ يَقْضِيهَا، لِظَاهِرِ الْحَدِيثِ؛ وَلأَِنَّ الْمُرَادَ مِنَ الصَّلاَةِ الْخُشُوعُ، فَيَنْبَغِي أَنْ يُحَافِظَ عَلَيْهِ وَإِنْ فَاتَ الْوَقْتُ (2) .

الْحَاقِنُ وَخَوْفُ فَوْتِ الْجَمَاعَةِ أَوِ الْجُمُعَةِ:
8 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ إِنْ خَافَ فَوْتَ الْجَمَاعَةِ أَوِ الْجُمُعَةِ صَلَّى وَهُوَ حَاقِنٌ، وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّ الأَْوْلَى تَرْكُ الْجَمَاعَةِ وَإِزَالَةُ الْعَارِضِ، وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ يُعْتَبَرُ عُذْرًا مُبِيحًا لِتَرْكِ الْجَمَاعَةِ وَالْجُمُعَةِ، لِعُمُومِ لَفْظِ الْحَدِيثِ، وَهُوَ عَامٌّ فِي كُل صَلاَةٍ (3) .
أَمَّا رَأْيُ الْمَالِكِيَّةِ فِي حَقْنِ الْبَوْل فَقَدْ سَبَقَ.

قَضَاءُ الْقَاضِي الْحَاقِنِ:
9 - لاَ يُعْلَمُ خِلاَفٌ بَيْنَ أَهْل الْعِلْمِ فِي أَنَّ الْقَاضِيَ لاَ يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَحْكُمَ، وَهُوَ حَاقِنٌ، وَلَكِنَّهُمُ اخْتَلَفُوا فِي حُكْمِ قَضَائِهِ وَنَفَاذِ حُكْمِهِ عَلَى رَأْيَيْنِ: فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ، وَهُوَ رَأْيٌ لِلْحَنَابِلَةِ، وَقَوْل شُرَيْحٍ وَعُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ، إِلَى أَنَّهُ يُكْرَهُ أَنْ يَقْضِيَ الْقَاضِي وَهُوَ حَاقِنٌ؛ لأَِنَّ ذَلِكَ يَمْنَعُ
__________
(1) المغني 1 / 451، والمجمع 4 / 105، والطحطاوي على مراقي الفلاح 197
(2) المجموع 4 / 105
(3) المغني 1 / 451، والقليوبي 1 / 193، 194 ط عيسى الحلبي، ومراقي الفلاح 197 بهامش الطحطاوي.

(2/85)


حُضُورَ الْقَلْبِ وَاسْتِيفَاءَ الْفِكْرِ الَّذِي يُتَوَصَّل بِهِ إِلَى إِصَابَةِ الْحَقِّ فِي الْغَالِبِ، فَهُوَ فِي مَعْنَى الْغَضَبِ الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ فِي الْحَدِيثِ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ عَنْ أَبِي بَكْرَةَ أَنَّهُ قَال. سَمِعْتُ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُول: لاَ يَحْكُمُ أَحَدٌ بَيْنَ اثْنَيْنِ وَهُوَ غَضْبَانُ. . .
فَإِذَا قَضَى وَهُوَ حَاقِنٌ يَنْفُذُ قَضَاؤُهُ قِيَاسًا عَلَى قَضَاءِ الْغَضْبَانِ عِنْدَ الْجُمْهُورِ (1) . وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ فِي رَأْيٍ ثَانٍ لَهُمْ، حَكَاهُ الْقَاضِي أَبُو يَعْلَى، إِلَى أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ قَضَاءُ الْقَاضِي وَهُوَ حَاقِنٌ. فَإِذَا حَكَمَ وَهُوَ عَلَى تِلْكَ الْحَالَةِ لاَ يَنْفُذُ قَضَاؤُهُ؛ لأَِنَّهُ مَنْهِيٌّ عَنْهُ فِي الْحَدِيثِ الْمُتَقَدِّمِ، وَالنَّهْيُ يَقْتَضِي فَسَادَ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ. وَقِيل عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ: إِنَّمَا يَمْنَعُ الْغَضَبُ الْحَاكِمَ إِذَا كَانَ قَبْل أَنْ يَتَّضِحَ لَهُ الْحُكْمُ فِي الْمَسْأَلَةِ. فَأَمَّا إِنِ اتَّضَحَ لَهُ الْحُكْمُ ثُمَّ عَرَضَ الْغَضَبُ لاَ يَمْنَعُهُ (2) ؛ لأَِنَّ الْحَقَّ قَدِ اسْتَبَانَ قَبْل الْغَضَبِ فَلاَ يُؤَثِّرُ الْغَضَبُ فِيهِ.

ثَانِيًا - الاِحْتِقَانُ لِلتَّدَاوِي
10 - فِي نَقْضِ وُضُوءِ الْمُحْتَقِنِ فِي الْقُبُل أَوِ الدُّبُرِ ثَلاَثَةُ اتِّجَاهَاتٍ:
ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ إِلَى نَقْضِ الْوُضُوءِ. وَذَكَرُوا أَنَّهُ إِذَا أَدْخَل رَجُلٌ أَوِ امْرَأَةٌ فِي الْقُبُل أَوِ الدُّبُرِ
__________
(1) البحر الرائق 6 / 303 ط المطبعة العلمية بالقاهرة، ومجلة الأحكام بشرح الأتاسي 6 / 86 طبعة مطبعة السلامة، والتحفة بحاشية الشرواني 8 / 341، وحاشية الدسوقي 4 / 141 ط عيسى الحلبي " والمغني 10 / 44، 45، ونيل الأوطار 8 / 273
(2) المغني 10 / 45

(2/86)


شَيْئًا مِنْ حُقْنَةٍ أَوْ نَحْوِهَا، ثُمَّ خَرَجَ، انْتَقَضَ الْوُضُوءُ، سَوَاءٌ اخْتَلَطَ بِهِ أَذًى أَمْ لاَ، وَلَكِنَّهُمُ اخْتَلَفُوا فِي تَعْلِيل ذَلِكَ تَبَعًا لِقَوَاعِدِهِمْ: فَقَال الْحَنَفِيَّةُ: إِنَّ هَذِهِ الأَْشْيَاءَ وَإِنْ كَانَتْ طَاهِرَةً فِي نَفْسِهَا لَكِنَّهَا لاَ تَخْلُو عَنْ قَلِيل النَّجَاسَةِ يَخْرُجُ مَعَهَا، وَالْقَلِيل مِنَ السَّبِيلَيْنِ نَاقِضٌ (1) .
وَعَلَّل الشَّافِعِيَّةُ ذَلِكَ بِقَوْلِهِمْ: إِنَّ الدَّاخِل إِذَا خَرَجَ يُعْتَبَرُ خُرُوجًا مِنَ السَّبِيلَيْنِ، فَيُنْتَقَضُ الْوُضُوءُ، سَوَاءٌ اخْتَلَطَ بِهِ أَمْ لاَ، وَسَوَاءٌ أُخْرِجَ كُلُّهُ أَوْ قِطْعَةٌ مِنْهُ؛ لأَِنَّهُ خَارِجٌ مِنَ السَّبِيل (2)
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ: إِلَى أَنَّهُ لاَ يَنْقُضُ الْوُضُوءَ وَذَكَرُوا أَنَّ إِدْخَال الْحُقْنَةِ فِي الدُّبُرِ لاَ يَنْقُضُ الْوُضُوءَ مَعَ احْتِمَال أَنْ يَصْحَبَهَا نَجَاسَةٌ عِنْدَ خُرُوجِهَا؛ وَعَلَّلُوا ذَلِكَ بِقَوْلِهِمْ: إِنَّهُ خَارِجٌ غَيْرُ مُعْتَادٍ فَلاَ يَنْقُضُ الْوُضُوءَ، مِثْل الدُّودِ وَالْحَصَى وَلَوْ صَاحَبَهُ بَلَلٌ (3) .
وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى التَّفْصِيل: فَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهُ إِذَا كَانَ الدَّاخِل حُقْنَةً أَوْ قُطْنًا أَوْ غَيْرَهُ، فَإِنْ خَرَجَ وَعَلَيْهِ بَلَلٌ نَقَضَ الْوُضُوءَ؛ لأَِنَّ الْبَلَل لَوْ خَرَجَ مُنْفَرِدًا لَنَقَضَ؛ لأَِنَّهُ خَارِجٌ مِنَ السَّبِيلَيْنِ، فَأَشْبَهَ سَائِرَ مَا يَخْرُجُ مِنْهُمَا، وَإِنْ خَرَجَ الدَّاخِل وَلَيْسَ عَلَيْهِ بَلَلٌ ظَاهِرٌ فَفِيهِ وَجْهَانِ:
الأَْوَّل: يَنْقُضُ الْوُضُوءَ؛ لأَِنَّهُ خَارِجٌ مِنَ السَّبِيلَيْنِ، فَأَشْبَهَ سَائِرَ مَا يَخْرُجُ مِنْهُمَا. وَالثَّانِي: لاَ يَنْقُضُ؛ لأَِنَّهُ لَيْسَ بَيْنَ الْمَثَانَةِ
__________
(1) بدائع الصنائع 1 / 137 مطبعة العاصمة.
(2) المجموع 2 / 11 نشر المكتبة العالمية.
(3) العدوي على الخرشي 1 / 151

(2/86)


وَالْجَوْفِ مَنْفَذٌ فَلاَ يَكُونُ خَارِجًا مِنَ الْجَوْفِ (1) .

احْتِقَانُ الصَّائِمِ:
11 - احْتِقَانُ الصَّائِمِ إِمَّا أَنْ يَكُونَ فِي دُبُرٍ أَوْ فِي قُبُلٍ أَوْ فِي جِرَاحَةِ جَائِفَةٍ (أَيِ الَّتِي تَصِل إِلَى الْجَوْفِ)

الاِحْتِقَانُ فِي الدُّبُرِ:
فِي الْمَسْأَلَةِ رَأْيَانِ:
12 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ فِي الْمَشْهُورِ، وَهُوَ الْمَذْهَبُ عِنْدَ كُلٍّ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، إِلَى أَنَّ الاِحْتِقَانَ فِي الدُّبُرِ يُفْطِرُ الصَّائِمَ، وَعَلَيْهِ الْقَضَاءُ، لِقَوْل عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: دَخَل عَلَيَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَال: يَا عَائِشَةُ هَل مِنْ كِسْرَةٍ؟ فَأَتَيْتُهُ بِقُرْصٍ، فَوَضَعَهُ فِي فِيهِ، فَقَال: يَا عَائِشَةُ هَل دَخَل بَطْنِي مِنْهُ شَيْءٌ؟ كَذَلِكَ قُبْلَةُ الصَّائِمِ، إِنَّمَا الإِْفْطَارُ مِمَّا دَخَل وَلَيْسَ مِمَّا خَرَجَ. (2) وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَعِكْرِمَةَ: الْفِطْرُ مِمَّا دَخَل وَلَيْسَ مِمَّا خَرَجَ (3) . وَلأَِنَّ هَذَا شَيْءٌ وَصَل إِلَى جَوْفِهِ بِاخْتِيَارِهِ، فَأَشْبَهَ الأَْكْل، وَلِوُجُودِ مَعْنَى الْفِطْرِ وَهُوَ
__________
(1) المغني 1 / 161 ط المنار.
(2) حديث عائشة رضي الله عنها رواه أبو يعلى (نصب الراية 2 / 454) قال المعلق عليها: قال الهيثمي في الزوائد: وفيه من لم أعرف.
(3) قول عكرمة وابن عباس أخرجه البخاري عنهما تعليقا (فتح الباري 4 / 173) ورواه البيهقي وعبد الرزاق في مصنفه بسنده، موقوفا على ابن مسعود، وابن أبي شيبة موقوفا على ابن عباس. وروي عن النبي صلي الله عليه وسلم ولا يثبت (نصب الراية 2 / 454)

(2/87)


وُصُول مَا فِيهِ صَلاَحُ الْبَدَنِ (1) .
غَيْرَ أَنَّ الْمَالِكِيَّةَ اشْتَرَطُوا أَنْ يَكُونَ الدَّاخِل مَائِعًا. وَلَمْ يَشْتَرِطْ ذَلِكَ غَيْرُهُمْ، وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ فِي غَيْرِ الْمَشْهُورِ عِنْدَهُمْ، وَهُوَ رَأْيُ الْقَاضِي حُسَيْنٍ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ - وُصِفَ بِأَنَّهُ شَاذٌّ - وَهُوَ اخْتِيَارُ ابْنِ تَيْمِيَّةَ، إِلَى أَنَّهُ إِذَا احْتَقَنَ الصَّائِمُ فِي الدُّبُرِ لاَ يُفْطِرُ، وَلَيْسَ عَلَيْهِ قَضَاءٌ. وَعَلَّلُوا ذَلِكَ بِأَنَّ الصِّيَامَ مِنْ دِينِ الْمُسْلِمِينَ الَّذِي يَحْتَاجُ إِلَى مَعْرِفَتِهِ الْخَاصُّ وَالْعَامُّ، فَلَوْ كَانَتْ هَذِهِ الأُْمُورُ مِمَّا حَرَّمَهَا اللَّهُ سُبْحَانَهُ لَكَانَ وَاجِبًا عَلَى الرَّسُول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيَانُهُ، وَلَوْ ذَكَرَ ذَلِكَ لَعَلِمَهُ الصَّحَابَةُ، وَبَلَّغُوهُ الأُْمَّةَ، كَمَا بَلَّغُوا سَائِرَ شَرْعِهِ، فَلَمَّا لَمْ يَنْقُل أَحَدٌ مِنْ أَهْل الْعِلْمِ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي ذَلِكَ حَدِيثًا صَحِيحًا وَلاَ ضَعِيفًا وَلاَ مُسْنَدًا وَلاَ مُرْسَلاً عُلِمَ أَنَّهُ لَمْ يَذْكُرْ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ (2) .

الاِحْتِقَانُ فِي الْقُبُل:
13 - الاِحْتِقَانُ فِي الْقُبُل إِذَا لَمْ يَصِل إِلَى الْمَثَانَةِ فَلاَ شَيْءَ فِيهِ، وَلاَ يُؤَدِّي إِلَى فِطْرٍ عِنْدَ الْجُمْهُورِ. وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ فِي أَصَحِّ الْوُجُوهِ عِنْدَهُمْ إِلَى أَنَّهُ يُفْطِرُ، وَفِي
__________
(1) فتح القدير على الهداية 2 / 72، 73 ط بولاق، والفتاوى الهندية 1 / 204 ط المكتبة الإسلامية، والمجموع للنووي 6 / 313، والشرح الكبير على الدردير 1 / 480 ط ليبيا، وكشاف القناع 2 / 286 ط حامد الفقي، والفروع 2 / 36 ط المنار، والإنصاف 3 / 299 ط حامد الفقي، والمغني 3 / 121
(2) الفتاوى لابن تيمية 25 / 233، 234 ط الرياض، والمجموع للنووي 6 / 313، وحاشية الدسوقي على الشرح الكبير 1 / 480، والإنصاف 3 / 299

(2/87)


وَجْهٍ لَهُمْ: إِنْ جَاوَزَ الْحَشَفَةَ أَفْطَرَ وَإِلاَّ فَلاَ. أَمَّا إِذَا وَصَل الْمَثَانَةَ فَإِنَّ حُكْمَ الاِحْتِقَانِ بِالنِّسْبَةِ لِقُبُل الْمَرْأَةِ يَأْخُذُ حُكْمَ الاِحْتِقَانِ فِي الدُّبُرِ (1) .
وَأَمَّا الاِحْتِقَانُ؛ فِي قُبُل الرَّجُل (الإِْحْلِيل) فَإِنْ وَصَل إِلَى الْمَثَانَةِ فَفِيهِ رَأْيَانِ:
ذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٌ وَالْمَالِكِيَّةُ، وَهُوَ الْمَذْهَبُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ وَرَأْيٌ لِلشَّافِعِيَّةِ، إِلَى أَنَّهُ لاَ يُفْطِرُ وَلَيْسَ عَلَيْهِ شَيْءٌ. وَعَلَّلُوا ذَلِكَ بِأَنَّهُ لَمْ يَرِدْ فِيهِ نَصٌّ، وَمَنْ قَاسَهُ عَلَى غَيْرِهِ جَانَبَ الْحَقَّ؛ لأَِنَّ هَذَا لاَ يَنْفُذُ إِلَى الْجَوْفِ وَلاَ يُؤَدِّي إِلَى التَّغْذِيَةِ الْمَمْنُوعَةِ. وَذَهَبَ أَبُو يُوسُفَ وَالشَّافِعِيَّةُ فِي الأَْصَحِّ عِنْدَهُمْ، وَهُوَ قَوْلٌ لِلْحَنَابِلَةِ، إِلَى أَنَّهُ إِذَا قَطَّرَ فِي إِحْلِيلِهِ فَسَدَ صَوْمُهُ؛ لأَِنَّ هَذَا شَيْءٌ وَصَل إِلَى جَوْفِهِ بِاخْتِيَارِهِ فَأَشْبَهَ الأَْكْل (2) .

الاِحْتِقَانُ فِي الْجَائِفَةِ (3) :
14 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَهُوَ الْمَذْهَبُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ (4) إِلَى أَنَّهُ إِذَا تَدَاوَى بِمَا يَصِل إِلَى جَوْفِهِ فَسَدَ صَوْمُهُ؛ لأَِنَّهُ يَصِل إِلَى الْجَوْفِ؛ وَلأَِنَّ غَيْرَ الْمُعْتَادِ كَالْمُعْتَادِ، وَلأَِنَّهُ أَبْلَغُ وَأَوْلَى، وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
__________
(1) الفتاوى لابن تيمية 25 / 233 - 247، والفتاوى الهندية 1 / 204، والمجموع 6 / 313، 314، وكشاف القطاع 2 / 286، والدسوقي 1 / 480
(2) الشرح الصغير 1 / 699، والإنصاف 3 / 307
(3) جراحة في البطن تصل إلى الجوف (المعدة) .
(4) فتح القدير 2 / 73 ط بولاق، والفتاوى الهندية 1 / 204 وحواشي الشرواني وابن قاسم العبادي على تحفة المحتاج 3 / 402، 403 ط دار صادر، وكشاف القناع 2 / 286، والإنصاف 3 / 300، والنووي 6 / 312، والجمل 2 / 318 ط إحياء التراث العربي.

(2/88)


أَمَرَ بِالإِْثْمِدِ عِنْدَ النَّوْمِ، وَقَال لِيَتَّقِهِ الصَّائِمُ (1) وَلأَِنَّهُ وَصَل إِلَى جَوْفِهِ بِاخْتِيَارِهِ، فَأَشْبَهَ الأَْكْل، وَلِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْفِطْرُ مِمَّا دَخَل. (2)
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ، وَهُوَ رَأْيٌ لِكُلٍّ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، إِلَى أَنَّهُ لاَ يُفْسِدُ الصَّوْمَ، وَعَلَّل ابْنُ تَيْمِيَّةَ ذَلِكَ بِمَا سَبَقَ فِي الاِحْتِقَانِ مُطْلَقًا (3) .

الاِحْتِقَانُ بِالْمُحَرَّمِ:
15 - أَجَازَ الْعُلَمَاءُ اسْتِعْمَال الْحُقْنَةِ فِي الدَّوَاءِ مِنْ مَرَضٍ أَوْ هُزَالٍ بِطَاهِرٍ، وَلَمْ يُجِزِ الْحَنَفِيَّةُ اسْتِعْمَال الْحُقْنَةِ لِلتَّقَوِّي عَلَى الْجِمَاعِ أَوِ السِّمَنِ (4) .
أَمَّا بِالنِّسْبَةِ لِلاِحْتِقَانِ بِالْمُحَرَّمِ فَقَدْ مَنَعَهُ الْعُلَمَاءُ مِنْ غَيْرِ ضَرُورَةٍ لِعُمُومِ النَّهْيِ عَنِ الْمُحَرَّمِ.
أَمَّا إِذَا كَانَ الاِحْتِقَانُ لِضَرُورَةٍ، وَمُتَعَيِّنًا، فَقَدْ أَجَازَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ الاِحْتِقَانَ لِضَرُورَةٍ إِذَا كَانَتِ الضَّرُورَةُ يَخْشَى مَعَهَا عَلَى نَفْسِهِ، وَأَخْبَرَهُ طَبِيبٌ مُسْلِمٌ حَاذِقٌ أَنَّ شِفَاءَهُ يَتَعَيَّنُ التَّدَاوِي بِالْمُحَرَّمِ، عَلَى أَنْ يَسْتَعْمِل قَدْرَ حَاجَتِهِ. وَقَالُوا: إِنَّ حَدِيثَ رَسُول اللَّهِ
__________
(1) رواه أبو داود والبخاري في تاريخه من حديث عبد الرحمن بن النعمان بن سعيد. قال ابن معين: حديث منكر، وعبد الرحمن ضعيف. وقال أبو حاتم: صدوق. ووثقه ابن حبان.
(2) سبق تخريجه في حواش فقرة 12
(3) الخرشي 3 / 162 المطبعة العامرية. وتحفة المحتاج بشرح المنهاج على الشرقاوي وابن قاسم 3 / 402 ط دار صادر، والمجموع 6 / 313، والفتاوى لابن تيمية 25 / 233 وما بعدها، والإنصاف 3 / 299
(4) ابن عابدين 5 / 249

(2/88)


صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّ اللَّهَ لَمْ يَجْعَل شِفَاءَكُمْ فِيمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ (1) نَفَى الْحُرْمَةَ عِنْدَ الْعِلْمِ بِالشِّفَاءِ، فَصَارَ مَعْنَى الْحَدِيثِ: إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَذِنَ لَكُمْ بِالتَّدَاوِي، وَجَعَل لِكُل دَاءٍ دَوَاءً، فَإِذَا كَانَ فِي ذَلِكَ الدَّوَاءِ شَيْءٌ مُحَرَّمٌ وَعَلِمْتُمْ أَنَّ فِيهِ الشِّفَاءَ فَقَدْ زَالَتْ حُرْمَةُ اسْتِعْمَالِهِ (2) ؛ لأَِنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمْ يَجْعَل شِفَاءَكُمْ فِيمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ. وَأَيَّدَ هَذَا ابْنُ حَزْمٍ.
أَمَّا إِذَا كَانَ التَّدَاوِي بِالْمُحَرَّمِ لِتَعْجِيل الشِّفَاءِ فَفِي الْمَسْأَلَةِ رَأْيَانِ لِلْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ. فَبَعْضُهُمْ مَنَعَهُ لِعَدَمِ الضَّرُورَةِ فِي ذَلِكَ مَا دَامَ هُنَاكَ مَا يَحِل مَحَلَّهُ. وَبَعْضُهُمْ أَجَازَهُ إِذَا أَشَارَ بِذَلِكَ طَبِيبٌ مُسْلِمٌ حَاذِقٌ (3) .
وَيَرَى الْمَالِكِيَّةُ وَهُوَ رَأْيٌ لِلْحَنَابِلَةِ: أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ الطِّلاَءُ وَلاَ الاِحْتِقَانُ وَالتَّدَاوِي بِالْخَمْرِ وَالنَّجِسِ، وَلَوْ أَدَّى ذَلِكَ إِلَى الْهَلاَكِ لِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ اللَّهَ لَمْ يَجْعَل شِفَاءَ أُمَّتِي فِيمَا حَرَّمَ عَلَيْهَا؛ وَلأَِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذُكِرَ لَهُ النَّبِيذُ يُصْنَعُ لِلدَّوَاءِ فَقَال: إِنَّهُ لَيْسَ بِدَوَاءٍ وَلَكِنَّهُ دَاءٌ. (4)
__________
(1) حديث: " إن الله لم جعل شفاءكم فما حرم عليكم " رواه الطبراني في الكبير، وابن أبي شيبة والحاكم وآخرون موقوفا على ابن مسعود. ورواه ابن حبان وأبو يعلى والبيهقي من حديث أم سلمة مرفوعا (المقاصد الحسنة ص 119) قال الهيثمي: إسناده منقطع ورجاله رجال الصحيح (فيض القدير 2 / 252)
(2) ابن عابدين 5 / 249، وشرح البهجة 5 / 104 ط الميمنية، والقليوبي 4 / 203، والبجيرمي على الخطيب 1 / 276 ط دار المعرفة، والمغني 1 / 407 ف 552، والمحلى 1 / 168 ط المنيرية.
(3) ابن عابدين 5 / 249، والقليوبي 4 / 203
(4) المغني 11 / 83 ط المنار، والخرشي 5 / 351، وحديث " إنه ليس بدواء ولكنه داء " رواه مسلم وابن ماجه وأحمد (الفتح الكبير 1 / 445)

(2/89)


حَقْنُ الصَّغِيرِ بِاللَّبَنِ وَأَثَرُهُ فِي تَحْرِيمِ النِّكَاحِ:
16 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ فِي الْمَرْجُوحِ عِنْدَهُمْ، وَهُوَ رَأْيٌ لِكُلٍّ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ وَاللَّيْثِ بْنِ سَعْدٍ، إِلَى أَنَّهُ إِذَا حُقِنَ الصَّغِيرُ فِي الشَّرَجِ بِاللَّبَنِ فَلاَ يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ حُرْمَةُ النِّكَاحِ. وَعَلَّلُوا ذَلِكَ بِأَنَّ الرَّسُول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَرَّمَ بِالرَّضَاعَةِ الَّتِي تُقَابِل الْمَجَاعَةَ (1) ، وَلَمْ يُحَرِّمْ بِغَيْرِهَا شَيْئًا، فَلاَ يَقَعُ تَحْرِيمٌ مَا لَمْ تُقَابَل بِهِ الْمَجَاعَةُ؛ وَلأَِنَّهُ لاَ يُنْبِتُ اللَّحْمَ، وَلاَ يَنْشِزُ الْعَظْمَ، وَلاَ يَكْتَفِي بِهِ الصَّبِيُّ (2) .
وَفِي رَأْيٍ لِكُلٍّ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ يَثْبُتُ التَّحْرِيمُ. وَعَلَّلُوا ذَلِكَ بِأَنَّ مَا فِي الْحُقْنَةِ يَصِل إِلَى الْجَوْفِ فَيَكُونُ غِذَاءً. وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ إِذَا كَانَ حَقْنُ الصَّغِيرِ بِاللَّبَنِ فِي مُدَّةِ الرَّضَاعِ لِلْغِذَاءِ وَقَبْل أَنْ يَسْتَغْنِيَ، فَالرَّاجِحُ تَرَتُّبُ التَّحْرِيمِ (3) .

نَظَرُ الْحَاقِنِ إِلَى الْعَوْرَةِ:
17 - مَنَعَ الْعُلَمَاءُ النَّظَرَ إِلَى الْعَوْرَةِ إِلاَّ فِي حَالاَتِ الضَّرُورَةِ الَّتِي تَخْتَلِفُ بِاخْتِلاَفِ الأَْحْوَال. وَعَدُّوا مِنْ
__________
(1) حديث " إنما الرضاعة من المجاعة " متفق عليه (الفتح الكبير 1 / 282)
(2) ابن عابدين 2 / 410، والقليوبي 4 / 63، والمغني 8 / 174 نشر مكتبة القاهرة، والمحلى 10 / 9، وحاشية الدسوقي 2 / 503، والخرشي 4 / 177
(3) الدسوقي 2 / 503، والمغني 8 / 174، والخرشي 4 / 177، والقليوبي 4 / 63

(2/89)


هَذِهِ الضَّرُورَةِ الاِحْتِقَانَ (1) . فَإِذَا انْتَفَتِ الضَّرُورَةُ حَرُمَ النَّظَرُ إِلَى الْعَوْرَةِ. وَلِلتَّفْصِيل: (ر: تَطْبِيبٌ. ضَرُورَةٌ. عَوْرَةٌ)

احْتِكَارٌ

التَّعْرِيفُ:
1 - الاِحْتِكَارُ لُغَةً: حَبْسُ الطَّعَامِ إِرَادَةَ الْغَلاَءِ، وَالاِسْمُ مِنْهُ: الْحُكْرَةُ (2) .
أَمَّا فِي الشَّرْعِ فَقَدْ عَرَّفَهُ الْحَنَفِيَّةُ بِأَنَّهُ: اشْتِرَاءُ طَعَامٍ وَنَحْوِهِ وَحَبْسُهُ إِلَى الْغَلاَءِ. وَعَرَّفَهُ الْمَالِكِيَّةُ بِأَنَّهُ رَصْدُ الأَْسْوَاقِ انْتِظَارًا لاِرْتِفَاعِ الأَْثْمَانِ، وَعَرَّفَهُ الشَّافِعِيَّةُ بِأَنَّهُ اشْتِرَاءُ الْقُوتِ وَقْتَ الْغَلاَءِ، وَإِمْسَاكُهُ وَبَيْعُهُ بِأَكْثَرَ مِنْ ثَمَنِهِ لِلتَّضْيِيقِ. وَعَرَّفَهُ الْحَنَابِلَةُ. بِأَنَّهُ اشْتِرَاءُ الْقُوتِ وَحَبْسُهُ انْتِظَارًا لِلْغَلاَءِ (3) .

الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:

2 - الاِدِّخَارُ: ادِّخَارُ الشَّيْءِ تَخْبِئَتُهُ لِوَقْتِ الْحَاجَةِ. وَعَلَى هَذَا فَيَفْتَرِقُ الاِدِّخَارُ عَنِ الاِحْتِكَارِ فِي أَنَّ الاِحْتِكَارَ لاَ يَكُونُ إِلاَّ فِيمَا يَضُرُّ بِالنَّاسِ حَبْسُهُ، عَلَى التَّفْصِيل السَّابِقِ، أَمَّا الاِدِّخَارُ فَإِنَّهُ يَتَحَقَّقُ فِيمَا
__________
(1) ابن عابدين 3 / 161
(2) المصباح، واللسان مادة (حكر)
(3) حاشية ابن عابدين 5 / 20 ط بولاق 1272، والشرح الصغير 1 / 639 ونهاية المحتاج 3 / 456 والمغني 4 / 244.

(2/90)


يَضُرُّ وَمَا لاَ يَضُرُّ، وَفِي الأَْمْوَال النَّقْدِيَّةِ وَغَيْرِهَا. كَمَا أَنَّ الاِدِّخَارَ قَدْ يَكُونُ مَطْلُوبًا فِي بَعْضِ صُوَرِهِ، كَادِّخَارِ الدَّوْلَةِ حَاجِيَّاتِ الشَّعْبِ. وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ " ادِّخَارٌ ".

صِفَةُ الاِحْتِكَارِ (حُكْمُهُ التَّكْلِيفِيُّ) :
3 - يَتَّفِقُ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الاِحْتِكَارَ بِالْقُيُودِ الَّتِي اعْتَبَرَهَا كُلٌّ مِنْهُمْ مَحْظُورٌ، لِمَا فِيهِ مِنَ الإِْضْرَارِ بِالنَّاسِ، وَالتَّضْيِيقِ عَلَيْهِمْ. وَقَدِ اخْتَلَفَتْ عِبَارَاتُ الْفُقَهَاءِ فِي التَّعْبِيرِ عَنْ هَذَا الْحَظْرِ. فَجُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ صَرَّحُوا بِالْحُرْمَةِ، مُسْتَدِلِّينَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ} (1) فَقَدْ فَهِمَ مِنْهَا صَاحِبُ الاِخْتِيَارِ أَنَّهَا أَصْلٌ فِي إِفَادَةِ التَّحْرِيمِ (2) وَقَدْ ذَكَرَ الْقُرْطُبِيُّ عِنْدَ تَفْسِيرِ هَذِهِ الآْيَةِ أَنَّ أَبَا دَاوُدَ رَوَى عَنْ يَعْلَى بْنِ أُمَيَّةَ أَنَّ الرَّسُول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: احْتِكَارُ الطَّعَامِ فِي الْحَرَمِ إِلْحَادٌ فِيهِ. وَهُوَ قَوْل عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ (3) . وَاسْتَدَل الْكَاسَانِيُّ عَلَى ذَلِكَ بِحَدِيثِ: الْمُحْتَكِرُ مَلْعُونٌ (4) وَحَدِيثِ: مَنِ احْتَكَرَ طَعَامًا أَرْبَعِينَ لَيْلَةً فَقَدْ بَرِئَ مِنَ اللَّهِ، وَبَرِئَ
__________
(1) سورة الحج / 22
(2) الاختيار 4 / 160 ط الثانية، ومواهب الجليل 4 / 227، 228، والمدونة 10 / 123، والرهوني 5 / 12 - 13، والمغني 4 / 243، ونهاية المحتاج 3 / 456
(3) الجامع لأحكام القرآن 12 / 34
(4) حديث " المحتكر ملعون " رواه ابن ماجه في سنته والحاكم من حديث عمر به مرفوعا. وسنده ضعيف. (المقاصد الحسنة ص 170)

(2/90)


اللَّهُ مِنْهُ. ثُمَّ قَال الْكَاسَانِيُّ: وَمِثْل هَذَا الْوَعِيدِ لاَ يَلْحَقُ إِلاَّ بِارْتِكَابِ الْحَرَامِ، وَلأَِنَّهُ ظُلْمٌ؛ لأَِنَّ مَا يُبَاعُ فِي الْمِصْرِ فَقَدْ تَعَلَّقَ بِهِ حَقُّ الْعَامَّةِ، فَإِذَا امْتَنَعَ الْمُشْتَرِي عَنْ بَيْعِهِ عِنْدَ شِدَّةِ حَاجَتِهِمْ إِلَيْهِ فَقَدْ مَنَعَهُمْ حَقَّهُمْ، وَمَنْعُ الْحَقِّ عَنِ الْمُسْتَحِقِّ ظُلْمٌ وَحَرَامٌ، يَسْتَوِي فِي ذَلِكَ قَلِيل الْمُدَّةِ وَكَثِيرُهَا، لِتَحَقُّقِ الظُّلْمِ (1) .
4 - كَمَا اعْتَبَرَهُ ابْنُ حَجَرٍ الْهَيْتَمِيُّ مِنَ الْكَبَائِرِ. وَيَقُول: إِنَّ كَوْنَهُ كَبِيرَةً هُوَ ظَاهِرُ الأَْحَادِيثِ، مِنَ الْوَعِيدِ الشَّدِيدِ، كَاللَّعْنَةِ وَبَرَاءَةِ ذِمَّةِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ مِنْهُ وَالضَّرْبِ بِالْجُذَامِ وَالإِْفْلاَسِ. وَبَعْضُ هَذِهِ دَلِيلٌ عَلَى الْكَبِيرَةِ (2) وَمِمَّا اسْتَدَل بِهِ الْحَنَابِلَةُ عَلَى التَّحْرِيمِ مَا رَوَى الأَْثْرَمُ عَنْ أَبِي أُمَامَةَ، قَال: نَهَى رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُحْتَكَرَ الطَّعَامُ (3) ، وَمَا رُوِيَ بِإِسْنَادِهِ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: مَنِ احْتَكَرَ فَهُوَ خَاطِئٌ (4) ،
__________
(1) البدائع 5 / 129
(2) نهاية المحتاج 3 / 456، وشرح روض الطالب 2 / 37، وحاشية القليوبي على شرح منهاج الطالبين 2 / 186، والزواجر 1 / 216 - 217، والمجموع 12 / 64
(3) حديث: " نهى أن يحتكر الطعام " هكذا ذكره صاحب المغني (4 / 282) ورواه عبد الرزاق (المصنف 8 / 203) بلفظ " نهى عن بيع الحكرة ".
(4) حديث " من احتكر فهو خاطئ " رواه مسلم والترمذي. وفي الباب عن أبي هريرة أخرجه الحاكم بلفظ " من احتكر يريد أن يغالي بها الملمين فهو خاطئ (تلخيص الحبير 2 / 13)

(2/91)


وَمَا رُوِيَ: أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ خَرَجَ مَعَ أَصْحَابِهِ، فَرَأَى طَعَامًا كَثِيرًا قَدْ أُلْقِيَ عَلَى بَابِ مَكَّةَ، فَقَال: مَا هَذَا الطَّعَامُ؟ فَقَالُوا: جُلِبَ إِلَيْنَا. فَقَال: بَارَكَ اللَّهُ فِيهِ وَفِيمَنْ جَلَبَهُ. فَقِيل لَهُ: فَإِنَّهُ قَدِ احْتُكِرَ. قَال: مَنِ احْتَكَرَهُ؟ قَالُوا: فُلاَنٌ مَوْلَى عُثْمَانَ، وَفُلاَنٌ مَوْلاَكَ، فَاسْتَدْعَاهُمَا، وَقَال: سَمِعْتُ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُول: مَنِ احْتَكَرَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ طَعَامَهُمْ لَمْ يَمُتْ حَتَّى يَضْرِبَهُ اللَّهُ بِالْجُذَامِ أَوِ الإِْفْلاَسِ. (1)
5 - لَكِنَّ أَكْثَرَ الْفُقَهَاءِ الْحَنَفِيَّةِ وَبَعْضَ الشَّافِعِيَّةِ عَبَّرُوا عَنْهُ بِالْكَرَاهَةِ إِذَا كَانَ يَضُرُّ بِالنَّاسِ (2) . وَتَصْرِيحُ الْحَنَفِيَّةِ بِالْكَرَاهَةِ عَلَى سَبِيل الإِْطْلاَقِ يَنْصَرِفُ إِلَى الْكَرَاهَةِ التَّحْرِيمِيَّةِ. وَفَاعِل الْمَكْرُوهِ تَحْرِيمًا عِنْدَهُمْ يَسْتَحِقُّ الْعِقَابَ، كَفَاعِل الْحَرَامِ، كَمَا أَنَّ كُتُبَ الشَّافِعِيَّةِ الَّتِي رَوَتْ عَنْ بَعْضِ الأَْصْحَابِ الْقَوْل بِالْكَرَاهَةِ قَدْ قَالُوا عَنْهُ: لَيْسَ بِشَيْءٍ (3) .

الْحِكْمَةُ فِي تَحْرِيمِ الاِحْتِكَارِ:
6 - يَتَّفِقُ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الْحِكْمَةَ فِي تَحْرِيمِ الاِحْتِكَارِ رَفْعُ الضَّرَرِ عَنْ عَامَّةِ النَّاسِ. وَلِذَا فَقَدْ أَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّهُ لَوِ احْتَكَرَ إِنْسَانٌ شَيْئًا، وَاضْطُرَّ النَّاسُ إِلَيْهِ،
__________
(1) المغني 4 / 244، وكشاف القناع 3 / 151 والحديث أخرجه الإمام أحمد وابن ماجه والحاكم. ورجال ابن ماجه ثقات. (فيض القدير 6 / 35)
(2) فتح القدير والعناية بهامشه، وحاشية ابن عابدين 5 / 255 ط 1272 هـ، والمجموع شرح المهذب 13 / 60.
(3) المجموع 12 / 60 ط الأولى.

(2/91)


وَلَمْ يَجِدُوا غَيْرَهُ، أُجْبِرَ عَلَى بَيْعِهِ - عَلَى مَا سَيَأْتِي بَيَانُهُ - دَفْعًا لِلضَّرَرِ عَنِ النَّاسِ، وَتَعَاوُنًا عَلَى حُصُول الْعَيْشِ (1) . وَهَذَا مَا يُسْتَفَادُ مِمَّا نُقِل عَنْ مَالِكٍ مِنْ أَنَّ رَفْعَ الضَّرَرِ عَنِ النَّاسِ هُوَ الْقَصْدُ مِنَ التَّحْرِيمِ، إِذْ قَال: إِنْ كَانَ ذَلِكَ لاَ يَضُرُّ بِالسُّوقِ فَلاَ بَأْسَ (2) وَهُوَ مَا يُفِيدُهُ كَلاَمُ الْجَمِيعِ (3) .

مَا يَجْرِي فِيهِ الاِحْتِكَارُ:
7 - هُنَاكَ ثَلاَثُ اتِّجَاهَاتٍ:
الأَْوَّل: مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ أَبُو حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٌ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ أَنَّهُ لاَ احْتِكَارَ إِلاَّ فِي الْقُوتِ خَاصَّةً. الاِتِّجَاهُ الثَّانِي: أَنَّ الاِحْتِكَارَ يَجْرِي فِي كُل مَا يَحْتَاجُهُ النَّاسُ، وَيَتَضَرَّرُونَ مِنْ حَبْسِهِ، مِنْ قُوتٍ وَإِدَامٍ وَلِبَاسٍ وَغَيْرِ ذَلِكَ. وَهَذَا مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الْمَالِكِيَّةُ وَأَبُو يُوسُفَ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ.
الاِتِّجَاهُ الثَّالِثُ: أَنَّهُ لاَ احْتِكَارَ إِلاَّ فِي الْقُوتِ وَالثِّيَابِ خَاصَّةً. وَهَذَا قَوْلٌ لِمُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ (4) .
__________
(1) مواهب الجليل 4 / 228
(2) المدونة 10 / 291 ط الأولى.
(3) المغني 4 / 241 ط الرياض، والطرق الحكمية ص 243 مطبعة المحمدية 1372 هـ، والمجموع شرح المهذب 12 / 62 ط الأولى، وحاشية الرملي بهامش أسنى المطالب شرح روض الطالب 2 / 38 نشر المكتبة الإسلامية، والاختيار 4 / 160، والبدائع 5 / 129
(4) البدائع 5 / 129، وحاشيه الثسرنبلالي على درر الحكام بشرح غرز الأحكام 1 / 400، والدر المنتقى على متن الملتقى بهامش مجمع الأنهار 2 / 547 ط الآستانة، والدر المختار وحاشية ابن عابدين 5 / 255 ط 1172. هـ، والتاج والإكليل 4 / 380، وحاشية محمد بن المدني كنون مطبوع بهامش حاشية الرهوني 5 / 11، والمدونة، المجلد الرابع 10 / 291 ط بيروت، ومواهب الجليل 4 / 277 ط الأولى، ونهاية المحتاج 3 / 456، والنووي على صحيح مسلم 12 / 42 ط المطبعة المصرية، والمجموع شرح المهذب 12 / 62، 64 ط الأولى، وكشاف القناع 3 / 151 ط أنصار السنة، والمغني 4 / 243 ط الرياض، وأسنى المطالب شرح روض الطالب 2 / 38

(2/92)


وَاسْتَدَل الْجُمْهُورُ - أَصْحَابُ الاِتِّجَاهِ الأَْوَّل - بِأَنَّ الأَْحَادِيثَ الْوَارِدَةَ فِي هَذَا الْبَابِ بَعْضُهَا عَامٌّ، كَالْحَدِيثِ الَّذِي رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَأَبُو دَاوُدَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ عَنْ مَعْمَرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، أَنَّهُ قَال: قَال رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنِ احْتَكَرَ فَهُوَ خَاطِئٌ (1) ، وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى رَوَاهَا مُسْلِمٌ وَأَحْمَدُ لاَ يَحْتَكِرُ إِلاَّ خَاطِئٌ، وَحَدِيثُ أَحْمَدَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَال: قَال رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنِ احْتَكَرَ حُكْرَةً يُرِيدُ أَنْ يُغَلِّيَ بِهَا عَلَى الْمُسْلِمِينَ فَهُوَ خَاطِئٌ. وَزَادَ الْحَاكِمُ: وَقَدْ بَرِئَتْ مِنْهُ ذِمَّةُ اللَّهِ. فَهَذِهِ نُصُوصٌ عَامَّةٌ فِي كُل مُحْتَكَرٍ.
وَقَدْ وَرَدَتْ نُصُوصٌ أُخْرَى خَاصَّةٌ، مِنْهَا حَدِيثُ ابْنِ مَاجَهْ بِسَنَدِهِ: مَنِ احْتَكَرَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ طَعَامَهُمْ ضَرَبَهُ اللَّهُ بِالْجُذَامِ وَالإِْفْلاَسِ. وَمَا رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالْحَاكِمُ وَابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَالْبَزَّارُ وَأَبُو يَعْلَى بِلَفْظِ: مَنِ احْتَكَرَ الطَّعَامَ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً فَقَدْ بَرِئَ مِنَ اللَّهِ
__________
(1) سبق تخريجه في حواش فقرة 4

(2/92)


وَبَرِئَ اللَّهُ مِنْهُ. (1) وَزَادَ الْحَاكِمُ. وَأَيُّمَا أَهْل عَرْصَةٍ أَصْبَحَ فِيهِمُ امْرُؤٌ جَائِعٌ فَقَدْ بَرِئَتْ مِنْهُمْ ذِمَّةُ اللَّهِ.
وَإِذَا اجْتَمَعَتْ نُصُوصٌ عَامَّةٌ وَأُخْرَى خَاصَّةٌ فِي مَسْأَلَةٍ وَاحِدَةٍ حُمِل الْعَامُّ عَلَى الْخَاصِّ وَالْمُطْلَقُ عَلَى الْمُقَيَّدِ، وَاسْتَدَل الْمَالِكِيَّةُ وَأَبُو يُوسُفَ بِالأَْحَادِيثِ الْعَامَّةِ، وَقَالُوا: إِنَّ مَا وَرَدَ مِنَ النُّصُوصِ الْخَاصَّةِ فَهِيَ مِنْ قَبِيل اللَّقَبِ، وَاللَّقَبُ لاَ مَفْهُومَ لَهُ. وَأَمَّا مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ فِي قَوْلِهِ الثَّانِي فَإِنَّهُ حَمَل الثِّيَابَ عَلَى الْقُوتِ بِاعْتِبَارِ أَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا مِنَ الْحَاجَاتِ الضَّرُورِيَّةِ (2) .

مَا يَتَحَقَّقُ بِهِ الاِحْتِكَارُ:
8 - يَتَحَقَّقُ الاِحْتِكَارُ فِي صُوَرٍ بَعْضُهَا مُتَّفَقٌ عَلَى تَحْرِيمِهِ وَهِيَ مَا إِذَا اجْتَمَعَ فِيهِ كَوْنُ الشَّيْءِ الْمُحْتَكَرِ طَعَامًا وَأَنْ يَحُوزَهُ بِطَرِيقِ الشِّرَاءِ وَأَنْ يَقْصِدَ الإِْغْلاَءَ عَلَى النَّاسِ وَأَنْ يَتَرَتَّبَ عَلَى ذَلِكَ الإِْضْرَارُ وَالتَّضْيِيقُ عَلَيْهِمْ، وَهُنَاكَ صُوَرٌ مُخْتَلَفٌ فِي تَحْرِيمِهَا بِحَسَبِ الشُّرُوطِ.

شُرُوطُ الاِحْتِكَارِ:
9 - يُشْتَرَطُ فِي الاِحْتِكَارِ مَا يَأْتِي:
1 - أَنْ يَكُونَ تَمَلُّكُهُ لِلسِّلْعَةِ بِطَرِيقِ الشِّرَاءِ. وَهَذَا مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الْجُمْهُورُ،
__________
(1) فيه أبو بشر الأملوكي ضعفه ابن معين (مجمع الزوائد 4 / 100)
(2) صحيح مسلم 11 / 43 المطبعة المصرية، والجامع الصغير 3 / 36 - 33، ونيل الأوطار 5 / 220

(2/93)


وَذَهَبَ بَعْضُ الْمَالِكِيَّةِ، وَهُوَ مَنْقُولٌ عَنْ أَبِي يُوسُفَ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ، إِلَى أَنَّ الْعِبْرَةَ إِنَّمَا هِيَ بِاحْتِبَاسِ السِّلَعِ بِحَيْثُ يَضُرُّ بِالْعَامَّةِ، سَوَاءٌ أَكَانَ تَمَلُّكُهَا بِطَرِيقِ الشِّرَاءِ، أَوِ الْجَلْبِ، أَوْ كَانَ ادِّخَارًا لأَِكْثَرَ مِنْ حَاجَتِهِ وَمَنْ يَعُول.
وَعَلَى مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الْجُمْهُورُ لاَ احْتِكَارَ فِيمَا جُلِبَ مُطْلَقًا، وَهُوَ مَا كَانَ مِنْ سُوقٍ غَيْرِ سُوقِ الْمَدِينَةِ، أَوْ مِنَ السُّوقِ الَّذِي اعْتَادَتِ الْمَدِينَةُ أَنْ تَجْلُبَ طَعَامَهَا مِنْهُ. وَيَرَى كُلٌّ مِنْ صَاحِبِ الاِخْتِيَارِ وَصَاحِبِ الْبَدَائِعِ (1) أَنَّهُ إِذَا كَانَ مِنْ سُوقٍ اعْتَادَتِ الْمَدِينَةُ أَنْ تَجْلُبَ طَعَامَهَا مِنْهُ، فَاشْتَرَاهُ قَاصِدًا حَبْسَهُ، يَكُونُ مُحْتَكِرًا (2) وَيَتَفَرَّعُ عَلَى اشْتِرَاطِ الشِّرَاءِ لِتَحَقُّقِ الاِحْتِكَارِ أَنَّ حَبْسَ غَلَّةِ الأَْرْضِ الْمَزْرُوعَةِ لاَ يَكُونُ احْتِكَارًا. وَهَذَا هُوَ رَأْيُ الْجُمْهُورِ. وَهُنَاكَ مِنْ عُلَمَاءِ الْمَالِكِيَّةِ مَنِ اعْتَبَرَ حَبْسَ هَذِهِ الْغَلَّةِ مِنْ قَبِيل الاِحْتِكَارِ. وَمِنْ عُلَمَاءِ الْحَنَفِيَّةِ مَنْ يَرَى - أَيْضًا - أَنَّ هَذَا رَأْيٌ لأَِبِي يُوسُفَ. وَقَدْ نَقَل الرَّهُونِيُّ عَنِ الْبَاجِيِّ أَنَّ ابْنَ رُشْدٍ قَال: " إِذَا وَقَعَتِ الشِّدَّةُ أُمِرَ أَهْل الطَّعَامِ بِإِخْرَاجِهِ مُطْلَقًا، وَلَوْ كَانَ جَالِبًا لَهُ، أَوْ كَانَ مِنْ زِرَاعَتِهِ ". وَالْمُعْتَمَدُ مَا أَفَادَهُ ابْنُ رُشْدٍ (3) .
__________
(1) الاختيار لتعليل المختار 3 / 115، والبدائع 5 / 129
(2) والناظر فيما قرره العلماء على اختلاف مذاهبهم يرى أن مناط الحكم في تحقق الاحتكار وعدمه إنما هوتحقق الضرر للعامة.
(3) التاج والإكليل 4 / 380، والرهوني 5 / 11، 12 وما ذهب إليه ابن رشد تؤيده قواعد الشريعة العامة، ولا تأباه قواعد المذاهب المختلفة. لكن أيعتبر ذلك احتكارا أم لا؟ فمن اشترط الشراء لا يعتبره احتكارا، وإن كان يعطي لولي الأمر حق الاستيلاء عليه دفعا للضرر على الوجه الذي سيبين بعد.

(2/93)


2 - أَنْ يَكُونَ الشِّرَاءُ وَقْتَ الْغَلاَءِ لِلتِّجَارَةِ انْتِظَارًا لِزِيَادَةِ الْغَلاَءِ. وَهَذَا مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الشَّافِعِيَّةُ. فَلَوِ اشْتَرَى فِي وَقْتِ الرُّخْصِ، وَحَبَسَهُ لِوَقْتِ الْغَلاَءِ، فَلاَ يَكُونُ احْتِكَارًا عِنْدَهُمْ (1) .
3 - وَاشْتَرَطَ الْحَنَفِيَّةُ أَنْ يَكُونَ الْحَبْسُ لِمُدَّةٍ، وَلَمْ نَقِفْ لِفُقَهَاءِ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ عَلَى كَلاَمٍ فِي هَذَا، وَإِنَّمَا الَّذِي تَعَرَّضَ لِذِكْرِ الْمُدَّةِ فُقَهَاءُ الْحَنَفِيَّةِ، فَيَقُول الْحَصْكَفِيُّ نَقْلاً عَنِ الشَّرْنَبَلاَلِيِّ عَنِ الْكَافِي (2) : إِنَّ الاِحْتِكَارَ شَرْعًا اشْتِرَاءُ الطَّعَامِ وَنَحْوِهِ وَحَبْسُهُ إِلَى مُدَّةٍ اخْتَلَفُوا فِي تَقْدِيرِهَا، فَمِنْ قَائِلٍ إِنَّهَا أَرْبَعُونَ يَوْمًا، لِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيمَا رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالْحَاكِمُ بِسَنَدِهِ: مَنِ احْتَكَرَ الطَّعَامَ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً فَقَدْ بَرِئَ مِنَ اللَّهِ وَبَرِئَ اللَّهُ مِنْهُ (3) . لَكِنْ حَكَى ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ أَبِيهِ أَنَّهُ مُنْكَرٌ. وَمِنْ قَائِلٍ إِنَّهَا شَهْرٌ؛ لأَِنَّ مَا دُونَهُ قَلِيلٌ عَاجِلٌ وَالشَّهْرُ وَمَا فَوْقَهُ كَثِيرٌ آجِلٌ.
وَيَقَعُ التَّفَاوُتُ فِي الْمَأْثَمِ بَيْنَ أَنْ يَتَرَبَّصَ قِلَّةَ الصِّنْفِ، وَبَيْنَ أَنْ يَتَرَبَّصَ الْقَحْطَ. وَقِيل إِنَّ هَذِهِ الْمُدَدَ لِلْمُعَاقَبَةِ فِي الدُّنْيَا. أَمَّا الإِْثْمُ الأُْخْرَوِيُّ فَيَتَحَقَّقُ وَإِنْ قَلَّتِ الْمُدَّةُ. وَقَدْ أَوْرَدَ الْحَصْكَفِيُّ هَذَا الْخِلاَفَ، وَأَضَافَ إِلَيْهِ أَنَّ مِنَ الْفُقَهَاءِ مَنْ قَال بِأَكْثَرَ مِنَ الْمُدَّتَيْنِ. وَقَدْ نَقَل ذَلِكَ ابْنُ عَابِدِينَ فِي حَاشِيَتِهِ (4) .
__________
(1) المجموع شرح المهذب 12 / 64 ط الأولى.
(2) الدر المنتقى على متن الملتقى 2 / 547
(3) سبق تخريجه في حواش فقرة 7
(4) الهداية 3 / 74، ونتائج الأفكار (تكملة الفتح) 8 / 126، 127ط الأولى الأميرية بمصر، والدر المنتقى على شرح الملتقى 2 / 548، وحاشية ابن عابدين 5 / 255 ط بولاق 1272 هـ

(2/94)


4 - أَنْ يَكُونَ الْمُحْتَكِرُ قَاصِدًا الإِْغْلاَءَ عَلَى النَّاسِ وَإِخْرَاجَهُ لَهُمْ وَقْتَ الْغَلاَءِ.

احْتِكَارُ الْعَمَل:
10 - تَعَرَّضَ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ لِمِثْل هَذَا لاَ عَلَى أَنَّهُ مِنْ قَبِيل الاِحْتِكَارِ الاِصْطِلاَحِيِّ، وَلَكِنْ فِيهِ مَعْنَى الاِحْتِكَارِ، لِمَا فِيهِ مِنْ ضَرَرِ الْعَامَّةِ، فَقَدْ نَقَل ابْنُ الْقَيِّمِ أَنَّ غَيْرَ وَاحِدٍ مِنَ الْعُلَمَاءِ، كَأَبِي حَنِيفَةَ وَأَصْحَابِهِ، مَنَعُوا الْقَسَّامِينَ - الَّذِينَ يَقْسِمُونَ الْعَقَارَ وَغَيْرَهُ بِالأُْجْرَةِ - أَنْ يَشْتَرِكُوا، فَإِنَّهُمْ إِذَا اشْتَرَكُوا وَالنَّاسُ يَحْتَاجُونَ إِلَيْهِمْ أَغْلَوْا عَلَيْهِمُ الأُْجْرَةَ. وَكَذَلِكَ يَنْبَغِي لِوَالِي الْحِسْبَةِ أَنْ يَمْنَعَ مُغَسِّلِي الْمَوْتَى وَالْحَمَّالِينَ لَهُمْ مِنَ الاِشْتِرَاكِ، لِمَا فِي ذَلِكَ مِنْ إِغْلاَءِ الأُْجْرَةِ عَلَيْهِمْ، وَكَذَلِكَ اشْتِرَاكُ كُل طَائِفَةٍ يَحْتَاجُ النَّاسُ إِلَى مَنَافِعِهِمْ (1) .

احْتِكَارُ الصِّنْفِ:
11 - وَقَدْ صَوَّرَهُ ابْنُ الْقَيِّمِ بِقَوْلِهِ: أَنْ يَلْزَمَ النَّاسَ أَلاَّ يَبِيعَ الطَّعَامَ أَوْ غَيْرَهُ مِنَ الأَْصْنَافِ إِلاَّ نَاسٌ مَعْرُوفُونَ، فَلاَ تُبَاعُ تِلْكَ السِّلَعُ إِلاَّ لَهُمْ، ثُمَّ يَبِيعُونَهَا هُمْ بِمَا يُرِيدُونَ. فَهَذَا مِنَ الْبَغْيِ فِي الأَْرْضِ وَالْفَسَادِ بِلاَ تَرَدُّدٍ فِي ذَلِكَ عِنْدَ أَحَدٍ مِنَ الْعُلَمَاءِ. وَيَجِبُ التَّسْعِيرُ عَلَيْهِمْ، وَأَنْ يَبِيعُوا وَيَشْتَرُوا بِقِيمَةِ الْمِثْل مَنْعًا لِلظُّلْمِ. وَكَذَلِكَ إِيجَارُ الْحَانُوتِ عَلَى الطَّرِيقِ أَوْ فِي الْقَرْيَةِ بِأُجْرَةٍ مُعَيَّنَةٍ، عَلَى أَلاَّ يَبِيعَ أَحَدٌ غَيْرُهُ، نَوْعٌ مِنْ أَخْذِ
__________
(1) الطرق الحكمية ص 245 - 246 ط السنة المحمدية.

(2/94)


أَمْوَال النَّاسِ قَهْرًا وَأَكْلِهَا بِالْبَاطِل، وَهُوَ حَرَامٌ عَلَى الْمُؤَجِّرِ وَالْمُسْتَأْجِرِ (1) .

الْعُقُوبَةُ الدُّنْيَوِيَّةُ لِلْمُحْتَكِرِ:
12 - اتَّفَقَ فُقَهَاءُ الْمَذَاهِبِ عَلَى أَنَّ الْحَاكِمَ يَأْمُرُ الْمُحْتَكِرَ بِإِخْرَاجِ مَا احْتَكَرَ إِلَى السُّوقِ وَبَيْعِهِ لِلنَّاسِ. فَإِنْ لَمْ يَمْتَثِل فَهَل يُجْبَرُ عَلَى الْبَيْعِ؟ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ تَفْصِيلٌ وَخِلاَفٌ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ:
أَوَّلاً: إِذَا خِيفَ الضَّرَرُ عَلَى الْعَامَّةِ أُجْبِرَ، بَل أَخَذَ مِنْهُ مَا احْتَكَرَهُ، وَبَاعَهُ، وَأَعْطَاهُ الْمِثْل عِنْدَ وُجُودِهِ، أَوْ قِيمَتَهُ. وَهَذَا قَدْرٌ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ بَيْنَ الأَْئِمَّةِ، وَلاَ يُعْلَمُ خِلاَفٌ فِي ذَلِكَ.
ثَانِيًا: إِذَا لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ خَوْفٌ عَلَى الْعَامَّةِ فَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَمُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ يَرَوْنَ أَنَّ لِلْحَاكِمِ جَبْرَهُ إِذَا لَمْ يَمْتَثِل الأَْمْرَ بِالْبَيْعِ. وَأَمَّا أَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ فَيَرَيَانِ أَنَّهُ لاَ يُجْبَرُ عَلَى الْبَيْعِ، وَإِنَّمَا إِذَا امْتَنَعَ عَنِ الْبَيْعِ عَزَّرَهُ الْحَاكِمُ.
وَعِنْدَ مَنْ يَرَى الْجَبْرَ فَمِنْهُمْ مَنْ يَرَى الْجَبْرَ بَادِئَ ذِي بَدْءٍ. وَمِنْهُمْ مَنْ يَرَى الإِْنْذَارَ مَرَّةً، وَقِيل اثْنَتَيْنِ، وَقِيل ثَلاَثًا. وَتَدُل النُّقُول عَنِ الْفُقَهَاءِ أَنَّ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ مَرْجِعُهَا مُرَاعَاةُ الْمَصْلَحَةِ. وَهُوَ مِنْ قَبِيل السِّيَاسَةِ الشَّرْعِيَّةِ (2) .
__________
(1) المرجع السابق ص 245
(2) الطرق الحكمية ص 243 وانظر 262، والبدائع 5 / 129، وتكملة الفتح 8 / 126، 4 / 161 ط الثانية سنة 1370 هـ، ورد المحتار على الدر المختار 5 / 256 ط بولاق سنة 1272 هـ، والرهوني 5 / 12 - 15، والقوانين الفقهية 3 / 247، ومواهب الجليل 4 / 227، 228، ونهاية المحتاج، 4 / 456، وحاشية القليوبي 2 / 186، وكشاف القناع 3 / 151

(2/95)


احْتِلاَمٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - مِنْ مَعَانِي الاِحْتِلاَمِ فِي اللُّغَةِ رُؤْيَا الْمُبَاشَرَةَ فِي الْمَنَامِ. وَيُطْلَقُ فِي اللُّغَةِ أَيْضًا عَلَى الإِْدْرَاكِ وَالْبُلُوغِ (1) . وَمِثْلُهُ الْحُلُمُ. وَهُوَ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ اسْمٌ لِمَا يَرَاهُ النَّائِمُ مِنَ الْمُبَاشَرَةِ، فَيَحْدُثُ مَعَهُ إِنْزَال الْمَنِيِّ غَالِبًا (2) .

الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
2 - أ - الإِْمْنَاءُ: يُذْكَرُ الاِحْتِلاَمُ وَيُرَادُ بِهِ الإِْمْنَاءُ، إِلاَّ أَنَّ الإِْمْنَاءَ أَعَمُّ مِنْهُ، إِذْ لاَ يُقَال لِمَنْ أَمْنَى فِي الْيَقَظَةِ مُحْتَلِمٌ (3) .

ب - الْجَنَابَةُ: أَعَمُّ مِنْ وَجْهٍ مِنَ الاِحْتِلاَمِ فَقَدْ تَكُونُ مِنَ الاِحْتِلاَمِ، وَقَدْ تَكُونُ مِنْ غَيْرِهِ كَالْتِقَاءِ الْخِتَانَيْنِ (4) كَمَا أَنَّ الاِحْتِلاَمَ قَدْ يَكُونُ بِلاَ إِنْزَالٍ فَلاَ تَحْصُل الْجَنَابَةُ.

ج - الْبُلُوغُ: الْبُلُوغُ يَحْصُل بِعَلاَمَاتٍ كَثِيرَةٍ مِنْهَا الاِحْتِلاَمُ، فَهُوَ عَلاَمَةُ الْبُلُوغِ.
__________
(1) لسان العرب. المصباح مادة (حلم)
(2) المجموع 2 / 139 ط المنيرية، وفتح المعين شرح منلا مسكين 1 / 58 ط الأولى.
(3) ابن عابدين 1 / 406 ط بولاق الأولى.
(4) فتح القدير 1 / 41 ط بولاق، وتحفة الفقهاء 1 / 45 ط دار الفكر.

(2/95)


مِمَّنْ يَكُونُ الاِحْتِلاَمُ؟
3 - الاِحْتِلاَمُ كَمَا يَكُونُ مِنَ الرَّجُل يَكُونُ مِنَ الْمَرْأَةِ، فَقَدْ رَوَى مُسْلِمٌ وَالْبُخَارِيُّ أَنَّ أُمَّ سُلَيْمٍ حَدَّثَتْ أَنَّهَا سَأَلَتِ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَتْ: هَل عَلَى الْمَرْأَةِ مِنْ غُسْلٍ إِذَا هِيَ احْتَلَمَتْ؟ قَال: نَعَمْ إِذَا رَأَتِ الْمَاءَ.

بِمَ يَتَحَقَّقُ احْتِلاَمُ الْمَرْأَةِ؟ .
4 - لِلْفُقَهَاءِ فِي حُصُول الاِحْتِلاَمِ مِنَ الْمَرْأَةِ ثَلاَثَةُ آرَاءٍ:
أ - حُصُول الاِحْتِلاَمِ بِوُصُول الْمَنِيِّ إِلَى ظَاهِرِ الْفَرْجِ. وَهُوَ قَوْل الْحَنَابِلَةِ، وَظَاهِرُ الرِّوَايَةِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، وَهُوَ قَوْل الشَّافِعِيَّةِ بِالنِّسْبَةِ لِلثَّيِّبِ. وَالْمُرَادُ بِظَاهِرِ الْفَرْجِ: مَا يَظْهَرُ عِنْدَ قَضَاءِ الْحَاجَةِ، أَوْ عِنْدَ الْجُلُوسِ عِنْدَ الْقَدَمَيْنِ.
ب - حُصُول الاِحْتِلاَمِ بِوُصُول الْمَنِيِّ خَارِجَ الْفَرْجِ، وَهُوَ قَوْل الْمَالِكِيَّةِ مُطْلَقًا، وَقَوْل الشَّافِعِيَّةِ بِالنِّسْبَةِ لِلْبِكْرِ؛ لأَِنَّ دَاخِل فَرْجِهَا كَبَاطِنِ الْجِسْمِ.
ح - حُصُول الاِحْتِلاَمِ بِمُجَرَّدِ إِنْزَال الْمَرْأَةِ فِي رَحِمِهَا وَإِنْ لَمْ يَخْرُجِ الْمَنِيُّ إِلَى ظَاهِرِ الْفَرْجِ؛ لأَِنَّ مَنِيَّ الْمَرْأَةِ عَادَةً يَنْعَكِسُ دَاخِل الرَّحِمِ لِيَتَخَلَّقَ مِنْهُ الْوَلَدُ، وَهُوَ قَوْل مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ (1) .
__________
(1) الفتاوى الهندية 1 / 14 ط بولاق، والتاج والإكليل 5 / 351 نشر مكتبة النجاح، والمجموع 12 / 38 - 140 ط المنيرية، والمغني لابن قدامة 1 / 199 ط الرياض، وفتح القدير 1 / 42، 43 ط بولاق، والحطاب 1 / 307، والدسوقي 1 / 126، والزرقاني على خليل 1 / 95 ط دار الفكر، والعدوي على خليل 1 / 198 ط دار صادر، والجمل على المنهج 1 / 153، 161، وكشاف القناع 1 / 138

(2/96)


أَثَرُ الاِحْتِلاَمِ فِي الْغُسْل؟
5 - إِنْ كَانَ الْمُحْتَلِمُ كَافِرًا ثُمَّ أَسْلَمَ فَلِلْعُلَمَاءِ فِي ذَلِكَ رَأْيَانِ:
الأَْوَّل: وُجُوبُ الْغُسْل مِنَ الْجَنَابَةِ، وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ وَالأَْصَحُّ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، وَهُوَ قَوْلٌ لِلْمَالِكِيَّةِ، لِبَقَاءِ صِفَةِ الْجَنَابَةِ بَعْدَ الاِحْتِلاَمِ، وَلاَ يَجُوزُ أَدَاءُ الصَّلاَةِ وَنَحْوِهَا إِلاَّ بِزَوَال الْجَنَابَةِ (1) . الثَّانِي: نَدْبُ الْغُسْل، وَهُوَ قَوْل ابْنِ الْقَاسِمِ وَالْقَاضِي إِسْمَاعِيل مِنَ الْمَالِكِيَّةِ، وَمُقَابِل الأَْصَحِّ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ؛ لأَِنَّ الْكَافِرَ وَقْتَ الاِحْتِلاَمِ لَمْ يَكُنْ مُكَلَّفًا بِفُرُوعِ الشَّرِيعَةِ (2) .

الاِحْتِلاَمُ بِلاَ إِنْزَالٍ:
6 - مَنِ احْتَلَمَ وَلَمْ يَجِدْ مَنِيًّا فَلاَ غُسْل عَلَيْهِ. قَال ابْنُ الْمُنْذِرِ: أَجْمَعَ عَلَى هَذَا كُل مَنْ أَحْفَظُ عَنْهُ مِنْ أَهْل الْعِلْمِ (3) . وَلَوِ اسْتَيْقَظَ وَوَجَدَ الْمَنِيَّ وَلَمْ يَذْكُرِ احْتِلاَمًا فَعَلَيْهِ الْغُسْل، لِمَا رَوَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُئِل عَنِ الرَّجُل يَجِدُ الْبَلَل وَلاَ يَذْكُرُ الاِحْتِلاَمَ، قَال: يَغْتَسِل، وَعَنِ الرَّجُل يَرَى أَنَّهُ
__________
(1) فتح القدير 1 / 44، والبجيرمي على الخطيب 1 / 223 ط الحلبي، والمغني 1 / 208
(2) الحطاب 1 / 311، والزرقاني على خليل 1 / 98، الطحطاوي على مراقي الفلاح ص 54
(3) الفتاوى الخانية 1 / 44، والحطاب وبهامشه التاج والإكليل 1 / 306 - 307، والمجموع 2 / 142، والمغني لابن قدامة 1 / 202

(2/96)


احْتَلَمَ وَلاَ يَجِدُ الْبَلَل قَال: لاَ غُسْل عَلَيْهِ. (1) وَلاَ يُوجَدُ مَنْ يَقُول غَيْرَ ذَلِكَ، إِلاَّ وَجْهًا شَاذًّا لِلشَّافِعِيَّةِ، وَقَوْلاً لِلْمَالِكِيَّةِ (2) .
7 - وَإِذَا رَأَى الْمَنِيَّ فِي فِرَاشٍ يَنَامُ فِيهِ مَعَ غَيْرِهِ مِمَّنْ يُمْكِنُ أَنْ يُمْنِيَ، وَنَسَبَهُ كُلٌّ مِنْهُمَا لِصَاحِبِهِ، فَالْغُسْل مُسْتَحَبٌّ لِكُل وَاحِدٍ مِنْهُمَا عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، وَلاَ يَلْزَمُ، وَلاَ يَجُوزُ أَنْ يُصَلِّيَ أَحَدُهُمَا خَلْفَ الآْخَرِ قَبْل الاِغْتِسَال، لِلشَّكِّ، وَهُوَ لاَ يَرْتَفِعُ بِهِ الْيَقِينُ (3) . وَقَال الْحَنَفِيَّةُ بِوُجُوبِ الْغُسْل عَلَى كُلٍّ مِنْهُمَا.
وَفَصَّل الْمَالِكِيَّةُ فَقَالُوا: إِنَّهُ إِنْ كَانَا زَوْجَيْنِ وَجَبَ عَلَى الزَّوْجِ وَحْدَهُ؛ لأَِنَّ الْغَالِبَ خُرُوجُ الْمَنِيِّ مِنَ الزَّوْجِ وَحْدَهُ، وَيُعِيدُ الصَّلاَةَ مِنْ آخِرِ نَوْمَةٍ، وَيَجِبُ عَلَيْهِمَا مَعًا الْغُسْل إِنْ كَانَا غَيْرَ زَوْجَيْنِ (4) .
__________
(1) المراجع السابقة والحديث أخرجه أبو داود (عون المعبود 1 / 95، 96 ط الهند) والترمذي. وقال المباركفوري: قال في المنتقى بعد ذكر هذا الحديث: رواه الخمسة إلا النسائي. وقال في النيل: رجاله رجال الصحيح إلا عبد الله بن عمر العمري، وقد اختلف فيه. ثم ذكر ما فيه من الجرح والتعديل، ثم قال: وقد تفرد به المذكور عند من ذكره المصنف من المخرجين له، ولم نجده عن غيره، وهكذا رواه أحمد وابن أبي شيبة من طريقه. فالحديث معلول بعلتين الأولى: العمري، والثانية: التفرد وعدم المتابعة، فقصر عن درجة الحسن والصحة انتهى (تحفة الأحوذي 1 / 369) ورواه أحمد في المسند (6 / 256 ط الميمنية)
(2) المجموع 2 / 143، والحطاب 1 / 306
(3) المجموع 2 / 143، والمغني 1 / 203
(4) ابن عابدين 1 / 111، والزرقاني على خليل 1 / 91، والدسوقي 1 / 312

(2/97)


وَلاَ فَرْقَ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ وَغَيْرِهِمَا عِنْدَ بَقِيَّةِ الْمَذَاهِبِ.
8 - وَالثَّوْبُ الَّذِي يَنَامُ فِيهِ هُوَ وَغَيْرُهُ كَالْفِرَاشِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، وَيُعِيدُ كُل صَلاَةٍ لاَ يُحْتَمَل خُلُوُّهَا عَنِ الإِْمْنَاءِ قَبْلَهَا عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَمِنْ آخِرِ نَوْمَةٍ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ مَا لَمْ تَظْهَرْ أَمَارَةٌ عَلَى أَنَّهُ حَدَثَ قَبْلَهَا (1) . وَقَال الْمَالِكِيَّةُ يُسْتَحَبُّ الْغُسْل (2) .
9 - وَلَوِ اسْتَيْقَظَ فَوَجَدَ شَيْئًا وَشَكَّ فِي كَوْنِهِ مَنِيًّا أَوْ غَيْرَهُ (وَالشَّكُّ: اسْتِوَاءُ الطَّرَفَيْنِ دُونَ تَرْجِيحِ أَحَدِهِمَا عَلَى الآْخَرِ) فَلِلْفُقَهَاءِ فِي ذَلِكَ عِدَّةُ آرَاءٍ:
أ - وُجُوبُ الْغُسْل، وَهُوَ قَوْل الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، إِلاَّ أَنَّ الْحَنَفِيَّةَ أَوْجَبُوا الْغُسْل إِنْ تَذَكَّرَ الاِحْتِلاَمَ وَشَكَّ فِي كَوْنِهِ مَنِيًّا أَوْ مَذْيًا، أَوْ مَنِيًّا أَوْ وَدْيًا، وَكَذَا إِنْ شَكَّ فِي كَوْنِهِ مَذْيًا أَوْ وَدْيًا؛ لأَِنَّ الْمَنِيَّ قَدْ يَرِقُّ لِعَارِضٍ كَالْهَوَاءِ، لِوُجُودِ الْقَرِينَةِ، وَهِيَ تَذَكُّرُ الاِحْتِلاَمِ. فَإِنْ لَمْ يَتَذَكَّرِ الاِحْتِلاَمَ فَالْحُكْمُ كَذَلِكَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ، أَخْذًا بِالْحَدِيثِ فِي جَوَابِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ الرَّجُل يَجِدُ الْبَلَل وَلَمْ يَذْكُرِ احْتِلاَمًا قَال: يَغْتَسِل (3) . لِلإِْطْلاَقِ فِي كَلِمَةِ " الْبَلَل ". وَقَال أَبُو يُوسُفَ: لاَ يَجِبُ، وَهُوَ الْقِيَاسُ؛ لأَِنَّ الْيَقِينَ لاَ يَزُول بِالشَّكِّ، وَهَذَا كُلُّهُ مُقَيَّدٌ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ بِأَلاَّ يَسْبِقَهُ انْتِشَارٌ قَبْل النَّوْمِ، فَإِنْ سَبَقَهُ انْتِشَارٌ تَرَجَّحَ أَنَّهُ
__________
(1) شرح الروض وحاشية الرملي عليه 1 / 65، 66، ط الميمنية، والمغني 1 / 203
(2) الدسوقي 1 / 132
(3) تقدم تخريج الحديث في فقرة 6

(2/97)


مَذْيٌ (1) . وَزَادَ الْحَنَابِلَةُ: أَوْ كَانَتْ بِهَا إِبْرِدَةٍ؛ لاِحْتِمَال أَنْ يَكُونَ مَذْيًا، وَقَدْ وُجِدَ سَبَبُهُ (2) . وَيَجِبُ مِنْهُ حِينَئِذٍ الْوُضُوءُ، وَقَصَرَ الْمَالِكِيَّةُ وُجُوبَ الْغُسْل عَلَى مَا إِذَا كَانَ الشَّكُّ بَيْنَ أَمْرَيْنِ أَحَدُهُمَا مَنِيٌّ. فَإِنْ شَكَّ فِي كَوْنِهِ وَاحِدًا مِنْ ثَلاَثَةٍ فَلاَ يَجِبُ الْغُسْل (3) ، لِضَعْفِ الشَّكِّ بِالنِّسْبَةِ لِلْمَنِيِّ، لِتَعَدُّدِ مُقَابِلِهِ.
ب - عَدَمُ وُجُوبِ الْغُسْل، وَهُوَ وَجْهٌ لِلشَّافِعِيَّةِ، وَقَوْل مُجَاهِدٍ وَقَتَادَةَ؛ لأَِنَّ الْيَقِينَ لاَ يَزُول بِالشَّكِّ. وَالأَْوْلَى الاِغْتِسَال لإِِزَالَةِ الشَّكِّ. وَأَوْجَبُوا مِنْ ذَلِكَ الْوُضُوءَ مُرَتَّبًا.
ج - التَّخْيِيرُ فِي اعْتِبَارِهِ وَاحِدًا مِمَّا اشْتَبَهَ فِيهِ، وَهُوَ مَشْهُورُ مَذْهَبِ الشَّافِعِيَّةِ، وَذَلِكَ لاِشْتِغَال ذِمَّتِهِ بِطَهَارَةٍ غَيْرِ مُعَيَّنَةٍ.
د - وَلِلشَّافِعِيَّةِ وَجْهٌ آخَرُ وَهُوَ لُزُومُ مُقْتَضَى الْجَمِيعِ. أَيِ الْغُسْل وَالْوُضُوءِ، لِلاِحْتِيَاطِ (4) .

أَثَرُ الاِحْتِلاَمِ فِي الصَّوْمِ وَالْحَجِّ:
10 - لاَ أَثَرَ لِلاِحْتِلاَمِ فِي الصَّوْمِ، وَلاَ يَبْطُل بِهِ بِاتِّفَاقٍ، لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: ثَلاَثٌ لاَ يُفْطِرْنَ الصَّائِمَ: الْحِجَامَةُ، وَالْقَيْءُ، وَالاِحْتِلاَمُ (5) ،
__________
(1) البحر الرائق 1 / 58 - 59، والطحطاوي على مراقي الفلاح ص 54، والمغني 1 / 203
(2) الإبردة (بكسر الهمزة والراء) علة تنشأ عن البرد والرطوبة (لسان العرب - مادة: برد)
(3) المغني 1 / 203
(4) المجموع 2 / 145، 146
(5) رواه الترمذي والبيهقي عن أبي سعيد الخدري، وقال الترمذي: هذا غير محفوظ، وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم مضعف. والمشهور عن عطاء مرسل. ونقل عن ابن عباس عند البزار بسند معلول، وعن ثوبان عند الطبراني وهو ضعيف (فيض القدير 3 / 312)

(2/98)


وَلأَِنَّ فِيهِ حَرَجًا، لِعَدَمِ إِمْكَانِ التَّحَرُّزِ عَنْهُ إِلاَّ بِتَرْكِ النَّوْمِ، وَالنَّوْمُ مُبَاحٌ، وَتَرْكُهُ غَيْرُ مُسْتَطَاعٍ. وَلأَِنَّهُ لَمْ تُوجَدْ صُورَةُ الْجِمَاعِ، وَلاَ مَعْنَاهُ وَهُوَ الإِْنْزَال عَنْ شَهْوَةٍ بِمُبَاشَرَةٍ (1) وَلاَ أَثَرَ لَهُ كَذَلِكَ فِي الْحَجِّ بِاتِّفَاقٍ (2) .

أَثَرُ الاِحْتِلاَمِ فِي الاِعْتِكَافِ:
11 - يَتَّفِقُ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الاِعْتِكَافَ لاَ يَبْطُل بِالاِحْتِلاَمِ، وَلاَ يَفْسُدُ إِنْ خَرَجَ الْمُعْتَكِفُ لِلاِغْتِسَال خَارِجَ الْمَسْجِدِ، إِلاَّ فِي حَالَةٍ وَاحِدَةٍ ذَكَرَهَا الْحَنَفِيَّةُ وَهِيَ إِنْ أَمْكَنَهُ الاِغْتِسَال فِي الْمَسْجِدِ، وَلَمْ يَخْشَ تَلْوِيثَهُ فَإِنْ خِيفَ تَلْوِيثُهُ مُنِعَ؛ لأَِنَّ تَنْظِيفَ الْمَسْجِدِ وَاجِبٌ.
وَبَقِيَّةُ الْفُقَهَاءِ مِنْهُمْ مَنْ يُجِيزُ الْخُرُوجَ لِلاِغْتِسَال وَلَوْ مَعَ أَمْنِ الْمَسْجِدِ فِي التَّلَوُّثِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يُوجِبُ الْخُرُوجَ وَيُحَرِّمُ الاِغْتِسَال فِي الْمَسْجِدِ مُطْلَقًا، فَإِنْ تَعَذَّرَ الْخُرُوجُ فَعَلَيْهِ تَيَمُّمٌ (3) .
__________
(1) الدسوقي على الدردير 1 / 523 ط الحلبي، ومغني المحتاج 1 / 430 ط مصطفى الحلبي، والمغني مع الشرح الكبير 3 / 50 ط المنار.
(2) الفتاوى الهندية 1 / 244، المغني مع الشرح الكبير ط بولاق 3 / 330، والحطاب 2 / 423، والجمل على المنهج 2 / 517
(3) ابن عابدين 2 / 132، والحطاب 2 / 462، وجواهر الإكليل 1 / 159 ط عباس شقرون، والشرح الصغير 1 / 728، 735 ط دار المعارف، ونهاية المحتاج 3 / 19 ط الحلبي، والجمل 2 / 363 الميمنية، والإنصاف 1 / 168، 3 / 372 ط الأولى، والمحرر 1 / 232 مطبعة السنة المحمدية.

(2/98)


وَالْخُرُوجُ لاَ يَقْطَعُ التَّتَابُعَ بِاتِّفَاقٍ مَا لَمْ يَطُل.
12 - وَفِي اعْتِبَارِ زَمَنِ الْجَنَابَةِ مِنَ الاِعْتِكَافِ خِلاَفٌ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ. فَالشَّافِعِيَّةُ لاَ يَعُدُّونَ زَمَنَ الْجَنَابَةِ مِنَ الاِعْتِكَافِ إِنِ اتَّفَقَ الْمُكْثُ مَعَهَا لِعُذْرٍ أَوْ غَيْرِهِ؛ لِمُنَافَاةِ ذَلِكَ لِلاِحْتِلاَمِ، وَهُوَ قَوْل الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ، وَيُحْسَبُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ، فَقَدْ صَرَّحُوا بِعَدَمِ قَضَائِهِ لِكَوْنِهِ مُعْتَادًا، وَلاَ كَفَّارَةَ فِيهِ (1) .

الْبُلُوغُ بِالاِحْتِلاَمِ:
13 - يَتَّفِقُ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الْبُلُوغَ يَحْصُل بِالاِحْتِلاَمِ مَعَ الإِْنْزَال، وَيَنْقَطِعُ بِهِ الْيُتْمُ لِمَا رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قَال: لاَ يُتْمَ بَعْدَ احْتِلاَمٍ وَلاَ صُمَاتَ يَوْمٍ إِلَى اللَّيْل. (2)
__________
(1) الجمل على المنهج 2 / 363، والحطاب 2 / 462، والدسوقي 1 / 551 ط دار الفكر، والزرقاني على خليل 2 / 228، وشرح منتهى الإرادات 1 / 469 ط دار الفكر، والبدائع 1 / 116 مكتبة المطبوعات العلمية، وفتح المعين على شرح منلا مسكين 1 / 454
(2) فتح القدير 2 / 312، 313، وابن عابدين 5 / 97، والدسوقي 3 / 293، ومغني المحتاج 2 / 166 ط مصطفى الحلبي، ونهاية المحتاج 6 / 136 ط الحلبي، ومغني ابن قدامة 4 / 345 ط مكتبة القاهرة، ومطالب أولي النهى 2 / 553، 554، 3 / 402 والحديث رواه أبو داود في كتاب الوصايا من سننه، باب ما جاء متى ينقطع اليتم، قال المنذري: في إسناده يحيى بن محمد المدني الجاري، قال البخاري: يتكلمون فيه. وقال ابن حبان: يجب التنكب عما انفرد به من الروايات. وذكر العقيلي هذا الحديث وذكر أن هذا الحديث لا يتابع عليه يحيى. هذا آخر كلامه. وهو منسوب إلى الجار بالجيم والراء المهملة بلدة على الساحل تقرب من مدينة رسول الله صلى الله عليه وس وليس فيهما شيء يثبت (عون المعبود 3 / 74 ط الهند) .

(2/99)


احْتِوَاشٌ

التَّعْرِيفُ:
1 - الاِحْتِوَاشُ لُغَةً الإِْحَاطَةُ. يُقَال: احْتَوَشَ الْقَوْمُ عَلَى فُلاَنٍ إِذَا جَعَلُوهُ وَسَطَهُمْ (1) ، وَاحْتَوَشَ الْقَوْمُ الصَّيْدَ أَحَاطُوا بِهِ (2) .
وَمَنِ اسْتَعْمَلَهُ مِنَ الْفُقَهَاءِ - وَهُمُ الشَّافِعِيَّةُ - أَطْلَقُوهُ عَلَى إِحَاطَةٍ خَاصَّةٍ، وَهِيَ إِحَاطَةُ الدَّمَيْنِ بِطُهْرٍ، وَإِنْ كَانَ غَيْرُهُمْ تَعَرَّضَ لِلْمَسْأَلَةِ مِنْ غَيْرِ اسْتِعْمَال هَذِهِ التَّسْمِيَةِ.

الْحُكْمُ الإِْجْمَالِيُّ:
2 - ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ فِي الأَْصَحِّ عِنْدَهُمْ إِلَى أَنَّ الطُّهْرَ الَّذِي يُعْتَبَرُ فِي الْعِدَّةِ هُوَ الْمُحْتَوَشُ بَيْنَ دَمَيْنِ، فَلَوْ طَلَّقَ صَغِيرَةً وَمَضَى قَدْرُ زَمَنِ الطُّهْرِ ثُمَّ حَاضَتْ فَلاَ يُعْتَبَرُ قُرْءًا. وَمُقَابِل الأَْصَحِّ اعْتِبَارُهُ قُرْءًا؛ لأَِنَّ الْقُرْءَ هُوَ انْتِقَالٌ مِنْ طُهْرٍ إِلَى حَيْضٍ (3) وَلاَ يَخْفَى أَنَّ هَذَا لاَ يُسَمَّى احْتِوَاشًا. وَيَذْكُرُ الْفُقَهَاءُ ذَلِكَ فِي عِدَّةِ ذَوَاتِ
__________
(1) النهاية لابن الأثير (حوش) .
(2) المصباح المنير (حوش) .
(3) نهاية المحتاج 7 / 122، 123 ط الحلبي، والقليوبي 4 / 40 ط الحلبي، والتاج والإكليل 4 / 141، 142 ط ليبيا.

(2/99)


الأَْقْرَاءِ. وَلاَ تَرِدُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ فِي مَذْهَبِ الْحَنَفِيَّةِ، وَلاَ عَلَى الأَْصَحِّ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ؛ لأَِنَّ الْعِدَّةَ عِنْدَهُمْ بِالْحَيْضِ لاَ بِالأَْطْهَارِ.

احْتِيَاطٌ

التَّعْرِيفُ:
1 - مِنْ مَعَانِي الاِحْتِيَاطِ لُغَةً: الأَْخْذُ فِي الأُْمُورِ بِالأَْحْزَمِ وَالأَْوْثَقِ، وَبِمَعْنَى الْمُحَاذَرَةِ، وَمِنْهُ الْقَوْل السَّائِرُ: أَوْسَطُ الرَّأْيِ الاِحْتِيَاطُ، وَبِمَعْنَى الاِحْتِرَازِ مِنَ الْخَطَأِ وَاتِّقَائِهِ (1) .
وَيَسْتَعْمِل الْفُقَهَاءُ الاِحْتِيَاطَ بِهَذِهِ الْمَعَانِي كَذَلِكَ. أَمَّا الْوَرَعُ فَهُوَ اجْتِنَابُ الشُّبُهَاتِ خَوْفًا مِنَ الْوُقُوعِ فِي الْمُحَرَّمَاتِ (2) .

الْحُكْمُ الإِْجْمَالِيُّ:
2 - كَثِيرٌ مِنَ الأَْحْكَامِ الْفِقْهِيَّةِ تَثْبُتُ لأَِجَل الاِحْتِيَاطِ، فَمَنْ نَسِيَ الظُّهْرَ وَالْعَصْرَ مِنْ يَوْمَيْنِ لاَ يَدْرِي أَيَّ الْيَوْمَيْنِ أَسْبَقَ، فَإِنَّهُ يُصَلِّي الظُّهْرَ ثُمَّ الْعَصْرَ ثُمَّ الظُّهْرَ فِي أَحَدِ الاِحْتِمَالاَتِ، وَالْبَاعِثُ عَلَى ذَلِكَ الاِحْتِيَاطُ. وَلِتَعَارُضِ الاِحْتِيَاطِ مَعَ أَصْل بَرَاءَةِ الذِّمَّةِ، وَمَعَ
__________
(1) المصباح مادة (حوط) .
(2) التعريفات ص 224، وكشاف اصطلاحات الفنون 6 / 1380

(2/100)


قَاعِدَةِ التَّحَرِّي وَالتَّوَخِّي عِنْدَ الْحَرَجِ، يَأْتِي التَّرَدُّدُ وَالْخِلاَفُ فِي الأَْحْكَامِ الْمَبْنِيَّةِ عَلَى الاِحْتِيَاطِ. وَيَذْكُرُ الأُْصُولِيُّونَ مَا عَبَّرَ عَنْهُ الأَْنْصَارِيُّ شَارِحُ مُسْلِمٍ الثُّبُوتَ أَنَّهُ " لَيْسَ كُل مَا كَانَ أَحْوَطَ يَجِبُ، بَل إِنَّمَا هُوَ فِيمَا ثَبَتَ وُجُوبُهُ مِنْ قَبْل، فَيَجِبُ فِيهِ مَا تَخْرُجُ بِهِ عَنِ الْعُهْدَةِ يَقِينًا، كَالصَّلاَةِ الْمَنْسِيَّةِ، كَمَا إِذَا فَاتَتْ صَلاَةٌ مِنْ يَوْمِ فَنَسِيَهَا، فَيَجِبُ عَلَيْهِ قَضَاءُ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ مِنْ ذَلِكَ الْيَوْمِ لِيَخْرُجَ عَنْ عُهْدَةِ الْمَنْسِيَّةِ يَقِينًا " قَال: " وَمِنْهُ نِسْيَانُ الْمُسْتَحَاضَةِ أَيَّامَهَا يَجِبُ عَلَيْهَا التَّطَهُّرُ لِكُل صَلاَةٍ أَوْ لِوَقْتِ كُل صَلاَةٍ " عَلَى خِلاَفِ تَفْصِيلِهِ فِي " حَيْضٌ ".
ثُمَّ ذَكَرَ الْحَالَةَ الثَّانِيَةَ الَّتِي يَجِبُ فِيهَا الْفِعْل احْتِيَاطًا فَقَال: " أَوْ كَانَ الْوُجُوبُ هُوَ الأَْصْل ثُمَّ يَعْرِضُ مَا يُوجِبُ الشَّكُّ، كَصَوْمِ الثَّلاَثِينَ مِنْ رَمَضَانَ، فَإِنَّ الْوُجُوبَ فِيهِ الأَْصْل، وَعُرُوضُ عَارِضِ الْغَمَامِ لاَ يَمْنَعُهُ، فَيَجِبُ احْتِيَاطًا، لاَ كَصَوْمِ يَوْمِ الشَّكِّ، فَلاَ يَثْبُتُ الْوُجُوبُ لِلاِحْتِيَاطِ فِي صَوْمِ يَوْمِ الشَّكِّ؛ لأَِنَّ الْوُجُوبَ فِيهِ لَيْسَ هُوَ الأَْصْل، وَلاَ هُوَ ثَابِتٌ يَقِينًا (1) ".

مَوَاطِنُ الْبَحْثِ:
3 - يَذْكُرُ الأُْصُولِيُّونَ فِي بَابِ تَعَارُضِ الأَْدِلَّةِ تَرْجِيحَ الدَّلِيل الْمُقْتَضِي لِلتَّحْرِيمِ عَلَى مَا يَقْتَضِي غَيْرَهُ مِنَ الأَْحْكَامِ لاِسْتِنَادِ ذَلِكَ التَّرْجِيحِ لِلاِحْتِيَاطِ، وَفِي تَعَارُضِ الْعِلَل تَرْجِيحُ الْعِلَّةِ الْمُقْتَضِيَةِ لِلتَّحْرِيمِ عَلَى
__________
(1) فواتح الرحموت بشرح مسلم الثبوت بهامش المستصفى 2 / 182، وانظر المعتمد لأبي الحسين البصري 1 / 278 ط دمشق.

(2/100)


الْمُقْتَضِيَةِ لِغَيْرِهِ (1) . وَذَكَرُوا أَيْضًا مَسْأَلَةَ جَرَيَانِ الاِحْتِيَاطِ فِي الْوُجُوبِ وَالنَّدْبِ وَالتَّحْرِيمِ، فِي الْبَابِ نَفْسِهِ أَيْضًا (2) . وَمَحَل ذَلِكَ الْمُلْحَقُ الأُْصُولِيُّ. وَيَذْكُرُ الْفُقَهَاءُ الْقَوَاعِدَ الْمَبْنِيَّةَ عَلَى الاِحْتِيَاطِ، وَمِنْهَا قَاعِدَةُ تَغْلِيبِ الْحَرَامِ عِنْدَ اجْتِمَاعِ الْحَرَامِ وَالْحَلاَل، وَمَا يَدْخُل فِي هَذِهِ الْقَاعِدَةِ وَمَا يَخْرُجُ عَنْهَا، فِي كُتُبِ الْقَوَاعِدِ الْفِقْهِيَّةِ (3) .

احْتِيَالٌ

التَّعْرِيفُ:
1 - يَأْتِي الاِحْتِيَال بِمَعْنَى طَلَبِ الْحِيلَةِ، وَهِيَ الْحِذْقُ فِي تَدْبِيرِ الأُْمُورِ، أَيْ تَقْلِيبِ الْفِكْرِ حَتَّى يَهْتَدِيَ إِلَى الْمَقْصُودِ. وَيَأْتِي بِمَعْنَى الاِحْتِيَال بِالدِّينِ (4) . وَلاَ يَخْرُجُ اسْتِعْمَال الأُْصُولِيِّينَ وَالْفُقَهَاءِ لَهُ عَنْ هَذَا، إِلاَّ أَنَّ ابْنَ الْقَيِّمِ ذَكَرَ أَنَّهُ غَلَبَ عَلَى الْحِيلَةِ فِي الْعُرْفِ اسْتِعْمَالُهَا فِي سُلُوكِ الطُّرُقِ الْخَفِيَّةِ الَّتِي يَتَوَصَّل بِهَا الرَّجُل إِلَى حُصُول غَرَضِهِ بِحَيْثُ لاَ يُتَفَطَّنُ لَهُ إِلاَّ
__________
(1) شرح جمع الجوامع بحاشية البناني 2 / 374 ط مصطفى الحلبي، وشرح مسلم الثبوت 2 / 203
(2) شرح جمع الجوامع 2 / 374
(3) انظر مثلا: كتاب الأشباه والنظائر لابن نجيم بحاشية الحموي ص 134 ط الهند، والأشباه والنظائر للسيوطي ص 105 - 117 ط م الحلبي 1378
(4) المصباح المنير ولسان العرب.

(2/101)


بِنَوْعٍ مِنَ الذَّكَاءِ وَالْفِطْنَةِ. فَهَذَا أَخَصُّ مِنْ مَوْضُوعِهَا فِي أَصْل اللُّغَةِ، وَسَوَاءٌ أَكَانَ الْمَقْصُودُ أَمْرًا جَائِزًا أَمْ مُحَرَّمًا، وَأَخَصُّ مِنْ هَذَا اسْتِعْمَالُهَا فِي التَّوَصُّل إِلَى الْغَرَضِ الْمَمْنُوعِ مِنْهُ شَرْعًا أَوْ عَقْلاً أَوْ عَادَةً. وَهَذَا هُوَ الْغَالِبُ عَلَيْهَا فِي عُرْفِ النَّاسِ (1) .

إِطْلاَقَاتُهُ:
الأَْوَّل: بِمَعْنَى اسْتِعْمَال الطُّرُقِ الَّتِي يَتَوَصَّل بِهَا الإِْنْسَانُ إِلَى غَرَضِهِ (2) .

الثَّانِي: بِمَعْنَى نَقْل الدَّيْنِ مِنْ ذِمَّةٍ إِلَى ذِمَّةٍ، وَهُوَ الْحَوَالَةُ (3) .

الْحُكْمُ الإِْجْمَالِيُّ:
أَوَّلاً: بِالْمَعْنَى الأَْوَّل:
يَخْتَلِفُ حُكْمُ الاِحْتِيَال بِاخْتِلاَفِ الْقَصْدِ وَالنِّيَّةِ، وَبِاخْتِلاَفِ مَآل الْعَمَل، وَذَلِكَ عَلَى الْوَجْهِ الآْتِي:

2 - يَكُونُ الاِحْتِيَال حَرَامًا إِذَا تَسَبَّبَ بِهِ الْمُكَلَّفُ فِي إِسْقَاطِ مَا وَجَبَ شَرْعًا، حَتَّى يَصِيرَ غَيْرَ وَاجِبٍ فِي الظَّاهِرِ، أَوْ فِي جَعْل الْمُحَرَّمِ حَلاَلاً فِي الظَّاهِرِ. ذَلِكَ أَنَّ الْعَمَل إِذَا قُصِدَ بِهِ إِبْطَال حُكْمٍ شَرْعِيٍّ وَتَحْوِيلُهُ فِي الظَّاهِرِ إِلَى حُكْمٍ آخَرَ، حَتَّى يَصِيرَ مَآل ذَلِكَ الْعَمَل
__________
(1) الموافقات 4 / 201 نشر المكتبة التجارية، والفتاوى الهندية 6 / 390 ط بولاق، وأعلام الموقعين 3 / 252 ط السعادة بمصر.
(2) أعلام الموقعين 3 / 252، والموافقات 4 / 201
(3) نهاية المحتاج 4 / 408 ط مصطفى الحلبي، ومنح الجليل 3 / 228 نشر ليبيا.

(2/101)


خَرْمَ قَوَاعِدِ الشَّرِيعَةِ فِي الْوَاقِعِ، فَهُوَ حَرَامٌ مَنْهِيٌّ عَنْهُ. وَذَلِكَ كَمَا لَوْ دَخَل عَلَيْهِ وَقْتُ الصَّلاَةِ فَشَرِبَ خَمْرًا أَوْ دَوَاءً مُنَوِّمًا حَتَّى يَخْرُجَ وَقْتُهَا وَهُوَ فَاقِدٌ لِعَقْلِهِ كَالْمُغْمَى عَلَيْهِ، أَوْ كَانَ لَهُ مَالٌ يَقْدِرُ بِهِ عَلَى الْحَجِّ فَوَهَبَهُ كَيْ لاَ يَجِبَ عَلَيْهِ الْحَجُّ (1) .
وَكَذَلِكَ يَحْرُمُ التَّصَرُّفُ فِي الْمَال بِهِبَةٍ أَوْ غَيْرِهَا قَبْل الْحَوْل لِلْفِرَارِ مِنَ الزَّكَاةِ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ. وَقَدِ اخْتَلَفَ الْحَنَفِيَّةُ فِي ذَلِكَ، فَقَال أَبُو يُوسُفَ: لاَ يُكْرَهُ ذَلِكَ؛ لأَِنَّهُ امْتِنَاعٌ عَنِ الْوُجُوبِ لإِِبْطَال حَقِّ الْغَيْرِ. وَفِي الْمُحِيطِ أَنَّهُ الأَْصَحُّ. وَقَال مُحَمَّدٌ: يُكْرَهُ. وَاخْتَارَهُ الشَّيْخُ حَمِيدُ الدِّينِ الضَّرِيرُ؛ لأَِنَّ فِيهِ إِضْرَارًا بِالْفُقَرَاءِ، وَإِبْطَال حَقِّهِمْ مَآلاً. وَقِيل: الْفَتْوَى عَلَى قَوْل مُحَمَّدٍ، كَذَلِكَ الأَْمْرُ بِالنِّسْبَةِ لِلشَّافِعِيَّةِ، فَفِي نِهَايَةِ الْمُحْتَاجِ وَالشِّرْوَانِيِّ: يُكْرَهُ تَنْزِيهًا إِنْ قَصَدَ بِهِ الْفِرَارَ مِنَ الزَّكَاةِ. وَقَال الشِّرْوَانِيُّ: وَفِي الْوَجِيزِ يَحْرُمُ. زَادَ فِي الإِْحْيَاءِ: وَلاَ تَبْرَأُ بِهِ الذِّمَّةُ بَاطِنًا، وَأَنَّ هَذَا مِنَ الْفِقْهِ الضَّارِّ، وَقَال ابْنُ الصَّلاَحِ يَأْثَمُ بِقَصْدِهِ لاَ بِفِعْلِهِ (2) .
كَذَلِكَ يَحْرُمُ الاِحْتِيَال لأَِخْذِ أَمْوَال النَّاسِ وَظُلْمِهِمْ فِي نُفُوسِهِمْ وَسَفْكِ دِمَائِهِمْ وَإِبْطَال حُقُوقِهِمْ. وَالدَّلِيل عَلَى حُرْمَةِ الاِحْتِيَال قَوْله تَعَالَى: {وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ. . .} ؛ لأَِنَّهُمُ
__________
(1) الموافقات 2 / 379، 4 / 201 والشرح الصغير 1 / 600 ط دار المعارف، والمغني 2 / 534 ط المنار.
(2) الأشباه لابن نجيم 2 / 292 ط استنبول، والشرواني 3 / 235 ط دار صادر.

(2/102)


احْتَالُوا لِلاِصْطِيَادِ فِي السَّبْتِ بِصُورَةِ الاِصْطِيَادِ فِي غَيْرِهِ. وَقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لاَ يُجْمَعُ بَيْنَ مُتَفَرِّقٍ وَلاَ يُفَرَّقُ بَيْنَ مُجْتَمِعٍ خَشْيَةَ الصَّدَقَةِ (1)

3 - وَيَكُونُ الاِحْتِيَال جَائِزًا إِذَا قَصَدَ بِهِ أَخْذَ حَقٍّ، أَوْ دَفْعَ بَاطِلٍ، أَوِ التَّخَلُّصَ مِنَ الْحَرَامِ، أَوِ التَّوَصُّل إِلَى الْحَلاَل، وَسَوَاءٌ أَكَانَتِ الْوَسِيلَةُ مُحَرَّمَةً أَمْ مَشْرُوعَةً، إِلاَّ أَنَّهَا إِنْ كَانَتْ مُحَرَّمَةً فَهُوَ آثِمٌ عَلَى الْوَسِيلَةِ دُونَ الْمَقْصُودِ، وَقَدْ يُطْلَبُ الاِحْتِيَال وَلاَ سِيَّمَا فِي الْحَرْبِ؛ لأَِنَّهَا خُدْعَةٌ. وَالأَْصْل فِي الْجَوَازِ قَوْل اللَّهِ تَعَالَى: {وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا فَاضْرِبْ بِهِ وَلاَ تَحْنَثْ} . (2)

4 - وَمِنْهُ مَا يُخْتَلَفُ فِيهِ وَهُوَ مَا لَمْ يَتَبَيَّنْ فِيهِ مَقْصِدٌ لِلشَّارِعِ يَتَّفِقُ عَلَى أَنَّهُ مَقْصُودٌ لَهُ، وَلاَ ظَهَرَ أَنَّهُ عَلَى خِلاَفِ الْمَصْلَحَةِ الَّتِي وُضِعَتْ لَهَا الشَّرِيعَةُ بِحَسَبِ الْمَسْأَلَةِ الْمَفْرُوضَةِ. فَمَنْ رَأَى مِنَ الْفُقَهَاءِ أَنَّ الاِحْتِيَال فِي أَمْرٍ مَا غَيْرُ مُخَالِفٍ لِلْمَصْلَحَةِ فَالتَّحَيُّل جَائِزٌ عِنْدَهُ فِيهِ، وَمَنْ رَأَى أَنَّهُ مُخَالِفٌ فَالتَّحَيُّل مَمْنُوعٌ عِنْدَهُ فِيهِ. عَلَى أَنَّهُ مِنَ الْمُقَرَّرِ أَنَّ مَنْ يُجِيزُ التَّحَيُّل فِي بَعْضِ الْمَسَائِل فَإِنَّمَا يُجِيزُهُ بِنَاءً عَلَى تَحَرِّي قَصْدِ الْمُكَلَّفِ الْمُحْتَال، وَأَنَّهُ غَيْرُ مُخَالِفٍ
__________
(1) إعلام المرقعين 3 / 340، والأشباه والنظائر لابن نجيم 2 / 291، والفتاوى الهندية 6 / 390، والمغني 4 / 304 ط الرياض وحديث " لا يجمع. . . " - أخرجه البخاري وأبو داود وأحمد والترمذي والحاكم وغيرهم (فتح الباري 3 / 314 ط السلفية) .
(2) الفتاوى الهندية 6 / 390، وإعلام المرقعين 3 / 347، والمرافقات 2 / 387، والمغني 10 / 396، والمخارج في الحيل ص 87 وما بعدها نشر مكتبة المثني ببغداد. والآية من سورة (ص) / 44

(2/102)


لِقَصْدِ الشَّارِعِ؛ لأَِنَّ مُصَادَمَةَ الشَّارِعِ صُرَاحًا، عِلْمًا أَوْ ظَنًّا، مَمْنُوعٌ، كَمَا أَنَّ الْمَانِعَ إِنَّمَا مَنَعَ بِنَاءً عَلَى أَنَّ ذَلِكَ مُخَالِفٌ لِقَصْدِ الشَّارِعِ؛ وَلِمَا وُضِعَ فِي الأَْحْكَامِ مِنَ الْمَصَالِحِ.
وَمِنْ ذَلِكَ نِكَاحُ الْمُحَلِّل، فَإِنَّهُ تَحَيُّلٌ إِلَى رُجُوعِ الزَّوْجَةِ إِلَى مُطَلِّقِهَا الأَْوَّل بِحِيلَةٍ تُوَافِقُ فِي الظَّاهِرِ قَوْلَهُ اللَّهِ تَعَالَى: {فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلاَ تَحِل لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} (1) فَقَدْ نَكَحَتِ الْمَرْأَةُ هَذَا الْمُحَلِّل، فَكَانَ رُجُوعُهَا إِلَى الأَْوَّل بَعْدَ تَطْلِيقِ الثَّانِي مُوَافِقًا. وَنُصُوصُ الشَّارِعِ مُفْهِمَةٌ لِمَقَاصِدِهِ، وَمِنْ ذَلِكَ بُيُوعُ الآْجَال (2) .
5 - وَأَكْثَرُ الَّذِينَ أَخَذُوا بِالاِحْتِيَال هُمُ الْحَنَفِيَّةُ فَالشَّافِعِيَّةُ. أَمَّا الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ فَإِنَّ الأَْصْل عِنْدَهُمْ هُوَ مَنْعُ الاِحْتِيَال غَالِبًا، وَهُوَ لاَ يُفِيدُ فِي الْعِبَادَاتِ وَلاَ فِي الْمُعَامَلاَتِ؛ لأَِنَّ تَجْوِيزَ الْحِيَل يُنَاقِضُ سَدَّ الذَّرَائِعِ، فَإِنَّ الشَّارِعَ يَسُدُّ الطَّرِيقَ إِلَى الْمَفَاسِدِ بِكُل مُمْكِنٍ، وَالْمُحْتَال يَفْتَحُ الطَّرِيقَ إِلَيْهَا بِحِيلَةٍ (3) .

ثَانِيًا بِالْمَعْنَى الثَّانِي:
6 - الاِحْتِيَال بِالْحَقِّ مِنْ جِهَةِ الْمُحِيل يَكُونُ نَتِيجَةَ عَقْدِ الْحَوَالَةِ، فَالْحَوَالَةُ عَقْدٌ يَقْتَضِي نَقْل دَيْنٍ مِنْ ذِمَّةٍ إِلَى أُخْرَى، وَهِيَ مُسْتَثْنَاةٌ - كَمَا يَقُول بَعْضُ الْفُقَهَاءِ - مِنْ بَيْعِ الدَّيْنِ بِالدَّيْنِ.
__________
(1) سورة البقرة / 230
(2) الموافقات 2 / 388
(3) إعلام الموقعين 3 / 171، والشرح الصغير 1 / 601 ط دار المعارف، والفتاوى الهندية 6 / 390، والأشباه والنظائر 2 / 291، والموافقات 4 / 198

(2/103)


7 - وَهِيَ جَائِزَةٌ لِلْحَاجَةِ إِلَيْهَا. وَالأَْصْل فِيهَا قَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِذَا أُحِيل أَحَدُكُمْ عَلَى مَلِيءٍ فَلْيَحْتَل (1) وَالْحُكْمُ فِيهَا بَرَاءَةُ ذِمَّةِ الْمُحِيل مِنْ دَيْنِ الْمُحَال لَهُ. وَقَدِ اشْتَرَطَ الْفُقَهَاءُ لِصِحَّتِهَا شُرُوطًا، كَرِضَا الْمُحِيل الْمُحَال لَهُ، وَالْعِلْمِ بِمَا يُحَال بِهِ وَعَلَيْهِ (2) . وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ التَّفَاصِيل تُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ (حَوَالَةٌ) .

مَوَاطِنُ الْبَحْثِ:
8 - لِلاِحْتِيَال بِمَعْنَى الطُّرُقِ الَّتِي يَتَوَصَّل بِهَا الإِْنْسَانُ إِلَى غَرَضِهِ أَحْكَامٌ مُفَصَّلَةٌ فِي مُصْطَلَحِ (حِيلَةٌ) وَفِي كُتُبِ الأُْصُول وَلَهَا عَلاَقَتُهَا بِمَقَاصِدِ الشَّرِيعَةِ وَبِالذَّرَائِعِ. وَيُنْظَرُ فِي الْمُلْحَقِ الأُْصُولِيِّ.

إِحْدَادٌ

التَّعْرِيفُ:
1 - مِنْ مَعَانِي الإِْحْدَادِ فِي اللُّغَةِ: الْمَنْعُ، وَمِنْهُ
__________
(1) حديث " إذا أحيل. . . " متفق عليه من حديث أبي هريرة بلفظ " مطل الغني ظلم، وإذا اتبع أحدكم على مليء فليتبع " وأخرجه أحمد وابن أبي شيبة بلفظ " ومن أحيل على مليء فليحتل ". (الدراية 2 / 164) ورواه أصحاب السنن إلا الترمذي من حديث أبي الزناد، ورواه الترمذي من حديث ابن عمر نحوه (تلخيص الحبير 3 / 46)
(2) نهاية المحتاج 4 / 408 ط مصطفى الحلبي، ومنح الجليل 3 / 228 نشر ليبيا، والمغني 5 / 54

(2/103)


امْتِنَاعُ الْمَرْأَةِ عَنِ الزِّينَةِ وَمَا فِي مَعْنَاهَا إِظْهَارًا لِلْحُزْنِ (1) . وَهُوَ فِي الاِصْطِلاَحِ: امْتِنَاعُ الْمَرْأَةِ مِنَ الزِّينَةِ وَمَا فِي مَعْنَاهَا مُدَّةً مَخْصُوصَةً فِي أَحْوَالٍ مَخْصُوصَةٍ، وَكَذَلِكَ مِنَ الإِْحْدَادِ امْتِنَاعُهَا مِنَ الْبَيْتُوتَةِ فِي غَيْرِ مَنْزِلِهَا (2) .

الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
الاِعْتِدَادُ:
2 - وَهُوَ تَرَبُّصُ الْمَرْأَةِ مُدَّةً مُحَدَّدَةً شَرْعًا لِفِرَاقِ زَوْجِهَا بِوَفَاةٍ أَوْ طَلاَقٍ أَوْ فَسْخٍ.
وَالْعَلاَقَةُ بَيْنَ الاِعْتِدَادِ وَالإِْحْدَادِ أَنَّ الاِعْتِدَادَ طَرَفٌ لِلإِْحْدَادِ، فَفِي الْعِدَّةِ. تَتْرُكُ الْمَرْأَةُ زِينَتَهَا لِمَوْتِ زَوْجِهَا.

صِفَتُهُ (حُكْمُهُ التَّكْلِيفِيُّ) :
3 - أَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ عَلَى وُجُوبِ الإِْحْدَادِ فِي عِدَّةِ الْوَفَاةِ مِنْ نِكَاحٍ صَحِيحٍ وَلَوْ مِنْ غَيْرِ دُخُولٍ بِالزَّوْجَةِ.
وَالدَّلِيل عَلَى ذَلِكَ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لاَ يَحِل لاِمْرَأَةٍ تُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآْخِرِ أَنْ تُحِدَّ عَلَى مَيِّتٍ فَوْقَ ثَلاَثِ لَيَالٍ إِلاَّ عَلَى زَوْجٍ، أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا.
__________
(1) انظر لسان العرب، والمصباح المنير، ومختار الصحاح (حدد) .
(2) فتح القدير 3 / 293، وابن عابدين 2 / 616 وما بعدها الطبعة الأولى، والحطاب 4 / 154 مكتبة النجاح طرابلس - ليبيا، ونهاية المحتاج 7 / 140 ط الحلبي، والمغني لابن قدامة 9 / 166 ط المنار.

(2/104)


كَمَا أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّهُ لاَ إِحْدَادَ عَلَى الرَّجُل. وَقَدْ أَجْمَعُوا أَيْضًا عَلَى أَنَّهُ لاَ إِحْدَادَ عَلَى الْمُطَلَّقَةِ رَجْعِيًّا، بَل يُطْلَبُ مِنْهَا أَنْ تَتَعَرَّضَ لِمُطَلِّقِهَا وَتَتَزَيَّنَ لَهُ لَعَل اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا. عَلَى أَنَّ لِلشَّافِعِيِّ رَأْيًا بِأَنَّهُ يُسْتَحَبُّ لِلْمُطَلَّقَةِ رَجْعِيًّا الإِْحْدَادُ إِذَا لَمْ تَرْجُ الرَّجْعَةَ (1) .
4 - وَأَمَّا الْمُعْتَدَّةُ مِنْ طَلاَقٍ بَائِنٍ بَيْنُونَةً صُغْرَى أَوْ كُبْرَى فَقَدِ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِيهِ عَلَى اتِّجَاهَيْنِ:
الأَْوَّل: ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيُّ فِي قَدِيمِهِ، وَهُوَ إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ فِي مَذْهَبِ أَحْمَدَ، أَنَّ عَلَيْهَا الإِْحْدَادَ، لِفَوَاتِ نِعْمَةِ النِّكَاحِ. فَهِيَ تُشْبِهُ مِنْ وَجْهٍ مَنْ تُوُفِّيَ عَنْهَا زَوْجُهَا (2) .
الثَّانِي: ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيُّ فِي جَدِيدِهِ وَهُوَ إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنِ
الإِْمَامِ أَحْمَدَ
(وَقِيل فِي بَعْضِ الْكُتُبِ إِنَّهَا الْمَذْهَبُ) إِلاَّ أَنَّهُ لاَ إِحْدَادَ عَلَيْهَا؛ لأَِنَّ الزَّوْجَ هُوَ الَّذِي فَارَقَهَا نَابِذًا لَهَا، فَلاَ يَسْتَحِقُّ أَنْ تُحِدَّ عَلَيْهِ. وَإِلَى هَذَا ذَهَبَ جَمَاعَةٌ مِنَ التَّابِعِينَ، مِنْهُمْ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ، وَأَبُو ثَوْرٍ، وَعَطَاءٌ، وَرَبِيعَةُ، وَمَالِكٌ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ (3) . إِلاَّ أَنَّ الشَّافِعِيَّ يَرَى فِي جَدِيدِهِ أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ لَهَا أَنْ تُحِدَّ.
5 - وَأَمَّا الْمَنْكُوحَةُ نِكَاحًا فَاسِدًا إِذَا مَاتَ عَنْهَا
__________
(1) الجمل 4 / 458
(2) فتح القدير 3 / 291 ط الأميرية الكبرى سنة 1316 هـ الأولى، والمهذب للشيرازي 2 / 150 ط الحلبي الثانية، والمغني لابن قدامة 9 / 178 ط المنار.
(3) الخرشي 3 / 287، والمهذب للشيرازي 2 / 150 ط الحلبي، والمغني لابن قدامة مع حاشيته 3 / 289 المطبعة السلفية، والمغني لابن قدامة 9 / 178.

(2/104)


زَوْجُهَا فَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّهُ لاَ إِحْدَادَ عَلَيْهَا؛ لأَِنَّهَا لَيْسَتْ زَوْجَةً عَلَى الْحَقِيقَةِ، وَأَنَّ بَقَاءَ الزَّوَاجِ الْفَاسِدِ نِقْمَةٌ، وَزَوَالُهُ نِعْمَةٌ، فَلاَ مَحَل لِلإِْحْدَادِ.
وَذَهَبَ الْقَاضِي أَبُو يَعْلَى مِنَ الْحَنَابِلَةِ إِلَى وُجُوبِ الإِْحْدَادِ عَلَيْهَا تَبَعًا لِوُجُوبِ الْعِدَّةِ، وَذَهَبَ الْقَاضِي الْبَاجِيُّ الْمَالِكِيُّ إِلَى أَنَّهُ إِذَا ثَبَتَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ زَوْجِهَا الْمُتَوَفِّي شَيْءٌ مِنْ أَحْكَامِ النِّكَاحِ، كَالتَّوَارُثِ وَغَيْرِهِ، فَإِنَّهَا تَعْتَدُّ عِدَّةَ الْوَفَاةِ، وَيَلْزَمُهَا الإِْحْدَادُ (1) .
6 - أَمَّا إِحْدَادُ الْمَرْأَةِ عَلَى قَرِيبٍ غَيْرِ زَوْجٍ فَإِنَّهُ جَائِزٌ لِمُدَّةِ ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ فَقَطْ، وَيَحْرُمُ الزِّيَادَةُ عَلَيْهَا. وَالدَّلِيل عَلَى ذَلِكَ مَا رَوَتْهُ زَيْنَبُ بِنْتُ أَبِي سَلَمَةَ، قَالَتْ: لَمَّا أَتَى أُمَّ حَبِيبَةَ نَعْيُ أَبِي سُفْيَانَ دَعَتْ فِي الْيَوْمِ الثَّالِثِ بِصُفْرَةٍ، فَمَسَحَتْ بِهِ ذِرَاعَيْهَا وَعَارِضَيْهَا، وَقَالَتْ: كُنْتُ عَنْ هَذَا غَنِيَّةً، سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُول: لاَ يَحِل لاِمْرَأَةٍ تُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآْخِرِ أَنْ تُحِدَّ فَوْقَ ثَلاَثٍ إِلاَّ عَلَى زَوْجٍ فَإِنَّهَا تُحِدُّ عَلَيْهِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا. أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ، وَاللَّفْظُ لَهُ (2) .
وَلِلزَّوْجِ مَنْعُهَا مِنَ الإِْحْدَادِ عَلَى الْقَرِيبِ.
__________
(1) فتح القدير 4 / 164 ط الميمنية، وابن عابدين 2 / 617 ط أولى، وبدائع الصنائع 3 / 209 ط الأولى - الجمالية بمصر، والخرشي 3 / 287 ط أولى - الشرقية، والباجي على الموطأ 4 / 145 مكتبة السعادة بمصر، والأم 5 / 232 مطبعة الكليات الأزهرية، والمجموع شرح المهذب للشيرازي 27 / 32 نشر مكتبة الإرشاد بجدة، ونهاية المحتاج 7 / 140 ط الحلبي، والمغني لابن قدامة 9 / 166، 167 ط المنار، والكافي لابن قدامة 2 / 950 نشر المكتب الإسلامي بدمشق، ومغني المحتاج لشرح المنهاج 9 / 399 الحلبي 1377 هـ.
(2) صحيح مسلم بتحقيق عبد الباقي 2 / 1126

(2/105)


إِحْدَادُ زَوْجَةِ الْمَفْقُودِ:
7 - الْمَفْقُودُ: هُوَ مَنِ انْقَطَعَ خَبَرُهُ، وَلَمْ تُعْلَمْ حَيَاتُهُ مِنْ مَمَاتِهِ. فَإِذَا حُكِمَ بِاعْتِبَارِهِ مَيِّتًا فَقَدْ أَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّ زَوْجَتَهُ تَعْتَدُّ عِدَّةَ وَفَاةٍ مِنْ حِينِ الْحُكْمِ، وَلَكِنْ أَيَجِبُ عَلَيْهَا الإِْحْدَادُ؟ ذَهَبَ جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ إِلَى وُجُوبِهِ بِاعْتِبَارِ أَنَّهَا مُعْتَدَّةٌ عِدَّةَ وَفَاةٍ، فَتَأْخُذُ حُكْمَهَا. وَذَهَبَ ابْنُ الْمَاجِشُونِ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ إِلَى أَنَّهُ وَإِنْ وَجَبَتْ عَلَيْهَا الْعِدَّةُ فَإِنَّهُ لاَ إِحْدَادَ عَلَيْهَا (1) .

بَدْءُ مُدَّةِ الإِْحْدَادِ:
8 - يَبْدَأُ الإِْحْدَادُ عَقِيبَ الْوَفَاةِ سَوَاءٌ عَلِمَتِ الزَّوْجَةُ بِوَقْتِهَا، أَوْ تَأَخَّرَ عِلْمُهَا، وَعَقِيبَ الطَّلاَقِ الْبَائِنِ عِنْدَ مَنْ يَرَى ذَلِكَ. هَذَا إِذَا كَانَتِ الْوَفَاةُ وَالطَّلاَقُ مَعْلُومَيْنِ. أَمَّا إِذَا مَاتَ الزَّوْجُ، أَوْ طَلَّقَهَا، وَهُوَ بَعِيدٌ عَنْهَا فَيَبْدَأُ الإِْحْدَادُ مِنْ حِينِ عِلْمِهَا. وَلَيْسَ عَلَيْهَا قَضَاءُ مَا فَاتَ، وَيَنْقَضِي بِانْقِضَاءِ الْعِدَّةِ، وَإِذَا انْتَهَتْ مُدَّةُ الإِْحْدَادِ وَبَقِيَتْ مُحِدَّةً بِلاَ قَصْدٍ فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهَا.

حِكْمَةُ تَشْرِيعِ الإِْحْدَادِ:
9 - شُرِعَ إِحْدَادُ الْمَرْأَةِ الْمُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجُهَا وَفَاءً لِلزَّوْجِ، وَمُرَاعَاةً لِحَقِّهِ الْعَظِيمِ عَلَيْهَا، فَإِنَّ الرَّابِطَةَ
__________
(1) الفتاوى الهندية 2 / 300 ط الأميرية سنة 1310 هـ، والشرح الكبير وحاشية الدسوقي على 2 / 478 مطبعة إحياء الكتب العربية، وشرح الخرشي على مختصر خليل 3 / 287، 288 ط الشرقية سنة 1316 هـ، وشرح روض الطالب 3 / 400 نشر المكتبة الإسلامية ببيروت، والمقنع في فقه الحنابلة لابن قدامة 3 / 281، والكافي في فقه الحنابلة لابن قدامة 2 / 937، والشرح الكبير وحاشية الدسوقي عليه 2 / 479 ط الحلبي.

(2/105)


الزَّوْجِيَّةَ أَقْدَسُ رِبَاطٍ، فَلاَ يَصِحُّ شَرْعًا وَلاَ أَدَبًا أَنْ تَنْسَى ذَلِكَ الْجَمِيل، وَتَتَجَاهَل حَقَّ الزَّوْجِيَّةِ الَّتِي كَانَتْ بَيْنَهُمَا. وَلَيْسَ مِنَ الْوَفَاءِ أَنْ يَمُوتَ زَوْجُهَا مِنْ هُنَا، ثُمَّ تَنْغَمِسُ فِي الزِّينَةِ وَتَرْتَدِي الثِّيَابَ الزَّاهِيَةَ الْمُعَطَّرَةَ، وَتَتَحَوَّل عَنْ مَنْزِل الزَّوْجِيَّةِ، كَأَنَّ عِشْرَةً لَمْ تَكُنْ بَيْنَهُمَا. وَقَدْ كَانَتِ الْمَرْأَةُ قَبْل الإِْسْلاَمِ تُحِدُّ عَلَى زَوْجِهَا حَوْلاً كَامِلاً تَفَجُّعًا وَحُزْنًا عَلَى وَفَاتِهِ، فَنَسَخَ اللَّهُ ذَلِكَ وَجَعَلَهُ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا.
هَكَذَا قَرَّرَ عُلَمَاءُ أَئِمَّةِ الْمَذَاهِبِ الأَْرْبَعَةِ فِيمَا يُسْتَخْلَصُ مِنْ كَلاَمِهِمْ عَلَى أَحْكَامِ الإِْحْدَادِ. فَقَدْ ذَكَرُوا " أَنَّ الْحِدَادَ وَاجِبٌ عَلَى مَنْ تُوُفِّيَ عَنْهَا زَوْجُهَا، إِظْهَارًا لِلتَّأَسُّفِ عَلَى مَمَاتِ زَوْجٍ وَفَّى بِعَهْدِهَا، وَعَلَى انْقِطَاعِ نِعْمَةِ النِّكَاحِ، وَهِيَ لَيْسَتْ نِعْمَةً دُنْيَوِيَّةً فَحَسْبُ، وَلَكِنَّهَا أَيْضًا أُخْرَوِيَّةٌ؛ لأَِنَّ النِّكَاحَ مِنْ أَسْبَابِ النَّجَاةِ فِي الْمَعَادِ وَالدُّنْيَا " وَشُرِعَ الإِْحْدَادُ أَيْضًا؛ لأَِنَّهُ يَمْنَعُ تَشَوُّفَ الرِّجَال إِلَيْهَا؛ لأَِنَّهَا إِذَا تَزَيَّنَتْ يُؤَدِّي إِلَى التَّشَوُّفِ، وَهُوَ يُؤَدِّي إِلَى الْعَقْدِ عَلَيْهَا، وَهُوَ يُؤَدِّي إِلَى الْوَطْءِ، وَهُوَ يُؤَدِّي إِلَى اخْتِلاَطِ الأَْنْسَابِ، وَهُوَ حَرَامٌ. وَمَا أَدَّى إِلَى الْحَرَامِ حَرَامٌ (1) ".

مَنْ تُحِدُّ وَمَنْ لاَ تُحِدُّ؟
10 - تَبَيَّنَ فِيمَا سَبَقَ مَنْ يُطْلَبُ مِنْهَا الإِْحْدَادُ فِي الْجُمْلَةِ. وَهُنَاكَ حَالاَتٌ وَقَعَ فِيهَا خِلاَفٌ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ، مِنْهَا: الْكِتَابِيَّةُ زَوْجَةُ الْمُسْلِمِ، وَالصَّغِيرَةُ.
11 - أَمَّا الْكِتَابِيَّةُ فَقَدْ ذَهَبَ مَالِكٌ - فِي رِوَايَةِ
__________
(1) حاشية سعدي جلبي على شرح فتح القدير 3 / 291 ط المطبعة الأميرية - بولاق القاهرة 1316 هـ.

(2/106)


ابْنِ الْقَاسِمِ - وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهَا يَجِبُ عَلَيْهَا الإِْحْدَادُ مُدَّةَ الْعِدَّةِ إِذَا مَاتَ زَوْجُهَا الْمُسْلِمُ، وَذَلِكَ؛ لأَِنَّ الإِْحْدَادَ تَبَعٌ لِلْعِدَّةِ فَمَتَى وَجَبَتْ عَلَيْهَا عِدَّةُ الْوَفَاةِ وَجَبَ عَلَيْهَا الإِْحْدَادُ. وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَمَالِكٌ فِي رِوَايَةِ أَشْهَبَ إِلَى أَنَّهُ لاَ إِحْدَادَ عَلَيْهَا؛ لأَِنَّ الإِْحْدَادَ مَطْلُوبٌ مِنَ الْمُسْلِمَةِ، لِظَاهِرِ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لاَ يَحِل لاِمْرَأَةٍ تُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآْخِرِ. . . الْحَدِيثَ.
(1) 12 - وَأَمَّا الصَّغِيرَةُ فَقَدْ ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّهَا تُحِدُّ، وَعَلَى وَلِيِّهَا أَنْ يَمْنَعَهَا مِنْ فِعْل مَا يُنَافِي الإِْحْدَادَ؛ لأَِنَّ الإِْحْدَادَ تَبَعٌ لِلْعِدَّةِ. وَلِمَا رُوِيَ عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ امْرَأَةً أَتَتِ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَتْ: يَا رَسُول اللَّهِ، إِنَّ ابْنَتِي تُوُفِّيَ عَنْهَا زَوْجُهَا وَقَدِ اشْتَكَتْ عَيْنَهَا أَفَتَكْحُلُهَا (2) ؟ فَقَال: لاَ. مَرَّتَيْنِ، أَوْ ثَلاَثًا، الْحَدِيثَ (3) وَلَمْ يَسْأَل عَنْ سِنِّهَا، وَتَرْكُ الاِسْتِفْصَال فِي مَقَامِ السُّؤَال دَلِيلٌ عَلَى الْعُمُومِ.
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى عَدَمِ وُجُوبِ الإِْحْدَادِ عَلَيْهَا لِحَدِيثِ رُفِعَ الْقَلَمُ عَنْ ثَلاَثٍ: عَنِ النَّائِمِ حَتَّى يَسْتَيْقِظَ، وَعَنِ الْمُبْتَلَى حَتَّى يَبْرَأَ، وَعَنِ الصَّبِيِّ حَتَّى يَكْبَرَ (4) . فَإِنْ بَلَغَتْ فِي الْعِدَّةِ حَدَّتْ فِيمَا بَقِيَ. وَمِثْلُهَا
__________
(1) تقدم تخريجه قريبا.
(2) لعل المنع من الاكتحال باعتباره زينة، مع وجود غيره لإزالة المرض والتداوي، فإذا تعين علاجا فقواعد الشرع لا تمنع من استعماله.
(3) حديث أم سلمة أخرجه البخاري (فتح الباري 9 / 484 ط السلفية) ومسلم وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه (تحقيق سنن أبي داود 2 / 389 ط دار السعادة بمصر) .
(4) حديث " رفع القلم عن ثلاث. . . ". رواه أحمد وأبو داود والنسائي وابن ماجه والدارقطني والحاكم، وقال: على شرطهما، ورواه ابن حبان وابن خزيمة من طرق عن علي وفيه قصة جرت له مع عمر علقها البخاري (فيض القدير 4 / 35)

(2/106)


الْمَجْنُونَةُ الْكَبِيرَةُ إِذَا أَفَاقَتْ. وَأَمَّا الأَْمَةُ فَالْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ يَلْزَمُهَا الإِْحْدَادُ مُدَّةَ عِدَّتِهَا؛ لِعُمُومِ الْحَدِيثِ فِي وُجُوبِ الإِْحْدَادِ، وَحَكَى الشَّافِعِيَّةُ الإِْجْمَاعَ عَلَى ذَلِكَ ". (1)

مَا تَتَجَنَّبُهُ الْمُحِدَّةُ:
13 - تَجْتَنِبُ الْمُحِدَّةُ كُل مَا يُعْتَبَرُ زِينَةً شَرْعًا أَوْ عُرْفًا، سَوَاءٌ أَكَانَ يَتَّصِل بِالْبَدَنِ أَوِ الثِّيَابِ أَوْ يَلْفِتُ الأَْنْظَارَ إِلَيْهَا، كَالْخُرُوجِ مِنْ مَسْكَنِهَا، أَوِ التَّعَرُّضِ لِلْخُطَّابِ. وَهَذَا الْقَدْرُ مُجْمَعٌ عَلَيْهِ فِي الْجُمْلَةِ.
وَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي بَعْضِ الْحَالاَتِ فَاعْتَبَرَهَا الْبَعْضُ مِنَ الْمَحْظُورَاتِ عَلَى الْمُحِدَّةِ، وَلَمْ يَعْتَبِرْهَا الآْخَرُونَ. وَذَلِكَ كَبَعْضِ الْمَلاَبِسِ الْمَصْبُوغَةِ، وَاخْتِلاَفِهِمْ فِي الْمَلاَبِسِ السَّوْدَاءِ وَالْبَيْضَاءِ وَالْمَصْبُوغَةِ بِغَيْرِ الزَّعْفَرَانِ وَالْمُعَصْفَرِ.
وَعِنْدَ التَّحْقِيقِ نَجِدُ أَنَّ اخْتِلاَفَهُمْ - فِيمَا عَدَا الْمَنْصُوصَ عَلَيْهِ - نَاشِئٌ عَنِ اخْتِلاَفِ الْعُرْفِ: فَمَا اعْتُبِرَ فِي الْعُرْفِ زِينَةً اعْتَبَرُوهُ مُحَرَّمًا، وَمَا لَمْ يُعْتَبَرِ اعْتُبِرَ مُبَاحًا. وَالْمَمْنُوعُ يَرْجِعُ كُلُّهُ إِمَّا إِلَى الْبَدَنِ، أَوِ الثِّيَابِ، أَوِ الْحُلِيِّ، أَوِ التَّعَرُّضِ لِلْخُطَّابِ، أَوِ الْبَيْتُوتَةِ.
14 - فَأَمَّا مَا يَتَّصِل بِالْبَدَنِ فَالَّذِي يَحْرُمُ عَلَيْهَا كُل مَا يُعْتَبَرُ مُرَغِّبًا فِيهَا مِنْ طِيبٍ وَخِضَابٍ وَكُحْلٍ لِلزِّينَةِ. وَمِنْ ذَلِكَ الأَْشْيَاءُ الْمُسْتَحْدَثَةُ لِلزِّينَةِ، وَلَيْسَ
__________
(1) فتح القدير 4 / 160 / 164 ط الميمنية. وانظر الباجي على الموطأ 4 / 144 ط السعادة 1332 هـ، والمغني لابن قدامة 9 / 166 المنار، والأم 5 / 232 ط مكتبة الكليات الأزهرية.

(2/107)


مِنْ ذَلِكَ مَا تَتَعَاطَاهُ الْمَرْأَةُ لِلتَّدَاوِي كَالْكُحْل وَالاِمْتِشَاطِ بِمُشْطٍ وَاسِعٍ لاَ طِيبَ فِيهِ.
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى كَرَاهِيَةِ الاِمْتِشَاطِ بِمُشْطِ الأَْسْنَانِ وَهُوَ بِلاَ طِيبٍ؛ لأَِنَّهُ يُعْتَبَرُ مِنَ الزِّينَةِ عِنْدَهُمْ. عَلَى أَنَّ مَنْ لاَ كَسْبَ لَهَا إِلاَّ مِنَ الاِتِّجَارِ بِالطِّيبِ أَوْ صِنَاعَتِهِ فَإِنَّ الشَّافِعِيَّةَ يَنُصُّونَ عَلَى جَوَازِ مَسِّهَا لَهُ.
وَهَذَا كُلُّهُ فِي بَدْءِ التَّطَيُّبِ بَعْدَ لُزُومِ الإِْحْدَادِ، أَمَّا لَوْ تَطَيَّبَتْ قَبْل ذَلِكَ فَهَل عَلَيْهَا إِزَالَتُهُ بَعْدَ لُزُومِ الإِْحْدَادِ؟ ذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ - إِلَى وُجُوبِ ذَلِكَ - وَهُوَ قَوْلٌ لِلْمَالِكِيَّةِ اخْتَارَهُ ابْنُ رُشْدٍ. وَالرَّأْيُ الآْخَرُ لِلْمَالِكِيَّةِ وَاخْتَارَهُ الْقَرَافِيُّ أَنَّهُ لَيْسَ عَلَيْهَا إِزَالَتُهُ.
15 - وَاخْتَلَفُوا فِي الأَْدْهَانِ غَيْرِ الْمُطَيِّبَةِ، كَالزَّيْتِ وَالشَّيْرَجِ، فَالْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ يَرَوْنَ أَنَّ اسْتِعْمَالَهَا مِنَ الزِّينَةِ الْمَمْنُوعَةِ عَلَى الْمُحِدَّةِ، خِلاَفًا لِلْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ (1) .
فَفِي حَدِيثِ أُمِّ سَلَمَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَخَل عَلَيْهَا حِينَ تُوُفِّيَ زَوْجُهَا أَبُو سَلَمَةَ، فَنَهَاهَا أَنْ تَمْتَشِطَ بِالطِّيبِ وَلاَ بِالْحِنَّاءِ، فَإِنَّهُ خِضَابٌ. قَالَتْ: قُلْتُ بِأَيِّ شَيْءٍ أَمْتَشِطُ؟ قَال: بِالسِّدْرِ تُغَلِّفِينَ بِهِ رَأْسَكِ (2) أَيْ تَجْعَلِينَ عَلَيْهِ مِنَ السِّدْرِ مَا يُشْبِهُ الْغُلاَفَ.
__________
(1) نهاية المحتاج 7 / 142، 143، وفتح القدير 14 / 162، 163، والخرشي 3 / 288 ط الشرقية، والمجموع للنووي 17 / 30 ط مطبعة الإرشاد بجدة، والحطاب 4 / 154، والمغني لابن قدامة 9 / 167 - 170 ط المنار، وابن عابدين 2 / 617 - 619، والشرح الكبير وحاشية الدسوقي 2 / 471 ط الحلبي.
(2) حديث أم سلمة أخرجه أبو داود والنسائي. وفيه أم أم حكيم، مجهولة (الشيخ محمد محيي الدين عبد الحميد في تحقيق سنن أبي داود 2 / 391، 392)

(2/107)


16 - وَأَمَّا مَا يَتَّصِل بِالْمَلاَبِسِ فَهُوَ كَمَا قُلْنَا كُل مَا جَرَى الْعُرْفُ بِاعْتِبَارِهِ زِينَةً، بِصَرْفِ النَّظَرِ عَنِ اللَّوْنِ، فَقَدْ يَكُونُ الثَّوْبُ الأَْسْوَدُ مَحْظُورًا إِذَا كَانَ يَزِيدُهَا جَمَالاً، أَوْ جَرَى الْعُرْفُ عِنْدَ قَوْمِهَا بِاعْتِبَارِهِ مِنْ مَلاَبِسِ الزِّينَةِ. وَلَكِنْ وَرَدَ النَّصُّ بِالنَّهْيِ عَنِ الْمُعَصْفَرِ وَالْمُزَعْفَرِ مِنَ الثِّيَابِ؛ لأَِنَّهُمَا يَفُوحُ مِنْهُمَا الطِّيبُ، لِحَدِيثِ أُمِّ عَطِيَّةَ فِي الصَّحِيحَيْنِ كُنَّا نُنْهَى أَنْ نُحِدَّ عَلَى مَيِّتٍ فَوْقَ ثَلاَثٍ، إِلاَّ عَلَى زَوْجٍ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا، وَأَنْ نَكْتَحِل، وَأَنْ نَتَطَيَّبَ، وَأَنْ نَلْبَسَ ثَوْبًا مَصْبُوغًا. (1)
وَأَمَّا مَنْ لَمْ يَكُنْ عِنْدَهَا إِلاَّ ثَوْبٌ وَاحِدٌ مِنَ الْمَنْهِيِّ عَنْ لُبْسِهِ فَلاَ يَحْرُمُ عَلَيْهَا لُبْسُهُ حَتَّى تَجِدَ غَيْرَهُ؛ لأَِنَّ سَتْرَ الْعَوْرَةِ أَوْجَبُ مِنَ الإِْحْدَادِ.
وَنُقِل عَنِ الْخِرَقِيِّ مِنَ الْحَنَابِلَةِ أَنَّهُ يَحْرُمُ عَلَيْهَا اسْتِعْمَال النِّقَابِ، فَإِنِ اضْطُرَّتْ إِلَى سَتْرِ وَجْهِهَا؛ فَلْتُسْدِل النِّقَابَ وَتُبْعِدْهُ عَنْ وَجْهِهَا وَذَلِكَ؛ لأَِنَّهُ اعْتَبَرَ الْمُحِدَّةَ كَالْمُحْرِمَةِ وَلَكِنَّ الْمَذْهَبَ عَلَى غَيْرِ ذَلِكَ فَلَهَا اسْتِعْمَال النِّقَابِ مُطْلَقًا (2) .
__________
(1) القليوبي وعميرة 4 / 52، 53 ط دار إحياء الكتب العربية، وبدائع الصنائع للكاساني 3 / 208 ط أولى، والمجموع شرح المهذب 17 / 27 - 35 مكتبة الإرشاد بجدة والفتاوى الهندية 1 / 533، 534، 557 المكتبة الإسلامية، والشرح الكبير بحاشية الدسوقي 2 / 478، 479. وحديث أم عطية أخرجه البخاري (فتع الباري 9 / 491) ورواه عبد الرزاق (المصنف 7 / 52 ط بيروت) وقال الشوكاني: أخرجاه (نيل الأوطار 7 / 97)
(2) الشرح الكبير للدردير 2 / 478، ومغني المحتاج 3 / 399 ط الحلبي، والمحرر في فقه الحنابلة 2 / 108 ط سنة 1369 هـ، والكافي 2 / 953 ط أولى، والفروع 3 / 323 ط المنار، والإنصاف 9 / 306 ط أولى، والشرح الصغير 2 / 343 ط دار المعارف.

(2/108)


17 - أَمَّا الْحُلِيُّ: فَقَدْ أَجْمَعَ الْفُقَهَاءُ عَلَى حُرْمَةِ الذَّهَبِ بِكُل صُوَرِهِ عَلَيْهَا، فَيَلْزَمُهَا أَنْ تَنْزِعَهُ حِينَمَا تَعْلَمَ بِمَوْتِ زَوْجِهَا، لاَ فَرْقَ فِي ذَلِكَ بَيْنَ الأَْسَاوِرِ وَالدَّمَالِجِ وَالْخَوَاتِمِ، وَمِثْلُهُ الْحُلِيُّ مِنَ الْجَوَاهِرِ. وَيُلْحَقُ بِهِ مَا يُتَّخَذُ لِلْحِلْيَةِ مِنْ غَيْرِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ كَالْعَاجِ وَغَيْرِهِ. وَجَوَّزَ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ لُبْسَ الْحُلِيِّ مِنَ الْفِضَّةِ، وَلَكِنَّهُ قَوْلٌ مَرْدُودٌ لِعُمُومِ النَّهْيِ عَنْ لُبْسِ الْحُلِيِّ عَلَى الْمُحِدَّةِ. وَقَصَرَ الْغَزَالِيُّ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ الإِْبَاحَةَ عَلَى لُبْسِ الْخَاتَمِ مِنَ الْفِضَّةِ؛ لأَِنَّهُ لَيْسَ مِمَّا تَخْتَصُّ بِحِلِّهِ النِّسَاءُ. وَيَحْرُمُ عَلَى الْمُحِدَّةِ التَّعَرُّضُ لِلْخُطَّابِ بِأَيِّ وَسِيلَةٍ مِنَ الْوَسَائِل تَلْمِيحًا أَوْ تَصْرِيحًا، لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيمَا رَوَاهُ النَّسَائِيُّ وَأَبُو دَاوُدَ: وَلاَ تَلْبَسُ الْمُعَصْفَرَ مِنَ الثِّيَابِ، وَلاَ الْحُلِيَّ. (1)

مَا يُبَاحُ لِلْمُحِدَّةِ:
18 - لِلْمُعْتَدَّةِ الْخُرُوجُ فِي حَوَائِجِهَا نَهَارًا سَوَاءٌ كَانَتْ مُطَلَّقَةً أَوْ مُتَوَفًّى عَنْهَا، لِمَا رَوَى جَابِرٌ قَال: طَلُقَتْ خَالَتِي ثَلاَثًا، فَخَرَجَتْ تَجُذَّ نَخْلَهَا، فَلَقِيَهَا رَجُلٌ فَنَهَاهَا. فَذَكَرَتْ ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
__________
(1) حاشية ابن عابدين 2 / 617، والشرح الكبير بحاشية الدسوقي 2 / 478، ونهاية المحتاج 7 / 141، 142، والمغني لابن قدامة 9 / 169. وحديث " ولا تلبس المعصفر. . . " أخرجه أبو داود من حديث أم سلمة (2 / 391 دار السعادة بمصر) ، والنسائي (6 / 203 المطبعة المصرية بمصر.)

(2/108)


فَقَال: اخْرُجِي فَجُذِّي نَخْلَكِ، لَعَلَّكِ أَنْ تَتَصَدَّقِي مِنْهُ أَوْ تَفْعَلِي خَيْرًا. رَوَاهُ النَّسَائِيُّ وَأَبُو دَاوُدَ (1) . وَرَوَى مُجَاهِدٌ قَال: اسْتُشْهِدَ رِجَالٌ يَوْمَ أُحُدٍ، فَجَاءَ نِسَاؤُهُمْ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقُلْنَ: يَا رَسُول اللَّهِ نَسْتَوْحِشُ بِاللَّيْل، أَفَنَبِيتُ عِنْدَ إِحْدَانَا، فَإِذَا أَصْبَحْنَا بَادَرْنَا إِلَى بُيُوتِنَا؟ فَقَال رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: تَحَدَّثْنَ عِنْدَ إِحْدَاكُنَّ، حَتَّى إِذَا أَرَدْتُنَّ النَّوْمَ فَلْتَؤُبْ كُل وَاحِدَةٍ إِلَى بَيْتِهَا. (2)
وَلَيْسَ لَهَا الْمَبِيتُ فِي غَيْرِ بَيْتِهَا، وَلاَ الْخُرُوجُ لَيْلاً إِلاَّ لِضَرُورَةٍ؛ لأَِنَّ اللَّيْل مَظِنَّةُ الْفَسَادِ، بِخِلاَفِ النَّهَارِ فَإِنَّهُ مَظِنَّةُ قَضَاءِ الْحَوَائِجِ وَالْمَعَاشِ وَشِرَاءِ مَا يُحْتَاجُ إِلَيْهِ. وَإِنْ وَجَبَ عَلَيْهَا حَقٌّ لاَ يُمْكِنُ اسْتِيفَاؤُهُ إِلاَّ بِهَا، كَالْيَمِينِ وَالْحَدِّ، وَكَانَتْ ذَاتَ خِدْرٍ، بَعَثَ إِلَيْهَا الْحَاكِمُ مَنْ يَسْتَوْفِي الْحَقَّ مِنْهَا فِي مَنْزِلِهَا. وَإِنْ كَانَتْ بَرْزَةً جَازَ إِحْضَارُهَا لاِسْتِيفَائِهِ. فَإِذَا فَرَغَتْ رَجَعَتْ إِلَى مَنْزِلِهَا (3) .
عَلَى أَنَّ الْمَالِكِيَّةَ صَرَّحُوا بِأَنَّهُ لاَ بَأْسَ لِلْمُحِدَّةِ أَنْ تَحْضُرَ الْعُرْسَ، وَلَكِنْ لاَ تَتَهَيَّأُ فِيهِ بِمَا لاَ تَلْبَسُهُ الْمُحِدَّةُ (4) .
اتَّفَقَ أَئِمَّةُ الْمَذَاهِبِ الأَْرْبَعَةِ عَلَى أَنَّهُ يُبَاحُ لِلْمُحِدَّةِ فِي عِدَّةِ وَفَاتِهَا الأَْشْيَاءُ التَّالِيَةُ (5) :
__________
(1) حديث جابر قال " طلقت خالتي ثلاثا. . . " رواه أحمد ومسلم وأبو داود وابن ماجه والنسائي (نيل الأوطار 7 / 97)
(2) رواية مجاهد " قال: استشهد رجال. . . " هكذا أوردها صاحب المغني. رواها عبد الرزاق (المصنف 7 / 36 ط الأولى بيروت) وقال " تبددنا " بدل " بادرنا ".
(3) المغني 7 / 526 ط الرياض.
(4) الخرشي على مختصر خليل 4 / 148 ط الشرقية 1316 هـ.
(5) حاشية ابن عابدين 2 / 618 ط أولى، والشرح الكبير وحاشية الدسوقي 2 / 479، والمجموع 17 / 34، والمحرر في فقه الحنابلة 2 / 108، والوجيز 2 / 99 ط الآداب والمؤيد سنة 1317 هـ، والمقنع 3 / 289 ط السلفية.

(2/109)


يُبَاحُ لَهَا أَنْ تَلْبَسَ ثَوْبًا غَيْرَ مَصْبُوغٍ صَبْغًا فِيهِ طِيبٌ وَإِنْ كَانَ نَفِيسًا. وَيُبَاحُ لَهَا مِنَ الثِّيَابِ كُل مَا جَرَى الْعُرْفُ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ بِزِينَةٍ مَهْمَا كَانَ لَوْنُهُ. وَلَمَّا كَانَ الإِْحْدَادُ خَاصًّا بِالزِّينَةِ فِي الْبَدَنِ أَوِ الْحُلِيِّ وَالثِّيَابِ عَلَى التَّفْصِيل السَّابِقِ، فَلاَ تُمْنَعُ مِنْ تَجْمِيل فِرَاشِ بَيْتِهَا، وَأَثَاثِهِ، وَسُتُورِهِ وَالْجُلُوسِ عَلَى أَثَاثٍ وَثِيرٍ.
وَلاَ بَأْسَ بِإِزَالَةِ الْوَسَخِ وَالتَّفَثِ مِنْ ثَوْبِهَا وَبَدَنِهَا، كَنَتْفِ الإِْبِطِ، وَتَقْلِيمِ الأَْظَافِرِ إِلَخْ، وَالاِغْتِسَال بِالصَّابُونِ غَيْرِ الْمُطَيِّبِ، وَغَسْل رَأْسِهَا وَيَدَيْهَا، وَلاَ يَخْفَى أَنَّ لِلْمَرْأَةِ الْمُحِدَّةِ أَنْ تُقَابِل مِنَ الرِّجَال الْبَالِغِينَ مَنْ لَهَا حَاجَةٌ إِلَى مُقَابَلَتِهِ مَا دَامَتْ غَيْرَ مُبْدِيَةٍ زِينَتَهَا وَلاَ مُخْتَلِيَةٍ بِهِ.

سَكَنُ الْمُحِدَّةِ:
19 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ مِنَ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ، وَلاَ سِيَّمَا أَصْحَابُ الْمَذَاهِبِ الأَْرْبَعَةِ، إِلَى أَنَّهُ يَجِبُ عَلَى الْمُعْتَدَّةِ مِنْ وَفَاةٍ أَنْ تَلْزَمَ بَيْتَ الزَّوْجِيَّةِ الَّذِي كَانَتْ تَسْكُنُهُ عِنْدَمَا بَلَغَهَا نَعْيُ زَوْجِهَا، سَوَاءٌ كَانَ هَذَا الْبَيْتُ مِلْكًا لِزَوْجِهَا، أَوْ مُعَارًا لَهُ، أَوْ مُسْتَأْجَرًا. وَلاَ فَرْقَ فِي ذَلِكَ بَيْنَ الْحَضَرِيَّةِ وَالْبَدَوِيَّةِ، وَالْحَائِل وَالْحَامِل. وَالأَْصْل فِي ذَلِكَ قَوْله تَعَالَى {لاَ تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ} (1) وَحَدِيثُ فُرَيْعَةَ بِنْتِ مَالِكٍ وَأَنَّهَا جَاءَتْ إِلَى رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَخْبَرَتْهُ
__________
(1) سورة الطلاق / 1

(2/109)


أَنَّ زَوْجَهَا خَرَجَ فِي طَلَبِ أَعْبُدٍ لَهُ فَقَتَلُوهُ بِطَرَفِ الْقَدُومِ، فَسَأَلْتُ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ أَرْجِعَ إِلَى أَهْلِي، فَإِنَّ زَوْجِي لَمْ يَتْرُكْنِي فِي مَسْكَنٍ يَمْلِكُهُ وَلاَ نَفَقَةَ. قَالَتْ: فَقَال رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: نَعَمْ. قَالَتْ: فَخَرَجْتُ حَتَّى إِذَا كُنْتُ فِي الْحُجْرَةِ، أَوْ فِي الْمَسْجِدِ دَعَانِي، أَوْ أَمَرَ بِي فَدُعِيتُ لَهُ، فَقَال رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: كَيْفَ قُلْتِ؟ فَرَدَدْتُ عَلَيْهِ الْقِصَّةَ، فَقَال: امْكُثِي فِي بَيْتِكِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ، فَاعْتَدَّتْ فِيهِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا، فَلَمَّا كَانَ عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَرْسَل إِلَيَّ فَسَأَلَنِي عَنْ ذَلِكَ، فَأَخْبَرْتُهُ، فَاتَّبَعَهُ وَقَضَى بِهِ. رَوَاهُ مَالِكٌ فِي الْمُوَطَّأِ (1) .
وَذَهَبَ جَابِرُ بْنُ زَيْدٍ وَالْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ وَعَطَاءٌ مِنَ التَّابِعِينَ إِلَى أَنَّهَا تَعْتَدُّ حَيْثُ شَاءَتْ. وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عَلِيٍّ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَجَابِرٍ وَعَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ.
وَحَاصِل مَا اسْتَدَلُّوا بِهِ: أَنَّ الآْيَةَ الَّتِي جَعَلَتْ عِدَّةَ الْمُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجُهَا أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا وَهِيَ قَوْله تَعَالَى {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا} (2) نَسَخَتِ الآْيَةَ الَّتِي جَعَلَتْ عِدَّةَ الْمُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجُهَا حَوْلاً، وَهِيَ قَوْله تَعَالَى {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا وَصِيَّةً لأَِزْوَاجِهِمْ مَتَاعًا إِلَى الْحَوْل غَيْرَ
__________
(1) حديث فريعة بنت مالك: في الموطأ بتحقيق محمد عبد الباقي ص 405 ط دار النفائس. بيروت. ورواه أبو داود 2 / 390، والنسائي 6 / 199 المطبعة المصرية بالأزهر. قال الشوكاني: رواه الخمسة وصححه الترمذي ولم يذكر النسائي وابن ماجه إرسال عثمان (نيل الأوطار 7 / 100 ط بيروت) .
(2) سورة البقرة / 234

(2/110)


إِخْرَاجٍ} . (1) وَالنَّسْخُ إِنَّمَا وَقَعَ عَلَى مَا زَادَ عَنْ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ وَعَشْرٍ، فَبَقِيَ مَا سِوَى ذَلِكَ مِنَ الأَْحْكَامِ، ثُمَّ جَاءَ الْمِيرَاثُ فَأَسْقَطَ تَعَلُّقَ حَقِّ إِسْكَانِهَا بِالتَّرِكَةِ.

مُسَوِّغَاتُ تَرْكِ مَسْكَنِ الإِْحْدَادِ:
20 - إِنْ طَرَأَ عَلَى الْمُحِدَّةِ مَا يَقْتَضِي تَحَوُّلَهَا عَنِ الْمَسْكَنِ الَّذِي وَجَبَ عَلَيْهَا الإِْحْدَادُ فِيهِ، جَازَ لَهَا الاِنْتِقَال إِلَى مَسْكَنٍ آخَرَ تَأْمَنُ فِيهِ عَلَى نَفْسِهَا وَمَالِهَا، كَأَنْ خَافَتْ هَدْمًا أَوْ عَدُوًّا، أَوْ أُخْرِجَتْ مِنَ السَّكَنِ مِنْ مُسْتَحِقٍّ أَخْذَهُ، كَمَا لَوْ كَانَ عَارِيَّةً أَوْ إِجَارَةً انْقَضَتْ مُدَّتُهَا، أَوْ مُنِعَتِ السُّكْنَى تَعَدِّيًا، أَوْ طُلِبَ بِهِ أَكْثَرُ مِنْ أُجْرَةِ الْمِثْل. وَإِذَا انْتَقَلَتْ تَنْتَقِل حَيْثُ شَاءَتْ إِلاَّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، وَهُوَ اخْتِيَارُ أَبِي الْخَطَّابِ مِنَ الْحَنَابِلَةِ، فَعَلَيْهَا أَنْ تَنْتَقِل إِلَى أَقْرَبِ مَا يُمْكِنُهَا الاِنْتِقَال إِلَيْهِ قِيَاسًا عَلَى مَا إِذَا وَجَبَتِ الزَّكَاةُ وَلَمْ يُوجَدْ مَنْ يَسْتَحِقُّهَا فِي مَكَانِ وُجُوبِهَا، فَإِنَّهَا تُنْقَل إِلَى أَقْرَبِ مَوْضِعٍ يَجِدُهُمْ فِيهِ. وَلِلْجُمْهُورِ أَنَّ الْوَاجِبَ سَقَطَ لِعُذْرٍ وَلَمْ يَرِدِ الشَّرْعُ لَهُ بِبَدَلٍ فَلاَ يَجِبُ، وَلِعَدَمِ النَّصِّ عَلَى اخْتِيَارِ الأَْقْرَبِ.
أَمَّا الْبَدَوِيَّةُ إِذَا انْتَقَل جَمِيعُ أَهْل الْمَحَلَّةِ الَّذِينَ هِيَ مَعَهُمْ أَوْ بَقِيَ مِنْهُمْ مَنْ لاَ تَأْمَنُ مَعَهُ عَلَى نَفْسِهَا وَمَالِهَا فَإِنَّهَا تَنْتَقِل عَنِ السَّكَنِ الَّذِي بَدَأَتْ فِيهِ الإِْحْدَادَ كَذَلِكَ. وَإِذَا مَاتَ رُبَّانُ السَّفِينَةِ، أَوْ أَحَدُ الْعَامِلِينَ فِيهَا، وَكَانَتْ مَعَهُ زَوْجَتُهُ، وَلَهَا مَسْكَنٌ خَاصٌّ بِهَا فِي
__________
(1) سورة البقرة / 240

(2/110)


السَّفِينَةِ، فَإِنَّهَا تُحِدُّ فِيهِ، وَتَجْرِي عَلَيْهَا الأَْحْكَامُ السَّابِقَةُ.

أُجْرَةُ سَكَنِ الْمُحِدَّةِ، وَنَفَقَتُهَا:
21 - اخْتَلَفَتْ مَذَاهِبُ الْفُقَهَاءِ فِيمَنْ يَلْزَمُهُ أَجْرُ سَكَنِ الْمُحِدَّةِ هَل هُوَ عَلَيْهَا أَمْ مِنْ مَال الْمُتَوَفَّى عَنْهَا. فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ أُجْرَةَ سَكَنِ الْمُحِدَّةِ مِنْ وَفَاةٍ، مِنْ مَالِهَا؛ لأَِنَّ الشَّرْعَ وَرَدَ بِتَوْرِيثِهَا، وَلَمْ يُثْبِتْ لَهَا أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ. أَمَّا الْمُحِدَّةُ مِنْ طَلاَقٍ بَائِنٍ - عِنْدَهُمْ - فَأُجْرَةُ سُكْنَاهَا عَلَى الزَّوْجِ؛ لأَِنَّ نَفَقَتَهَا عَلَيْهِ فِي مُدَّةِ الْعِدَّةِ، فَإِنْ دَفَعَتْ مِنْ مَالِهَا رَجَعَتْ عَلَيْهِ (1) .
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى التَّفْرِقَةِ بَيْنَ الْمَدْخُول بِهَا وَغَيْرِهَا، فَغَيْرُ الْمَدْخُول بِهَا سُكْنَاهَا مَعَ أَهْلِهَا أَوْ مِنْ مَالِهَا، لِلدَّلِيل السَّابِقِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ. وَأَمَّا الْمَدْخُول بِهَا فَإِنْ كَانَتْ تَسْكُنُ فِي مِلْكِهِ أَوْ فِي مَسْكَنٍ اسْتَأْجَرَهُ لَهَا وَعَجَّل أُجْرَتَهُ فَلَيْسَ لِلْوَرَثَةِ إِخْرَاجُهَا حَتَّى لَوْ بِيعَتِ الدَّارُ، فَيُسْتَثْنَى مِنْهَا مُدَّةُ إِحْدَادِهَا. فَإِنْ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ فَأُجْرَةُ سُكْنَاهَا مِنْ مَالِهَا، وَلَيْسَ لَهَا الرُّجُوعُ عَلَى مَال التَّرِكَةِ بِشَيْءٍ، سَوَاءٌ فِي ذَلِكَ الْحَامِل وَالْحَائِل (2) ".
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّ الْمُحِدَّةَ تَسْتَحِقُّ أُجْرَةَ السَّكَنِ مِنَ التَّرِكَةِ، بَل تَتَعَلَّقُ بِأَعْيَانِ التَّرِكَةِ. وَتُقَدَّمُ عَلَى مُؤْنَةِ التَّجْهِيزِ وَالدُّيُونِ الْمُرْسَلَةِ فِي الذِّمَّةِ فِي الأَْظْهَرِ، سَوَاءٌ أَكَانَتْ حَائِلاً أَمْ حَامِلاً، مَدْخُولاً بِهَا أَوْ غَيْرَ
__________
(1) رد المحتار 2 / 620، 621
(2) التاج والإكليل 4 / 162

(2/111)


مَدْخُولٍ (1) .
وَفِي غَيْرِ الأَْظْهَرِ أَنَّ أُجْرَةَ السُّكْنَى عَلَيْهَا؛ لأَِنَّهَا وَارِثَةٌ، فَتَلْزَمُهَا، كَالنَّفَقَةِ. وَهُنَاكَ قَوْلٌ آخَرُ: أَنَّ الَّذِي يُقَدَّمُ عَلَى مُؤْنَةِ التَّجْهِيزِ أُجْرَةُ سُكْنَى يَوْمِ الْوَفَاةِ، وَهَذَا إِذَا لَمْ تَكُنْ تَسْكُنُ فِيمَا يَمْلِكُهُ أَوْ يَمْلِكُ مَنْفَعَتَهُ أَوْ لَمْ يَكُنْ قَدْ عَجَّل الأُْجْرَةَ قَبْل الْوَفَاةِ. وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى التَّفْرِقَةِ بَيْنَ الْحَامِل وَالْحَائِل، فَالْحَائِل أُجْرَةُ سُكْنَاهَا فِي الإِْحْدَادِ مِنْ مَالِهَا بِلاَ خِلاَفٍ عِنْدَهُمْ، لِلدَّلِيل الْمَذْكُورِ سَابِقًا. وَأَمَّا الْحَامِل فَعِنْدَهُمْ رِوَايَتَانِ، إِحْدَاهُمَا: لَهَا أُجْرَةُ السُّكْنَى مِنْ مَال الْمُتَوَفَّى عَنْهَا؛ لأَِنَّهَا حَامِلٌ مِنْ زَوْجِهَا، فَكَانَتْ لَهَا السُّكْنَى وَالنَّفَقَةُ، كَالْمُفَارَقَةِ فِي الْحَيَاةِ.
وَالثَّانِيَةُ: لَيْسَ لَهَا ذَلِكَ. وَصَحَّحَ الْقَاضِي أَبُو يَعْلَى هَذِهِ الرِّوَايَةَ. هَذَا عَنْ أُجْرَةِ سُكْنَى الْمُحِدَّةِ، أَمَّا نَفَقَتُهَا فَمَوْطِنُ بَحْثِهِ مُصْطَلَحُ (عِدَّةٌ) ؛ لأَِنَّ حُكْمَ النَّفَقَةِ تَابِعٌ لِلاِعْتِدَادِ لاَ لِلإِْحْدَادِ.

حَجُّ الْمُحِدَّةِ:
22 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ لاَ تَخْرُجُ الْمُعْتَدَّةُ إِلَى الْحَجِّ فِي عِدَّةِ الْوَفَاةِ؛ لأَِنَّ الْحَجَّ لاَ يَفُوتُ، وَالْعِدَّةُ تَفُوتُ. رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عُمَرَ وَعُثْمَانَ، وَبِهِ قَال سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ وَالثَّوْرِيُّ وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ. وَرُوِيَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ قَال: تُوُفِّيَ أَزْوَاجٌ نِسَاؤُهُنَّ حَاجَّاتٌ أَوْ مُعْتَمِرَاتٌ، فَرَدَّهُنَّ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ
__________
(1) الجمل على شرح المنهج 4 / 461، ونهاية المحتاج 7 / 145، وشرح الروض 3 / 399، والمغني 9 / 291

(2/111)


مِنْ ذِي الْحُلَيْفَةِ حَتَّى يَعْتَدِدْنَ فِي بُيُوتِهِنَّ (1) . فَإِذَا خَرَجَتِ الْمَرْأَةُ إِلَى الْحَجِّ فَتُوُفِّيَ عَنْهَا زَوْجُهَا وَهِيَ بِالْقُرْبِ، أَيْ دُونَ مَسَافَةِ قَصْرِ الصَّلاَةِ، رَجَعَتْ لِتَقْضِيَ الْعِدَّةَ؛ لأَِنَّهَا فِي حُكْمِ الإِْقَامَةِ. وَمَتَى رَجَعَتْ وَقَدْ بَقِيَ مِنْ عِدَّتِهَا شَيْءٌ، أَتَتْ بِهِ فِي مَنْزِلِهَا (2) . وَإِنْ كَانَتْ قَدْ تَبَاعَدَتْ بِأَنْ قَطَعَتْ مَسَافَةَ الْقَصْرِ فَأَكْثَرَ، مَضَتْ فِي سَفَرِهَا؛ لأَِنَّ عَلَيْهَا فِي الرُّجُوعِ مَشَقَّةً، فَلاَ يَلْزَمُهَا. فَإِنْ خَافَتْ أَنْ تَتَعَرَّضَ لِمَخَاطِرَ فِي الرُّجُوعِ، مَضَتْ فِي سَفَرِهَا وَلَوْ كَانَتْ قَرِيبَةً؛ لأَِنَّ عَلَيْهَا ضَرَرًا فِي رُجُوعِهَا (3) . وَإِنْ أَحْرَمَتْ بَعْدَ مَوْتِهِ لَزِمَتْهَا الإِْقَامَةُ؛ لأَِنَّ الْعِدَّةَ أَسْبَقُ (4) .
وَفِي رَأْيٍ لِلْحَنَفِيَّةِ: أَنَّ الْمَرْأَةَ إِذَا خَرَجَتْ إِلَى الْحَجِّ، فَتُوُفِّيَ عَنْهَا زَوْجُهَا، فَالرُّجُوعُ أَوْلَى لِتَعْتَدَّ فِي مَنْزِلِهَا، فَلاَ يَنْبَغِي لِمُعْتَدَّةٍ أَنْ تَحُجَّ، وَلاَ تُسَافِرَ مَعَ مَحْرَمٍ أَوْ غَيْرِ مَحْرَمٍ، فَقَدْ تُوُفِّيَ أَزْوَاجٌ نِسَاؤُهُنَّ حَاجَّاتٌ أَوْ مُعْتَمِرَاتٌ، فَرَدَّهُنَّ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ
__________
(1) رواه سعيد، هكذا في المغني لابن قدامة 9 / 184 والشرح الكبير ط المنار، ولعلها (نساء هن) بدون الواو. وهو عند مالك في الموطأ بلفظ آخر (ص 406 ط دار النفايس) .
(2) المغني لابن قدامة 9 / 174 - 291 ط المنار، وابن عابدين 2 / 600 - 670 ط الأولى، والجوهرة النيرة 2 / 85 ط الخشاب، والخرشي على مختصر خليل 3 / 290، 332، والمجموع 17 / 164، والمنتقى شرح الموطأ للباجي 4 / 136 ط السعادة والكافي 2 / 982 ط الأولى.
(3) فتح القدير 3 / 218 ط الأميرية، ونهاية المحتاج 7 / 143، والقليوبي 4 / 56 ط الحلبي، والشرح الكبير مع المغني لابن قدامة 9 / 183، 166، 167 ط المنار، والكافي لابن قدامة 2 / 948
(4) ومثله تعذر العودة بسبب ظروف وسائل السفر الحديثة.

(2/112)


مِنْ قَصْرِ النَّجَفِ. فَدَل عَلَى أَنَّ الْمُعْتَدَّةَ تُمْنَعُ مِنْ ذَلِكَ (1) . أَمَّا الْمَالِكِيَّةُ فَيَقُولُونَ: إِذَا أَحْرَمَتْ بِحَجٍّ أَوْ عُمْرَةٍ، ثُمَّ طَرَأَتْ عَلَيْهَا عِدَّةٌ بِأَنْ تُوُفِّيَ زَوْجُهَا، بَقِيَتْ عَلَى مَا هِيَ فِيهِ، وَلاَ تَرْجِعُ لِمَسْكَنِهَا لِتَعْتَدَّ بِهِ؛ لأَِنَّ الْحَجَّ سَابِقٌ عَلَى الْعِدَّةِ. وَإِنْ أَحْرَمَتْ بِحَجٍّ أَوْ عُمْرَةٍ بَعْدَ مُوجِبِ الْعِدَّةِ مِنْ طَلاَقٍ أَوْ وَفَاةٍ، فَإِنَّهَا تَمْضِي عَلَى إِحْرَامِهَا الطَّارِئِ، وَأَثِمَتْ بِإِدْخَال الإِْحْرَامِ عَلَى نَفْسِهَا بَعْدَ الْعِدَّةِ بِخُرُوجِهَا مِنْ مَسْكَنِهَا (2) .
وَلَمْ يَعْتَبِرِ الشَّافِعِيَّةُ الْمَسَافَةَ الَّتِي تَقْطَعُهَا الْمُحِدَّةُ الْمُحْرِمَةُ بِالأَْيَّامِ الَّتِي تُقْصَرُ فِيهَا الصَّلاَةُ. وَلَكِنْ قَالُوا: إِنْ فَارَقَتِ الْبُنْيَانَ، فَلَهَا الْخِيَارُ بَيْنَ الرُّجُوعِ وَالتَّمَامِ؛ لأَِنَّهَا صَارَتْ فِي مَوْضِعٍ أَذِنَ لَهَا زَوْجُهَا فِيهِ وَهُوَ السَّفَرُ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ بَعُدَتْ (3) .
23 - وَمِثْل الْحَجِّ كُل سَفَرٍ، فَلَيْسَ لَهَا أَنْ تُنْشِئَ ذَلِكَ السَّفَرَ وَهِيَ مُحِدَّةٌ. وَذَهَبَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ إِلَى أَنَّهُ إِذَا كَانَ مَعَهَا مَحْرَمٌ فَلاَ بَأْسَ بِأَنْ تَخْرُجَ مِنَ الْمِصْرِ قَبْل أَنْ تَعْتَدَّ (4) .
وَحَاصِل مَا تُفِيدُهُ عِبَارَاتُ فُقَهَاءِ الْمَذَاهِبِ الْمُخْتَلِفَةِ أَنَّهُ إِذَا أَذِنَ الزَّوْجُ بِالسَّفَرِ لِزَوْجَتِهِ، ثُمَّ طَلَّقَهَا، أَوْ مَاتَ عَنْهَا وَبَلَغَهَا الْخَبَرُ، فَإِنْ كَانَ الطَّلاَقُ رَجْعِيًّا فَلاَ يَتَغَيَّرُ الْحُكْمُ؛ لِقِيَامِ الزَّوْجِيَّةِ، حَتَّى لَوْ كَانَ مَعَهَا فِي السَّفَرِ تَمْضِي مَعَهُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَعَهَا وَالطَّلاَقُ بَائِنٌ وَكَانَتْ
__________
(1) المبسوط للسرخسي 6 / 36 ط السعادة.
(2) الشرح الكبير للدردير، وحاشية الدسوقي عليه 2 / 486
(3) نهاية المحتاج 7 / 143
(4) فتح القدير 3 / 299

(2/112)


أَقْرَبَ إِلَى بَيْتِ الزَّوْجِيَّةِ وَجَبَ عَلَيْهَا أَنْ تَعُودَ لِتَعْتَدَّ وَتُحِدَّ فِي بَيْتِ الزَّوْجِيَّةِ. وَإِنْ كَانَتْ أَقْرَبَ إِلَى مَقْصِدِهَا فَهِيَ مُخَيَّرَةٌ بَيْنَ الْمُضِيِّ إِلَى مَقْصِدِهَا وَبَيْنَ الْعَوْدَةِ، وَالْعَوْدَةُ أَوْلَى. إِلاَّ أَنَّ الْمَالِكِيَّةَ يُوجِبُونَ الْعَوْدَةَ، وَلَوْ بَلَغَتْ مَقْصِدَهَا، مَا لَمْ تُقِمْ سِتَّةَ أَشْهُرٍ، إِلاَّ إِذَا كَانَتْ فِي حَجَّةِ الإِْسْلاَمِ وَأَحْرَمَتْ فَإِنَّهَا تَمْضِي عِنْدَهُمْ فِي حَجَّتِهَا (1) .

اعْتِكَافُ الْمُحِدَّةِ:
24 - الْمُعْتَكِفَةُ إِذَا تُوُفِّيَ عَنْهَا زَوْجُهَا، لَزِمَهَا الْخُرُوجُ لِقَضَاءِ الْعِدَّةِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ؛ لأَِنَّ خُرُوجَهَا لِقَضَاءِ الْعِدَّةِ أَمْرٌ ضَرُورِيٌّ، كَمَا إِذَا خَرَجَ الْمُعْتَكِفُ لِلْجُمُعَةِ وَسَائِرِ الْوَاجِبَاتِ، كَإِنْقَاذِ غَرِيقٍ، أَوْ إِطْفَاءِ حَرِيقٍ، أَوْ أَدَاءِ شَهَادَةٍ تَعَيَّنَ عَلَيْهِ، أَوْ لِفِتْنَةٍ يَخْشَاهَا عَلَى نَفْسِهِ أَوْ أَهْلِهِ أَوْ مَالِهِ.
وَإِذَا خَرَجَتِ الْمُعْتَكِفَةُ لِهَذِهِ الضَّرُورَاتِ، فَهَل يَبْطُل اعْتِكَافُهَا؟ وَهَل تَلْزَمُهَا كَفَّارَةُ يَمِينٍ، أَوْ لاَ كَفَّارَةَ عَلَيْهَا؟ ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ، وَهُوَ أَصَحُّ الْقَوْلَيْنِ لِلشَّافِعِيَّةِ، أَنَّهُ لاَ يَبْطُل اعْتِكَافُهَا، فَتَقْضِي عِدَّتَهَا، ثُمَّ تَعُودُ إِلَى الْمَسْجِدِ، وَتَبْنِي عَلَى مَا مَضَى مِنَ اعْتِكَافِهَا.
وَالْقَوْل الثَّانِي لِلشَّافِعِيَّةِ: يَبْطُل اعْتِكَافُهَا، وَقَدْ
__________
(1) فتح القدير 3 / 298، 299، والدسوقي 2 / 485، والمواق 4 / 163، والخرشي 4 / 157، 158، والمغني 9 / 186 ط الأولى، وشرح الروض 3 / 404، والجمل 4 / 465

(2/113)


خَرَّجَهُ ابْنُ سُرَيْجٍ، وَذَكَرَ الْبَغَوِيُّ أَنَّهَا إِذَا لَزِمَهَا الْخُرُوجُ لِلْعِدَّةِ، فَمَكَثَتْ فِي الاِعْتِكَافِ، عَصَتْ وَأَجْزَأَهَا الاِعْتِكَافُ. قَالَهُ الدَّارِمِيُّ (1) .
أَمَّا الْمَالِكِيَّةُ فَيَقُولُونَ: " تَمْضِي الْمُعْتَكِفَةُ عَلَى اعْتِكَافِهَا إِنْ طَرَأَتْ عَلَيْهَا عِدَّةٌ مِنْ وَفَاةٍ أَوْ طَلاَقٍ. وَبِهَذَا قَال رَبِيعَةُ وَابْنُ الْمُنْذِرِ. أَمَّا إِذَا طَرَأَ اعْتِكَافٌ عَلَى عِدَّةٍ فَلاَ تَخْرُجُ لَهُ، بَل تَبْقَى فِي بَيْتِهَا حَتَّى تُتِمَّ عِدَّتَهَا، فَلاَ تَخْرُجُ لِلطَّارِئِ، بَل تَسْتَمِرُّ عَلَى السَّابِقِ (2) " (ر: اعْتِكَافٌ) .

عُقُوبَةُ غَيْرِ الْمُلْتَزِمَةِ بِالإِْحْدَادِ:
25 - يُسْتَفَادُ مِنْ كَلاَمِ أَئِمَّةِ الْمَذَاهِبِ الأَْرْبَعَةِ فِي الإِْحْدَادِ أَنَّ الْمُحِدَّةَ الْمُكَلَّفَةَ لَوْ تَرَكَتِ الإِْحْدَادَ الْوَاجِبَ كُل الْمُدَّةِ أَوْ بَعْضَهَا، فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ عَنْ جَهْلٍ فَلاَ حَرَجَ، وَإِنْ كَانَ عَمْدًا، فَقَدْ أَثِمَتْ مَتَى عَلِمَتْ حُرْمَةَ ذَلِكَ، كَمَا قَالَهُ ابْنُ الْمُقْرِي مِنَ الشَّافِعِيَّةِ. وَلَكِنَّهَا لاَ تُعِيدُ الإِْحْدَادَ؛ لأَِنَّ وَقْتَهُ قَدْ مَضَى، وَلاَ يَجُوزُ عَمَل شَيْءٍ فِي غَيْرِ مَوْضِعِهِ فِي غَيْرِ وَقْتِهِ، وَانْقَضَتِ الْعِدَّةُ مَعَ الْعِصْيَانِ، كَمَا لَوْ فَارَقَتِ الْمُعْتَدَّةُ الْمَسْكَنَ الَّذِي يَجِبُ عَلَيْهَا مُلاَزَمَتُهُ بِلاَ عُذْرٍ، فَإِنَّهَا تَعْصِي وَتَنْقَضِي عِدَّتُهَا. (ف 24) وَعَلَى وَلِيِّ غَيْرِ الْمُكَلَّفَةِ إِلْزَامُهَا بِالإِْحْدَادِ فِي مُدَّتِهِ وَإِلاَّ كَانَ آثِمًا.
__________
(1) تبيين الحقائق شرح الكنز 1 / 351 ط الأمير بولاق سنة 1313 هـ، والبحر الرائق 2 / 326 المطبعة العلمية، والفتاوى الهندية 1 / 212، والمجموع 6 / 445، 446، والمغني لابن قدامة 3 / 207
(2) الشرح الكبير وحاشية الدسوقي عليه 2 / 486

(2/113)


وَلَمْ تَرِدْ فِي الشَّرْعِ عُقُوبَةٌ مُحَدَّدَةٌ لِمَنْ تَرَكَتِ الإِْحْدَادَ، وَلَكِنَّهَا تُوصَفُ بِأَنَّهَا عَصَتْ (1) .
هَذَا وَمِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّ الإِْمَامَ مِنْ حَقِّهِ أَنْ يُعَزِّرَ الْمَرْأَةَ الْمُكَلَّفَةَ عَلَى تَرْكِ الإِْحْدَادِ إِذَا تَعَمَّدَتْ ذَلِكَ بِمَا يَرَاهُ مِنْ وَسَائِل التَّعْزِيرِ.
26 - وَإِذَا أَمَرَ الْمُطَلِّقُ أَوِ الْمَيِّتُ قَبْل الْمَوْتِ، الزَّوْجَةَ بِتَرْكِ الإِْحْدَادِ، فَلاَ تَتْرُكُهُ؛ لأَِنَّهُ حَقُّ الشَّرْعِ، فَلاَ يَمْلِكُ الْعَبْدُ إِسْقَاطَهُ؛ لأَِنَّ هَذِهِ الأَْشْيَاءَ دَوَاعِي الرَّغْبَةِ، وَهِيَ مَمْنُوعَةٌ عَنِ النِّكَاحِ فَتَجْتَنِبُهَا لِئَلاَّ تَصِيرَ ذَرِيعَةً إِلَى الْوُقُوعِ فِي الْمُحَرَّمِ.

إِحْرَازٌ

التَّعْرِيفُ:
1 - الإِْحْرَازُ لُغَةً: حِفْظُ الشَّيْءِ وَصِيَانَتُهُ عَنِ الأَْخْذِ (2) .
وَلاَ يَخْرُجُ اسْتِعْمَال الْفُقَهَاءِ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ الْمَذْكُورِ (3) فَقَدْ عَرَّفَهُ النَّسَفِيُّ بِأَنَّهُ: جَعْل الشَّيْءِ فِي الْحِرْزِ، وَهُوَ الْمَوْضِعُ الْحَصِينُ.
__________
(1) الزواجر لابن حبر 2 / 63 ط دار المعرفة، ونهاية المحتاج 7 / 143، والمغني لابن قدامة 9 / 166 وما بعدها، وحاشية ابن عابدين 2 / 617، والمحلى لابن حزم 10 / 281 ط المنيرية.
(2) القاموس المحيط، وتاج العروس، والنهاية لابن الأثير
(3) ابن عابدين 3 / 194 وما بعدها ط بولاق، وطلبة الطلبة ص 77 المطبعة العامرة، والصاوي على الشرح الصغير 4 / 477 ط دار المعارف.

(2/114)


هَذَا وَالإِْحْرَازُ إِمَّا أَنْ يَكُونَ بِحَصَانَةِ مَوْضِعِهِ، وَهُوَ كُل بُقْعَةٍ مُعَدَّةٍ لِلإِْحْرَازِ، مَمْنُوعٍ مِنَ الدُّخُول فِيهَا إِلاَّ بِإِذْنٍ، كَالدُّورِ وَالْحَوَانِيتِ وَالْخِيَمِ وَالْخَزَائِنِ وَالصَّنَادِيقِ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ بِحَافِظٍ يَحْرُسُهُ.
وَالْمُحَكَّمُ فِي الْحِرْزِ الْعُرْفُ، إِذْ لَمْ يُحَدَّ فِي الشَّرْعِ وَلاَ فِي اللُّغَةِ. وَهُوَ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلاَفِ الأَْمْوَال وَالأَْحْوَال وَالأَْوْقَاتِ. وَضَبَطَهُ الْغَزَالِيُّ بِمَا لاَ يُعَدُّ صَاحِبُهُ مُضَيِّعًا لَهُ. (1)
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
2 - الْحِيَازَةُ: هِيَ وَضْعُ الْيَدِ عَلَى الشَّيْءِ وَالاِسْتِيلاَءُ عَلَيْهِ (2) . وَقَدْ يَكُونُ الشَّيْءُ الْمَحُوزُ فِي حِرْزٍ أَوْ لاَ يَكُونُ، لِهَذَا فَالْحِيَازَةُ أَعَمُّ مِنَ الإِْحْرَازِ.

3 - الاِسْتِيلاَءُ: هُوَ الْقَهْرُ وَالْغَلَبَةُ وَلَوْ حُكْمًا (3) فِي أَخْذِ الشَّيْءِ مِنْ حِرْزِهِ وَوَضْعِ الْيَدِ عَلَيْهِ. فَهُوَ مُخْتَلِفٌ أَيْضًا عَنْ مُطْلَقِ الإِْحْرَازِ، وَأَخَصُّ مِنْهُ.

الْحُكْمُ الإِْجْمَالِيُّ:
4 - الإِْحْرَازُ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ شَرْطٌ مِنْ شُرُوطِ الْقَطْعِ فِي السَّرِقَةِ لِلْمَال الْمَمْلُوكِ (4) .
__________
(1) ابن عابدين 3 / 194 وما بعدها، ومغني المحتاج 4 / 164 ط مصطفى الحلبي.
(2) الشرح الصغير 4 / 319 ط دار المعارف.
(3) القليوبي 3 / 26 ط عيسى الحلبي.
(4) البدائع 9 / 4223 وما بعدها مطبعة الإمام، والشرح الصغير 4 / 469 وما بعدها ط دار المعارف، وشرح منهاج الطالبين مع القليوبي وعميرة 4 / 190 ط مصطفى الحلبي، والمغني 10 / 429 ط الأولى.

(2/114)


مَوَاطِنُ الْبَحْثِ:
5 - يُبْحَثُ الإِْحْرَازُ فِي السَّرِقَةِ عِنْدَ الْحَدِيثِ عَنْ شُرُوطِهَا، وَفِي الْعُقُودِ الَّتِي بِهَا ضَمَانٌ كَالْوَدِيعَةِ وَغَيْرِهَا (1) .

إِحْرَاقٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الإِْحْرَاقُ لُغَةً مَصْدَرُ أَحْرَقَ. أَمَّا اسْتِعْمَالُهُ الْفِقْهِيُّ فَيُؤْخَذُ مِنْ عِبَارَاتِ بَعْضِ الْفُقَهَاءِ أَنَّ الإِْحْرَاقَ هُوَ إِذْهَابُ النَّارِ الشَّيْءَ بِالْكُلِّيَّةِ، أَوْ تَأْثِيرُهَا فِيهِ مَعَ بَقَائِهِ، وَمِنْ أَمْثِلَةِ النَّوْعِ الأَْخِيرِ: الْكَيُّ وَالشَّيُّ (2)
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
2 - لِلإِْحْرَاقِ صِلَةٌ بِأَلْفَاظٍ اصْطِلاَحِيَّةٍ كَثِيرَةٍ أَهَمُّهَا:
أ - الإِْتْلاَفُ: وَهُوَ الإِْفْنَاءُ، وَهُوَ أَعَمُّ مِنَ الإِْحْرَاقِ.
ب - التَّسْخِينُ: وَهُوَ تَعْرِيضُ الشَّيْءِ لِلْحَرَارَةِ، فَهُوَ غَيْرُ الإِْحْرَاقِ.
ج - الْغَلْيُ: وَهُوَ آخِرُ دَرَجَاتِ التَّسْخِينِ، وَيَخْتَلِفُ
__________
(1) البدائع 8 / 3881 وما بعدها، والخرشي 6 / 108 ط دار صادر، ونهاية المحتاج 6 / 109 ط مصطفى الحلبي، والمغني 7 / 280
(2) لسان العرب (حرق) والدسوقي 3 / 354

(2/115)


بِاخْتِلاَفِ الْمَادَّةِ الْمُرَادُ غَلْيُهَا، فَهُوَ غَيْرُ الإِْحْرَاقِ.

صِفَتُهُ (حُكْمُهُ التَّكْلِيفِيُّ) :
3 - يَخْتَلِفُ حُكْمُ الإِْحْرَاقِ بِاخْتِلاَفِ مَا يُرَادُ إِحْرَاقُهُ، فَتَعْتَرِيهِ الأَْحْكَامُ التَّكْلِيفِيَّةُ الْخَمْسَةُ.

أَثَرُ الإِْحْرَاقِ مِنْ حَيْثُ التَّطْهِيرُ:
4 - ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ فِي الْمُعْتَمَدِ وَمُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ وَهُوَ الْمُخْتَارُ لِلْفَتْوَى وَهُوَ غَيْرُ ظَاهِرِ الْمَذْهَبِ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ إِلَى أَنَّ الإِْحْرَاقَ إِذَا تَبَدَّلَتْ بِهِ الْعَيْنُ النَّجِسَةُ بِتَبَدُّل أَوْصَافِهَا أَوِ انْقِلاَبِ حَقِيقَتِهَا حَتَّى صَارَتْ شَيْئًا آخَرَ، وَذَلِكَ كَالْمَيْتَةِ إِذَا احْتَرَقَتْ فَصَارَتْ رَمَادًا أَوْ دُخَانًا، فَإِنَّ مَا يَتَخَلَّفُ مِنَ الإِْحْرَاقِ يَكُونُ طَاهِرًا، وَمِنْ بَابِ أَوْلَى إِذَا كَانَتِ الْعَيْنُ طَاهِرَةً فِي الأَْصْل وَتَنَجَّسَتْ، كَالثَّوْبِ الْمُتَنَجِّسِ.
وَدَلِيلُهُمْ قِيَاسُ ذَلِكَ عَلَى الْخَمْرِ إِذَا تَخَلَّلَتْ وَالإِْهَابِ إِذَا دُبِغَ.
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ فِي غَيْرِ الْمُعْتَمَدِ، وَأَبُو يُوسُفَ، وَهُوَ ظَاهِرُ الْمَذْهَبِ الْحَنْبَلِيِّ، إِلَى أَنَّ الإِْحْرَاقَ لاَ يَجْعَل مَا يَتَخَلَّفُ مِنْهُ شَيْئًا آخَرَ، فَيَبْقَى عَلَى نَجَاسَتِهِ. وَسَوَاءٌ فِي ذَلِكَ الْعَيْنُ النَّجِسَةُ، أَوِ الْمُتَنَجِّسَةُ، لِقِيَامِ النَّجَاسَةِ؛ لأَِنَّ الْمُتَخَلِّفَ مِنَ الإِْحْرَاقِ جُزْءٌ مِنَ الْعَيْنِ النَّجِسَةِ.
وَفَصَّل بَعْضُ الْمَالِكِيَّةِ فَقَالُوا: إِنْ أَكَلَتِ النَّارُ النَّجَاسَةَ أَكْلاً قَوِيًّا فَرَمَادُهَا طَاهِرٌ، وَإِلاَّ فَنَجِسٌ (1) .
__________
(1) فتح القدير 1 / 139، وحاشية الدسوقي 1 / 57، 58، والمغني 1 / 60، والبدائع 1 / 85، ونهاية المحتاج 1 / 230، وروضة الطالبين 1 / 29، 30، وابن عابدين 1 / 332

(2/115)


هَذَا وَإِنَّ مَنْ قَال مِنَ الْفُقَهَاءِ بِنَجَاسَةِ الْمُتَخَلِّفِ مِنْ إِحْرَاقِ النَّجِسِ ذَهَبُوا إِلَى أَنَّهُ يُعْفَى عَنْ قَلِيلِهِ لِلضَّرُورَةِ؛ وَلأَِنَّ الْمَشَقَّةَ تَجْلُبُ التَّيْسِيرَ.

طَهَارَةُ الأَْرْضِ بِالشَّمْسِ وَالنَّارِ:
5 - إِذَا أَصَابَتِ الأَْرْضَ نَجَاسَةٌ، فَجَفَّتْ بِالشَّمْسِ أَوِ النَّارِ، وَذَهَبَ أَثَرُهَا، وَهُوَ هُنَا اللَّوْنُ وَالرَّائِحَةُ، جَازَتِ الصَّلاَةُ مَكَانَهَا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، وَاسْتَدَلُّوا بِقَوْل النَّبِيِّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: ذَكَاةُ الأَْرْضِ يُبْسُهَا. (1) وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ قَال: كُنْتُ أَبِيتُ فِي الْمَسْجِدِ فِي عَهْدِ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكُنْتُ فَتًى شَابًّا عَزَبًا، وَكَانَتِ الْكِلاَبُ تَبُول وَتُقْبِل وَتُدْبِرُ فِي الْمَسْجِدِ وَلَمْ يَكُونُوا يَرُشُّونَ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ. (2)
كَمَا ذَهَبُوا إِلَى أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ التَّيَمُّمُ بِهِ؛ لأَِنَّ طَهَارَةَ الصَّعِيدِ شَرْطٌ بِنَصِّ الْكِتَابِ وَقَال اللَّهُ تَعَالَى: {فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا} (3) وَطَهَارَةُ الأَْرْضِ بِالْجَفَافِ ثَبَتَتْ بِدَلِيلٍ ظَنِّيٍّ، فَلاَ يَتَحَقَّقُ بِهَا الطَّهَارَةُ الْقَطْعِيَّةُ الْمَطْلُوبَةُ لِلتَّيَمُّمِ بِنَصِّ الآْيَةِ. وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَزُفَرُ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ إِلَى أَنَّ الأَْرْضَ لاَ تَطْهُرُ بِالْجَفَافِ، وَلاَ يَجُوزُ
__________
(1) حديث " زكاة الأرض يبسها " قال السخاوي لا يصح مرفوعا وقد ذكره ابن أبي شيبة من قول محمد بن علي بن الحسين وابن الحنفية وأبي قلابة، وذكره عبد الرزاق من قول أبي قلابة بلفظ " جفوف الأرض ظهورها " (المقاصد الحسنة ص 220) .
(2) حديث ابن عمر رواه البخاري وأبو داود (عون المعبود 1 / 146 الطبعة الهندية) .
(3) سورة النساء / 43، وسورة المائدة / 6

(2/116)


الصَّلاَةُ عَلَى مَكَانِهَا وَلاَ التَّيَمُّمُ بِهَا؛ لأَِنَّ النَّجَاسَةَ حَصَلَتْ فِي الْمَكَانِ، وَالْمُزِيل لَمْ يُوجَدْ (1) .

تَمْوِيهُ الْمَعَادِنِ بِالنَّجِسِ:
6 - الإِْجْمَاعُ عَلَى أَنَّهُ لَوْ سُقِيَ الْحَدِيدُ بِنَجِسٍ، فَغُسِل ثَلاَثًا، يَطْهُرُ ظَاهِرُهُ، فَإِذَا اسْتُعْمِل بَعْدَئِذٍ فِي شَيْءٍ لاَ يَنْجُسُ. وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ عَدَا مُحَمَّدٍ وَهُوَ وَجْهٌ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّهُ يَطْهُرُ مُطْلَقًا لَوْ سُقِيَ بِالطَّاهِرِ ثَلاَثًا، وَذَلِكَ بِالنِّسْبَةِ لِحَمْلِهِ فِي الصَّلاَةِ. وَعِنْدَ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ أَنَّهُ لاَ يَطْهُرُ أَبَدًا.
وَهَذَا بِالنِّسْبَةِ لِلْحَمْل فِي الصَّلاَةِ. أَمَّا لَوْ غُسِل ثَلاَثًا ثُمَّ قُطِعَ بِهِ نَحْوُ بِطِّيخٍ، أَوْ وَقَعَ فِي مَاءٍ قَلِيلٍ، لاَ يُنَجِّسُهُ. فَالْغُسْل يُطَهِّرُ ظَاهِرَهُ إِجْمَاعًا.
وَهُنَاكَ قَوْلٌ آخَرُ لِلشَّافِعِيَّةِ، اخْتَارَهُ الشَّاشِيُّ، أَنَّهُ يُكْتَفَى لِتَطْهِيرِ الْحَدِيدِ الْمَسْقِيِّ بِنَجِسٍ بِتَطْهِيرِهِ ظَاهِرًا؛ لأَِنَّ الطَّهَارَةَ كُلَّهَا جُعِلَتْ عَلَى مَا يَظْهَرُ لاَ عَلَى الْجَوْفِ. وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ إِنْ سُقِيَ الْحَدِيدُ الْمُحْمَى وَالنُّحَاسُ وَغَيْرُهُمَا بِنَجِسٍ لاَ يُنَجِّسُهُمَا وَيَبْقَيَانِ عَلَى طَهَارَتِهِمَا لِعَدَمِ سَرَيَانِ النَّجَاسَةِ فِيهِمَا لاِنْدِفَاعِ النَّجَاسَةِ بِالْحَرَارَةِ (2) .
__________
(1) فتح القدير 1 / 138، 139، وروضة الطالبين 1 / 29، وابن عابدين 1 / 311، والمغني 1 / 739 مع الشرح الكبير، والحطاب 1 / 158، 159
(2) روضة الطالبين 1 / 30، وابن عابدين 1 / 222، وحاشية الدسوقي 1 / 60

(2/116)


الاِسْتِصْبَاحُ بِالنَّجِسِ وَالْمُتَنَجِّسِ
الاِسْتِصْبَاحُ بِالدُّهْنِ النَّجِسِ:
7 - عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ، وَهُوَ ظَاهِرُ الرِّوَايَةِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، شُحُومُ الْمَيْتَةِ لاَ يَجُوزُ الاِسْتِصْبَاحُ بِهَا. وَعَلَّلُوا ذَلِكَ بِأَنَّهُ عَيْنُ النَّجَاسَةِ وَجُزْؤُهَا. وَيُؤَيِّدُهُ مَا فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ عَنْ جَابِرٍ أَنَّهُ سَمِعَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَامَ الْفَتْحِ يَقُول وَهُوَ بِمَكَّةَ: إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَ بَيْعَ الْخَمْرِ وَالْمَيْتَةِ وَالْخِنْزِيرِ وَالأَْصْنَامِ. فَقِيل: يَا رَسُول اللَّهِ أَرَأَيْتَ شُحُومَ الْمَيْتَةِ، فَإِنَّهُ يُطْلَى بِهَا السُّفُنُ، وَيُدْهَنُ بِهَا الْجُلُودُ، وَيَسْتَصْبِحُ بِهَا النَّاسُ؟ قَال: لاَ، هُوَ حَرَامٌ. (1) الْحَدِيثَ.
وَنَحْوُهُمُ الْمَالِكِيَّةُ حَيْثُ قَالُوا: لاَ يُنْتَفَعُ بِالنَّجِسِ إِلاَّ شَحْمُ مَيْتَةٍ لِدَهْنِ الْعَجَلاَتِ وَنَحْوِهَا. وَذَلِكَ فِي غَيْرِ مَسْجِدٍ، لاَ فِيهِ. وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ: يَحِل مَعَ الْكَرَاهَةِ فِي غَيْرِ الْمَسْجِدِ الاِسْتِصْبَاحُ بِالدُّهْنِ النَّجِسِ (2) .

الاِسْتِصْبَاحُ بِالدُّهْنِ الْمُتَنَجِّسِ:
8 - اخْتَلَفَتِ الآْرَاءُ فِي الاِسْتِصْبَاحِ بِالأَْدْهَانِ الْمُتَنَجِّسَةِ:
__________
(1) حديث " أرأيت شحوم الميتة. . . " رواه أيضا مسلم وتمامه " ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم عند ذلك: قاتل الله اليهود إن الله لما حرم شحومها جملوه ثم باعوه فأكلوا ثمنه " وفي بعض رواياته " إن الله ورسوله حرما. . . الحديث " (فتح الباري 4 / 424 ط السلفية) .
(2) المغني 4 / 15، وحاشية ابن عابدين 1 / 330، 331 و 5 / 73، وحاشية الدسوقي 1 / 60، 61، ونهاية المحتاج، وحاشية الشبراملسي 2 / 373

(2/117)


ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ فِي الْمَشْهُورِ عِنْدَهُمْ وَهُوَ رِوَايَةٌ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ اخْتَارَهَا الْخِرَقِيُّ، أَنَّهُ يَجُوزُ الاِسْتِصْبَاحُ بِهِ فِي غَيْرِ الْمَسْجِدِ، إِلاَّ إِذَا كَانَ الْمِصْبَاحُ خَارِجَ الْمَسْجِدِ وَالضَّوْءُ فِيهِ فَيَجُوزُ؛ لأَِنَّهُ أَمْكَنَ الاِنْتِفَاعُ بِهِ مِنْ غَيْرِ ضَرَرٍ، فَجَازَ كَالطَّاهِرِ. وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنِ ابْنِ عُمَرَ.
وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ فِي الرِّوَايَةِ الأُْخْرَى، وَهُوَ اخْتِيَارُ ابْنِ الْمُنْذِرِ، إِلَى أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ مُطْلَقًا؛ لأَِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُئِل عَنْ شُحُومِ الْمَيْتَةِ تُطْلَى بِهَا السُّفُنُ، وَتُدْهَنُ بِهَا الْجُلُودُ، وَيَسْتَصْبِحُ بِهَا النَّاسُ؟ فَقَال: لاَ، هُوَ حَرَامٌ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ (1) . فَقَدْ سَوَّوْا بَيْنَ النَّجِسِ وَالْمُتَنَجِّسِ.

دُخَانُ وَبُخَارُ النَّجَاسَةِ الْمُحْرَقَةِ:
9 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ فِي الصَّحِيحِ عِنْدَهُمْ وَهُوَ الْمُعْتَمَدُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَهُوَ اخْتِيَارُ ابْنِ رُشْدٍ وَبَعْضٍ مِنْ مُتَأَخِّرِي الشَّافِعِيَّةِ وَهُوَ غَيْرُ ظَاهِرِ الْمَذْهَبِ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ إِلَى الْقَوْل بِالطَّهَارَةِ مُطْلَقًا.
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ فِي مُقَابِل الصَّحِيحِ، وَهُوَ ظَاهِرُ الْمَذْهَبِ الْحَنْبَلِيِّ، وَاخْتَارَهُ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ اللَّخْمِيُّ وَالتُّونِسِيُّ وَالْمَازِرِيُّ وَأَبُو الْحَسَنِ وَابْنُ عَرَفَةَ وَوَصَفَهُ بَعْضُهُمْ بِأَنَّهُ الْمَشْهُورُ، إِلَى عَدَمِ طَهَارَةِ الدُّخَانِ الْمُتَصَاعِدِ مِنْ وَقُودِ النَّجَاسَةِ، وَالْبُخَارِ الْمُتَصَاعِدِ مِنَ الْمَاءِ النَّجِسِ إِذَا اجْتَمَعَتْ مِنْهُ نَدَاوَةٌ عَلَى جِسْمٍ صَقِيلٍ ثُمَّ قُطِّرَ فَهُوَ نَجِسٌ، وَمَا يُصِيبُ الثَّوْبَ مِنْ بُخَارِ النَّجَاسَةِ يُنَجِّسُهُ.
__________
(1) المغني مع الشرح الكبير 4 / 15

(2/117)


وَذَهَبَ بَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ إِلَى أَنَّ دُخَانَ النَّجَاسَةِ نَجِسٌ يُعْفَى عَنْ قَلِيلِهِ. وَبُخَارُ النَّجَاسَةِ إِذَا تَصَاعَدَ بِوَاسِطَةِ نَارٍ نَجِسٌ؛ لأَِنَّ أَجْزَاءَ النَّجَاسَةِ تَفْصِلُهَا النَّارُ بِقُوَّتِهَا فَيُعْفَى عَنْ قَلِيلِهِ.
وَإِذَا طُبِخَ طَعَامٌ بِرَوْثِ آدَمِيٍّ، أَوْ بَهِيمَةٍ، أَوْ أُوقِدَ بِهِ تَحْتَ هِبَابٍ فَصَارَ نَشَادِرًا، فَالطَّعَامُ طَاهِرٌ إِنْ لَمْ يَكُنْ مَا أَصَابَهُ مِنْ دُخَانِ النَّجَاسَةِ كَثِيرًا، وَإِلاَّ تَنَجَّسَ. وَكَذَا النَّشَادِرُ إِنْ كَانَ هِبَابُهُ طَاهِرًا، وَإِلاَّ فَهُوَ نَجِسٌ. فَالْهِبَابُ الْمَعْرُوفُ الْمُتَّخَذُ مِنْ دُخَانِ السِّرْجِينِ أَوِ الزَّيْتِ الْمُتَنَجِّسِ إِذَا أُوقِدَ بِهِ نَجِسٌ، كَالرَّمَادِ، وَيُعْفَى عَنْ قَلِيلِهِ؛ لأَِنَّ الْمَشَقَّةَ تَجْلُبُ التَّيْسِيرَ (1) .

التَّيَمُّمُ بِالرَّمَادِ:
10 - كُل شَيْءٍ أُحْرِقَ حَتَّى صَارَ رَمَادًا لَمْ يَجُزِ التَّيَمُّمُ بِهِ بِالإِْجْمَاعِ. أَمَّا مَا أُحْرِقَ وَلَمْ يَصِرْ رَمَادًا فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَهُوَ أَصَحُّ الأَْقْوَال عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، إِلَى جَوَازِ التَّيَمُّمِ مِنْهُ؛ لأَِنَّهُ بِالإِْحْرَاقِ لَمْ يَخْرُجْ عَنْ أَصْلِهِ. وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ، وَهُوَ الْمُعْتَمَدُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ، وَقَوْلٌ لِلشَّافِعِيَّةِ، إِلَى أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ التَّيَمُّمُ بِكُل مَا احْتَرَقَ، لِخُرُوجِهِ بِذَلِكَ عَنْ كَوْنِهِ صَعِيدًا.
__________
(1) الفتاوى الهندية 1 / 47، وحاشية ابن عابدين 1 / 325، وحاشية الدسوقي 1 / 38، 58، ومغني المحتاج 1 / 81، ونهاية المحتاج إلى شرح المنهاج مع حاشية الشبراملسي القاهري 1 / 229، 230، 2 / 173، وروضة الطالبين 2 / 61، والمغني لابن قدامة 1 / 60

(2/118)


وَتَفْصِيل مَا يَصِحُّ التَّيَمُّمُ مِنْهُ وَمَا لاَ يَصِحُّ فِي مُصْطَلَحِ (تَيَمُّمٌ) . (1)

الْمَاءُ الْمُتَجَمِّعُ تَحْتَ الْجِلْدِ بِالاِحْتِرَاقِ (النَّفِطَةُ) :
11 - النَّفِطَةُ تَحْتَ الْجِلْدِ لاَ يُحْكَمُ عَلَيْهَا بِنَجَاسَةٍ وَلاَ نَقْضٍ لِلْوُضُوءِ. أَمَّا إِذَا خَرَجَ مَاؤُهَا فَقَدْ أَجْمَعُوا عَلَى نَجَاسَتِهِ، وَيُعْفَى عَمَّا يُعْتَبَرُ مِنْهُ قَلِيلاً تَبَعًا لِكُل مَذْهَبٍ فِي ضَابِطِ الْقِلَّةِ وَالْكَثْرَةِ فِي الْمَعْفُوَّاتِ. أَمَّا نَقْضُ الْوُضُوءِ بِخُرُوجِهِ فَهُوَ مَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ إِنْ سَال عَنْ مَكَانِهِ، وَالْحَنَابِلَةِ إِنْ كَانَ فَاحِشًا، خِلاَفًا لِلْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ فَهُوَ غَيْرُ نَاقِضٍ عِنْدَهُمْ، كَمَا يُسْتَفَادُ مِنْ عَدَمِ ذِكْرِهِمْ لَهُ بَيْنَ نَوَاقِضِ الْوُضُوءِ (2) .

تَغْسِيل الْمَيِّتِ الْمُحْتَرِقِ:
12 - ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّ مَنِ احْتَرَقَ بِالنَّارِ يُغَسَّل كَغَيْرِهِ مِنَ الْمَوْتَى إِنْ أَمْكَنَ تَغْسِيلُهُ؛ لأَِنَّ الَّذِي لاَ يُغَسَّل إِنَّمَا هُوَ شَهِيدُ الْمَعْرَكَةِ وَلَوْ كَانَ مُحْتَرِقًا بِفِعْلٍ مِنْ أَفْعَالِهَا. أَمَّا الْمُحْتَرِقُ خَارِجَ الْمَعْرَكَةِ فَهُوَ مِنْ شُهَدَاءِ الآْخِرَةِ. وَلاَ تَجْرِي عَلَيْهِ أَحْكَامُ شُهَدَاءِ الْمَعْرَكَةِ (3) .
فَإِنْ خِيفَ تَقَطُّعُهُ بِالْغُسْل يُصَبُّ عَلَيْهِ الْمَاءُ صَبًّا
__________
(1) ابن عابدين 1 / 241، وحاشية السوقي 1 / 156، ونهاية المحتاج 1 / 261، 274، 275، والمغني لابن قدامة 1 / 249، 250، ومغني المحتاج 1 / 96، وروضة الطالبين 1 / 109
(2) الطحطاوي على مراقي الفلاح ص 48، والدسوقي 1 / 56، 57، 73، ونهاية المحتاج - ونواقض الوضوء والمغني مع الشرح الكبير 1 / 177
(3) حاشية ابن عابدين 2 / 249، والفتاوى الهندية 1 / 167، 168، وفتح القدير 1 / 474، وبدائع الصنائع 1 / 323، والمغني 2 / 401، وحاشية الدسوقي 1 / 407

(2/118)


وَلاَ يُمَسُّ. فَإِنْ خِيفَ تَقَطُّعُهُ بِصَبِّ الْمَاءِ لَمْ يُغَسَّل وَيُيَمَّمُ إِنْ أَمْكَنَ، كَالْحَيِّ الَّذِي يُؤْذِيهِ الْمَاءُ. وَإِنْ تَعَذَّرَ غُسْل بَعْضِهِ دُونَ بَعْضٍ غُسِّل مَا أَمْكَنَ غُسْلُهُ وَيُيَمَّمُ الْبَاقِي كَالْحَيِّ سَوَاءً (1) .

الصَّلاَةُ عَلَى الْمُحْتَرِقِ الْمُتَرَمِّدِ:
13 - ذَهَبَ ابْنُ حَبِيبٍ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةُ وَبَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ إِلَى أَنَّهُ يُصَلَّى عَلَيْهِ مَعَ تَعَذُّرِ الْغُسْل وَالتَّيَمُّمِ؛ لأَِنَّهُ لاَ وَجْهَ لِتَرْكِ الصَّلاَةِ عَلَيْهِ؛ لأَِنَّ الْمَيْسُورَ لاَ يَسْقُطُ بِالْمَعْسُورِ، لِمَا صَحَّ مِنْ قَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: وَإِذَا أَمَرْتُكُمْ بِأَمْرٍ فَأْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ (2) ، وَلأَِنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ هَذِهِ الصَّلاَةِ الدُّعَاءُ وَالشَّفَاعَةُ لِلْمَيِّتِ.
أَمَّا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَجُمْهُورِ الشَّافِعِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ فَلاَ يُصَلَّى عَلَيْهِ؛ لأَِنَّ بَعْضَهُمْ يَشْتَرِطُ لِصِحَّةِ الصَّلاَةِ عَلَى الْجِنَازَةِ تَقَدُّمَ غُسْل الْمَيِّتِ، وَبَعْضُهُمْ يَشْتَرِطُ حُضُورَهُ أَوْ أَكْثَرِهِ، فَلَمَّا تَعَذَّرَ غُسْلُهُ وَتَيَمُّمُهُ لَمْ يُصَل عَلَيْهِ لِفَوَاتِ الشَّرْطِ (3) .
__________
(1) المبسوط للسرخسي 2 / 52، وبدائع الصنائع 1 / 320، ونهاية المحتاج 3 / 19، ومغني المحتاج 1 / 358، وروضة الطالبين 2 / 108، وحاشية الدسوقي 1 / 410، والمغني لابن قدامة 2 / 407
(2) حديث " إذا أمرتكم. . . " رواه أحمد ومسلم والنسائي وابن ماجه (الفتح الكبير 2 / 120) .
(3) مراقي الفلاح مع حاشية الطحطاري ص 319

(2/119)


الدَّفْنُ فِي التَّابُوتِ:
14 - يُكْرَهُ دَفْنُ الْمَيِّتِ فِي تَابُوتٍ بِالإِْجْمَاعِ؛ لأَِنَّهُ بِدْعَةٌ، وَلاَ تُنَفَّذُ وَصِيَّتُهُ بِذَلِكَ،
وَلاَ يُكْرَهُ لِلْمَصْلَحَةِ، وَمِنْهَا الْمَيِّتُ الْمُحْتَرِقُ إِذَا دَعَتِ الْحَاجَةُ إِلَى ذَلِكَ (1) .

الإِْحْرَاقُ
فِي الْحُدُودِ وَالْقِصَاصِ وَالتَّعْزِيرِ
الإِْحْرَاقُ الْعَمْدُ:
15 - يُعْتَبَرُ الإِْحْرَاقُ بِالنَّارِ عَمْدًا جِنَايَةُ عَمْدٍ. وَتَجْرِي عَلَيْهِ أَحْكَامُ الْعَمْدِ؛ لأَِنَّهَا تَعْمَل عَمَل الْمُحَدَّدِ.
وَتَفْصِيلُهُ فِي (الْجِنَايَاتِ) . (2)
الْقِصَاصُ بِالإِْحْرَاقِ:
16 - ذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ؛ وَهُوَ الْمَشْهُورُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ، وَرِوَايَةٌ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ، إِلَى قَتْل الْقَاتِل بِمَا قَتَل بِهِ وَلَوْ نَارًا. وَيَكُونُ الْقِصَاصُ بِالنَّارِ مُسْتَثْنًى مِنَ النَّهْيِ عَنِ التَّعْذِيبِ بِهَا. وَاسْتَدَلُّوا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْل مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ} (3) وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْل مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} (4) وَبِمَا أَخْرَجَهُ الْبَيْهَقِيُّ وَالْبَزَّارُ عَنِ النَّبِيِّ
__________
(1) ابن عابدين 2 / 234، 235، وحاشية الدسوقي 1 / 419، ومغني المحتاج 1 / 360، ونهاية المحتاج 3 / 30، والمغني 2 / 409،0 415
(2) المغني " لابن قدامة 9 / 325، 326، ونتائج الأفكار 8 / 245، وحاشية ابن عابدين 6 / 527، 528، ومغني المحتاج 4 / 8، والدسوقي 4 / 312
(3) سورة النحل / 126
(4) سورة البقرة / 164

(2/119)


صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ حَدِيثِ الْبَرَاءِ، وَفِيهِ: مَنْ حَرَقَ حَرَقْنَاهُ. (1)
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ، وَهُوَ غَيْرُ الْمَشْهُورِ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ، وَالْمُعْتَمَدُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ، إِلَى أَنَّ الْقَوَدَ لاَ يَكُونُ إِلاَّ بِالسَّيْفِ وَإِنْ قَتَل بِغَيْرِهِ، فَلَوِ اقْتَصَّ مِنْهُ بِالإِْلْقَاءِ فِي النَّارِ عُزِّرَ. وَاسْتَدَلُّوا بِحَدِيثِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ مَرْفُوعًا: لاَ قَوَدَ إِلاَّ بِالسَّيْفِ. وَرَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ وَالْبَزَّارُ وَالطَّحَاوِيُّ وَالطَّبَرَانِيُّ وَالْبَيْهَقِيُّ بِأَلْفَاظٍ مُخْتَلِفَةٍ (2) .

مُوجِبُ تَعْذِيبِ السَّيِّدِ عَبْدَهُ بِالنَّارِ:
17 - اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي مُوجِبِ تَعْذِيبِ السَّيِّدِ عَبْدَهُ بِالنَّارِ، فَقَال أَكْثَرُهُمْ: لاَ يُعْتَقُ عَلَيْهِ. وَذَهَبَ مَالِكٌ وَالأَْوْزَاعِيُّ؛ وَاللَّيْثُ إِلَى عِتْقِ الْعَبْدِ بِذَلِكَ، وَيَكُونُ وَلاَؤُهُ لَهُ، وَيُعَاقِبُهُ السُّلْطَانُ عَلَى فِعْلِهِ. وَاسْتَدَلُّوا بِأَثَرِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، أَخْرَجَهُ مَالِكٌ فِي الْمُوَطَّأِ بِلَفْظِ: وَلِيدَةٌ أَتَتْ عُمَرَ، وَقَدْ ضَرَبَهَا سَيِّدُهَا بِنَارٍ، فَأَصَابَهَا بِهَا. فَأَعْتَقَهَا عَلَيْهِ. وَأَخْرَجَهُ أَيْضًا الْحَاكِمُ فِي الْمُسْتَدْرَكِ (3) .
__________
(1) حديث " من حرق حرقناه " قال ابن حجر: رواه البيهقي في المعرفة وقال: في الإسناد بعض من يجهل، وإنما هو من قول زياد في خطبته (تلخيص الحبير 4 / 19) .
(2) نيل الأوطار 7 / 160، 165، وحاشية ابن عابدين 6 / 537، والبدائع 7 / 245، وتبيين الحقائق 6 / 106، والسرخسي 26 / 125، 126، وحاشية الدسوقي 4 / 265، والخرشي 8 / 29، والتاج والإكليل 6 / 256، ومغني المحتاج 4 / 44، ونهاية المحتاج 7 / 290، والمغني 9 / 390، وكشاف القناع 5 / 538، والحديث منكر ومعلول (فيض القدير) .
(3) نيل الأوطار 6 / 205، 207، وهذا من تكريم الإسلام للإنسان ولو رقيقا، ومن لم ير عتقه فقد أوجب تعزيره.

(2/120)


الْعُقُوبَةُ فِي اللِّوَاطِ بِالإِْحْرَاقِ:
18 - يَرَى الإِْمَامُ أَبُو حَنِيفَةَ أَنَّ عُقُوبَةَ اللِّوَاطِ سَوَاءٌ اللاَّئِطُ وَالْمَلُوطُ بِهِ التَّعْزِيرُ، وَيُجِيزُ لِلْحَاكِمِ أَنْ يَكُونَ التَّعْزِيرُ بِالإِْحْرَاقِ. وَإِلَى هَذَا الرَّأْيِ ذَهَبَ ابْنُ الْقَيِّمِ وَأَوْجَبَ إِحْرَاقَهُمَا ابْنُ حَبِيبٍ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ، خِلاَفًا لِلْجُمْهُورِ الَّذِينَ يَرَوْنَ أَنَّ عُقُوبَتَهُمَا لاَ تَكُونُ بِالإِْحْرَاقِ وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي (الْحُدُودِ) . وَاسْتَدَل مَنْ رَأَى الإِْحْرَاقَ بِفِعْل الصَّحَابَةِ وَعَلَى رَأْسِهِمْ أَبُو بَكْرٍ. وَتَشَدَّدَ فِي ذَلِكَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ (1) .

إِحْرَاقُ الدَّابَّةِ الْمَوْطُوءَةِ:
19 - لاَ يُحَدُّ شَخْصٌ بِوَطْءِ بَهِيمَةٍ، بَل يُعَزَّرُ وَتُذْبَحُ الْبَهِيمَةُ، ثُمَّ تُحْرَقُ إِذَا كَانَتْ مِمَّا لاَ يُؤْكَل، وَذَلِكَ لِقَطْعِ امْتِدَادِ التَّحَدُّثِ بِهِ كُلَّمَا رُئِيَتْ. وَلَيْسَ بِوَاجِبٍ كَمَا فِي الْهِدَايَةِ. وَإِنْ كَانَتِ الدَّابَّةُ تُؤْكَل جَازَ أَكْلُهَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَالْمَالِكِيَّةِ، وَقَال أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ: تُحْرَقُ أَيْضًا، وَفِي الْقُنْيَةِ: تُذْبَحُ وَتُحْرَقُ عَلَى الاِسْتِحْبَابِ وَلاَ يَحْرُمُ أَكْلُهَا. وَلأَِحْمَدَ وَالشَّافِعِيِّ قَوْلٌ بِقَتْلِهَا بِغَيْرِ ذَبْحٍ؛ لأَِنَّ بَقَاءَهَا يُذَكِّرُ بِالْفَاحِشَةِ فَيُعَيَّرُ بِهَا (2) . وَالْقَوْل الآْخَرُ لاَ بَأْسَ بِتَرْكِهَا.
__________
(1) حاشية ابن عابدين 3 / 154، 155، ومطالب أولي النهى 6 / 175، وفتاوى ابن تيمية 28 / 335، والتبصرة بهامش فتاوى عليش 2 / 261، ومنح الجليل 4 / 497، والمهذب 2 / 269
(2) حاشية ابن عابدين 1 / 166، 4 / 26، وحاشية الدسوقي 4 / 316، والمغني 8 / 190

(2/120)


التَّحْجِيرُ بِالإِْحْرَاقِ:
20 - مَنْ حَجَّرَ أَرْضًا مَيِّتَةً بِأَنْ مَنَعَ غَيْرَهُ مِنْهَا بِوَضْعِ عَلاَمَةٍ فَهُوَ أَحَقُّ بِهَا. وَمِمَّا يَتَحَقَّقُ بِهِ التَّحْجِيرُ إِحْرَاقُ مَا فِي الأَْرْضِ مِنَ الشَّوْكِ وَالأَْشْجَارِ لإِِصْلاَحِ الأَْرْضِ (1) .

إِيقَادُ النَّارِ فِي الْمَسَاجِدِ وَالْمَقَابِرِ:
21 - يُكْرَهُ إِيقَادُ النَّارِ فِي الْمَسْجِدِ لِغَيْرِ مَصْلَحَةٍ، كَالتَّبْخِيرِ وَالاِسْتِصْبَاحِ وَالتَّدْفِئَةِ؛ لأَِنَّهُ إِذَا لَمْ يَكُنْ لِمَصْلَحَةٍ كَانَ تَشَبُّهًا بِعَبَدَةِ النَّارِ، فَهُوَ حِينَئِذٍ حَرَامٌ.
وَأَمَّا إِيقَادُ النَّارِ، كَالسُّرُجِ وَغَيْرِهَا، عِنْدَ الْقُبُورِ فَلاَ يَجُوزُ، لِحَدِيثِ: لَعَنَ اللَّهُ زَائِرَاتِ الْقُبُورِ وَالْمُتَّخِذِينَ عَلَيْهَا السُّرُجَ (2) . فَإِذَا كَانَتْ هُنَاكَ مَصْلَحَةٌ ظَاهِرَةٌ تَقْتَضِي الإِْضَاءَةَ كَدَفْنِ الْمَيِّتِ لَيْلاً فَهُوَ جَائِزٌ (3) .

التَّبْخِيرُ عِنْدَ الْمَيِّتِ:
22 - يُسْتَحَبُّ عِنْدَ الْجُمْهُورِ تَبْخِيرُ أَكْفَانِ الْمَيِّتِ بِالْعُودِ، وَهُوَ أَنْ يُتْرَكَ الْعُودُ عَلَى النَّارِ فِي مِجْمَرٍ، ثُمَّ يُبَخَّرَ بِهِ الْكَفَنُ حَتَّى تَعْبَقَ رَائِحَتُهُ وَيَطِيبَ. وَيَكُونُ ذَلِكَ بَعْدَ أَنْ يَرُشَّ عَلَيْهِ مَاءَ الْوَرْدِ لِتَعْلَقَ الرَّائِحَةُ بِهِ.
__________
(1) حاشية ابن عابدين 1 / 166، 4 / 26، وحاشية الدسوقي 4 / 316
(2) رواه أبو داود والترمذي والنسائي والحاكم (الفتح الكبير) وحسنه الترمذي وابن القطان وضعفه عبد الحق (فيض القدير 5 / 274) .
(3) حاشية ابن عابدين 4 / 367 و 6 / 354، 2 / 439، 440 وبدائع الصنائع 9 / 220، وحاشية الدسوقي 2 / 171 و 4 / 71 ونهاية المحتاج 5 / 365، 366، و 3 / 23، 35 ومغني المحتاج 1 / 360 والمغني والشرح الكبير 1 / 191، 193، 235، 236 و 2 / 364، 387، 388، 417

(2/121)


وَتُجْمَرُ الأَْكْفَانُ قَبْل أَنْ يُدْرَجَ الْمَيِّتُ فِيهَا وِتْرًا.
وَالأَْصْل فِيهِ مَا رُوِيَ عَنْ جَابِرٍ، قَال: قَال رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِذَا أَجْمَرْتُمُ الْمَيِّتَ فَأَجْمِرُوهُ ثَلاَثًا رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَأَخْرَجَهُ أَيْضًا الْبَيْهَقِيُّ وَالْبَزَّارُ. وَقِيل: رِجَالُهُ رِجَال الصَّحِيحِ. وَأَخْرَجَ نَحْوَهُ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ (1) . .
وَاخْتَلَفُوا فِي الْمَيِّتِ الْمُحْرِمِ عَلَى رَأْيَيْنِ:
فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ إِلَى جَوَازِ تَجْمِيرِهِ، قِيَاسًا عَلَى الْحَيِّ، وَلأَِنَّهُ انْقَطَعَ إِحْرَامُهُ بِمَوْتِهِ، وَسَقَطَ عَنْهُ التَّكْلِيفُ.
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: لاَ يَبْطُل إِحْرَامُهُ، فَلاَ يُجْمَرُ هُوَ وَلاَ أَكْفَانُهُ.
وَالأَْصْل فِي ذَلِكَ قَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الَّذِي وَقَصَتْهُ النَّاقَةُ اغْسِلُوهُ بِمَاءٍ وَسِدْرٍ، وَكَفِّنُوهُ فِي ثَوْبَيْنِ، وَلاَ تُمِسُّوهُ طِيبًا، وَلاَ تُخَمِّرُوا رَأْسَهُ، فَإِنَّهُ يُبْعَثُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مُلَبِّيًا. (2)

اتِّبَاعُ الْجِنَازَةِ بِنَارٍ:
23 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى كَرَاهَةِ اتِّبَاعِ الْجِنَازَةِ بِنَارٍ فِي مِجْمَرَةٍ أَوْ غَيْرِهَا، وَإِنْ كَانَتْ بَخُورًا. وَكَذَلِكَ مُصَاحَبَتُهَا لِلْمَيِّتِ، لِلأَْخْبَارِ الآْتِيَةِ.
وَنَقَل ابْنُ الْمُنْذِرِ وَغَيْرُهُ الإِْجْمَاعَ عَلَى الْكَرَاهَةِ؛ لأَِنَّ ذَلِكَ مِنْ فِعْل الْجَاهِلِيَّةِ، وَقَدْ حَرَّمَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَلِكَ، وَزَجَرَ عَنْهُ. فَقَدْ رُوِيَ أَنَّهُ خَرَجَ فِي
__________
(1) نيل الأوطار 4 / 45، 46، باب تطييب بدن الميت.
(2) ابن عابدين 2 / 162، والدسوقي 1 / 418، والمجموع 5 / 209، والمغني 2 / 332، وحديث: اغسلوه بماء. . أخرجه الشيخان عن ابن عباس (الفتح الكبير 1 / 205)

(2/121)


جِنَازَةٍ، فَرَأَى امْرَأَةً فِي يَدِهَا مِجْمَرٌ، فَصَاحَ عَلَيْهَا وَطَرَدَهَا حَتَّى تَوَارَتْ بِالآْكَامِ (1) ، وَرَوَى أَبُو دَاوُدَ بِإِسْنَادِهِ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَال: لاَ تُتْبَعُ الْجِنَازَةُ بِصَوْتٍ وَلاَ نَارٍ (2) ، وَقَدْ أَوْصَى كَثِيرٌ مِنَ الصَّحَابَةِ بِأَلاَّ يُتْبَعُوا بِنَارٍ بَعْدَ مَوْتِهِمْ (3) . وَرَوَى ابْنُ مَاجَهْ أَنَّ أَبَا مُوسَى حِينَ حَضَرَهُ الْمَوْتُ قَال: لاَ تَتْبَعُونِي بِمِجْمَرٍ. قَالُوا لَهُ: أَوَ سَمِعْتَ فِيهِ شَيْئًا؟ قَال: نَعَمْ مِنْ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (4) .
فَإِنْ دُفِنَ لَيْلاً، فَاحْتَاجُوا إِلَى ضَوْءٍ، فَلاَ بَأْسَ بِهِ. وَإِنَّمَا كُرِهَ الْمَجَامِرُ الَّتِي فِيهَا الْبَخُورُ (5) .

الإِْحْرَاقُ الْمَضْمُونُ وَغَيْرُ الْمَضْمُونِ:
24 - إِذَا أَوْقَدَ الشَّخْصُ نَارًا فِي أَرْضِهِ أَوْ فِي مِلْكِهِ، أَوْ فِي مَوَاتِ حِجْرِهِ، أَوْ فِيمَا يَسْتَحِقُّ الاِنْتِفَاعَ بِهِ، فَطَارَتْ شَرَارَةٌ إِلَى دَارِ جَارِهِ فَأَحْرَقَتْهَا، فَإِنْ كَانَ الإِْيقَادُ بِطَرِيقَةٍ مِنْ شَأْنِهَا أَلاَّ تَنْتَقِل النَّارُ إِلَى مِلْكِ الْغَيْرِ، فَإِنَّهُ لاَ يَضْمَنُ.
__________
(1) حديث: " رأي امرأة. . . " " رواه أبو نعيم (كنز العمال 15 / 723) ولم نجد من تكلم على إسناده.
(2) حديث: " لا تتبع الجنازة " رواه أبو داود. قال عبد الحق: سنده منقطع. قال ابن القطان: والحديث لا يصحح وإن كان متصلا (فيض القدير 6 / 387)
(3) منهم أبو هريرة وعائشة وعمرو بن العاص (المدونة 1 / 180)
(4) حديث أبي موسى في مسند أحمد 4 / 397 ط الميمنية.
(5) حاشية ابن عابدين 2 / 237، وبدائع الصنائع 1 / 310، وحاشية الدسوقي 1 / 424، وبلغة السالك لأقرب المسالك 1 / 202، ونهاية المحتاج 3 / 23، وروضة الطالبين 2 / 116، والمغني لابن قدامة والشرح الكبير 2 / 364، ومغني المحتاج 1 / 360

(2/122)


أَمَّا إِنْ كَانَ الإِْيقَادُ بِطَرِيقَةٍ مِنْ شَأْنِهَا انْتِقَال النَّارِ إِلَى مِلْكِ الْغَيْرِ، فَإِنَّهُ يَضْمَنُ مَا أَتْلَفَتْهُ النَّارُ، وَذَلِكَ كَأَنْ كَانَ الإِْيقَادُ وَالرِّيحُ عَاصِفَةٌ، أَوْ وَضَعَ مَادَّةً مِنْ شَأْنِهَا انْتِشَارُ النَّارِ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا هُوَ مَعْرُوفٌ.
وَعَدَمُ الضَّمَانِ فِي الْحَالَةِ الأُْولَى مَرْجِعُهُ إِلَى قِيَاسِهَا عَلَى سِرَايَةِ الْجَرْحِ فِي قِصَاصِ الأَْطْرَافِ، وَفِي الثَّانِيَةِ بِسَبَبِ التَّقْصِيرِ. فَإِنْ أَوْقَدَ نَارًا فِي غَيْرِ مِلْكِهِ أَوْ مَا لاَ يَمْلِكُ الاِنْتِفَاعَ ضَمِنَ مَا أَتْلَفَتْهُ النَّارُ؛ لأَِنَّهُ مُتَعَدٍّ (1) .

مِلْكِيَّةُ الْمَغْصُوبِ الْمُتَغَيِّرِ بِالإِْحْرَاقِ:
25 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ، وَهُوَ قَوْلٌ عِنْدَ أَحْمَدَ، إِلَى أَنَّهُ إِذَا تَغَيَّرَتِ الْعَيْنُ الْمَغْصُوبَةُ بِفِعْل الْغَاصِبِ حَتَّى زَال اسْمُهَا وَأَعْظَمُ مَنَافِعِهَا زَال مِلْكُ الْمَغْصُوبِ مِنْهُ عَنْهَا، وَمَلَكَهَا الْغَاصِبُ وَضَمِنَهَا. وَلاَ يَحِل لَهُ الاِنْتِفَاعُ بِهَا حَتَّى يُؤَدِّيَ بَدَلَهَا، كَمَنْ غَصَبَ شَاةً وَذَبَحَهَا وَشَوَاهَا أَوْ طَبَخَهَا، أَوْ حَدِيدًا فَاتَّخَذَهُ سَيْفًا، أَوْ نُحَاسًا فَعَمِلَهُ آنِيَةً. وَسَبَبُ انْتِقَال الْمِلْكِيَّةِ أَنَّ الْغَاصِبَ أَحْدَثَ صَنْعَةً مُتَقَوَّمَةً؛ لأَِنَّ قِيمَةَ الشَّاةِ تَزْدَادُ بِطَبْخِهَا أَوْ شَيِّهَا، وَبِهَذَا يُعْتَبَرُ حَقُّ الْمَالِكِ هَالِكًا مِنْ وَجْهٍ، أَلاَ تَرَى أَنَّهُ تَبَدَّل الاِسْمُ وَفَاتَ مُعْظَمُ الْمَقَاصِدِ. وَحَقُّ الْغَاصِبِ فِي الصَّنْعَةِ قَائِمٌ مِنْ كُل وَجْهٍ، وَمَا هُوَ قَائِمٌ
__________
(1) حاشية ابن عابدين 5 / 227، 448 و 6 / 214، 446 والفتاوى الهندية 3 / 459، وشرح الخرشي 8 / 111، 112، ومواهب الجليل للحطاب 6 / 321، وكشاف القناع 2 / 367، والمهذب 2 / 152، ونهاية المحتاج 5 / 152، 333، 334 وروضة الطالبين 5 / 285، والمغني لابن قدامة 5 / 453، 6 / 183، وبلغة السالك لأقرب المسالك 2 / 176

(2/122)


مِنْ كُل وَجْهٍ مُرَجَّحٌ عَلَى الأَْصْل الَّذِي هُوَ فَائِتٌ وَهَالِكٌ مِنْ وَجْهٍ.
وَعَلَى هَذَا يَخْرُجُ مَا إِذَا كَانَ الْمَغْصُوبُ لَحْمًا، فَشَوَاهُ أَوْ طَبَخَهُ، أَوْ حَدِيدًا فَضَرَبَهُ سِكِّينًا، أَوْ تُرَابًا لَهُ قِيمَةٌ فَاتَّخَذَهُ خَزَفًا، وَنَحْوَ ذَلِكَ؛ لأَِنَّهُ لَيْسَ لِلْمَالِكِ أَنْ يَسْتَرِدَّ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ، وَيَزُول مِلْكُهُ بِضَمَانِ الْمِثْل أَوِ الْقِيمَةِ، وَتَبْطُل وِلاَيَةُ الاِسْتِرْدَادِ، كَمَا إِذَا اسْتَهْلَكَهُ حَقِيقَةً.
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ وَهُوَ الْمَذْهَبُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ وَرِوَايَةٌ عَنْ أَبِي يُوسُفَ: لاَ يَنْقَطِعُ حَقُّ الْمَالِكِ، وَلاَ يَزُول مِلْكُ صَاحِبِهِ عَنْهُ؛ لأَِنَّ بَقَاءَ الْعَيْنِ الْمَغْصُوبَةِ يُوجِبُ بَقَاءَ مِلْكِ الْمَالِكِ؛ لأَِنَّ الْوَاجِبَ الأَْصْلِيَّ فِي الْغَصْبِ رَدُّ الْعَيْنِ عِنْدَ قِيَامِهَا، وَالْعَيْنُ بَاقِيَةٌ، فَتَبْقَى عَلَى مِلْكِهِ، وَتَتْبَعُهُ الصَّنْعَةُ الْحَادِثَةُ؛ لأَِنَّهَا تَابِعَةٌ لِلأَْصْل، وَلاَ مُعْتَبَرَ بِفِعْلِهِ؛ لأَِنَّهُ مَحْظُورٌ فَلاَ يَصْلُحُ سَبَبًا لِلْمِلْكِ. وَعَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ أَنَّهُ يُخَيَّرُ بَيْنَ الْقِيمَةِ أَوِ الْعَيْنِ مَعَ الأَْرْشِ. وَذَكَرَ أَبُو الْخَطَّابِ: أَنَّ الْغَاصِبَ يُشَارِكُ الْمَالِكَ بِكُل الزِّيَادَةِ؛ لأَِنَّهَا حَصَلَتْ بِمَنَافِعِهِ، وَمَنَافِعُهُ أُجْرِيَتْ مَجْرَى الأَْعْيَانِ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ غَصَبَ ثَوْبًا فَصَبَغَهُ، وَذَلِكَ بِأَنْ تُقَوَّمَ الْعَيْنُ الْمَغْصُوبَةُ غَيْرَ مُصَنَّعَةٍ، ثُمَّ تُقَوَّمَ مُصَنَّعَةً، فَالزِّيَادَةُ تَكُونُ لِلْغَاصِبِ عَلَى هَذَا الرَّأْيِ (1) .
__________
(1) نتائج الأفكار (تكملة فتح القدير) والعناية 7 / 375، 378 وبدائع الصنائع 7 / 148، 153، 154، والمغني لابن قدامة والشرح الكبير 5 / 394، 396، 403، 405، وبلغة السالك لأقرب المسالك 2 / 212 وما بعدها، وروضة الطالبين 5 / 24 وما بعدها، ونيل الأوطار 6 / 69، 70، وحاشية الدسوقي 3 / 446

(2/123)


مَا يُبَاحُ إِحْرَاقُهُ وَمَا لاَ يُبَاحُ:
26 - الأَْصْل أَنَّ الْمُصْحَفَ الصَّالِحَ لِلْقِرَاءَةِ لاَ يُحْرَقُ، لِحُرْمَتِهِ، وَإِذَا أُحْرِقَ امْتِهَانًا يَكُونُ كُفْرًا عِنْدَ جَمِيعِ الْفُقَهَاءِ.
وَهُنَاكَ بَعْضُ الْمَسَائِل الْفَرْعِيَّةِ، مِنْهَا: قَال الْحَنَفِيَّةُ: الْمُصْحَفُ إِذَا صَارَ خَلَقًا، وَتَعَذَّرَ الْقِرَاءَةُ مِنْهُ، لاَ يُحْرَقُ بِالنَّارِ، بَل يُدْفَنُ، كَالْمُسْلِمِ.
وَذَلِكَ بِأَنْ يُلَفَّ فِي خِرْقَةٍ طَاهِرَةٍ ثُمَّ يُدْفَنَ. وَتُكْرَهُ إِذَابَةُ دِرْهَمٍ عَلَيْهِ آيَةٌ، إِلاَّ إِذَا كُسِرَ، فَحِينَئِذٍ لاَ يُكْرَهُ إِذَابَتُهُ، لِتَفَرُّقِ الْحُرُوفِ، أَوْ؛ لأَِنَّ الْبَاقِيَ دُونَ آيَةٍ.
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: حَرْقُ الْمُصْحَفِ الْخَلَقِ إِنْ كَانَ عَلَى وَجْهِ صِيَانَتِهِ فَلاَ ضَرَرَ، بَل رُبَّمَا وَجَبَ (1) .
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: الْخَشَبَةُ الْمَنْقُوشُ عَلَيْهَا قُرْآنٌ فِي حَرْقِهَا أَرْبَعَةُ أَحْوَالٍ: يُكْرَهُ حَرْقُهَا لِحَاجَةِ الطَّبْخِ مَثَلاً، وَإِنْ قُصِدَ بِحَرْقِهَا إِحْرَازُهَا لَمْ يُكْرَهْ، وَإِنْ لَمْ يَكُنِ الْحَرْقُ لِحَاجَةٍ، وَإِنَّمَا فَعَلَهُ عَبَثًا فَيَحْرُمُ، وَإِنْ قَصَدَ الاِمْتِهَانَ فَظَاهِرٌ أَنَّهُ يَكْفُرُ.
وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى جَوَازِ تَحْرِيقِ الْمُصْحَفِ غَيْرِ الصَّالِحِ لِلْقِرَاءَةِ (2) .
أَمَّا كُتُبُ الْحَدِيثِ وَالْفِقْهِ وَغَيْرِهَا فَقَال الْمَالِكِيَّةُ: إِنْ كَانَ عَلَى وَجْهِ الاِسْتِخْفَافِ فَإِحْرَاقُهَا كُفْرٌ مِثْل الْقُرْآنِ، وَأَيْضًا أَسْمَاءُ اللَّهِ وَأَسْمَاءُ الأَْنْبِيَاءِ الْمَقْرُونَةِ بِمَا يَدُل عَلَى ذَلِكَ مِثْل: " عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ " لاَ مُطْلَقُ الأَْسْمَاءِ.
وَقَال الْحَنَفِيَّةُ: هَذِهِ الْكُتُبُ إِذَا كَانَ يَتَعَذَّرُ
__________
(1) الدسوقي 4 / 301
(2) الفروع 1 / 115، وكشاف القناع 1 / 137

(2/123)


الاِنْتِفَاعُ بِهَا يُمْحَى عَنْهَا اسْمُ اللَّهِ وَمَلاَئِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَيُحْرَقُ الْبَاقِي (1) .

إِحْرَاقُ السَّمَكِ وَالْعَظْمِ وَغَيْرِهِمَا:
27 - ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى جَوَازِ إِلْقَاءِ السَّمَكِ فِي النَّارِ حَيًّا لِشَيِّهِ. كَمَا أَبَاحُوا إِحْرَاقَ الْعَظْمِ وَغَيْرِهِ لِلاِنْتِفَاعِ بِهِ. وَوَافَقَهُمُ الشَّافِعِيَّةُ عَلَى الرَّاجِحِ فِي إِحْرَاقِ الْعَظْمِ. وَكَرِهَ الإِْمَامُ أَحْمَدُ شَيَّ السَّمَكِ الْحَيِّ وَلَكِنْ لاَ يُكْرَهُ أَكْلُهُ.
وَنَصَّ الْحَنَابِلَةُ عَلَى أَنَّهُ لاَ يُكْرَهُ شَيُّ الْجَرَادِ حَيًّا، لِمَا أُثِرَ مِنْ فِعْل الصَّحَابَةِ ذَلِكَ أَمَامَ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مِنْ غَيْرِ نَكِيرٍ،
وَلاَ يَجُوزُ عِنْدَ الْجَمِيعِ إِضَاعَةُ الْمَال بِالإِْحْرَاقِ أَوْ غَيْرِهِ (2) .

الإِْحْرَاقُ بِالْكَيِّ لِلتَّدَاوِي (3) :
28 - إِذَا لَمْ يَكُنْ حَاجَةٌ إِلَى التَّدَاوِي بِالْكَيِّ فَإِنَّهُ حَرَامٌ؛ لأَِنَّهُ تَعْذِيبٌ بِالنَّارِ، وَلاَ يُعَذِّبُ بِالنَّارِ إِلاَّ خَالِقُهَا (4) .
__________
(1) حاشية ابن عابدين 1 / 177، 178، و 6 / 422، وحاشية الدسوقي 1 / 125، 4 / 301، والمغني لابن قدامة 1 / 533، وروضة الطالبين 1 / 80، 81، ونهاية المحتاج 1 / 112، وشرح الروض 1 / 62
(2) حاشية ابن عابدين 6 / 354، وحاشية الدسوقي 1 / 57، 60، 61، ونهاية المحتاج 1 / 132
(3) الكي هو أن يحمى حديد أو غيره ويرضع على عضو محلول ليحرق ويحبس، أو لينقطع العرق الذي خرج منه الدم.
(4) حاشية ابن عابدين 1 / 137 - 140 و 6 / 388، والمغني لابن قدامة 1 / 176، 178، ونهاية المحتاج وحاشية الشبراملسي 8 / 30، ونيل الأوطار 8 / 212، 215 واللجنة ترى - نظرا - لعموم البلوي أن في مذهب الشافعي سعة. وفي حكم المصحف المحرف.

(2/124)


وَأَمَّا إِذَا تَعَيَّنَ الْكَيُّ فَإِنَّهُ مُبَاحٌ سَوَاءٌ أَكَانَ ذَلِكَ الْحَدِيدَ أَوْ غَيْرَهُ. وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ (تَدَاوِي) .

الْوَسْمُ بِالنَّارِ (1) :
29 - الْوَسْمُ فِي الْوَجْهِ بِالنَّارِ مَنْهِيٌّ عَنْهُ بِالإِْجْمَاعِ فِي غَيْرِ الآْدَمِيِّ. وَمِنْ بَابِ أَوْلَى وَسْمُ الآْدَمِيِّ، فَهُوَ حَرَامٌ لِكَرَامَتِهِ؛ وَلأَِنَّهُ لاَ حَاجَةَ إِلَيْهِ، وَلاَ يَجُوزُ تَعْذِيبُهُ. وَذَهَبَ جَمَاعَةٌ فِي غَيْرِ الآْدَمِيِّ إِلَى أَنَّ النَّهْيَ لِلْكَرَاهَةِ، وَذَهَبَ جَمَاعَةٌ آخَرُونَ إِلَى تَحْرِيمِهِ، وَهُوَ الأَْظْهَرُ؛ لأَِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَعَنَ فَاعِلَهُ، وَاللَّعْنُ يَقْتَضِي التَّحْرِيمَ، حَيْثُ قَال: أَمَا بَلَغَكُمْ أَنِّي لَعَنْتُ مَنْ وَسَمَ الْبَهِيمَةَ فِي وَجْهِهَا؟ (2)
أَمَّا وَسْمُ غَيْرِ الآْدَمِيِّ فِي بَقِيَّةِ الْجِسْمِ فَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّهُ جَائِزٌ، بَل مُسْتَحَبٌّ، لِمَا رُوِيَ مِنْ فِعْل الصَّحَابَةِ فِي مَاشِيَةِ الزَّكَاةِ وَالْجِزْيَةِ. وَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ إِلَى كَرَاهَتِهِ لِمَا فِيهِ مِنْ تَعْذِيبٍ وَمُثْلَةٍ (3) .

الاِنْتِقَال مِنْ سَبَبِ مَوْتٍ - لآِخَرَ أَهْوَنَ:
30 - لَوْ شَبَّتِ النَّارُ فِي سَفِينَةٍ أَوْ غَيْرِهَا فَمَا غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِمُ السَّلاَمَةُ فِيهِ مِنْ بَقَائِهِمْ فِي أَمَاكِنِهِمْ أَوْ تَرْكِهَا فَعَلُوهُ.
__________
(1) الرسم - أثر الكية.
(2) رواه مسلم والترمذي بمعناه وأبو داود (عون المعبود 7 / 232)
(3) حاشية ابن عابدين 6 / 388، والمغني لابن قدامة 3 / 574، ونيل الأوطار 8 / 90، 92 ط الحلبي.

(2/124)


وَإِنِ اسْتَوَى عِنْدَهُمُ الأَْمْرَانِ فَقَال الشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ: كَيْفَ شَاءُوا صَنَعُوا، وَقَال الأَْوْزَاعِيُّ: هُمَا مَوْتَتَانِ فَاخْتَرْ أَيْسَرَهُمَا،
وَصَرَّحَ الْمَالِكِيَّةُ بِوُجُوبِ الاِنْتِقَال مِنْ سَبَبِ الْمَوْتِ الَّذِي حَل، إِلَى سَبَبٍ آخَرَ إِنْ رَجَا بِهِ حَيَاةً، أَوْ طُولَهَا، وَلَوْ حَصَل لَهُ مَعَهَا مَا هُوَ أَشَدُّ مِنَ الْمَوْتِ؛ لأَِنَّ حِفْظَ النُّفُوسِ وَاجِبٌ مَا أَمْكَنَ (1) .

الإِْحْرَاقُ فِي الْحَرْبِ:
31 - إِذَا قَدَرَ عَلَى الْعَدُوِّ بِالتَّغَلُّبِ عَلَيْهِ فَلاَ يَجُوزُ تَحْرِيقُهُ بِالنَّارِ مِنْ غَيْرِ خِلاَفٍ يُعْلَمُ، لِمَا رَوَى حَمْزَةُ الأَْسْلَمِيُّ أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَّرَهُ عَلَى سَرِيَّةٍ، فَقَال: فَخَرَجْتُ فِيهَا، فَقَال: إِنْ أَخَذْتُمْ فُلاَنًا فَأَحْرِقُوهُ بِالنَّارِ فَوَلَّيْتُ، فَنَادَانِي، فَرَجَعْتُ، فَقَال: إِنْ أَخَذْتُمْ فُلاَنًا فَاقْتُلُوهُ وَلاَ تُحَرِّقُوهُ، فَإِنَّهُ لاَ يُعَذِّبُ بِالنَّارِ إِلاَّ رَبُّ النَّارِ (2) .
فَأَمَّا رَمْيُهُمْ بِالنَّارِ قَبْل الْقُدْرَةِ عَلَيْهِمْ مَعَ إِمْكَانِ أَخْذِهِمْ بِغَيْرِ التَّحْرِيقِ فَلاَ يَجُوزُ؛ لأَِنَّهُمْ حِينَئِذٍ فِي حُكْمِ الْمَقْدُورِ عَلَيْهِمْ. وَأَمَّا عِنْدَ الْعَجْزِ عَنْهُمْ بِغَيْرِ التَّحْرِيقِ فَجَائِزٌ فِي قَوْل أَكْثَرِ أَهْل الْعِلْمِ، لِفِعْل الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ فِي غَزَوَاتِهِمْ.
هَذَا وَإِنْ تَتَرَّسَ الْعَدُوُّ فِي الْحَرْبِ بِبَعْضِ الْمُسْلِمِينَ، فَإِنِ اضْطُرِرْنَا إِلَى رَمْيِهِمْ بِالنَّارِ فَهُوَ جَائِزٌ عِنْدَ الْجُمْهُورِ. وَمَرْجِعُ ذَلِكَ إِلَى تَقْدِيرِ الْمَصْلَحَةِ الْعَامَّةِ.
وَالْحُكْمُ فِي الْبُغَاةِ وَالْمُرْتَدِّينَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ
__________
(1) حاشية الدسوقي 2 / 183، 184، ونهاية المحتاج 8 / 30، والمغني لابن قدامة والشرح الكبير 1 / 554، 555
(2) رواه أبو داود واختلف في توثيق راويه محمد بن حمزة

(2/125)


كَالْكُفَّارِ فِي حَال الْقِتَال (1) .

إِحْرَاقُ أَشْجَارِ الْكُفَّارِ فِي الْحَرْبِ:
32 - إِذَا كَانَ فِي ذَلِكَ نِكَايَةٌ بِالْعَدُوِّ، وَلَمْ يُرْجَ حُصُولُهَا لِلْمُسْلِمِينَ، فَالإِْحْرَاقُ جَائِزٌ اتِّفَاقًا. بَل ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى تَعَيُّنِ الإِْحْرَاقِ. أَمَّا إِذَا رُجِيَ حُصُولُهَا لِلْمُسْلِمِينَ، وَلَمْ يَكُنْ فِي إِحْرَاقِهَا نِكَايَةٌ، فَإِنَّهُ مَحْظُورٌ. وَصَرَّحَ الْمَالِكِيَّةُ بِحُرْمَتِهِ.
وَأَمَّا إِذَا كَانَ فِي إِحْرَاقِهَا نِكَايَةٌ، وَيُرْجَى حُصُولُهَا لِلْمُسْلِمِينَ، فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ إِلَى كَرَاهَةِ ذَلِكَ. بَل صَرَّحَ الشَّافِعِيَّةُ بِنَدْبِ الإِْبْقَاءِ حِفْظًا لِحَقِّ الْفَاتِحِينَ. وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى وُجُوبِ الإِْبْقَاءِ.
وَإِذَا كَانَ لاَ نِكَايَةَ فِي إِحْرَاقِهَا، وَلاَ يُرْجَى حُصُولُهَا لِلْمُسْلِمِينَ، فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ إِلَى جَوَازِهِ. وَمُقْتَضَى مَذْهَبِ الشَّافِعِيَّةِ الْكَرَاهَةُ؛ لأَِنَّهُ الأَْصْل عِنْدَهُمْ (2) .
أَمَّا الْحَنَابِلَةُ فَالأَْصْل عِنْدَهُمْ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ الْمُعَامَلَةُ بِالْمِثْل، وَمُرَاعَاةُ مَصْلَحَةِ الْمُسْلِمِينَ فِي الْقِتَال.
__________
(1) حاشية ابن عابدين 4 / 129، 131، 265، وفتح القدير 4 / 286، 288، 308 وحاشية الدسوقي 4 / 299، 2 / 177، 178، ونهاية المحتاج 8 / 61، 62، وبداية المجتهد ونهاية المقتصد 1 / 401، والمغني لابن قدامة 10 / 82، 504، وبلغة السالك لأقرب المسالك 1 / 357، ومغني المحتاج 4 / 127، 128، 140، وبدائع الصنائع 7 / 100
(2) فتح القدير 4 / 286، 287، 308، وبدائع الصنائع 7 / 100، حاشية الدسوقي 2 / 108، ونهاية المحتاج 8 / 64، وبداية المجتهد 1 / 402، والمغني والشرح الكبير 10 / 509، 510، ونيل الأوطار 7 / 262، 266، وحاشية ابن عابدين 4 / 129

(2/125)


حَرْقُ مَا عَجَزَ الْمُسْلِمُونَ عَنْ نَقْلِهِ مِنْ أَسْلِحَةٍ وَبَهَائِمَ وَغَيْرِهَا:
33 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي الْحَرْقِ وَالإِْتْلاَفِ، فَقَال الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ: إِذَا أَرَادَ الإِْمَامُ الْعَوْدَ، وَعَجَزَ عَنْ نَقْل أَسْلِحَةٍ وَأَمْتِعَةٍ وَبَهَائِمَ لِمُسْلِمٍ أَوْ عَدُوٍّ، وَعَنِ الاِنْتِفَاعِ بِهَا، تُحْرَقُ وَمَا لاَ يُحْرَقُ، كَحَدِيدٍ، يُتْلَفُ أَوْ يُدْفَنُ فِي مَكَانٍ خَفِيٍّ لاَ يَقِفُ عَلَيْهِ الْكُفَّارُ، وَذَلِكَ لِئَلاَّ يَنْتَفِعُوا بِهَذِهِ الأَْشْيَاءِ.
أَمَّا الْمَوَاشِي وَالْبَهَائِمُ وَالْحَيَوَانَاتُ فَتُذْبَحُ وَتُحْرَقُ، وَلاَ يَتْرُكُهَا لَهُمْ؛ لأَِنَّ الذَّبْحَ يَجُوزُ لِغَرَضٍ صَحِيحٍ، وَلاَ غَرَضَ أَصَحُّ مِنْ كَسْرِ شَوْكَةِ الأَْعْدَاءِ وَتَعْرِيضِهِمْ لِلْهَلَكَةِ وَالْمَوْتِ، ثُمَّ يُحْرَقُ بِالنَّارِ لِتَنْقَطِعَ مَنْفَعَتُهُ عَنِ الْكُفَّارِ، وَصَارَ كَتَخْرِيبِ الْبُنْيَانِ وَالتَّحْرِيقِ لِهَذَا الْغَرَضِ الْمَشْرُوعِ، بِخِلاَفِ التَّحْرِيقِ قَبْل الذَّبْحِ، فَلاَ يَجُوزُ؛ لأَِنَّهُ مَنْهِيٌّ عَنْهُ. وَفِيهِ أَحَادِيثُ كَثِيرَةٌ مِنْهَا مَا أَخْرَجَ الْبَزَّارُ فِي مُسْنَدِهِ عَنْ عُثْمَانَ بْنِ حِبَّانَ قَال: كُنْتُ عِنْدَ أُمِّ الدَّرْدَاءِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، فَأَخَذْتُ بُرْغُوثًا فَأَلْقَيْتُهُ فِي النَّارِ، فَقَالَتْ: سَمِعْتُ أَبَا الدَّرْدَاءِ يَقُول: قَال رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لاَ يُعَذِّبُ بِالنَّارِ إِلاَّ رَبُّ النَّارِ.
وَلِلْمَالِكِيَّةِ تَفْصِيلٌ، قَالُوا: يُجْهَزُ عَلَى الْحَيَوَانِ وُجُوبًا، لِلإِْرَاحَةِ مِنَ التَّعْذِيبِ بِإِزْهَاقِ رُوحِهِ أَوْ قَطْعِ عُرْقُوبِهِ، أَوِ الذَّبْحِ الشَّرْعِيِّ وَيُحْرَقُ الْحَيَوَانُ نَدْبًا بَعْدَ إِتْلاَفِهِ إِنْ كَانَ الأَْعْدَاءُ يَسْتَحِلُّونَ أَكْل الْمَيْتَةِ، وَلَوْ ظَنًّا، لِئَلاَّ يَنْتَفِعُوا بِهِ. فَإِنْ كَانُوا لاَ يَسْتَحِلُّونَ أَكْل الْمَيْتَةِ لَمْ يُطْلَبِ التَّحْرِيقُ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ وَإِنْ كَانَ جَائِزًا. وَالأَْظْهَرُ فِي الْمَذْهَبِ طَلَبُ تَحْرِيقِهِ مُطْلَقًا، سَوَاءٌ اسْتَحَلُّوا أَكْل الْمَيْتَةِ أَمْ لاَ، لاِحْتِمَال أَكْلِهِمْ لَهُ

(2/126)


حَال الضَّرُورَةِ. وَقِيل: التَّحْرِيقُ وَاجِبٌ، وَرَجَحَ.
وَقَال اللَّخْمِيُّ: إِنْ كَانُوا يَرْجِعُونَ إِلَيْهِ قَبْل فَسَادِهِ وَجَبَ التَّحْرِيقُ، وَإِلاَّ لَمْ يَجِبْ؛ لأَِنَّ الْمَقْصُودَ عَدَمُ انْتِفَاعِهِمْ بِهِ، وَقَدْ حَصَل بِالإِْحْرَاقِ.
34 - وَقَال الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَعَامَّةُ أَهْل الْعِلْمِ، مِنْهُمُ الأَْوْزَاعِيُّ وَاللَّيْثُ: لاَ يَجُوزُ فِي غَيْرِ حَال الْحَرْبِ عَقْرُ الدَّوَابِّ وَإِحْرَاقُ النَّحْل وَبُيُوتِهِ لِمُغَايَظَةِ الْكُفَّارِ وَالإِْفْسَادِ عَلَيْهِمْ، سَوَاءٌ خِفْنَا أَخْذَهُمْ لَهَا أَوْ لَمْ نَخَفْ.
وَذَلِكَ بِخِلاَفِ حَال الْحَرْبِ حَيْثُ يَجُوزُ قَتْل الْمُشْرِكِينَ وَرَمْيُهُمْ بِالنَّارِ، فَيَجُوزُ إِتْلاَفُ الْبَهَائِمِ؛ لأَِنَّهُ يُتَوَصَّل بِإِتْلاَفِ الْبَهَائِمِ إِلَى قَتْل الأَْعْدَاءِ.
وَاسْتَدَلُّوا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الأَْرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْل وَاللَّهُ لاَ يُحِبُّ الْفَسَادَ} (1) . وَلأَِنَّ أَبَا بَكْرٍ الصِّدِّيقَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَال فِي وَصِيَّتِهِ لِيَزِيدَ بْنِ أَبِي سُفْيَانَ، حِينَ بَعَثَهُ أَمِيرًا: يَا يَزِيدُ لاَ تَقْتُل صَبِيًّا وَلاَ امْرَأَةً وَلاَ هَرِمًا، وَلاَ تُخَرِّبَنَّ عَامِرًا، وَلاَ تَعْقِرَنَّ شَجَرًا مُثْمِرًا، وَلاَ دَابَّةً عَجْمَاءَ، وَلاَ شَاةً إِلاَّ لِمَأْكَلَةٍ، وَلاَ تُحَرِّقَنَّ نَحْلاً وَلاَ تُغْرِقَنَّهُ، وَلاَ تَغْلُل وَلاَ تَجْبُنْ (2) وَلأَِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنْ قَتْل شَيْءٍ مِنَ الدَّوَابِّ صَبْرًا (3) وَلأَِنَّهُ حَيَوَانٌ ذُو حُرْمَةٍ فَلَمْ يَجُزْ قَتْلُهُ لِغَيْظِ الْمُشْرِكِينَ (4)
__________
(1) وهذا ما ذكره الفقهاء، وهو مناسب لعصرهم، واللجنة ترى أن لقائد الجيش أن يتصرف بما يراه مصلحة للمسلين بجلب النفع والضرر في حدود القواعد العامة للشريعة.
(2) وصية أبي بكر في الموطأ (2 / 448) والبيهقي روايته مرسلة (نيل الأوطار 8 / 75)
(3) متفق عليه (نيل الأوطار 8 / 90)
(4) فتح القدير 4 / 308، 309 ابن عابدين 4 / 140، وحاشية الدسوقي 2 / 181، ونهاية المحتاج 8 / 64، والمغني 10 / 506

(2/126)


مَا يُحْرَقُ لِلْغَال وَمَا لاَ يُحْرَقُ
35 - الْغَال هُوَ الَّذِي يَكْتُمُ مَا يَأْخُذُهُ مِنَ الْغَنِيمَةِ، فَلاَ يُطْلِعُ الإِْمَامَ عَلَيْهِ، وَلاَ يَضُمُّهُ إِلَى الْغَنِيمَةِ.
وَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي تَحْرِيقِ مَال الْغَال لِلْغَنِيمَةِ، فَقَال الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَاللَّيْثُ: لاَ يُحْرَقُ مَالُهُ. وَاسْتَدَلُّوا بِفِعْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَدَمِ تَحْرِيقِهِ فَعَنِ ابْنِ عُمَرَ قَال: جَاءَ رَجُلٌ بِزِمَامٍ مِنْ شَعْرٍ، فَقَال: يَا رَسُول اللَّهِ هَذَا فِيمَا كُنَّا أَصَبْنَا مِنَ الْغَنِيمَةِ، فَقَال: سَمِعْتَ بِلاَلاً نَادَى ثَلاَثًا؟ قَال: نَعَمْ. قَال: فَمَا مَنَعَكَ أَنْ تَجِيءَ بِهِ؟ فَاعْتَذَرَ. فَقَال؛ كُنْ أَنْتَ تَجِيءُ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَلَنْ أَقْبَلَهُ مِنْكَ أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ (1) . وَلأَِنَّ إِحْرَاقَ الْمَتَاعِ إِضَاعَةٌ لَهُ، وَقَدْ نَهَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ إِضَاعَةِ الْمَال (2) وَقَال بِإِحْرَاقِ مَال الْغَال الْحَنَابِلَةُ وَفُقَهَاءُ الشَّامِ، مِنْهُمْ مَكْحُولٌ وَالأَْوْزَاعِيُّ وَالْوَلِيدُ بْنُ هِشَامٍ.
وَقَدْ أُتِيَ سَعِيدُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ بِغَالٍّ فَجَمَعَ مَالَهُ وَأَحْرَقَهُ، وَعُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ حَاضِرُ ذَلِكَ فَلَمْ يَعِبْهُ (3) قَال يَزِيدُ بْنُ يَزِيدَ بْنِ جَابِرٍ: السُّنَّةُ فِي الَّذِي يَغُل أَنْ يُحْرَقَ رَحْلُهُ. رَوَاهُمَا سَعِيدٌ فِي سُنَنِهِ.
وَقَدِ اسْتَدَلُّوا بِمَا رَوَى صَالِحُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ زَائِدَةَ، قَال: دَخَلْتُ مَعَ مَسْلَمَةَ أَرْضَ الرُّومِ، فَأُتِيَ بِرَجُلٍ قَدْ غَل، فَسَأَل سَالِمًا عَنْهُ، فَقَال: سَمِعْتُ أَبِي يُحَدِّثُ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: إِذَا وَجَدْتُمُ الرَّجُل قَدْ غَل فَأَحْرِقُوا مَتَاعَهُ وَاضْرِبُوهُ. قَال: فَوَجَدْنَا فِي مَتَاعِهِ
__________
(1) سكت عنه المنذري وصححه الحاكم (نيل الأوطار 7 / 318)
(2) حديث النهي عن إضاعة المال: متفق عليه.
(3) صوابه " مسلمة بن عبد الملك ". وفي سنده إسحاق بن عبد الله، وهو متروك (تقريب التهذيب) .

(2/127)


مُصْحَفًا. فَسَأَل سَالِمًا عَنْهُ، فَقَال: بِعْهُ وَتَصَدَّقْ بِثَمَنِهِ (1) . وَرَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرٍو أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ أَحْرَقُوا مَتَاعَ الْغَال (2)
36 - قَال أَحْمَدُ: إِنْ لَمْ يُحْرِقْ رَحْلَهُ حَتَّى اسْتَحْدَثَ مَتَاعًا آخَرَ وَكَذَلِكَ إِنْ رَجَعَ إِلَى بَلَدِهِ، أُحْرِقَ مَا كَانَ مَعَهُ حَال الْغُلُول.
37 - وَيُشْتَرَطُ فِي الْغَال أَنْ يَكُونَ بَالِغًا عَاقِلاً حُرًّا، فَتُوقَعُ عُقُوبَةُ الإِْحْرَاقِ فِي مَتَاعِ الرَّجُل وَالْخُنْثَى وَالْمَرْأَةِ وَالذِّمِّيِّ؛ لأَِنَّهُمْ مِنْ أَهْل الْعُقُوبَةِ. وَإِنْ كَانَ الْغَال صَبِيًّا لَمْ يُحْرَقْ مَتَاعُهُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ وَالأَْوْزَاعِيِّ؛ لأَِنَّ الإِْحْرَاقَ عُقُوبَةٌ، وَالصَّبِيُّ لَيْسَ مِنْ أَهْل الْعُقُوبَةِ.
38 - وَيَسْقُطُ إِحْرَاقُ مَتَاعِ الْغَال إِذَا مَاتَ قَبْل إِحْرَاقِ رَحْلِهِ، نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ، لأَِنَّهَا عُقُوبَةٌ فَتَسْقُطُ بِالْمَوْتِ، كَالْحُدُودِ؛ وَلأَِنَّهُ بِالْمَوْتِ انْتَقَل الْمَتَاعُ إِلَى وَرَثَتِهِ، فَإِحْرَاقُهُ يَكُونُ عُقُوبَةً لِغَيْرِ الْجَانِي. وَإِنِ انْتَقَل مِلْكُهُ إِلَى غَيْرِ الْغَال بِالْبَيْعِ أَوِ الْهِبَةِ احْتَمَل عَدَمُ تَحْرِيقِهِ، لِصَيْرُورَتِهِ لِغَيْرِهِ فَأَشْبَهَ انْتِقَالَهُ لِلْوَارِثِ بِالْمَوْتِ، وَاحْتَمَل أَنْ يَنْقُضَ الْبَيْعَ وَالْهِبَةَ وَيُحْرَقَ، لأَِنَّهُ تَعَلَّقَ بِهِ حَقٌّ سَابِقٌ عَلَى الْبَيْعِ وَالْهِبَةِ، فَوَجَبَ تَقْدِيمُهُ كَالْقِصَاصِ فِي حَقِّ الْجَانِي.
39 - وَمَا لاَ يُحْرَقُ لِلْغَال بِالاِتِّفَاقِ الْمُصْحَفُ، وَالْحَيَوَانُ أَمَّا الْمُصْحَفُ فَلاَ يُحْرَقُ، لِحُرْمَتِهِ، وَلِمَا تَقَدَّمَ
__________
(1) رواه أحمد وأبو داود وصحح وقفه، والترمذي وفيه صالح بن أبي زائدة، ضعيف. وقال الدارقطني المحفوظ أن سالما أمر بذلك. (تلخيص الحبير 4 / 114) .
(2) أخرجه أبو داود والحاكم والبيهقي والراجح وقفه (نيل الأوطار 7 / 300)

(2/127)


مِنْ قَوْل سَالِمٍ فِيهِ. وَإِنْ كَانَ مَعَ الْغَال شَيْءٌ مِنْ كُتُبِ الْحَدِيثِ أَوِ الْعِلْمِ فَيَنْبَغِي أَلاَّ تُحْرَقَ أَيْضًا؛ لأَِنَّ نَفْعَ ذَلِكَ يَعُودُ إِلَى الدِّينِ، وَلَيْسَ الْمَقْصُودُ الإِْضْرَارَ بِهِ فِي دِينِهِ، وَإِنَّمَا الْقَصْدُ الإِْضْرَارُ بِهِ فِي شَيْءٍ مِنْ دُنْيَاهُ، وَيُحْتَمَل أَنْ يُبَاعَ الْمُصْحَفُ وَيُتَصَدَّقُ بِهِ لِقَوْل سَالِمٍ فِيهِ.
40 - أَمَّا الْحَيَوَانُ فَلاَ يُحْرَقُ وَلِنَهْيِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُعَذِّبَ بِالنَّارِ إِلاَّ رَبُّهَا؛ وَلِحُرْمَةِ الْحَيَوَانِ فِي نَفْسِهِ؛ وَلأَِنَّهُ لاَ يَدْخُل فِي اسْمِ الْمَتَاعِ الْمَأْمُورِ بِإِحْرَاقِهِ.
41 - وَلاَ تُحْرَقُ ثِيَابُ الْغَال الَّتِي عَلَيْهِ؛ لأَِنَّهُ لاَ يَجُوزُ تَرْكُهُ عُرْيَانًا، وَلاَ سِلاَحُهُ؛ لأَِنَّهُ يَحْتَاجُ لِلْقِتَال، وَلاَ نَفَقَتُهُ؛ لأَِنَّ ذَلِكَ مِمَّا لاَ يُحْرَقُ عَادَةً وَلِلاِحْتِيَاجِ إِلَى الإِْنْفَاقِ.
42 - وَلاَ يُحْرَقُ الْمَال الْمَغْلُول؛ لأَِنَّ مَا غُل مِنْ غَنِيمَةِ الْمُسْلِمِينَ، وَالْقَصْدُ الإِْضْرَارُ بِالْغَال فِي مَالِهِ وَقِيل لأَِحْمَدَ: أَيُّ شَيْءٍ يُصْنَعُ بِالْمَال الَّذِي أَصَابَهُ فِي الْغُلُول؟ قَال: يُرْفَعُ إِلَى الْغُنْمِ.
43 - وَاخْتُلِفَ فِي آلَةِ الدَّابَّةِ، فَنَصَّ أَحْمَدُ عَلَى أَنَّهَا لاَ تُحْرَقُ؛ لأَِنَّهُ يَحْتَاجُ إِلَيْهَا لِلاِنْتِفَاعِ بِهَا، وَلأَِنَّهَا تَابِعَةٌ لِمَا لاَ يُحْرَقُ فَأَشْبَهَ جِلْدَ الْمُصْحَفِ وَكِيسَهُ؛ وَلأَِنَّهَا مَلْبُوسُ حَيَوَانٍ، فَلاَ يُحْرَقُ، كَثِيَابِ الْغَال. وَقَال الأَْوْزَاعِيُّ: يُحْرَقُ سَرْجُهُ وَإِكَافُهُ.

مِلْكِيَّةُ مَا لَمْ يُحْرَقْ:
44 - جَمِيعُ مَا ذُكِرَ مِمَّا لَمْ يُحْرَقْ، وَكَذَلِكَ مَا بَقِيَ بَعْدَ الإِْحْرَاقِ. مِنْ حَدِيدٍ أَوْ غَيْرِهِ وَهُوَ لِصَاحِبِهِ؛ لأَِنَّ مِلْكَهُ كَانَ ثَابِتًا عَلَيْهِ، وَلَمْ يُوجَدْ مَا يُزِيلُهُ، وَإِنَّمَا عُوقِبَ

(2/128)


الْغَال بِإِحْرَاقِ مَتَاعِهِ، فَمَا لَمْ يُحْرَقْ يَبْقَى عَلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ (1) .

إِحْرَامٌ
الْفَصْل الأَْوَّل

التَّعْرِيفُ:
1 - مِنْ مَعَانِي الإِْحْرَامِ فِي اللُّغَةِ: الإِْهْلاَل بِحَجٍّ أَوْ عُمْرَةٍ وَمُبَاشَرَةُ أَسْبَابِهَا، وَالدُّخُول فِي الْحُرْمَةِ. يُقَال: أَحْرَمَ الرَّجُل إِذَا دَخَل فِي الشَّهْرِ الْحَرَامِ، وَأَحْرَمَ: دَخَل فِي الْحَرَمِ، وَمِنْهُ حَرَمُ مَكَّةَ، وَحَرَمُ الْمَدِينَةِ، وَأَحْرَمَ: دَخَل فِي حُرْمَةِ عَهْدٍ أَوْ مِيثَاقٍ.
وَالْحُرْمُ - بِضَمِّ الْحَاءِ وَسُكُونِ الرَّاءِ -: الإِْحْرَامُ بِالْحَجِّ أَيْضًا، وَبِالْكَسْرِ: الرَّجُل الْمُحْرِمُ، يُقَال أَنْتَ حِلٌّ، وَأَنْتَ حُرُمٌ.
وَالإِْحْرَامُ فِي اصْطِلاَحِ الْفُقَهَاءِ يُرَادُ بِهِ عِنْدَ الإِْطْلاَقِ الإِْحْرَامُ بِالْحَجِّ، أَوِ الْعُمْرَةِ. وَقَدْ يُطْلَقُ عَلَى الدُّخُول فِي الصَّلاَةِ وَيَسْتَعْمِلُونَ مَادَّتَهُ مَقْرُونَةً بِالتَّكْبِيرَةِ الأُْولَى، فَيَقُولُونَ: " تَكْبِيرَةَ الإِْحْرَامِ " وَيُسَمُّونَهَا " التَّحْرِيمَةَ (2) " وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ (صَلاَةٌ) .
__________
(1) ابن نجيم 5 / 83، والزيلعي 3 / 244، والحطاب 3 / 354، والأم 4 / 251، والمغني لابن قدامة، والشرح الكبير 10 / 532، 535، ونيل الأوطار 7 / 318، 319 ط الحلبي باب التشديد في الغلول وتحريق رحل الغال.
(2) الحنفية لا يستعملون لفظ " إحرام " في افتتاح الصلاة ولا مضافا إلى تكبيرة الافتتاح إلا نادرا، كما وقع في حاشية الشلبي على تبين الحقائق للزيلعي 1 / 103 بلفظ " تكبيرة الإحرام "

(2/128)


وَيُطْلِقُ فُقَهَاءُ الشَّافِعِيَّةِ الإِْحْرَامَ عَلَى الدُّخُول فِي النُّسُكِ، وَبِهِ فَسَّرُوا قَوْل النَّوَوِيِّ فِي الْمِنْهَاجِ: " بَابُ الإِْحْرَامِ (1) ".

تَعْرِيفُ الْحَنَفِيَّةِ لِلإِْحْرَامِ:
2 - الإِْحْرَامُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ هُوَ الدُّخُول فِي حُرُمَاتٍ مَخْصُوصَةٍ غَيْرَ أَنَّهُ لاَ يَتَحَقَّقُ شَرْعًا إِلاَّ بِالنِّيَّةِ مَعَ الذِّكْرِ أَوِ الْخُصُوصِيَّةِ (2) .
وَالْمُرَادُ بِالدُّخُول فِي حُرُمَاتٍ: الْتِزَامُ الْحُرُمَاتِ، وَالْمُرَادُ بِالذِّكْرِ التَّلْبِيَةُ وَنَحْوُهَا مِمَّا فِيهِ تَعْظِيمُ اللَّهِ تَعَالَى.
وَالْمُرَادُ بِالْخُصُوصِيَّةِ: مَا يَقُومُ مَقَامَهَا مِنْ سَوْقِ الْهَدْيِ، أَوْ تَقْلِيدِ الْبُدْنِ (3) .

تَعْرِيفُ الْمَذَاهِبِ الثَّلاَثَةِ لِلإِْحْرَامِ:
3 - أَمَّا تَعْرِيفُ الإِْحْرَامِ عِنْدَ الْمَذَاهِبِ الثَّلاَثَةِ: الْمَالِكِيَّةِ - عَلَى الرَّاجِحِ عِنْدَهُمْ (4) -
__________
(1) شرح المنهاج بهامش حاشية القليوبي وعميرة 2 / 96 ط محمد علي صبيح 1368 هـ، ونهاية المحتاج للرملي 2 / 394 ط الأميرية ببولاق 1292 هـ.
(2) رد المحتار 2 / 213 ط استانبول.
(3) المرجع السابق.
(4) الشرح الكبير على مختصر خليل وحاشيته للدسوقي 2 / 21 - 26، وحاشية الصفتي على شرح العشماوية ص 192 المطبعة العامرة الشرقية 1304 هـ، وانظر نقاشا مطولا حول التعريف في مواهب الجليل شرح مختصر خليل للحطاب 3 / 13 - 15 مطبعة السعادة 1328 هـ.

(2/129)


وَالشَّافِعِيَّةِ (1) وَالْحَنَابِلَةِ (2) فَهُوَ: نِيَّةُ الدُّخُول فِي حُرُمَاتِ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ.

حُكْمُ الإِْحْرَامِ:
4 - أَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّ الإِْحْرَامَ مِنْ فَرَائِضِ النُّسُكِ، حَجًّا كَانَ أَوْ عُمْرَةً، وَذَلِكَ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّمَا الأَْعْمَال بِالنِّيَّاتِ (3) مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ لَكِنِ اخْتَلَفُوا فِيهِ أَمِنَ الأَْرْكَانِ هُوَ أَمْ مِنَ الشُّرُوطِ.
فَمَذْهَبُ الْمَالِكِيَّةِ (4) وَالشَّافِعِيَّةِ (5) وَالْحَنَابِلَةِ (6) أَنَّ الإِْحْرَامَ رُكْنٌ لِلنُّسُكِ. وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ الإِْحْرَامَ شَرْطٌ مِنْ شُرُوطِ صِحَّةِ الْحَجِّ، غَيْرَ أَنَّهُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ شَرْطٌ مِنْ وَجْهٍ (7) ، رُكْنٌ مِنْ وَجْهٍ أَوْ " هُوَ شَرْطٌ ابْتِدَاءً، وَلَهُ حُكْمُ
__________
(1) شرح المنهاج للمحلي 2 / 126، ونهاية المحتاج للرملي 2 / 394 - 441
(2) الكافي 1 / 530 ط المكتب الإسلامي، وفيه قوله: " النية هي الإحرام " وانظر المغني 3 / 281، 282 ط ثالثة، والمقنع 1 / 393 ط السلفية 1374 هـ، وفيما أن الإحرام لا ينعقد إلا بالنية ولا يجب شيء سواها.
(3) البخاري في مطلع صحيحه، ومسلم في الإمارة 6 / 48 المطبعة العامرة باستانبول 1330 هـ.
(4) مختصر خليل بشروحه: الشرح الكبير وحاشيته 2 / 21، ومواهب الجليل 3 / 14، 15 وفي مناقشة حول كون الإحرام ركنا أو شرطا، وشرح الزرقاني وحاشية البناني 2 / 249 ط مصطفى محمد.
(5) شرح المنهاج 2 / 126، والنهاية 2 / 394
(6) مطالب أولي النهى 2 / 446 ط المكتب الإسلامي بدمشق 1380 هـ
(7) كما هي عبارة شرح اللباب وهو المسلك المتقسط لعلي القاري في شرح المنسك المتوسط المسمى اللباب لرحمة الله السندي ص 45

(2/129)


الرُّكْنِ انْتِهَاءً (1) ".
وَيَتَفَرَّعُ عَلَى كَوْنِ الإِْحْرَامِ شَرْطًا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَكَوْنِهِ يُشْبِهُ الرُّكْنَ فُرُوعٌ. مِنْهَا:
1 - أَجَازَ الْحَنَفِيَّةُ الإِْحْرَامَ بِالْحَجِّ قَبْل أَشْهُرِ الْحَجِّ، مَعَ الْكَرَاهَةِ، لِكَوْنِ الإِْحْرَامِ شَرْطًا عِنْدَهُمْ، فَجَازَ تَقْدِيمُهُ عَلَى الْوَقْتِ (2) .
2 - لَوْ أَحْرَمَ الْمُتَمَتِّعُ بِالْعُمْرَةِ قَبْل أَشْهُرِ الْحَجِّ، وَأَتَى بِأَفْعَالِهَا، أَوْ بِرُكْنِهَا، أَوْ أَكْثَرِ الرُّكْنِ - يَعْنِي أَرْبَعَةَ أَشْوَاطٍ مِنَ الطَّوَافِ - فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ يَكُونُ مُتَمَتِّعًا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ (3) .
3 - تَفَرَّعَ عَلَى شِبْهِ الإِْحْرَامِ بِالرُّكْنِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ أَنَّهُ لَوْ أَحْرَمَ الصَّبِيُّ، ثُمَّ بَلَغَ بَعْدَمَا أَحْرَمَ، فَإِنَّهُ إِذَا مَضَى فِي إِحْرَامِهِ لَمْ يُجْزِهِ عَنْ حَجَّةِ الإِْسْلاَمِ. لَكِنْ لَوْ جَدَّدَ الإِْحْرَامَ قَبْل الْوُقُوفِ وَنَوَى حَجَّةَ الإِْسْلاَمِ، جَازَ عَنْ حَجَّةِ الإِْسْلاَمِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ اعْتِبَارًا لِشَبَهِ الرُّكْنِ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ احْتِيَاطًا فِي الْعِبَادَةِ (4) .

حِكْمَةُ تَشْرِيعِ الإِْحْرَامِ:
5 - فَرْضِيَّةُ الإِْحْرَامِ لِلنُّسُكِ لَهَا حِكَمٌ جَلِيلَةٌ، وَأَسْرَارٌ وَمَقَاصِدُ تَشْرِيعِيَّةٌ كَثِيرَةٌ، أَهَمُّهَا: اسْتِشْعَارُ
__________
(1) وهذه عبارة الدر الختار 2 / 202، وانظر فتح القدير لابن الهمام 2 / 130ط الأميرية 1315 هـ.
(2) شرح اللباب ص 45، ورد المحتار 2 / 202 - 206، ويأتي مزيد بحث في المسألة في المواقيت (ف 34)
(3) بدائع الصنائع 2 / 168، 169 ط شركة المطبوعات العلمية 1327 هـ ويأتي مزيد بحث لهذا في (التمتع)
(4) فتح القدير 2 / 130، وانظر شرح اللباب 45، ورد المحتار 2 / 202

(2/130)


تَعْظِيمِ اللَّهِ تَعَالَى وَتَلْبِيَةُ أَمْرِهِ بِأَدَاءِ النُّسُكِ الَّذِي يُرِيدُهُ الْمُحْرِمُ، وَأَنَّ صَاحِبَهُ يُرِيدُ أَنْ يُحَقِّقَ بِهِ التَّعَبُّدَ وَالاِمْتِثَال لِلَّهِ تَعَالَى.

شُرُوطُ الإِْحْرَامِ:
6 - يَشْتَرِطُ الْفُقَهَاءُ لِصِحَّةِ الإِْحْرَامِ: الإِْسْلاَمَ وَالنِّيَّةَ. وَزَادَ الْحَنَفِيَّةُ، وَهُوَ الْمَرْجُوحُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ، اشْتِرَاطَ التَّلْبِيَةِ أَوْ مَا يَقُومُ مَقَامَهَا.
7 - وَقَدِ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهُ لاَ يُشْتَرَطُ فِي النِّيَّةِ لِلنُّسُكِ الْفَرْضِ تَعْيِينُ أَنَّهُ فَرْضٌ فِي النِّيَّةِ، وَلَوْ أَطْلَقَ النِّيَّةَ وَلَمْ يَكُنْ قَدْ حَجَّ حَجَّةَ الْفَرْضِ يَقَعُ عَنْهَا اتِّفَاقًا. بِخِلاَفِ مَا لَوْ نَوَى حَجَّةَ نَفْلٍ فَالْمَذْهَبُ الْمُعْتَمَدُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَهُوَ مَذْهَبُ الْمَالِكِيَّةِ أَنَّهُ يَقَعُ عَمَّا نَوَى.
وَبِهَذَا قَال سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنِ الإِْمَامِ أَحْمَدَ (1) .
وَأَمَّا الشَّافِعِيَّةُ (2) وَالْحَنَابِلَةُ (3) فَقَالُوا: إِنْ أَحْرَمَ بِتَطَوُّعٍ أَوْ نَذْرٍ مَنْ لَمْ يَحُجَّ حَجَّةَ الإِْسْلاَمِ وَقَعَ عَنْ حَجَّةِ الإِْسْلاَمِ. وَبِهَذَا قَال ابْنُ عُمَرَ وَأَنَسٌ. وَقَالُوا: مَنْ حَجَّ عَنْ غَيْرِهِ وَلَمْ يَكُنْ حَجَّ عَنْ نَفْسِهِ، رَدَّ مَا أَخَذَ، وَكَانَتِ الْحَجَّةُ عَنْ نَفْسِهِ، وَبِهَذَا قَال الأَْوْزَاعِيُّ (4) .
اسْتَدَل الْحَنَفِيَّةُ وَمَنْ مَعَهُمْ: " بِأَنَّ الْمُطْلَقَ
__________
(1) فتح القدير 2 / 140، وشرح الحطاب 2 / 490، وانظر الشرح الكبير 2 / 5، والزرقاني 2 / 233، والمغني 3 / 246، والمسلك المتقسط ص 74، والبدائع 2 / 163، وشروح خليل المواضع السابقة.
(2) المجموع للنووي 7 / 98، مطبعة العاصمة، والإيضاح بحاشية ابن حجر الهيثمي ص 118، 119
(3) المغني 3 / 245، 246، والكافي 1 / 522، 523
(4) مراجع الحاشيتين السابقتين، والعبارة للمغني.

(2/130)


يَنْصَرِفُ إِلَى الْفَرْدِ الْكَامِل، فَإِنْ كَانَ عَلَيْهِ حَجَّةُ الإِْسْلاَمِ يَقَعُ عَنْهَا اسْتِحْسَانًا، فِي ظَاهِرِ الْمَذْهَبِ (1) أَيْ إِذَا أَطْلَقَ وَلَمْ يُعَيِّنْ. "
وَجْهُ الاِسْتِحْسَانِ: " أَنَّ الظَّاهِرَ مِنْ حَال مَنْ عَلَيْهِ حَجَّةُ الإِْسْلاَمِ أَنَّهُ لاَ يُرِيدُ بِإِحْرَامِ الْحَجِّ حَجَّةَ التَّطَوُّعِ، وَيُبْقِي نَفْسَهُ فِي عُهْدَةِ الْفَرْضِ، فَيُحْمَل عَلَى حَجَّةِ الإِْسْلاَمِ، بِدَلاَلَةِ حَالِهِ، فَكَانَ الإِْطْلاَقُ فِيهِ تَعْيِينًا، كَمَا فِي صَوْمِ رَمَضَانَ (2) ".
وَقَالُوا فِي اعْتِبَارِهِ عَمَّا نَوَاهُ مِنْ غَيْرِ الْفَرْضِ: " إِنَّمَا أَوْقَعْنَاهُ عَنِ الْفَرْضِ عِنْدَ إِطْلاَقِ النِّيَّةِ بِدَلاَلَةِ حَالِهِ، وَالدَّلاَلَةُ لاَ تَعْمَل مَعَ النَّصِّ بِخِلاَفِهِ (3) ".
وَيَشْهَدُ لَهُمْ نَصُّ الْحَدِيثِ الْمَشْهُورِ الصَّحِيحِ: وَإِنَّمَا لِكُل امْرِئٍ مَا نَوَى (4) وَاسْتَدَل الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ بِحَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَمِعَ رَجُلاً يَقُول: لَبَّيْكَ عَنْ شُبْرُمَةَ. قَال: مَنْ شُبْرُمَةُ؟ قَال: أَخٌ لِي، أَوْ قَرِيبٌ لِي. قَال: حَجَجْتَ عَنْ نَفْسِكَ؟ قَال: لاَ. قَال: حُجَّ عَنْ نَفْسِكَ، ثُمَّ حُجَّ عَنْ شُبْرُمَةَ. أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ وَابْنُ مَاجَهْ وَغَيْرُهُمَا (5) . وَفِي رِوَايَةٍ: اجْعَل هَذِهِ عَنْ
__________
(1) المسلك المتقسط شرح لباب المناسك ص 74
(2) بدائع الصنائع 2 / 163
(3) بدائع الصنائع 2 / 163
(4) سبق تخريجه (فقرة 4) .
(5) أبو داود بلفظ (الرجل يحج عن غيره) 2 / 162 وابن ماجه (الحج عن الميت) ص 967 رقم 2903 ط عيسى الحلبي 1372 هـ، والدارقطني قد توسع في سرد أسانيده 2 / 267 - 271 بتحقيق اليماني، شركة الطباعة الفنية المتحدة بمصر، والبيهقي (باب من ليس له أن يحج عن غيره) 4 / 336 ط الهند.

(2/131)


نَفْسِكَ. . . فَاسْتَدَلُّوا بِهَا. وَقَدْ صَحَّحَ النَّوَوِيُّ أَسَانِيدَهُ، وَتَكَلَّمَ فِيهِ غَيْرُهُ، فَرَجَّحَ إِرْسَالَهُ، وَوَقْفَهُ (1) . وَاسْتَدَلُّوا بِحَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَيْضًا: قَال رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لاَ صَرُورَةَ فِي الإِْسْلاَمِ أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُدَ (2) وَاخْتُلِفَ فِي صِحَّتِهِ كَذَلِكَ (3) .
قَال الْخَطَّابِيُّ فِي مَعَالِمِ السُّنَنِ (4) : " وَقَدْ يَسْتَدِل بِهِ مَنْ يَزْعُمُ أَنَّ الصَّرُورَةَ لاَ يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَحُجَّ عَنْ غَيْرِهِ.
وَتَقْدِيرُ الْكَلاَمِ عِنْدَهُ: أَنَّ الصَّرُورَةَ إِذَا شَرَعَ فِي الْحَجِّ عَنْ غَيْرِهِ صَارَ الْحَجُّ عَنْهُ، وَانْقَلَبَ عَنْ فَرْضِهِ، لِيَحْصُل مَعْنَى النَّفْيِ، فَلاَ يَكُونُ صَرُورَةً، وَهَذَا مَذْهَبُ الأَْوْزَاعِيِّ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ وَإِسْحَاقَ. . . ". وَاسْتَدَلُّوا مِنَ الْمَعْقُول: " أَنَّ النَّفَل وَالنَّذْرَ أَضْعَفُ مِنْ حَجَّةِ الإِْسْلاَمِ، فَلاَ يَجُوزُ تَقْدِيمُهُمَا عَلَيْهَا، كَحَجِّ غَيْرِهِ عَلَى حَجِّهِ ". وَبِقِيَاسِ النَّفْل وَالنَّذْرِ عَلَى مَنْ أَحْرَمَ عَنْ غَيْرِهِ وَعَلَيْهِ فَرْضُهُ (5) .
__________
(1) المجموع 7 / 99 وتوسع الزيلعي في بيان إعلال الحديث من عدة أوجه في نصب الراية 3 / 155 ط دار المأمون 1357 هـ، وانظر الدراية 2 / 49 مطبعة الفجالة.
(2) المسند 4 / 303 رقم 1845، تحقيق أحمد شاكر وأبو داود (باب لا صرورة) 2 / 140، وانظر معالم السنن 2 / 278
(3) ضعفه المنذري في مختصر السنن 2 / 278
(4) المهذب 7 / 98 من نسخة المجموع.

(2/131)


التَّلْبِيَةُ:
8 - التَّلْبِيَةُ لُغَةً إِجَابَةُ الْمُنَادِي. وَالْمُرَادُ بِالتَّلْبِيَةِ هُنَا: قَوْل الْمُحْرِمِ: " لَبَّيْكَ اللَّهُمَّ لَبَّيْكَ. . . " أَيْ إِجَابَتِي لَكَ يَا رَبُّ. وَلَمْ يُسْتَعْمَل " لَبَّيْكَ " إِلاَّ عَلَى لَفْظِ التَّثْنِيَةِ. وَالْمُرَادُ بِهَا التَّكْثِيرُ. وَالْمَعْنَى: أَجَبْتُكَ إِجَابَةً بَعْدَ إِجَابَةٍ، إِلَى مَا لاَ نِهَايَةَ (1) .

حُكْمُ التَّلْبِيَةِ:
9 - التَّلْبِيَةُ شَرْطٌ فِي الإِْحْرَامِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ وَابْنِ حَبِيبٍ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ، لاَ يَصِحُّ الإِْحْرَامُ بِمُجَرَّدِ النِّيَّةِ، حَتَّى يَقْرِنَهَا بِالتَّلْبِيَةِ أَوْ مَا يَقُومُ مَقَامَهَا مِمَّا يَدُل عَلَى التَّعْظِيمِ مِنْ ذِكْرٍ وَدُعَاءٍ أَوْ سَوْقِ الْهَدْيِ. فَإِذَا نَوَى النُّسُكَ الَّذِي يُرِيدُهُ مِنْ حَجٍّ أَوْ عُمْرَةٍ أَوْ هُمَا مَعًا وَلَبَّى فَقَدْ أَحْرَمَ، وَلَزِمَهُ كُل أَحْكَامِ الإِْحْرَامِ الآْتِيَةِ، وَأَنْ يَمْضِيَ، فِي أَدَاءِ مَا أَحْرَمَ بِهِ. وَالْمُعْتَمَدُ عِنْدَهُمْ " أَنَّهُ يَصِيرُ مُحْرِمًا بِالنِّيَّةِ لَكِنْ عِنْدَ التَّلْبِيَةِ، كَمَا يَصِيرُ شَارِعًا فِي الصَّلاَةِ بِالنِّيَّةِ، لَكِنْ بِشَرْطِ التَّكْبِيرِ، لاَ بِالتَّكْبِيرِ (2) ".
وَقَدْ نُقِل هَذَا الْمَذْهَبُ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ، وَابْنِ عُمَرَ، وَعَائِشَةَ، وَإِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ، وَطَاوُسٍ
__________
(1) النهاية لابن الأثير مادة " لبب " 4 / 47، وانظر المادة في لسان العرب 2 / 225، 230، والقاموس وشرحه تاج العروس 1 / 464، 468
(2) متن الكنز نسخة شرح العيني 1 / 90، وشرح اللباب ص 62، ورد المحتار 2 / 213، 214، وانظر المبسوط 4 / 6، 187 مطبعة السعادة 1324 هـ، وشرح الزيلعي 2 / 11، ومواهب الجليل 3 / 9، وانظر المراجع السابقة في تعريف الإحرام.

(2/132)


وَمُجَاهِدٍ، وَعَطَاءٍ بَل ادَّعَى فِيهِ اتِّفَاقَ السَّلَفِ (1) . وَذَهَبَ غَيْرُهُمْ إِلَى أَنَّ التَّلْبِيَةَ لاَ تُشْتَرَطُ فِي الإِْحْرَامِ، فَإِذَا نَوَى فَقَدْ أَحْرَمَ بِمُجَرَّدِ النِّيَّةِ، وَلَزِمَتْهُ أَحْكَامُ الإِْحْرَامِ الآْتِيَةُ، وَالْمُضِيُّ فِي أَدَاءِ مَا أَحْرَمَ بِهِ.
ثُمَّ اخْتَلَفُوا: فَقَال الْمَالِكِيَّةُ: هِيَ وَاجِبَةٌ فِي الأَْصْل، وَالسُّنَّةُ قَرْنُهَا بِالإِْحْرَامِ (2) . وَيَلْزَمُ الدَّمُ بِطُول فَصْلِهَا عَنِ النِّيَّةِ. وَلَوْ رَجَعَ وَلَبَّى لاَ يَسْقُطُ عَنْهُ الدَّمُ. وَسَوَاءٌ أَكَانَ التَّرْكُ أَوْ طُول الْفَصْل عَمْدًا أَمْ نِسْيَانًا (3) . وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ (4) وَالْحَنَابِلَةُ (5) - وَهُوَ مَنْقُولٌ عَنْ أَبِي يُوسُفَ (6) - إِلَى أَنَّ التَّلْبِيَةَ سُنَّةٌ فِي الإِْحْرَامِ مُطْلَقًا.

الْمِقْدَارُ الْوَاجِبُ مِنْ لَفْظِ التَّلْبِيَةِ:
10 - الصِّيغَةُ الَّتِي أَوْرَدَهَا الْفُقَهَاءُ لِلتَّلْبِيَةِ: هِيَ: " لَبَّيْكَ اللَّهُمَّ لَبَّيْكَ. لَبَّيْكَ لاَ شَرِيكَ لَكَ لَبَّيْكَ. إِنَّ الْحَمْدَ وَالنِّعْمَةَ لَكَ وَالْمُلْكُ. لاَ شَرِيكَ لَكَ ".
هَذِهِ الصِّيغَةُ الَّتِي لَزِمَهَا رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ، وَلَمْ يَزِدْ عَلَيْهَا (7) وَالَّذِي يَحْصُل
__________
(1) كذا أفاد أبو بكر الرازي الجصاص في أحكام القرآن 1 / 361 المطبعة البهية المصرية.
(2) شرح رسالة ابن أبي زيد القيرواني بحاشية العدوي 1 / 460
(3) الشرح الكبير 2 / 40 والمراجع السابقة.
(4) المهذب والمجموع 7 / 226، 227
(5) المغني 3 / 288، والكافي 1 / 541، والمقنع 1 / 398
(6) شرح الكنز للعيني 1 / 90، والمسلك المتقسط ص 62
(7) كما صرح بذلك في حديث جابر الطويل في صفة حجة النبي صلى الله عليه وسلم أخرجه مسلم (باب حجة النبي صلى الله عليه وسلم 4 / 38، 43 وأبو داود 2 / 182 - 186: ابن ماجه رقم 3074 ص 1022 - 1027، والدارمي (باب في سنة الحال) 2 / 44، 49 ط دمشق 1349 هـ

(2/132)


بِهِ أَدَاءُ التَّلْبِيَةِ فِي الإِْحْرَامِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ هُوَ مَا يَحْصُل بِهِ التَّعْظِيمُ. فَإِنَّ الْمَشْرُوطَ عَلَى الْحَقِيقَةِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ أَنْ تَقْتَرِنَ النِّيَّةُ " بِذِكْرٍ يُقْصَدُ بِهِ التَّعْظِيمُ، كَتَسْبِيحٍ، وَتَهْلِيلٍ (1) " وَلَوْ مَشُوبًا بِالدُّعَاءِ (2) ".

النُّطْقُ بِالتَّلْبِيَةِ:
11 - يُشْتَرَطُ لأَِدَاءِ التَّلْبِيَةِ أَنْ تُلْفَظَ بِاللِّسَانِ، فَلَوْ ذَكَرَهَا بِقَلْبِهِ لَمْ يُعْتَدَّ بِهَا عِنْدَ مَنْ يَقُول إِنَّهَا شَرْطٌ، وَمَنْ يَقُول إِنَّهَا وَاجِبٌ، وَمَنْ يَقُول إِنَّهَا سُنَّةٌ.

وَتَفَرَّعَ عَلَى ذَلِكَ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ فَرْعَانِ:
12 - الْفَرْعُ الأَْوَّل: لَوْ كَانَ لاَ يُحْسِنُ الْعَرَبِيَّةَ، فَنَطَقَ بِالتَّلْبِيَةِ بِغَيْرِ الْعَرَبِيَّةِ، أَجْزَأَهُ اتِّفَاقًا. أَمَّا لَوْ كَانَ يُحْسِنُ الْعَرَبِيَّةَ، فَنَطَقَ بِهَا بِغَيْرِ الْعَرَبِيَّةِ، فَلاَ يُجْزِئُهُ عِنْدَ الْجُمْهُورِ، خِلاَفًا لِلْحَنَفِيَّةِ فِي ظَاهِرِ الْمَذْهَبِ. وَدَلِيلُهُمْ أَنَّهُ ذِكْرٌ مَشْرُوعٌ، فَلاَ يُشْرَعُ بِغَيْرِ الْعَرَبِيَّةِ، كَالأَْذَانِ وَالأَْذْكَارِ الْمَشْرُوعَةِ فِي الصَّلاَةِ (3) .
وَدَلِيل الْحَنَفِيَّةِ أَنَّهُ ذِكْرٌ مَقْصُودٌ بِهِ التَّعْظِيمُ، فَإِذَا حَصَل هَذَا الْمَقْصُودُ أَجْزَأَهُ، وَلَوْ بِغَيْرِ الْعَرَبِيَّةِ.
13 - الْفَرْعُ الثَّانِي فِي الأَْخْرَسِ: الأَْصَحُّ أَنَّهُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ يُسْتَحَبُّ لَهُ تَحْرِيكُ لِسَانِهِ بِالتَّلْبِيَةِ مَعَ النِّيَّةِ،
__________
(1) الدر المختار 2 / 217، وانظر حاشيته ص 218، وشرح الكنز للزيلعي 2 / 11، والبدائع 2 / 161
(2) على الصحيح كما في شرح اللباب ص 70، ورد المحتار
(3) المغني 3 / 292

(2/133)


وَلاَ يَجِبُ. وَقِيل: يَجِبُ تَحْرِيكُ لِسَانِهِ، فَإِنَّهُ نَصُّ الإِْمَامِ مُحَمَّدٍ عَلَى أَنَّهُ شَرْطٌ (1) . وَعَلَى هَذَا " فَيَنْبَغِي (2) " أَلاَّ يَلْزَمَهُ فِي الْحَجِّ بِالأَْوْلَى، فَإِنَّ بَابَ الْحَجِّ أَوْسَعُ، مَعَ أَنَّ الْقِرَاءَةَ فَرْضٌ قَطْعِيٌّ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وَالتَّلْبِيَةُ أَمْرٌ ظَنِّيٌّ مُخْتَلَفٌ فِيهِ (3) .

وَقْتُ التَّلْبِيَةِ:
14 - الأَْفْضَل عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ (4) وَالْحَنَابِلَةِ (5) أَنْ يُلَبِّيَ بِنِيَّةِ الْحَجِّ أَوِ الْعُمْرَةِ أَوْ نِيَّتِهِمَا مَعًا عَقِبَ صَلاَتِهِ رَكْعَتَيْنِ سُنَّةَ الإِْحْرَامِ، وَبَعْدَ نِيَّةِ النُّسُكِ. وَإِنْ لَبَّى بَعْدَمَا اسْتَوَتْ بِهِ رَاحِلَتُهُ أَوْ رَكُوبَتُهُ جَازَ، إِلَى أَنْ يَبْلُغَ نِهَايَةَ الْمِيقَاتِ، فَإِذَا جَاوَزَ الْمِيقَاتَ وَلَمْ يُلَبِّ بِنِيَّةِ النُّسُكِ صَارَ مُجَاوِزًا لِلْمِيقَاتِ بِغَيْرِ إِحْرَامٍ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، وَلَزِمَهُ مَا يَلْزَمُ ذَاكَ عِنْدَهُمْ.
وَعِنْدَ الْجُمْهُورِ (6) يُسْتَحَبُّ الْبَدْءُ بِالتَّلْبِيَةِ إِذَا رَكِبَ رَاحِلَتَهُ، وَاسْتَوَتْ بِهِ، لَكِنْ يَلْزَمُهُ الدَّمُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ إِنْ تَرَكَهَا أَوْ أَخَّرَهَا حَتَّى طَال الْفَصْل بَيْنَ الإِْحْرَامِ وَالتَّلْبِيَةِ كَمَا تَقَدَّمَ (ف 9) . وَلاَ يَلْزَمُهُ شَيْءٌ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ لِقَوْلِهِمْ إِنَّ التَّلْبِيَةَ سُنَّةٌ.
__________
(1) فتح القدير 2 / 139، وشرح اللباب ص 70، وانظر رد المحتار 2 / 217
(2) كما قال القاري في منسكه وهو شرح اللباب ص 70
(3) المبسوط 4 / 188
(4) الهداية 2 / 136 - 137
(5) غاية المنتهى 2 / 321 نسخة مطالب أولي النهى.
(6) مختصر خليل والشرح الكبير 2 / 39، والمنهاج 2 / 99، والكافي 1 / 542

(2/133)


مَا يَقُومُ مَقَامَ التَّلْبِيَةِ:
15 - يَقُومُ مَقَامَ التَّلْبِيَةِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ لِصِحَّةِ الإِْحْرَامِ أَمْرَانِ:
الأَْوَّل: كُل ذِكْرٍ فِيهِ تَعْظِيمٌ لِلَّهِ تَعَالَى، كَالتَّسْبِيحِ، وَالتَّحْمِيدِ، وَالتَّكْبِيرِ، وَلَوْ بِغَيْرِ اللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ، كَمَا سَبَقَ بَيَانُهُ (ف 10)
الثَّانِي: تَقْلِيدُ الْهَدْيِ وَسَوْقُهُ وَالتَّوَجُّهُ مَعَهُ. وَالْهَدْيُ يَشْمَل الإِْبِل وَالْبَقَرَ وَالْغَنَمَ. لَكِنْ يُسْتَثْنَى مِنَ التَّقْلِيدِ الْغَنَمُ، لِعَدَمِ سُنِّيَّةِ تَقْلِيدِ الْغَنَمِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ (1) . (ر: هَدْيٌ) وَالتَّقْلِيدُ هُوَ أَنْ يَرْبِطَ فِي عُنُقِ الْبَدَنَةِ أَوِ الْبَقَرَةِ عَلاَمَةً عَلَى أَنَّهُ هَدْيٌ.

شُرُوطُ إِقَامَةِ تَقْلِيدِ الْهَدْيِ وَسَوْقِهِ مَقَامَ التَّلْبِيَةِ:
16 - يُشْتَرَطُ:
1 - النِّيَّةُ.
2 - سَوْقُ الْبَدَنَةِ وَالتَّوَجُّهُ مَعَهَا.
3 - يُشْتَرَطُ - إِنْ بَعَثَ بِهَا وَلَمْ يَتَوَجَّهْ مَعَهَا - أَنْ يُدْرِكَهَا قَبْل الْمِيقَاتِ وَيَسُوقَهَا، إِلاَّ إِذَا كَانَ بَعَثَهَا لِنُسُكِ مُتْعَةٍ أَوْ قِرَانٍ، وَكَانَ التَّقْلِيدُ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ، فَإِنَّهُ يَصِيرُ مُحْرِمًا إِذَا تَوَجَّهَ بِنِيَّةِ الإِْحْرَامِ وَإِنْ لَمْ يَلْحَقْهَا، اسْتِحْسَانًا (2) .
__________
(1) الهداية 2 / 326 نسخة فتح القدير، وشرح الكنز للزيلعي 2 / 91، 92، بدائع الصنائع 2 / 162
(2) شرح اللباب ص 72، 73 وتبيين الحقائق 2 / 39 ط الأميرية 1313 هـ، والدر المختار وحاشيته 2 / 219 - 220

(2/134)


الْفَصْل الثَّانِي
حَالاَتُ الإِْحْرَامِ مِنْ حَيْثُ إِبْهَامُ النِّيَّةِ وَإِطْلاَقُهَا
إِبْهَامُ الإِْحْرَامِ
تَعْرِيفُهُ:
17 - هُوَ أَنْ يَنْوِيَ مُطْلَقَ نُسُكٍ مِنْ غَيْرِ تَعْيِينٍ، كَأَنْ يَقُول: أَحْرَمْتُ لِلَّهِ، ثُمَّ يُلَبِّيَ، وَلاَ يُعَيِّنَ حَجًّا أَوْ عُمْرَةً، أَوْ يَقُول: نَوَيْتُ الإِْحْرَامَ لِلَّهِ تَعَالَى، لَبَّيْكَ اللَّهُمَّ. .، أَوْ يَنْوِيَ الدُّخُول فِي حُرُمَاتِ نُسُكٍ، وَلَمْ يُعَيِّنْ شَيْئًا. فَهَذَا الإِْحْرَامُ صَحِيحٌ بِاتِّفَاقِ الْمَذَاهِبِ. وَيَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ كُل أَحْكَامِ الإِْحْرَامِ، وَعَلَيْهِ اجْتِنَابُ جَمِيعِ مَحْظُورَاتِهِ، كَالإِْحْرَامِ الْمُعَيَّنِ
وَيُسَمَّى هَذَا إِحْرَامًا مُبْهَمًا، وَيُسَمُّونَهُ أَيْضًا إِحْرَامًا مُطْلَقًا.

تَعْيِينُ النُّسُكِ:
18 - ثُمَّ عَلَى هَذَا الْمُحْرِمِ التَّعْيِينُ قَبْل أَنْ يَشْرَعَ فِي أَفْعَال أَحَدِهِمَا، وَلَهُ أَنْ يَجْعَلَهُ لِلْعُمْرَةِ، أَوْ لِلْحَجِّ، أَوْ لَهُمَا مَعًا حَسْبَمَا يَشَاءُ. وَتَرْجِعُ الأَْفْضَلِيَّةُ فِيمَا يَخْتَارُهُ وَيُعَيِّنُهُ إِلَى خِلاَفِ الْمَذَاهِبِ فِي أَيِّ أَوْجُهِ الإِْحْرَامِ أَفْضَل: الْقِرَانُ، أَوِ التَّمَتُّعُ، أَوِ الإِْفْرَادُ، وَإِلَى حُكْمِ الإِْحْرَامِ بِالْحَجِّ قَبْل أَشْهُرِ الْحَجِّ، إِنْ وَقَعَ هَذَا الإِْحْرَامُ قَبْل أَشْهُرِ الْحَجِّ، وَأَرَادَ التَّعْيِينَ قَبْلَهَا (1) .
__________
(1) انظر المذاهب في حكم الإحرام قبل أشهر الحج في (ف 35)

(2/134)


وَاخْتَلَفُوا فِي كَيْفِيَّةِ التَّعْيِينِ.
فَقَال الْحَنَفِيَّةُ: إِنْ عَيَّنَ مَا يُرِيدُهُ قَبْل الطَّوَافِ فَالْعِبْرَةُ لِهَذَا التَّعْيِينِ، وَإِنْ لَمْ يُعَيِّنْ ثُمَّ طَافَ بِالْبَيْتِ لِلْعُمْرَةِ، أَوْ مُطْلَقًا بِغَيْرِ تَعْيِينٍ وَلَوْ شَوْطًا، جَعَل إِحْرَامَهُ لِلْعُمْرَةِ، فَيُتِمُّ مَنَاسِكَ الْعُمْرَةِ، ثُمَّ يُحْرِمُ بِالْحَجِّ وَيَصِيرُ مُتَمَتِّعًا. وَعِلَّةُ جَعْلِهِ لِلْعُمْرَةِ " أَنَّ الطَّوَافَ رُكْنٌ فِي الْعُمْرَةِ، وَطَوَافُ الْقُدُومِ فِي الْحَجِّ لَيْسَ بِرُكْنٍ، بَل هُوَ سُنَّةٌ، فَإِيقَاعُهُ عَنِ الرُّكْنِ أَوْلَى، وَتَتَعَيَّنُ الْعُمْرَةُ بِفِعْلِهِ كَمَا تَتَعَيَّنُ بِقَصْدِهِ ".
أَمَّا إِنْ لَمْ يُعَيِّنْ، وَلَمْ يَطُفْ بِالْبَيْتِ، بَل وَقَفَ بِعَرَفَةَ قَبْل أَنْ يَطُوفَ، فَيَنْصَرِفُ إِحْرَامُهُ لِلْحَجِّ. وَإِنْ لَمْ يَقْصِدِ الْحَجَّ فِي وُقُوفِهِ، فَإِنَّهُ يَنْصَرِفُ إِلَى الْحَجِّ شَرْعًا، وَعَلَيْهِ أَنْ يُتَمِّمَ مَنَاسِكَ الْحَجِّ. هَذَا مُعْتَمَدُ مَذْهَبِ الْحَنَفِيَّةِ (1) .
وَمَذْهَبُ الْمَالِكِيَّةِ، وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ، أَنَّهُ لاَ يَفْعَل شَيْئًا إِلاَّ بَعْدَ التَّعْيِينِ، فَإِنْ طَافَ قَبْل أَنْ يَصْرِفَ إِحْرَامَهُ لِشَيْءٍ - سَوَاءٌ أَكَانَ أَحْرَمَ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ أَمْ لاَ - وَجَبَ صَرْفُهُ لِلْحَجِّ مُفْرَدًا، وَيَكُونُ هَذَا الطَّوَافُ الْوَاقِعُ قَبْل الصَّرْفِ وَالتَّعْيِينِ طَوَافَ الْقُدُومِ، وَهُوَ لَيْسَ رُكْنًا مِنْ أَرْكَانِ الْحَجِّ فَلاَ يَضُرُّ وُقُوعُهُ قَبْل الصَّرْفِ. وَلاَ يَصِحُّ صَرْفُ ذَلِكَ الإِْحْرَامِ لِعُمْرَةٍ بَعْدَ الطَّوَافِ؛ لأَِنَّ الطَّوَافَ رُكْنٌ مِنْهَا، وَقَدْ وَقَعَ قَبْل تَعْيِينِهَا (2) .
__________
(1) بدائع الصنائع 2 / 163، وفتح القدير 2 / 140، وشرح اللباب ص 73، 74، ورد المحتار 2 / 217
(2) الشرح الكبير بحاشيته 2 / 26، وانظر الحطاب 3 / 46 والزرقاني ص 256

(2/135)


أَمَّا الشَّافِعِيَّةُ (1) وَالْحَنَابِلَةُ (2) فَيَشْتَرِطُونَ التَّعْيِينَ قَبْل الشُّرُوعِ بِأَيِّ عَمَلٍ مِنَ الْمَنَاسِكِ. فَلَوْ عَمِل شَيْئًا مِنْ أَرْكَانِ الْحَجِّ أَوِ الْعُمْرَةِ قَبْل التَّعْيِينِ، لَمْ يُجْزِئْهُ، وَلَمْ يَصِحَّ فِعْلُهُ.

الإِْحْرَامُ بِإِحْرَامِ الْغَيْرِ

19 - هُوَ أَنْ يَنْوِيَ الْمُحْرِمُ فِي إِحْرَامِهِ مِثْل مَا أَحْرَمَ بِهِ فُلاَنٌ، بِأَنْ يَكُونَ قَاصِدًا مُرَافَقَتَهُ، أَوِ الاِقْتِدَاءَ بِهِ لِعِلْمِهِ وَفَضْلِهِ، فَيَقُول: اللَّهُمَّ إِنِّي أُهِل أَوْ أُحْرِمُ أَوْ أَنْوِي مِثْل مَا أَهَل أَوْ نَوَى فُلاَنٌ، وَيُلَبِّي. فَهَذَا الإِْحْرَامُ صَحِيحٌ، وَيَنْعَقِدُ عَلَى مِثْل مَا أَحْرَمَ بِهِ ذَلِكَ الشَّخْصُ عِنْدَ الْجُمْهُورِ وَظَاهِرُ مَذْهَبِ الْمَالِكِيَّةِ (3) .
وَدَلِيلُهُمْ حَدِيثُ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَدِمَ مِنَ الْيَمَنِ وَوَافَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ، فَقَال لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: بِمَ أَهْلَلْتَ؟ قَال: بِمَا أَهَل بِهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فَقَال: لَوْلاَ أَنَّ مَعِيَ الْهَدْيَ لأََحْلَلْتُ.
__________
(1) المنهاج بشروحه 2 / 96، والإيضاح ص 157، والمجموع 7 / 230، ونهاية المحتاج 2 / 395
(2) الكافي 1 / 531، والمغني 3 / 285، ومطالب أولي النهى 2 / 316
(3) شرح اللباب ص 74، ورد المحتار 2 / 217، والإيضاح ص 163، ونهاية المحتاج 2 / 395، وشروح المنهاج 2 / 96، والمجموع 7 / 231، والمغني 3 / 285، والكافي 1 / 531، والشرح الكبير وحاشيته 2 / 27، ومواهب الجليل 3 / 49، وشرح الزرقاني 2 / 257

(2/135)


زَادَ فِي رِوَايَةٍ: قَال: فَأَهْدِ وَامْكُثْ حَرَامًا كَمَا أَنْتَ (1) .

الاِشْتِرَاطُ فِي الإِْحْرَامِ
20 - الاِشْتِرَاطُ فِي الإِْحْرَامِ أَنْ يَقُول عِنْدَ إِحْرَامِهِ: " إِنْ حَبَسَنِي حَابِسٌ، فَمَحِلِّي حَيْثُ حَبَسْتَنِي ".
21 - ذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى صِحَّةِ الاِشْتِرَاطِ، وَأَنَّهُ يُفِيدُ إِبَاحَةَ التَّحَلُّل مِنَ الإِْحْرَامِ عِنْدَ وُجُودِ الْحَابِسِ كَالْمَرَضِ، فَإِذَا لَمْ يَشْتَرِطْ لَمْ يَجُزْ لَهُ التَّحَلُّل ثُمَّ إِنِ اشْتَرَطَ فِي التَّحَلُّل أَنْ يَكُونَ مَعَ الْهَدْيِ وَجَبَ الْهَدْيُ، وَإِنْ لَمْ يَشْتَرِطْ فَلاَ هَدْيَ عَلَيْهِ. عَلَى تَفَاصِيل تَجِدُهَا فِي بَحْثِ الإِْحْصَارِ.
وَتَوَسَّعَ الْحَنَابِلَةُ فَقَالُوا: يُسْتَحَبُّ لِمَنْ أَحْرَمَ بِنُسُكِ حَجٍّ أَوْ عُمْرَةٍ أَنْ يَشْتَرِطَ عِنْدَ إِحْرَامِهِ. وَيُفِيدُ هَذَا الشَّرْطُ عِنْدَهُمْ شَيْئَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: إِذَا عَاقَهُ عَدُوٌّ أَوْ مَرَضٌ أَوْ غَيْرُهُمَا يَجُوزُ لَهُ التَّحَلُّل. الثَّانِي: أَنَّهُ مَتَى أَحَل بِذَلِكَ فَلاَ دَمَ عَلَيْهِ وَلاَ صَوْمَ، سَوَاءٌ أَكَانَ الْمَانِعُ عَدُوًّا، أَوْ مَرَضًا، أَوْ غَيْرَهُمَا.
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ إِلَى عَدَمِ صِحَّةِ الاِشْتِرَاطِ، وَعَدَمِ إِفَادَتِهِ لِلتَّحَلُّل عِنْدَ حُصُول الْمَانِعِ لَهُ، بَل يَأْخُذُ حَالُهُ حُكْمَ ذَلِكَ الْمَانِعِ، عَلَى مَا هُوَ مُقَرَّرٌ
__________
(1) البخاري (باب أهل في زمن النبي كإهلال النبي صلى الله عليه وسلم) 2 / 140 ط الأميربة 1314 هـ، ومسلم 4 / 59. واللفظ للبخاري. وجاء نحوه عن علي في حديث جابر الطويل الذي رواه مسلم.

(2/136)


فِي مَبْحَثِ الإِْحْصَارِ، اسْتَدَل الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ بِحَدِيثِ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: دَخَل النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى ضُبَاعَةَ بِنْتِ الزُّبَيْرِ، فَقَالَتْ: يَا رَسُول اللَّهِ إِنِّي أُرِيدُ الْحَجَّ وَأَنَا شَاكِيَةٌ؟ فَقَال النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: حُجِّي وَاشْتَرِطِي أَنَّ مَحِلِّي حَيْثُ حَبَسْتَنِي. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ (1) .
وَاسْتَدَل الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ بِالآْيَةِ الْكَرِيمَةِ، وَهِيَ: قَوْله تَعَالَى {فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} (2) وَفِي الْمَسْأَلَةِ تَفْصِيلٌ مَوْطِنُهُ مُصْطَلَحُ (إِحْصَارٌ) .

إِضَافَةُ الإِْحْرَامِ إِلَى الإِْحْرَامِ
أَوَّلاً
إِضَافَةُ إِحْرَامِ الْحَجِّ إِلَى الْعُمْرَةِ
22 - وَهُوَ أَنْ يُحْرِمَ بِالْعُمْرَةِ أَوَّلاً، ثُمَّ بِالْحَجِّ قَبْل أَنْ يَطُوفَ لَهَا، أَوْ بَعْدَمَا طَافَ قَبْل أَنْ يَتَحَلَّل مِنْهَا.
وَتَتَنَوَّعُ صُوَرُ إِضَافَةِ إِحْرَامِ الْحَجِّ إِلَى الْعُمْرَةِ بِحَسَبِ حَال إِضَافَتِهِ، وَبِحَسَبِ حَال الْمُحْرِمِ، وَتَأْخُذُ كُل صُورَةٍ حُكْمَهَا.
__________
(1) البخاري في النكاح (الأكفاء في الدين) 7 / 7، ومسلم في الحج (جواز اشتراط المحرم) 4 / 26، وأبو داود 2 / 151، 152 والترمذي 3 / 278، 279 بتحقيق أحمد شاكر وآخرين ط مصطفى الحلبي، والنسائي 5 / 167 بحاشيتي السندي والسيوطي، وابن ماجه ص 979
(2) سورة البقرة / 196

(2/136)


23 - وَلِلْحَنَفِيَّةِ تَفْصِيلٌ خَاصٌّ فِي هَذَا، لِقَوْلِهِمْ بِكَرَاهَةِ الْقِرَانِ لِلْمَكِّيِّ، وَأَنَّهُ إِنْ فَعَلَهُ جَازَ وَأَسَاءَ، وَعَلَيْهِ دَمُ جَبْرٍ لإِِسَاءَتِهِ هَذِهِ. كَمَا أَنَّ لِلْمَذَاهِبِ الأُْخْرَى تَفْصِيلاً بِحَسَبِ آرَائِهِمْ فِي مَسَائِل مِنَ الإِْحْرَامِ وَأَوْجُهِ الإِْحْرَامِ. وَالتَّفْصِيل عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ: أَنَّ الْمُحْرِمَ إِمَّا أَنْ يَكُونَ مَكِّيًّا أَوْ آفَاقِيًّا (1) .
وَأَمَّا بِالنِّسْبَةِ لِحَال إِضَافَةِ الإِْحْرَامِ بِالْحَجِّ إِلَى الْعُمْرَةِ فَعَلَى وُجُوهٍ.
24 - الْوَجْهُ الأَْوَّل: أَنْ يُدْخِل الْحَجَّ عَلَى الْعُمْرَةِ قَبْل أَنْ يَطُوفَ لِلْعُمْرَةِ:
أ - إِنْ كَانَ آفَاقِيًّا صَحَّ ذَلِكَ، بِلاَ كَرَاهَةٍ، وَكَانَ قَارِنًا، بِاتِّفَاقِ الْمَذَاهِبِ (2) . بَل هُوَ مُسْتَحَبٌّ، عَلَى مَا صَرَّحَ بِهِ الْحَنَفِيَّةُ، لِحَمْل فِعْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى ذَلِكَ، عَلَى مَا حَقَّقَهُ ابْنُ حَزْمٍ وَغَيْرُهُ، وَتَبِعَهُ النَّوَوِيُّ وَغَيْرُهُ (3) .
وَمِمَّا يَدُل عَلَى جَوَازِ ذَلِكَ حَدِيثُ عَائِشَةَ فِي حَجَّةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَفِيهِ قَوْلُهَا: وَكُنْتُ مِمَّنْ أَهَل بِعُمْرَةٍ فَحِضْتُ قَبْل أَنْ أَدْخُل مَكَّةَ، فَأَدْرَكَنِي
__________
(1) المراد بالمكي من كان بمكة أو في منطقة المواقيت ولو كان من غير أهلها غير أنه دخلها ومكث فيها، لذا كان التعبير الأكثر منه دقة هو " الميقاتي "، والآفاقي من ليس كذلك. و (ر: آفاقي)
(2) فتح القدير 2 / 288، والبدائع 2 / 169، واللباب وشرحه المسلك المتقسط ص 197، والمبسوط 4 / 182، والشرح الكبير 2 / 27، 28، ومواهب الجليل 3 / 50، وشرح الزرقاني 2 / 258، وشروح المنهاج 2 / 127، والنهاية 2 / 442، والكافي 1 / 533، والإيضاح، والمهذب 7 / 163، والمجموع 7 / 164، والمغني 3 / 472
(3) شرح اللباب ص 197

(2/137)


يَوْمُ عَرَفَةَ وَأَنَا حَائِضٌ، فَشَكَوْتُ إِلَى رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَال: دَعِي عُمْرَتَكِ، وَانْقُضِي رَأْسَكِ، وَامْتَشِطِي، وَأَهِلِّي بِالْحَجِّ. . . . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ (1) . وَعَلَّل الْمَالِكِيَّةُ صِحَّةَ إِرْدَافِ الْحَجِّ عَلَى الْعُمْرَةِ بِقَوْلِهِمْ: " لِقُوَّتِهِ وَضَعْفِهَا ".
ب - وَإِنْ كَانَ مَكِّيًّا (أَوْ مِيقَاتِيًّا) فَتُرْتَفَضُ عُمْرَتُهُ اتِّفَاقًا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، وَعَلَيْهِ دَمُ الرَّفْضِ؛ لأَِنَّ الْجَمْعَ بَيْنَ النُّسُكَيْنِ غَيْرُ مَشْرُوعٍ لِلْمَكِّيِّ عِنْدَهُمْ (2) ، " وَالنُّزُوعُ عَنِ الْمَعْصِيَةِ لاَزِمٌ " وَيَرْفُضُ الْعُمْرَةَ هُنَا؛ لأَِنَّهَا أَقَل عَمَلاً، وَالْحَجُّ أَكْثَرُ عَمَلاً. فَكَانَتِ الْعُمْرَةُ أَخَفَّ مُؤْنَةً مِنَ الْحَجَّةِ، فَكَانَ رَفْضُهَا أَيْسَرَ، وَلأَِنَّ الْمَعْصِيَةَ حَصَلَتْ بِسَبَبِهَا؛ لأَِنَّهَا هِيَ الَّتِي دَخَلَتْ فِي وَقْتِ الْحَجِّ، فَكَانَتْ أَوْلَى بِالرَّفْضِ. وَيُمْضِي حَجَّتَهُ. وَعَلَيْهِ دَمٌ لِرَفْضِ عُمْرَتِهِ. وَعَلَيْهِ قَضَاءُ الْعُمْرَةِ (3) ".
أَمَّا غَيْرُ الْحَنَفِيَّةِ فَحُكْمُ الآْفَاقِيِّ وَالْمَكِّيِّ عِنْدَهُمْ سَوَاءٌ فِي صِحَّةِ الإِْحْرَامَيْنِ وَصَيْرُورَتِهِ قَارِنًا، تَبَعًا لِمَذْهَبِهِمْ فِي تَجْوِيزِ الْقِرَانِ لِلْمَكِّيِّ عَلَى تَفْصِيلٍ يَأْتِي. (ف 30)
لَكِنْ شَرَطَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ أَنْ تَكُونَ الْعُمْرَةُ صَحِيحَةً. وَهَذَا شَرْطٌ لِصِحَّةِ الإِْرْدَافِ فِي جَمِيعِ صُوَرِهِ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ، وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ شَرْطٌ لِصِحَّةِ الْقِرَانِ فَقَطْ وَزَادَ الشَّافِعِيَّةُ اشْتِرَاطَ أَنْ يَكُونَ إِدْخَال الْحَجِّ عَلَيْهَا فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ.
25 - الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنْ يُدْخِل الْحَجَّ عَلَى الْعُمْرَةِ
__________
(1) البخاري في (باب الاعتمار بعد الحج بغير هدي) 3 / 4، 5. ومسلم 4 / 27 - 29
(2) فتح القدير 2 / 288 - 289
(3) بدائع الصنائع 2 / 169، والمراد بالرفض في كلامهم: الترك.

(2/137)


بَعْدَ أَنْ طَافَ شَيْئًا قَلِيلاً، عَلَى أَلاَّ يَتَجَاوَزَ أَقَل أَشْوَاطِ طَوَافِ الْعُمْرَةِ، أَيْ ثَلاَثَةَ أَشْوَاطٍ فَمَا دُونَ ذَلِكَ. فَمَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ فِي ذَلِكَ:
أ - إِذَا كَانَ آفَاقِيًّا كَانَ قَارِنًا.
ب - وَإِنْ كَانَ مَكِّيًّا (أَيْ مِيقَاتِيًّا) : وَجَبَ عَلَيْهِ رَفْضُ أَحَدِ النُّسُكَيْنِ، عَلَى التَّحْقِيقِ فِي عِبَارَاتِ فُقَهَاءِ الْحَنَفِيَّةِ (1) ، وَإِنَّمَا اخْتَلَفُوا فِي أَيِّ الرَّفْضَيْنِ أَوْلَى: قَال أَبُو حَنِيفَةَ: يَرْفُضُ الْحَجَّ. وَعَلَيْهِ لِرَفْضِهِ دَمٌ. وَعَلَيْهِ حَجَّةٌ وَعُمْرَةٌ (2) ؛ لأَِنَّهُ مِثْل فَائِتِ الْحَجِّ، وَحُكْمُ فَائِتِ الْحَجِّ أَنَّهُ يَتَحَلَّل بِعُمْرَةٍ، ثُمَّ يَأْتِي بِالْحَجِّ مِنْ قَابِلٍ (3) حَتَّى لَوْ حَجَّ فِي سَنَتِهِ سَقَطَتِ الْعُمْرَةُ؛ لأَِنَّهُ حِينَئِذٍ لَيْسَ فِي مَعْنَى فَائِتِ الْحَجِّ، بَل كَالْمُحْصَرِ، إِذَا تَحَلَّل ثُمَّ حَجَّ مِنْ تِلْكَ السَّنَةِ، فَإِنَّهُ حِينَئِذٍ لاَ تَجِبُ عَلَيْهِ عُمْرَةٌ، بِخِلاَفِ مَا إِذَا تَحَوَّلَتِ السَّنَةُ (4) ، فَإِنَّهُ تَجِبُ عَلَيْهِ الْعُمْرَةُ مَعَ حَجَّتِهِ.
وَقَال أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ: رَفْضُ الْعُمْرَةِ أَحَبُّ إِلَيْنَا، وَيَقْضِيهَا دُونَ عُمْرَةٍ أُخْرَى، وَعَلَيْهِ دَمٌ لِلرَّفْضِ. وَكَذَلِكَ هُوَ الْحُكْمُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ لَوِ اخْتَارَ هَذَا الْمُحْرِمُ رَفْضَ الْعُمْرَةِ (5) .
اسْتَدَل أَبُو حَنِيفَةَ عَلَى اسْتِحْبَابِ رَفْضِ الْحَجِّ بِأَنَّ " إِحْرَامَ الْعُمْرَةِ قَدْ تَأَكَّدَ بِأَدَاءِ شَيْءٍ مِنْ أَعْمَالِهَا، وَإِحْرَامُ الْحَجِّ لَمْ يَتَأَكَّدْ، وَرَفْضُ غَيْرِ الْمُتَأَكِّدِ أَيْسَرُ.
__________
(1) كما أوضحه في رد المحتار 2 / 315، وظاهر عبارة المبسوط 4 / 182 اختلافهم في رفض أحدهما بعينه.
(2) الهداية 2 / 289
(3) رد المحتار 2 / 315، وتبيين الحقائق 2 / 75، وانظر مصطلح (حج)
(4) تنوير الأبصار مع الحاشية 2 / 315
(5) رد المحتار 2 / 315، وتبيين الحقائق 2 / 75

(2/138)


وَلأَِنَّ فِي رَفْضِ الْعُمْرَةِ - وَالْحَالَةُ هَذِهِ - إِبْطَال الْعَمَل، وَفِي رَفْضِ الْحَجِّ امْتِنَاعٌ عَنْهُ (1) " وَالاِمْتِنَاعُ أَوْلَى مِنَ الإِْبْطَال، وَاسْتَدَل الصَّاحِبَانِ عَلَى أَنَّ رَفْضَ الْعُمْرَةِ أَوْلَى: " بِأَنَّهَا أَدْنَى حَالاً وَأَقَل أَعْمَالاً، وَأَيْسَرُ قَضَاءً، لِكَوْنِهَا غَيْرَ مُؤَقَّتَةٍ (2) ".
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ (3) وَالْحَنَابِلَةُ (4) : يَصِحُّ هَذَا الإِْرْدَافُ. وَيَصِيرُ قَارِنًا، وَيُتَابِعُ عَلَى ذَلِكَ. وَتَنْدَرِجُ الْعُمْرَةُ فِي الْحَجِّ.
أَمَّا الشَّافِعِيَّةُ (5) - وَهُوَ قَوْل أَشْهَبَ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ - فَقَالُوا: يَصِحُّ إِدْخَال الْحَجَّةِ عَلَى الْعُمْرَةِ قَبْل الشُّرُوعِ فِي الطَّوَافِ، فَلَوْ شَرَعَ فِي الطَّوَافِ وَلَوْ بِخُطْوَةٍ فَإِنَّهُ لاَ يَصِحُّ إِحْرَامُهُ بِالْحَجِّ.
وَاسْتَدَلُّوا عَلَى ذَلِكَ: بِأَنَّهُ " لاِتِّصَال إِحْرَامِهَا بِمَقْصُودِهِ، وَهُوَ أَعْظَمُ أَفْعَالِهَا، فَلاَ يَنْصَرِفُ بَعْدَ ذَلِكَ إِلَى غَيْرِهَا ".
لَكِنَّ الشَّافِعِيَّةَ قَرَّرُوا أَنَّهُ " لَوِ اسْتَلَمَ الْحَجَرَ بِنِيَّةِ الطَّوَافِ فَالأَْوْجَهُ جَوَازُ الإِْدْخَال، إِذْ الاِسْتِلاَمُ مُقَدِّمَةُ الطَّوَافِ لاَ بَعْضُهُ ".
__________
(1) الهداية 2 / 290، وانظر المبسوط 4 / 182
(2) الهداية الموضع السابق، وتبيين الحقائق 2 / 74، 75 وفيه مزيد بسط للأدلة، وكذا في البدائع 2 / 169، 170
(3) الشرح الكبير وحاشيته 2 / 28، ومواهب الجليل 3 / 50، 51، وشرح الزرقاني 2 / 258، 259، وقارن بالمدونة 2 / 131 رواية سحنون، مطبعة السعادة 1323 هـ.
(4) المغني 3 / 472، والكافي 1 / 533
(5) الإيضاح وحاشيته للهيثمي ص 156، 157، والمهذب وشرحه 7 / 163، 164، 165، وشروح المنهاج 2 / 127، والنهاية 2 / 442، ومغني المحتاج 1 / 514 ط الحلبي، والسياق هنا من النهاية ومغني المحتاج.

(2/138)


26 - الْوَجْهُ الثَّالِثُ: أَنْ يُدْخِل الْحَجَّ عَلَى الْعُمْرَةِ بَعْدَ أَنْ يَطُوفَ أَكْثَرَ أَشْوَاطِ طَوَافِ الْعُمْرَةِ. فَهَذَا حُكْمُهُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ حُكْمُ مَا لَوْ أَكْمَل الطَّوَافَ الآْتِيَ فِي الْوَجْهِ الرَّابِعِ التَّالِي؛ لأَِنَّ لِلأَْكْثَرِ حُكْمَ الْكُل عِنْدَهُمْ (1) .
وَعِنْدَ الْجُمْهُورِ حُكْمُهُ حُكْمُ الْوَجْهِ الثَّانِي السَّابِقِ (2) .
27 - الْوَجْهُ الرَّابِعُ: أَنْ يُدْخِل الْحَجَّ عَلَى الْعُمْرَةِ بَعْدَ إِكْمَال طَوَافِ الْعُمْرَةِ قَبْل التَّحَلُّل. مَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ التَّفْصِيل الْمُتَقَدِّمُ فِي الْوَجْهِ الثَّانِي.
وَفَصَّل الْمَالِكِيَّةُ (3) تَفْصِيلاً آخَرَ فَقَالُوا:
أ - إِرْدَافُ الْحَجِّ عَلَى الْعُمْرَةِ بَعْدَ طَوَافِهَا قَبْل رَكْعَتَيِ الطَّوَافِ مَكْرُوهٌ. فَإِنْ فَعَلَهُ صَحَّ، وَلَزِمَهُ، وَصَارَ قَارِنًا، وَعَلَيْهِ دَمُ الْقِرَانِ.
ب - إِرْدَافُ الْحَجِّ عَلَى الْعُمْرَةِ بَعْدَ أَنْ طَافَ وَصَلَّى رَكْعَتَيِ الطَّوَافِ قَبْل السَّعْيِ مَكْرُوهٌ، وَلاَ يَصِحُّ، وَلاَ يَكُونُ قَارِنًا. وَكَذَلِكَ الإِْرْدَافُ فِي السَّعْيِ، إِنْ سَعَى بَعْضَ السَّعْيِ وَأَرْدَفَ الْحَجَّ عَلَى الْعُمْرَةِ كُرِهَ لَهُ ذَلِكَ. فَإِنْ فَعَل فَلْيَمْضِ عَلَى سَعْيِهِ، فَيَحِل، ثُمَّ يَسْتَأْنِفُ الْحَجَّ، سَوَاءٌ أَكَانَ مِنْ أَهْل مَكَّةَ أَمْ غَيْرِهَا. وَحَيْثُ إِنَّ الإِْرْدَافَ لَمْ يَصِحَّ بَعْدَ الرُّكُوعِ وَقَبْل السَّعْيِ أَوْ فِي أَثْنَائِهِ فَلاَ يَلْزَمُ قَضَاءُ الإِْحْرَامِ الَّذِي أَرْدَفَهُ عَلَى الْمَشْهُورِ (4) .
__________
(1) شرح الكنز لعينني 1 / 108
(2) انظر مراجع المذاهب في الوجه السابق.
(3) الشرح الكبير وحاشيته 2 / 28، 29، ومواهب الجليل 3 / 53، 55 وشرح الزرقاني وحاشية البناني 2 / 259، 260
(4) مواهب الجيل 3 / 53

(2/139)


ج - إِرْدَافُ الْحَجِّ عَلَى الْعُمْرَةِ بَعْدَ السَّعْيِ لِلْعُمْرَةِ قَبْل الْحَلْقِ لاَ يَجُوزُ الإِْقْدَامُ عَلَيْهِ ابْتِدَاءً؛ لأَِنَّهُ يَسْتَلْزِمُ تَأْخِيرَ الْحَلْقِ (1) . فَإِنْ أَقْدَمَ عَلَى إِرْدَافِ الإِْحْرَامِ فِي هَذَا الْحَال فَإِنَّ إِحْرَامَهُ صَحِيحٌ، وَهَذَا حَجٌّ مُسْتَأْنَفٌ. وَيَحْرُمُ عَلَيْهِ الْحَلْقُ لِلْعُمْرَةِ، لاَ خِلاَلَهُ بِإِحْرَامِ الْحَجِّ، وَيَلْزَمُهُ هَدْيٌ لِتَأْخِيرِ حَلْقِ الْعُمْرَةِ الَّذِي وَجَبَ عَلَيْهِ بِسَبَبِ إِحْرَامِهِ بِالْحَجِّ، وَلاَ يَكُونُ قَارِنًا وَلاَ مُتَمَتِّعًا (2) ، إِنْ أَتَمَّ عُمْرَتَهُ قَبْل أَشْهُرِ الْحَجِّ، بَل يَكُونُ مُفْرِدًا. وَإِنْ فَعَل بَعْضَ رُكْنِهَا فِي وَقْتِ الْحَجِّ يَكُونُ مُتَمَتِّعًا.
وَلَوْ قَدَّمَ الْحَلْقَ بَعْدَ إِحْرَامِهِ بِالْحَجِّ وَقَبْل فَرَاغِهِ مِنْ أَعْمَال الْحَجِّ فَلاَ يُفِيدُهُ فِي سُقُوطِ الْهَدْيِ، وَلاَ بُدَّ مِنَ الْهَدْيِ، وَعَلَيْهِ حِينَئِذٍ فِدْيَةٌ أَيْضًا. وَهِيَ فِدْيَةُ إِزَالَةِ الأَْذَى عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ (3) .
وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيَّةِ (4) وَالْحَنَابِلَةِ (5) أَنَّهُ لاَ يَصِحُّ إِدْخَال الْحَجِّ عَلَى الْعُمْرَةِ بَعْدَ الطَّوَافِ، لِمَا ذَكَرْنَا مِنَ الْعِلَّةِ فِي الصُّورَةِ السَّابِقَةِ. وَبَعْدَ السَّعْيِ لاَ يَصِحُّ، مِنْ بَابِ أَوْلَى.
إِلاَّ أَنَّ الْحَنَابِلَةَ اسْتَثْنَوْا مَنْ كَانَ مَعَهُ هَدْيٌ فَقَالُوا (6) : " يَصِحُّ إِدْخَال الْحَجِّ عَلَى الْعُمْرَةِ مِمَّنْ مَعَهُ
__________
(1) أو سقوطه على قول عند المالكية. انظر المرجع السابق 54، 55
(2) لأن الإرداف لم يصح،بل صح الإحرام بالحج.
(3) وهناك قول السقوط الهدي وانظر المناقشة حوله في مواهب الجليل 3 / 55
(4) المهذب 7 / 163، ونهاية المحتاج 2 / 242، ومغني المحتاج 1 / 514
(5) الكافي 1 / 533، 534، والمغني 3 / 484، وغاية المنتهى وشرحه مطالب أولي النهى 2 / 307، 308
(6) وسياق الكلام من مطالب أولي الهي بتصرف يسير.

(2/139)


هَدْيٌ، وَلَوْ بَعْدَ سَعْيِهَا، بَل يَلْزَمُهُ كَمَا يَأْتِي؛ لأَِنَّهُ مُضْطَرٌّ إِلَيْهِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَلاَ تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ} (1) وَيَصِيرُ قَارِنًا عَلَى الْمَذْهَبِ (2) .
وَقَال فِي الْفُرُوعِ، وَشَرْحِ الْمُنْتَهَى فِي مَوْضِعٍ آخَرَ: لاَ يَصِيرُ قَارِنًا، وَلَوْ كَانَ إِدْخَال الْحَجِّ عَلَى الْعُمْرَةِ فِي غَيْرِ أَشْهُرِ الْحَجِّ يَصِحُّ عَلَى الْمَذْهَبِ، لِصِحَّةِ الإِْحْرَامِ بِهِ قَبْلَهَا عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ.

ثَانِيًا
إِضَافَةُ إِحْرَامِ الْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ
28 - ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ (3) وَالشَّافِعِيَّةُ (4) - فِي الْجَدِيدِ وَهُوَ الأَْصَحُّ فِي الْمَذْهَبِ - وَالْحَنَابِلَةُ (5) إِلَى أَنَّهُ لاَ يَصِحُّ إِحْرَامُهُ بِالْعُمْرَةِ بَعْدَمَا أَحْرَمَ بِالْحَجِّ. وَعَلَى ذَلِكَ لاَ يَصِيرُ قَارِنًا، وَلاَ يَلْزَمُهُ دَمُ الْقِرَانِ، وَلاَ قَضَاءُ الْعُمْرَةِ الَّتِي أَهَل بِهَا. وَبِهِ قَال إِسْحَاقُ بْنُ رَاهَوَيْهِ وَأَبُو ثَوْرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ،
__________
(1) من الآية 196 من سورة البقرة، وانظر فيها بحثنا في مصطلح (إحصار) ففد تكررت فيه.
(2) وعليه اقتصر ابن قدامة في الكافي والمغني، مما يؤكد اعتماده في المذهب.
(3) مختصر خليل بشروحه: مواهب الجليل 3 / 48، وشرح الزرقاني 2 / 257، والشرح الكبير وحاشية الدسوقي 2 / 27، وانظر المدونة 2 / 130
(4) شرح المحلي للمنهاج 2 / 127، ونهابة المحتاج 2 / 442، والإيضاح ص 157، والمهذب 7 / 163، والمجموع 4 / 166، ومغني المحتاج 1 / 514
(5) المغني 3 / 484، والكافي 1 / 532، و 533، ومطالب أولي النهى 2 / 308

(2/140)


وَصَرَّحَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ بِكَرَاهَةِ هَذَا الْعَمَل، لَكِنْ قَال الْحَنَفِيَّةُ بِصِحَّةِ الإِْحْرَامِ عَلَى تَفْصِيلٍ نَذْكُرُهُ.

ثَالِثًا
الإِْحْرَامُ بِحَجَّتَيْنِ مَعًا أَوْ عُمْرَتَيْنِ مَعًا
29 - إِنْ أَحْرَمَ بِحَجَّتَيْنِ أَوْ عُمْرَتَيْنِ انْعَقَدَ بِإِحْدَاهُمَا وَلَغَتِ الأُْخْرَى. وَهَذَا مَذْهَبُ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ؛ لأَِنَّهُمَا عِبَادَتَانِ لاَ يَلْزَمُهُ الْمُضِيُّ فِيهِمَا، فَلَمْ يَصِحَّ الإِْحْرَامُ بِهِمَا. وَعَلَى هَذَا لَوْ أَفْسَدَ حَجَّهُ أَوْ عُمْرَتَهُ لَمْ يَلْزَمْهُ إِلاَّ قَضَاؤُهَا.
وَمَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الإِْحْرَامَ يَنْعَقِدُ بِهِمَا، وَعَلَيْهِ قَضَاءُ إِحْدَاهُمَا؛ لأَِنَّهُ أَحْرَمَ بِهَا وَلَمْ يُتِمَّهَا. وَفِي الْمَوْضُوعِ تَفْصِيلاَتٌ وَفُرُوعٌ لاَ حَاجَةَ إِلَى إِيرَادِهَا هُنَا لِنُدْرَةِ وُقُوعِهَا (1) .

الْفَصْل الثَّالِثُ
حَالاَتُ الإِْحْرَامِ
30 - يَنْقَسِمُ الإِْحْرَامُ بِحَسَبِ مَا يَقْصِدُ الْمُحْرِمُ أَدَاءَهُ بِهِ مِنَ النُّسُكِ إِلَى ثَلاَثَةِ أَقْسَامٍ: الإِْفْرَادِ لِلْحَجِّ أَوِ الْعُمْرَةِ أَوِ الْجَمْعِ بَيْنَ النُّسُكَيْنِ، وَهُوَ إِمَّا تَمَتُّعٌ أَوْ قِرَانٌ.

الإِْفْرَادُ: هُوَ اصْطِلاَحًا: أَنْ يُهِل - أَيْ يَنْوِيَ - فِي إِحْرَامِهِ الْحَجَّ فَقَطْ، أَوِ الْعُمْرَةَ فَقَطْ.
__________
(1) المغني 3 / 254، ومواهب الجليل 3 / 48، والمجموع 7 / 235، وفتح القدير 2 / 291

(2/140)


الْقِرَانُ:
الْقِرَانُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ: هُوَ أَنْ يَجْمَعَ الآْفَاقِيُّ بَيْنَ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ مُتَّصِلاً أَوْ مُنْفَصِلاً قَبْل أَكْثَرِ طَوَافِ الْعُمْرَةِ، وَلَوْ مِنْ مَكَّةَ، وَيُؤَدِّي الْعُمْرَةَ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ (1) .
وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ: أَنْ يُحْرِمَ بِالْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ مَعًا، بِنِيَّةٍ وَاحِدَةٍ، أَوْ نِيَّتَيْنِ مُرَتَّبَتَيْنِ يَبْدَأُ فِيهِمَا بِالْعُمْرَةِ، أَوْ يُحْرِمُ بِالْعُمْرَةِ وَيُرْدِفُ الْحَجَّ عَلَيْهَا قَبْل طَوَافِهَا أَوْ بِطَوَافِهَا (2) .
وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ: الْقِرَانُ أَنْ يُحْرِمَ بِالْعُمْرَةِ وَالْحَجِّ جَمِيعًا، أَوْ يُحْرِمَ بِعُمْرَةٍ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ ثُمَّ يُدْخِل الْحَجَّ عَلَيْهَا قَبْل الطَّوَافِ (3) .
وَمِثْل ذَلِكَ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ إِلاَّ أَنَّهُمْ لَمْ يَشْتَرِطُوا الإِْحْرَامَ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ (4) .

التَّمَتُّعُ:
التَّمَتُّعُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ: هُوَ التَّرَفُّقُ بِأَدَاءِ النُّسُكَيْنِ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ فِي سَنَةٍ وَاحِدَةٍ، مِنْ غَيْرِ إِلْمَامٍ بَيْنَهُمَا بِأَهْلِهِ إِلْمَامًا صَحِيحًا (5) .
وَالإِْلْمَامُ الصَّحِيحُ: هُوَ الَّذِي يَكُونُ فِي حَالَةِ تَحَلُّلِهِ
__________
(1) لباب المناسك ص 171، وقارن بالبدائع 2 / 167 وفيه: " أما القارن فهو في عرف الشرع اسم الآفاقي يجمع. . . " لكن صرح في شرح اللباب ص 172 بقوله " إن اشتراط الآفاقي إنما هو للقران المسنون، لا لصحة عقد الحج والعمرة ".
(2) بتصرف يسير عن متن خليل، والشرح الكبير 2 / 28، وقارن بالرسالة 1 / 493
(3) المنهاج 2 / 127، والمهذب 7 / 163، والسياق للمهاج وفيه التصريح بشرط " في أشهر الحج ".
(4) المغني 3 / 284، ومطالب أولي النهى 2 / 307 وفيه قوله: " وسواء كان في أشهر الحج أولا "
(5) لباب المناسك ص 179

(2/141)


مِنْ عُمْرَتِهِ، وَقَبْل شُرُوعِهِ فِي حَجَّتِهِ (1) .
وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ: التَّمَتُّعُ هُوَ أَنْ يُحْرِمَ بِعُمْرَةٍ، ثُمَّ يُحِل مِنْهَا فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ، ثُمَّ يَحُجَّ بَعْدَهَا (2) . وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ: أَنْ يُحْرِمَ بِالْعُمْرَةِ مِنْ مِيقَاتِ بَلَدِهِ وَيَفْرُغَ مِنْهَا ثُمَّ يُنْشِئَ حَجًّا (3) .
وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ: أَنْ يُحْرِمَ بِعُمْرَةٍ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ ثُمَّ يُحْرِمَ بِالْحَجِّ مِنْ أَيْنَ شَاءَ بَعْدَ فَرَاغِهِ مِنْهَا (4) .

وَاجِبَاتُ الإِْحْرَامِ:
31 - تَنْحَصِرُ وَاجِبَاتُ الإِْحْرَامِ (5) فِي أَمْرَيْنِ أَسَاسِيَّيْنِ:
الأَْوَّل: كَوْنِ الإِْحْرَامِ مِنَ الْمِيقَاتِ. الثَّانِي: صَوْنِ الإِْحْرَامِ عَنِ الْمَحْظُورَاتِ. وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِيمَا يَلِي:

الْفَصْل الرَّابِعُ
مَوَاقِيتُ الإِْحْرَامِ
32 - الْمِيقَاتُ: مِنَ التَّوْقِيتِ، وَهُوَ: أَنْ يُجْعَل لِلشَّيْءِ وَقْتٌ يَخْتَصُّ بِهِ، ثُمَّ اتُّسِعَ فِيهِ فَأُطْلِقَ عَلَى
__________
(1) شرح اللباب الموضع السابق وانظر 172، 173
(2) متن خليل مع الشرح الكبير 2 / 29، ونحوه في الرسالة وشرحها 1 / 493
(3) منهاج الطالبين للنووي 2 / 127 نسخة شرح المحلي، باختصار قوله " من مكة " لأنه ليس شرطا في التمتع.
(4) غاية المنتهى 2 / 307
(5) والمراد بالواجب ما يترتب الإثم على تركه عمدا. والمراد في باب الحج ما يجبر تركه بالدم ولا تفوت صحة الحج بفوته (ابن عابدين 2 / 200، والخرشي 2 / 281، والجمل 1 / 427، والمغني 3 / 444، والقواعد لابن اللحام 63) .

(2/141)


الْمَكَانِ. وَيُطْلَقُ عَلَى الْحَدِّ الْمُحَدِّدِ لِلشَّيْءِ (1) . وَفِي الاِصْطِلاَحِ: عَرَّفُوا الْمَوَاقِيتَ بِأَنَّهَا: " مَوَاضِعُ وَأَزْمِنَةٌ مُعَيَّنَةٌ لِعِبَادَةٍ مَخْصُوصَةٍ (2) ". وَمِنْهُ يُعْلَمُ أَنَّ لِلإِْحْرَامِ نَوْعَيْنِ مِنَ الْمِيقَاتِ:
النَّوْعُ الأَْوَّل: الْمِيقَاتُ الزَّمَانِيُّ. النَّوْعُ الثَّانِي: الْمِيقَاتُ الْمَكَانِيُّ.
الْمِيقَاتُ الزَّمَانِيُّ
إِمَّا أَنْ يَكُونَ مِيقَاتًا لِلإِْحْرَامِ بِالْحَجِّ، أَوْ لِلإِْحْرَامِ بِالْعُمْرَةِ. فَيَنْقَسِمُ قِسْمَيْنِ:

أَوَّلاً: الْمِيقَاتُ الزَّمَانِيُّ لِلإِْحْرَامِ بِالْحَجِّ:
33 - ذَهَبَ الأَْئِمَّةُ الثَّلاَثَةُ أَبُو حَنِيفَةَ (3) وَالشَّافِعِيُّ (4) وَأَحْمَدُ وَأَصْحَابُهُمْ إِلَى أَنَّ وَقْتَ الإِْحْرَامِ بِالْحَجِّ شَوَّالٌ وَذُو الْقَعْدَةِ وَعَشْرٌ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ. وَهُوَ مَذْهَبُ جُمْهُورِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَمَنْ بَعْدَهُمْ (5) .
وَذَهَبَ مَالِكٌ إِلَى أَنَّ وَقْتَ الْحَجِّ شَوَّالٌ وَذُو الْقَعْدَةِ وَشَهْرُ ذِي الْحِجَّةِ إِلَى آخِرِهِ. وَلَيْسَ الْمُرَادُ أَنَّ جَمِيعَ هَذَا الزَّمَنِ الَّذِي ذَكَرُوهُ وَقْتٌ لِجَوَازِ الإِْحْرَامِ، بَل الْمُرَادُ أَنَّ بَعْضَ هَذَا الزَّمَنِ وَقْتٌ لِجَوَازِ ابْتِدَاءِ الإِْحْرَامِ، وَهُوَ مِنْ شَوَّالٍ لِطُلُوعِ فَجْرِ يَوْمِ النَّحْرِ، وَبَعْضُهُ وَقْتٌ لِجَوَازِ التَّحَلُّل، وَهُوَ مِنْ فَجْرِ يَوْمِ النَّحْرِ
__________
(1) النهاية في غريب الحديث مادة (وقت) 4 / 238، وتاج العروس شرح القاموس 1 / 594، ومختار الصحاح للرازي ص 731
(2) غاية المنتهى 2 / 295، 296
(3) الهداية 2 / 220، ورد المحتار 2 / 206، 207
(4) شرح المحلي على المنهاج 2 / 91، ونهاية المحتاج 2 / 387
(5) المغني 3 / 295، ومطالب أولي النهى 2 / 301

(2/142)


لآِخِرِ ذِي الْحِجَّةِ (1) .
وَعَلَى هَذَا فَالْمِيقَاتُ الزَّمَانِيُّ بِالنِّسْبَةِ لِلإِْحْرَامِ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، إِنَّمَا مُرَتَّبٌ عَلَى مَذْهَبِ الْمَالِكِيَّةِ جَوَازُ تَأْخِيرِ الإِْحْلاَل إِلَى آخِرِ ذِي الْحِجَّةِ، كَمَا سَيَأْتِي.
وَهَذَا الَّذِي ذَهَبَ إِلَيْهِ الْمَالِكِيَّةُ " قَدْ حُكِيَ أَيْضًا عَنْ طَاوُسٍ، وَمُجَاهِدٍ، وَعُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ، وَالرَّبِيعِ بْنِ أَنَسٍ، وَقَتَادَةَ (2) ".
وَالأَْصْل لِلْفَرِيقَيْنِ قَوْله تَعَالَى {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَال فِي الْحَجِّ} (3)
فَالْجُمْهُورُ فَسَّرُوا الآْيَةَ بِأَنَّ الْمُرَادَ شَهْرَانِ وَبَعْضُ الثَّالِثِ. وَاسْتَدَلُّوا بِالآْثَارِ عَنِ الصَّحَابَةِ. كَمَا يَدُل لَهُمْ أَنَّ أَرْكَانَ الْحَجِّ تُؤَدَّى خِلاَل تِلْكَ الْفَتْرَةِ.
وَأَمَّا الْمَالِكِيَّةُ فَدَلِيلُهُمْ وَاضِحٌ، وَهُوَ ظَاهِرُ الآْيَةِ؛ لأَِنَّهَا عَبَّرَتْ بِالْجَمْعِ " أَشْهُرٌ " وَأَقَل الْجَمْعِ ثَلاَثٌ، فَلاَ بُدَّ مِنْ دُخُول ذِي الْحِجَّةِ بِكَمَالِهِ.
ثُمَّ اخْتَلَفَ الْجُمْهُورُ فِي نَهَارِ يَوْمِ النَّحْرِ هَل هُوَ مِنْ أَشْهُرِ الْحَجِّ أَوْ لاَ. فَقَال الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ: هُوَ مِنْ أَشْهُرِ الْحَجِّ.
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: آخِرُ أَشْهُرِ الْحَجِّ لَيْلَةُ يَوْمِ النَّحْرِ. وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنْ أَبِي يُوسُفَ. وَفِي وَجْهٍ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ فِي لَيْلَةِ النَّحْرِ أَنَّهَا لَيْسَتْ مِنْ أَشْهُرِ الْحَجِّ. وَالأَْوَّل هُوَ الصَّحِيحُ الْمَشْهُورُ (4) .
__________
(1) الشرح الكبير بحاشيته 2 / 21 والسياق منه، وشرح الزرقاني 2 / 241، وشرح الرسالة بحاشية العدوي 1 / 457
(2) تفسير ابن كثير 1 / 236
(3) سورة البقرة / 197
(4) المجموع 7 / 132، وانظر فتح القدير 2 / 221، ونهاية المحتاج 2 / 388

(2/142)


اسْتَدَل الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ بِحَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَفَ يَوْمَ النَّحْرِ بَيْنَ الْجَمَرَاتِ فِي الْحَجَّةِ الَّتِي حَجَّ فَقَال: أَيُّ يَوْمٍ هَذَا؟ قَالُوا: يَوْمُ النَّحْرِ. قَال: هَذَا يَوْمُ الْحَجِّ الأَْكْبَرِ أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ وَابْنُ مَاجَهْ (1) .
قَالُوا: وَلاَ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ يَوْمُ الْحَجِّ الأَْكْبَرِ لَيْسَ مِنْ أَشْهُرِهِ (2) . وَيَشْهَدُ لَهُ حَدِيثُ بَعْثِ أَبِي بَكْرٍ أَبَا هُرَيْرَةَ يُؤَذِّنُ فِي النَّاسِ يَوْمَ النَّحْرِ أَنْ لاَ يَحُجَّ بَعْدَ الْعَامِ مُشْرِكٌ، فَإِنَّهُ امْتِثَالٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَأَذَانٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الأَْكْبَرِ. . .} وَالْحَدِيثُ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَاحْتَجُّوا بِالدَّلِيل الْمَعْقُول؛ لأَِنَّ يَوْمَ النَّحْرِ فِيهِ رُكْنُ الْحَجِّ، وَهُوَ طَوَافُ الزِّيَارَةِ، وَفِيهِ كَثِيرٌ مِنْ أَفْعَال الْحَجِّ، مِنْهَا: رَمْيُ جَمْرَةِ الْعَقَبَةِ، وَالنَّحْرُ، وَالْحَلْقُ، وَالطَّوَافُ، وَالسَّعْيُ، وَالرُّجُوعُ إِلَى مِنًى (3) .
وَمُسْتَبْعَدٌ " أَنْ يُوضَعَ لأَِدَاءِ رُكْنِ عِبَادَةٍ وَقْتٌ لَيْسَ وَقْتَهَا، وَلاَ هُوَ مِنْهُ " (4)
وَاسْتَدَل الشَّافِعِيَّةُ بِرِوَايَةِ نَافِعٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ قَال: " أَشْهُرُ الْحَجِّ شَوَّالٌ وَذُو الْقَعْدَةِ وَعَشْرٌ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ " أَيْ عَشْرُ لَيَالٍ. وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ الزُّبَيْرِ مِثْلُهُ. رَوَاهَا كُلَّهَا الْبَيْهَقِيُّ، وَصَحَّحَ الرِّوَايَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ. وَرِوَايَةُ ابْنِ عُمَرَ صَحِيحَةٌ (5) .
__________
(1) أبو داود في الحج (باب يوم الحج الأكبر) 2 / 195 وابن ماجه رقم 3058
(2) المغني 3 / 295، وانظر مطالب أولي النهى 2 / 301
(3) المغني الموضع السابق.
(4) فتح القدير 2 / 321
(5) المجموع 7 / 133 وانظر السنن الكبرى للبيهقي (باب بيان أشهر الحج) 4 / 342. وهذه الآثار أخرجها الدارقطني أيضا 2 / 226، 227 وفها الرواية عن ابن عمر من طريق عبد الله بن دينار عنه. ورواية نافع أخرجها الحاكم في المستدرك 2 / 276. وقال: صحيح على شرطهما. ووافقه الذهبي.

(2/143)


أَحْكَامُ الْمِيقَاتِ الزَّمَانِيِّ لِلْحَجِّ:
34 - أ - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ (1) وَالْمَالِكِيَّةُ (2) وَالْحَنَابِلَةُ (3) إِلَى أَنَّهُ يَصِحُّ الإِْحْرَامُ بِالْحَجِّ قَبْل أَشْهُرِ الْحَجِّ، وَيَنْعَقِدُ حَجًّا، لَكِنْ مَعَ الْكَرَاهَةِ. وَهُوَ قَوْل إِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ، وَسُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ، وَإِسْحَاقَ بْنِ رَاهَوَيْهِ، وَاللَّيْثِ بْنِ سَعْدٍ (4) . وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ لاَ يَنْعَقِدُ الإِْحْرَامُ بِالْحَجِّ قَبْل أَشْهُرِهِ، فَلَوْ أَحْرَمَ بِهِ قَبْل هِلاَل شَوَّالٍ لَمْ يَنْعَقِدْ حَجًّا، وَانْعَقَدَ عُمْرَةً عَلَى الصَّحِيحِ عِنْدَهُمْ. وَبِهِ قَال عَطَاءٌ وَطَاوُسٌ وَمُجَاهِدٌ وَأَبُو ثَوْرٍ (5) .
35 - وَالأَْصْل فِي الْمَسْأَلَةِ قَوْله تَعَالَى {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ} وَقَدْ تَنَازَعَ الْفَرِيقَانِ الاِسْتِدْلاَل بِهَا، وَأَيَّدَ كُل فَرِيقٍ وُجْهَتَهُ بِدَلاَئِل أُخْرَى. وَهُوَ خِلاَفٌ وَقَعَ بَيْنَ أَهْل الْعَرَبِيَّةِ أَيْضًا (6) . اسْتَدَل الثَّلاَثَةُ بِأَنَّ مَعْنَى الآْيَةِ: الْحَجُّ (حَجٌّ) أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ، فَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ يَكُونُ الإِْحْرَامُ بِالْحَجِّ فِيهَا أَكْمَل مِنَ الإِْحْرَامِ بِهِ فِيمَا عَدَاهَا، وَإِنْ كَانَ ذَاكَ صَحِيحًا (7) ؛ وَلأَِنَّهُ أَحَدُ نُسُكَيِ الْقِرَانِ،
__________
(1) الهداية 2 / 221، ورد المحتار 2 / 206، 207 والمسلك المتقسط ص 54
(2) شرح الزرقاني 2 / 249، والشرح الكبير بحاشيته 2 / 22، وحاشية العدوي 1 / 457
(3) المغني 3 / 271، ومطالب أولي النهى 2 / 301
(4) المغني المرضع السابق وتفسير ابن كثير 1 / 235 ط عيسى الحلبي، وفيه ذكر الليث بن سعد.
(5) المجموع 7 / 130
(6) كما ذكر ابن كثير في تفسيره 1 / 235 ط عيسى الحلبي ومنه نسوق توجيه الآية لكل فريق.
(7) الشرح الكبير بحاشيته الموضع السابق.

(2/143)


فَجَازَ الإِْحْرَامُ بِهِ فِي جَمِيعِ السَّنَةِ كَالْعُمْرَةِ، أَوْ: أَحَدِ الْمِيقَاتَيْنِ، فَصَحَّ الإِْحْرَامُ قَبْلَهُ، كَمِيقَاتِ الْمَكَانِ (1) .
وَوَجَّهَ الْحَنَفِيَّةُ الْمَسْأَلَةَ بِنَاءً عَلَى مَذْهَبِهِمْ بِأَنَّهُ شَرْطٌ عِنْدَهُمْ، فَأَشْبَهَ الطَّهَارَةَ فِي جَوَازِ التَّقْدِيمِ عَلَى الْوَقْتِ، وَثَبَتَتِ الْكَرَاهَةُ لِشَبَهِهِ بِالرُّكْنِ (2) . وَاسْتَدَل الشَّافِعِيَّةُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ} . (3)
وَوَجْهُ الاِسْتِدْلاَل أَنَّ ظَاهِرَهُ التَّقْدِيرُ الآْخَرُ الَّذِي ذَهَبَ إِلَيْهِ النُّحَاةُ، وَهُوَ (وَقْتُ الْحَجِّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ) فَخَصَّصَهُ بِهَا مِنْ بَيْنِ سَائِرِ شُهُورِ السَّنَةِ، فَدَل عَلَى أَنَّهُ لاَ يَصِحُّ قَبْلَهَا، كَمِيقَاتِ الصَّلاَةِ. وَاسْتَدَلُّوا مِنَ الْمَعْقُول: بِأَنَّ الإِْحْرَامَ نُسُكٌ مِنْ مَنَاسِكِ الْحَجِّ، فَكَانَ مُؤَقَّتًا، كَالْوُقُوفِ وَالطَّوَافِ (4) .
36 - اتَّفَقُوا بَعْدَ هَذَا عَلَى أَنَّهُ لَوْ فَعَل أَيَّ شَيْءٍ مِنْ أَفْعَال الْحَجِّ قَبْل أَشْهُرِ الْحَجِّ لَمْ يُجْزِهِ، حَتَّى لَوْ صَامَ الْمُتَمَتِّعُ أَوِ الْقَارِنُ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ قَبْل أَشْهُرِ الْحَجِّ لاَ يَجُوزُ، وَكَذَا السَّعْيُ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ عَقِبَ طَوَافِ الْقُدُومِ لاَ يَقَعُ عَنْ سَعْيِ الْحَجِّ إِلاَّ فِيهَا.

ثَانِيًا: الْمِيقَاتُ الزَّمَانِيُّ لِلإِْحْرَامِ بِالْعُمْرَةِ:
37 - اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ مِيقَاتَ الْعُمْرَةِ الزَّمَانِيَّ هُوَ جَمِيعُ الْعَامِ، فَيَصِحُّ أَنْ تُفْعَل فِي جَمِيعِ السَّنَةِ، وَيَنْعَقِدُ إِحْرَامُهَا، وَذَلِكَ لِعَدَمِ الْمُخَصِّصِ لَهَا بِوَقْتٍ دُونَ وَقْتٍ.
__________
(1) المغني 3 / 271
(2) فتح القدير 2 / 221
(3) سورة البقرة 197
(4) المهذب 7 / 124، 125

(2/144)


وَكَذَلِكَ قَرَّرُوا أَنَّهَا أَفْضَل فِي شَهْرِ رَمَضَانَ مِنْهَا فِي غَيْرِهِ. وَعَبَّرَ الْحَنَفِيَّةُ بِقَوْلِهِمْ: " تُنْدَبُ فِي رَمَضَانَ "، لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: عُمْرَةٌ فِي رَمَضَانَ تَقْضِي حَجَّةً. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ (1) .
38 - ثُمَّ اخْتَلَفُوا فِي أَوْقَاتٍ يُكْرَهُ فِيهَا الإِْحْرَامُ بِالْعُمْرَةِ أَوْ لاَ يُكْرَهُ. وَهِيَ:
أ - يَوْمُ عَرَفَةَ وَيَوْمُ النَّحْرِ وَأَيَّامُ التَّشْرِيقِ: ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى عَدَمِ الْكَرَاهَةِ فِيهَا، لَكِنْ قَال الرَّمْلِيُّ الشَّافِعِيُّ: " وَهِيَ فِي يَوْمِ عَرَفَةَ وَالْعِيدِ وَأَيَّامِ التَّشْرِيقِ لَيْسَتْ كَفَضْلِهَا فِي غَيْرِهَا؛ لأَِنَّ الأَْفْضَل فِعْل الْحَجِّ فِيهَا ".
وَاسْتَدَلُّوا لِعَدَمِ الْكَرَاهَةِ بِأَنَّ الأَْصْل عَدَمُ الْكَرَاهَةِ، وَلاَ دَلِيل عَلَيْهَا.
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ الْعُمْرَةَ تُكْرَهُ تَحْرِيمًا يَوْمَ عَرَفَةَ وَأَرْبَعَةَ أَيَّامٍ بَعْدَهُ، حَتَّى يَجِبَ الدَّمُ عَلَى مَنْ فَعَلَهَا فِي ذَلِكَ عِنْدَهُمْ. وَاسْتَدَلُّوا بِقَوْل عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: حَلَّتِ الْعُمْرَةُ فِي السَّنَةِ كُلِّهَا إِلاَّ أَرْبَعَةَ أَيَّامٍ: يَوْمُ عَرَفَةَ، وَيَوْمُ النَّحْرِ وَيَوْمَانِ بَعْدَ ذَلِكَ أَخْرَجَهُ الْبَيْهَقِيُّ (2) . " وَلأَِنَّ هَذِهِ الأَْيَّامَ أَيَّامُ شُغْلٍ بِأَدَاءِ الْحَجِّ، وَالْعُمْرَةُ فِيهَا تَشْغَلُهُمْ عَنْ ذَلِكَ، وَرُبَّمَا يَقَعُ الْخَلَل فِيهِ فَتُكْرَهُ ".
ب - اسْتَثْنَى الْمَالِكِيَّةُ الْمُحْرِمَ بِالْحَجِّ مِنْ سَعَةِ الْوَقْتِ لِلإِْحْرَامِ بِالْعُمْرَةِ، فَقَالُوا: الْحَاجُّ وَقْتُ إِحْرَامِهِ بِالْعُمْرَةِ مِنْ وَقْتِ تَحَلُّلِهِ مِنَ الْحَجِّ، وَذَلِكَ " بِالْفَرَاغِ مِنْ
__________
(1) البخاري (باب عمرة في رمضان) 3 / 3، ومسلم 4 / 61، 62 وفي لفظ لمسلم " حجة معي " وفي الحديث قصة لم نذكرها.
(2) نصب الراية 3 / 146، 147

(2/144)


جَمِيعِ أَفْعَالِهِ مِنْ طَوَافٍ وَسَعْيٍ وَرَمْيِ الْيَوْمِ الرَّابِعِ (1) ، أَوْ قَدْرِ رَمْيِهِ لِمَنْ تَعَجَّل فَنَفَرَ فِي ثَالِثِ أَيَّامِ النَّحْرِ، فَإِنَّ هَذَا يَنْتَظِرُ إِلَى أَنْ يَمْضِيَ - بَعْدَ الزَّوَال مِنَ الْيَوْمِ الرَّابِعِ - مَا يَسَعُ الرَّمْيَ حَتَّى يَبْدَأَ وَقْتُ الإِْحْرَامِ لَهُ لِلْعُمْرَةِ ".
وَبِنَاءً عَلَى ذَلِكَ قَرَّرَ الْمَالِكِيَّةُ: إِنْ أَحْرَمَ بِالْعُمْرَةِ قَبْل ذَلِكَ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ لَمْ يَنْعَقِدْ إِحْرَامُهُ، وَأَنَّهُ يُكْرَهُ الإِْحْرَامُ بِالْعُمْرَةِ بَعْدَ التَّحَلُّل بِالْفَرَاغِ مِنْ جَمِيعِ أَفْعَال الْحَجِّ وَقَبْل غُرُوبِ شَمْسِ الْيَوْمِ الرَّابِعِ (2) .

الْمِيقَاتُ الْمَكَانِيُّ
الْمِيقَاتُ الْمَكَانِيُّ يَنْقَسِمُ قِسْمَيْنِ: مِيقَاتٌ مَكَانِيٌّ لِلإِْحْرَامِ بِالْحَجِّ، وَمِيقَاتٌ مَكَانِيٌّ لِلإِْحْرَامِ بِالْعُمْرَةِ.

أَوَّلاً: الْمِيقَاتُ الْمَكَانِيُّ لِلإِْحْرَامِ بِالْحَجِّ:
39 - يَخْتَلِفُ الْمِيقَاتُ الْمَكَانِيُّ لِلإِْحْرَامِ بِالْحَجِّ بِاخْتِلاَفِ مَوَاقِعِ النَّاسِ، فَإِنَّهُمْ فِي حَقِّ الْمَوَاقِيتِ الْمَكَانِيَّةِ عَلَى أَرْبَعَةِ أَصْنَافٍ، وَهِيَ: الصِّنْفُ الأَْوَّل: الآْفَاقِيُّ.
__________
(1) أما الحلق فيستثنى من عدم صحة الإحرام بالعمرة قبل إتمام أفعال الحج انظر مواهب الجليل 3 / 25، وشرح الزرقاني 2 / 250، 251
(2) انظر في الميقات الزماني للعمرة: الهداية وفتح القدير 2 / 304، والبدائع 2 / 227، والملك المتقسط ص 308، ورد المحتار 2 / 207، 208، ومواهب الجليل 3 / 22 - 26، وشرح الزرقاني 2 / 250، والشرح الكبير بحاشيته 2 / 22، وشرح الرسالة بحاشية العدوي 1 / 497، 498، والمهذب مع المجموع 7 / 133 - 136، وشرح المنهاج 2 / 92، ونهاية المحتاج 2 / 389، والكافي 1 / 528، ومطالب أولي النهى 2 / 301، 302، 445

(2/145)


الصِّنْفُ الثَّانِي: الْمِيقَاتِيُّ. الصِّنْفُ الثَّالِثُ: الْحَرَمِيُّ. الصِّنْفُ الرَّابِعُ: الْمَكِّيُّ، وَيَشْتَرِكُ مَعَ الْحَرَمِيِّ فِي أَكْثَرِ مِنْ وَجْهٍ، فَيَكُونَانِ مَسْأَلَةً وَاحِدَةً. ثُمَّ صِنْفٌ خَامِسٌ: هُوَ مَنْ تَغَيَّرَ مَكَانُهُ، مَا مِيقَاتُهُ؟ .
مِيقَاتُ الآْفَاقِيِّ: وَهُوَ مَنْ مَنْزِلُهُ خَارِجَ مِنْطَقَةِ الْمَوَاقِيتِ.
40 - اتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ عَلَى تَقْرِيرِ الأَْمَاكِنِ الآْتِيَةِ مَوَاقِيتَ لأَِهْل الآْفَاقِ الْمُقَابِلَةِ لَهَا، وَهَذِهِ الأَْمَاكِنُ هِيَ:
أ - ذُو الْحُلَيْفَةِ: مِيقَاتُ أَهْل الْمَدِينَةِ، وَمَنْ مَرَّ بِهَا مِنْ غَيْرِ أَهْلِهَا. وَتُسَمَّى الآْنَ " آبَارُ عَلِيٍّ " فِيمَا اشْتُهِرَ لَدَى الْعَامَّةِ (1) .
ب - الْجُحْفَةُ: مِيقَاتُ أَهْل الشَّامِ، وَمَنْ جَاءَ مِنْ قِبَلِهَا مِنْ مِصْرَ، وَالْمَغْرِبِ. وَيُحْرِمُ الْحُجَّاجُ مِنْ " رَابِغٍ "، وَتَقَعُ قَبْل الْجُحْفَةِ، إِلَى جِهَةِ الْبَحْرِ، فَالْمُحْرِمُ مِنْ " رَابِغٍ " مُحْرِمٌ قَبْل الْمِيقَاتِ. وَقَدْ قِيل إِنَّ الإِْحْرَامَ مِنْهَا أَحْوَطُ لِعَدَمِ التَّيَقُّنِ بِمَكَانِ الْجُحْفَةِ.
ج - قَرْنُ الْمَنَازِل: وَيُقَال لَهُ " قَرْنٌ " أَيْضًا، مِيقَاتُ أَهْل نَجْدٍ، وَ " قَرْنٌ " جَبَلٌ مُطِلٌّ عَلَى عَرَفَاتِ. وَهُوَ أَقْرَبُ الْمَوَاقِيتِ إِلَى مَكَّةَ، وَتُسَمَّى الآْنَ " السَّيْل ".
__________
(1) في قصة خرافية باطلة نسبت لسيدنا علي رضي الله عنه أنه قاتل في بئر فيها الجن. وهو كذب. كما يحذر من أي تقليد يفعل سوى شعائر الإحرام. انظر مواهب الجليل 3 / 30

(2/145)


د - يَلَمْلَمُ: مِيقَاتُ بَاقِي أَهْل الْيَمَنِ وَتِهَامَةَ، وَالْهِنْدِ. وَهُوَ جَبَلٌ مِنْ جِبَال تِهَامَةَ، جَنُوبِ مَكَّةَ.
هـ - ذَاتُ عِرْقٍ: مِيقَاتُ أَهْل الْعِرَاقِ، وَسَائِرِ أَهْل الْمَشْرِقِ.
أَدِلَّةُ تَحْدِيدِ مَوَاقِيتِ الآْفَاقِ:
41 - وَالدَّلِيل عَلَى تَحْدِيدِهَا مَوَاقِيتَ لِلإِْحْرَامِ السُّنَّةُ وَالإِْجْمَاعُ:
أ - أَمَّا السُّنَّةُ فَأَحَادِيثُ كَثِيرَةٌ نَذْكُرُ مِنْهَا هَذَيْنِ الْحَدِيثَيْنِ: حَدِيثَ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَال: إِنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَّتَ لأَِهْل الْمَدِينَةِ ذَا الْحُلَيْفَةِ، وَلأَِهْل الشَّامِ الْجُحْفَةَ، وَلأَِهْل نَجْدٍ قَرْنَ الْمَنَازِل، وَلأَِهْل الْيَمَنِ يَلَمْلَمَ. هُنَّ لَهُنَّ؛ وَلِمَنْ أَتَى عَلَيْهِنَّ مِنْ غَيْرِ أَهْلِهِنَّ، مِمَّنْ أَرَادَ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ. وَمَنْ كَانَ دُونَ ذَلِكَ فَمِنْ حَيْثُ أَنْشَأَ، حَتَّى أَهْل مَكَّةَ مِنْ مَكَّةَ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ (1) .
وَحَدِيثَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: يُهِل أَهْل الْمَدِينَةِ مِنْ ذِي الْحُلَيْفَةِ، وَأَهْل الشَّامِ مِنَ الْجُحْفَةِ، وَأَهْل نَجْدٍ مِنْ قَرْنٍ. قَال عَبْدُ اللَّهِ - يَعْنِي ابْنَ عُمَرَ - وَبَلَغَنِي أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: وَيُهِل أَهْل الْيَمَنِ مِنْ يَلَمْلَمَ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ (2)
__________
(1) البخاري في الحج (باب مهل أهل مكة للحج والعمرة) 2 / 134 ومواضع أخرى، ومسلم 4 / 5، 6
(2) البخاري (باب ميقات أهل المدينة) 2 / 134، ومسلم 4 / 6 من طريق مالك عن نافع عن ابن عمر، وهي سلسلة الذهب، وهو عندهما كذلك في الصفحتين المذكورتين من طريق الزهري عن سالم عن أبيه، وهى سلسلة من الإسناد التي حكم لها أنها أصح الأسانيد.

(2/146)


فَهَذِهِ نُصُوصٌ فِي الْمَوَاقِيتِ عَدَا ذَاتِ عِرْقٍ.
وَقَدِ اخْتُلِفَ فِي دَلِيل تَوْقِيتِ ذَاتِ عِرْقٍ هَل وُقِّتَ بِالنَّصِّ أَمْ بِالاِجْتِهَادِ وَالإِْجْمَاعِ. فَقَال جَمَاعَةٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ وَمِنْهُمُ الشَّافِعِيُّ وَمَالِكٌ ثَبَتَ بِاجْتِهَادِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَأَقَرَّهُ الصَّحَابَةُ، فَكَانَ إِجْمَاعًا. وَصَحَّحَ الْحَنَفِيَّةُ (1) وَالْحَنَابِلَةُ (2) وَجُمْهُورُ الشَّافِعِيَّةِ (3) أَنَّ تَوْقِيتَ ذَاتِ عِرْقٍ مَنْصُوصٌ عَلَيْهِ مِنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لَمْ يَبْلُغْهُ تَحْدِيدُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَحَدَّدَهُ بِاجْتِهَادِهِ فَوَافَقَ النَّصَّ.
ب - وَأَمَّا دَلاَلَةُ الإِْجْمَاعِ عَلَى هَذِهِ الْمَوَاقِيتِ فَقَال النَّوَوِيُّ فِي الْمَجْمُوعِ (4) : " قَال ابْنُ الْمُنْذِرِ وَغَيْرُهُ: أَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ عَلَى هَذِهِ الْمَوَاقِيتِ ". وَقَال أَبُو عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْبَرِّ: " أَجْمَعَ أَهْل الْعِلْمِ عَلَى أَنَّ إِحْرَامَ الْعِرَاقِيِّ مِنْ ذَاتِ عِرْقٍ إِحْرَامٌ مِنَ الْمِيقَاتِ (5) ".
__________
(1) فإنهم أثبتوا ذات عرق استنادا للحديث. انظر المبسوط 4 / 166، والهداية 2 / 131، ورد المحتار 2 / 207 وفيه تحسين الحديث نقلا عن النهر.
(2) حتى صرح في غاية المنتهى وشرحه 2 / 296: " وهذه المواقيت ثبتت كلها بالنص لا باجتهاد عمر ".
(3) كما ذكر النووي في المجموع 7 / 194 وأنه قول للشافعي ص 195
(4) المغني 3 / 257

(2/146)


أَحْكَامٌ تَتَعَلَّقُ بِالْمَوَاقِيتِ:
42 - مِنْهَا:
أ - وُجُوبُ الإِْحْرَامِ مِنْهَا لِمَنْ مَرَّ بِالْمِيقَاتِ قَاصِدًا أَحَدَ النُّسُكَيْنِ، الْحَجَّ أَوِ الْعُمْرَةَ، وَتَحْرِيمُ تَأْخِيرِ الإِْحْرَامِ عَنْهَا بِالإِْجْمَاعِ (1) . وَالإِْحْرَامُ مِنْ أَوَّل الْمِيقَاتِ، أَيِ الطَّرَفِ الأَْبْعَدِ مِنْ مَكَّةَ أَفْضَل، حَتَّى لاَ يَمُرَّ بِشَيْءٍ مِمَّا يُسَمَّى مِيقَاتًا غَيْرَ مُحْرِمٍ. وَلَوْ أَحْرَمَ مِنْ آخِرِهِ أَيِ الطَّرَفِ الأَْقْرَبِ إِلَى مَكَّةَ جَازَ اتِّفَاقًا، لِحُصُول الاِسْمِ.

43 - ب - مَنْ مَرَّ بِالْمَوَاقِيتِ يُرِيدُ دُخُول الْحَرَمِ لِحَاجَةٍ غَيْرِ النُّسُكِ اخْتُلِفَ فِيهِ: ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ الإِْحْرَامُ لِدُخُول مَكَّةَ أَوِ الْحَرَمِ الْمُعَظَّمِ الْمُحِيطِ بِهَا، وَعَلَيْهِ الْعُمْرَةُ إِنْ لَمْ يَكُنْ مُحْرِمًا بِالْحَجِّ.
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ إِذَا قَصَدَ مَكَّةَ أَوْ مِنْطَقَةَ الْحَرَمِ لِحَاجَةٍ لاَ لِلنُّسُكِ جَازَ لَهُ أَلاَّ يُحْرِمَ. (انْظُرِ الأَْدِلَّةَ وَفُرُوعَ الْمَسْأَلَةِ فِي مُصْطَلَحِ " حَرَمٌ ") .

44 - ج - الاِعْتِبَارُ فِي هَذِهِ الْمَوَاقِيتِ بِتِلْكَ الْمَوَاضِعِ، لاَ بِاسْمِ الْقَرْيَةِ وَالْبِنَاءِ. فَلَوْ خَرِبَ الْبِنَاءُ فِي الْمِيقَاتِ وَنُقِلَتْ عِمَارَتُهُ إِلَى مَوْضِعٍ آخَرَ قَرِيبٍ مِنْهُ وَسُمِّيَ بِاسْمِ الأَْوَّل لَمْ يَتَغَيَّرِ الْحُكْمُ، بَل الاِعْتِبَارُ بِمَوْضِعِ الأَْوَّل (2) .
45 - د - لاَ يُشْتَرَطُ أَنْ يُحْرِمَ مِنْ هَذِهِ الْمَوَاقِيتِ بِأَعْيَانِهَا، بَل يَكْفِي أَنْ يُحْرِمَ مِنْهَا بِذَاتِهَا، أَوْ مِنْ
__________
(1) نص على الإجماع في المجموع 7 / 206، والمسلك المتقسط ص 55، واتفاق العلماء على هذا الحكم ظاهر في عبارات المراجع.
(2) المجموع 7 / 195

(2/147)


حَذْوِهَا، أَيْ مُحَاذَاتِهَا وَمُقَابَلَتِهَا، وَذَلِكَ لِمَا سَبَقَ فِي تَوْقِيتِ ذَاتِ عِرْقٍ، أَنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَخَذَ فِي تَوْقِيتِهَا بِالْمُحَاذَاةِ، وَأُقِرَّ عَلَى ذَلِكَ. فَدَل عَلَى اتِّفَاقِ الصَّحَابَةِ عَلَى الأَْخْذِ بِقَاعِدَةِ الْمُحَاذَاةِ.

فُرُوعٌ:
تَفَرَّعَ عَلَى ذَلِكَ:
46 - مَنْ سَلَكَ طَرِيقًا لَيْسَ فِيهِ مِيقَاتٌ مُعَيَّنٌ، بَرًّا أَوْ بَحْرًا أَوْ جَوًّا، اجْتَهَدَ وَأَحْرَمَ إِذَا حَاذَى مِيقَاتًا مِنْ هَذِهِ الْمَوَاقِيتِ الْمَذْكُورَةِ. وَيَنْبَغِي أَنْ يَأْخُذَ بِالاِحْتِيَاطِ لِئَلاَّ يُجَاوِزَ الْمِيقَاتَ غَيْرَ مُحْرِمٍ، وَخُصُوصًا رَاكِبُ الطَّائِرَةِ.
47 - إِنْ لَمْ يَعْلَمِ الْمُحَاذَاةَ (1) فَإِنَّهُ يُحْرِمُ عَلَى مَرْحَلَتَيْنِ مِنْ مَكَّةَ. اعْتِبَارًا بِمَسَافَةِ أَقْرَبِ الْمَوَاقِيتِ، فَإِنَّهُ عَلَى بُعْدِ مَرْحَلَتَيْنِ مِنْ مَكَّةَ. وَعَلَى ذَلِكَ قَرَّرُوا أَنَّ جَدَّةَ تَدْخُل فِي الْمَوَاقِيتِ؛ لأَِنَّهَا أَقْرَبُ إِلَى مَكَّةَ مِنْ قَرْنِ الْمَنَازِل (2) . (3)
48 - وَتَفَرَّعَ عَلَى ذَلِكَ مَسْأَلَةُ مَنْ يَمُرُّ بِمِيقَاتَيْنِ، كَالشَّامِيِّ إِذَا قَدِمَ مِنَ الْمَدِينَةِ، وَالْمَدَنِيِّ، فَإِنَّهُ إِذَا مَرَّ بِالْجُحْفَةِ يَمُرُّ بِمِيقَاتَيْنِ فَمِنْ أَيِّ الْمِيقَاتَيْنِ يُحْرِمُ؟ ذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ
__________
(1) دار نقاش حول إمكان وجود مكان لا يحاذي ميقاتا، فعبرنا بهذا، ولم نشأ الخوض في هذا لأننا لم نجد له فائدة عملية فيما ذكروه.
(2) ويكون الميقات واصلا إلى البحر، وكذا إذا نظرنا إلى جدة من حيث المحاذاة فإن محاذاة الجحفة تجعلها داخلة في ضمن المواقيت، وتكون المواقيت ممتدة إلى عرض البحر.
(3) فتح الباري 3 / 251 ط المطبعة الخيرية للخشاب 1319 هـ

(2/147)


يُحْرِمَ مِنَ الْمِيقَاتِ الأَْبْعَدِ، كَأَهْل الشَّامِ وَمِصْرَ وَالْمَغْرِبِ، مِيقَاتُهُمُ الْجُحْفَةُ، فَإِذَا مَرُّوا بِالْمَدِينَةِ وَجَبَ عَلَيْهِمُ الإِْحْرَامُ مِنْ ذِي الْحُلَيْفَةِ مِيقَاتِ أَهْل الْمَدِينَةِ، وَإِذَا جَاوَزُوهُ غَيْرَ مُحْرِمِينَ حَتَّى الْجُحْفَةِ كَانَ حُكْمُهُمْ حُكْمَ مَنْ جَاوَزَ الْمِيقَاتَ مِنْ غَيْرِ إِحْرَامٍ.
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّ مَنْ يَمُرُّ بِمِيقَاتَيْنِ الثَّانِي مِنْهُمَا مِيقَاتُهُ نُدِبَ لَهُ الإِْحْرَامُ مِنَ الأَْوَّل، وَلاَ يَجِبُ عَلَيْهِ الإِْحْرَامُ مِنْهُ؛ لأَِنَّ مِيقَاتَهُ أَمَامَهُ.
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ مَنْ يَمُرُّ بِمِيقَاتَيْنِ فَالأَْفْضَل لَهُ الإِْحْرَامُ مِنَ الأَْوَّل، وَيُكْرَهُ لَهُ تَأْخِيرُهُ إِلَى الثَّانِي الأَْقْرَبِ إِلَى مَكَّةَ. وَلَمْ يُقَيِّدُوهُ - فِي الأَْصَحِّ عِنْدَهُمْ - بِأَنْ يَكُونَ الْمِيقَاتُ الثَّانِي مِيقَاتًا لَهُ. اسْتَدَل الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ بِحَدِيثِ الْمَوَاقِيتِ؛ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: هُنَّ لَهُنَّ؛ وَلِمَنْ أَتَى عَلَيْهِنَّ مِنْ غَيْرِ أَهْلِهِنَّ، فَإِنَّ هَذَا بِعُمُومِهِ يَدُل عَلَى أَنَّ الشَّامِيَّ مَثَلاً إِذَا أَتَى ذَا الْحُلَيْفَةِ فَهُوَ مِيقَاتُهُ، يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يُحْرِمَ مِنْهُ. وَلاَ يَجُوزُ لَهُ أَنْ يُجَاوِزَهُ غَيْرَ مُحْرِمٍ.
وَاسْتَدَل الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَفِيَّةُ بِعُمُومِ التَّوْقِيتِ لأَِهْل الْمَنَاطِقِ الْمَذْكُورَةِ، إِلَى جَانِبِ الْعُمُومِ الَّذِي اسْتَدَل بِهِ الشَّافِعِيَّةُ، فَيَحْصُل مِنْ ذَلِكَ لَهُ جَوَازُ الأَْمْرَيْنِ.
فَأَخَذَ الْحَنَفِيَّةُ بِالْعُمُومِ عَلَى ظَاهِرِهِ فِي الْعِبَارَتَيْنِ، وَجَوَّزُوا الإِْحْرَامَ مِنْ أَيِّ الْمِيقَاتَيْنِ، مَعَ كَرَاهَةِ التَّأْخِيرِ، وَيَدُل لَهُمْ مَا ثَبَتَ أَنَّ ابْنَ عُمَرَ أَهَل مِنَ الْفَرْعِ (1) وَهُوَ مَوْضِعٌ بَيْنَ ذِي الْحُلَيْفَةِ وَمَكَّةَ. وَخَصَّ الْمَالِكِيَّةُ ذَلِكَ بِغَيْرِ الْمَدَنِيِّ. وَيَشْهَدُ لَهُمْ
__________
(1) أخرجه مالك في الموطأ (مواقيت الإهلال) 1 / 242 نسخة تنوير الحوالك ط مصطفى الحلبي 1349 هـ بسنده عن نافع عن ابن عمر. وانظر الجواب عن هذا في المجموع 7 / 203

(2/148)


فِعْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالصَّحَابَةِ، فَإِنَّهُمْ أَحْرَمُوا مِنْ ذِي الْحُلَيْفَةِ. وَهُوَ مَحْمُولٌ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ عَلَى فِعْل الأَْفْضَل.
وَيَدُل لِلْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ مِنْ جِهَةِ النَّظَرِ: أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنَ الْمِيقَاتِ تَعْظِيمُ الْحَرَمِ الْمُحْتَرَمِ، وَهُوَ يَحْصُل بِأَيِّ مِيقَاتٍ اعْتَبَرَهُ الشَّرْعُ الْمُكَرَّمُ، يَسْتَوِي الْقَرِيبُ وَالْبَعِيدُ فِي هَذَا الْمَعْنَى.
49 - التَّقَدُّمُ بِالإِْحْرَامِ عَلَى الْمَوَاقِيتِ الْمَكَانِيَّةِ جَائِزٌ بِالإِْجْمَاعِ، وَإِنَّمَا حُدِّدَتْ لِمَنْعِ مُجَاوَزَتِهَا بِغَيْرِ إِحْرَامٍ.
لَكِنِ اخْتُلِفَ هَل الأَْفْضَل التَّقَدُّمُ عَلَيْهَا، أَوِ الإِْحْرَامُ مِنْهَا: فَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ يُكْرَهُ لَهُ الإِْحْرَامُ قَبْل الْمِيقَاتِ.
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ تَقْدِيمَ الإِْحْرَامِ عَلَى الْمِيقَاتِ الْمَكَانِيِّ أَفْضَل، إِذَا أَمِنَ عَلَى نَفْسِهِ مُخَالَفَةَ أَحْكَامِ الإِْحْرَامِ. اسْتَدَل الأَْوَّلُونَ بِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابَهُ أَحْرَمُوا مِنَ الْمِيقَاتِ، وَلاَ يَفْعَلُونَ إِلاَّ الأَْفْضَل. وَبِأَنَّهُ يُشْبِهُ الإِْحْرَامَ بِالْحَجِّ قَبْل أَشْهُرِهِ، فَيَكُونُ مِثْلَهُ فِي الْكَرَاهَةِ. وَاسْتَدَل الْحَنَفِيَّةُ بِمَا أَخْرَجَ أَبُو دَاوُدَ وَابْنُ مَاجَهْ عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: مَنْ أَهَل مِنَ الْمَسْجِدِ الأَْقْصَى بِعُمْرَةٍ أَوْ حَجَّةٍ غُفِرَ لَهُ. (1) وَسُئِل عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ قَوْله تَعَالَى:
__________
(1) أبو داود في (المواقيت) 2 / 43، وابن ماجه برقم 3001 ص 999، قال المنذري في تهذيب السنن 2 / 285: " وقد اختلف الرواة في متنه وإسناده اختلافا كثيرا "

(2/148)


{وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} فَقَال: أَنْ تُحْرِمَ مِنْ دُوَيْرَةِ أَهْلِكَ أَخْرَجَهُ الْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ (1) .
وَاسْتَدَلُّوا مِنْ حَيْثُ النَّظَرُ بِأَنَّ " الْمَشَقَّةَ فِيهِ أَكْثَرُ، وَالتَّعْظِيمَ أَوْفَرُ " فَيَكُونُ أَفْضَل.

50 - مَنْ جَاوَزَ الْمِيقَاتَ قَاصِدًا الْحَجَّ أَوِ الْعُمْرَةَ أَوِ الْقِرَانَ، وَهُوَ غَيْرُ مُحْرِمٍ، أَثِمَ، وَيَجِبُ عَلَيْهِ الْعَوْدُ إِلَيْهِ وَالإِْحْرَامُ مِنْهُ. فَإِنْ لَمْ يَرْجِعْ وَجَبَ عَلَيْهِ الدَّمُ سَوَاءٌ تَرَكَ الْعَوْدَ بِعُذْرٍ أَوْ بِغَيْرِ عُذْرٍ، وَسَوَاءٌ كَانَ عَالِمًا عَامِدًا أَوْ جَاهِلاً أَوْ نَاسِيًا. لَكِنْ مَنْ تَرَكَ الْعَوْدَ لِعُذْرٍ لاَ يَأْثَمُ بِتَرْكِ الرُّجُوعِ. وَمِنَ الْعُذْرِ خَوْفُ فَوَاتِ الْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ لِضِيقِ الْوَقْتِ، أَوِ الْمَرَضِ الشَّاقِّ، أَوْ خَوْفِ فَوَاتِ الرُّفْقَةِ. وَذَلِكَ مَوْضِعُ وِفَاقٍ بَيْنَ الْمَذَاهِبِ.

مِيقَاتُ الْمِيقَاتِيِّ (الْبُسْتَانِيِّ) :
51 - الْمِيقَاتِيُّ هُوَ الَّذِي يَسْكُنُ فِي مَنَاطِقِ الْمَوَاقِيتِ، أَوْ مَا يُحَاذِيهَا، أَوْ فِي مَكَانٍ دُونَهَا إِلَى الْحَرَمِ الْمُحِيطِ بِمَكَّةَ كَقَدِيدٍ، وَعُسْفَانَ، وَمَرِّ الظَّهْرَانِ. مَذْهَبُ الْمَالِكِيَّةِ (2) وَالشَّافِعِيَّةِ (3) وَالْحَنَابِلَةِ (4) أَنَّ
__________
(1) في المستدرك 2 / 276 ط الهند وقال: " صحيح على شرط الشيخين " ووافقه الذهبي.
(2) مواهب الجليل 3 / 34، وشرح الزرقاني 2 / 252، والشرح. الكبير بحاشيته 2 / 23، وشرح الرسالة مع حاشية العدوي 1 / 459
(3) شرح المنهاج 2 / 94، ونهاية المحتاج 2 / 392، والمجموع 7 / 194، 201،202
(4) المغني 3 / 262، ومطالب أولي النهى 2 / 297، وعبر بعض الحنابلة بقولهم " ميقاته منزله " كذا في الكافي 1 / 524، وغاية المنتهى الموضع السابق، لكن في المغني كما أثبتناه، وكذا اتجهه صاحب غاية المنتهى، ووافقه في شرحه مطالب أولي النهى.

(2/149)


مِيقَاتَ إِحْرَامِ الْمَكَانِيِّ لِلْحَجِّ هُوَ مَوْضِعُهُ، إِلاَّ أَنَّ الْمَالِكِيَّةَ قَالُوا: " يُحْرِمُ مِنْ دَارِهِ، أَوْ مِنْ مَسْجِدِهِ، وَلاَ يُؤَخِّرُ ذَلِكَ ". وَالأَْحْسَنُ أَنْ يُحْرِمَ مِنْ أَبْعَدِهِمَا مِنْ مَكَّةَ. وَقَال الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ مِيقَاتُهُ الْقَرْيَةُ الَّتِي يَسْكُنُهَا، إِنْ كَانَ قَرَوِيًّا، أَوِ الْمَحَلَّةُ الَّتِي يَنْزِلُهَا إِنْ كَانَ بَدَوِيًّا، فَإِنْ جَاوَزَ الْقَرْيَةَ وَفَارَقَ الْعُمْرَانَ إِلَى مَكَّةَ ثُمَّ أَحْرَمَ كَانَ آثِمًا، وَعَلَيْهِ الدَّمُ لِلإِْسَاءَةِ، فَإِنْ عَادَ إِلَيْهَا سَقَطَ الدَّمُ، عَلَى التَّفْصِيل الَّذِي سَبَقَ، وَبَيَانُ الْمَذَاهِبِ فِيهِ. وَكَذَا إِذَا جَاوَزَ الْخِيَامَ إِلَى جِهَةِ مَكَّةَ غَيْرَ مُحْرِمٍ، وَإِنْ كَانَ فِي بَرِّيَّةٍ مُنْفَرِدًا أَحْرَمَ مِنْ مَنْزِلِهِ. وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يُحْرِمَ مِنْ طَرَفِ الْقَرْيَةِ أَوِ الْمَحَلَّةِ الأَْبْعَدِ عَنْ مَكَّةَ، وَإِنْ أَحْرَمَ مِنَ الطَّرَفِ الأَْقْرَبِ جَازَ.
وَمَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ أَنَّ مِيقَاتَهُ مِنْطَقَةُ الْحِل (1) أَيْ جَمِيعُ الْمَسَافَةِ مِنَ الْمِيقَاتِ إِلَى انْتِهَاءِ الْحِل، وَلاَ يَلْزَمُهُ كَفَّارَةٌ، مَا لَمْ يَدْخُل أَرْضَ الْحَرَمِ بِلاَ إِحْرَامٍ. وَإِحْرَامُهُ مِنْ دُوَيْرَةِ أَهْلِهِ أَفْضَل.
اسْتَدَل الْجَمِيعُ بِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَدِيثِ الْمَوَاقِيتِ: وَمَنْ كَانَ دُونَ ذَلِكَ فَمِنْ حَيْثُ أَنْشَأَ، فَحَمَلَهُ الْمَالِكِيَّةُ عَلَى مَنْزِلِهِ، وَقَالُوا: إِنَّ الْمَسْجِدَ وَاسِعٌ لِلإِْحْرَامِ "؛ لأَِنَّهُ مَوْضِعُ الصَّلاَةِ؛ وَلأَِنَّ
__________
(1) هداية 2 / 134، والبدائع 2 / 166، وتبيين الحقائق شرح كنز الدقائق 2 / 8، والمسلك المتقسط ص 57، ورد المحتار 2 / 212

(2/149)


أَهْل مَكَّةَ يَأْتُونَ الْمَسْجِدَ فَيُحْرِمُونَ مِنْهُ، وَكَذَلِكَ أَهْل ذِي الْحُلَيْفَةِ يَأْتُونَ مَسْجِدَهُمْ (1) ".
وَفَسَّرَهُ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ بِالْقَرْيَةِ وَالْمَحَلَّةِ الَّتِي يَسْكُنُهَا؛ لأَِنَّهُ أَنْشَأَ مِنْهَا.
وَقَال الْحَنَفِيَّةُ: " إِنَّ خَارِجَ الْحَرَمِ كُلَّهُ كَمَكَانٍ وَاحِدٍ فِي حَقِّ الْمِيقَاتِيِّ، وَالْحَرَمُ فِي حَقِّهِ كَالْمِيقَاتِ فِي حَقِّ الآْفَاقِيِّ، فَلاَ يَدْخُل الْحَرَمَ إِذَا أَرَادَ الْحَجَّ أَوِ الْعُمْرَةَ إِلاَّ مُحْرِمًا (2) ".

مِيقَاتُ الْحَرَمِيِّ وَالْمَكِّيِّ:
52 - أ - اتَّفَقَتِ الْمَذَاهِبُ عَلَى أَنَّ مَنْ كَانَ مِنْ هَذَيْنِ الصِّنْفَيْنِ، بِأَنْ كَانَ مَنْزِلُهُ فِي الْحَرَمِ، أَوْ فِي مَكَّةَ، سَوَاءٌ أَكَانَ مُسْتَوْطِنًا، أَمْ نَازِلاً، فَإِنَّهُ يُحْرِمُ بِالْحَجِّ مِنْ حَيْثُ أَنْشَأَ، لِمَا سَبَقَ فِي الْحَدِيثِ: " فَمَنْ كَانَ دُونَ ذَلِكَ فَمِنْ حَيْثُ أَنْشَأَ حَتَّى أَهْل مَكَّةَ مِنْ مَكَّةَ (3) ".
ب - ثُمَّ اخْتَلَفُوا فِي تَفَاصِيل ذَلِكَ.
فَمَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ أَنَّ مَنْ كَانَ مَكِّيًّا، أَوْ مَنْزِلُهُ فِي الْحَرَمِ، كَسُكَّانِ مِنًى، فَوَقْتُهُ الْحَرَمُ لِلْحَجِّ وَلِلْقِرَانِ. وَمِنَ الْمَسْجِدِ أَفْضَل، أَوْ مِنْ دُوَيْرَةِ أَهْلِهِ، وَهُوَ قَوْلٌ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ بِالنِّسْبَةِ لِلْمَكِّيِّ فَقَطْ.
وَهَذَا عَلَى سَبِيل الْوُجُوبِ عِنْدَهُمْ، فَلَوْ أَنَّهُ أَهَل مِنْ خَارِجِ مِنْطَقَةِ الْحَرَمِ، لَزِمَهُ الْعَوْدُ إِلَى الْحَرَمِ، وَإِلاَّ وَجَبَ عَلَيْهِ الدَّمُ (4) .
__________
(1) مواهب الجليل الموضع السابق.
(2) تبيين الحقائق 2 / 8، وقارن بالهداية 2 / 134
(3) تقدم تخريجه (ف 41)
(4) الهداية 2 / 134، والبدائع 2 / 167، وتبيين الحقائق 2 / 8، والمسلك المتقسط ص 58، 59، والدر المختار 2 / 213

(2/150)


وَدَلِيلُهُ حَدِيثُ جَابِرٍ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ: فَأَهْلَلْنَا مِنَ الأَْبْطَحِ وَحَدِيثُهُ: وَجَعَلْنَا مَكَّةَ بِظَهْرٍ أَهْلَلْنَا بِالْحَجِّ. أَخْرَجَهُمَا مُسْلِمٌ، وَعَلَّقَهُمَا الْبُخَارِيُّ بِصِيغَةِ الْجَزْمِ (1) .
وَمَذْهَبُ الْمَالِكِيَّةِ التَّفْرِقَةُ بَيْنَ مَنْ أَهَل بِالْحَجِّ وَمَنْ أَهَل بِالْقِرَانِ، فَجَعَلُوا مِيقَاتَ الْقِرَانِ مِيقَاتَ الْعُمْرَةِ الآْتِي تَفْصِيلُهُ، وَهُوَ قَوْلٌ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ. وَأَمَّا مَنْ أَهَل بِالْحَجِّ وَهُوَ مِنْ سُكَّانِ مَكَّةَ أَوِ الْحَرَمِ فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مُسْتَوْطِنًا، أَوْ آفَاقِيًّا نَازِلاً: أَمَّا الْمُسْتَوْطِنُ فَإِنَّهُ يُنْدَبُ لَهُ أَنْ يُحْرِمَ مِنْ مَكَّةَ، وَمِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَفْضَل، وَإِنْ تَرَكَهَا وَأَحْرَمَ مِنَ الْحَرَمِ أَوِ الْحِل فَخِلاَفُ الأَْوْلَى، وَلاَ إِثْمَ، فَلاَ يَجِبُ الإِْحْرَامُ مِنْ مَكَّةَ.
وَأَمَّا الآْفَاقِيُّ فَإِنْ كَانَ لَهُ سَعَةٌ مِنَ الْوَقْتِ - وَعَبَّرُوا عَنْهُ بِ " ذِي النَّفْسِ " - فَيُنْدَبُ لَهُ الْخُرُوجُ إِلَى مِيقَاتِهِ وَالإِْحْرَامُ مِنْهُ. وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ سَعَةٌ مِنَ الْوَقْتِ فَهُوَ كَالْمُسْتَوْطِنِ (2) .
وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ أَنَّ الْحَرَمِيَّ (الَّذِي لَيْسَ بِمَكَّةَ) حُكْمُهُ حُكْمُ الْمِيقَاتِيِّ (3) .
وَأَمَّا الْمَكِّيُّ: أَيِ الْمُقِيمُ بِمَكَّةَ وَلَوْ كَانَ غَيْرَ مَكِّيٍّ، فَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَجْهَانِ فِي مِيقَاتِ الْحَجِّ لَهُ، مُفْرِدًا كَانَ أَوْ قَارِنًا: الأَْصَحُّ: أَنَّ مِيقَاتَهُ نَفْسُ مَكَّةَ، لِمَا
__________
(1) مسلم 4 / 36، 37 والبخاري 2 / 160
(2) مواهب الجليل 3 / 26 - 28، وشرح الزرقاني 2 / 251، والشرح الكبير 2 / 22، وشرح الرسالة مع حاشية العدوي 1 / 457
(3) المجموع 7 / 193، ونهاية المحتاج 2 / 389، 390، وشرح المحلي بحاشيتي قليوبي وعميرة 2 / 92

(2/150)


سَبَقَ فِي الْحَدِيثِ حَتَّى أَهْل مَكَّةَ مِنْ مَكَّةَ. (1)
وَالثَّانِي: مِيقَاتُهُ كُل الْحَرَمِ، لاِسْتِوَاءِ مَكَّةَ، وَمَا وَرَاءَهَا مِنَ الْحَرَمِ فِي الْحُرْمَةِ (2) .
وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ يُحْرِمُ بِالْحَجِّ مِنْ مَكَّةَ مِنَ الْمَسْجِدِ مِنْ تَحْتِ الْمِيزَابِ، وَهُوَ أَفْضَل عِنْدَهُمْ. وَجَازَ وَصَحَّ أَنْ يُحْرِمَ مَنْ بِمَكَّةَ مِنْ سَائِرِ الْحَرَمِ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ كَمَا هُوَ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ (3) .

الْمِيقَاتُ الْمَكَانِيُّ لِلْعُمْرَةِ:
53 - هُوَ الْمِيقَاتُ الْمَكَانِيُّ لِلْحَجِّ بِالنِّسْبَةِ لِلآْفَاقِيِّ وَالْمِيقَاتِيِّ. وَمِيقَاتُ مَنْ كَانَ بِمَكَّةَ مِنْ أَهْلِهَا أَوْ غَيْرِ أَهْلِهَا الْحِل مِنْ أَيِّ مَكَانٍ، وَلَوْ كَانَ بَعْدَ الْحَرَمِ، وَلَوْ بِخُطْوَةٍ. وَاخْتَلَفُوا فِي الأَْفْضَل مِنْهُمَا، فَذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى أَنَّهُ مِنَ الْجِعْرَانَةِ أَفْضَل، وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ مِنَ التَّنْعِيمِ أَفْضَل. وَقَال أَكْثَرُ الْمَالِكِيَّةِ هُمَا مُتَسَاوِيَانِ.
وَالأَْصْل فِي ذَلِكَ حَدِيثُ عَائِشَةَ: قَالَتْ: يَا رَسُول اللَّهِ أَتَنْطَلِقُونَ بِعُمْرَةٍ وَحَجَّةٍ، وَأَنْطَلِقُ بِالْحَجِّ؟ فَأَمَرَ أَخَاهَا عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ أَبِي بَكْرٍ أَنْ يَخْرُجَ مَعَهَا إِلَى التَّنْعِيمِ فَاعْتَمَرَتْ بَعْدَ الْحَجِّ فِي ذِي الْحِجَّةِ. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .
وَمِنْ جِهَةِ النَّظَرِ أَنَّ مِنْ شَأْنِ الإِْحْرَامِ أَنْ تَكُونَ هُنَا رِحْلَةٌ بَيْنَ الْحِل وَالْحَرَمِ، وَلَمَّا كَانَتْ أَرْكَانُ الْعُمْرَةِ كُلُّهَا فِي الْحَرَمِ، كَانَ لاَ بُدَّ أَنْ يَكُونَ الإِْحْرَامُ فِي الْحِل. وَلاَ يُعْلَمُ فِي ذَلِكَ خِلاَفٌ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ.
__________
(1) تقدم تخريجه (ف 41) ص 146
(2) شرح المحلي بحاشيتي القليوبي وعميرة 2 / 92
(3) المغني 3 / 259،261، وغاية المنتهى مع شرحه مطالب أولي النهى 2 / 297، 298

(2/151)


الْفَصْل الْخَامِسُ
مَحْظُورَاتُ الإِْحْرَامِ
حِكْمَةُ حَظْرِ بَعْضِ الْمُبَاحَاتِ حَال الإِْحْرَامِ:
54 - مِنْ حِكَمِ الشَّرْعِ فِي ذَلِكَ تَذْكِيرُ الْمُحْرِمِ بِمَا أَقْدَمَ عَلَيْهِ مِنْ نُسُكٍ، وَتَرْبِيَةُ النُّفُوسِ عَلَى التَّقَشُّفِ.
وَقَدْ كَانَ مِنْ سُنَّةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمُغَايَرَةُ فِي حَال الْعَيْشِ بَيْنَ التَّقَشُّفِ وَالتَّرَفُّهِ، وَتَقْرِيرُ الْمُسَاوَاةِ بَيْنَ النَّاسِ، وَإِذْكَاءُ مُرَاقَبَةِ الإِْنْسَانِ نَفْسَهُ فِي خَصَائِصِ أُمُورِهِ الْعَادِيَةِ، وَالتَّذَلُّل وَالاِفْتِقَارُ لِلَّهِ عَزَّ وَجَل، وَاسْتِكْمَال جَوَانِبَ مِنْ عِبَادَةِ الْبَدَنِ. وَقَدْ وَرَدَ: إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَل يُبَاهِي مَلاَئِكَتَهُ عَشِيَّةَ عَرَفَةَ بِأَهْل عَرَفَةَ، فَيَقُول: انْظُرُوا إِلَى عِبَادِي أَتَوْنِي شُعْثًا غُبْرًا. (1)
الْمَحْظُورَاتُ مِنَ اللِّبَاسِ

55 - يَخْتَلِفُ تَحْرِيمُ الْمَلْبَسِ فِي حَقِّ الرِّجَال عَنْ تَحْرِيمِ الْمَلْبَسِ فِي حَقِّ النِّسَاءِ.

أ - مَحْظُورَاتُ الإِْحْرَامِ فِي الْمَلْبَسِ فِي حَقِّ الرِّجَال:
56 - ضَابِطُ هَذِهِ الْمَحْظُورَاتِ أَنَّهُ لاَ يَحِل لِلرَّجُل الْمُحْرِمِ أَنْ يَسْتُرَ جِسْمَهُ كُلَّهُ أَوْ بَعْضَهُ أَوْ عُضْوًا مِنْهُ بِشَيْءٍ مِنَ اللِّبَاسِ الْمَخِيطِ أَوِ الْمُحِيطِ، كَالثِّيَابِ الَّتِي تُنْسَجُ عَلَى هَيْئَةِ الْجِسْمِ قِطْعَةً وَاحِدَةً دُونَ خِيَاطَةٍ، إِذَا
__________
(1) المسند 2 / 224، وفتح الباري 9 / 84

(2/151)


لَبِسَ ذَلِكَ الثَّوْبَ، أَوِ اسْتَعْمَلَهُ فِي اللُّبْسِ الْمُعْتَادِ لَهُ. وَيَسْتُرُ جِسْمَهُ بِمَا سِوَى ذَلِكَ، فَيَلْبَسُ رِدَاءً يَلُفُّهُ عَلَى نِصْفِهِ الْعُلْوِيِّ، وَإِزَارًا يَلُفُّهُ عَلَى بَاقِي جِسْمِهِ، أَوْ مَا أَشْبَهَ ذَلِكَ. وَالدَّلِيل عَلَى حَظْرِ مَا ذَكَرْنَا مَا ثَبَتَ فِي الْحَدِيثِ الْمَشْهُورِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ رَجُلاً سَأَل رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَا يَلْبَسُ الْمُحْرِمُ مِنَ الثِّيَابِ؟ فَقَال رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لاَ تَلْبَسُوا الْقُمُصَ، وَلاَ الْعَمَائِمَ، وَلاَ السَّرَاوِيلاَتِ، وَلاَ الْبَرَانِسَ، وَلاَ الْخِفَافَ، إِلاَّ أَحَدٌ لاَ يَجِدُ النَّعْلَيْنِ، فَلْيَلْبَسِ الْخُفَّيْنِ، وَلْيَقْطَعْهُمَا أَسْفَل مِنَ الْكَعْبَيْنِ. وَلاَ تَلْبَسُوا مِنَ الثِّيَابِ شَيْئًا مَسَّهُ الزَّعْفَرَانُ وَلاَ الْوَرْسُ أَخْرَجَهُ السِّتَّةُ (1) .
وَفِي رِوَايَةٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ زِيَادَةٌ وَلاَ تَنْتَقِبُ الْمَرْأَةُ الْمُحْرِمَةُ، وَلاَ تَلْبَسُ الْقُفَّازَيْنِ أَخْرَجَهَا الْبُخَارِيُّ وَأَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ (2) .

تَفْصِيل أَحْكَامِ هَذِهِ الْمَحْظُورَاتِ:
يَشْمَل تَحْرِيمُ هَذِهِ الأُْصُول الْمُتَّفَقِ عَلَيْهَا أُمُورًا كَثِيرَةً نَذْكُرُ مِنْهَا مَا يَلِي:
__________
(1) البخاري (باب ما لا يلبس المحرم) 2 / 137، ومسلم أول الحج واللفظ له 4 / 2، وأبو داود (باب ما يلبس المحرم) 2 / 165، والترمذي 3 / 194، 195، والنسائي 5 / 131، 135، وابن ماجه رقم 2929 ص 977 أخرجوه من طرق عن ابن عمر منها مالك عن نافع عن ابن عمر، وكذا هو في الموطأ 1 / 239 ومنها أيوب عن نافع عن ابن عمر وهو مما حكم له أنه أصح الأسانيد.
(2) من طريق الليث عن نافع عن ابن عمر البخاري 3 / 15 والباقون في المواضع السابقة.

(2/152)


لُبْسُ الْقَبَاءِ وَالسَّرَاوِيل وَنَحْوِهِمَا:
57 - أَوَّلاً: لَوْ وَضَعَ الْقَبَاءَ وَنَحْوَهُ عَلَيْهِ مِنْ غَيْرِ لُبْسِ أَكْمَامِهِ فَهُوَ مَحْظُورٌ كَاللُّبْسِ، عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ، وَهُوَ الْمُعْتَمَدُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ، لِنَهْيِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَنْ لُبْسِهِ لِلْمُحْرِمِ. رَوَاهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ، وَرَوَاهُ النِّجَادُ عَنْ عَلِيٍّ، وَلأَِنَّهُ عَادَةُ لُبْسِهِ كَالْقَمِيصِ (1) .
وَفَصَّل الْحَنَفِيَّةُ فَقَالُوا: لَوْ أَلْقَى الْقَبَاءَ أَوِ الْعَبَاءَ وَنَحْوَهُمَا عَلَى مَنْكِبَيْهِ مِنْ غَيْرِ إِدْخَال يَدَيْهِ أَوْ إِحْدَاهُمَا فِي كُمَّيْهِ وَلَمْ يَزُرَّهُ جَازَ مَعَ الْكَرَاهَةِ، وَلاَ فِدَاءَ عَلَيْهِ، وَهُوَ قَوْل الْخِرَقِيِّ مِنَ الْحَنَابِلَةِ (2) فَإِنْ زَرَّهُ أَوْ أَدْخَل يَدَيْهِ أَوْ إِحْدَاهُمَا فِي كُمَّيْهِ فَهُوَ مَحْظُورٌ، حُكْمُهُ حُكْمُ اللُّبْسِ فِي الْجَزَاءِ.
وَوَجْهُهُ: أَنَّ الْقَبَاءَ لاَ يُحِيطُ بِالْبَدَنِ، فَلَمْ تَلْزَمْهُ الْفِدْيَةُ بِوَضْعِهِ عَلَى كَتِفَيْهِ، إِذَا لَمْ يُدْخِل يَدَيْهِ كُمَّيْهِ، كَالْقَمِيصِ يَتَّشِحُ بِهِ.
58 - ثَانِيًا: مَنْ لَمْ يَجِدِ الإِْزَارَ يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَلْبَسَ السَّرَاوِيل إِلَى أَنْ يَجِدَ مَا يَتَّزِرُ بِهِ، وَلاَ فِدْيَةَ عَلَيْهِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ.
وَفَصَّل الْحَنَفِيَّةُ: فَأَجَازُوا لُبْسَ السَّرَاوِيل إِذَا كَانَ غَيْرَ قَابِلٍ لأََنْ يُشَقَّ وَيُؤْتَزَرَ بِهِ، وَإِلاَّ يَفْتُقُ مَا حَوْل السَّرَاوِيل مَا خَلاَ مَوْضِعِ التِّكَّةِ وَيَتَّزِرْ بِهِ. وَلَوْ لَبِسَهُ كَمَا هُوَ فَعَلَيْهِ دَمٌ، إِلاَّ إِذَا كَانَ ضَيِّقًا غَيْرَ قَابِلٍ
__________
(1) انظر الاستدلال من الأثر والنظر في مطالب أولي النهى 2 / 331، وتفصيله في المجموع 7 / 259 - 268، وانظر شرح الدردير 2 / 55
(2) انظر في المغني 3 / 307 وفيه ذكر التوجيه الآتي، وانظر المسلك المتقسط ص 82 ورد المحتار 2 / 223

(2/152)


لِذَلِكَ فَيَكُونُ عَلَيْهِ فِدْيَةٌ يَتَخَيَّرُ فِيهَا. وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ قَوْلاَنِ: قَوْلٌ بِجَوَازِ لُبْسِ السَّرَاوِيل إِذَا عَدِمَ الإِْزَارَ، وَيَفْتَدِي، وَقَوْلٌ: لاَ يَجُوزُ وَلَوْ عَدِمَ الإِْزَارَ، وَهُوَ الْمُعْتَمَدُ (1) .

لُبْسُ الْخُفَّيْنِ وَنَحْوِهِمَا:
59 - ثَالِثًا: مَنْ لَمْ يَجِدِ النَّعْلَيْنِ يَقْطَعُ الْخُفَّيْنِ أَسْفَل مِنَ الْكَعْبَيْنِ وَيَلْبَسُهُمَا، كَمَا نَصَّ الْحَدِيثُ.
وَهُوَ قَوْل الْمَذَاهِبِ الثَّلاَثَةِ الْحَنَفِيَّةِ (2) وَالْمَالِكِيَّةِ (3) وَالشَّافِعِيَّةِ (4) ، وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ، وَقَوْل عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ وَالثَّوْرِيِّ وَإِسْحَاقَ بْنِ رَاهَوَيْهِ وَابْنِ الْمُنْذِرِ (5) ، وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، وَالنَّخَعِيِّ (6) .
وَقَال الإِْمَامُ أَحْمَدُ: وَهُوَ الْمُعْتَمَدُ فِي الْمَذْهَبِ: لاَ يَقْطَعُ الْخُفَّيْنِ، وَيَلْبَسُهُمَا كَمَا هُمَا. وَهُوَ قَوْل عَطَاءٍ وَعِكْرِمَةَ وَسَعِيدِ بْنِ سَالِمٍ الْقَدَّاحِ، بَل قَال الْحَنَابِلَةُ: " حَرُمَ قَطْعُهُمَا " عَلَى الْمُحْرِمِ (7) .
__________
(1) ذكر القولين في التاج والإكليل 3 / 143، ونص على المعتمد الدسوقي في حاشيته 2 / 56، 57
(2) الهداية 2 / 141، والمسلك المتقسط ص 81، والدر المحتار مع متن التنوير 2 / 224
(3) الشرح الكبير 2 / 56، والرسالة بشرح أبي الحسن 1 / 489، 490
(4) شرح المحلي 2 / 131، والنهاية 2 / 449، والمهذب والمجموع 7 / 254، 262 - 267
(5) المغني 3 / 301
(6) المجموع 7 / 267
(7) المغني 3 / 301، 302، ومطالب أولي النهى 2 / 328 ومنه أوردنا عبارة دليل الحنابلة.

(2/153)


اسْتَدَل الْجُمْهُورُ بِحَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ السَّابِقِ فِي مَحْظُورَاتِ الإِْحْرَامِ. وَاسْتَدَل الْحَنَابِلَةُ بِحَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَقَالُوا: " إِنَّ زِيَادَةَ الْقَطْعِ - أَيْ فِي حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ - اخْتُلِفَ فِيهَا، فَإِنْ صَحَّتْ فَهِيَ بِالْمَدِينَةِ، لِرِوَايَةِ أَحْمَدَ عَنْهُ: " سَمِعْتُ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُول عَلَى هَذَا الْمِنْبَرِ " فَذَكَرَهُ، وَخَبَرُ ابْنِ عَبَّاسٍ بِعَرَفَاتٍ، فَلَوْ كَانَ الْقَطْعُ وَاجِبًا لَبَيَّنَهُ لِلْجَمْعِ الْعَظِيمِ الَّذِي لَمْ يَحْضُرْ أَكْثَرُهُمْ ذَلِكَ بِالْمَدِينَةِ.
وَقَدْ فَسَّرَ الْجُمْهُورُ الْكَعْبَ الَّذِي يُقْطَعُ الْخُفُّ أَسْفَل مِنْهُ بِأَنَّهُمَا الْعَظْمَانِ النَّاتِئَانِ عِنْدَ مَفْصِل السَّاقِ وَالْقَدَمِ. وَفَسَّرَهُ الْحَنَفِيَّةُ بِالْمَفْصِل الَّذِي فِي وَسَطِ الْقَدَمِ عِنْدَ مَعْقِدِ الشِّرَاكِ. وَوَجْهُهُ أَنَّهُ: " لَمَّا كَانَ الْكَعْبُ يُطْلَقُ عَلَيْهِ وَعَلَى النَّاتِئِ حُمِل عَلَيْهِ احْتِيَاطًا (1) ".
60 - رَابِعًا: أَلْحَقَ الْمَالِكِيَّةُ (2) وَالشَّافِعِيَّةُ (3) وَالْحَنَابِلَةُ (4) بِالْخُفَّيْنِ كُل مَا سَتَرَ شَيْئًا مِنَ الْقَدَمَيْنِ سَتْرَ إِحَاطَةٍ، فَلَمْ يُجِيزُوا لُبْسَ الْخُفَّيْنِ الْمَقْطُوعَيْنِ أَسْفَل مِنَ الْكَعْبَيْنِ إِلاَّ عِنْدَ فَقْدِ النَّعْلَيْنِ. وَلَوْ وَجَدَ النَّعْلَيْنِ لَمْ يَجُزْ لَهُ لُبْسُهُمَا، وَوَجَبَ عَلَيْهِ خَلْعُهُمَا إِنْ كَانَ قَدْ لَبِسَهُمَا. وَإِنْ لَبِسَهُمَا لِعُذْرٍ كَالْمَرَضِ لَمْ يَأْثَمْ وَعَلَيْهِ الْفِدَاءُ.
وَأَمَّا الْحَنَفِيَّةُ (5) فَإِنَّهُمْ قَالُوا: كُل مَا كَانَ غَيْرَ سَاتِرٍ
__________
(1) المسلك المتقسط ص 81، وفتح القدير 2 / 142، وانظر فتح الباري 3 / 259، 260
(2) الرسالة وحاشية العدوي 1 / 489، 490، والشرح الكبير 2 / 55
(3) شرح المحلي 2 / 131، والنهاية 2 / 449، ومغني المحتاج 1 / 519
(4) المغني 3 / 302،303، ومطالب أولي النهى 2 / 329
(5) المسلك المتقسط ص 81، والدر المختار، وحاشيته رد المحتار 2 / 224

(2/153)


لِلْكَعْبَيْنِ، اللَّذَيْنِ فِي ظَاهِرِ الْقَدَمَيْنِ فَهُوَ جَائِزٌ لِلْمُحْرِمِ.

تَقَلُّدُ السِّلاَحِ:
61 - خَامِسًا: حَظَرَ الْمَالِكِيَّةُ (1) وَالْحَنَابِلَةُ (2) عَلَى الْمُحْرِمِ تَقَلُّدَ السَّيْفِ بِدُونِ حَاجَةٍ، وَمِثْلُهُ الأَْسْلِحَةُ الْمُعَاصِرَةُ. وَأَوْجَبَ عَلَيْهِ الْمَالِكِيَّةُ الْفِدَاءَ إِذَا تَقَلَّدَهُ لِغَيْرِ حَاجَةٍ، وَقَالُوا: هَذَا إِذَا كَانَتْ عَلاَقَتُهُ غَيْرَ عَرِيضَةٍ، وَلاَ مُتَعَدِّدَةً، وَإِلاَّ فَالْفِدْيَةُ لاَزِمَةٌ عَلَى كُل حَالٍ، لَكِنْ لاَ يَأْثَمُ فِي حَال الْعُذْرِ.
وَأَجَازَ الْحَنَفِيَّةُ (3) وَالشَّافِعِيَّةُ (4) تَقَلُّدَ السَّيْفِ مُطْلَقًا، لَمْ يُقَيِّدُوهُ بِالْحَاجَةِ، وَكَأَنَّهُمْ لاَحَظُوا أَنَّهُ لَيْسَ مِنَ اللُّبْسِ الْمُعْتَادِ الْمَحْظُورِ عَلَى الْمُحْرِمِ.

سَتْرُ الرَّأْسِ وَالاِسْتِظْلاَل:
62 - سَادِسًا: اتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ عَلَى تَحْرِيمِ سَتْرِ الْمُحْرِمِ رَأْسَهُ أَوْ بَعْضَهُ، أَخْذًا مِنْ تَحْرِيمِ لُبْسِ الْعَمَائِمِ وَالْبَرَانِسِ ثُمَّ اخْتَلَفُوا فِي ضَابِطِ هَذَا السَّتْرِ.
فَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ (5) وَالْحَنَابِلَةِ (6) يَحْرُمُ سَتْرُهُ بِمَا يُقْصَدُ بِهِ التَّغْطِيَةُ عَادَةً. وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ (7) يَحْرُمُ سَتْرُ الْمُحْرِمِ رَأْسَهُ
__________
(1) الشرح الكبير وحاشيته 2 / 55
(2) الكافي 1 / 560، ومطالب أولي النهى 2 / 330
(3) المسلك المتقسط ص 83 وفيه إطلاق الجواز عن التقييد بالحاجة.
(4) نهاية المحتاج 2 / 449 وفيه النص على جوازه بلا حاجة.
(5) كما في المسلك المتقسط ص 80 وانظر ص 206، 207 ومتن التنوير، ورد المحتار 2 / 222
(6) لما دلت تعليلاتهم، انظر المغني 3 / 324 والكافي 1 / 549، وقد وقع في نسخة المطالب قلق في هذا الموضع 2 / 327 لعله من سوء تحقيق الناشر.
(7) كما صرح به في الشرح الكبير 2 / 55، وانظر شرح الرسالة بحاشية العدوي 1 / 488، 489

(2/154)


بِكُل مَا يُعَدُّ سَاتِرًا مُطْلَقًا. وَقَرِيبٌ مِنْهُمْ مَذْهَبُ الشَّافِعِيَّةِ (1) ، غَيْرَ أَنَّهُمْ قَالُوا: يَحْرُمُ مَا يُعَدُّ سَاتِرًا عُرْفًا، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ سَاتِرًا عُرْفًا فَيَحْرُمُ إِنْ قَصَدَ بِهِ السَّتْرَ.
يَحْرُمُ سَتْرُ بَعْضِ الرَّأْسِ كَذَلِكَ بِمَا يُعَدُّ سَاتِرًا، أَوْ يُقْصَدُ بِهِ السَّتْرُ، عَلَى الْخِلاَفِ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ. فَلاَ يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَعْصِبَ رَأْسَهُ بِعِصَابَةٍ، وَلاَ سَيْرٍ، وَلاَ يَجْعَل عَلَيْهِ شَيْئًا يَلْصَقُ بِهِ. وَقَدْ ضَبَطَهُ الْمَالِكِيَّةُ بِمَا يَبْلُغُ مِسَاحَةَ دِرْهَمٍ فَأَكْثَرَ. وَجَعَل الْحَنَفِيَّةُ فِيمَا كَانَ أَقَل مِنْ رُبُعِ الرَّأْسِ الْكَرَاهَةَ وَصَدَقَةً بِشَرْطِ الدَّوَامِ الَّذِي سَيَأْتِي.
وَاتَّفَقُوا عَلَى جَوَازِ نَحْوِ خَيْطٍ، وَيَحْرُمُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَضْعُ الْيَدِ عَلَى الرَّأْسِ، لأَِنَّهَا سَاتِرٌ مُطْلَقًا (2) ، وَكَذَا عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ إِنْ قُصِدَ بِهَا سَتْرُ الرَّأْسِ، وَإِلاَّ فَلاَ. وَلاَ يَحْرُمُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ.
63 - وَأَمَّا وَضْعُ حَمْلٍ عَلَى الرَّأْسِ: فَيَحْرُمُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ إِنْ كَانَ مِمَّا يُقْصَدُ بِهِ التَّغْطِيَةُ بِحَسَبِ الْعَادَةِ، كَمَا لَوْ حَمَل عَلَى رَأْسِهِ ثِيَابًا، فَإِنَّهُ يَكُونُ تَغْطِيَةً (3) ، وَإِنْ كَانَ مِمَّا لاَ يُقْصَدُ بِهِ تَغْطِيَةُ الرَّأْسِ عَادَةً لاَ يَحْرُمُ (4) ، كَحَمْل طَبَقٍ أَوْ قُفَّةٍ، أَوْ طَاسَةٍ قَصَدَ بِهَا السَّتْرَ؛ لأَِنَّهَا لَيْسَتْ مِمَّا يُقْصَدُ بِهِ السَّتْرُ غَالِبًا، فَصَارَ كَوَضْعِ الْيَدِ.
وَهَذَا مُتَّفِقٌ مَعَ الشَّافِعِيَّةِ، لَكِنْ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ إِذَا
__________
(1) كما يفيده شرح المنهاج للرملي 2 / 448، وصرح به الشبراملسي في حاشيته. ووقع في المجموع 7 / 257، 258، والمهذب 1 / 253 الحمل على الرأس.
(2) على ما جزم به في الشرح الكبير وحاشية الرسالة، واعترضه الدسوقي في حاشيته أن المعتمد أنه لا يحرم، فتأمل.
(3) كما في الدر المختار 2 / 222
(4) كما في لباب المناسك وشرحه 206

(2/154)


حَمَل مَا لاَ يُعْتَبَرُ سَاتِرًا كَالْقُفَّةِ وَقَصَدَ بِهِ السَّتْرَ حَرُمَ وَلَزِمَهُ الْفِدَاءُ. وَأَمَّا الْمَالِكِيَّةُ فَقَالُوا: يَجُوزُ لِلْمُحْرِمِ أَنْ يَحْمِل عَلَى رَأْسِهِ مَا لاَ بُدَّ مِنْهُ مِنْ خُرْجِهِ وَجِرَابِهِ، وَغَيْرِهِ، وَالْحَال أَنَّهُ لاَ يَجِدُ مَنْ يَحْمِل خُرْجَهُ مَثَلاً لاَ بِأُجْرَةٍ وَلاَ بِغَيْرِهَا.
فَإِنْ حَمَل لِغَيْرِهِ أَوْ لِلتِّجَارَةِ، فَالْفِدْيَةُ، وَقَال أَشْهَبُ: إِلاَّ أَنْ يَكُونَ عَيْشُهُ ذَلِكَ. أَيْ إِلاَّ أَنْ يَكُونَ مَا ذُكِرَ مِنَ الْحَمْل لِلْغَيْرِ أَوِ التِّجَارَةِ لِعَيْشِهِ. وَهُوَ مُعْتَمَدٌ فِي الْمَذْهَبِ الْمَالِكِيِّ (1) .
64 - وَالتَّظَلُّل بِمَا لاَ يُلاَمِسُ الرَّأْسَ، وَهُوَ ثَابِتٌ فِي أَصْلٍ تَابِعٍ لَهُ، جَائِزٌ اتِّفَاقًا، كَسَقْفِ الْخَيْمَةِ، وَالْبَيْتِ، مِنْ دَاخِلِهِمَا، أَوِ التَّظَلُّل بِظِلِّهِمَا مِنَ الْخَارِجِ، وَمِثْل مِظَلَّةِ الْمَحْمَل إِذَا كَانَتْ ثَابِتَةً عَلَيْهِ مِنَ الأَْصْل.
وَعَلَى ذَلِكَ يَجُوزُ رُكُوبُ السَّيَّارَاتِ الْمُسْقَفَةِ اتِّفَاقًا؛ لأَِنَّ سُقُوفَهَا مِنْ أَصْل صِنَاعَتِهَا، فَصَارَتْ كَالْبَيْتِ وَالْخَيْمَةِ.
وَإِنْ لَمْ يَكُنِ الْمُظِل ثَابِتًا فِي أَصْلٍ يَتْبَعُهُ فَجَائِزٌ كَذَلِكَ مُطْلَقًا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَقَوْلٍ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ. وَقَال الْمَالِكِيَّةُ (2) : لاَ يَجُوزُ التَّظَلُّل بِمَا لاَ يَثْبُتُ فِي الْمَحْمَل. وَنَحْوُ هَذَا قَوْلٌ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ، وَاخْتَارَهُ الْخِرَقِيُّ، وَضَبَطَهُ عِنْدَهُمْ فِي هَذَا الْقَوْل " أَنَّهُ سَتَرَ رَأْسَهُ بِمَا يُسْتَدَامُ وَيُلاَزِمُهُ غَالِبًا، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ سَتَرَهُ بِشَيْءٍ يُلاَقِيهِ (3) "
__________
(1) كما صرح في حاشية العدوي 1 / 489
(2) والسياق للعدوي في حاشيته 1 / 489، 490
(3) المغني لابن قدامة 3 / 307، 308

(2/155)


وَفِي التَّظَلُّل بِنَحْوِ ثَوْبٍ يُجْعَل عَلَى عَصًا أَوْ عَلَى أَعْوَادِ (مِظَلَّةٍ أَوْ بِشَيْءٍ يَرْفَعُهُ عَلَى رَأْسِهِ مِنَ الشَّمْسِ أَوِ الرِّيحِ) ، أَقْوَالٌ ثَلاَثَةٌ أَقْرَبُهَا الْجَوَازُ، لِلْحَدِيثِ الآْتِي فِي دَلِيل الْجُمْهُورِ. وَيَجُوزُ الاِتِّقَاءُ بِذَلِكَ مِنَ الْمَطَرِ. وَأَمَّا الْبِنَاءُ وَالْخِبَاءُ وَنَحْوُهُمَا فَيَجُوزُ الاِتِّقَاءُ بِهِ مِنَ الْحَرِّ وَالْبَرْدِ وَالْمَطَرِ (1) .
وَأَجَازَ التَّظَلُّل بِذَلِكَ الْحَنَابِلَةُ، وَكَذَا الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ، لِمَا عَرَفْتَ مِنْ أَصْل مَذْهَبِهِمْ. وَاسْتَدَلُّوا بِحَدِيثِ أُمِّ الْحُصَيْنِ قَالَتْ: حَجَجْتُ مَعَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَجَّةَ الْوَدَاعِ، فَرَأَيْتُ أُسَامَةَ وَبِلاَلاً، وَأَحَدُهُمَا آخِذٌ بِخِطَامِ نَاقَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالآْخَرُ رَافِعٌ ثَوْبَهُ يَسْتُرُهُ مِنَ الْحَرِّ، حَتَّى رَمَى جَمْرَةَ الْعَقَبَةِ. أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ (2) .
وَلأَِنَّ مَا حَل لِلْحَلاَل - كَمَا فِي الْمُغْنِي (3) - حَل لِلْمُحْرِمِ إِلاَّ مَا قَامَ عَلَى تَحْرِيمِهِ دَلِيلٌ.

سَتْرُ الْوَجْهِ:
65 - سَابِعًا: يُحْظَرُ عَلَى الْمُحْرِمِ سَتْرُ وَجْهِهِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ (4) وَالْمَالِكِيَّةِ (5) وَلَيْسَ بِمَحْظُورٍ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ (6)
__________
(1) الشرح الكبير، وحاشية الدسوقي 2 / 56، 57، ومواهب الجليل 3 / 143
(2) في الحج (باب استحباب رمي جمرة العقبة يوم النحر) 4 / 79، 80
(3) الهداية 2 / 142، ولباب المناسك وشرحه ص 81، وتنوير الأبصار مع شرحه وحاشيته 2 / 221
(5) متن خليل والشرح الكبير 1 / 55، والرسالة لابن أبي زيد وشرحها 1 / 489
(6) المجموع 7 / 269

(2/155)


وَالْحَنَابِلَةِ (1) وَعَزَاهُ النَّوَوِيُّ فِي الْمَجْمُوعِ إِلَى الْجُمْهُورِ.
اسْتَدَل الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ بِحَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ رَجُلاً وَقَصَتْهُ رَاحِلَتُهُ وَهُوَ مُحْرِمٌ فَمَاتَ، فَقَال رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: اغْسِلُوهُ بِمَاءٍ وَسِدْرٍ، وَكَفِّنُوهُ فِي ثَوْبَيْهِ، وَلاَ تُخَمِّرُوا رَأْسَهُ وَلاَ وَجْهَهُ، فَإِنَّهُ يُبْعَثُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مُلَبِّيًا أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ (2) .
وَجْهُ الاِسْتِدْلاَل أَنَّهُ: " أَفَادَ أَنَّ لِلإِْحْرَامِ أَثَرًا فِي عَدَمِ تَغْطِيَةِ الْوَجْهِ ". وَاسْتَدَلُّوا أَيْضًا مِنَ الْمَعْقُول بِأَنَّ الْمَرْأَةَ لاَ تُغَطِّي وَجْهَهَا، مَعَ أَنَّ فِي الْكَشْفِ فِتْنَةً، فَالرَّجُل بِطَرِيقِ الأَْوْلَى (3) .
وَاسْتَدَل الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ بِمَا وَرَدَ مِنَ الآْثَارِ عَنْ بَعْضِ الصَّحَابَةِ بِإِبَاحَةِ تَغْطِيَةِ الْمُحْرِمِ وَجْهَهُ، مِنْ فِعْلِهِمْ أَوْ قَوْلِهِمْ. رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ، وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ، وَزَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ، وَابْنِ الزُّبَيْرِ، وَسَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ، وَجَابِرٍ (4) .
__________
(1) الكافي 1 / 550، وغاية المنتهى وشرحه 2 / 327، والمغني 3 / 325
(2) ينظر في جامع الأصول 11 / 111، 112، وانظر الحديث في البخاري في الحج (باب المحرم يموت بعرفة) 3 / 27، و (باب سنة المحرم إذا مات) الموضع السابق، في مسلم 4 / 23 - 26 وأبي داود في الجنائز (باب المحرم يموت كيف يصنع به) 3 / 219 بدون ذكر الوجه، - كذا الترمذي في الحج 3 / 286، والنسائي على الوجهين 5 / 195 - 197
(3) الهداية 2 / 143
(4) المغني 3 / 325 وقد أخرج هذه الآثار مالك في الموطأ 1 / 327 والبيهقي 5 / 54 كما في المجموع 7 / 270، وأورد في فتح القدير 1 / 142 لهم حديث ابن عمر: " إحرام المرأة في وجهها،إحرام الرجل في رأسه " أخرجه الدارقطني والبيهقي موقوفا على ابن عمر. لكنه في الدارقطني 2 / 294 مرفوع، والبيهقي 5 / 47

(2/156)


وَرَوَى الْقَاسِمُ وَطَاوُسٌ وَالثَّوْرِيُّ مِنْ غَيْرِ الصَّحَابَةِ.

لُبْسُ الْقُفَّازَيْنِ:
66 - ثَامِنًا: يَحْرُمُ عَلَى الرَّجُل لُبْسُ الْقُفَّازَيْنِ، بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ، كَمَا نَصَّ عَلَى ذَلِكَ النَّوَوِيُّ، وَهُوَ كَذَلِكَ فِي مَصَادِرِ الْمَذَاهِبِ (1) .

ب - مَحْظُورَاتُ الإِْحْرَامِ مِنَ الْمَلْبَسِ فِي حَقِّ النِّسَاءِ:
يَنْحَصِرُ مَحْظُورُ الإِْحْرَامِ مِنَ الْمَلْبَسِ فِي حَقِّ النِّسَاءِ فِي أَمْرَيْنِ فَقَطْ، هُمَا الْوَجْهُ وَالْيَدَانِ، نُفَصِّل بَحْثَهُمَا فِيمَا يَلِي: سَتْرُ الْوَجْهِ:
67 - اتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّهُ يَحْرُمُ عَلَى الْمَرْأَةِ فِي الإِْحْرَامِ سَتْرُ وَجْهِهَا، لاَ خِلاَفَ بَيْنَهُمْ فِي ذَلِكَ.
وَالدَّلِيل عَلَيْهِ مِنَ النَّقْل مَا سَبَقَ فِي الْحَدِيثِ: وَلاَ تَنْتَقِبُ الْمَرْأَةُ الْمُحْرِمَةُ، وَلاَ تَلْبَسُ الْقُفَّازَيْنِ. (2) وَضَابِطُ السَّاتِرِ هُنَا عِنْدَ الْمَذَاهِبِ هُوَ كَمَا مَرَّ فِي سَتْرِ الرَّأْسِ لِلرَّجُل (3) .
وَإِذَا أَرَادَتْ أَنْ تَحْتَجِبَ بِسَتْرِ وَجْهِهَا عَنِ الرِّجَال
__________
(1) رد المحتار 2 / 122، والمسلك المتقسط 81، 84، وخليل ص 55 وفيه قوله: " محيط بعضو " والمجموع 7 / 262، ومطالب أولي النهى 1 / 327
(2) سبق تخريجه (ف 56 ص 152)
(3) ف 62، 63

(2/156)


جَازَ لَهَا ذَلِكَ اتِّفَاقًا بَيْنَ الْعُلَمَاءِ، إِلاَّ إِذَا خَشِيَتِ الْفِتْنَةَ أَوْ ظَنَّتْ فَإِنَّهُ يَكُونُ وَاجِبًا.
وَالدَّلِيل عَلَى هَذَا الاِسْتِثْنَاءِ حَدِيثُ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: كَانَ الرُّكْبَانُ يَمُرُّونَ بِنَا وَنَحْنُ مَعَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُحْرِمَاتٌ، فَإِذَا حَاذَوْا بِنَا سَدَلَتْ إِحْدَانَا جِلْبَابَهَا مِنْ رَأْسِهَا عَلَى وَجْهِهَا، فَإِذَا جَاوَزُونَا كَشَفْنَاهُ أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ (1) .
وَعَنْ فَاطِمَةَ بِنْتِ الْمُنْذِرِ قَالَتْ: كُنَّا نُخَمِّرُ وُجُوهَنَا وَنَحْنُ مُحْرِمَاتٌ، وَنَحْنُ مَعَ أَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ. أَخْرَجَهُ مَالِكٌ وَالْحَاكِمُ (2) . وَمُرَادُهَا مِنْ هَذَا سَتْرُ الْوَجْهِ بِغَيْرِ النِّقَابِ عَلَى مَعْنَى التَّسَتُّرِ (3) .
وَقَدِ اشْتَرَطَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ - وَهُوَ قَوْلٌ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ - أَلاَّ يُلاَمِسَ السَّاتِرُ الْوَجْهَ، كَأَنْ تَضَعَ عَلَى رَأْسِهَا تَحْتَ السَّاتِرِ خَشَبَةً أَوْ شَيْئًا يُبْعِدُ السَّاتِرَ عَنْ مُلاَمَسَةِ وَجْهِهَا " لأَِنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الاِسْتِظْلاَل بِالْمَحْمَل " كَمَا فِي الْهِدَايَةِ.
وَأَجَازَ لَهَا الْمَالِكِيَّةُ أَنْ تَسْتُرَ وَجْهَهَا إِذَا قَصَدَتِ السَّتْرَ عَنْ أَعْيُنِ النَّاسِ، بِثَوْبٍ تَسْدُلُهُ مِنْ فَوْقِ رَأْسِهَا
__________
(1) باب في المحرمة تغطي وجهها 2 / 167. في سنده يزيد بن أبي زياد الكوفي، تكلم في حفظه وهو صدوق يهم، وتغير حفظه بأخرة فصار يتلقن. روى له البخاري تعليقا، ومسلم مقرونا، والأربعة انظر التهذيب 1 / 329 - 331 ط الهند، والمغني في الضعفاء رقم 7101 (تحقيق نور الدين العتر ط حلب مطبعة البلاغة) . لكنه يتقوى بما يليه.
(2) الموطأ (تخمير المحرم وجهه) 1 / 240 - 241 بسند صحيح، وصححه الحاكم في المستدرك على شرطهما 1 / 454 ووافقه الذهبي.
(3) المنتقى للباجي 2 / 200 مطبعة السعادة 1331 هـ

(2/157)


دُونَ رَبْطٍ، وَلاَ غَرْزٍ بِإِبْرَةٍ أَوْ نَحْوِهَا مِمَّا يُغْرَزُ بِهِ. وَمِثْل ذَلِكَ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ، لَكِنْ عَبَّرُوا بِقَوْلِهِمْ: " إِنِ احْتَاجَتْ إِلَى سَتْرِهِ "؛ لأَِنَّ الْعِلَّةَ فِي السَّتْرِ الْمُحَرَّمِ أَنَّهُ مِمَّا يُرْبَطُ، وَهَذَا لاَ يُرْبَطُ، كَمَا تُشِيرُ عِبَارَةُ الْمَالِكِيَّةِ.

لُبْسُ الْقُفَّازَيْنِ:
68 - يُحْظَرُ عَلَى الْمَرْأَةِ الْمُحْرِمَةِ لُبْسُ الْقُفَّازَيْنِ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، وَهُوَ الْمُعْتَمَدُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ.
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ، وَهُوَ رِوَايَةٌ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، إِلَى أَنَّهُ يَجُوزُ لَهَا اللُّبْسُ بِكَفَّيْهَا، كَالْقُفَّازِ وَغَيْرِهِ، وَيَقْتَصِرُ إِحْرَامُهَا عَلَى وَجْهِهَا فَقَطْ.
اسْتَدَل الْجُمْهُورُ بِحَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ بِزِيَادَةٍ: وَلاَ تَنْتَقِبُ الْمَرْأَةُ الْمُحْرِمَةُ، وَلاَ تَلْبَسُ الْقُفَّازَيْنِ. (1)
وَاسْتَدَل الْحَنَفِيَّةُ بِحَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ قَال: إِحْرَامُ الْمَرْأَةِ فِي وَجْهِهَا (2) ، وَبِمَا وَرَدَ مِنْ آثَارٍ عَنِ الصَّحَابَةِ.
وَكَانَ سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ يُلْبِسُ بَنَاتَهُ الْقُفَّازَيْنِ وَهُنَّ مُحْرِمَاتٌ. وَرَخَّصَ فِيهِ عَلِيٌّ وَعَائِشَةُ. وَهُوَ قَوْل عَطَاءٍ وَسُفْيَانَ وَالثَّوْرِيِّ. يَجُوزُ لِلْمُحْرِمَةِ تَغْطِيَةُ يَدِهَا فَقَطْ مِنْ غَيْرِ شَدٍّ، وَأَنْ تُدْخِل يَدَيْهَا فِي أَكْمَامِهَا وَفِي قَمِيصِهَا (3) .
__________
(1) سبق تخريجه / (ف 56 ص 152)
(2) أخرجه الدارقطني والبيهقي موقوفا على ابن عمر انظر توجيهه في فتح القدير 2 / 142
(3) انظر إحرام المرأة في اللباس في الهداية وفتح القدير 2 / 193 - 195، والبدائع 2 / 186، والمسلك المتقسط ص 207 والتعليق إرشاد الساري عليه، ورد المحتار 2 / 221، 222 وفيه تنبيه مهم في رد غلط لبعض الحنفية. وانظر خليل والشرح الكبير وحاشيته 2 / 54، 55، وشرح الرسالة بحاشية العدوي 1 / 489، والمجموع 7 / 265، 266، وشرح المنهاج 2 / 131، 132، والنهاية 2 / 450، وحاشية البيجوري 1 / 551، والمغني 3 / 325 - 327، ومطالب أولي النهى 8 / 352، 353

(2/157)


الْمُحَرَّمَاتُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِبَدَنِ الْمُحْرِمِ
69 - ضَابِطُ هَذِهِ الْمَحْظُورَاتِ كُل شَيْءٍ يَرْجِعُ إِلَى تَطْيِيبِ الْجِسْمِ، أَوْ إِزَالَةِ الشُّعْثِ، أَوْ قَضَاءِ التَّفَثِ. وَالدَّلِيل عَلَى تَحْرِيمِهَا قَوْله تَعَالَى {وَلاَ تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ} . (1)
وَمِنَ السُّنَّةِ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: وَلاَ تَلْبَسُوا شَيْئًا مِنَ الثِّيَابِ مَسَّهُ الزَّعْفَرَانُ وَلاَ الْوَرْسُ. أَخْرَجَهُ السِّتَّةُ. فَتَحْرُمُ الأَْشْيَاءُ الآْتِيَةُ:
أ - حَلْقُ الرَّأْسِ.
ب - إِزَالَةُ الشَّعْرِ مِنْ أَيِّ مَوْضِعٍ مِنَ الْجِسْمِ.
ج - قَصُّ الظُّفُرِ.
د - الاِدِّهَانُ.
هـ - التَّطَيُّبُ.

تَفْصِيل أَحْكَامِ هَذِهِ الْمَحْظُورَاتِ:
حَلْقُ الرَّأْسِ:
70 - يُحْظَرُ عَلَى الْمُحْرِمِ حَلْقُ رَأْسِهِ أَوْ رَأْسِ مُحْرِمٍ غَيْرِهِ. وَكَذَا لَوْ حَلَقَ لَهُ غَيْرُهُ حَلاَلاً أَوْ مُحْرِمًا يُحْظَرُ عَلَيْهِ تَمْكِينُهُ مِنْ ذَلِكَ. وَالتَّقْصِيرُ كَالْحَلْقِ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ. وَقَلِيل الشَّعْرِ كَذَلِكَ يُحْظَرُ حَلْقُهُ أَوْ قَطْعُهُ.
وَكَذَلِكَ إِزَالَةُ الشَّعْرِ عَنِ الرَّأْسِ بِأَيِّ شَيْءٍ كَالنَّتْفِ، وَالْحَرْقِ، أَوِ اسْتِعْمَال النُّورَةِ لإِِزَالَتِهِ. وَمِثْلُهَا أَيُّ عِلاَجٍ مُزِيلٍ لِلشَّعْرِ.
__________
(1) سورة البقرة / 196

(2/158)


وَذَلِكَ كُلُّهُ مَا لَمْ يَفْرُغِ الْحَالِقُ وَالْمَحْلُوقُ لَهُ مِنْ أَدَاءِ نُسُكِهِمَا. فَإِذَا فَرَغَا لاَ يَدْخُلاَنِ فِي الْحَظْرِ. وَيَسُوغُ لَهُمَا أَنْ يَحْلِقَ أَحَدُهُمَا لِلآْخَرِ، بِاتِّفَاقِ الْمَذَاهِبِ عَلَى ذَلِكَ كُلِّهِ.
وَالدَّلِيل هُوَ مَا سَبَقَ مِنْ نَصِّ الآْيَةِ، وَهِيَ وَإِنْ ذَكَرَتِ الْحَلْقَ فَإِنَّ غَيْرَهُ مِمَّا ذَكَرْنَا مِثْلَهُ فِي التَّرَفُّهِ، فَيُقَاسُ عَلَيْهِ، وَيَأْخُذُ حُكْمَهُ (1) .
وَاخْتَلَفُوا فِي حَلْقِ الْمُحْرِمِ لِلْحَلاَل. فَحَظَرَهُ الْحَنَفِيَّةُ. وَهُوَ قَوْلٌ لِلْمَالِكِيَّةِ. وَأَجَازَهُ الْمَالِكِيَّةُ فِي قَوْلٍ آخَرَ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ.
اسْتَدَل الثَّلاَثَةُ بِأَنَّ الْمُحْرِمَ حَلَقَ شَعْرًا لاَ حُرْمَةَ لَهُ مِنْ حَيْثُ الإِْحْرَامُ، فَلاَ يُمْنَعُ، وَلاَ جَزَاءَ عَلَيْهِ (2) .
وَاسْتَدَل الْحَنَفِيَّةُ: بِأَنَّ الْمُحْرِمَ كَمَا هُوَ مَمْنُوعٌ مِنْ حَلْقِ رَأْسِ نَفْسِهِ مَمْنُوعٌ مِنْ حَلْقِ رَأْسِ غَيْرِهِ، لِقَوْلِهِ عَزَّ وَجَل: {وَلاَ تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ} . وَالإِْنْسَانُ لاَ يَحْلِقُ رَأْسَ نَفْسِهِ عَادَةً، إِلاَّ أَنَّهُ لَمَّا حَرُمَ عَلَيْهِ حَلْقُ رَأْسِ غَيْرِهِ يَحْرُمُ عَلَيْهِ حَلْقُ رَأْسِ نَفْسِهِ مِنْ طَرِيقِ الأَْوْلَى. وَسَوَاءٌ كَانَ الْمَحْلُوقُ حَلاَلاً
__________
(1) اللباب وشرحه ص 80، ورد المحتار 2 / 223 وفيه التصريح بالنسبة لإزالة الشعر من الرأس، والشرح الكبير 2 / 60 - 64 بحاشيته، ومواهب الجليل 3 / 162، 163، وشرح المحلي بحاشيته 1 / 134، 135، ونهاية المحتاج 2 / 454، 455، والكافي 1 / 545، ومطالب أولي النهى 2 / 324
(2) كما في المجموع 7 / 351، 356، والنهاية 2 / 455 وانظر تحقيق المسألة عند المالكية في شرح الزرقاني وحاشية البناني عليه 2 / 301، وحاشية الدسوقي على الشرح الكبير 2 / 64، وانظر مطالب أولي النهى 2 / 326 وفيه نفي الفدية، والكافي 1 / 545، وفيه نفي الحرمة. صراحة.

(2/158)


أَوْ حَرَامًا، لِمَا قُلْنَا (1) .

إِزَالَةُ الشَّعْرِ مِنْ أَيِّ مَوْضِعٍ مِنَ الْجِسْمِ:
71 - يُحْظَرُ إِزَالَةُ الشَّعْرِ وَذَلِكَ قِيَاسًا عَلَى شَعْرِ الرَّأْسِ، بِجَامِعِ التَّرَفُّهِ فِي كُلٍّ مِنْهُمَا (2) .

قَصُّ الظُّفُرِ:
72 - يُحْظَرُ عَلَى الْمُحْرِمِ قَصُّ الظُّفُرِ قِيَاسًا عَلَى حَلْقِ الشَّعْرِ بِجَامِعِ التَّرَفُّهِ وَإِزَالَةِ الشُّعْثِ فِي كُلٍّ مِنْهُمَا اتِّفَاقًا (&#
x663 ;) .
وَأَمَّا قَصُّ ظُفُرِ الْمُحْرِمِ لِظُفُرِ حَلاَلٍ فَفِيهِ الْخِلاَفُ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ فِي حَلْقِ الرَّأْسِ.

الاِدِّهَانُ:
73 - الدُّهْنُ مَادَّةٌ دَسِمَةٌ مِنْ أَصْلٍ حَيَوَانِيٍّ أَوْ نَبَاتِيٍّ. وَقَدِ اخْتَلَفُوا فِي الدُّهْنِ (4) غَيْرِ الْمُطَيِّبِ: فَالْجُمْهُورُ - عَدَا الإِْمَامِ أَحْمَدَ - عَلَى تَفْصِيلٍ بَيْنَهُمْ - ذَهَبُوا إِلَى حَظْرِ اسْتِعْمَال الدُّهْنِ وَلَوْ كَانَ غَيْرَ مُطَيِّبٍ، كَالزَّيْتِ، لِمَا فِيهِ مِنَ التَّرَفُّهِ وَالتَّزْيِينِ، وَتَحْسِينِ الشَّعْرِ، وَذَلِكَ يُنَافِي الشَّأْنَ الَّذِي يَجِبُ أَنْ يَكُونَ عَلَيْهِ الْمُحْرِمُ مِنَ الشُّعْثِ وَالْغُبَارِ افْتِقَارًا وَتَذَلُّلاً لِلَّهِ تَعَالَى.
__________
(1) البدائع 2 / 193، وانظر المسلك المتقسط ص 80
(2) انظر مراجع المذاهب الفقهية في المواضع السابقة قبل حاشيتين.
(3) ف 70
(4) لباب المناسك، وشرحه ص 80 وتنوير الأبصار ورد المحتار 2 / 221، والشرح الكبير 2 / 56، 60، ونهاية المحتاج 2 / 454، ومطالب أولي النهى 2 / 325

(2/159)


وَقَدْ أَوْرَدُوا فِي الدُّهْنِ وَأَشْبَاهِهِ الاِسْتِدْلاَل بِحَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ، قَال: قَامَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَال: مَنِ الْحَاجُّ يَا رَسُول اللَّهِ؟ قَال: الشَّعِثُ التَّفِل. أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ (1) .
وَالشَّعِثُ: بِكَسْرِ الْعَيْنِ الْوَصْفُ، وَبِفَتْحِهَا الْمَصْدَرُ، وَمَعْنَاهُ انْتِشَارُ الشَّعْرِ وَتَغَبُّرُهُ لِقِلَّةِ التَّعَهُّدِ. وَالتَّفِل: مِنَ التُّفْل، وَهُوَ تَرْكُ الطِّيبِ حَتَّى يُوجَدَ مِنْهُ رَائِحَةٌ كَرِيهَةٌ (2) . فَشَمِل بِذَلِكَ تَرْكَ الدُّهْنِ.
فَقَال الْحَنَفِيَّةُ (3) وَالْمَالِكِيَّةُ (4) يُحْظَرُ عَلَى الْمُحْرِمِ اسْتِعْمَال الدُّهْنِ فِي رَأْسِهِ وَلِحْيَتِهِ وَعَامَّةِ بَدَنِهِ لِمَا ذَكَرْنَا مِنْ عُمُومِ الاِسْتِدْلاَل فِيمَا سَبَقَ.
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ (5) يُحْظَرُ دَهْنُ شَعْرِ الرَّأْسِ لِلرَّجُل وَالْمَرْأَةِ وَاللِّحْيَةِ وَمَا أُلْحِقَ بِهِمَا كَالشَّارِبِ وَالْعَنْفَقَةِ فَقَطْ، حَتَّى لَوْ كَانَ أَصْلَعَ جَازَ دَهْنُ رَأْسِهِ، أَمَّا إِذَا كَانَا مَحْلُوقَيْنِ فَيُحْظَرُ دَهْنُهُمَا؛ لأَِنَّهُ يُزَيِّنُهُمَا إِذَا نَبَتَا.
وَيُبَاحُ لَهُ دَهْنُ مَا عَدَا الرَّأْسَ وَاللِّحْيَةَ وَمَا أُلْحِقَ بِهِمَا، وَلاَ يُحْظَرُ، ظَاهِرًا كَانَ أَوْ بَاطِنًا، وَيُبَاحُ سَائِرُ شُعُورِ بَدَنِهِ، وَيُبَاحُ لَهُ أَكْل الدُّهْنِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُصِيبَ اللِّحْيَةَ أَوِ الشَّارِبَ أَوِ الْعَنْفَقَةَ. وَاسْتَدَلُّوا بِأَنَّهُ لَيْسَ فِي
__________
(1) الترمذي في تفسير سورة آل عمران 5 / 225، وابن ماجه (باب ما يوجب الحج) وقال الترمذي " هذا حديث لا نعرفه من حديث ابن عمر إلا من حديث إبراهيم بن يزيد الخوزي المكي، وقد تكلم بعض أهل الحديث في إبراهيم بن يزيد من قبل حفظه ".
(2) العناية على الهداية 2 / 141، ونحوه في النهاية في مريب الحديث مادة (تفل) و (شعث)
(3) شرح اللباب ص 81
(4) شرح الكبير وحاشيته 2 / 60، 61
(5) النهاية للرملي 2 / 453، 454

(2/159)


الدُّهْنِ طِيبٌ وَلاَ تَزْيِينٌ، فَلاَ يَحْرُمُ إِلاَّ فِيمَا ذَكَرْنَا؛ لأَِنَّهُ بِهِ يَحْصُل التَّزْيِينُ (1) . وَإِنَّ الَّذِي جَاءَ بِهِ الشَّرْعُ اسْتِعْمَال الطِّيبِ، وَهَذَا لَيْسَ مِنْهُ، فَلاَ يَثْبُتُ تَحْرِيمُهُ (2) .
وَقَال الْحَنَابِلَةُ - عَلَى الْمُعْتَمَدِ عِنْدَهُمْ مِنْ إِبَاحَتِهِ فِي كُل الْبَدَنِ: " إِنَّ وُجُوبَ الْفِدْيَةِ يَحْتَاجُ إِلَى دَلِيلٍ، وَلاَ دَلِيل فِيهِ مِنْ نَصٍّ وَلاَ إِجْمَاعٍ. وَلاَ يَصِحُّ قِيَاسُهُ عَلَى الطِّيبِ، فَإِنَّ الطِّيبَ يُوجِبُ الْفِدْيَةَ وَإِنْ لَمْ يُزِل شَيْئًا، وَيَسْتَوِي فِيهِ الرَّأْسُ وَغَيْرُهُ، وَالدَّهْنُ بِخِلاَفِهِ (3) ".

هـ - التَّطَيُّبُ:
74 - الطِّيبُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ: مَا لَهُ رَائِحَةٌ مُسْتَلَذَّةٌ وَيُتَّخَذُ مِنْهُ الطِّيبُ (4) . وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ: مَا يُقْصَدُ مِنْهُ رَائِحَتُهُ غَالِبًا، وَلَوْ مَعَ غَيْرِهِ (5) . وَيُشْتَرَطُ فِي الطِّيبِ الَّذِي يُحْكَمُ بِتَحْرِيمِهِ أَنْ يَكُونَ مُعْظَمُ الْغَرَضِ مِنْهُ الطِّيبَ، وَاتِّخَاذَ الطِّيبِ مِنْهُ، أَوْ يَظْهَرُ فِيهِ هَذَا الْغَرَضُ. وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ: مَا تَطِيبُ رَائِحَتُهُ وَيُتَّخَذُ لِلشَّمِّ (6) .
وَقَسَّمَهُ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى قِسْمَيْنِ: مُذَكَّرٍ وَمُؤَنَّثٍ. فَالْمُذَكَّرُ: هُوَ مَا يَخْفَى أَثَرُهُ أَيْ تَعَلُّقُهُ بِمَا مَسَّهُ مِنْ ثَوْبٍ أَوْ جَسَدٍ وَيَظْهَرُ رِيحُهُ. وَالْمُرَادُ بِهِ أَنْوَاعُ
__________
(1) المهذب نسخة المجموع 7 / 275، 276
(2) المجموع 7 / 284
(3) المغني 3 / 322، ومطالب أولي النهى 2 / 332، 333، ولم يذكر إلا القول بالجواز.
(4) المسلك المتقسط ص 208، ونحوه في رد المحتار 2 / 275
(5) مغني المحتاج 1 / 520، والمجموع 7 / 278
(6) المغني 3 / 315

(2/160)


الرَّيَاحِينِ: كَالرَّيْحَانِ، وَالْوَرْدِ، وَالْيَاسَمِينِ. وَأَمَّا الْمِيَاهُ الَّتِي تُعْتَصَرُ مِمَّا ذُكِرَ فَلَيْسَ مِنْ قَبِيل الْمُؤَنَّثِ. وَالْمُؤَنَّثُ: هُوَ مَا يَظْهَرُ لَوْنُهُ وَأَثَرُهُ، أَيْ تَعَلُّقُهُ بِمَا مَسَّهُ مَسًّا شَدِيدًا، كَالْمِسْكِ، وَالْكَافُورِ، وَالزَّعْفَرَانِ (1) . فَالْمُؤَنَّثُ يُكْرَهُ شَمُّهُ، وَاسْتِصْحَابُهُ، وَمُكْثٌ فِي الْمَكَانِ الَّذِي هُوَ فِيهِ، وَيُحْرِمُ مِنْهُ. وَالْمُذَكَّرُ يُكْرَهُ شَمُّهُ، وَأَمَّا مَسُّهُ مِنْ غَيْرِ شَمٍّ وَاسْتِصْحَابُهُ وَمُكْثٌ بِمَكَانٍ هُوَ فِيهِ فَهُوَ جَائِزٌ (2) .

تَفْصِيل أَحْكَامِ التَّطَيُّبِ لِلْمُحْرِمِ:
تَطْيِيبُ الثَّوْبِ:
75 - وَهُوَ أَصْلٌ فِي الْبَابِ، لِلتَّنْصِيصِ عَلَيْهِ فِي
__________
(1) الشرح الكبير 2 / 59 بحاشيته. وهناك تفسير آخر للمذكر والمؤنث عند المالكية: فالمذكر ما ظهر لونه وخفيت رائحته كالورد، والمؤنث ما خفي لونه وظهرت رائحته كالمسك، وعليه درج العدوى في حاشيته على الرسالة 1 / 486، وقال الزرقاني في شرح خليل 1 / 297 وهو أقرب. ثم قال: " وقوله في المذكر: ما ظهر لونه أي المقصود الأعظم منه ذلك " فلا ينافي أن الورد له رائعة ذكية، لكنها خفية، ولعل معنى كونها خفية أنها لا تنتشر لبعده كانتشار المسك. وقوله في المؤنث: ما خفي لونه أي الغالب لا ما يظهر لونه كالورد فإنه يتمتع برؤية لونه بخلاف المسك ".
(2) حاشية الدسوقي 2 / 60 وقد وفق البناني بين تقسيم المالكية للطيب هنا وبين حديث: " خير طيب الرجال ما ظهر ريحه وخفي لونه وخير طيب النساء، ما ظهر لونه وخفي ريحه ". أخرجه الترمذي وحسنه، والحاكم وصححه فقال: " والمتجه أن ما للفقهاء اصطلاح خاص بباب الحج والله أعلم " حاشية البناني 2 / 296.

(2/160)


الْحَدِيثِ السَّابِقِ، وَمِنْ هُنَا قَالُوا: الْمُحْرِمُ مَمْنُوعٌ مِنَ اسْتِعْمَال الطِّيبِ فِي إِزَارِهِ، أَوْ رِدَائِهِ، وَجَمِيعِ ثِيَابِهِ، وَفِرَاشِهِ، وَنَعْلِهِ حَتَّى لَوْ عَلِقَ بِنَعْلِهِ طِيبٌ وَجَبَ أَنْ يُبَادِرَ لِنَزْعِهِ، وَلاَ يَضَعُ عَلَيْهِ ثَوْبًا مَسَّهُ الْوَرْسُ أَوِ الزَّعْفَرَانُ، أَوْ نَحْوُهُمَا مِنْ صَبْغٍ لَهُ طِيبٌ.
كَذَلِكَ لاَ يَجُوزُ لَهُ حَمْل طِيبٍ تَفُوحُ رَائِحَتُهُ، أَوْ شَدُّهُ بِطَرَفِ ثَوْبِهِ، كَالْمِسْكِ، بِخِلاَفِ شَدِّ عُودٍ أَوْ صَنْدَلٍ.
أَمَّا الثَّوْبُ الَّذِي فِيهِ طِيبٌ قَبْل الإِْحْرَامِ فَلاَ يَجُوزُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ لُبْسُهُ. وَيَجُوزُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ تَطْيِيبُ ثَوْبِ الإِْحْرَامِ عِنْدَ إِرَادَةِ الإِْحْرَامِ. وَلاَ يَضُرُّ بَقَاءُ الرَّائِحَةِ فِي الثَّوْبِ بَعْدَ الإِْحْرَامِ، كَمَا لاَ يَضُرُّ بَقَاءُ الرَّائِحَةِ الطَّيِّبَةِ فِي الْبَدَنِ اتِّفَاقًا، قِيَاسًا لِلثَّوْبِ عَلَى الْبَدَنِ، لَكِنْ نَصُّوا عَلَى أَنَّهُ لَوْ نَزَعَ ثَوْبَ الإِْحْرَامِ أَوْ سَقَطَ عَنْهُ فَلاَ يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَعُودَ إِلَى لُبْسِهِ مَا دَامَتِ الرَّائِحَةُ فِيهِ، بَل يُزِيل مِنْهُ الرَّائِحَةَ ثُمَّ يَلْبَسُهُ.

تَطْيِيبُ الْبَدَنِ:
76 - يُحْظَرُ عَلَى الْمُحْرِمِ اسْتِعْمَال الطِّيبِ فِي بَدَنِهِ، وَعَلَيْهِ الْفِدْيَةُ، وَلَوْ لِلتَّدَاوِي.
وَلاَ يُخَضِّبُ رَأْسَهُ أَوْ لِحْيَتَهُ أَوْ شَيْئًا مِنْ جِسْمِهِ، وَلاَ يَغْسِلُهُ بِمَا فِيهِ طِيبٌ، وَمِنْهُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ الْخِطْمِيُّ وَالْحِنَّاءُ، عَلَى مَا مَرَّ مِنَ الْخِلاَفِ فِيهِمَا.
77 - وَأَكْل الطِّيبِ الْخَالِصِ أَوْ شُرْبُهُ لاَ يَحِل لِلْمُحْرِمِ اتِّفَاقًا بَيْنَ الأَْئِمَّةِ. أَمَّا إِذَا خَلَطَ الطِّيبَ بِطَعَامٍ قَبْل الطَّبْخِ، وَطَبَخَهُ مَعَهُ، فَلاَ شَيْءَ عَلَيْهِ، قَلِيلاً كَانَ أَوْ كَثِيرًا، عِنْدَ

(2/161)


الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ (1) . وَكَذَا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ لَوْ خَلَطَهُ بِطَعَامٍ مَطْبُوخٍ بَعْدَ طَبْخِهِ فَإِنَّهُ يَجُوزُ لِلْمُحْرِمِ أَكْلُهُ.
أَمَّا إِذَا خَلَطَهُ بِطَعَامٍ غَيْرِ مَطْبُوخٍ: فَإِنْ كَانَ الطَّعَامُ أَكْثَرَ فَلاَ شَيْءَ، وَلاَ فِدْيَةَ إِنْ لَمْ تُوجَدِ الرَّائِحَةُ، وَإِنْ وُجِدَتْ مَعَهُ الرَّائِحَةُ الطَّيِّبَةُ يُكْرَهُ أَكْلُهُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ. وَإِنْ كَانَ الطِّيبُ أَكْثَرَ وَجَبَ فِي أَكْلِهِ الدَّمُ سَوَاءٌ ظَهَرَتْ رَائِحَتُهُ أَوْ لَمْ تَظْهَرْ. وَأَمَّا عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ فَكُل طَعَامٍ خُلِطَ بِطِيبٍ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُطْبَخَ الطِّيبُ مَعَهُ فَهُوَ مَحْظُورٌ فِي كُل الصُّوَرِ، وَفِيهِ الْفِدَاءُ.
أَمَّا إِنْ خَلَطَ الطِّيبَ بِمَشْرُوبٍ، كَمَاءِ الْوَرْدِ وَغَيْرِهِ، وَجَبَ فِيهِ الْجَزَاءُ، قَلِيلاً كَانَ الطِّيبُ أَوْ كَثِيرًا، عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ. وَقَال الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ: إِذَا خَلَطَ الطِّيبَ بِغَيْرِهِ مِنْ طَعَامٍ أَوْ شَرَابٍ، وَلَمْ يَظْهَرْ لَهُ رِيحٌ وَلاَ طَعْمٌ، فَلاَ حُرْمَةَ وَلاَ فِدْيَةَ، وَإِلاَّ فَهُوَ حَرَامٌ وَفِيهِ الْفِدْيَةُ.

شَمُّ الطِّيبِ:
78 - شَمُّ الطِّيبِ دُونَ مَسٍّ يُكْرَهُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ
__________
(1) على التحقيق في مذهب المالكية. وفي قول يباح أن أماته. الطبخ أي استهلك في الطعام وذهبت عينه، بحيث لا يظهر منة إلا الريح. وبه أخذ الدردير في الشرح الكبير 2 / 61، والزرقاني في شرحه 2 / 299، وعزاه للحطاب فقارنه 3 / 160، وتحقيق المذهب ما ذكرنا من عدم اشتراط إماتته في الطبخ. انظر حاشية البناني على الزرقاني وحاشية الدسوقي 2 / 61، 62

(2/161)


وَالْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ، وَلاَ جَزَاءَ فِيهِ عِنْدَهُمْ (1) .
أَمَّا الْحَنَابِلَةُ فَقَالُوا: يَحْرُمُ تَعَمُّدُ شَمِّ الطِّيبِ، وَيَجِبُ فِيهِ الْفِدَاءُ، كَالْمِسْكِ وَالْكَافُورِ، وَنَحْوِهِمَا مِمَّا يُتَطَيَّبُ بِشَمِّهِ.

الصَّيْدُ وَمَا يَتَعَلَّقُ بِهِ
79 - تَعْرِيفُ الصَّيْدِ لُغَةً: الصَّيْدُ لُغَةً: مَصْدَرٌ بِمَعْنَى، الاِصْطِيَادِ، وَالْقَنْصِ، وَبِمَعْنَى الْمَصِيدِ، وَكُلٌّ مِنَ الْمَعْنَيَيْنِ دَاخِلٌ فِيمَا يُحْظَرُ بِالإِْحْرَامِ.

تَعْرِيفُ الصَّيْدِ اصْطِلاَحًا:
80 - الصَّيْدُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ (2) هُوَ الْحَيَوَانُ الْبَرِّيُّ الْمُمْتَنِعُ عَنْ أَخْذِهِ بِقَوَائِمِهِ، أَوْ جَنَاحَيْهِ، الْمُتَوَحِّشُ فِي أَصْل الْخِلْقَةِ. وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ (3) هُوَ الْحَيَوَانُ الْبَرِّيُّ الْمُتَوَحِّشُ فِي أَصْل الْخِلْقَةِ. وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ (4) وَالْحَنَابِلَةِ (5) هُوَ الْحَيَوَانُ الْبَرِّيُّ الْمُتَوَحِّشُ الْمَأْكُول اللَّحْمِ.

أَدِلَّةُ تَحْرِيمِ الصَّيْدِ:
81 - وَقَدْ ثَبَتَ تَحْرِيمُ الصَّيْدِ عَلَى الْمُحْرِمِ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالإِْجْمَاعِ:
__________
(1) المسلك المتقسط ص 82
(2) المسلك المتقسط ص / 241 والدر المختار 2 / 291
(3) الزرقاني 2 / 311، والشرح الكبير وحاشيته 2 / 72
(4) كما يؤخذ من النهاية 2 / 258، 259، وانظر المجموع 7 / 298 وفيه تفصيل للتعريف.
(5) مطالب أولي النهى 2 / 333 وانظر المغني 3 / 506 وفيه قوله " ممتعا "

(2/162)


أَمَّا الْكِتَابُ: فَقَوْلُهُ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ} (1) . وَقَال عَزَّ مِنْ قَائِلٍ: {وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا} (2) . وَكُلٌّ مِنْهُمَا نَصٌّ قَاطِعٌ فِي الْمَوْضُوعِ. وَأَمَّا السُّنَّةُ فَمِنْهَا حَدِيثُ أَبِي قَتَادَةَ حِينَ أَحْرَمَ أَصْحَابُهُ وَلَمْ يُحْرِمْ، وَرَأَى حِمَارَ وَحْشٍ. وَفِي الْحَدِيثِ فَأَسْرَجْتُ فَرَسِي، وَأَخَذْتُ رُمْحِي، ثُمَّ رَكِبْتُ، فَسَقَطَ مِنِّي سَوْطِي، فَقُلْتُ لأَِصْحَابِي - وَكَانُوا مُحْرِمِينَ - نَاوِلُونِي السَّوْطَ. فَقَالُوا: وَاللَّهِ لاَ نُعِينُكَ عَلَيْهِ بِشَيْءٍ، فَنَزَلْتُ، فَتَنَاوَلْتُهُ ثُمَّ رَكِبْتُ. وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى: فَنَزَلُوا، فَأَكَلُوا مِنْ لَحْمِهَا، وَقَالُوا: أَنَأْكُل لَحْمَ صَيْدٍ وَنَحْنُ مُحْرِمُونَ؟ فَحَمَلْنَا مَا بَقِيَ مِنْ لَحْمِ الأَْتَانِ، فَلَمَّا أَتَوْا رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالُوا: يَا رَسُول اللَّهِ إِنَّا كُنَّا أَحْرَمْنَا، وَقَدْ كَانَ أَبُو قَتَادَةَ لَمْ يُحْرِمْ، فَرَأَيْنَا حُمُرَ وَحْشٍ، فَحَمَل عَلَيْهَا أَبُو قَتَادَةَ فَعَقَرَ مِنْهَا أَتَانًا، فَنَزَلْنَا، فَأَكَلْنَا مِنْ لَحْمِهَا، ثُمَّ قُلْنَا: أَنَأْكُل لَحْمَ صَيْدٍ وَنَحْنُ مُحْرِمُونَ؟ فَحَمَلْنَا مَا بَقِيَ مِنْ لَحْمِهَا. قَال: أَمِنْكُمْ أَحَدٌ أَمَرَهُ أَنْ يَحْمِل عَلَيْهَا أَوْ أَشَارَ إِلَيْهَا؟ قَالُوا: لاَ قَال: فَكُلُوا مَا بَقِيَ مِنْ لَحْمِهَا مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ (3) . وَأَمَّا الإِْجْمَاعُ فَقَدْ حَكَاهُ النَّوَوِيُّ وَابْنُ قُدَامَةَ كَمَا ذَكَرَ ابْنُ قُدَامَةَ إِجْمَاعَ أَهْل الْعِلْمِ عَلَى وُجُوبِ الْجَزَاءِ بِقَتْلِهِ (4) .
__________
(1) سورة المائدة / 95
(2) سورة المائدة / 96
(3) البخاري 3 / 12، ومسلم 4 / 14
(4) المجموع 7 / 290، والمغني 3 / 309

(2/162)


إِبَاحَةُ صَيْدِ الْبَحْرِ:
82 - وَأَمَّا صَيْدُ الْبَحْرِ: فَحَلاَلٌ لِلْحَلاَل وَلِلْمُحْرِمِ بِالنَّصِّ، وَالإِْجْمَاعِ: أَمَّا النَّصُّ فَقَوْلُهُ تَعَالَى: {أُحِل لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعًا لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا} (1) . وَالإِْجْمَاعُ حَكَاهُ النَّوَوِيُّ (2) وَأَبُو بَكْرٍ الْجَصَّاصُ (3) .

أَحْكَامُ تَحْرِيمِ الصَّيْدِ عَلَى الْمُحْرِمِ:
83 - يَشْمَل تَحْرِيمُ الصَّيْدِ عَلَى الْمُحْرِمِ أُمُورًا نُصَنِّفُهَا فِيمَا يَلِي:
تَحْرِيمُ قَتْل الصَّيْدِ، لِصَرِيحِ النُّصُوصِ الْوَارِدَةِ فِي ذَلِكَ. وَتَحْرِيمُ إِيذَاءِ الصَّيْدِ، أَوِ الاِسْتِيلاَءِ عَلَيْهِ. وَمِنْ ذَلِكَ: كَسْرُ قَوَائِمِ الصَّيْدِ، أَوْ كَسْرُ جَنَاحِهِ، أَوْ شَيُّ بَيْضِهِ أَوْ كَسْرُهُ، أَوْ نَتْفُ رِيشِهِ، أَوْ جَزُّ شَعْرِهِ، أَوْ تَنْفِيرُ الصَّيْدِ، أَوْ أَخْذُهُ، أَوْ دَوَامُ إِمْسَاكِهِ، أَوِ التَّسَبُّبُ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ أَوْ فِي شَيْءٍ مِنْهُ (4) بِدَلِيل الآْيَةِ: {وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا} . وَالآْيَةُ تُفِيدُ تَحْرِيمَ سَائِرِ أَفْعَالِنَا فِي الصَّيْدِ فِي حَال الإِْحْرَامِ ". (5)
وَالدَّلِيل مِنَ الْقِيَاسِ: " أَنَّ مَا مُنِعَ مِنْ إِتْلاَفِهِ لِحَقِّ الْغَيْرِ مُنِعَ مِنْ إِتْلاَفِ أَجْزَائِهِ، كَالآْدَمِيِّ، فَإِنْ
__________
(1) سورة المائدة / 96
(2) المجموع 7 / 298
(3) أحكام القرآن 2 / 478، 479
(4) المسلك المتقسط ص 81، والشرح الكبير وحاشيته 2 / 72، والمهذب والمجمع 7 / 299، والكافي 1 / 553 - 557
(5) أحكام القرآن.

(2/163)


أَتْلَفَ جُزْءًا مِنْهُ ضَمِنَهُ بِالْجَزَاءِ. . . " (1) . وَلِلْقِيَاسِ عَلَى حَظْرِ تَنْفِيرِ صَيْدِ الْحَرَمِ، لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي مَكَّةَ: إِنَّ هَذَا الْبَلَدَ حَرَّمَهُ اللَّهُ، لاَ يُعْضَدُ شَوْكُهُ، وَلاَ يُنَفَّرُ صَيْدُهُ، وَلاَ تُلْتَقَطُ لُقَطَتُهُ إِلاَّ مَنْ عَرَّفَهَا (2) فَإِذَا حَرُمَ تَنْفِيرُ صَيْدِ الْحَرَمِ وَجَبَ أَنْ يَحْرُمَ فِي الإِْحْرَامِ (3)
84 - وَتَحْرُمُ الْمُسَاعَدَةُ عَلَى الصَّيْدِ بِأَيِّ وَجْهٍ مِنَ الْوُجُوهِ: مِثْل الدَّلاَلَةِ عَلَيْهِ، أَوِ الإِْشَارَةِ، أَوْ إِعَارَةِ سِكِّينٍ، أَوْ مُنَاوَلَةِ سَوْطٍ. وَكَذَا يَحْرُمُ الأَْمْرُ بِقَتْل الصَّيْدِ اتِّفَاقًا فِي ذَلِكَ (4) . وَالدَّلِيل عَلَيْهِ حَدِيثُ أَبِي قَتَادَةَ السَّابِقُ.

تَحْرِيمُ تَمَلُّكِ الصَّيْدِ:
85 - يَحْرُمُ تَمَلُّكُ الصَّيْدِ ابْتِدَاءً، بِأَيِّ طَرِيقٍ مِنْ طُرُقِ التَّمَلُّكِ، فَلاَ يَجُوزُ بَيْعُهُ، أَوْ شِرَاؤُهُ، أَوْ قَبُولُهُ هِبَةً، أَوْ وَصِيَّةً، أَوْ صَدَقَةً، أَوْ إِقَالَةً (5) . وَالدَّلِيل عَلَى تَحْرِيمِ ذَلِكَ الآْيَةُ: {وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا} .
__________
(1) المجموع شرح المهذب 7 / 295
(2) أخرجه الشيخان البخاري واللفظ له (فضل الحرم) 2 / 147، ومسلم (تحريم مكة) 4 / 109
(3) المهذب وشرحه 7 / 295
(4) المسلك المتقسط ص 81، والشرح الكبير بحاشيته 2 / 77، والمهذب وشرحه المجموع 7 / 295 - 296، 303، والمغني 3 / 309 - 310
(5) الهداية 2 / 283، والمسلك المتقسط ص 248، والمهذب والمجموع 7 / 310، 311،312، والشرح الكبير 2 / 73، والمغني 3 / 525، 526

(2/163)


قَال فِي فَتْحِ الْقَدِيرِ (1) . " أَضَافَ التَّحْرِيمَ إِلَى الْعَيْنِ، فَيَكُونُ سَاقِطَ التَّقَوُّمِ فِي حَقِّهِ، كَالْخَمْرِ. وَأَنْتَ عَلِمْتَ أَنَّ إِضَافَةَ التَّحْرِيمِ إِلَى الْعَيْنِ تُفِيدُ مَنْعَ سَائِرِ الاِنْتِفَاعَاتِ ".
وَيُسْتَدَل أَيْضًا مِنَ السُّنَّةِ بِحَدِيثِ الصَّعْبِ بْنِ جَثَّامَةَ أَنَّهُ أَهْدَى إِلَى رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِمَارَ وَحْشٍ، فَرَدَّهُ عَلَيْهِ، فَلَمَّا رَأَى مَا فِي وَجْهِهِ قَال: إِنَّا لَمْ نَرُدَّهُ عَلَيْكَ إِلاَّ أَنَّا حُرُمٌ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ (2) . وَيُسْتَدَل بِإِجْمَاعِ الْعُلَمَاءِ (3) .

تَحْرِيمُ الاِنْتِفَاعِ بِشَيْءٍ مِنْ الصَّيْدِ:
86 - يَحْرُمُ عَلَى الْمُحْرِمِ أَكْل لَحْمِهِ، وَحَلْبُهُ، وَأَكْل بَيْضِهِ، وَشَيُّهُ.
وَذَلِكَ لِعُمُومِ الأَْدِلَّةِ الَّتِي سَبَقَتْ فِي تَحْرِيمِ تَمَلُّكِ الصَّيْدِ؛ وَلأَِنَّ الاِنْتِفَاعَ فَرْعٌ مِنَ الْمِلْكِ، فَإِذَا حُرِّمَ الْمِلْكُ لَمْ يَبْقَ مَحَلٌّ لأَِثَرِهِ.

87 - إِذَا صَادَ الْحَلاَل صَيْدًا فَهَل يَحِل لِلْمُحْرِمِ أَكْلُهُ؟
فِي الْمَسْأَلَةِ مَذَاهِبُ:
الْمَذْهَبُ الأَْوَّل: لاَ يَحِل لِلْمُحْرِمِ الصَّيْدُ أَصْلاً، سَوَاءٌ أَمَرَ بِهِ أَمْ لاَ، وَسَوَاءٌ أَعَانَ عَلَى صَيْدِهِ أَمْ لاَ، وَسَوَاءٌ أَصَادَهُ الْحَلاَل لَهُ أَمْ لَمْ يَصِدْهُ لَهُ. وَهَذَا قَوْل طَائِفَةٍ مِنْ أَهْل الْعِلْمِ، مِنْهُمْ مِنَ الصَّحَابَةِ: عَلِيٌّ وَابْنُ عُمَرَ وَابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ
__________
(1) الجامع لأحكام القرآن 6 / 321
(3) انظر الاستدلال به في المهذب والمجموع وتفسير القرطبي والمغني في المواضع السابقة. وبأتي تخريجه مفصلا.

(2/164)


(1) . وَكَرِهَ ذَلِكَ طَاوُسٌ وَجَابِرُ بْنُ زَيْدٍ وَسُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ (2) .
الْمَذْهَبُ الثَّانِي: مَا صَادَهُ الْحَلاَل لِلْمُحْرِمِ وَمِنْ أَجْلِهِ فَلاَ يَجُوزُ لِلْمُحْرِمِ أَكْلُهُ، فَأَمَّا مَا لَمْ يَصِدْهُ مِنْ أَجْل الْمُحْرِمِ بَل صَادَهُ لِنَفْسِهِ أَوْ لِحَلاَلٍ آخَرَ فَلاَ يَحْرُمُ عَلَى الْمُحْرِمِ أَكْلُهُ. وَهَذَا مَذْهَبُ الْجُمْهُورِ، الْمَالِكِيَّةِ (3) وَالشَّافِعِيَّةِ (4) الْحَنَابِلَةِ (5) . وَهُوَ قَوْل إِسْحَاقَ بْنِ رَاهَوَيْهِ، وَأَبِي ثَوْرٍ (6) . وَقَال ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: وَهُوَ الصَّحِيحُ عَنْ عُثْمَانَ فِي هَذَا الْبَابِ (7) .
إِلاَّ أَنَّ الْمَالِكِيَّةَ قَالُوا: مَا صِيدَ لِلْمُحْرِمِ هُوَ مَيْتَةٌ عَلَى كُل أَحَدٍ، الْمُحْرِمِ الْمَذْبُوحِ لَهُ وَغَيْرِهِ، وَعَلَى الْمُحْرِمِ الْجَزَاءُ إِنْ عَلِمَ أَنَّهُ صِيدَ لِمُحْرِمٍ وَلَوْ غَيْرَهُ، وَأَكَل. وَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ وَأَكَل مِنْهُ فَلاَ جَزَاءَ عَلَيْهِ. وَوَافَقَهُمُ الْحَنَابِلَةُ فِي لُزُومِ الْجَزَاءِ، وَفَصَّلُوا فَأَوْجَبُوهُ كَامِلاً إِنْ أَكَلَهُ كُلَّهُ، وَقِسْطَهُ إِنْ أَكَل بَعْضَهُ، لَكِنَّهُمْ لَمْ يَجْعَلُوهُ حَرَامًا إِلاَّ عَلَى مَنْ ذُبِحَ لَهُ.
__________
(1) شرح مسلم للنووي 8 / 105
(2) المجموع 7 / 331، وتعليق ابن القيم على سنن أبي داود 2 / 364 ونسب لهؤلاء الثلاثة المنع، بينما نسب لهم في المجموع القول بالكراهة نقلا عن ابن المنذر. ويمكن أن يكون المراد من الكراهه ذلك، لأن السلف كانوا يستعملون الكراهة في التحريم.
(3) شرح الزرقاني 2 / 317، 318، والشرح الكبير 2 / 78
(4) المهذب والمجموع 7 / 304، 307، 330، ونهاية المحتاج 2 / 466
(5) المغني لابن قدامة 3 / 311، 312، ومطالب أولي النهى 2 / 337
(6) تعليق ابن القيم 2 / 364، والمجموع 7 / 330.
(7) تعليق ابن القيم الموضع السابق.

(2/164)


وَقَال الشَّافِعِيَّةُ - عَلَى مَا هُوَ الأَْصَحُّ الْجَدِيدُ فِي الْمَذْهَبِ - لاَ جَزَاءَ فِي الأَْكْل. وَلَمْ يُعَمِّمُوا الْحُرْمَةَ عَلَى غَيْرِ مَنْ صِيدَ لَهُ الصَّيْدُ (1) .
الْمَذْهَبُ الثَّالِثُ: يَحِل لِلْمُحْرِمِ أَكْل مَا صَادَهُ الْحَلاَل مِنَ الصَّيْدِ، مَا لَمْ يَأْمُرْ بِهِ، أَوْ تَكُونُ مِنْهُ إِعَانَةٌ عَلَيْهِ أَوْ إِشَارَةٌ أَوْ دَلاَلَةٌ، وَهُوَ مَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ (2) .
وَقَال ابْنُ الْمُنْذِرِ: " كَانَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ وَأَبُو هُرَيْرَةَ وَمُجَاهِدٌ وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ يَقُولُونَ: لِلْمُحْرِمِ أَكْل مَا صَادَهُ الْحَلاَل، وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنِ الزُّبَيْرِ بْنِ الْعَوَّامِ، وَبِهِ قَال أَصْحَابُ الرَّأْيِ (3) ".
اسْتَدَل أَصْحَابُ الْمَذْهَبِ الأَْوَّل الْقَائِلُونَ بِتَحْرِيمِ أَكْل لَحْمِ الصَّيْدِ عَلَى الْمُحْرِمِ مُطْلَقًا بِإِطْلاَقِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ فِيمَا سَبَقَ (4) .
وَاسْتَدَل الْجُمْهُورُ أَصْحَابُ الْمَذْهَبِ الثَّانِي بِأَنَّ مَا صَادَهُ الْحَلاَل يَحِل أَكْلُهُ لِلْمُحْرِمِ بِشَرْطِ أَلاَّ يَكُونَ صِيدَ لأَِجْلِهِ بِأَدِلَّةٍ مِنَ السُّنَّةِ مِنْهَا:
حَدِيثُ أَبِي قَتَادَةَ السَّابِقُ فَقَدْ أَحَل النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلْمُحْرِمِينَ أَكْل مَا صَادَهُ الْحَلاَل. وَاسْتَدَل الْجُمْهُورُ أَيْضًا بِحَدِيثِ جَابِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ
__________
(1) المجموع 7 / 307، 308، ومراجع المذاهب السابقة أصحاب هذا الرأي.
(2) الهداية 2 / 273، ولباب المناسك وشرحه المسلك المتقسط ص 254، وتنوير الأبصار وشرح الدر؟ ؟ ، وحاشية رد المحتار 2 / 301
(3) المجموع 7 / 330، وانظر تعليق ابن القيم 2 / 364 وفيه ذكر عثمان بن عفان نقلا عن ابن عبد البر.
(4) الجامع لأحكام القرآن للقرطبي 6 / 322 ط دار الكتب المصرية، وتفسير ابن كثير 2 / 103 - 104 وفيه تخريج الآثار التي ذكرناها كلها من أقوال الصحابة والتابعين. وتعليق ابن القيم 2 / 364

(2/165)


قَال: سَمِعْتُ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُول: صَيْدُ الْبَرِّ لَكُمْ حَلاَلٌ، مَا لَمْ تَصِيدُوهُ أَوْ يُصَدْ لَكُمْ. أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ (1) وَصَحَّحَهُ الْحَاكِمُ (2) . وَقَدْ تُكُلِّمَ فِي سَنَدِهِ، لَكِنْ رَجَّحَ النَّوَوِيُّ صِحَّتَهُ (3) .
وَاسْتَدَل أَصْحَابُ الْمَذْهَبِ الثَّالِثِ الْحَنَفِيَّةُ وَمَنْ مَعَهُمْ - الْقَائِلُونَ: يَحِل لِلْمُحْرِمِ أَنْ يَأْكُل مِنْ صَيْدٍ صَادَهُ الْحَلاَل، وَذَبَحَهُ، مَا لَمْ يَكُنْ مِنَ الْمُحْرِمِ دَلاَلَةٌ وَلاَ أَمْرٌ لِلْحَلاَل بِهِ، وَإِنْ صَادَهُ الْحَلاَل لأَِجْل الْمُحْرِمِ - بِأَدِلَّةٍ كَثِيرَةٍ مِنَ السُّنَّةِ وَالآْثَارِ.
مِنْهَا حَدِيثُ أَبِي قَتَادَةَ السَّابِقُ، فِي صَيْدِهِ حِمَارَ وَحْشٍ وَهُوَ حَلاَلٌ وَأَكَل مِنْهُ الصَّحَابَةُ وَأَقَرَّهُمُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْهُ (4) . وَجْهُ دَلاَلَةِ الْحَدِيثِ: " أَنَّهُمْ لَمَّا سَأَلُوهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لَمْ يُجِبْ بِحِلِّهِ لَهُمْ حَتَّى سَأَلَهُمْ عَنْ مَوَانِعِ الْحِل، أَكَانَتْ مَوْجُودَةً أَمْ لاَ؟ فَقَال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَمِنْكُمْ أَحَدٌ أَمَرَهُ أَنْ يَحْمِل عَلَيْهَا، أَوْ أَشَارَ إِلَيْهَا؟ قَالُوا: لاَ. قَال: فَكُلُوا إِذَنْ ". فَلَوْ كَانَ مِنَ
__________
(1) أبو داود 2 / 171 والترمذي (باب ما جاء في أكل الصيد للمحرم) 3 / 203، 204، والنسائي (باب إذا أشار المحرم إلى الصيد فقتله الحلال 5 / 186، 187) وقوله " أو يصد لكم " في نسخة أبي داود والترمذي. وفي مختصر المنذري لأبي داود وعند النسائي " أو يصاد " بإثبات الألف. قال النووي في المجموع 7 / 305 " هكذا الرواية فيه يصاد " بالألف، وهو جائز على لغة، ومنه قوله تعالى: " أنه من يتقي ويصبر " على قراءة من قرأ بالياء.
(2) في المستدرك: على شرط الشيخين 1 / 452 ووافقه الذهبي.
(3) المجموع 7 / 304، 305
(4) كما في رواية البخاري 9 / 547

(2/165)


الْمَوَانِعِ أَنْ يُصَادَ لَهُمْ لَنَظَمَهُ فِي سِلْكِ مَا يُسْأَل عَنْهُ مِنْهَا فِي التَّفَحُّصِ عَنِ الْمَوَانِعِ، لِيُجِيبَ بِالْحُكْمِ عِنْدَ خُلُوِّهِ مِنْهَا. وَهَذَا الْمَعْنَى كَالصَّرِيحِ فِي نَفْيِ كَوْنِ الاِصْطِيَادِ لِلْمُحْرِمِ مَانِعًا، فَيُعَارِضُ حَدِيثَ جَابِرٍ، وَيُقَدَّمُ عَلَيْهِ، لِقُوَّةِ ثُبُوتِهِ (1) .

صَيْدُ الْحَرَمِ:
88 - الْمُرَادُ بِالْحَرَمِ هُنَا مَكَّةُ وَالْمِنْطَقَةُ الْمُحَرَّمَةُ الْمُحِيطَةُ بِهَا. وَلِلْحَرَمِ أَحْكَامٌ خَاصَّةٌ، مِنْهَا تَحْرِيمُ صَيْدِهِ عَلَى الْحَلاَل كَمَا يَحْرُمُ عَلَى الْمُحْرِمِ أَيْضًا، وَذَلِكَ بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ، لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ هَذَا الْبَلَدَ حَرَّمَهُ اللَّهُ، لاَ يُعْضَدُ شَوْكُهُ، وَلاَ يُنَفَّرُ صَيْدُهُ، وَلاَ تُلْتَقَطُ لُقَطَتُهُ إِلاَّ مَنْ عَرَّفَهَا. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ (2) . فَقَرَّرَ الْعُلَمَاءُ مِنْ تَحْرِيمِ الصَّيْدِ عَلَى الْحَلاَل فِي الْحَرَمِ أَحْكَامًا نَحْوَ تَحْرِيمِ الصَّيْدِ عَلَى الْمُحْرِمِ (3) ، وَتَفَرَّعَتْ لِذَلِكَ فُرُوعٌ فِي الْمَذَاهِبِ لاَ نُطِيل بِبَسْطِهَا (ر: حَرَمٌ.)

مَا يُسْتَثْنَى مِنْ تَحْرِيمِ قَتْل الصَّيْدِ:
89 - أ - اتُّفِقَ عَلَى جَوَازِ قَتْل الْحَيَوَانَاتِ التَّالِيَةِ
__________
(1) فتح القدير 2 / 274
(2) البخاري واللفظ له وباب فضل الحرم) 2 / 147، ومسلم (باب تحريم مكة) 4 / 109
(3) الهداية وشروحها 2 / 274 ولباب المناسك وشرحه 249 - 252، والدر المختار وحاشيته 2 / 297 - 309، والشرح الكبير وحاشيته 2 / 71 وما بعد، وشرح الزرقاني 2 / 310 وما بعد، ومواهب الجليل 3 / 170 وما بعد، والمهذب وشرحه 7 / 423 - 429، ونهاية المحتاج 2 / 459 وما بعد، والمغني 3 / 344 - 349، ومطالب أولي النهى 2 / 375 - 377، 341 - 344

(2/166)


فِي الْحِل وَالْحَرَمِ، لِلْمُحْرِمِ وَغَيْرِهِ، سَوَاءٌ ابْتَدَأَتْ بِأَذًى أَوْ لاَ، وَلاَ جَزَاءَ عَلَى مَنْ قَتَلَهَا - وَهِيَ: الْغُرَابُ، وَالْحِدَأَةُ، وَالذِّئْبُ، وَالْحَيَّةُ، وَالْعَقْرَبُ، وَالْفَأْرَةُ، وَالْكَلْبُ الْعَقُورُ، لِمَا وَرَدَ مِنَ الأَْحَادِيثِ فِي إِبَاحَةِ قَتْلِهَا: رَوَى مَالِكٌ عَنْ نَافِعٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: خَمْسٌ مِنَ الدَّوَابِّ لَيْسَ عَلَى الْمُحْرِمِ فِي قَتْلِهِنَّ جُنَاحٌ: الْغُرَابُ، وَالْحِدَأَةُ، وَالْعَقْرَبُ، وَالْفَأْرَةُ، وَالْكَلْبُ الْعَقُورُ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ (1) .
وَقَدْ وَرَدَ ذِكْرُ الْغُرَابِ فِي الْحَدِيثِ مُطْلَقًا، وَمُقَيَّدًا، فَفَسَّرُوهُ بِالْغُرَابِ الأَْبْقَعِ الَّذِي يَأْكُل الْجِيَفَ.
قَال الْحَافِظُ ابْنُ حَجَرٍ فِي فَتْحِ الْبَارِي (2) : " اتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ عَلَى إِخْرَاجِ الْغُرَابِ الصَّغِيرِ الَّذِي يَأْكُل الْحَبَّ مِنْ ذَلِكَ، وَيُقَال لَهُ: غُرَابُ الزَّرْعِ ". اهـ. يَعْنِي أَنَّهُ لاَ يَدْخُل فِي إِبَاحَةِ قَتْل الصَّيْدِ، بَل يَحْرُمُ صَيْدُهُ (3) . إِلاَّ أَنَّ الْمَالِكِيَّةَ فَصَلُّوا فَقَالُوا: يَجُوزُ قَتْل الْفَأْرَةِ
__________
(1) البخاري (باب ما يقتل المحرم من الدواب) 3 / 13، ومسلم (باب ما يندب للمحرم وغيره قتله) 4 / 19، والموطأ 1 / 258، وأبو داود 2 / 169، 170 من طريق الزهري عن سالم عن أبيه بنحوه، والنسائي من طريق مالك 5 / 187، 188، وابن ماجه ص 1031 من طريق عبيد الله عن نافع عن ابن عمر.
(2) وقد تقصى الحافظ ابن حجر في الفتح ما ورد زيادة على الخمس: الذئب والنمر والحية والأفعى، وهي داخلة في الحية، والذئب والنمر وردا معا تفسيرا من بعض الرواة للكلب العقور. وقد قال الحافظ: " ولا يخلو شيء من ذلك من مقال والله أعلم ". وقد عرفت صحة ورود الحية، وقوة حديث الذئب، فانظر وتأمل.

(2/166)


وَالْحَيَّةِ وَالْعَقْرَبِ مُطْلَقًا، صَغِيرَةً أَوْ كَبِيرَةً، بَدَأَتْ بِالأَْذِيَّةِ أَمْ لاَ.
وَأَمَّا الْغُرَابُ وَالْحِدَأَةُ فَفِي قَتْل صَغِيرِهِمَا - وَهُوَ مَا لَمْ يَصِل لِحَدِّ الإِْيذَاءِ - خِلاَفٌ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ: قَوْلٌ بِالْجَوَازِ نَظَرًا لِلَفْظِ " غُرَابٍ " الْوَاقِعِ فِي الْحَدِيثِ، فَإِنَّهُ مُطْلَقٌ يَصْدُقُ عَلَى الْكَبِيرِ وَالصَّغِيرِ: وَقَوْلٌ بِالْمَنْعِ نَظَرًا لِلْعِلَّةِ فِي جَوَازِ الْقَتْل، وَهِيَ الإِْيذَاءُ، وَذَلِكَ مُنْتَفٍ فِي الصَّغِيرِ. وَعَلَى الْقَوْل بِالْمَنْعِ، فَلاَ جَزَاءَ فِيهِ، مُرَاعَاةً لِلْقَوْل الآْخَرِ.
ثُمَّ قَرَّرَ الْمَالِكِيَّةُ شَرْطًا لِجَوَازِ قَتْل مَا يَقْبَل التَّذْكِيَةَ، كَالْغُرَابِ، وَالْحِدَأَةِ، وَالْفَأْرَةِ، وَالذِّئْبِ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ قَتْلُهَا بِغَيْرِ نِيَّةِ الذَّكَاةِ، بَل لِدَفْعِ شَرِّهَا، فَإِنْ قُتِل بِقَصْدِ الذَّكَاةِ، فَلاَ يَجُوزُ، وَفِيهِ الْجَزَاءُ (1) .
90 - ب - يَجُوزُ قَتْل كُل مُؤْذٍ بِطَبْعِهِ مِمَّا لَمْ تَنُصَّ عَلَيْهِ الأَْحَادِيثُ، مِثْل الأَْسَدِ، وَالنَّمِرِ، وَالْفَهْدِ، وَسَائِرِ السِّبَاعِ. بَل صَرَّحَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ أَنَّهُ مُسْتَحَبٌّ بِإِطْلاَقٍ دُونَ اشْتِرَاطِ شَيْءٍ. وَكَذَا الْحُكْمُ عِنْدَهُمْ فِيمَا سَبَقَ اسْتِحْبَابُ قَتْل تِلْكَ الْمُؤْذِيَاتِ.
وَأَمَّا الْمَالِكِيَّةُ فَعِنْدَهُمُ التَّفْصِيل السَّابِقُ بِالنِّسْبَةِ لِلْكِبَارِ وَالصِّغَارِ، وَاشْتِرَاطُ عَدَمِ قَصْدِ الذَّكَاةِ بِقَتْلِهَا. وَاشْتَرَطُوا فِي الطَّيْرِ الَّذِي لَمْ يَنُصَّ عَلَيْهِ أَنْ يَخَافَ مِنْهُ عَلَى نَفْسٍ أَوْ مَالٍ، وَلاَ يَنْدَفِعُ إِلاَّ بِقَتْلِهِ.
وَأَمَّا الْحَنَفِيَّةُ فَقَالُوا: السِّبَاعُ وَنَحْوُهَا كَالْبَازِيِّ وَالصَّقْرِ، مُعَلَّمًا وَغَيْرَ مُعَلَّمٍ، صُيُودٌ لاَ يَحِل قَتْلُهَا (2) . إِلاَّ
__________
(1) هذا الشرط عند المالكية تبع لمذهبهم في إباحة أكل كل ما لم ينص القرآن على تحريمه، وعندهم في ذلك رواية بالكراهة، ورواية بالحرمة. ر: أطعمة.
(2) إلا الكلب. والذئب فليسا صيدا عند الحنفية كما بين في رد المحتار 2 / 301

(2/167)


إِذَا صَالَتْ عَلَى الْمُحْرِمِ، فَإِنْ صَالَتْ جَازَ لَهُ قَتْلُهَا وَلاَ جَزَاءَ عَلَيْهِ. وَفِي رِوَايَةٍ عِنْدَهُمْ جَوَازُ قَتْلِهَا مُطْلَقًا.
اسْتَدَل الْجُمْهُورُ عَلَى تَعْمِيمِ الْحُكْمِ فِي كُل مُؤْذٍ بِأَدِلَّةٍ:
مِنْهَا: حَدِيثُ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: يَقْتُل الْمُحْرِمُ السَّبُعَ الْعَادِيَ، وَالْكَلْبَ الْعَقُورَ، وَالْفَأْرَةَ، وَالْعَقْرَبَ، وَالْحِدَأَةَ وَالْغُرَابَ. . أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ (1) . وَقَال التِّرْمِذِيُّ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ، وَالْعَمَل عَلَى هَذَا عِنْدَ أَهْل الْعِلْمِ، قَالُوا: الْمُحْرِمُ يَقْتُل السَّبُعَ الْعَادِيَ.
وَاسْتَدَلُّوا بِمَا وَرَدَ فِي الأَْحَادِيثِ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهَا مِنَ الأَْمْرِ بِقَتْل " الْكَلْبِ الْعَقُورِ ". قَال الإِْمَامُ مَالِكٌ: " إِنَّ كُل مَا عَقَرَ النَّاسَ وَعَدَا عَلَيْهِمْ وَأَخَافَهُمْ مِثْل الأَْسَدِ، وَالنَّمِرِ، وَالْفَهْدِ، وَالذِّئْبِ، فَهُوَ الْكَلْبُ الْعَقُورُ (2) ".
91 - ج - أَلْحَقَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ بِمَا يُقْتَل فِي الْحَرَمِ وَالإِْحْرَامِ كُل مَا لاَ يُؤْكَل لَحْمُهُ.

الْهَوَامُّ وَالْحَشَرَاتُ (3) :
92 - د - لاَ تَدْخُل الْهَوَامُّ وَالْحَشَرَاتُ فِي تَحْرِيمِ
__________
(1) أبو داود (باب ما يقتل المحرم من الدواب) 2 / 170 والترمذي 3 / 198، وابن ماجه 1032
(2) الموطأ 1 / 259
(3) الهوام: جمع هامة، وهي كل حيوان ذي سم، وقد تطلق على مؤذ ليس له سم كالقملة، والحشرات: جمع حشرة، وهي صغار دواب الأرض.

(2/167)


الصَّيْدِ عِنْدَ أَصْحَابِ الْمَذَاهِبِ الثَّلاَثَةِ: الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ.
أَمَّا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ: فَلأَِنَّهَا لَيْسَتْ مُمْتَنِعَةً، وَقَدْ ذَكَرُوا فِي تَعْرِيفِ الصَّيْدِ أَنَّهُ الْمُمْتَنِعُ. وَعَلَى ذَلِكَ فَلاَ جَزَاءَ فِي قَتْلِهَا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، لَكِنْ لاَ يَحِل عِنْدَهُمْ قَتْل مَا لاَ يُؤْذِي، وَإِنْ لَمْ يَجِبْ فِيهِ الْجَزَاءُ (1) .
وَأَمَّا عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ فَلاَ تَدْخُل فِي الصَّيْدِ، لِكَوْنِهِمُ اشْتَرَطُوا فِيهِ أَنْ يَكُونَ مَأْكُولاً. وَهَذِهِ غَيْرُ مَأْكُولَةٍ، وَقَدْ عَرَفْتَ تَفْصِيل حُكْمِهَا عِنْدَهُمْ فِي الْمَسْأَلَةِ السَّابِقَةِ.
وَأَمَّا الْمَالِكِيَّةُ فَقَالُوا: يُحْظَرُ قَتْل مَا لاَ يُؤْذِي مِنَ الْحَشَرَاتِ بِالإِْحْرَامِ وَالْحَرَمِ، وَفِيهِ الْجَزَاءُ عِنْدَهُمْ.
لَكِنْ قَالُوا فِي الْوَزَغِ: لاَ يَجُوزُ لِلْمُحْرِمِ قَتْلُهُ، وَيَجُوزُ لِلْحَلاَل قَتْلُهُ فِي الْحَرَمِ، " إِذْ لَوْ تَرَكَهَا الْحَلاَل بِالْحَرَمِ لَكَثُرَتْ فِي الْبُيُوتِ وَحَصَل مِنْهَا الضَّرَرُ (2) ".
__________
(1) عباراتهم هنا خاصة بالنمل، لكن قال في رد المحتار 2 / 300، 301. " وهذا الحكم عام في كل ما لا يؤذي، كما صرحوا به في غير موضع " اهـ. وهذا مسرد للهوام والحشرات التي لا جزاء في قتلها، كما أوردها في اللباب وشرحه: الخنفساء، الجعلان، أم حبين، صياح الليل، ال
(2) انظر هذه الأحكام في الهداية وشروحها 2 / 266، 271، وفي لباب المناسك وشرحه المسلك المتقسط 252، 253، وتنوير الأبصار وشرحه وحاشية رد المحتار 2 / 300، 301، ومواهب الجليل 3 / 173، 174، وشرح الزرقاني 2 / 312 - 314، والشرح الكبير، وحاشيته 2 / 74، والمهذب والمجموع 4 / 320 - 323، وشرح المنهاج للمحلي بحاشيته 2 / 137، 138 ونهاية المحتاج 2 / 459، والمغني 3 / 341 - 343 ومطالب أولي النهى 2 / 333، 342، 343

(2/168)


الْجِمَاعُ وَدَوَاعِيهِ:
93 - يَحْرُمُ عَلَى الْمُحْرِمِ بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ وَإِجْمَاعِ الأُْمَّةِ الْجِمَاعُ وَدَوَاعِيهِ الْفِعْلِيَّةُ أَوِ الْقَوْلِيَّةُ وَقَضَاءُ الشَّهْوَةِ بِأَيِّ طَرِيقٍ. وَالْجِمَاعُ أَشَدُّ الْمَحْظُورَاتِ حَظْرًا؛ لأَِنَّهُ يُؤَدِّي إِلَى فَسَادِ النُّسُكِ. وَالدَّلِيل عَلَى تَحْرِيمِ ذَلِكَ النَّصُّ الْقُرْآنِيُّ: {فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَال فِي الْحَجِّ} . فُسِّرَ الرَّفَثُ بِأَنَّهُ مَا قِيل عِنْدَ النِّسَاءِ مِنْ ذِكْرِ الْجِمَاعِ وَقَوْل الْفُحْشِ. وَثَبَتَ ذَلِكَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ (1) فَتَكُونُ الآْيَةُ دَلِيلاً عَلَى تَحْرِيمِ الْجِمَاعِ عَلَى الْمُحْرِمِ بِطَرِيقِ دَلاَلَةِ النَّصِّ، أَيْ مِنْ بَابِ الأَْوْلَى؛ لأَِنَّهُ إِذَا حَرُمَ مَا دُونَ الْجِمَاعِ، كَانَ تَحْرِيمُهُ مَعْلُومًا بِطَرِيقِ الأَْوْلَى. وَفُسِّرَ الرَّفَثُ أَيْضًا بِذِكْرِ إِتْيَانِ النِّسَاءِ، الرِّجَال وَالنِّسَاءُ إِذَا ذَكَرُوا ذَلِكَ بِأَفْوَاهِهِمْ. وَنُقِل ذَلِكَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ وَبَعْضِ التَّابِعِينَ. فَتَدُل الآْيَةُ عَلَى حُرْمَةِ الْجِمَاعِ لِدُخُولِهِ فِي عُمُومِهَا. كَمَا فُسِّرَ بِالْجِمَاعِ أَيْضًا، وَنُسِبَ ذَلِكَ إِلَى جَمَاعَةٍ مِنَ السَّلَفِ مِنْهُمُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَابْنُ عُمَرَ، فَتَكُونُ الآْيَةُ نَصًّا فِيهِ (2) .
__________
(1) أخرجه ابن جرير عنه من أكثر من وجه. وانظر تفسير ابن كثير 1 / 237
(2) انظر تخريج هذه الأقوال وعزوها إلى قائليها في تفسير ابن كثير 1 / 236، 237

(2/168)


الْفُسُوقُ وَالْجِدَال:
94 - الْفُسُوقُ: هُوَ الْخُرُوجُ عَنِ الطَّاعَةِ. وَهُوَ حَرَامٌ فِي كُل حَالٍ، وَفِي حَال الإِْحْرَامِ آكَدُ وَأَغْلَظُ، لِذَلِكَ نَصَّ عَلَيْهِ فِي الْكِتَابِ الْكَرِيمِ: {وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَال فِي الْحَجِّ} . (1) وَقَدِ اخْتَارَ جُمْهُورُ الْمُفَسِّرِينَ وَالْمُحَقِّقُونَ أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ فِي الآْيَةِ إِتْيَانُ مَعَاصِي اللَّهِ تَعَالَى. وَهَذَا هُوَ الْمُرَادُ وَالصَّوَابُ، لِمَا هُوَ مَعْلُومٌ مِنَ اسْتِعْمَال الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ وَالشَّرْعِ لِكَلِمَةِ الْفِسْقِ بِمَعْنَى الْخُرُوجِ عَنِ الطَّاعَةِ.
وَالْجِدَال: الْمُخَاصَمَةُ. وَقَدْ قَال جُمْهُورُ الْمُفَسِّرِينَ الْمُتَقَدِّمِينَ: أَنْ تُمَارِيَ صَاحِبَكَ حَتَّى تُغْضِبَهُ. وَهَذَا يَقْتَضِي النَّهْيَ عَنْ كُل مَسَاوِئِ الأَْخْلاَقِ وَالْمُعَامَلاَتِ. لَكِنْ مَا يُحْتَاجُ إِلَيْهِ مِنَ الأَْمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ لاَ يَدْخُل فِي حَظْرِ الْجِدَال.

الْفَصْل السَّادِسُ
مَكْرُوهَاتُ الإِْحْرَامِ
95 - وَهِيَ أُمُورٌ يَكُونُ فَاعِلُهَا مُسِيئًا، لَكِنْ لاَ يَلْزَمُهُ جَزَاءٌ لَوْ فَعَلَهَا. وَفِي بَيَانِهَا تَنْبِيهٌ هَامٌّ، وَإِزَاحَةٌ لِمَا قَدْ يَقَعُ مِنَ اشْتِبَاهٍ.
96 - فَمِنْهَا غَسْل الرَّأْسِ وَالْجَسَدِ وَاللِّحْيَةِ بِالسِّدْرِ وَنَحْوِهِ، عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ؛ لأَِنَّهُ يَقْتُل الْهَوَامَّ وَيُلَيِّنُ الشَّعْرَ (2)
97 - وَمَشْطُ الرَّأْسِ بِقُوَّةٍ، وَحَكُّهُ، وَكَذَا حَكُّ
__________
(1) سورة البقرة / 197
(2) شرح اللباب ص 82

(2/169)


الْجَسَدِ حَكًّا شَدِيدًا، وَذَلِكَ لأَِنَّهُ يُؤَدِّي إِلَى قَطْعِ الشَّعْرِ أَوْ نَتْفِهِ. أَمَّا لَوْ فَعَل ذَلِكَ بِرِفْقٍ فَإِنَّهُ مُبَاحٌ، لِذَلِكَ قَالُوا: يَحُكُّ بِبُطُونِ أَنَامِلِهِ (1) . قَال النَّوَوِيُّ: " وَأَمَّا حَكُّ الْمُحْرِمِ رَأْسَهُ فَلاَ أَعْلَمُ خِلاَفًا فِي إِبَاحَتِهِ بَل هُوَ جَائِزٌ (2) ".
98 - وَالتَّزَيُّنُ، صَرَّحَ بِكَرَاهَتِهِ الْحَنَفِيَّةُ وَعِبَارَاتُ غَيْرِهِمْ تَدُل عَلَيْهِ. قَال الْحَنَفِيَّةُ فِي الاِكْتِحَال بِكُحْلٍ غَيْرِ مُطَيِّبٍ لِقَصْدِ الزِّينَةِ إِنَّهُ مَكْرُوهٌ، فَإِنِ اكْتَحَل لاَ لِقَصْدِ الزِّينَةِ بِكُحْلٍ غَيْرِ مُطَيِّبٍ بَل لِلتَّدَاوِي أَوْ لِتَقْوِيَةِ الْبَاصِرَةِ فَمُبَاحٌ (3) . أَمَّا الْمَالِكِيَّةُ فَالاِكْتِحَال بِغَيْرِ مُطَيِّبٍ مَحْظُورٌ عِنْدَهُمْ، وَفِيهِ الْفِدَاءُ، إِلاَّ لِضَرُورَةٍ فَلاَ فِدَاءَ فِيهِ (4) .
وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيَّةِ (5) وَالْحَنَابِلَةِ (6) الاِكْتِحَال بِمَا لاَ طِيبَ فِيهِ، إِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ زِينَةٌ، غَيْرُ مَكْرُوهٍ، كَالْكُحْل الأَْبْيَضِ، وَإِنْ كَانَ فِيهِ زِينَةٌ كَالإِْثْمِدِ فَإِنَّهُ يُكْرَهُ، لَكِنْ لاَ يَلْزَمُ فِيهِ فِدْيَةٌ. فَإِنِ اكْتَحَل بِمَا فِيهِ زِينَةٌ لِحَاجَةٍ كَالرَّمَدِ فَلاَ كَرَاهَةَ. أَمَّا الاِكْتِحَال بِكُحْلٍ مُطَيِّبٍ فَإِنَّهُ مَحْظُورٌ اتِّفَاقًا عَلَى الرِّجَال وَالنِّسَاءِ.

مَا يُبَاحُ فِي الإِْحْرَامِ
99 - الأُْمُورُ الَّتِي تُبَاحُ فِي الإِْحْرَامِ كُل مَا لَيْسَ
__________
(1) المسلك المتقسط شرح اللباب ص 82 - 84
(2) المجموع 7 / 253
(3) المسلك المتقسط ص 82، 83
(4) متن خليل والشرح الكبير وحاشيته 2 / 61
(5) المجموع 7 / 283، ونهاية المحتاج 2 / 454
(6) الكافي 1 / 559، ومطالب أولي النهى 2 / 353

(2/169)


مَحْظُورًا وَلاَ مَكْرُوهًا، لأَِنَّ الأَْصْل فِي الأَْشْيَاءِ الإِْبَاحَةُ. وَنَذْكُرُ مِنْهَا مَا يَلِي:
100 - الاِغْتِسَال بِالْمَاءِ الْقَرَاحِ، وَمَاءِ الصَّابُونِ وَنَحْوِهِ (1) .
101 - وَلُبْسُ الْخَاتَمِ جَائِزٌ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ (2) أَوِ الشَّافِعِيَّةِ (3) وَالْحَنَابِلَةِ (4) لِلرِّجَال وَالنِّسَاءِ. وَلاَ يَجُوزُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ (5) لِلرَّجُل الْمُحْرِمِ لُبْسُ الْخَاتَمِ، وَفِيهِ الْفِدَاءُ. وَأَمَّا الْمَرْأَةُ: فَيَجُوزُ لَهَا لُبْسُ الْمُحِيطِ لِسَائِرِ أَعْضَائِهَا، مَا عَدَا الْوَجْهَ وَالْكَفَّيْنِ عِنْدَ الثَّلاَثَةِ، وَمَا عَدَا الْوَجْهَ فَقَطْ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ (6) . وَشَدُّ الْهِمْيَانِ وَالْمِنْطَقَةِ جَائِزٌ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ (7) بِإِطْلاَقٍ وَكَذَا الشَّافِعِيَّةُ (8) . وَقَيَّدَ الْمَالِكِيَّةُ (9) وَالْحَنَابِلَةُ (10) إِبَاحَةَ شَدِّهِمَا بِالْحَاجَةِ لِنَفَقَتِهِ.
102 - وَالنَّظَرُ فِي الْمِرْآةِ مُبَاحٌ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ (11)
__________
(1) عبر الحنفية هنا بـ " ماء الصابون " خلافا لعبارتهم في المكروهات " بالصابون. . . " كما وقع في المسلك المتقسط ص 83، فأفاد أن الماء الذي ذاب فيه الصابون لا كراهة فيه.
(2) المسلك المتقسط ص 83
(3) المجموع 7 / 260، ونهاية المحتاج 2 / 449
(4) مطالب أولي النهى 2 / 353
(5) الشرح الكبير 2 / 55
(6) لما سبق من الخلاف في وجوب كشف المرأة للكفين وقول الحنفية بعدمه (ف. . .)
(7) المسلك المتقسط ص 83
(8) المجموع 7 / 260، ونهاية المحتاج 2 / 449
(9) الشرح الكبير، وحاشيته 2 / 58، 59
(10) مطالب أولي النهى 2 / 330
(11) المسلك المتقسط ص 83

(2/170)


وَالشَّافِعِيَّةِ (1) مُطْلَقًا. وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ (2) جَائِزٌ لِحَاجَةٍ لاَ لِزِينَةٍ، وَأَمَّا الْمَالِكِيَّةُ (3) فَيُكْرَهُ عِنْدَهُمُ النَّظَرُ فِي الْمِرْآةِ، خِيفَةَ أَنْ يَرَى شُعْثًا فَيُزِيلَهُ.
103 - وَالسِّوَاكُ نَصَّ عَلَى إِبَاحَتِهِ الْحَنَفِيَّةُ (4) وَلَيْسَ هُوَ مَحَل خِلاَفٍ.
104 - وَنَزْعُ الظُّفُرِ الْمَكْسُورِ مُبَاحٌ بِاتِّفَاقِ الأَْئِمَّةِ (5) ، وَصَرَّحَ الشَّافِعِيَّةُ بِأَلاَّ يُجَاوِزَ الْقِسْمَ الْمَكْسُورَ، وَهَذَا لاَ يُخْتَلَفُ فِيهِ.
105 - وَالْفَصْدُ وَالْحِجَامَةُ بِلاَ نَزْعِ شَعْرٍ جَائِزَةٌ عِنْدَ فُقَهَاءِ الْمَذَاهِبِ الأَْرْبَعَةِ. وَمِثْلُهُمَا الْخِتَانُ. لَكِنْ تَحَفَّظَ الْمَالِكِيَّةُ بِالنِّسْبَةِ لِلْفَصْدِ، فَقَالُوا: يَجُوزُ الْفَصْدُ لِحَاجَةٍ إِنْ لَمْ يَعْصِبِ الْعُضْوَ الْمَفْصُودَ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ حَاجَةٌ لِلْفَصْدِ فَهُوَ مَكْرُوهٌ، وَإِنْ عَصَبَهُ فَفِيهِ الْفِدْيَةُ (6) .
106 - وَالاِرْتِدَاءُ وَالاِتِّزَارُ بِمَخِيطٍ أَوْ مُحِيطٍ أَيْ أَنْ يَجْعَل الثَّوْبَ الْمَخِيطَ أَوِ الْمُحِيطَ رِدَاءً أَوْ إِزَارًا، دُونَ لُبْسٍ. وَكَذَا إِلْقَاؤُهُ عَلَى جِسْمِهِ كُل ذَلِكَ مُبَاحٌ عِنْدَهُمْ جَمِيعًا (7) .
107 - وَذَبْحُ الإِْبِل وَالْبَقَرِ وَالْحَيَوَانَاتِ الأَْهْلِيَّةِ
__________
(1) نهاية المحتاج 2 / 452
(2) مطالب أولي النهى 2 / 354
(3) الشرح الكبير مع حاشيته 2 / 60
(4) المسلك المتقسط ص 83.
(5) المرجع السابق ص 84، ومطالب أولي النهى 2 / 325، ونهاية المحتاج 2 / 456، والشرح الكبير 2 / 56
(6) تنوير الأبصار 2 / 225، والشرح الكبير 2 / 58، 60، ونهاية المحتاج 2 / 454، والكافي 1 / 560
(7) المسلك المتقسط ص 84، والشرح الكبير 2 / 56، والمجموع 7 / 260، والمطالب 2 / 330

(2/170)


مُبَاحٌ وَذَلِكَ لأَِنَّهَا لاَ تَدْخُل فِي تَحْرِيمِ الصَّيْدِ وَلاَ مُحَرَّمَاتِ الإِْحْرَامِ بِاتِّفَاقِهِمْ.

الْفَصْل السَّابِعُ
فِي سُنَنِ الإِْحْرَامِ
وَهِيَ أُمُورٌ يُثَابُ فَاعِلُهَا، وَيَكُونُ تَارِكُهَا مُسِيئًا وَلاَ يَلْزَمُهُ بِالتَّرْكِ شَيْءٌ. وَجُمْلَةُ ذَلِكَ أَرْبَعَةٌ:

أَوَّلاً: الاِغْتِسَال:
108 - وَهُوَ سُنَّةٌ عِنْدَ الأَْئِمَّةِ الأَْرْبَعَةِ (1) لِمَا وَرَدَ فِيهِ مِنَ الأَْحَادِيثِ، كَحَدِيثِ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ: أَنَّهُ رَأَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَجَرَّدَ لإِِهْلاَلِهِ وَاغْتَسَل. أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ وَحَسَّنَهُ (2) . وَقَدِ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ هَذَا الْغُسْل سُنَّةٌ لِكُل مُحْرِمٍ صَغِيرٍ أَوْ كَبِيرٍ، ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى، وَيُطْلَبُ أَيْضًا مِنَ الْمَرْأَةِ الْحَائِضِ وَالنُّفَسَاءِ فِي حَال الْحَيْضِ وَالنِّفَاسِ. فَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مَرْفُوعًا إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: إِنَّ النُّفَسَاءَ وَالْحَائِضَ تَغْتَسِل وَتُحْرِمُ وَتَقْضِي الْمَنَاسِكَ كُلَّهَا، غَيْرَ أَنْ لاَ تَطُوفَ بِالْبَيْتِ حَتَّى تَطْهُرَ أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ وَحَسَّنَهُ وَاللَّفْظُ لِلتِّرْمِذِيِّ (3) .
__________
(1) وأما تعبير ابن قدامة في المغني والكافي بالاستحباب فالمراد به السنة كما يدل عليه سياق كلامه وشرحه له. وقد صرح في مطالب أولي النهى بالسنية.
(2) أبو داود (باب الحائض تهل بالحج) 2 / 144 الترمذي (باب ما تقضي الحائض من المناسك) 3 / 282 وقال: " حديث حسن غريب من هذا الوجه " والنصوص وإن جاءت بصيغة الأمر لكنه محمول على السنية قال ابن المنذر: أجمع عوام أهل العلم كل أن الإحرام بغير غسل جائز. قال وأجمعوا على أن الغسل للإحرام ليس بواجب إلا ما روي ع المجموع 7 / 213، وانظر المغني 7 / 271، 272
(3) أبو داود (باب الحائض تهل بالحج) 2 / 144 الترمذي (باب ما تقضي الحائض من المناسك) 3 / 282 وقال: " حديث حسن غريب من هذا الوجه " والنصوص وإن جاءت بصيغة الأمر لكنه محمول على السنية قال ابن المنذر: أجمع عوام أهل العلم كل أن الإحرام بغير غسل جائز. قال وأجمعوا على أن الغسل للإحرام ليس بواجب إلا ما روي ع المجموع 7 / 213، وانظر المغني 7 / 271، 272

(2/171)


وَوَقْتُ هَذَا الاِغْتِسَال مُوَسَّعٌ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ فِي الأَْظْهَرِ مِنْ مَذْهَبِهِمْ. وَهُوَ مَذْهَبُ الْحَنَابِلَةِ وَالشَّافِعِيَّةِ. وَثَمَرَةُ الْخِلاَفِ أَنَّهُ لَوِ اغْتَسَل ثُمَّ أَحْدَثَ ثُمَّ تَوَضَّأَ يَنَال فَضِيلَةَ السُّنَّةِ، وَلاَ يَضُرُّهُ ذَلِكَ. وَأَلْحَقَ الشَّافِعِيَّةُ هَذَا الْغُسْل بِغُسْل الْجُمُعَةِ، فَدَل عَلَى أَنَّهُ مُوَسَّعٌ، كَمَا هُوَ حُكْمُ غُسْل الْجُمُعَةِ (1) . أَمَّا الْمَالِكِيَّةُ فَقَيَّدُوا سُنِّيَّةَ الْغُسْل بِأَنْ يَكُونَ مُتَّصِلاً بِالإِْحْرَامِ.

ثَانِيًا: التَّطَيُّبُ:
109 - وَهُوَ مِنْ مَحْظُورَاتِ الإِْحْرَامِ، لَكِنَّهُ سُنَّ اسْتِعْدَادًا لِلإِْحْرَامِ، عِنْدَ الْجُمْهُورِ، وَكَرِهَهُ مَالِكٌ (2) .

التَّطَيُّبُ فِي الْبَدَنِ:
110 - وَدَلِيل سُنِّيَّتِهِ مَا رَوَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: كُنْتُ أُطَيِّبُ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لإِِحْرَامِهِ قَبْل أَنْ يُحْرِمَ، وَلِحِلِّهِ قَبْل أَنْ يَطُوفَ بِالْبَيْتِ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَعَنْهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَيْضًا قَالَتْ: كَأَنِّي أَنْظُرُ
__________
(1) ووقت غسل الجمعة عند الشافعية يبدأ من الفجر، لكن تقريبه من ذهابه إلى الجمعة أفضل. انظر نهاية المحتاج 2 / 62
(2) بداية المجتهد 1 / 338 ط مصطفى الحلبي.

(2/171)


إِلَى وَبِيصِ (1) الطِّيبِ فِي مَفَارِقِ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ مُحْرِمٌ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ (2) . وَالصَّحِيحُ عِنْدَهُمْ جَوَازُ التَّطَيُّبِ بِمَا يَبْقَى جِرْمُهُ بَعْدَ الإِْحْرَامِ، لِتَصْرِيحِ حَدِيثِ عَائِشَةَ الثَّانِي. وَأَمَّا الْمَالِكِيَّةُ فَحَظَرُوا بَقَاءَ جِرْمِ الطِّيبِ وَلَمْ يُجَوِّزُوا بَقَاءَ رَائِحَتِهِ.

التَّطَيُّبُ فِي ثَوْبِ الإِْحْرَامِ:
111 - أَمَّا تَطْيِيبُ الثَّوْبِ قَبْل الإِْحْرَامِ فَمَنَعَهُ الْجُمْهُورُ وَأَجَازَهُ الشَّافِعِيُّ فِي الْقَوْل الْمُعْتَمَدِ. فَلاَ يَضُرُّ بَقَاءُ الرَّائِحَةِ الطَّيِّبَةِ فِي الثَّوْبِ بَعْدَ الإِْحْرَامِ، كَمَا لاَ يَضُرُّ بَقَاءُ الرَّائِحَةِ الطَّيِّبَةِ فِي الْبَدَنِ اتِّفَاقًا، قِيَاسًا لِلثَّوْبِ عَلَى الْبَدَنِ. لَكِنْ نَصُّوا عَلَى أَنَّهُ لَوْ نَزَعَ ثَوْبَ الإِْحْرَامِ. أَوْ سَقَطَ عَنْهُ. فَلاَ يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَعُودَ إِلَى لُبْسِهِ مَا دَامَتِ الرَّائِحَةُ فِيهِ، بَل يُزِيل مِنْهُ الرَّائِحَةَ ثُمَّ يَلْبَسُهُ (3) .
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى عَدَمِ جَوَازِ التَّطَيُّبِ فِي الثَّوْبِ لِلإِْحْرَامِ، وَلاَ يَجُوزُ أَنْ يَلْبَسَ ثَوْبَ إِحْرَامٍ مُطَيَّبًا (4) لأَِنَّهُ بِذَلِكَ يَكُونُ مُسْتَعْمِلاً لِلطِّيبِ فِي إِحْرَامِهِ بِاسْتِعْمَال
__________
(1) الوبيص: البريق واللمعان.
(2) البخاري (باب الطيب عند الإحرام) 2 / 136 - 137، ومسلم 4 / 10 - 11، وأبو داود 2 / 144 - 145، والنسائي 5 / 136 - 141 وابن ماجه ص 976، وأخرج الترمذي الحديث الأول فقط (باب ما جاء في الطيب عند الإحلال قبل الزيارة) 3 / 259
(3) كما بينه قي المجمع 7 / 220، 221 وأقره في نهاية المحتاج 2 / 399
(4) وأما قول اللباب وشرحه ص 68 " والأولى أن لا يطيب ثيابه. . . " فخلاف ما هو مقرر في مراجع المذهب الحنفي، وفي باقي كلامه قلق يعرف من مراجعته.

(2/172)


الثَّوْبِ، وَهُوَ مَحْظُورٌ عَلَى الْمُحْرِمِ. وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ إِنْ تَطَيَّبَ قَبْل الإِْحْرَامِ يَجِبُ إِزَالَتُهُ، سَوَاءٌ فِي ذَلِكَ بَدَنُهُ أَوْ ثَوْبُهُ، فَإِنْ بَقِيَ فِي الْبَدَنِ أَوِ الثَّوْبِ بَعْدَ الإِْحْرَامِ شَيْءٌ مِنْ جِرْمِ الطِّيبِ الَّذِي تَطَيَّبَ بِهِ قَبْل الإِْحْرَامِ فَإِنَّ الْفِدْيَةَ تَكُونُ وَاجِبَةً، وَأَمَّا إِنْ كَانَ الْبَاقِي فِي الثَّوْبِ رَائِحَتَهُ، فَلاَ يَجِبُ نَزْعُ الثَّوْبِ لَكِنْ يُكْرَهُ اسْتِدَامَتُهُ، وَلاَ فِدْيَةَ. وَأَمَّا اللَّوْنُ فَفِيهِ قَوْلاَنِ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ. وَهَذَا كُلُّهُ فِي الأَْثَرِ الْيَسِيرِ، وَأَمَّا الأَْثَرُ الْكَثِيرُ فَفِيهِ الْفِدْيَةُ.
اسْتَدَل الْمَالِكِيَّةُ بِحَدِيثِ يَعْلَى بْنِ أُمَيَّةَ قَال: أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَجُلٌ مُتَضَمِّخٌ بِطِيبٍ وَعَلَيْهِ جُبَّةٌ، فَقَال: يَا رَسُول اللَّهِ: كَيْفَ تَرَى فِي رَجُلٍ أَحْرَمَ بِعُمْرَةٍ فِي جُبَّةٍ بَعْدَمَا تَضَمَّخَ بِطِيبٍ؟ فَقَال النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَمَّا الطِّيبُ الَّذِي بِكَ فَاغْسِلْهُ ثَلاَثَ مَرَّاتٍ، وَأَمَّا الْجُبَّةُ فَانْزِعْهَا، ثُمَّ اصْنَعْ فِي عُمْرَتِكَ مَا تَصْنَعُ فِي حَجِّكَ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ (1) . فَاسْتِدْلاَلُهُمْ بِهَذَا الْحَدِيثِ لِحَظْرِ الطِّيبِ فِي الإِْحْرَامِ فِي الْبَدَنِ وَالثَّوْبِ.

ثَالِثًا: صَلاَةُ الإِْحْرَامِ:
112 - يُسَنُّ لِلْمُحْرِمِ أَنْ يُصَلِّيَ رَكْعَتَيْنِ قَبْل
__________
(1) البخاري (باب غسل الخلوق) 2 / 136، ومسلم في أول الحج 4 / 503 وأبو داود (باب الرجل يحرم في ثيابه) 2 / 164، 165 والترمذي مختصرا (باب ما جاء في الذي يحرم وعليه قميص أو جبة) 3 / 196، 197 والنسائي (الخلوق للمحرم) 5 / 142، 143 والموطأ مختصرا 1 / 241. وقوله: " اصنع في عمرتك ما تصنع في حجك " أي من اجتناب محظورات الإحرام، كما حقق في فتح الباري 3 / 253، 254 خلافا لما كان عليه الجاهلون من التساهل في إحرام العمرة.

(2/172)


الإِْحْرَامِ بِاتِّفَاقِ الأَْئِمَّةِ لِحَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَرْكَعَ بِذِي الْحُلَيْفَةِ رَكْعَتَيْنِ. أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ (1) . وَلاَ يُصَلِّيهِمَا فِي الْوَقْتِ الْمَكْرُوهِ، اتِّفَاقًا بَيْنَ الأَْئِمَّةِ، إِلاَّ مَنْ أَحْرَمَ بِالْحَرَمِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، فَإِنَّهُ يُصَلِّيهِمَا وَلَوْ فِي الْوَقْتِ الْمَكْرُوهِ عِنْدَهُمْ (2) . وَتُجْزِئُ الصَّلاَةُ الْمَكْتُوبَةُ عَنْ سُنَّةِ الإِْحْرَامِ اتِّفَاقًا كَذَلِكَ، كَمَا فِي تَحِيَّةِ الْمَسْجِدِ.

رَابِعًا: التَّلْبِيَةُ:
113 - التَّلْبِيَةُ سُنَّةٌ فِي الإِْحْرَامِ مُتَّفَقٌ عَلَى سُنِّيَّتِهَا إِجْمَالاً، فِيمَا عَدَا الْخِلاَفَ فِي حُكْمِ قَرْنِهَا بِالنِّيَّةِ هَل هِيَ فَرْضٌ فِي الإِْحْرَامِ مَعَ النِّيَّةِ، أَوْ وَاجِبٌ أَوْ سُنَّةٌ؟ (فَ. . .) فَاتَّفَقُوا فِيمَا عَدَا ذَلِكَ عَلَى سُنِّيَّتِهَا لِلْمُحْرِمِ، وَعَلَى اسْتِحْبَابِ الإِْكْثَارِ مِنْهَا، وَسُنِّيَّةِ رَفْعِ الصَّوْتِ بِهَا.
114 - وَالأَْفْضَل أَنْ يُلَبِّيَ عَقِبَ صَلاَةِ الإِْحْرَامِ نَاوِيًا الْحَجَّ أَوِ الْعُمْرَةَ، عَلَى مَا قَالَهُ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ. وَهُوَ قَوْلٌ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، وَفِي قَوْلٍ - وَهُوَ الأَْصَحُّ - يُلَبِّي إِذَا رَكِبَ. وَلاَ خِلاَفَ فِي جَوَازِ ذَلِكَ كُلِّهِ لِوُرُودِ الرِّوَايَةِ بِهِ. عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَهَل حِينَ اسْتَوَتْ بِهِ رَاحِلَتُهُ قَائِمَةً مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ (3) .
115 - وَأَمَّا انْتِهَاءُ التَّلْبِيَةِ: فَهُوَ لِلْحَاجِّ ابْتِدَاءُ رَمْيِ
__________
(1) البخاري (باب من أهل حين استوت به راحلته) 1 / 139، ومسلم 4 / 9

(2/173)


جَمْرَةِ الْعَقَبَةِ يَوْمَ النَّحْرِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ (1) وَالْحَنَابِلَةِ، وَيَقْطَعُهَا عِنْدَ الطَّوَافِ وَالسَّعْيِ لِلاِشْتِغَال بِالأَْذْكَارِ وَالأَْدْعِيَةِ الْوَارِدَةِ فِيهَا. وَأَمَّا الْمَالِكِيَّةُ فَعِنْدَهُمْ قَوْلاَنِ:
الأَْوَّل: يَسْتَمِرُّ فِي التَّلْبِيَةِ حَتَّى يَبْلُغَ مَكَّةَ، فَيَقْطَعُ التَّلْبِيَةَ حَتَّى يَطُوفَ وَيَسْعَى، ثُمَّ يُعَاوِدُهَا حَتَّى تَزُول الشَّمْسُ مِنْ يَوْمِ عَرَفَةَ وَيَرُوحَ إِلَى مُصَلاَّهَا. الثَّانِي: يَسْتَمِرُّ فِي التَّلْبِيَةِ حَتَّى الاِبْتِدَاءِ بِالطَّوَافِ وَالشُّرُوعِ فِيهِ.
116 - وَأَمَّا تَلْبِيَةُ إِحْرَامِ الْعُمْرَةِ فَالْجُمْهُورُ أَنَّهَا تَنْتَهِي بِبَدْءِ الطَّوَافِ بِاسْتِلاَمِ الرُّكْنِ. وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: الْمُعْتَمِرُ الآْفَاقِيُّ يُلَبِّي حَتَّى الْحَرَمِ، لاَ إِلَى رُؤْيَةِ بُيُوتِ مَكَّةَ، وَالْمُعْتَمِرُ مِنَ الْجِعْرَانَةِ وَالتَّنْعِيمِ يُلَبِّي إِلَى دُخُول بُيُوتِ مَكَّةَ، لِقُرْبِ الْمَسَافَةِ.
يَدُل لِلْجُمْهُورِ حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: يُلَبِّي الْمُعْتَمِرُ حَتَّى يَسْتَلِمَ الْحَجَرَ. أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ (2) .
__________
(1) إلا أن الشافعية قالوا يقطع التلبية لابتداء الرمي، أو غيره مما يتحلل به من الإحرام عندهم.
(2) أبو داود (باب متى يقطع المعتمر التلبية) 2 / 163، والترمذي 3 / 261، واللفظ لأبي داود، ولفظه عند الترمذي: أنه كان يمسك عن التلبية. . حكاية فعل النبي صلى الله عليه وسلم. وقد ذكر أبو داود سندا يخالف راوي الرفع ابن أبي ليلى عن عطاء عن ابن عباس، قال: رواه عبد الملك بن أبي سليمان، وهمام، عن عطاء عن ابن عباس موقوفا " قلنا: وهذان يرجحان على ابن (انظر المغني في الضعفاء رقم 5723)

(2/173)


وَاسْتَدَل مَالِكٌ (1) بِمَا رَوَاهُ عَنْ نَافِعٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ مِنْ فِعْلِهِ فِي الْمَنَاسِكِ قَال: وَكَانَ يَتْرُكُ التَّلْبِيَةَ فِي الْعُمْرَةِ إِذَا دَخَل الْحَرَمَ (2) .

كَيْفِيَّةُ الإِْحْرَامِ الْمُسْتَحَبَّةُ:
117 - مَنْ أَرَادَ أَنْ يُحْرِمَ بِحَجٍّ أَوْ عُمْرَةٍ أَوْ بِهِمَا مَعًا يُسْتَحَبُّ لَهُ إِزَالَةُ التَّفَثِ عَنْ جِسْمِهِ، وَأَنْ يَتَزَيَّنَ عَلَى الصُّورَةِ الْمَأْلُوفَةِ الَّتِي لاَ تَتَنَافَى مَعَ الشَّرِيعَةِ وَآدَابِهَا، وَأَنْ يَغْتَسِل بِنِيَّةِ الإِْحْرَامِ، وَإِذَا كَانَ جُنُبًا فَيَكْفِيهِ غُسْلٌ وَاحِدٌ بِنِيَّةِ إِزَالَةِ الْجَنَابَةِ وَالإِْحْرَامِ، وَأَنْ يَتَطَيَّبَ. وَالأَْوْلَى أَنْ يَتَطَيَّبَ بِطِيبٍ لاَ يَبْقَى جِرْمُهُ، عَلَى التَّفْصِيل وَالْخِلاَفِ السَّابِقِ، ثُمَّ يَلْبَسَ ثَوْبَيْنِ نَظِيفَيْنِ جَدِيدَيْنِ أَوْ غَسِيلَيْنِ، عَلَى أَلاَّ يَكُونَا مَصْبُوغَيْنِ بِصَبْغٍ لَهُ رَائِحَةٌ. وَأَمَّا الْمَرْأَةُ فَتَلْبَسُ مَا يَسْتُرُ عَوْرَتَهَا إِلاَّ وَجْهَهَا وَكَفَّيْهَا. ثُمَّ يُصَلِّيَ رَكْعَتَيْنِ بِنِيَّةِ الإِْحْرَامِ. فَإِذَا أَتَمَّهُمَا نَوَى بِقَلْبِهِ وَقَال بِلِسَانِهِ: اللَّهُمَّ إِنِّي أُرِيدُ الْحَجَّ فَيَسِّرْهُ لِي، وَتَقَبَّلْهُ مِنِّي. ثُمَّ يُلَبِّي. وَإِذَا كَانَ يُرِيدُ الْعُمْرَةَ فَيَقُول: اللَّهُمَّ إِنِّي أُرِيدُ الْعُمْرَةَ، فَيَسِّرْهَا لِي، وَتَقَبَّلْهَا مِنِّي. ثُمَّ يُلَبِّي.
__________
(1) الموطأ 1 / 247
(2) انظر بحث التلبية في الهداية وفتح القدير 2 / 136، والمسلك المتقسط 70، 71، وشرح الرسالة 1 / 459، والشرح الكبير وحاشيته 2 / 39، 40، وشرح المنهاج 2 / 99، ونهاية المحتاج 2 / 401، والمغني 3 / 275، والكافي 1 / 541، ومطالب أولي النهى 2 / 321، وانظر قطع التلبية في الهداية وشرحها 2 / 175، ورد المحتار 2 / 246، ونهاية المحتاج 2 / 401، 402، 426، والمغني 3 / 401 - 431، والكافي 1 / 602، ومطالب أولي النهى 2 / 424

(2/174)


وَإِذَا كَانَ قَارِنًا فَيُسْتَحَبُّ أَنْ يُقَدِّمَ ذِكْرَ الْعُمْرَةِ عَلَى ذِكْرِ الْحَجِّ حَتَّى لاَ يُشْتَبَهَ أَنَّهُ أَدْخَل الْعُمْرَةَ عَلَى الْحَجِّ. وَيَقُول: اللَّهُمَّ إِنِّي أُرِيدُ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ. . . إِلَخْ، وَيُلَبِّي. فَيَصِيرُ بِذَلِكَ مُحْرِمًا، وَتَجْرِي عَلَيْهِ. أَحْكَامُ الإِْحْرَامِ الَّتِي تَقَدَّمَ بَيَانُهَا.
وَإِذَا كَانَ يُؤَدِّي الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ عَنْ غَيْرِهِ فَلاَ بُدَّ أَنْ يُعَيِّنَ ذَلِكَ بِقَلْبِهِ وَلِسَانِهِ. وَيُسَنُّ لَهُ الإِْكْثَارُ مِنَ التَّلْبِيَةِ. وَأَفْضَل صِيَغِهَا الصِّيغَةُ الْمَأْثُورَةُ: " لَبَّيْكَ اللَّهُمَّ لَبَّيْكَ، لَبَّيْكَ لاَ شَرِيكَ لَكَ لَبَّيْكَ، إِنَّ الْحَمْدَ وَالنِّعْمَةَ لَكَ وَالْمُلْكُ، لاَ شَرِيكَ لَكَ ". وَيُسْتَحَبُّ أَلاَّ يَنْقُصَ مِنْهَا (1) .
قَال الطَّحَاوِيُّ وَالْقُرْطُبِيُّ: " أَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ عَلَى هَذِهِ التَّلْبِيَةِ ". وَأَمَّا الزِّيَادَةُ عَلَى التَّلْبِيَةِ، فَإِنْ كَانَتْ مِنَ الْمَأْثُورِ فَمُسْتَحَبٌّ. وَمَا لَيْسَ مَرْوِيًّا فَجَائِزٌ أَوْ حَسَنٌ، عَلَى تَفْصِيلٍ يُذْكَرُ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ (ر: تَلْبِيَةٌ)

مُوجِبُ الإِْحْرَامِ:
118 - إِذَا أَحْرَمَ شَخْصٌ بِنُسُكٍ وَجَبَ عَلَيْهِ إِتْمَامُهُ وَلَوْ كَانَ نَفْلاً فِي الأَْصْل. وَيَلْزَمُهُ جَمِيعُ مَا يَجِبُ عَلَى الْمُحْرِمِ فِعْلُهُ. وَلاَ يَتَحَلَّل مِنْ إِحْرَامِهِ إِلاَّ بَعْدَ أَدَاءِ هَذَا النُّسُكِ، عَلَى التَّفْصِيل الْمُتَقَدِّمِ. وَيَتَّصِل بِهَذَا بَيَانُ أَحْكَامِ مَا يُبْطِل الْحَجَّ وَمَا يُفْسِدُهُ وَمَا يَمْنَعُ الْمُضِيَّ فِيهِ.
119 - أَمَّا مَا يُبْطِلُهُ فَهُوَ الرِّدَّةُ، فَإِذَا ارْتَدَّ بَطَل نُسُكُهُ وَلاَ يَمْضِي فِيهِ.
__________
(1) مطالب أولي النهى 2 / 322

(2/174)


120 - أَمَّا مَا يُفْسِدُ النُّسُكَ فَهُوَ الْجِمَاعُ، وَعَلَيْهِ أَنْ يَمْضِيَ فِي نُسُكِهِ ثُمَّ الْقَضَاءُ مِنْ قَابِلٍ إِنْ كَانَ حَجًّا عَلَى مَا يَأْتِي بَيَانُهُ. وَإِنْ كَانَ عُمْرَةً فَعَلَيْهِ أَنْ يَمْضِيَ أَيْضًا فِيهَا ثُمَّ يَقْضِيَهَا وَلَوْ فِي عَامِهِ عَلَى التَّفْصِيل.
121 - أَمَّا مَا يَمْنَعُ الاِسْتِمْرَارَ فِي النُّسُكِ، وَهُوَ الإِْحْصَارُ وَالْفَوَاتُ، فَإِنَّ أَحْكَامَ ذَلِكَ تَرِدُ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ (ر: إِحْصَارٌ. فَوَاتٌ) .

الْفَصْل الثَّامِنُ
التَّحَلُّل مِنَ الإِْحْرَامِ
الْمُرَادُ بِالتَّحَلُّل هُنَا الْخُرُوجُ مِنَ الإِْحْرَامِ وَحِل مَا كَانَ مَحْظُورًا عَلَيْهِ وَهُوَ مُحْرِمٌ. وَهُوَ قِسْمَانِ: تَحَلُّلٌ أَصْغَرُ، وَتَحَلُّلٌ أَكْبَرُ

. التَّحَلُّل الأَْصْغَرُ:
122 - يَكُونُ التَّحَلُّل الأَْصْغَرُ بِفِعْل أَمْرَيْنِ مِنْ ثَلاَثَةٍ: رَمْيِ جَمْرَةِ الْعَقَبَةِ، وَالنَّحْرِ، وَالْحَلْقِ أَوِ التَّقْصِيرِ. وَيَحِل بِهَذَا التَّحَلُّل لُبْسُ الثِّيَابِ وَكُل شَيْءٍ مَا عَدَا النِّسَاءِ بِالإِْجْمَاعِ، وَالطِّيبِ عِنْدَ الْبَعْضِ، وَالصَّيْدِ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ.
وَالأَْصْل فِي هَذَا الْخِلاَفِ مَا وَرَدَ عَنِ السَّيِّدَةِ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّهَا ضَمَّخَتْ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْمِسْكِ قَبْل أَنْ يَطُوفَ طَوَافَ الإِْفَاضَةِ. وَقَدْ جَاءَ فِي بَعْضِ الأَْحَادِيثِ: أَنَّهُ إِذَا رَمَى جَمْرَةَ الْعَقَبَةِ فَقَدْ حَل لَهُ كُل شَيْءٍ إِلاَّ النِّسَاءَ وَالطِّيبَ، لِمَا أَخْرَجَهُ مَالِكٌ فِي الْمُوَطَّأِ عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ

(2/175)


أَنَّهُ خَطَبَ النَّاسَ بِعَرَفَةَ، وَعَلَّمَهُمْ أَمْرَ الْحَجِّ، وَقَال لَهُمْ فِيمَا قَال: إِذَا جِئْتُمْ فَمَنْ رَمَى الْجَمْرَةَ فَقَدْ حَل لَهُ مَا حُرِّمَ عَلَى الْحَاجِّ إِلاَّ النِّسَاءَ وَالطِّيبَ (1) . وَأَمَّا مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ مَالِكٌ مِنْ تَحْرِيمِ الصَّيْدِ كَذَلِكَ فَإِنَّهُ أَخَذَ بِعُمُومِ قَوْله تَعَالَى {لاَ تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ} (2) وَوَجْهُ الاِسْتِدْلاَل بِالآْيَةِ أَنَّ الْحَاجَّ يُعْتَبَرُ مُحْرِمًا مَا لَمْ يَطُفْ طَوَافَ الإِْفَاضَةِ.

التَّحَلُّل الأَْكْبَرُ:
123 - هُوَ التَّحَلُّل الَّذِي تَحِل بِهِ جَمِيعُ مَحْظُورَاتِ الإِْحْرَامِ دُونَ اسْتِثْنَاءٍ.
وَيَبْدَأُ الْوَقْتُ الَّذِي تَصِحُّ أَفْعَال التَّحَلُّل الأَْكْبَرِ فِيهِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ مِنْ طُلُوعِ فَجْرِ يَوْمِ النَّحْرِ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ مِنْ مُنْتَصَفِ لَيْلَةِ النَّحْرِ، وَذَلِكَ تَابِعٌ لاِخْتِلاَفِهِمْ فِيمَا يَحْصُل بِهِ التَّحَلُّل الأَْكْبَرُ. أَمَّا نِهَايَةُ وَقْتِهِ فَبِحَسَبِ مَا يَتَحَلَّل بِهِ، فَهُوَ لاَ يَنْتَهِي إِلاَّ بِفِعْل مَا يَتَحَلَّل بِهِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ؛ لأَِنَّهُ لاَ يَفُوتُ، كَمَا سَتَعْلَمُ، وَهُوَ الطَّوَافُ. وَأَمَّا عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ فَكَذَلِكَ إِنْ تَوَقَّفَ التَّحَلُّل الأَْكْبَرُ عَلَى الطَّوَافِ أَوِ الْحَلْقِ، أَوِ السَّعْيِ. أَمَّا الرَّمْيُ فَإِنَّهُ مُؤَقَّتٌ بِغُرُوبِ شَمْسِ آخِرِ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ، فَإِذَا تَوَقَّفَ عَلَيْهِ التَّحَلُّل، وَلَمْ يَرْمِ حَتَّى آخِرِ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ، فَاتَ وَقْتُ الرَّمْيِ بِالْكُلِّيَّةِ، فَيَحِل عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ بِمُجَرَّدِ فَوَاتِ الْوَقْتِ، وَإِنْ بَقِيَ عَلَيْهِ الْفِدَاءُ مُقَابِل ذَلِكَ. وَهَذَا قَوْلٌ
__________
(1) الترمذي 3 / 191 - 192، والنسائي 5 / 132، وأبو داود 2 / 163
(2) سورة المائدة / 95

(2/175)


عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، لَكِنَّ الأَْصَحَّ عِنْدَهُمْ أَنَّهُ بِفَوَاتِ وَقْتِ الرَّمْيِ يَنْتَقِل التَّحَلُّل إِلَى كَفَّارَتِهِ، فَلاَ يَحِل حَتَّى يُؤَدِّيَهَا.

مَا يَحْصُل بِهِ التَّحَلُّل الأَْكْبَرُ:
124 - يَحْصُل التَّحَلُّل الأَْكْبَرُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ بِطَوَافِ الإِْفَاضَةِ، بِشَرْطِ الْحَلْقِ هُنَا بِاتِّفَاقِ الطَّرَفَيْنِ. فَلَوْ أَفَاضَ وَلَمْ يَحْلِقْ لَمْ يَتَحَلَّل حَتَّى يَحْلِقَ عِنْدَ الْمَذْهَبَيْنِ. زَادَ الْمَالِكِيَّةُ: أَنْ يَكُونَ الطَّوَافُ مَسْبُوقًا بِالسَّعْيِ، وَإِلاَّ لاَ يَحِل بِهِ حَتَّى يَسْعَى، لأَِنَّ السَّعْيَ رُكْنٌ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ. وَقَال الْحَنَفِيَّةُ: لاَ مَدْخَل لِلسَّعْيِ فِي التَّحَلُّل؛ لأَِنَّهُ وَاجِبٌ مُسْتَقِلٌّ.
وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ يَحْصُل التَّحَلُّل الأَْكْبَرُ بِاسْتِكْمَال أَفْعَال التَّحَلُّل الَّتِي ذَكَرْنَاهَا: ثَلاَثَةٌ عَلَى الْقَوْل بِأَنَّ الْحَلْقَ نُسُكٌ، وَاثْنَانِ عَلَى الْقَوْل الآْخَرِ غَيْرِ الْمَشْهُورِ أَنَّهُ لَيْسَ بِنُسُكٍ.
وَحُصُول التَّحَلُّل الأَْكْبَرِ بِاسْتِكْمَال الأَْفْعَال الثَّلاَثَةِ: رَمْيِ جَمْرَةِ الْعَقَبَةِ، وَالْحَلْقِ، وَطَوَافِ الإِْفَاضَةِ الْمَسْبُوقِ بِالسَّعْيِ، مَحَل اتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ، وَبِهِ تَحِل جَمِيعُ مَحْظُورَاتِ الإِْحْرَامِ بِالإِْجْمَاعِ.
125 - ثُمَّ إِذَا حَصَل التَّحَلُّل الأَْكْبَرُ فِي الْيَوْمِ الأَْوَّل لِجَوَازِهِ مَثَلاً فَلاَ يَعْنِي انْتِهَاءَ كُل أَعْمَال الْحَجِّ، بَل يَجِبُ عَلَيْهِ الإِْتْيَانُ بِهَا، وَإِنْ كَانَ حَلاَلاً، وَقَدْ ضَرَبُوا لِهَذَا مَثَلاً لَطِيفًا يُبَيِّنُ حُسْنَ مَوْقِعِ هَذِهِ الأَْعْمَال بَعْدَ التَّحَلُّلَيْنِ، نَحْوَ قَوْل الرَّمْلِيِّ: " وَيَجِبُ عَلَيْهِ الإِْتْيَانُ بِمَا بَقِيَ مِنْ أَعْمَال الْحَجِّ، وَهُوَ الرَّمْيُ وَالْمَبِيتُ، مَعَ أَنَّهُ غَيْرُ مُحْرِمٍ، كَمَا يَخْرُجُ

(2/176)


بِالتَّسْلِيمَةِ الأُْولَى مِنْ صَلاَتِهِ، وَيُطْلَبُ مِنْهُ الثَّانِيَةُ. " (1)
التَّحَلُّل مِنْ إِحْرَامِ الْعُمْرَةِ:
126 - اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ لِلْعُمْرَةِ تَحَلُّلاً وَاحِدًا يَحِل بِهِ لِلْمُحْرِمِ جَمِيعُ مَحْظُورَاتِ الإِْحْرَامِ. وَيَحْصُل هَذَا التَّحَلُّل بِالْحَلْقِ أَوِ التَّقْصِيرِ بِاتِّفَاقِ الْمَذَاهِبِ (2) عَلَى اخْتِلاَفِهِمْ فِي حُكْمِهِ فِي مَنَاسِكِ الْعُمْرَةِ (3) .

مَا يَرْفَعُ الإِْحْرَامَ
127 - يَرْفَعُ الإِْحْرَامَ، بِتَحْوِيلِهِ عَمَّا نَوَاهُ الْمُحْرِمُ، أَمْرَانِ:
1 - فَسْخُ الإِْحْرَامِ.
2 - رَفْضُ الإِْحْرَامِ.
ذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ خِلاَفًا لِلْجُمْهُورِ إِلَى أَنَّ مَنْ كَانَ مُفْرِدًا أَوْ قَارِنًا (إِذَا لَمْ يَكُنْ قَدْ سَاقَ الْهَدْيَ) يُسْتَحَبُّ لَهُ إِذَا طَافَ وَسَعَى أَنْ يَفْسَخَ نِيَّتَهُ بِالْحَجِّ،
__________
(1) انظر التحلل الأكبر في الهداية وفتح القدير 2 / 183، والمسلك المتقسط ص 155، والدر المختار ورد المحتار 2 / 251، وشرح الرسالة وحاشية العدوي 1 / 479، وشرح الزرقاني 2 / 280، 281، والشرح الكبير وحاشيته 2 / 46، 47، والمجموع 8 / 172 - 174، والمنهاج بشرح المحلي وحاشيته 2 / 120، ونهاية المحتاج للرملي 2 / 431، والكافي 1 / 608، والمغني 3 / 442، ومطالب أولي النهى 2 / 427
(2) المسلك المتقسط ص 307، ورد المحتار 2 / 257، وحاشية العدوي على شرح الرسالة 1 / 483 وفيه التصريح بكون الحلق من شروط الكمال، ومطالب أولي النهى 2 / 444
(3)
(ر: عمرة)

(2/176)


وَيَنْوِيَ عُمْرَةً مُفْرَدَةً، ثُمَّ يُهِل بِالْحَجِّ. وَهَذَا مَبْنِيٌّ عِنْدَهُمْ عَلَى أَفْضَلِيَّةِ التَّمَتُّعِ. وَاسْتَدَل الْحَنَابِلَةُ بِمَا رَوَى ابْنُ عُمَرَ أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا قَدِمَ مَكَّةَ قَال لِلنَّاسِ: مَنْ كَانَ مِنْكُمْ أَهْدَى فَإِنَّهُ لاَ يَحِل مِنْ شَيْءٍ حَرُمَ مِنْهُ حَتَّى يَقْضِيَ حَجَّهُ، وَمَنْ لَمْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَهْدَى فَلْيَطُفْ بِالْبَيْتِ وَبِالصَّفَا وَالْمَرْوَةِ، وَلْيُقَصِّرْ، وَلْيَحْلِل، ثُمَّ لْيُهِل بِالْحَجِّ، وَلْيُهْدِ. أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ.
وَاسْتَدَل الْجُمْهُورُ عَلَى مَنْعِ فَسْخِ الْحَجِّ بِأَدِلَّةٍ مِنْهَا: قَوْله تَعَالَى {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} (1) فَقَدْ أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِإِكْمَال أَفْعَال الْحَجِّ وَأَفْعَال الْعُمْرَةِ لِمَنْ شَرَعَ فِي أَيٍّ مِنْهُمَا، وَالْفَسْخُ ضِدُّ الإِْتْمَامِ، فَلاَ يَكُونُ مَشْرُوعًا، وَمِنْهَا الأَْحَادِيثُ الَّتِي شُرِعَ بِهَا الإِْفْرَادُ وَالْقِرَانُ، وَقَدْ سَبَقَ ذِكْرُهَا.

رَفْضُ الإِْحْرَامِ
128 - رَفْضُ الإِْحْرَامِ: هُوَ تَرْكُ الْمُضِيِّ فِي النُّسُكِ بِزَعْمِ التَّحَلُّل مِنْهُ قَبْل إِتْمَامِهِ.
وَرَفْضُ الإِْحْرَامِ لَغْوٌ بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ، وَلاَ يَبْطُل بِهِ الإِْحْرَامُ، وَلاَ يَخْرُجُ بِهِ عَنْ أَحْكَامِهِ (2) .

مَا يُبْطِل الإِْحْرَامَ:
129 - يَبْطُل الإِْحْرَامُ بِأَمْرٍ وَاحِدٍ فَقَطْ، مُتَّفَقٍ عَلَيْهِ بَيْنَ الْجَمِيعِ: هُوَ الرِّدَّةُ عَنِ الإِْسْلاَمِ، عِيَاذًا بِاللَّهِ تَعَالَى
__________
(1) سورة البقرة / 196
(2) المسلك المتقسط ص 272، والدسوقي على الشرح الكبير 2 / 27، وانظر مواهب الجليل 3 / 48، 49، وشرح الزرقاني 2 / 257

(2/177)


وَذَلِكَ لأَِنَّهُمُ اتَّفَقُوا عَلَى كَوْنِ الإِْسْلاَمِ شَرْطًا لِصِحَّةِ النُّسُكِ. وَيَتَفَرَّعُ عَلَى بُطْلاَنِ الإِْحْرَامِ أَنَّهُ لاَ يَمْضِي فِي مُتَابَعَةِ أَعْمَال مَا أَحْرَمَ بِهِ، خِلاَفًا لِلْفَاسِدِ. وَأَمَّا إِذَا أَسْلَمَ وَتَابَ عَنْ رِدَّتِهِ فَلاَ يَمْضِي أَيْضًا؛ لِبُطْلاَنِ إِحْرَامِهِ (1) .

الْفَصْل التَّاسِعُ
أَحْكَامٌ خَاصَّةٌ فِي الإِْحْرَامِ
130 - وَهِيَ أَحْكَامٌ مُسْتَثْنَاةٌ مِنْ عُمُومِ أَحْكَامِ الإِْحْرَامِ الْعَامَّةِ، بِسَبَبِ وَضْعٍ خَاصٍّ لِبَعْضِ الأَْشْخَاصِ، أَوْ بِسَبَبِ طُرُوءِ بَعْضِ الطَّوَارِئِ، كَمَا فِي السَّرْدِ التَّالِي:
أ - إِحْرَامُ الْمَرْأَةِ.
ب - إِحْرَامُ الصَّبِيِّ.
ج - إِحْرَامُ الْعَبْدِ وَالأَْمَةِ.
د - إِحْرَامُ الْمُغْمَى عَلَيْهِ.
هـ - نِسْيَانُ مَا أَحْرَمَ بِهِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ بَعْضُ ذَلِكَ، وَنَدْرُسُ مَا بَقِيَ مِنْهَا، كُلًّا مِنْهَا وَحْدَهُ.
__________
(1) الإقناع في حل ألفاظ أبي شجاع للخطيب الشربيني وحاشيته للبجيرمي 2 / 366 وقد وقع في الشرح قوله " فلا يمضي في فاسده " فنه في الحاشية فقال " الصواب في باطله " وفي نسخة الحاشية تصحيف مطبعي " الثواب " بدلا من " الصواب "

(2/177)


إِحْرَامُ الصَّبِيِّ
مَشْرُوعِيَّةُ حَجِّ الصَّبِيِّ وَصِحَّةُ إِحْرَامِهِ:
131 - اتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ عَلَى صِحَّةِ حَجِّ الصَّبِيِّ، وَعُمْرَتِهِ، وَأَنَّ مَا يُؤَدِّيهِ مِنْ عِبَادَةٍ أَوْ مِنْ حَجٍّ أَوْ مِنْ عُمْرَةٍ يَكُونُ تَطَوُّعًا، فَإِذَا بَلَغَ وَجَبَ عَلَيْهِ حَجَّةُ فَرْضِ الإِْسْلاَمِ. وَإِذَا كَانَ أَدَاءُ الصَّبِيِّ لِلنُّسُكِ صَحِيحًا كَانَ إِحْرَامُهُ صَحِيحًا قَطْعًا (1) .

صِفَةُ إِحْرَامِ الصَّبِيِّ:
132 - يَنْقَسِمُ الصَّبِيُّ بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَرْحَلَةِ صِبَاهُ إِلَى قِسْمَيْنِ: صَبِيٍّ مُمَيِّزٍ، وَصَبِيٍّ غَيْرِ مُمَيِّزٍ. وَضَابِطُ الْمُمَيِّزِ: هُوَ الَّذِي يَفْهَمُ الْخِطَابَ وَيَرُدُّ الْجَوَابَ، دُونَ اعْتِبَارٍ لِلسِّنِّ.
133 - أَمَّا الصَّبِيُّ الْمُمَيِّزُ: فَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ يَنْعَقِدُ إِحْرَامُهُ بِنَفْسِهِ، وَلاَ تَصِحُّ النِّيَابَةُ عَنْهُ فِي الإِْحْرَامِ، لِعَدَمِ جَوَازِ النِّيَابَةِ عِنْدَ عَدَمِ الضَّرُورَةِ. وَلاَ تَتَوَقَّفُ صِحَّةُ إِحْرَامِهِ عَلَى إِذْنِ الْوَلِيِّ، بَل يَصِحُّ إِحْرَامُهُ بِإِذْنِ الْوَلِيِّ، وَبِغَيْرِ إِذْنِ الْوَلِيِّ، لَكِنْ إِذَا أَحْرَمَ بِغَيْرِ إِذْنِ الْوَلِيِّ فَقَدْ صَرَّحَ الْمَالِكِيَّةُ أَنَّ لِلْوَلِيِّ تَحْلِيلَهُ، وَلَهُ إِجَازَةُ فِعْلِهِ وَإِبْقَاؤُهُ عَلَى إِحْرَامِهِ بِحَسَبِ مَا يَرَى مِنَ الْمَصْلَحَةِ. فَإِنْ كَانَ يَرْتَجِي بُلُوغَهُ فَالأَْوْلَى تَحْلِيلُهُ لِيُحْرِمَ بِالْفَرْضِ بَعْدَ بُلُوغِهِ. فَإِنْ أَحْرَمَ بِإِذْنِهِ لَمْ يَكُنْ لَهُ تَحْلِيلُهُ، أَمَّا إِذَا أَرَادَ الْوَلِيُّ الرُّجُوعَ عَنِ الإِْذْنِ قَبْل الإِْحْرَامِ فَقَال الْحَطَّابُ: " الظَّاهِرُ أَنَّ لَهُ الرُّجُوعَ، لاَ سِيَّمَا إِذَا كَانَ لِمَصْلَحَتِهِ ".
__________
(1) رد المختار 2 / 193، 194

(2/178)


وَلَمْ يُصَرِّحْ بِذَلِكَ الْحَنَفِيَّةُ. وَلَعَلَّهُ يَدْخُل فِي الإِْحْصَارِ بِمَنْعِ السُّلْطَانِ عِنْدَهُمْ (1) . وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ لاَ يَنْعَقِدُ إِحْرَامُهُ إِلاَّ بِإِذْنِ وَلِيِّهِ، بَل قَال الشَّافِعِيَّةُ: يَصِحُّ إِحْرَامُ وَلِيِّهِ عَنْهُ، عَلَى الأَْصَحِّ عِنْدَهُمْ فِي الْمَسْأَلَتَيْنِ. أَمَّا عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ فَلاَ يُحْرِمُ عَنْهُ وَلِيُّهُ لِعَدَمِ الدَّلِيل. وَيَفْعَل الصَّبِيُّ الصَّغِيرُ الْمُمَيِّزُ كُل مَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يَفْعَلَهُ بِنَفْسِهِ، فَإِنْ قَدَرَ عَلَى الطَّوَافِ عَلَّمَهُ فَطَافَ، وَإِلاَّ طِيفَ بِهِ، وَكَذَلِكَ السَّعْيُ وَسَائِرُ الْمَنَاسِكِ. وَلاَ تَجُوزُ النِّيَابَةُ عَنْهُ فِيمَا قَدَرَ عَلَيْهِ بِنَفْسِهِ، وَكُل مَا لاَ يَقْدِرُ الصَّبِيُّ عَلَى أَدَائِهِ يَنُوبُ عَنْهُ وَلِيُّهُ فِي أَدَائِهِ.
134 - وَأَمَّا الصَّبِيُّ غَيْرُ الْمُمَيِّزِ - وَمِثْلُهُ الْمَجْنُونُ جُنُونًا مُطْبَقًا - فَيُحْرِمُ عَنْهُ وَلِيُّهُ، بِأَنْ يَقُول: نَوَيْتُ إِدْخَال هَذَا الصَّبِيِّ فِي حُرُمَاتِ الْحَجِّ، مَثَلاً. وَلَيْسَ الْمُرَادُ أَنَّ الْوَلِيَّ يُحْرِمُ فِي نَفْسِهِ وَيَقْصِدُ النِّيَابَةَ عَنِ الصَّبِيِّ. وَلاَ يَنْعَقِدُ إِحْرَامُ الصَّبِيِّ غَيْرِ الْمُمَيِّزِ بِنَفْسِهِ اتِّفَاقًا.
135 - وَيُؤَدِّي الْوَلِيُّ بِالصَّبِيِّ غَيْرِ الْمُمَيِّزِ الْمَنَاسِكَ، فَيُجَرِّدُهُ مِنَ الْمَخِيطِ وَالْمُحِيطِ إِنْ كَانَ ذَكَرًا، وَيَكْشِفُ وَجْهَ الأُْنْثَى وَكَفَّيْهَا كَالْكَبِيرَةِ عَلَى مَا سَبَقَ فِيهِ (2) وَيَطُوفُ بِهِ وَيَسْعَى، وَيَقِفُ بِهِ بِعَرَفَةَ وَالْمُزْدَلِفَةِ، وَيَرْمِي عَنْهُ، وَيُجَنِّبُهُ مَحْظُورَاتِ الإِْحْرَامِ، وَهَكَذَا. لَكِنْ لاَ يُصَلِّي عَنْهُ رَكْعَتَيِ الإِْحْرَامِ أَوِ الطَّوَافِ، بَل تَسْقُطَانِ عَنْهُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ، أَمَّا عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ فَيُصَلِّيهِمَا الْوَلِيُّ عَنْهُ، وَهُوَ ظَاهِرُ كَلاَمِ الْحَنَابِلَةِ (3) .
__________
(1) انظر مصطلح إحصار.
(2) ف 67، 68
(3) حيث أطلقوا أداء الولي عن الصبي مما عجز عنه دون استثناء.

(2/178)


إِلاَّ أَنَّ الْمَالِكِيَّةَ خَفَّفُوا فِي الإِْحْرَامِ وَالتَّجَرُّدِ مِنَ الثِّيَابِ، فَقَالُوا: " يُحْرِمُ الْوَلِيُّ بِالصَّغِيرِ غَيْرِ الْمُمَيِّزِ، وَيُجَرِّدُهُ مِنْ ثِيَابِهِ قُرْبَ مَكَّةَ، لِخَوْفِ الْمَشَقَّةِ وَحُصُول الضَّرَرِ. فَإِنْ كَانَتِ الْمَشَقَّةُ أَوِ الضَّرَرُ يَتَحَقَّقُ بِتَجْرِيدِهِ قُرْبَ مَكَّةَ أَحْرَمَ بِغَيْرِ تَجْرِيدِهِ، كَمَا هُوَ الظَّاهِرُ مِنْ كَلاَمِهِمْ - وَيَفْدِي ".

بُلُوغُ الصَّبِيِّ فِي أَثْنَاءِ النُّسُكِ:
136 - إِنْ بَلَغَ الصَّبِيُّ الْحُلُمَ بَعْدَمَا أَحْرَمَ، فَمَضَى فِي نُسُكِهِ عَلَى إِحْرَامِهِ الأَْوَّل، لَمْ يُجْزِهِ حَجُّهُ عَنْ فَرْضِ الإِْسْلاَمِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ. وَقَال الْحَنَفِيَّةُ: لَوْ جَدَّدَ الصَّبِيُّ الإِْحْرَامَ قَبْل الْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ، وَنَوَى حَجَّةَ الإِْسْلاَمِ، جَازَ عَنْ حَجَّةِ الإِْسْلاَمِ؛ لأَِنَّ إِحْرَامَ الصَّبِيِّ غَيْرُ لاَزِمٍ لِعَدَمِ أَهْلِيَّتِهِ لِلُّزُومِ عَلَيْهِ. وَقَال الْمَالِكِيَّةُ لاَ يُرْتَفَضُ إِحْرَامُهُ السَّابِقُ، وَلاَ يُجْزِيهِ إِرْدَافُ إِحْرَامٍ عَلَيْهِ، وَلاَ يَنْقَلِبُ إِحْرَامُهُ عَنِ الْفَرْضِ، لأَِنَّهُ اخْتَل شَرْطُ الْوُقُوعِ فَرْضًا، وَهُوَ ثُبُوتُ الْحُرِّيَّةِ وَالتَّكْلِيفِ، وَقْتَ الإِْحْرَامِ. وَهَذَا لَمْ يَكُنْ مُكَلَّفًا وَقْتَ الإِْحْرَامِ، فَلاَ يَقَعُ نُسُكُهُ هَذَا إِلاَّ نَفْلاً.
أَمَّا الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ فَقَالُوا: إِنْ بَلَغَ الصَّبِيُّ فِي أَثْنَاءِ الْحَجِّ يُنْظَرُ إِلَى حَالِهِ مِنَ الْوُقُوفِ فَيَنْقَسِمُ إِلَى قِسْمَيْنِ:
الأَْوَّل: أَنْ يَبْلُغَ بَعْدَ خُرُوجِ وَقْتِ الْوُقُوفِ، أَوْ قَبْل خُرُوجِهِ وَبَعْدَ مُفَارَقَةِ عَرَفَاتٍ لَكِنْ لَمْ يَعُدْ إِلَيْهَا بَعْدَ الْبُلُوغِ، فَهَذَا لاَ يُجْزِيهِ حَجُّهُ عَنْ حَجَّةِ الإِْسْلاَمِ.
الثَّانِي: أَنْ يَبْلُغَ فِي حَال الْوُقُوفِ، أَوْ يَبْلُغَ بَعْدَ وُقُوفِهِ بِعَرَفَةَ، فَيَعُودَ وَيَقِفَ بِهَا فِي وَقْتِ الْوُقُوفِ، أَيْ

(2/179)


قَبْل طُلُوعِ فَجْرِ يَوْمِ النَّحْرِ، فَهَذَا يُجْزِيهِ حَجُّهُ عَنْ حَجَّةِ الإِْسْلاَمِ. لَكِنْ يَجِبُ عَلَيْهِ إِعَادَةُ السَّعْيِ إِنْ كَانَ سَعَى عَقِبَ طَوَافِ الْقُدُومِ قَبْل الْبُلُوغِ، وَلاَ دَمَ عَلَيْهِ.
أَمَّا فِي الْعُمْرَةِ: فَالطَّوَافُ فِي الْعُمْرَةِ كَالْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ فِي الْحَجِّ، إِذَا بَلَغَ قَبْل طَوَافِ الْعُمْرَةِ أَجْزَأَهُ عَنْ عُمْرَةِ الإِْسْلاَمِ، عِنْدَ مَنْ يَقُول بِوُجُوبِهَا.

إِحْرَامُ الْمُغْمَى عَلَيْهِ
137 - لِلْمُغْمَى عَلَيْهِ حَالاَنِ: أَنْ يُغْمَى عَلَيْهِ قَبْل الإِْحْرَامِ، أَوْ يُغْمَى عَلَيْهِ بَعْدَ الإِْحْرَامِ.

أَوَّلاً: مَنْ أُغْمِيَ عَلَيْهِ قَبْل الإِْحْرَامِ:
138 - فِي الْمَذَاهِبِ الثَّلاَثَةِ الْمَالِكِيِّ وَالشَّافِعِيِّ وَالْحَنْبَلِيِّ: لاَ إِحْرَامَ لَهُ، وَلاَ يُحْرِمُ عَنْهُ أَحَدٌ مِنْ رُفْقَتِهِ وَلاَ غَيْرِهِمْ، سَوَاءٌ أَمَرَهُمْ بِذَلِكَ قَبْل أَنْ يُغْمَى عَلَيْهِ أَوْ لَمْ يَأْمُرْهُمْ، وَلَوْ خِيفَ فَوَاتُ الْحَجِّ عَلَيْهِ؛ لأَِنَّ الإِْغْمَاءَ مَظِنَّةُ عَدَمِ الطُّول، وَيُرْجَى زَوَالُهُ عَنْ قُرْبٍ غَالِبًا. وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى جَوَازِ الإِْحْرَامِ عَنِ الْمُغْمَى عَلَيْهِ، عَلَى تَفْصِيلٍ بَيْنَ الإِْمَامِ وَصَاحِبَيْهِ:
أ - مَنْ تَوَجَّهَ إِلَى الْبَيْتِ الْحَرَامِ يُرِيدُ الْحَجَّ فَأُغْمِيَ عَلَيْهِ قَبْل الإِْحْرَامِ، أَوْ نَامَ وَهُوَ مَرِيضٌ فَنَوَى عَنْهُ وَلَبَّى أَحَدُ رُفْقَتِهِ، وَكَذَا مِنْ غَيْرِ رُفْقَتِهِ وَكَانَ قَدْ أَمَرَهُمْ بِالإِْحْرَامِ عَنْهُ قَبْل الإِْغْمَاءِ، صَحَّ الإِْحْرَامُ عَنْهُ، وَيَصِيرُ الْمُغْمَى عَلَيْهِ مُحْرِمًا بِنِيَّةِ رَفِيقِهِ وَتَلْبِيَتِهِ عَنْهُ اتِّفَاقًا بَيْنَ أَئِمَّةِ الْحَنَفِيَّةِ. وَيُجْزِيهِ عَنْ حَجَّةِ الإِْسْلاَمِ.
ب - إِنْ أَحْرَمَ عَنْهُ بَعْضُ رُفْقَتِهِ أَوْ غَيْرُهُمْ بِلاَ أَمْرٍ سَابِقٍ عَلَى الإِْغْمَاءِ صَحَّ كَذَلِكَ عِنْدَ الإِْمَامِ أَبِي حَنِيفَةَ، وَلَمْ يَصِحَّ عِنْدَ صَاحِبَيْهِ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ.

(2/179)


فُرُوعٌ:
139 - أ - إِنْ أَفَاقَ الْمُغْمَى عَلَيْهِ بَعْدَمَا أَحْرَمَ عَنْهُ غَيْرُهُ، فَهُوَ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ مُحْرِمٌ يُتَابِعُ النُّسُكَ.
وَعِنْدَ غَيْرِهِمْ لاَ عِبْرَةَ بِإِحْرَامِ غَيْرِهِ عَنْهُ، فَإِنْ كَانَ بِحَيْثُ يُدْرِكُ الْوُقُوفَ بِعَرَفَةَ أَحْرَمَ بِالْحَجِّ، وَأَدَّى الْمَنَاسِكَ، وَإِلاَّ فَإِنَّهُ يُحْرِمُ بِعُمْرَةٍ. وَلاَ يَنْطَبِقُ عَلَيْهِ حُكْمُ الْفَوَاتِ عِنْدَ الثَّلاَثَةِ؛ لأَِنَّهُ لَمْ يَكُنْ مُحْرِمًا.

140 - ب - لاَ يَجِبُ عَلَى مَنْ أَحْرَمَ عَنِ الْمُغْمَى عَلَيْهِ تَجْرِيدُهُ مِنَ الْمَخِيطِ وَإِلْبَاسُهُ غَيْرَ الْمَخِيطِ لِصِحَّةِ الإِْحْرَامِ؛ لأَِنَّ ذَلِكَ لَيْسَ هُوَ الإِْحْرَامُ، بَل كَفٌّ عَنْ بَعْضِ مَحْظُورَاتِ الإِْحْرَامِ. حَتَّى إِذَا أَفَاقَ وَجَبَ عَلَيْهِ أَفْعَال النُّسُكِ، وَالْكَفُّ عَنِ الْمَحْظُورَاتِ.

141 - ج - لَوِ ارْتَكَبَ الْمُغْمَى عَلَيْهِ الَّذِي أَحْرَمَ عَنْهُ غَيْرُهُ مَحْظُورًا مِنْ مُحَرَّمَاتِ الإِْحْرَامِ لَزِمَهُ مُوجِبُهُ، أَيْ كَفَّارَتُهُ، وَإِنْ كَانَ غَيْرَ قَاصِدٍ لِلْمَحْظُورِ. وَلاَ يَلْزَمُ الرَّفِيقَ الَّذِي أَحْرَمَ عَنْهُ؛ لأَِنَّ هَذَا الرَّفِيقَ أَحْرَمَ عَنْ نَفْسِهِ بِطَرِيقِ الأَْصَالَةِ، وَعَنِ الْمُغْمَى عَلَيْهِ بِطَرِيقِ النِّيَابَةِ، كَالْوَلِيِّ يُحْرِمُ عَنِ الصَّغِيرِ. فَيَنْتَقِل إِحْرَامُهُ إِلَيْهِ، فَيَصِيرُ مُحْرِمًا كَمَا لَوْ نَوَى هُوَ وَلَبَّى، وَلِذَا لَوِ ارْتَكَبَ هُوَ أَيْضًا - أَيِ الْوَلِيُّ - مَحْظُورًا لَزِمَهُ جَزَاءٌ وَاحِدٌ لإِِحْرَامِ نَفْسِهِ، وَلاَ شَيْءَ عَلَيْهِ مِنْ جِهَةِ إِهْلاَلِهِ عَنْ غَيْرِهِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ كَمَا سَبَقَ.
142 - د - إِذَا لَمْ يُفِقْ الْمُغْمَى عَلَيْهِ فَهَل يَشْهَدُ بِهِ رُفْقَتُهُ الْمَشَاهِدَ، عَلَى أَسَاسِ الإِْحْرَامِ عَنْهُ الَّذِي قَال بِهِ الْحَنَفِيَّةُ؟ هُنَاكَ قَوْلاَنِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ: قِيل: لاَ يَجِبُ عَلَى الرُّفَقَاءِ أَنْ يَشْهَدُوا بِهِ الْمَشَاهِدَ، كَالطَّوَافِ وَالْوُقُوفِ وَالرَّمْيِ وَالْوُقُوفِ

(2/180)


بِمُزْدَلِفَةَ، بَل مُبَاشَرَتُهُمْ عَنْهُ تُجْزِيهِ، لَكِنْ إِحْضَارُهُ أَوْلَى، عَلَى مَا صَرَّحَ بِهِ بَعْضُ أَصْحَابِ هَذَا الْقَوْل. وَهَذَا الأَْصَحُّ عَلَى مَا أَفَادَ فِي رَدِّ الْمُحْتَارِ الْمُعْتَمَدِ فِي الْفَتْوَى فِي مَذْهَبِ الْحَنَفِيَّةِ، لَكِنْ لاَ بُدَّ لِلإِْجْزَاءِ عَنْهُ مِنْ نِيَّةِ الْوُقُوفِ عَنْهُ، وَالطَّوَافِ عَنْهُ بَعْدَ طَوَافِ النَّائِبِ عَنْ نَفْسِهِ، وَهَكَذَا.

ثَانِيًا: مَنْ أُغْمِيَ عَلَيْهِ بَعْدَ إِحْرَامِهِ بِنَفْسِهِ:
143 - الإِْغْمَاءُ بَعْدَ الإِْحْرَامِ لاَ يُؤَثِّرُ فِي صِحَّتِهِ، بِاتِّفَاقِ الأَْئِمَّةِ. وَعَلَى ذَلِكَ فَهَذَا حَمْلُهُ مُتَعَيِّنٌ عَلَى رُفَقَائِهِ، وَلاَ سِيَّمَا لِلْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ، فَإِنَّهُ يَصِحُّ وَلَوْ كَانَ نَائِمًا أَوْ مُغْمًى عَلَيْهِ، عَلَى تَفْصِيلٍ فِي أَدَاءِ الْمَنَاسِكِ لَهُ يُطْلَبُ فِي مَوْضِعِهِ مِنْ مُصْطَلَحِ " حَجٌّ " وَمُصْطَلَحِ " عُمْرَةٌ (1) ".

نِسْيَانُ مَا أَحْرَمَ بِهِ

144 - مَنْ أَحْرَمَ بِشَيْءٍ مُعَيَّنٍ، مِثْل حَجٍّ، أَوْ عُمْرَةٍ، أَوْ قِرَانٍ، ثُمَّ نَسِيَ مَا أَحْرَمَ بِهِ، لَزِمَهُ حَجٌّ وَعُمْرَةٌ. وَيَعْمَل عَمَل الْقِرَانِ فِي الْمَذَاهِبِ الثَّلاَثَةِ: الْحَنَفِيِّ وَالْمَالِكِيِّ وَالشَّافِعِيِّ. وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ يَصْرِفُ إِحْرَامَهُ إِلَى أَيِّ نُسُكٍ شَاءَ، وَيُنْدَبُ صَرْفُهُ إِلَى الْعُمْرَةِ خَاصَّةً.
__________
(1) انظر هذا المبحث في الهداية وفتح القدير والعناية / 192، 193، والمسلك المتقسط ص 75، 76، ورد المحتار 2 / 257 - 259، وانظر الشرح الكبير وحاشيته 2 / 3، وشرح الزرقاني 2 / 231، والمجموع 7 / 33، والإيضاح ص 553، وشرح المحلي 2 / 85، ونهاية المحتاج 2 / 372، وحاشيته للشبراملسي، والمغني 3 / 256

(2/180)


الْفَصْل الْعَاشِرُ
فِي كَفَّارَاتِ مَحْظُورَاتِ الإِْحْرَامِ (1)
تَعْرِيفُهَا:
145 - الْمُرَادُ بِالْكَفَّارَةِ هُنَا: الْجَزَاءُ الَّذِي يَجِبُ عَلَى مَنِ ارْتَكَبَ شَيْئًا مِنْ مَحْظُورَاتِ الإِْحْرَامِ. وَهَذِهِ الأَْجْزِيَةُ أَنْوَاعٌ:
1 - الْفِدْيَةُ: حَيْثُ أُطْلِقَتْ فَالْمُرَادُ الْفِدْيَةُ الْمُخَيَّرَةُ الَّتِي نَصَّ عَلَيْهَا الْقُرْآنُ فِي: قَوْله تَعَالَى {فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ} . (2)
2 - الْهَدْيُ: وَرُبَّمَا عَبَّرَ عَنْهُ بِالدَّمِ. وَكُل مَوْضِعٍ أُطْلِقَ فِيهِ الدَّمُ أَوِ الْهَدْيُ تُجْزِئُ فِيهِ الشَّاةُ، إِلاَّ مَنْ جَامَعَ بَعْدَ الْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ فَعَلَيْهِ بَدَنَةٌ (أَيْ مِنَ الإِْبِل) اتِّفَاقًا. أَمَّا مَنْ جَامَعَ قَبْل الْوُقُوفِ فَإِنَّهُ يَفْسُدُ حَجُّهُ اتِّفَاقًا وَعَلَيْهِ بَدَنَةٌ عِنْدَ الثَّلاَثَةِ، وَقَال الْحَنَفِيَّةُ: عَلَيْهِ شَاةٌ، وَيَمْضِي فِي حَجِّهِ، وَيَقْضِيهِ.
3 - الصَّدَقَةُ: حَيْثُ أَطْلَقَ وُجُوبَ " صَدَقَةٍ " عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ مِنْ غَيْرِ بَيَانِ مِقْدَارِهَا فَإِنَّهُ يَجِبُ نِصْفُ صَاعٍ مِنْ بُرٍّ (قَمْحٍ) أَوْ صَاعٌ مِنْ شَعِيرٍ أَوْ تَمْرٍ.
4 - الصِّيَامُ: يَجِبُ الصِّيَامُ عَلَى التَّخْيِيرِ فِي الْفِدْيَةِ، وَهُوَ ثَلاَثَةُ أَيَّامٍ. وَيَجِبُ فِي مُقَابَلَةِ الإِْطْعَامِ.
5 - الضَّمَانُ بِالْمِثْل: فِي جَزَاءِ الصَّيْدِ، عَلَى مَا سَيَأْتِي.
146 - يَسْتَوِي إِحْرَامُ الْعُمْرَةِ مَعَ إِحْرَامِ الْحَجِّ فِي
__________
(1) ويعبر عنها الحنفية " بالجنايات " ويدرسونها تحت هذا العنوان مع دراستهم للإخلال بشيء من واجبات الحج والعمرة ويدرسها غيرهم مقترنة بدرس محظورات الإحرام.
(2) سورة البقرة / 196

(2/181)


عُقُوبَةِ الْجِنَايَةِ عَلَيْهِ. إِلاَّ مَنْ جَامَعَ فِي الْعُمْرَةِ قَبْل أَدَاءِ رُكْنِهَا، فَتَفْسُدُ اتِّفَاقًا كَمَا ذَكَرْنَا، وَعَلَيْهِ شَاةٌ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، وَقَال الشَّافِعِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ: عَلَيْهِ بَدَنَةٌ.

الْمَبْحَثُ الأَْوَّل
فِي كَفَّارَةِ مَحْظُورَاتِ التَّرَفُّهِ.
147 - يَتَنَاوَل هَذَا الْبَحْثُ كَفَّارَةَ مَحْظُورَاتِ اللُّبْسِ، وَتَغْطِيَةِ الرَّأْسِ، وَالاِدِّهَانِ، وَالتَّطَيُّبِ، وَحَلْقِ الشَّعْرِ أَوْ إِزَالَتِهِ أَوْ قِطْعَةٍ مِنَ الرَّأْسِ أَوْ غَيْرِهِ، وَقَلْمِ الظُّفُرِ.
أَصْل كَفَّارَةِ مَحْظُورَاتِ التَّرَفُّهِ
148 - اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ مَنْ فَعَل مِنَ الْمَحْظُورَاتِ شَيْئًا لِعُذْرِ مَرَضٍ أَوْ دَفْعِ أَذًى فَإِنَّ عَلَيْهِ الْفِدْيَةَ، يَتَخَيَّرُ فِيهَا: إِمَّا أَنْ يَذْبَحَ هَدْيًا، أَوْ يَتَصَدَّقَ بِإِطْعَامِ سِتَّةِ مَسَاكِينَ، أَوْ يَصُومَ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَلاَ تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ} . (1) وَلِمَا وَرَدَ عَنْ كَعْبِ بْنِ عُجْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال لَهُ حِينَ رَأَى هَوَامَّ رَأْسِهِ: أَيُؤْذِيكَ هَوَامُّ رَأْسِكَ؟ قَال: قُلْتُ: نَعَمْ. قَال: فَاحْلِقْ، وَصُمْ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ، أَوْ أَطْعِمْ سِتَّةَ مَسَاكِينَ، أَوِ انْسُكْ نَسِيكَةً مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
149 - وَأَمَّا الْعَامِدُ الَّذِي لاَ عُذْرَ لَهُ فَقَدِ اخْتَلَفُوا فِيهِ:
__________
(1) سورة البقرة / 196

(2/181)


فَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ (1) وَالشَّافِعِيَّةُ (2) وَالْحَنَابِلَةُ (3) إِلَى أَنَّهُ يَتَخَيَّرُ، كَالْمَعْذُورِ، وَعَلَيْهِ إِثْمُ مَا فَعَلَهُ. وَاسْتَدَلُّوا بِالآْيَةِ. وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ (4) إِلَى أَنَّ الْعَامِدَ لاَ يَتَخَيَّرُ، بَل يَجِبُ عَلَيْهِ الدَّمُ عَيْنًا أَوِ الصَّدَقَةُ عَيْنًا، حَسَبَ جِنَايَتِهِ. وَاسْتَدَلُّوا عَلَى ذَلِكَ بِالأَْدِلَّةِ السَّابِقَةِ.
وَجْهُ الاِسْتِدْلاَل: أَنَّ التَّخْيِيرَ شُرِعَ فِيهَا عِنْدَ الْعُذْرِ مِنْ مَرَضٍ أَوْ أَذًى، وَغَيْرُ الْمَعْذُورِ جِنَايَتُهُ أَغْلَظُ، فَتَتَغَلَّظُ عُقُوبَتُهُ، وَذَلِكَ بِنَفْيِ التَّخْيِيرِ فِي حَقِّهِ.
150 - وَأَمَّا الْمَعْذُورُ بِغَيْرِ الأَْذَى وَالْمَرَضِ: كَالنَّاسِي وَالْجَاهِل بِالْحُكْمِ وَالْمُكْرَهِ وَالنَّائِمِ وَالْمُغْمَى عَلَيْهِ، فَحُكْمُهُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ (5) الْمَالِكِيَّةِ (6) حُكْمُ الْعَامِدِ، عَلَى مَا سَبَقَ.
وَوَجْهُ حُكْمِهِ هَذَا: أَنَّ الاِرْتِفَاقَ حَصَل لَهُ، وَعَدَمُ الاِخْتِيَارِ أَسْقَطَ الإِْثْمَ عَنْهُ، كَمَا وَجَّهَهُ الْحَنَفِيَّةُ. وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ (7) وَالْحَنَابِلَةُ (8) إِلَى التَّمْيِيزِ بَيْنَ جِنَايَةٍ
__________
(1) شرح الزرقاني 2 / 305، والشرح الكبير وحاشته 2 / 67. وفيه أن المحذور يفدى ولا يأثم، فدل على أن غير المعذور يفدي ويأثم.
(2) المجموع 7 / 371، ونهاية المحتاج 2 / 452 - 456
(3) المغني 3 / 493، والمقنع 1 / 416
(4) المسلك المتقسط ص 119، 200، 223، والدر المختار بحاشيته 2 / 274، 275
(5) المسلك المتقسط ص 119، 200، 223، والدر المختار بحاشيته 2 / 274، 275
(6) كما تفيده إطلاقات عباراتهم في لزوم الفدية على المعذور، وإنما ينتفي عنه الإثم. انظر شرح الزرقاني 2 / 305، وشرح الرسالة بحاشية العدوي 1 / 488، والشرح الكبير بحاشيته 2 / 67، وحاشية الصفتي على العشماوية ص 193
(7) المجموع 7 / 347 - 349، ونهاية المحتاج 2 / 452، 454
(8) المغني 3 / 501 - 502، والكافي 1 / 561 - 562، والمقنع بحاشيته 1 / 424، 425، ومطالب أولي النهى 2 / 362، 363

(2/182)


فِيهَا إِتْلاَفٌ، وَهِيَ هُنَا الْحَلْقُ أَوْ قَصُّ الشَّعْرِ أَوْ قَلْمُ الظُّفُرِ، وَجِنَايَةٍ لَيْسَ فِيهَا إِتْلاَفٌ، وَهِيَ: اللُّبْسُ وَتَغْطِيَةُ الرَّأْسِ، وَالاِدِّهَانُ وَالتَّطَيُّبُ. فَأَوْجَبُوا الْفِدْيَةَ فِي الإِْتْلاَفِ؛ لأَِنَّهُ يَسْتَوِي عَمْدُهُ وَسَهْوُهُ، وَلَمْ يُوجِبُوا فِدْيَةً فِي غَيْرِ الإِْتْلاَفِ، بَل أَسْقَطُوا الْكَفَّارَةَ عَنْ صَاحِبِ أَيِّ عُذْرٍ مِنْ هَذِهِ الأَْعْذَارِ.

تَفْصِيل كَفَّارَةِ مَحْظُورَاتِ التَّرَفُّهِ
151 - الأَْصْل فِي هَذَا التَّفْصِيل هُوَ الْقِيَاسُ عَلَى الأَْصْل السَّابِقِ الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ بِخُصُوصِ الْحَلْقِ، فَقَاسَ الْفُقَهَاءُ عَلَيْهِ سَائِرَ مَسَائِل الْفَصْل بِجَامِعِ اشْتِرَاكِ الْجَمِيعِ فِي الْعِلَّةِ وَهِيَ التَّرَفُّهُ، أَوِ الاِرْتِفَاقُ.
وَقَدِ اخْتَلَفُوا فِي بَعْضِ التَّفَاصِيل، فِي الْقَدْرِ الَّذِي يُوجِبُ الْفِدْيَةَ مِنَ الْمَحْظُورِ، وَفِي تَفَاوُتِ الْجَزَاءِ بِتَفَاوُتِ الْجِنَايَةِ، وَذَلِكَ بِسَبَبِ اخْتِلاَفِ أَنْظَارِهِمْ فِي الْمِقْدَارِ الَّذِي يَحْصُل بِهِ التَّرَفُّهُ وَالاِرْتِفَاقُ الَّذِي هُوَ عِلَّةُ وُجُوبِ الْفِدْيَةِ، فَالْحَنَفِيَّةُ اشْتَرَطُوا كَمَال الْجِنَايَةِ، فَلَمْ يُوجِبُوا الدَّمَ أَوِ الْفِدَاءَ إِلاَّ لِمَقَادِيرَ تُحَقِّقُ ذَلِكَ فِي نَظَرِهِمْ، وَغَيْرُهُمْ مَال إِلَى اعْتِبَارِ الْفِعْل نَفْسِهِ جِنَايَةً.
وَتَفْصِيل الْمَذَاهِبِ فِي كُل مَحْظُورٍ مِنْ مَحْظُورَاتِ التَّرَفُّهِ فِيمَا يَلِي:

أَوَّلاً: اللِّبَاسُ:
152 - مَنْ لَبِسَ شَيْئًا مِنْ مَحْظُورِ اللُّبْسِ، أَوِ ارْتَكَبَ تَغْطِيَةَ الرَّأْسِ، أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ، فَقَال فُقَهَاءُ الْحَنَفِيَّةِ (1) : إِنِ اسْتَدَامَ ذَلِكَ نَهَارًا كَامِلاً أَوْ لَيْلَةً وَجَبَ
__________
(1) الهداية 2 / 228، والمسلك المتقسط ص 201، 202، ورد المحتار 2 / 278

(2/182)


عَلَيْهِ الدَّمُ. وَكَذَا إِذَا غَطَّتِ الْمَرْأَةُ وَجْهَهَا بِسَاتِرٍ يُلاَمِسُ بَشَرَتَهَا عَلَى مَا سَبَقَ مِنَ التَّفْصِيل فِيهِ (ف 67) وَإِنْ كَانَ أَقَل مِنْ يَوْمٍ أَوْ أَقَل مِنْ لَيْلَةٍ فَعَلَيْهِ صَدَقَةٌ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ. وَفِي أَقَل مِنْ سَاعَةٍ عُرْفِيَّةٍ قَبْضَةٌ مِنْ بُرٍّ، وَهِيَ مِقْدَارُ مَا يَحْمِل الْكَفُّ. وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ (1) وَأَحْمَدَ (2) أَنَّهُ يَجِبُ الْفِدَاءُ بِمُجَرَّدِ اللُّبْسِ، وَلَوْ لَمْ يَسْتَمِرَّ زَمَنًا؛ لأَِنَّ الاِرْتِفَاقَ يَحْصُل بِالاِشْتِمَال عَلَى الثَّوْبِ، وَيَحْصُل مَحْظُورُ الإِْحْرَامِ، فَلاَ يَتَقَيَّدُ وُجُوبُ الْفِدْيَةِ بِالزَّمَنِ.
وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ (3) يُشْتَرَطُ لِوُجُوبِ الْفِدْيَةِ مِنْ لُبْسِ الثَّوْبِ أَوِ الْخُفِّ أَوْ غَيْرِهِمَا مِنْ مَحْظُورَاتِ اللُّبْسِ أَنْ يَنْتَفِعَ بِهِ مِنْ حَرٍّ أَوْ بَرْدٍ، فَإِنْ لَمْ يَنْتَفِعْ بِهِ مِنْ حَرٍّ أَوْ بَرْدٍ بِأَنْ لَبِسَ قَمِيصًا رَقِيقًا لاَ يَقِي حَرًّا وَلاَ بَرْدًا يَجِبُ الْفِدَاءُ إِنِ امْتَدَّ لُبْسُهُ مُدَّةً كَالْيَوْمِ.

ثَانِيًا: التَّطَيُّبُ:
153 - يَجِبُ الْفِدَاءُ عِنْدَ الثَّلاَثَةِ الْمَالِكِيَّةِ (4) وَالشَّافِعِيَّةِ (5) وَالْحَنَابِلَةِ (6) لأَِيِّ تَطَيُّبٍ مِمَّا سَبَقَ بَيَانُ
__________
(1) المجموع 7 / 263، 372، 373، وشرح المنهاج للمحلي 2 / 132، ونهاية المحتاج 2 / 447، 448، 450 وفيها التصريح بأن لا فرق بين طول زمن اللبس وقصره.
(2) المغني 3 / 499، والكافي 1 / 564، ومطالب أولي النهى 2 / 326، 327
(3) شرح الزرقاني على مختصر خليل 2 / 304، 305، والشرح الكبير وحاشيته 2 / 66، 67، وقارن حاشية العدوي 1 / 489
(4) شرح الزرقاني 2 / 298، وشرح الرسالة 1 / 486، والشرح الكبير 2 / 61، 63
(5) المجموع 7 / 283، 373، ونهاية المحتاج 2 / 451، والأسطر الأخيرة والأولى 452، 453
(6) المغني 3 / 499، والكافي 1 / 551، ومطالب أولي النهى 2 / 331

(2/183)


حَظْرِهِ، دُونَ تَقْيِيدٍ بِأَنْ يُطَيِّبَ عُضْوًا كَامِلاً، أَوْ مِقْدَارًا مِنَ الثَّوْبِ مُعَيَّنًا.
وَفَرَّقَ الْحَنَفِيَّةُ بَيْنَ تَطَيُّبٍ وَتَطَيُّبٍ، وَفَصَّلُوا: أَمَّا فِي الْبَدَنِ فَقَالُوا: تَجِبُ شَاةٌ إِنْ طَيَّبَ الْمُحْرِمُ عُضْوًا كَامِلاً مِثْل الرَّأْسِ وَالْيَدِ وَالسَّاقِ، أَوْ مَا يَبْلُغُ عُضْوًا كَامِلاً. وَالْبَدَنُ كُلُّهُ كَعُضْوٍ وَاحِدٍ إِنِ اتَّحَدَ مَجْلِسُ التَّطَيُّبِ، وَإِنْ تَفَرَّقَ الْمَجْلِسُ فَلِكُل طِيبٍ كَفَّارَةٌ، وَتَجِبُ إِزَالَةُ الطِّيبِ، فَلَوْ ذَبَحَ وَلَمْ يُزِلْهُ لَزِمَهُ دَمٌ آخَرُ.
وَوَجْهُ وُجُوبِ الشَّاةِ: أَنَّ الْجِنَايَةَ تَتَكَامَل بِتَكَامُل الاِرْتِفَاقِ، وَذَلِكَ فِي الْعُضْوِ الْكَامِل، فَيَتَرَتَّبُ كَمَال الْمُوجِبِ. وَإِنْ طَيَّبَ أَقَل مِنْ عُضْوٍ فَعَلَيْهِ الصَّدَقَةُ لِقُصُورِ الْجِنَايَةِ، إِلاَّ أَنْ يَكُونَ الطِّيبُ كَثِيرًا فَعَلَيْهِ دَمٌ. وَلَمْ يَشْرِطِ الْحَنَفِيَّةُ اسْتِمْرَارَ الطِّيبِ لِوُجُوبِ الْجَزَاءِ، بَل يَجِبُ بِمُجَرَّدِ التَّطَيُّبِ (1) .
وَأَمَّا تَطْيِيبُ الثَّوْبِ: فَيَجِبُ فِيهِ الدَّمُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ بِشَرْطَيْنِ:
أَوَّلُهُمَا: أَنْ يَكُونَ كَثِيرًا، وَهُوَ مَا يَصْلُحُ أَنْ يُغَطِّيَ مِسَاحَةً تَزِيدُ عَلَى شِبْرٍ فِي شِبْرٍ. وَالثَّانِي: أَنْ يَسْتَمِرَّ نَهَارًا، أَوْ لَيْلَةً. فَإِنِ اخْتَل أَحَدُ الشَّرْطَيْنِ وَجَبَتِ الصَّدَقَةُ، وَإِنِ اخْتَل الشَّرْطَانِ مَعًا وَجَبَ التَّصَدُّقُ بِقَبْضَةٍ مِنْ قَمْحٍ (2) .
__________
(1) الهداية وفتح القدير 2 / 224، 225، وشرح الكنز للعيني 1 / 101، والمسلك المتقسط ص 209، 210
(2) قارن المسلك المتقسط ص 215، 216، ورد المحتار 2 / 276. وانظر باقي مسائل الطيب فيما سبق.

(2/183)


154 - لَوْ طَيَّبَ مُحْرِمٌ مُحْرِمًا أَوْ حَلاَلاً فَلاَ شَيْءَ عَلَى الْفَاعِل مَا لَمْ يَمَسَّ الطِّيبَ، عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ (1) . وَعَلَى الطَّرَفِ الآْخَرِ الدَّمُ إِنْ كَانَ مُحْرِمًا وَإِنْ كَانَ مُكْرَهًا. وَعِنْدَ الثَّلاَثَةِ التَّفْصِيل الآْتِي فِي مَسْأَلَةِ الْحَلْقِ (ف 157) لَكِنْ عَلَيْهِ فِي حَالٍ لاَ تَلْزَمُهُ فِيهِ الْفِدْيَةُ أَلاَّ يَسْتَدِيمَهُ، بَل يُبَادِرَ بِإِزَالَتِهِ. فَإِنْ تَرَاخَى لَزِمَهُ الْفِدَاءُ.

ثَالِثًا: الْحَلْقُ أَوِ التَّقْصِيرُ:
155 - مَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ (2) أَنَّ مَنْ حَلَقَ رُبُعَ رَأْسِهِ أَوْ رُبُعَ لِحْيَتِهِ يَجِبُ عَلَيْهِ دَمٌ؛ لأَِنَّ الرُّبُعَ يَقُومُ مَقَامَ الْكُل، فَيَجِبُ فِيهِ الْفِدَاءُ الَّذِي دَلَّتْ عَلَيْهِ الآْيَةُ الْكَرِيمَةُ. وَلَوْ حَلَقَ رَأْسَهُ وَلِحْيَتَهُ وَإِبِطَيْهِ وَكُل بَدَنِهِ فِي مَجْلِسٍ وَاحِدٍ فَعَلَيْهِ دَمٌ وَاحِدٌ، وَإِنِ اخْتَلَفَتِ الْمَجَالِسُ فَلِكُل مَجْلِسٍ مُوجِبُهُ. وَإِنْ حَلَقَ خُصْلَةً مِنْ شَعْرِهِ أَقَل مِنَ الرُّبُعِ يَجِبُ عَلَيْهِ الصَّدَقَةُ، أَمَّا إِنْ سَقَطَ مِنْ رَأْسِهِ أَوْ لِحْيَتِهِ عِنْدَ الْوُضُوءِ أَوِ الْحَكِّ ثَلاَثُ شَعَرَاتٍ فَعَلَيْهِ بِكُل شَعْرَةٍ صَدَقَةٌ (كَفٌّ مِنْ طَعَامٍ) .
وَإِنْ حَلَقَ رَقَبَتَهُ كُلَّهَا، أَوْ إِبِطَيْهِ، أَوْ أَحَدَهُمَا، يَجِبُ الدَّمُ. أَمَّا إِنْ حَلَقَ بَعْضَ وَاحِدٍ مِنْهُمَا، وَإِنْ كَثُرَ. فَتَجِبُ الصَّدَقَةُ؛ لأَِنَّ حَلْقَ جُزْءِ عُضْوٍ مِنْ هَذِهِ الأَْشْيَاءِ لَيْسَ ارْتِفَاقًا كَامِلاً، لِعَدَمِ جَرَيَانِ الْعَادَةِ بِحَلْقِ الْبَعْضِ فِيهَا، فَلاَ يَجِبُ إِلاَّ الصَّدَقَةُ. وَقَرَّرَ الْحَنَفِيَّةُ أَنَّ فِي حَلْقِ الشَّارِبِ حُكُومَةَ عَدْلٍ،
__________
(1) المسلك المتقسط ص 218
(2) شرح الكنز للعيني 1 / 101، 102، والمسلك المتقسط ص 218، 220

(2/184)


بِأَنْ يَنْظُرَ إِلَى هَذَا الْمَأْخُوذِ كَمْ يَكُونُ مِنْ رُبُعِ اللِّحْيَةِ، فَيَجِبُ عَلَيْهِ بِحِسَابِهِ مِنَ الطَّعَامِ (1) .
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ (2) إِلَى أَنَّهُ إِنْ أَخَذَ عَشْرَ شَعَرَاتٍ فَأَقَل، وَلَمْ يَقْصِدْ إِزَالَةَ الأَْذَى، يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِحَفْنَةِ قَمْحٍ، وَإِنْ أَزَالَهَا بِقَصْدِ إِمَاطَةِ الأَْذَى تَجِبُ الْفِدْيَةُ، وَلَوْ كَانَتْ شَعْرَةً وَاحِدَةً. وَتَجِبُ الْفِدْيَةُ أَيْضًا إِذَا أَزَال أَكْثَرَ مِنْ عَشْرِ شَعَرَاتٍ لأَِيِّ سَبَبٍ كَانَ. وَشَعْرُ الْبَدَنِ كُلِّهِ سَوَاءٌ.
وَذَهَبَ الشَّافِعِيُّ (3) وَأَحْمَدُ (4) إِلَى أَنَّهُ تَجِبُ الْفِدْيَةُ لَوْ حَلَقَ ثَلاَثَ شَعَرَاتٍ فَأَكْثَرَ، كَمَا تَجِبُ لَوْ حَلَقَ جَمِيعَ الرَّأْسِ، بَل جَمِيعَ الْبَدَنِ، بِشَرْطِ اتِّحَادِ الْمَجْلِسِ، أَيِ الزَّمَانِ وَالْمَكَانِ. وَلَوْ حَلَقَ شَعْرَةً أَوْ شَعْرَتَيْنِ فَفِي شَعْرَةٍ مُدٌّ، وَفِي شَعْرَتَيْنِ مُدَّانِ مِنَ الْقَمْحِ، وَسَوَاءٌ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ شَعْرُ الرَّأْسِ وَشَعْرُ الْبَدَنِ.
156 - أَمَّا إِذَا سَقَطَ شَعْرُ الْمُحْرِمِ بِنَفْسِهِ مِنْ غَيْرِ صُنْعِ آدَمِيٍّ فَلاَ فِدْيَةَ بِاتِّفَاقِ الْمَذَاهِبِ.
157 - إِذَا حَلَقَ مُحْرِمٌ رَأْسَ غَيْرِهِ، أَوْ حَلَقَ غَيْرُهُ رَأْسَهُ - وَمَحَل الْمَسْأَلَةِ إِذَا كَانَ الْحَلْقُ لِغَيْرِ التَّحَلُّل - فَعَلَى الْمُحْرِمِ الْمَحْلُوقِ الدَّمُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، وَلَوْ كَانَ كَارِهًا. وَأَمَّا غَيْرُهُمْ فَعِنْدَهُمْ تَفْصِيلٌ فِي حَقِّ الْحَالِقِ
__________
(1) مثاله: لو أخذ من الشارب قدر نصف ثمن اللحية يجب عليه من الطعام ما يساوي ربع الدم.
(2) شرح الزرقاني 2 / 302، والشرح الكبير 2 / 64، وحاشية العدوي 1 / 487، وحاشية الصفتي ص 194، وفيها: أكثر من اثنتي عشرة شعرة.
(3) المجموع 7 / 351، 356، 367، ونهاية المحتاج 2 / 454
(4) المقنع 1 / 399، 400، والكافي 1 / 562 - 564، ومطالب أولي النهى 2 / 324، 325

(2/184)


وَالْمَحْلُوقِ. وَلِهَذِهِ الْمَسْأَلَةِ ثَلاَثُ صُوَرٍ تَقْتَضِيهَا الْقِسْمَةُ الْعَقْلِيَّةُ نُبَيِّنُ حُكْمَهَا فِيمَا يَلِي:
الصُّورَةُ الأُْولَى: أَنْ يَكُونَا مُحْرِمَيْنِ، فَعَلَى الْمُحْرِمِ الْحَالِقِ صَدَقَةٌ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، سَوَاءٌ حَلَقَ بِأَمْرِ الْمَحْلُوقِ أَوْ بِغَيْرِ أَمْرِهِ طَائِعًا أَوْ مُكْرَهًا، مَا لَمْ يَكُنْ حَلْقُهُ فِي أَوَانِ الْحَلْقِ. فَإِنْ كَانَ فِيهِ، فَلاَ شَيْءَ عَلَيْهِ.
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ: إِنْ حَلَقَ لَهُ بِغَيْرِ رِضَاهُ فَالْفِدْيَةُ عَلَى الْحَالِقِ، وَإِنْ كَانَ بِرِضَاهُ فَعَلَى الْمَحْلُوقِ فِدْيَةٌ، وَعَلَى الْحَالِقِ فِدْيَةٌ، وَقِيل حَفْنَةٌ. الصُّورَةُ الثَّانِيَةُ: أَنْ يَكُونَ الْحَالِقُ مُحْرِمًا وَالْمَحْلُوقُ حَلاَلاً، فَكَذَلِكَ عَلَى الْحَالِقِ الْمُحْرِمِ صَدَقَةٌ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ. وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: يَفْتَدِي الْحَالِقُ. وَعِنْدَهُمْ فِي تَفْسِيرِهِ قَوْلاَنِ: قَوْلٌ أَنَّهُ يُطْعِمُ قَدْرَ حَفْنَةٍ، أَيْ مِلْءَ يَدٍ وَاحِدَةٍ مِنْ طَعَامٍ، وَقَوْلٌ أَنَّ عَلَيْهِ الْفِدْيَةَ.
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ: لاَ فِدْيَةَ عَلَى الْحَالِقِ، وَلَوْ حَلَقَ لَهُ الْمُحْرِمُ بِغَيْرِ إِذْنِهِ، إِذْ لاَ حُرْمَةَ لِشَعْرِهِ فِي حَقِّ الإِْحْرَامِ.
الصُّورَةُ الثَّالِثَةُ: أَنْ يَكُونَ الْحَالِقُ حَلاَلاً وَالْمَحْلُوقُ مُحْرِمًا، فَعَلَى الْحَالِقِ صَدَقَةٌ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ. وَقَال الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ: إِنْ كَانَ بِإِذْنِ الْمُحْرِمِ أَوْ عَدَمِ مُمَانَعَتِهِ فَعَلَى الْمُحْرِمِ الْفِدْيَةُ. وَإِنْ كَانَ الْحَلْقُ بِغَيْرِ إِذْنِ الْمُحْرِمِ فَعَلَى الْحَلاَل الْفِدْيَةُ (1) .

رَابِعًا: تَقْلِيمُ الأَْظْفَارِ:
158 - قَال الْحَنَفِيَّةُ (2) : إِذَا قَصَّ أَظْفَارَ يَدَيْهِ
__________
(1) المسلك المتقسط ص 221، وفتح القدير 2 / 233، وشرح الزرقاني 2 / 301 - 304، ونهاية المحتاج 2 / 455، وغاية المنتهى 2 / 325
(2) الهداية 2 / 236 - 238، وشرح الكنز للعيني 1 / 102، والمسلك المتقسط ص 222، 223

(2/185)


وَرِجْلَيْهِ جَمِيعَهَا فِي مَجْلِسٍ وَاحِدٍ تَجِبُ عَلَيْهِ شَاةٌ. وَكَذَا إِذَا قَصَّ أَظْفَارَ يَدٍ وَاحِدَةٍ، أَوْ رِجْلٍ وَاحِدَةٍ، تَجِبُ شَاةٌ. وَإِنْ قَصَّ أَقَل مِنْ خَمْسَةِ أَظْفَارٍ مِنْ يَدٍ وَاحِدَةٍ، أَوْ خَمْسَةً مُتَفَرِّقَةً مِنْ أَظْفَارِهِ، تَجِبُ عَلَيْهِ صَدَقَةٌ لِكُل ظُفُرٍ. وَمَذْهَبُ الْمَالِكِيَّةِ (1) أَنَّهُ إِنْ قَلَمَ ظُفْرًا وَاحِدًا عَبَثًا أَوْ تَرَفُّهًا، لاَ لإِِمَاطَةِ أَذًى، وَلاَ لِكَسْرِهِ، يَجِبُ عَلَيْهِ صَدَقَةٌ: حَفْنَةٌ مِنْ طَعَامٍ. فَإِنْ فَعَل ذَلِكَ لإِِمَاطَةِ الأَْذَى أَوِ الْوَسَخِ فَفِيهِ فِدْيَةٌ. وَإِنْ قَلَّمَهُ لِكَسْرِهِ فَلاَ شَيْءَ عَلَيْهِ إِذَا تَأَذَّى مِنْهُ. وَيَقْتَصِرُ عَلَى مَا كُسِرَ مِنْهُ. وَإِنْ قَلَّمَ ظُفْرَيْنِ فِي مَجْلِسٍ وَاحِدٍ فَفِدْيَةٌ، وَلَوْ لَمْ يَقْصِدْ إِمَاطَةَ الأَْذَى، وَإِنْ قَطَعَ وَاحِدًا بَعْدَ آخَرَ فَإِنْ كَانَا فِي فَوْرٍ فَفِدْيَةٌ، وَإِلاَّ فَفِي كُل ظُفُرٍ حَفْنَةٌ. وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ (2) وَالْحَنَابِلَةِ (3) : يَجِبُ الْفِدَاءُ فِي تَقْلِيمِ ثَلاَثَةِ أَظْفَارٍ فَصَاعِدًا فِي مَجْلِسٍ وَاحِدٍ، وَيَجِبُ فِي الظُّفُرِ وَالظُّفُرَيْنِ مَا يَجِبُ فِي الشَّعْرَتَيْنِ.

خَامِسًا: قَتْل الْقَمْل:
159 - وَهُوَ مُلْحَقٌ بِهَذَا الْمَبْحَثِ؛ لأَِنَّ فِيهِ إِزَالَةَ الأَْذَى، لِذَا يَخْتَصُّ الْبَحْثُ بِمَا عَلَى بَدَنِ الْمُحْرِمِ أَوْ ثِيَابِهِ. فَقَدْ ذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى نَدْبِ قَتْل الْمُحْرِمِ لِقَمْل بَدَنِهِ وَثِيَابِهِ لأَِنَّهُ مِنَ الْحَيَوَانَاتِ الْمُؤْذِيَةِ، وَقَدْ صَحَّ أَمْرُ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقَتْل الْفَوَاسِقِ الْخَمْسِ فِي الْحِل وَالْحَرَمِ، وَأَلْحَقُوا بِهَا كُل حَيَوَانٍ مُؤْذٍ.
__________
(1) حاشية العدوي 1 / 487، والشرح الكبير 2 / 64، وحاشية الصفتي ص 193، 194
(2) المهذب والمجموع 7 / 366، 368، ونهاية المحتاج 2 / 454
(3) المقنع 1 / 399 - 400، والكافي 1 / 563، ومطالب أولي النهى 2 / 325.

(2/185)


أَمَّا قَمْل شَعْرِ الرَّأْسِ وَاللِّحْيَةِ خَاصَّةً فَيُكْرَهُ تَنْزِيهًا تَعَرُّضُهُ لَهُ لِئَلاَّ يَنْتَتِفَ الشَّعْرُ. وَمُقْتَضَى تَعْلِيلِهِمُ الْكَرَاهَةَ بِالْخَوْفِ مِنَ انْتِتَافِ الشَّعْرِ زَوَال هَذِهِ الْكَرَاهَةِ فِيمَا لَوْ قَتَلَهُ بِوَسِيلَةٍ لاَ يَخْشَى مَعَهَا الاِنْتِتَافَ كَمَا إِذَا رَشَّهُ بِدَوَاءٍ مُطَهِّرٍ مَثَلاً. وَعَلَى أَيَّةِ حَالٍ فَإِذَا قَتَل قَمْل شَعْرِ رَأْسِهِ وَلِحْيَتِهِ لَمْ يَلْزَمْهُ شَيْءٌ لَكِنْ يُسْتَحَبُّ لَهُ أَنْ يَفْدِيَ الْوَاحِدَةَ مِنْهُ وَلَوْ بِلُقْمَةٍ.
وَفِي رِوَايَةٍ عَنْ أَحْمَدَ إِبَاحَةُ قَتْل الْقَمْل مُطْلَقًا دُونَ تَفْرِيقٍ بَيْنَ قَمْل الرَّأْسِ وَغَيْرِهِ لأَِنَّهُ مِنْ أَكْثَرِ الْهَوَامِّ أَذًى فَأُبِيحَ قَتْلُهُ كَالْبَرَاغِيثِ، وَسَائِرِ مَا يُؤْذِي. وَقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: خَمْسٌ فَوَاسِقُ يُقْتَلْنَ فِي الْحِل وَالْحَرَمِ يَدُل بِمَعْنَاهُ عَلَى إِبَاحَةِ قَتْل كُل مَا يُؤْذِي بَنِي آدَمَ فِي أَنْفُسِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ. وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى عَنْهُ حُرْمَةُ قَتْلِهِ، إِلاَّ أَنَّهُ لاَ جَزَاءَ فِيهِ إِذْ لاَ قِيمَةَ لَهُ وَلَيْسَ بِصَيْدٍ. وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ إِلَى وُجُوبِ الصَّدَقَةِ (1) وَلاَ رَيْبَ أَنَّهُ إِذَا آذَاهُ بِالْفِعْل، وَلَمْ يُمْكِنْهُ التَّخَلُّصُ مِنْهُ إِلاَّ بِقَتْلِهِ، جَازَ لَهُ قَتْلُهُ طِبْقًا لِقَاعِدَةِ: " الضَّرَرُ يُزَال "، وَقَاعِدَةِ: " الضَّرُورَاتُ تُبِيحُ الْمَحْظُورَاتِ ".
__________
(1) شرح الروض 1 / 514، والمجموع 7 / 323، 324، ونهاية المحتاج 3 / 333، والجمل 2 / 522، ومطالب أولي النهى 2 / 343، وكشاف القناع 2 / 349 ط الرياض، والشرح مع المغني 3 / 304، والمغني 3 / 298 ط الرياض. والمسلك المتقسط ص 252، وفتح القدير 2 / 268، ورد المحتار 2 / 218، وحاشية العدوي 1 / 487، والزرقاني 2 / 302، 303 والدسوقي 2 / 64

(2/186)


الْمَبْحَثُ الثَّانِي
فِي قَتْل الصَّيْدِ وَمَا يَتَعَلَّقُ بِهِ
160 - أَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ عَلَى وُجُوبِ الْجَزَاءِ فِي قَتْل الصَّيْدِ، اسْتِدْلاَلاً بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مِثْل مَا قَتَل مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ أَوْ عَدْل ذَلِكَ صِيَامًا لِيَذُوقَ وَبَال أَمْرِهِ عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَفَ وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ} . (1)
أَوَّلاً: قَتْل الصَّيْدِ:
161 - وُجُوبُ الْجَزَاءِ فِي قَتْل الصَّيْدِ عَمْدًا مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ عَمَلاً بِنَصِّ الآْيَةِ الْكَرِيمَةِ السَّابِقَةِ.
162 - إِنَّ غَيْرَ الْعَمْدِ فِي هَذَا الْبَابِ كَالْعَمْدِ، يَجِبُ فِيهِ الْجَزَاءُ بِاتِّفَاقِ الْمَذَاهِبِ الأَْرْبَعَةِ؛ لأَِنَّ الْعُقُوبَةَ هُنَا شُرِعَتْ ضَمَانًا لِلْمُتْلَفِ، وَذَلِكَ يَسْتَوِي فِيهِ الْعَمْدُ وَالْخَطَأُ وَالْجَهْل وَالسَّهْوُ وَالنِّسْيَانُ (2) .
163 - إِنَّ هَذَا الْجَزَاءَ هُوَ كَمَا نَصَّتِ الآْيَةُ: {مِثْل مَا قَتَل مِنَ النَّعَمِ} . وَيُخَيَّرُ فِيهِ بَيْنَ الْخِصَال الثَّلاَثِ. لَكِنِ اخْتَلَفُوا بَعْدَ هَذَا فِي تَفْسِيرِ هَذَيْنِ الأَْمْرَيْنِ: ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ: إِلَى أَنَّهُ تُقَدَّرُ قِيمَةُ الصَّيْدِ بِتَقْوِيمِ
__________
(1) سورة المائدة / 95
(2) المسلك المتقسط ص 200، والهداية 2 / 258، 259 وشرح الزرقاني 2 / 314، والشرح الكبير 2 / 74 والمجموع 7 / 349، 350، ونهاية المحتاج 2 / 460. والمغني 3 / 505، 606 و 501، والمقنع 1 / 424 وانظر التعليل السابق في الحلق والقلم فإنه ينطبق هنا.

(2/186)


رَجُلَيْنِ عَدْلَيْنِ، سَوَاءٌ أَكَانَ لِلصَّيْدِ الْمَقْتُول نَظِيرٌ مِنَ النَّعَمِ أَمْ لَمْ يَكُنْ لَهُ نَظِيرٌ. وَتُعْتَبَرُ الْقِيمَةُ فِي مَوْضِعِ قَتْلِهِ، ثُمَّ يُخَيَّرُ الْجَانِي بَيْنَ ثَلاَثَةِ أُمُورٍ:
الأَْوَّل - أَنْ يَشْتَرِيَ هَدْيًا وَيَذْبَحَهُ فِي الْحَرَمِ إِنْ بَلَغَتِ الْقِيمَةُ هَدْيًا. وَيُزَادُ عَلَى الْهَدْيِ فِي مَأْكُول اللَّحْمِ إِلَى اثْنَيْنِ أَوْ أَكْثَرَ إِنْ زَادَتْ قِيمَتُهُ، لَكِنَّهُ لاَ يَتَجَاوَزُ هَدْيًا وَاحِدًا فِي غَيْرِ مَأْكُول اللَّحْمِ، حَتَّى لَوْ قَتَل فِيلاً لاَ يَجِبُ عَلَيْهِ أَكْثَرُ مِنْ شَاةٍ.
الثَّانِي - أَنْ يَشْتَرِيَ بِالْقِيمَةِ طَعَامًا وَيَتَصَدَّقَ بِهِ عَلَى الْمَسَاكِينِ، لِكُل مِسْكِينٍ نِصْفُ صَاعٍ مِنْ بُرٍّ، أَوْ صَاعٌ مِنْ شَعِيرٍ أَوْ تَمْرٍ كَمَا فِي صَدَقَةِ الْفِطْرِ. وَلاَ يَجُوزُ أَنْ يُعْطِيَ الْمِسْكِينَ أَقَل مِمَّا ذُكِرَ، إِلاَّ إِنْ فَضَل مِنَ الطَّعَامِ أَقَل مِنْهُ، فَيَجُوزُ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِهِ. وَلاَ يَخْتَصُّ التَّصَدُّقُ بِمَسَاكِينِ الْحَرَمِ.
الثَّالِثُ - أَنْ يَصُومَ عَنْ طَعَامِ كُل مِسْكِينٍ يَوْمًا، وَعَنْ أَقَل مِنْ نِصْفِ صَاعٍ - إِذَا فَضَل - يَوْمًا أَيْضًا (1) .
وَذَهَبَ الأَْئِمَّةُ الثَّلاَثَةُ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى التَّفْصِيل فَقَالُوا: الصَّيْدُ ضَرْبَانِ: مِثْلِيٌّ: وَهُوَ مَا لَهُ مِثْلٌ مِنَ النَّعَمِ، أَيْ مُشَابِهٌ فِي الْخِلْقَةِ مِنَ النَّعَمِ، وَهِيَ الإِْبِل وَالْبَقَرُ وَالْغَنَمُ. وَغَيْرُ مِثْلِيٍّ، وَهُوَ مَا لاَ يُشْبِهُ شَيْئًا مِنَ النَّعَمِ.
أَمَّا الْمِثْلِيُّ: فَجَزَاؤُهُ عَلَى التَّخْيِيرِ وَالتَّعْدِيل، أَيْ أَنَّ الْقَاتِل يُخَيَّرُ بَيْنَ ثَلاَثَةِ أَشْيَاءَ عَلَى الْوَجْهِ التَّالِي:
الأَْوَّل - أَنْ يَذْبَحَ الْمِثْل الْمُشَابِهَ مِنَ النَّعَمِ فِي الْحَرَمِ، وَيَتَصَدَّقَ بِهِ عَلَى مَسَاكِينِ الْحَرَمِ.
__________
(1) الهداية 2 / 259، 263، وشرح الكنز للعيني 1 / 104، 105، والدر المختار بحاشيته 2 / 294، 295، والمسلك المتقسط ص 258، 259

(2/187)


الثَّانِي - أَنْ يُقَوِّمَ الْمِثْل دَرَاهِمَ ثُمَّ يَشْتَرِيَ بِهَا طَعَامًا، وَيَتَصَدَّقَ بِهِ عَلَى مَسَاكِينِ الْحَرَمِ. وَلاَ يَجُوزُ تَفْرِقَةُ الدَّرَاهِمِ عَلَيْهِمْ. وَقَال مَالِكٌ بَل يُقَوِّمُ الصَّيْدَ نَفْسَهُ وَيَشْتَرِيَ بِهِ طَعَامًا يَتَصَدَّقُ بِهِ عَلَى مَسَاكِينِ مَوْضِعِ الصَّيْدِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ مَسَاكِينُ فَعَلَى مَسَاكِينِ أَقْرَبِ الْمَوَاضِعِ فِيهِ.
الثَّالِثُ - إِنْ شَاءَ صَامَ عَنْ كُل مُدٍّ يَوْمًا. وَفِي أَقَل مِنْ مُدٍّ يَجِبُ صِيَامُ يَوْمٍ. وَيَجُوزُ الصِّيَامُ فِي الْحَرَمِ وَفِي جَمِيعِ الْبِلاَدِ.
وَأَمَّا غَيْرُ الْمِثْلِيِّ: فَيَجِبُ فِيهِ قِيمَتُهُ وَيَتَخَيَّرُ فِيهَا بَيْنَ أَمْرَيْنِ:
الأَْوَّل - أَنْ يَشْتَرِيَ بِهَا طَعَامًا يَتَصَدَّقَ بِهِ عَلَى مَسَاكِينِ الْحَرَمِ، وَعِنْدَ مَالِكٍ: عَلَى الْمَسَاكِينِ فِي مَوْضِعِ الصَّيْدِ.
الثَّانِي - أَنْ يَصُومَ عَنْ كُل مُدٍّ يَوْمًا كَمَا ذُكِرَ سَابِقًا. ثُمَّ قَالُوا فِي بَيَانِ الْمِثْلِيِّ: الْمُعْتَبَرُ فِيهِ التَّشَابُهُ فِي الصُّورَةِ وَالْخِلْقَةِ. وَكُل مَا وَرَدَ فِيهِ نَقْلٌ عَنِ السَّلَفِ فَيُتْبَعُ؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ} ، وَمَا لاَ نَقْل فِيهِ يَحْكُمُ بِمِثْلِهِ عَدْلاَنِ فَطِنَانِ بِهَذَا الأَْمْرِ، عَمَلاً بِالآْيَةِ.
وَيَخْتَلِفُ الْحُكْمُ فِيهِ بَيْنَ الدَّوَابِّ وَالطُّيُورِ: أَمَّا الدَّوَابُّ فَفِي النَّعَامَةِ بَدَنَةٌ، وَفِي بَقَرِ الْوَحْشِ وَحِمَارِ الْوَحْشِ بَقَرَةٌ إِنْسِيَّةٌ، وَفِي الْغَزَال عَنْزٌ، وَفِي الأَْرْنَبِ عَنَاقٌ (1) ، وَفِي الْيَرْبُوعِ جَفْرَةٌ (2) .
__________
(1) العناق: الأنثى من المعز من حين تولد ما لم تستكمل سنة، والمراد بها ما فوق الجفرة.
(2) الجفرة: هي الأنثى من المعز إذا بلغت أربعة أشهر.

(2/187)


وَعِنْدَ مَالِكٍ فِي الأَْرْنَبِ وَالْيَرْبُوعِ وَالضَّبِّ الْقِيمَةُ.
وَأَمَّا الطُّيُورُ: فَفِي أَنْوَاعِ الْحَمَامِ شَاةٌ. وَالْمُرَادُ بِالْحَمَامِ كُل مَا عَبَّ فِي الْمَاءِ، وَهُوَ أَنْ يَشْرَبَهُ جَرْعًا، فَيَدْخُل فِيهِ الْيَمَامُ اللَّوَاتِي يَأْلَفْنَ الْبُيُوتَ، وَالْقُمْرِيُّ، وَالْقَطَا. وَالْعَرَبُ تُسَمِّي كُل مُطَوَّقٍ حَمَامًا. وَإِنْ كَانَ الطَّائِرُ أَصْغَرَ مِنَ الْحَمَامِ جُثَّةً فَفِيهِ الْقِيمَةُ. وَإِنْ كَانَ أَكْبَرَ مِنَ الْحَمَامِ، كَالْبَطَّةِ وَالإِْوَزَّةِ، فَالأَْصَحُّ أَنَّهُ يَجِبُ فِيهِ الْقِيمَةُ، إِذْ لاَ مِثْل لَهُ.
وَقَال مَالِكٌ: تَجِبُ شَاةٌ فِي حَمَامِ مَكَّةَ وَالْحَرَمِ وَيَمَامِهِمَا، وَفِي حَمَامِ وَيَمَامِ غَيْرِهِمَا تَجِبُ الْقِيمَةُ، وَكَذَا فِي سَائِرِ الطُّيُورِ (1) .
164 - وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ: الْوَاجِبُ فِي الْكَبِيرِ وَالصَّغِيرِ وَالسَّمِينِ وَالْهَزِيل وَالْمَرِيضِ مِنَ الصَّيْدِ الْمِثْلِيِّ مِثْلُهُ مِنَ النَّعَمِ؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {فَجَزَاءٌ مِثْل مَا قَتَل} وَهَذَا مِثْلِيٌّ فَيُجْزِئُ. وَقَال مَالِكٌ: يَجِبُ فِيهِ كَبِيرٌ؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ} (2) ؟ وَالصَّغِيرُ لاَ يَكُونُ هَدْيًا، وَإِنَّمَا يُجْزِئُ فِي الْهَدْيِ مَا يُجْزِئُ فِي الأُْضْحِيَّةِ (3) .
__________
(1) المجموع 7 / 408 - 411، وشرح المنهاج 2 / 140، 141، ونهاية المحتاج 2 / 464، 465، والشرح الكبير 2 / 80 - 82، وشرح الزرقاني 2 / 320 - 322، وشرح الرسالة بحاشية العدوي 1 / 427 - 430، والكافي 1 / 568، 569، ومطالب أولي النهى 2 / 369، 370 و 372، وفتح القدير 2 / 268
(2) المائدة / 95
(3) شرح الرسالة 1 / 495، والشرح الكبير 2 / 82، والزرقاني 2 / 322، 323، والمجموع 7 / 420 ونهاية المحتاج 2 / 464، والمغني 3 / 12، والكافي 1 / 569، ومطالب أولي النهى 2 / 372

(2/188)


ثَانِيًا: إِصَابَةُ الصَّيْدِ:
165 - إِذَا أَصَابَ الصَّيْدَ بِضَرَرٍ، وَلَمْ يَقْتُلْهُ، يَجِبُ عَلَيْهِ الْجَزَاءُ بِحَسَبِ تِلْكَ الإِْصَابَةِ عِنْدَ الثَّلاَثَةِ: الْحَنَفِيَّةِ (1) وَالشَّافِعِيَّةِ (2) وَالْحَنَابِلَةِ (3) . فَإِنْ جَرَحَ الْمُحْرِمُ صَيْدًا، أَوْ نَتَفَ شَعْرَهُ. ضَمِنَ قِيمَةَ مَا نَقَصَ مِنْهُ، اعْتِبَارًا لِلْجُزْءِ بِالْكُل، فَكَمَا تَجِبُ الْقِيمَةُ بِالْكُل تَجِبُ بِالْجُزْءِ. وَهَذَا الْجَزَاءُ يَجِبُ إِذَا بَرِئَ الْحَيَوَانُ وَظَهَرَ أَثَرُ الْجِنَايَةِ عَلَيْهِ، أَمَّا إِذَا لَمْ يَبْقَ لَهَا أَثَرٌ فَلاَ يَضْمَنُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، لِزَوَال الْمُوجِبِ.
وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ إِنْ جَرَحَ صَيْدًا يَجِبُ عَلَيْهِ قَدْرُ النَّقْصِ مِنْ مِثْلِهِ مِنَ النَّعَمِ إِنْ كَانَ مِثْلِيًّا، وَإِلاَّ بِقَدْرِ مَا نَقَصَ مِنْ قِيمَتِهِ، وَإِذَا أَحْدَثَ بِهِ عَاهَةً مُسْتَدِيمَةً فَوَجْهَانِ عِنْدَهُمْ، أَصَحُّهُمَا يَلْزَمُهُ جَزَاءٌ كَامِلٌ.
أَمَّا إِذَا أَصَابَهُ إِصَابَةً أَزَالَتِ امْتِنَاعَهُ عَمَّنْ يُرِيدُ أَخْذَهُ وَجَبَ الْجَزَاءُ كَامِلاً عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، وَهُوَ أَحَدُ الْقَوْلَيْنِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ؛ لأَِنَّهُ فَوَّتَ عَلَيْهِ الأَْمْنَ بِهَذَا. وَفِي قَوْلٍ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ: يَضْمَنُ النَّقْصَ فَقَطْ.
أَمَّا الْمَالِكِيَّةُ (4) فَعِنْدَهُمْ لاَ يَضْمَنُ مَا غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ سَلاَمَتُهُ مِنَ الصَّيْدِ بِإِصَابَتِهِ بِنَقْصٍ، وَلاَ جَزَاءَ عَلَيْهِ، وَلاَ يَلْزَمُهُ فَرْقُ مَا بَيْنَ قِيمَتِهِ سَلِيمًا وَقِيمَتِهِ بَعْدَ إِصَابَتِهِ.
__________
(1) الهداية 2 / 264، والمسلك المتقسط ص 242، 243
(2) المجموع 7 / 405 و 413، 414. ونهاية المحتاج 2 / 465، 466، ومغني المحتاج 1 / 527، وشرح الكنز 1 / 105
(3) الكافي 1 / 570 و 572، ومطالب أولي النهى 2 / 373
(4) شرح الزرقاني 2 / 315، والشرح الكبير وحاشيته 2 / 76

(2/188)


ثَالِثًا: حَلْبُ الصَّيْدِ أَوْ كَسْرُ بَيْضِهِ أَوْ جَزُّ صُوفِهِ:
166 - يَجِبُ فِيهِ قِيمَةُ كُلٍّ مِنَ اللَّبَنِ وَالْبَيْضِ وَالصُّوفِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ (1) وَالشَّافِعِيَّةِ (2) وَالْحَنَابِلَةِ (3) وَيَضْمَنُ أَيْضًا قِيمَةَ مَا يَلْحَقُ الصَّيْدَ نَفْسَهُ مِنْ نَقْصٍ بِسَبَبٍ مِنْ ذَلِكَ.
وَنَصَّ الْمَالِكِيَّةُ (4) عَلَى الْبَيْضِ أَنَّ فِيهِ عُشْرَ دِيَةِ الأُْمِّ مَا لَمْ يَخْرُجْ مِنْهُ فَرْخٌ وَيَسْتَهِل ثُمَّ يَمُوتُ، فَإِنَّهُ حِينَئِذٍ يَلْزَمُهُ الدِّيَةُ كَامِلَةً. وَهَذَا الأَْخِيرُ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

رَابِعًا: التَّسَبُّبُ فِي قَتْل الصَّيْدِ:
167 - يَجِبُ فِي التَّسَبُّبِ بِقَتْل الصَّيْدِ الْجَزَاءُ، وَذَلِكَ:
1 - بِأَنْ يَصِيحَ بِهِ وَيُنَفِّرَهُ، فَيَتَسَبَّبَ ذَلِكَ بِمَوْتِهِ.
2 - بِنَصْبِ شَبَكَةٍ وَقَعَ بِهَا صَيْدٌ فَمَاتَ، أَوْ إِرْسَال كَلْبٍ.
3 - الْمُشَارَكَةُ بِقَتْل الصَّيْدِ، كَأَنْ يُمْسِكَهُ لِيَقْتُلَهُ آخَرُ، أَوْ يَذْبَحَهُ.
4 - الدَّلاَلَةُ عَلَى الصَّيْدِ، أَوِ الإِْشَارَةُ، أَوِ الإِْعَانَةُ بِغَيْرِ الْمُشَارَكَةِ فِي الْيَدِ، كَمُنَاوَلَةِ آلَةٍ أَوْ سِلاَحٍ، يَضْمَنُ فَاعِلُهَا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ (5) وَالْحَنَابِلَةِ (6) ، وَلاَ يَضْمَنُ عِنْدَ
__________
(1) المسلك المتقسط ص 243
(2) نهاية المحتاج 2 / 460
(3) مطالب أولي النهى 2 / 338
(4) الشرح الكبير 2 / 84
(5) المسلك المتقسط 243، 246 - 248 وفي تفصيل شروط وجوب الجزاء بالدلالة والإعانة وأن يتصل القتل بها، وألا يعلم المدلول بالصيد ولا يراه قبل الدلالة، وأن يصدقه.
(6) مطالب أولي النهى 2 / 333 - 336

(2/189)


الْمَالِكِيَّةِ (1) وَالشَّافِعِيَّةِ (2) .

خَامِسًا: التَّعَدِّي بِوَضْعِ الْيَدِ عَلَى الصَّيْدِ:
168 - إِذَا مَاتَ الصَّيْدُ فِي يَدِهِ فَعَلَيْهِ الْجَزَاءُ؛ لأَِنَّهُ تَعَدَّى بِوَضْعِ الْيَدِ عَلَيْهِ فَيَضْمَنُهُ وَلَوْ كَانَ وَدِيعَةً (3) .

سَادِسًا: أَكْل الْمُحْرِمِ مِنْ ذَبِيحَةِ الصَّيْدِ أَوْ قَتِيلِهِ:
169 - إِنْ أَكَل الْمُحْرِمُ مِنْ ذَبِيحَةٍ أَوْ صَيْدِ مُحْرِمٍ أَوْ ذَبِيحَةِ صَيْدِ الْحَرَمِ فَلاَ ضَمَانَ عَلَيْهِ لِلأَْكْل، وَلَوْ كَانَ هُوَ قَاتِل الصَّيْدِ أَيْضًا أَوْ ذَابِحَهُ فَلاَ جَزَاءَ عَلَيْهِ لِلأَْكْل، إِنَّمَا عَلَيْهِ جَزَاءُ قَتْل الصَّيْدِ أَوْ ذَبْحِهِ إِنْ فَعَل ذَلِكَ هُوَ، وَذَلِكَ عِنْدَ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ، وَمِنْهُمُ الأَْئِمَّةُ الثَّلاَثَةُ، وَصَاحِبَا أَبِي حَنِيفَةَ (4) .
وَقَال أَبُو حَنِيفَةَ (5) كَذَلِكَ بِالنِّسْبَةِ لِلْمُحْرِمِ إِذَا أَكَل مِنْ صَيْدِ غَيْرِهِ، أَوْ صَيْدِ الْحَرَمِ إِذَا أَكَل مِنْهُ الْحَلاَل الَّذِي صَادَهُ، وَأَوْجَبَ عَلَى الْمُحْرِمِ إِذَا أَكَل مِنْ صَيْدِهِ أَوْ ذَبِيحَتِهِ مِنَ الصَّيْدِ الضَّمَانَ سَوَاءٌ أَكَل مِنْهُ قَبْل الضَّمَانِ أَوْ بَعْدَهُ.
__________
(1) الشرح الكبير 2 / 76، 77
(2) نهاية المحتاج 2 / 461، 462
(3) المسلك المتقسط 245، 246، والشرح الكبير وحاشيته 2 / 72 ونهاية المحتاج 2 / 462، ومطالب أولي النهى 2 / 341
(4) الشرح الكبير وحاشية 2 / 78، والمجموع 7 / 308، 309، والمغني 3 / 314
(5) الهداية وفتح القدير 2 / 273. والمسلك المتقسط ص 253. وفي قول عن أبي حنيفة: إذا أكل قبل الضمان تداخل مع جزاء الصيد. وقيل لا رواية عنه في هذه الصورة فتكون محتملة.

(2/189)


اسْتَدَل الْجُمْهُورُ بِأَنَّهُ صَيْدٌ مَضْمُونٌ بِالْجَزَاءِ، فَلَمْ يَضْمَنْ ثَانِيًا، كَمَا لَوْ أَتْلَفَهُ بِغَيْرِ الأَْكْل؛ وَلأَِنَّ تَحْرِيمَهُ لِكَوْنِهِ مَيْتَةً، وَالْمَيْتَةُ لاَ تُضْمَنُ بِالْجَزَاءِ.
وَاسْتَدَل أَبُو حَنِيفَةَ بِأَنَّ " حُرْمَتَهُ بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ مَحْظُورٌ إِحْرَامُهُ؛ لأَِنَّ إِحْرَامَهُ هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الصَّيْدَ عَنِ الْمَحَلِّيَّةِ، وَالذَّابِحَ عَنِ الأَْهْلِيَّةِ فِي حَقِّ الذَّكَاةِ، فَصَارَتْ حُرْمَةُ التَّنَاوُل بِهَذِهِ الْوَسَائِطِ مُضَافَةً إِلَى إِحْرَامِهِ ".

الْمَبْحَثُ الثَّالِثُ
فِي الْجِمَاعِ وَدَوَاعِيهِ

170 - اتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّ الْجِمَاعَ فِي حَالَةِ الإِْحْرَامِ جِنَايَةٌ يَجِبُ فِيهَا الْجَزَاءُ. وَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّ الْعَامِدَ وَالْجَاهِل وَالسَّاهِيَ وَالنَّاسِيَ وَالْمُكْرَهَ فِي ذَلِكَ سَوَاءٌ. وَهُوَ مَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ (1) وَالْمَالِكِيَّةِ (2) وَالْحَنَابِلَةِ (3) .
قَال ابْنُ قُدَامَةَ: " لأَِنَّهُ مَعْنًى يَتَعَلَّقُ بِهِ قَضَاءُ الْحَجِّ، فَاسْتَوَى عَمْدُهُ وَسَهْوُهُ كَالْفَوَاتِ ". لَكِنِ اسْتَثْنَى الْحَنَابِلَةُ مِنَ الْفِدَاءِ الْمَوْطُوءَةَ كُرْهًا، فَقَالُوا: لاَ فِدَاءَ عَلَيْهَا، بَل يَجِبُ عَلَيْهَا الْقَضَاءُ فَقَطْ.
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ (4) : النَّاسِي وَالْمَجْنُونُ وَالْمُغْمَى عَلَيْهِ وَالنَّائِمُ وَالْمُكْرَهُ وَالْجَاهِل لِقُرْبِ عَهْدِهِ بِالإِْسْلاَمِ أَوْ نُشُوئِهِ بِبَادِيَةٍ بَعِيدَةٍ عَنِ الْعُلَمَاءِ، فَلاَ يَفْسُدُ الإِْحْرَامُ بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهِمْ بِالْجِمَاعِ.
__________
(1) المسلك المتقسط ص 126
(2) الشرح الكبير بحاشيته 2 / 68
(3) الكافي 2 / 561، ومطالب أولي النهى 2 / 348، 350، 351، 352
(4) كما في نهاية المحتاج وحاشيته للشبراملسي 2 / 456

(2/190)


أَوَّلاً: الْجِمَاعُ فِي إِحْرَامِ الْحَجِّ:
يَكُونُ الْجِمَاعُ فِي إِحْرَامِ الْحَجِّ جِنَايَةً فِي ثَلاَثَةِ أَحْوَالٍ:
171 - الأَْوَّل - الْجِمَاعُ قَبْل الْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ. فَمَنْ جَامَعَ قَبْل الْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ فَسَدَ حَجُّهُ بِإِجْمَاعِ الْعُلَمَاءِ، وَوَجَبَ عَلَيْهِ ثَلاَثَةُ أُمُورٍ:
1 - الاِسْتِمْرَارُ فِي حَجِّهِ الْفَاسِدِ إِلَى نِهَايَتِهِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} وَجْهُ الاِسْتِدْلاَل أَنَّهُ " لَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَ صَحِيحٍ وَفَاسِدٍ (1) ".
2 - أَدَاءُ حَجٍّ جَدِيدٍ فِي الْمُسْتَقْبَل قَضَاءً لِلْحَجَّةِ الْفَاسِدَةِ، وَلَوْ كَانَتْ نَافِلَةً. وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَفْتَرِقَا فِي حَجَّةِ الْقَضَاءِ هَذِهِ عِنْدَ الأَْئِمَّةِ الثَّلاَثَةِ مُنْذُ الإِْحْرَامِ بِحَجَّةِ الْقَضَاءِ، وَأَوْجَبَ الْمَالِكِيَّةُ عَلَيْهِمَا الاِفْتِرَاقَ.
3 - ذَبْحُ الْهَدْيِ فِي حَجَّةِ الْقَضَاءِ. وَهُوَ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ شَاةٌ، وَقَال الأَْئِمَّةُ الثَّلاَثَةُ: لاَ تُجْزِئُ الشَّاةُ، بَل يَجِبُ عَلَيْهِ بَدَنَةٌ.
اسْتَدَل الْحَنَفِيَّةُ بِمَا وَرَدَ أَنَّ رَجُلاً جَامَعَ امْرَأَتَهُ وَهُمَا مُحْرِمَانِ، فَسَأَلاَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَال لَهُمَا: اقْضِيَا نُسُكَكُمَا وَأَهْدَيَا هَدْيًا رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ فِي الْمَرَاسِيل وَالْبَيْهَقِيُّ، وَبِمَا رُوِيَ مِنَ الآْثَارِ عَنِ الصَّحَابَةِ أَنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ شَاةٌ (2) .
__________
(1) المجموع 7 / 381، ونهاية المحتاج 2 / 456، 457 والمسلك المتقسط ص 225، 226 (وفيه مزيد تفاصيل) وشرح الكنز للعيني 1 / 102، وشرح الزرقاني لمختصر خليل 2 / 306، والشرح الكبير 2 / 68، والمغني 3 / 334، ومطالب أولي النهى 2 / 247، 348
(2) انظر الهداية وفتح القدير 2 / 238 - 240، وشرح الكنز للعيني 1 / 102. والحديث المذكور مرسل وهو حجة عند الحنفية، وقد تعضد بشواهد تقوية.

(2/190)


وَاسْتَدَل الْجُمْهُورُ بِمَا قَال الرَّمْلِيُّ: " لِفَتْوَى جَمَاعَةٍ مِنَ الصَّحَابَةِ، وَلَمْ يُعْرَفْ لَهُمْ مُخَالِفٌ ". (1)
172 - الثَّانِي: الْجِمَاعُ بَعْدَ الْوُقُوفِ قَبْل التَّحَلُّل الأَْوَّل. فَمَنْ جَامَعَ بَعْدَ الْوُقُوفِ قَبْل التَّحَلُّل يَفْسُدُ حَجُّهُ، وَعَلَيْهِ بَدَنَةٌ - كَمَا هُوَ الْحَال قَبْل الْوُقُوفِ - عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ (2) . وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ لاَ يَفْسُدُ حَجُّهُ، وَيَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يُهْدِيَ بَدَنَةً (3) .
اسْتَدَل الثَّلاَثَةُ: بِمَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ رَجُلاً سَأَلَهُ فَقَال: إِنِّي وَقَعْتُ عَلَى امْرَأَتِي وَنَحْنُ مُحْرِمَانِ؟ فَقَال: أَفْسَدْتَ حَجَّكَ. انْطَلِقْ أَنْتَ وَأَهْلُكَ مَعَ النَّاسِ، فَاقْضُوا مَا يَقْضُونَ، وَحُل إِذَا حَلُّوا. فَإِذَا كَانَ فِي الْعَامِ الْمُقْبِل فَاحْجُجْ أَنْتَ وَامْرَأَتُكَ، وَأَهْدَيَا هَدْيًا، فَإِنْ لَمْ تَجِدَا فَصُومَا ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةً إِذَا رَجَعْتُمْ (4) .
وَجْهُ الاِسْتِدْلاَل: أَنَّهُ وَنَحْوُهُ مِمَّا رُوِيَ عَنِ الصَّحَابَةِ مُطْلَقٌ فِي الْمُحْرِمِ إِذَا جَامَعَ، لاَ تَفْصِيل فِيهِ بَيْنَ مَا قَبْل الْوُقُوفِ وَبَيْنَ مَا بَعْدَهُ، فَيَكُونُ حُكْمُهُمَا وَاحِدًا، وَهُوَ الْفَسَادُ وَوُجُوبُ بَدَنَةٍ.
وَاسْتَدَل الْحَنَفِيَّةُ بِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
__________
(1) نهاية المحتاج 2 / 457، وانظر المغني 3 / 334، والمجموع 7 / 381، والمنتقى شرح الموطأ 3 / 3، والشرح الكبير 2 / 68، وقد أطلق الشراح المالكيون وجوب " هدي " وبين تعيينه في المنتقى أنه بدنة.
(2) حاشية العدوي 1 / 485، 486، والشرح الكبير الموضع السابق ونهاية المحتاج 2 / 456، والمغني 3 / 334
(3) الهداية بشرحها 2 / 240، 241، والمسلك المتقسط ص 226
(4) المغني 3 / 335 وانظر نصب الراية فقد رواه بأطول من هذا اللفظ 3 / 127 وقال: " رواه البيهقي وإسناده صحيح "

(2/191)


الْحَجُّ عَرَفَةُ. أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ وَأَصْحَابُ السُّنَنِ وَالْحَاكِمُ (1) ، وَبِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَدِيثِ عُرْوَةَ بْنِ مُضَرَّسٍ الطَّائِيِّ: وَقَدْ وَقَفَ بِعَرَفَةَ قَبْل ذَلِكَ لَيْلاً أَوْ نَهَارًا فَقَدْ تَمَّ حَجُّهُ وَقَضَى تَفَثَهُ أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ وَأَصْحَابُ السُّنَنِ، وَصَحَّحَهُ التِّرْمِذِيُّ، وَقَال الْحَاكِمُ: " صَحِيحٌ عَلَى شَرْطِ كَافَّةِ أَئِمَّةِ الْحَدِيثِ ". (2)
وَجْهُ الاِسْتِدْلاَل: أَنَّ حَقِيقَةَ تَمَامِ الْحَجِّ الْمُتَبَادِرَةَ مِنَ الْحَدِيثَيْنِ غَيْرُ مُرَادَةٍ؛ لِبَقَاءِ طَوَافِ الزِّيَارَةِ، وَهُوَ رُكْنٌ إِجْمَاعًا، فَتَعَيَّنَ الْقَوْل بِأَنَّ الْحَجَّ قَدْ تَمَّ حُكْمًا، وَالتَّمَامُ الْحُكْمِيُّ يَكُونُ بِالأَْمْنِ مِنْ فَسَادِ الْحَجِّ بَعْدَهُ، فَأَفَادَ الْحَدِيثُ أَنَّ الْحَجَّ لاَ يَفْسُدُ بَعْدَ عَرَفَةَ مَهْمَا صَنَعَ الْمُحْرِمُ (3) . وَإِنَّمَا أَوْجَبْنَا الْبَدَنَةَ بِمَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّهُ سُئِل عَنْ رَجُلٍ وَقَعَ بِأَهْلِهِ وَهُوَ بِمِنًى قَبْل أَنْ يُفِيضَ، فَأَمَرَهُ أَنْ يَنْحَرَ بَدَنَةً. رَوَاهُ مَالِكٌ وَابْنُ أَبِي شَيْبَةَ (4) .
__________
(1) المسند 4 / 309، 310 وأبو داود (باب من لم يدرك عرفة) 2 / 196، والترمذي واللفظ له، (باب من أدرك الإمام. . .) 3 / 237، 238، والنسائي 5 / 256، وابن ماجه ص 1003، والمستدرك 1 / 464 قال الذهبي: " صحيح "
(2) المسند 4 / 261،262 وأبو داود الموضع السابق، والترمذي واللفظ له في الباب السابق ص 238، 239، والنسائي (باب فيمن لم يدرك صلاة الصبح مع الإمام بالمزدلفة) 5 / 263 - 265 وابن ماجه ص 1004، والمستدرك 1 / 463 ووافق الذهبي على صحته.
(3) تبيين الحقائق للزيلعي شرح الكنز 2 / 58، وفتح القدير 2 / 240، 241
(4) الموطأ من طريق أبي الزبير (هدي من أصاب أهله قبل أن يفيض) 1 / 273 وابن أبي شيبة من طريق آخر عن ابن عباس. وسنده صحيح. انظر المجموع 7 / 380

(2/191)


173 - الثَّالِثُ: الْجِمَاعُ بَعْدَ التَّحَلُّل الأَْوَّل: اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ الْجِمَاعَ بَعْدَ التَّحَلُّل الأَْوَّل لاَ يُفْسِدُ الْحَجَّ. وَأَلْحَقَ الْمَالِكِيَّةُ بِهِ الْجِمَاعَ بَعْدَ طَوَافِ الإِْفَاضَةِ وَلَوْ قَبْل الرَّمْيِ، وَالْجِمَاعَ بَعْدَ يَوْمِ النَّحْرِ قَبْل الرَّمْيِ وَالإِْفَاضَةِ. وَوَقَعَ الْخِلاَفُ فِي الْجَزَاءِ الْوَاجِبِ: فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ شَاةٌ. قَالُوا فِي الاِسْتِدْلاَل: " لِخِفَّةِ الْجِنَايَةِ، لِوُجُودِ التَّحَلُّل فِي حَقِّ غَيْرِ النِّسَاءِ ".
وَقَال مَالِكٌ، وَهُوَ قَوْلٌ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ: يَجِبُ عَلَيْهِ بَدَنَةٌ. وَعَلَّلَهُ الْبَاجِيُّ بِأَنَّهُ لِعِظَمِ الْجِنَايَةِ عَلَى الإِْحْرَامِ (1) .
وَأَوْجَبَ مَالِكٌ وَالْحَنَابِلَةُ عَلَى مَنْ فَعَل هَذِهِ الْجِنَايَةَ بَعْدَ التَّحَلُّل الأَْوَّل قَبْل الإِْفَاضَةِ أَنْ يَخْرُجَ إِلَى الْحِل، وَيَأْتِيَ بِعُمْرَةٍ، لِقَوْل ابْنِ عَبَّاسٍ ذَلِكَ. قَال الْبَاجِيُّ فِي الْمُنْتَقَى: " وَذَلِكَ لأَِنَّهُ لَمَّا أَدْخَل النَّقْصَ عَلَى طَوَافِهِ لِلإِْفَاضَةِ بِمَا أَصَابَ مِنَ الْوَطْءِ كَانَ عَلَيْهِ أَنْ يَقْضِيَهُ بِطَوَافٍ سَالِمٍ إِحْرَامُهُ مِنْ ذَلِكَ النَّقْصِ، وَلاَ يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ الطَّوَافُ فِي إِحْرَامٍ إِلاَّ فِي حَجٍّ أَوْ عُمْرَةٍ ". وَلَمْ يُوجِبِ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ ذَلِكَ (2) .

ثَانِيًا: الْجِمَاعُ فِي إِحْرَامِ الْعُمْرَةِ:
174 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ لَوْ جَامَعَ قَبْل أَنْ
__________
(1) وقد روى مالك القصة المذكورة في باب (هدي من أصاب أهله تجل أن يفيض) فدل بذلك على أنه مذهبه في جناية الجماع بعد التحلل. والله أعلم.
(2) الهداية 2 / 241، وشرح الكنز للعيني 1 / 103، والمنتقى للباجي 3 / 9، 10، والمجموع 7 / 393، 394 والمقنع 1 / 414، ومطالب أولي النهى 2 / 350

(2/192)


يُؤَدِّيَ رُكْنَ الْعُمْرَةِ، وَهُوَ الطَّوَافُ أَرْبَعَةَ أَشْوَاطٍ، تَفْسُدُ عُمْرَتُهُ، أَمَّا لَوْ وَقَعَ الْمُفْسِدُ بَعْدَ ذَلِكَ لاَ تَفْسُدُ الْعُمْرَةُ؛ لأَِنَّهُ بِأَدَاءِ الرُّكْنِ أَمِنَ الْفَسَادَ. وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّ الْمُفْسِدَ إِنْ حَصَل قَبْل تَمَامِ سَعْيِهَا وَلَوْ بِشَرْطٍ فَسَدَتْ، أَمَّا لَوْ وَقَعَ بَعْدَ تَمَامِ السَّعْيِ قَبْل الْحَلْقِ فَلاَ تَفْسُدُ؛ لأَِنَّهُ بِالسَّعْيِ تَتِمُّ أَرْكَانُهَا، وَالْحَلْقُ مِنْ شُرُوطِ الْكَمَال عِنْدَهُمْ.
وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ أَنَّهُ إِذَا حَصَل الْمُفْسِدُ قَبْل التَّحَلُّل مِنَ الْعُمْرَةِ فَسَدَتْ. وَالتَّحَلُّل بِالْحَلْقِ، وَهُوَ رُكْنٌ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَاجِبٌ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ (1) .
175 يَجِبُ فِي إِفْسَادِ الْعُمْرَةِ مَا يَجِبُ فِي إِفْسَادِ الْحَجِّ مِنَ الاِسْتِمْرَارِ فِيهَا، وَالْقَضَاءِ وَالْفِدَاءِ بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ. لَكِنِ اخْتَلَفُوا فِي فِدَاءِ إِفْسَادِ الْعُمْرَةِ: فَمَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ وَأَحَدُ الْقَوْلَيْنِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّهُ يَلْزَمُهُ شَاةٌ؛ لأَِنَّ الْعُمْرَةَ أَقَل رُتْبَةً مِنَ الْحَجِّ، فَخَفَّتْ جِنَايَتُهَا، فَوَجَبَتْ شَاةٌ. وَمَذْهَبُ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ أَنَّهُ يَلْزَمُهُ بَدَنَةٌ قِيَاسًا عَلَى الْحَجِّ. أَمَّا فِدَاءُ الْجِمَاعِ الَّذِي لاَ يُفْسِدُ الْعُمْرَةَ فَشَاةٌ فَقَطْ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَبَدَنَةٌ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ (2) .

ثَالِثًا: مُقَدِّمَاتُ الْجِمَاعِ:
176 - الْمُقَدِّمَاتُ الْمُبَاشَرَةُ أَوِ الْقَرِيبَةُ، كَاللَّمْسِ
__________
(1) انظر تفصيل هذه الأحكام في مصطلح (عمرة)
(2) فتح القدير 1 / 241، وحاشية العدوي 1 / 486، والمنتقى الموضع السابق، والمجموع 7 / 381، 382، وشرح المحلي 2 / 136، والمغني 3 / 486، وحاشية المقفع 1 / 414، ومطالب أولي النهى 2 / 51

(2/192)


بِشَهْوَةٍ، وَالتَّقْبِيل، وَالْمُبَاشَرَةِ بِغَيْرِ جِمَاعٍ: يَجِبُ عَلَى مَنْ فَعَل شَيْئًا مِنْهَا الدَّمُ سَوَاءٌ أَنْزَل مَنِيًّا أَوْ لَمْ يُنْزِل. وَلاَ يَفْسُدُ حَجُّهُ اتِّفَاقًا بَيْنَ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، إِلاَّ أَنَّ الْحَنَابِلَةَ قَالُوا: إِنْ أَنْزَل وَجَبَ عَلَيْهِ بَدَنَةٌ. وَمَذْهَبُ الْمَالِكِيَّةِ: إِنْ أَنْزَل بِمُقَدِّمَاتِ الْجِمَاعِ مَنِيًّا فَحُكْمُهُ حُكْمُ الْجِمَاعِ فِي إِفْسَادِ الْحَجِّ، وَعَلَيْهِ مَا عَلَى الْمُجَامِعِ مِمَّا ذُكِرَ سَابِقًا، وَإِنْ لَمْ يُنْزِل فَلْيُهْدِ بَدَنَةً (1) .
177 - الْمُقَدِّمَاتُ الْبَعِيدَةُ: كَالنَّظَرِ بِشَهْوَةٍ وَالتَّفَكُّرِ كَذَلِكَ، صَرَّحَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ أَنَّهُ لاَ يَجِبُ فِي شَيْءٍ مِنْهُمَا الْفِدَاءُ، وَلَوْ أَدَّى إِلَى الإِْنْزَال. وَهُوَ مَذْهَبُ الْحَنَابِلَةِ فِي الْفِكْرِ.
وَمَذْهَبُ الْمَالِكِيَّةِ: إِذَا فَعَل أَيَّ وَاحِدٍ مِنْهَا بِقَصْدِ اللَّذَّةِ، وَاسْتَدَامَهُ حَتَّى خَرَجَ الْمَنِيُّ، فَهُوَ كَالْجِمَاعِ فِي إِفْسَادِ الْحَجِّ. وَإِنْ خَرَجَ الْمَنِيُّ بِمُجَرَّدِ الْفِكْرِ أَوِ النَّظَرِ مِنْ غَيْرِ اسْتِدَامَةٍ فَلاَ يَفْسُدُ، وَإِنَّمَا فِيهِ الْهَدْيُ (بَدَنَةٌ) . وَمَذْهَبُ الْحَنَابِلَةِ: إِنْ نَظَرَ فَصَرَفَ بَصَرَهُ فَأَمْنَى فَعَلَيْهِ دَمٌ، وَإِنْ كَرَّرَ النَّظَرَ حَتَّى أَمْنَى فَعَلَيْهِ بَدَنَةٌ.

رَابِعًا: فِي جِمَاعِ الْقَارِنِ:
178 - قَرَّرَ الْحَنَفِيَّةُ فِي جِمَاعِ الْقَارِنِ - بِنَاءً عَلَى مَذْهَبِهِمْ أَنَّهُ يَطُوفُ طَوَافَيْنِ وَيَسْعَى سَعْيَيْنِ - التَّفْصِيل الآْتِيَ (2) :
1 - إِنْ جَامَعَ قَبْل الْوُقُوفِ، وَقَبْل طَوَافِ الْعُمْرَةِ، فَسَدَ حَجُّهُ وَعُمْرَتُهُ كِلاَهُمَا، وَعَلَيْهِ الْمُضِيُّ فِيهِمَا، وَعَلَيْهِ
__________
(1) الهداية 2 / 237، 238 وحاشية العدوي 1 / 489، ونهاية المحتاج 2 / 456، ومختصر الخرقي، والمغني شرحه 3 / 338 - 340
(2) كما في المسلك المتقسط 227، 228

(2/193)


شَاتَانِ لِلْجِنَايَةِ عَلَى إِحْرَامِهِمَا، وَعَلَيْهِ قَضَاؤُهُمَا، وَسَقَطَ عَنْهُ دَمُ الْقِرَانِ.
2 - إِنْ جَامَعَ بَعْدَمَا طَافَ لِعُمْرَتِهِ كُل أَشْوَاطِهِ أَوْ أَكْثَرَهَا فَسَدَ حَجُّهُ دُونَ عُمْرَتِهِ لأَِنَّهُ أَدَّى رُكْنَهَا قَبْل الْجِمَاعِ، وَسَقَطَ عَنْهُ دَمُ الْقِرَانِ، وَعَلَيْهِ دَمَانِ لِجِنَايَتِهِ الْمُتَكَرِّرَةِ حُكْمًا، دَمٌ لِفَسَادِ الْحَجِّ، وَدَمٌ لِلْجِمَاعِ فِي إِحْرَامِ الْعُمْرَةِ لِعَدَمِ تَحَلُّلِهِ مِنْهَا، وَعَلَيْهِ قَضَاءُ الْحَجِّ فَقَطْ، لِصِحَّةِ عُمْرَتِهِ.
3 - إِنْ جَامَعَ بَعْدَ طَوَافِ الْعُمْرَةِ وَبَعْدَ الْوُقُوفِ قَبْل الْحَلْقِ وَلَوْ بِعَرَفَةَ لَمْ يَفْسُدِ الْحَجُّ وَلاَ الْعُمْرَةُ، لإِِدْرَاكِهِ رُكْنَهُمَا، وَلاَ يَسْقُطُ عَنْهُ دَمُ الْقِرَانِ؛ لِصِحَّةِ أَدَاءِ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ، لَكِنْ عَلَيْهِ بَدَنَةٌ لِلْحَجِّ وَشَاةٌ لِلْعُمْرَةِ.
4 - لَوْ لَمْ يَطُفْ لِعُمْرَتِهِ - ثُمَّ جَامَعَ بَعْدَ الْوُقُوفِ - فَعَلَيْهِ بَدَنَةٌ لِلْحَجِّ، وَشَاةٌ لِرَفْضِ الْعُمْرَةِ، وَقَضَاؤُهَا.
5 - لَوْ طَافَ الْقَارِنُ طَوَافَ الزِّيَارَةِ قَبْل الْحَلْقِ، ثُمَّ جَامَعَ، فَعَلَيْهِ شَاتَانِ بِنَاءً عَلَى وُقُوعِ الْجِنَايَةِ عَلَى إِحْرَامَيْهِ؛ لِعَدَمِ التَّحَلُّل الأَْوَّل الْمُرَتَّبِ عَلَيْهِ التَّحَلُّل الثَّانِي.

الْمَبْحَثُ الرَّابِعُ
فِي أَحْكَامِ كَفَّارَاتِ مَحْظُورَاتِ الإِْحْرَامِ
كَفَّارَاتُ مَحْظُورَاتِ الإِْحْرَامِ أَرْبَعَةُ أُمُورٍ، هِيَ: الْهَدْيُ، وَالصَّدَقَةُ، وَالصِّيَامُ، وَالْقَضَاءُ، وَالْكَلاَمُ هُنَا عَلَى أَحْكَامِهَا الْخَاصَّةِ بِهَذَا الْمَوْضُوعِ:

الْمَطْلَبُ الأَْوَّل
الْهَدْيُ.
179 - تُرَاعَى فِي الْهَدْيِ وَذَبْحِهِ وَأَنْوَاعِهِ الشُّرُوطُ وَالأَْحْكَامُ الْمُوَضَّحَةُ فِي مُصْطَلَحِ " هَدْيٌ ".

(2/193)


الْمَطْلَبُ الثَّانِي
الصَّدَقَةُ
180 - يُرَاعَى فِي الْمَال الَّذِي تَخْرُجُ مِنْهُ الصَّدَقَةُ أَنْ يَكُونَ مِنَ الأَْصْنَافِ الَّتِي تَخْرُجُ مِنْهَا صَدَقَةُ الْفِطْرِ، كَمَا تُرَاعَى أَحْكَامُ الزَّكَاةِ فِي الْفَقِيرِ الَّذِي تُدْفَعُ إِلَيْهِ. وَيُرَاعَى فِي إِخْرَاجِ الْقِيمَةِ، وَمِقْدَارِ الصَّدَقَةِ لِكُل مِسْكِينٍ مَا هُوَ مُقَرَّرٌ فِي صَدَقَةِ الْفِطْرِ، وَهَذَا فِي الإِْطْعَامِ الْوَاجِبِ فِي الْفِدْيَةِ. وَأَمَّا فِي جَزَاءِ الصَّيْدِ فَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ لَمْ يُقَيِّدُوا الصَّدَقَةَ فِيهِ بِمِقْدَارٍ مُعَيَّنٍ. وَتَفْصِيلاَتُ ذَلِكَ وَآرَاءُ الْفُقَهَاءِ يُرْجَعُ إِلَيْهَا فِي مُصْطَلَحِ هَدْيٌ وَكَفَّارَةٌ وَصَدَقَةُ الْفِطْرِ.

الْمَطْلَبُ الثَّالِثُ
الصِّيَامُ
181 - أَوَّلاً: مَنْ كَفَّرَ بِالصِّيَامِ يُرَاعِي فِيهِ أَحْكَامَ الصِّيَامِ وَلاَ سِيَّمَا تَبْيِيتَ النِّيَّةِ بِالنِّسْبَةِ لِلْوَاجِبِ غَيْرِ الْمُعَيَّنِ (ر: صَوْمٌ) .
182 - ثَانِيًا: الصِّيَامُ الْمُقَرَّرُ جَزَاءً عَنِ الْمَحْظُورِ لاَ يَتَقَيَّدُ بِزَمَانٍ وَلاَ مَكَانٍ وَلاَ تَتَابُعٍ اتِّفَاقًا، إِلاَّ الصِّيَامَ لِمَنْ عَجَزَ عَنْ هَدْيِ الْقِرَانِ وَالتَّمَتُّعِ، فَإِنَّهُ يَصُومُ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ، وَسَبْعَةً إِذَا رَجَعَ إِلَى أَهْلِهِ. فَلاَ يَصِحُّ صِيَامُ الأَْيَّامِ الثَّلاَثَةِ قَبْل أَشْهُرِ الْحَجِّ، وَلاَ قَبْل إِحْرَامِ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ فِي حَقِّ الْقَارِنِ، وَلاَ قَبْل إِحْرَامِ الْعُمْرَةِ فِي حَقِّ الْمُتَمَتِّعِ اتِّفَاقًا.
أَمَّا تَقْدِيمُهَا لِلْمُتَمَتِّعِ عَلَى إِحْرَامِ الْحَجِّ فَمَنَعَهُ الْمَالِكِيَّةُ (1) وَالشَّافِعِيَّةُ (2) لِقَوْلِهِ تَعَالَى {فَصِيَامُ ثَلاَثَةِ
__________
(1) الشرح الكبير 2 / 84
(2) نهاية المحتاج 2 / 446

(2/194)


أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ} (1) وَأَجَازَهُ الْحَنَفِيَّةُ (2) وَالْحَنَابِلَةُ (3) لأَِنَّهُ كَمَا قَال ابْنُ قُدَامَةَ: " وَقْتٌ كَامِلٌ جَازَ فِيهِ نَحْرُ الْهَدْيِ، فَجَازَ فِيهِ الصِّيَامُ، كَبَعْدَ إِحْرَامِ الْحَجِّ. وَمَعْنَى قَوْله تَعَالَى (فِي الْحَجِّ) أَيْ فِي وَقْتِهِ ".
وَأَمَّا الأَْيَّامُ السَّبْعَةُ الْبَاقِيَةُ عَلَى مَنْ عَجَزَ عَنْ هَدْيِ الْقِرَانِ وَالتَّمَتُّعِ، فَلاَ يَصِحُّ صِيَامُهَا إِلاَّ بَعْدَ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ، ثُمَّ يَجُوزُ صِيَامُهَا بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنْ أَفْعَال الْحَجِّ، وَلَوْ فِي مَكَّةَ، إِذَا مَكَثَ بِهَا، عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ (4) . وَالأَْفْضَل الْمُسْتَحَبُّ أَنْ يَصُومَهَا إِذَا رَجَعَ إِلَى أَهْلِهِ، وَهُوَ قَوْلٌ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، لَكِنَّ الأَْظْهَرَ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّهُ يَصُومُ الأَْيَّامَ السَّبْعَةَ إِذَا رَجَعَ إِلَى أَهْلِهِ، وَلاَ يَجُوزُ أَنْ يَصُومَهَا فِي الطَّرِيقِ، إِلاَّ إِذَا أَرَادَ الإِْقَامَةَ بِمَكَّةَ صَامَهَا بِهَا (5) .
وَالدَّلِيل لِلْجَمِيعِ قَوْله تَعَالَى: {وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ} . (6) فَحَمَلَهُ الشَّافِعِيُّ عَلَى ظَاهِرِهِ، وَقَال غَيْرُهُمْ: إِنَّ الْفَرَاغَ مِنَ الْحَجِّ هُوَ الْمُرَادُ بِالرُّجُوعِ، فَكَأَنَّهُ بِالْفَرَاغِ رَجَعَ عَمَّا كَانَ مُقْبِلاً عَلَيْهِ.
183 - ثَالِثًا: مَنْ فَاتَهُ أَدَاءُ الأَْيَّامِ الثَّلاَثَةِ فِي الْحَجِّ يَقْضِيهَا عِنْدَ الثَّلاَثَةِ، وَيَرْجِعُ إِلَى الدَّمِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ (7) ، لاَ يُجْزِيهِ غَيْرُهُ. وَهُوَ قَوْلٌ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ.
ثُمَّ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ، وَهُوَ قَوْلٌ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ: إِنْ صَامَ بَعْضَهَا قَبْل يَوْمِ النَّحْرِ كَمَّلَهَا أَيَّامَ التَّشْرِيقِ، وَإِنْ
__________
(1) سورة البقرة / 196
(2) المسلك المتقسط ص 75
(3) الكافي 1 / 538، 539
(4) المراجع السابقة للمذاهب الثلاثة.
(5) نهاية المحتاج 2 / 446
(6) سورة البقرة / 196
(7) المسلك المتقسط ص 176

(2/194)


أَخَّرَهَا عَنْ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ صَامَهَا مَتَى شَاءَ، وَصَلَهَا بِالسَّبْعَةِ أَوْ لاَ.
وَلَمْ يُجِزِ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ فِي الْقَوْل الآْخَرِ عِنْدَهُمْ صِيَامَهَا أَيَّامَ النَّحْرِ وَالتَّشْرِيقِ، بَل يُؤَخِّرُهَا إِلَى مَا بَعْدُ.
184 - وَيَجِبُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ فِي الأَْظْهَرِ فِي قَضَاءِ الأَْيَّامِ الثَّلاَثَةِ: " أَنْ يُفَرِّقَ فِي قَضَائِهَا بَيْنَهَا وَبَيْنَ السَّبْعَةِ بِقَدْرِ أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ، يَوْمِ النَّحْرِ وَأَيَّامِ التَّشْرِيقِ، وَمُدَّةِ إِمْكَانِ السَّيْرِ إِلَى أَهْلِهِ، عَلَى الْعَادَةِ الْغَالِبَةِ، كَمَا فِي الأَْدَاءِ، فَلَوْ صَامَ عَشَرَةَ أَيَّامٍ مُتَتَالِيَةً حَصَلَتِ الثَّلاَثَةُ، وَلاَ يُعْتَدُّ بِالْبَقِيَّةِ لِعَدَمِ التَّفْرِيقِ ".

الْمَطْلَبُ الرَّابِعُ
فِي الْقَضَاءِ
185 - وَهُوَ مِنْ وَاجِبِ إِفْسَادِ النُّسُكِ بِالْجِمَاعِ. وَمِنْ أَحْكَامِهِ مَا يَلِي:
أَوَّلاً: يُرَاعَى فِي قَضَاءِ النُّسُكِ أَحْكَامُ الأَْدَاءِ الْعَامَّةِ، مَعَ تَعْيِينِ الْقَضَاءِ فِي نِيَّةِ الإِْحْرَامِ بِهِ.
ثَانِيًا: قَال الْحَنَفِيَّةُ (1) وَهُوَ قَوْلٌ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ: عَلَيْهِ الْقَضَاءُ مِنْ قَابِلٍ أَيْ مِنْ سَنَةٍ آتِيَةٍ، وَلَمْ يَجْعَلُوهُ عَلَى الْفَوْرِ. وَمَذْهَبُ الْمَالِكِيَّةِ (2) وَالشَّافِعِيَّةِ (3) وَالْحَنَابِلَةِ (4) أَنَّ الْقَضَاءَ وَاجِبٌ عَلَى الْفَوْرِ وَلَوْ كَانَ النُّسُكُ الْفَاسِدُ تَطَوُّعًا، فَيَأْتِي بِالْعُمْرَةِ عَقِبَ التَّحَلُّل مِنَ الْعُمْرَةِ
__________
(1) الهداية وفتح القدير 2 / 240، والمسلك المتقسط ص 287
(2) الشرح الكبير 2 / 69
(3) نهاية المحتاج 2 / 458
(4) مطالب أولي النهى 1 / 349

(2/195)


الْفَاسِدَةِ، وَيَحُجُّ فِي الْعَامِ الْقَادِمِ.
ثَالِثًا: قَرَّرَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ أَنَّ الْمُفْسِدَ عِنْدَمَا يَقْضِي نُسُكَهُ الْفَاسِدَ يُحْرِمُ فِي الْقَضَاءِ حَيْثُ أَحْرَمَ فِي النُّسُكِ الْمُفْسَدِ، فَإِنْ أَحْرَمَ مِنَ الْجُحْفَةِ مَثَلاً أَحْرَمَ فِي الْقَضَاءِ مِنْهَا. وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ: إِنْ سَلَكَ فِي الْقَضَاءِ طَرِيقًا آخَرَ أَحْرَمَ مِنْ مِثْل مَسَافَةِ الْمِيقَاتِ الأَْوَّل مَا لَمْ يَجْعَلْهُ ذَلِكَ يُجَاوِزُ الْمِيقَاتَ بِغَيْرِ إِحْرَامٍ، فَإِنَّهُ يُحْرِمُ مِنَ الْمِيقَاتِ. وَإِنْ أَحْرَمَ فِي الْعَامِ الأَْوَّل قَبْل الْمَوَاقِيتِ لَزِمَهُ كَذَلِكَ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ. وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ لاَ يَجِبُ الإِْحْرَامُ بِالْقَضَاءِ إِلاَّ مِنَ الْمَوَاقِيتِ. أَمَّا إِنْ جَاوَزَ فِي الْعَامِ الأَْوَّل الْمِيقَاتَ غَيْرَ مُحْرِمٍ فَإِنَّهُ فِي الْقَضَاءِ يُحْرِمُ مِنَ الْمِيقَاتِ وَلاَ يَجُوزُ أَنْ يُجَاوِزَهُ غَيْرَ مُحْرِمٍ.
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: إِنْ تَعَدَّى الْمِيقَاتَ فِي عَامِ الْفَسَادِ لِعُذْرٍ مَشْرُوعٍ " كَأَنْ يُجَاوِزَ الْمِيقَاتَ حَلاَلاً لِعَدَمِ إِرَادَتِهِ دُخُول مَكَّةَ، ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ أَرَادَ الدُّخُول، وَأَحْرَمَ بِالْحَجِّ، ثُمَّ أَفْسَدَهُ، فَإِنَّهُ فِي عَامِ الْقَضَاءِ يُحْرِمُ مِمَّا أَحْرَمَ مِنْهُ أَوَّلاً ". (1)
__________
(1) كما صرح به الدسوقي في حاشيته على الشرح الكبير 2 / 70، وانظر المذاهب الباقية في نهاية المحتاج 2 / 428، ومطالب أولي النهى 2 / 349

(2/195)


إِحْصَارٌ

التَّعْرِيفُ:
1 - مِنْ مَعَانِي الإِْحْصَارِ فِي اللُّغَةِ الْمَنْعُ مِنْ بُلُوغِ الْمَنَاسِكِ بِمَرَضٍ أَوْ نَحْوِهِ، وَهُوَ الْمَعْنَى الشَّرْعِيُّ أَيْضًا عَلَى خِلاَفٍ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ فِيمَا يَتَحَقَّقُ بِهِ الإِْحْصَارُ (1)
2 - وَاسْتَعْمَل الْفُقَهَاءُ مَادَّةَ (حَصَرَ) بِالْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ فِي كُتُبِهِمُ اسْتِعْمَالاً كَثِيرًا. وَمِنْ أَمْثِلَةِ ذَلِكَ: قَوْل صَاحِبِ تَنْوِيرِ الأَْبْصَارِ وَشَارِحِهِ فِي الدُّرِّ الْمُخْتَارِ (2) : " وَالْمَحْصُورُ فَاقِدُ الْمَاءِ وَالتُّرَابِ الطَّهُورَيْنِ، بِأَنْ حُبِسَ فِي مَكَانٍ نَجِسٍ، وَلاَ يُمْكِنُهُ إِخْرَاجُ مُطَهِّرٍ، وَكَذَا الْعَاجِزُ عَنْهُمَا لِمَرَضٍ يُؤَخِّرُ الصَّلاَةَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَقَالاَ (3) يَتَشَبَّهُ بِالْمُصَلِّينَ وُجُوبًا، فَيَرْكَعُ وَيَسْجُدُ إِنْ وَجَدَ مَكَانًا يَابِسًا، وَإِلاَّ يُومِئُ قَائِمًا ثُمَّ يُعِيدُ ".
وَمِنْهُ أَيْضًا قَوْل صَاحِبِ تَنْوِيرِ الأَْبْصَارِ (4) : " وَكَذَا يَجُوزُ لَهُ (5) أَنْ يَسْتَخْلِفَ إِذَا حُصِرَ عَنْ قِرَاءَةِ قَدْرِ الْمَفْرُوضِ ". وَقَال أَبُو إِسْحَاقَ الشِّيرَازِيُّ (6) : " وَيَجُوزُ أَنْ يُصَلِّيَ
__________
(1) التعريفات للجرجاني، ولسان العرب ومعجم مقاييس اللغة
(2) هامش حاشية الطحطاوي 1 / 133
(3) يعني صاجي أبي حنيفة وهما أبو يوسف ومحمد.
(4) هامش حاشية الطحطاوي 1 / 257
(5) أي للإمام في صلاة الجماعة.
(6) المهذب مع المجموع 2 / 330

(2/196)


بِتَيَمُّمٍ وَاحِدٍ مَا شَاءَ مِنَ النَّوَافِل؛ لأَِنَّهَا غَيْرُ مَحْصُورَةٍ، فَخَفَّ أَمْرُهَا ". وَتَفْصِيلُهُ فِي مُصْطَلَحِ (صَلاَةٌ) .
إِلاَّ أَنَّهُمْ غَلَّبُوا اسْتِعْمَال هَذِهِ الْمَادَّةِ (حَصَرَ) وَمُشْتَقَّاتِهَا فِي بَابِ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ لِلدَّلاَلَةِ عَلَى مَنْعِ الْمُحْرِمِ مِنْ أَرْكَانِ النُّسُكِ، وَذَلِكَ اتِّبَاعًا لِلْقُرْآنِ الْكَرِيمِ، وَتَوَافَقَتْ عَلَى ذَلِكَ عِبَارَاتُهُمْ حَتَّى أَصْبَحَ (الإِْحْصَارُ) اصْطِلاَحًا فِقْهِيًّا مَعْرُوفًا وَمَشْهُورًا.
2 - وَيُعَرِّفُ الْحَنَفِيَّةُ الإِْحْصَارَ بِأَنَّهُ: هُوَ الْمَنْعُ مِنَ الْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ وَالطَّوَافِ جَمِيعِهِمَا بَعْدَ الإِْحْرَامِ بِالْحَجِّ الْفَرْضِ، وَالنَّفْل، وَفِي الْعُمْرَةِ عَنِ الطَّوَافِ، وَهَذَا التَّعْرِيفُ لَمْ يُعْتَرَضْ عَلَيْهِ (1) . وَيُعَرِّفُهُ الْمَالِكِيَّةُ بِأَنَّهُ الْمَنْعُ مِنَ الْوُقُوفِ وَالطَّوَافِ مَعًا أَوِ الْمَنْعُ مِنْ أَحَدِهِمَا (2) .
وَبِمِثْل مَذْهَبِ الشَّافِعِيَّةِ هَذَا التَّعْرِيفُ الَّذِي أَوْرَدَهُ الرَّمْلِيُّ الشَّافِعِيُّ فِي نِهَايَةِ الْمُحْتَاجِ (3) ، وَنَصُّهُ: " هُوَ الْمَنْعُ مِنْ إِتْمَامِ أَرْكَانِ الْحَجِّ أَوِ الْعُمْرَةِ ".
وَيَنْطَبِقُ هَذَا التَّعْرِيفُ لِلشَّافِعِيَّةِ عَلَى مَذْهَبِ الْحَنَابِلَةِ فِي الإِْحْصَارِ؛ لأَِنَّهُمْ يَقُولُونَ بِالإِْحْصَارِ عَنْ أَيٍّ مِنْ أَرْكَانِ الْحَجِّ أَوِ الْعُمْرَةِ، عَلَى تَفْصِيلٍ يَسِيرٍ فِي كَيْفِيَّةِ التَّحَلُّل لِمَنْ أُحْصِرَ عَنِ الْوُقُوفِ دُونَ الطَّوَافِ.

الأَْصْل التَّشْرِيعِيُّ فِي مُوجِبِ الإِْحْصَارِ:
3 - مُوجِبُ الإِْحْصَارِ - إِجْمَالاً - التَّحَلُّل بِكَيْفِيَّةٍ
__________
(1) لباب المناسك لرحمة الله السندي، وشرحه المسلك المتقسط في المسنك المتوسط لعلي القاري ص 272
(2) الدسوقي 2 / 93
(3) نهاية المحتاج 2 / 473، ومثله في حاشية عميرة على شرح المنهاج 2 / 147 وفي تحفة المحتاج 4 / 200 بزيادة " أوهما ".

(2/196)


سَيَأْتِي تَفْصِيلُهَا. وَالأَْصْل فِي هَذَا الْمَبْحَثِ حَادِثَةُ الْحُدَيْبِيَةِ الْمَعْرُوفَةُ (1) ،
وَفِي ذَلِكَ نَزَل قَوْلُهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ وَلاَ تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ} . (2)
وَقَال ابْنُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: خَرَجْنَا مَعَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَحَال كُفَّارُ قُرَيْشٍ دُونَ الْبَيْتِ، فَنَحَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَدْيَهُ وَحَلَقَ رَأْسَهُ. أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ.

مَا يَتَحَقَّقُ بِهِ الإِْحْصَارُ:
4 - يَتَحَقَّقُ الإِْحْصَارُ بِوُجُودِ رُكْنِهِ، وَهُوَ الْمَنْعُ مِنَ الْمُضِيِّ فِي النُّسُكِ، حَجًّا كَانَ أَوْ عُمْرَةً، إِذَا تَوَافَرَتْ فِيهِ شُرُوطٌ بَعْضُهَا مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ وَبَعْضُهَا مُخْتَلَفٌ فِيهِ.

رُكْنُ الإِْحْصَارِ:
5 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي الْمَنْعِ الَّذِي يَتَحَقَّقُ بِهِ الإِْحْصَارُ هَل يَشْمَل الْمَنْعَ بِالْعَدُوِّ وَالْمَنْعَ بِالْمَرَضِ وَنَحْوِهِ مِنَ الْعِلَل، أَمْ يَخْتَصُّ بِالْحَصْرِ بِالْعَدُوِّ؟
فَقَال الْحَنَفِيَّةُ: " الإِْحْصَارُ يَتَحَقَّقُ بِالْعَدُوِّ، وَغَيْرِهِ، كَالْمَرَضِ، وَهَلاَكِ النَّفَقَةِ، وَمَوْتِ مَحْرَمِ الْمَرْأَةِ، أَوْ زَوْجِهَا، فِي الطَّرِيقِ (3) "
وَيَتَحَقَّقُ الإِْحْصَارُ بِكُل حَابِسٍ يَحْبِسُهُ (4) ، يَعْنِي
__________
(1) انظر التفصيل في سيرة ابن هشام 2 / 308 وما بعد، وعيون الأثر 2 / 113 وما بعد.
(2) سورة البقرة / 196
(3) فتح القدير 2 / 295
(4) لباب المناسك لرحمة الله السندي وشرحه المسلك المتقسط لعلي القاري ص 273

(2/197)


الْمُحْرِمَ، عَنِ الْمُضِيِّ فِي مُوجِبِ الإِْحْرَامِ. وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنِ الإِْمَامِ أَحْمَدَ (1) . وَهُوَ قَوْل ابْنِ مَسْعُودٍ، وَابْنِ الزُّبَيْرِ، وَعَلْقَمَةَ، وَسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ، وَعُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ، وَمُجَاهِدٍ، وَالنَّخَعِيِّ، وَعَطَاءٍ، وَمُقَاتِل بْنِ حَيَّانَ، وَسُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ، وَأَبِي ثَوْرٍ (2) .
وَمَذْهَبُ الْمَالِكِيَّةِ: أَنَّ الْحَصْرَ يَتَحَقَّقُ بِالْعَدُوِّ، وَالْفِتْنَةِ، وَالْحَبْسِ ظُلْمًا (3) . كَذَلِكَ هُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيَّةِ وَالْمَشْهُورُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ، مَعَ أَسْبَابٍ أُخْرَى مِنَ الْحَصْرِ بِمَا يَقْهَرُ الإِْنْسَانَ، مِمَّا سَيَأْتِي ذِكْرُهُ، كَمَنْعِ الزَّوْجِ زَوْجَتَهُ عَنِ الْمُتَابَعَةِ.
وَاتَّفَقَتِ الْمَذَاهِبُ الثَّلاَثَةُ عَلَى أَنَّ مَنْ يَتَعَذَّرُ عَلَيْهِ الْوُصُول إِلَى الْبَيْتِ بِحَاصِرٍ آخَرَ غَيْرِ الْعَدُوِّ، كَالْحَصْرِ بِالْمَرَضِ أَوْ بِالْعَرَجِ أَوْ بِذَهَابِ نَفَقَةٍ وَنَحْوِهِ، أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ لَهُ التَّحَلُّل بِذَلِكَ (4) .
لَكِنْ مَنِ اشْتَرَطَ التَّحَلُّل إِذَا حَبَسَهُ حَابِسٌ لَهُ حُكْمٌ خَاصٌّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ يَأْتِي بَيَانُهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
وَهَذَا الْقَوْل يَنْفِي تَحَقُّقَ الإِْحْصَارِ بِالْمَرَضِ وَنَحْوِهِ مِنْ عِلَّةٍ وَهُوَ قَوْل ابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ عُمَرَ وَطَاوُسٍ وَالزُّهْرِيِّ وَزَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ وَمَرْوَانَ بْنِ الْحَكَمِ (5) .
6 - اسْتَدَل الْحَنَفِيَّةُ وَمَنْ مَعَهُمْ بِالأَْدِلَّةِ مِنَ الْكِتَابِ
__________
(1) المغني 3 / 363
(2) المرجع السابق، وتفسير ابن كثير، وقد تفرد عنه بكثير ممن ذكرناهم 1 / 231
(3) شرح الدردير على مختصر خليل مع حاشية الدسوقي 2 / 93، مواهب الجليل شرح مختصر خليل للحطاب 3 / 195
(4) المرجعين السابقين، وحاشية عميرة على شرح المنهاج للمحلى 2 / 147، ونهاية المحتاج للرملي 2 / 475، والمغني 3 / 363
(5) المغني الموضع السابق، وتفسير ابن كثير 1 / 231

(2/197)


وَالسُّنَّةِ وَالْمَعْقُول:
أَمَّا الْكِتَابُ فَقَوْلُهُ تَعَالَى: {فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} . (1) وَوَجْهُ دَلاَلَةِ الآْيَةِ قَوْل أَهْل اللُّغَةِ إِنَّ الإِْحْصَارَ مَا كَانَ بِمَرَضٍ أَوْ عِلَّةٍ، وَقَدْ عَبَّرَتِ الآْيَةُ بِأُحْصِرْتُمْ، فَدَل عَلَى تَحَقُّقِ الإِْحْصَارِ شَرْعًا بِالنِّسْبَةِ لِلْمَرَضِ وَبِالْعَدُوِّ. وَقَال الْجَصَّاصُ: " لَمَّا ثَبَتَ بِمَا قَدَّمْتُهُ مِنْ قَوْل أَهْل اللُّغَةِ أَنَّ اسْمَ الإِْحْصَارِ يَخْتَصُّ بِالْمَرَضِ، وَقَال اللَّهُ {فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} وَجَبَ أَنْ يَكُونَ اللَّفْظُ مُسْتَعْمَلاً فِيمَا هُوَ حَقِيقَةٌ فِيهِ، وَهُوَ الْمَرَضُ، وَيَكُونَ الْعَدُوُّ دَاخِلاً فِيهِ بِالْمَعْنَى ".
وَأَمَّا السُّنَّةُ: فَقَدْ أَخْرَجَ أَصْحَابُ السُّنَنِ الأَْرْبَعَةِ (2) بِأَسَانِيدَ صَحِيحَةٍ، كَمَا قَال النَّوَوِيُّ (3) ، عَنْ عِكْرِمَةَ، قَال: سَمِعْتُ الْحَجَّاجَ بْنَ عَمْرٍو الأَْنْصَارِيَّ قَال: قَال رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ كُسِرَ أَوْ عَرِجَ فَقَدْ حَل، وَعَلَيْهِ الْحَجُّ مِنْ قَابِلٍ. قَال عِكْرِمَةُ: سَأَلْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ وَأَبَا هُرَيْرَةَ عَنْ ذَلِكَ فَقَالاَ: صَدَقَ. وَفِي رِوَايَةٍ عِنْدَ أَبِي دَاوُدَ (4) وَابْنِ مَاجَهْ: مَنْ
__________
(1) سورة البقرة / 196
(2) أبو داود باب الإحصار 2 / 173، والترمذي 3 / 277 وقال: " حديث حسن صحيح "، والنسائي 5 / 198، وابن ماجه ص 1028 كلهم من طريق حجاج الصراف حدثني يحيى بن أبي كثير عن عكرمة.
(3) في المجموع 8 / 251 - 252
(4) من طريق عبد الرزاق، أنا معمر عن يحيى بن أبي كثير، عن عكرمة، عن عبد الله بن رافع، عن الحجاج بن عمرو، وهي الطريق التي سابق الإشارة إليها في حديث ابن عباس في الإحصار، وقد تكلم عليها الترمذي، والظاهر أن الحديث عن عكرمة بالإسنادين، كما كان دأبه لكثرة ر

(2/198)


كُسِرَ أَوْ عَرِجَ أَوْ مَرِضَ. . . .
وَأَمَّا الْعَقْل: فَهُوَ قِيَاسُ الْمَرَضِ وَنَحْوِهِ عَلَى الْعَدُوِّ بِجَامِعِ الْحَبْسِ عَنْ أَرْكَانِ النُّسُكِ فِي كُلٍّ، وَهُوَ قِيَاسٌ جَلِيٌّ، حَتَّى جَعَلَهُ بَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ أَوْلَوِيًّا.
7 - وَاسْتَدَل الْجُمْهُورُ بِالْكِتَابِ وَالآْثَارِ وَالْعَقْل:
أَمَّا الْكِتَابُ فَآيَةُ: {فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} قَال الشَّافِعِيُّ: " فَلَمْ أَسْمَعْ مُخَالِفًا مِمَّنْ حَفِظْتُ عَنْهُ مِمَّنْ لَقِيتُ مِنْ أَهْل الْعِلْمِ بِالتَّفْسِيرِ فِي أَنَّهَا نَزَلَتْ بِالْحُدَيْبِيَةِ. وَذَلِكَ إِحْصَارُ عَدُوٍّ، فَكَانَ فِي الْحَصْرِ إِذْنُ اللَّهِ تَعَالَى لِصَاحِبِهِ فِيهِ بِمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ. ثُمَّ بَيَّنَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ الَّذِي يَحِل مِنْهُ الْمُحْرِمُ الإِْحْصَارُ بِالْعَدُوِّ، فَرَأَيْتُ أَنَّ الآْيَةَ بِأَمْرِ اللَّهِ تَعَالَى بِإِتْمَامِ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ لِلَّهِ عَامَّةٌ عَلَى كُل حَاجٍّ وَمُعْتَمِرٍ، إِلاَّ مَنِ اسْتَثْنَى اللَّهُ، ثُمَّ سَنَّ فِيهِ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الْحَصْرِ بِالْعَدُوِّ. وَكَانَ الْمَرِيضُ عِنْدِي مِمَّنْ عَلَيْهِ عُمُومُ الآْيَةِ ". يَعْنِي {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} .
وَأَمَّا الآْثَارُ: فَقَدْ ثَبَتَ مِنْ طُرُقٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ (1) أَنَّهُ قَال: لاَ حَصْرَ إِلاَّ حَصْرُ الْعَدُوِّ، فَأَمَّا مَنْ أَصَابَهُ مَرَضٌ، أَوْ وَجَعٌ، أَوْ ضَلاَلٌ، فَلَيْسَ عَلَيْهِ شَيْءٌ، إِنَّمَا قَال اللَّهُ تَعَالَى: {فَإِذَا أَمِنْتُمْ} وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَمْرٍو وَالزُّهْرِيِّ وَطَاوُسٍ وَزَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ نَحْوُ ذَلِكَ.
وَرَوَى الشَّافِعِيُّ فِي الأُْمِّ (2) عَنْ مَالِكٍ - وَهُوَ
__________
(1) أخرجها ابن أبي حاتم في تفسيره، كما نقل عنه ابن كثير في تفسيره 1 / 231، وأخرج الشافعي في الأم 2 / 163 قول ابن عباس: " لا حصر إلا حصر العدو ".
(2) الأم 2 / 164

(2/198)


عِنْدَهُ فِي الْمُوَطَّأِ (1) - عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ، وَمَرْوَانَ بْنَ الْحَكَمِ، وَابْنَ الزُّبَيْرِ أَفْتَوْا ابْنَ حَزَابَةَ الْمَخْزُومِيَّ، وَأَنَّهُ صُرِعَ بِبَعْضِ طَرِيقِ مَكَّةَ وَهُوَ مُحْرِمٌ، أَنْ يَتَدَاوَى بِمَا لاَ بُدَّ لَهُ مِنْهُ، وَيَفْتَدِيَ، فَإِذَا صَحَّ اعْتَمَرَ فَحَل مِنْ إِحْرَامِهِ، وَكَانَ عَلَيْهِ أَنْ يَحُجَّ عَامًا قَابِلاً وَيُهْدِيَ.
وَهَذَا إِسْنَادٌ صَحِيحٌ.
وَأَمَّا الدَّلِيل مِنَ الْمَعْقُول: فَقَال فِيهِ الشِّيرَازِيُّ: " إِنْ أَحْرَمَ وَأَحْصَرَهُ الْمَرَضُ لَمْ يَجُزْ لَهُ أَنْ يَتَحَلَّل؛ لأَِنَّهُ لاَ يَتَخَلَّصُ بِالتَّحَلُّل مِنَ الأَْذَى الَّذِي هُوَ فِيهِ، فَهُوَ كَمَنْ ضَل الطَّرِيقَ (2) ".

شُرُوطُ تَحَقُّقِ الإِْحْصَارِ:
8 - لَمْ يَنُصَّ الْفُقَهَاءُ صَرَاحَةً عَلَى شُرُوطِ تَحَقُّقِ الإِْحْصَارِ أَنَّهَا كَذَا وَكَذَا، وَلَكِنْ يُمْكِنُ اسْتِخْلاَصُهَا، وَهِيَ:
الشَّرْطُ الأَْوَّل: سَبْقُ الإِْحْرَامِ بِالنُّسُكِ، بِحَجٍّ أَوْ عُمْرَةٍ، أَوْ بِهِمَا مَعًا؛ لأَِنَّهُ إِذَا عَرَضَ مَا يَمْنَعُ مِنْ أَدَاءِ النُّسُكِ، وَلَمْ يَكُنْ أَحْرَمَ، لاَ يَلْزَمُهُ شَيْءٌ. وَيَتَحَقَّقُ الإِْحْصَارُ عَنِ الإِْحْرَامِ الْفَاسِدِ كَالصَّحِيحِ، وَيَسْتَتْبِعُ أَحْكَامَهُ أَيْضًا.
الشَّرْطُ الثَّانِي: أَلاَّ يَكُونَ قَدْ وَقَفَ بِعَرَفَةَ قَبْل حُدُوثِ الْمَانِعِ مِنَ الْمُتَابَعَةِ، إِذَا كَانَ مُحْرِمًا بِالْحَجِّ.
وَهَذَا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ، أَمَّا عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ فَيَتَحَقَّقُ الإِْحْصَارُ عَنِ الطَّوَافِ بِالْبَيْتِ، كَمَا
__________
(1) الموطأ 1 / 261
(2) المهذب 8 / 250 نسخة المجموع.

(2/199)


سَيَتَّضِحُ فِي أَنْوَاعِ الإِْحْصَارِ (1) .
أَمَّا فِي الْعُمْرَةِ فَالإِْحْصَارُ يَتَحَقَّقُ بِمَنْعِهِ عَنْ أَكْثَرِ الطَّوَافِ بِالإِْجْمَاعِ.
الشَّرْطُ الثَّالِثُ: أَنْ يَيْأَسَ مِنْ زَوَال الْمَانِعِ، بِأَنْ يَتَيَقَّنَ أَوْ يَغْلِبَ عَلَى ظَنِّهِ عَدَمُ زَوَال الْمَانِعِ قَبْل فَوَاتِ الْحَجِّ، " بِحَيْثُ لَمْ يَبْقَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ لَيْلَةِ النَّحْرِ زَمَانٌ يُمْكِنُهُ فِيهِ السَّيْرُ لَوْ زَال الْعُذْرُ ".
وَهَذَا نَصَّ عَلَيْهِ الْمَالِكِيَّةُ (2) وَالشَّافِعِيَّةُ (3) ، وَقَدَّرَ الرَّمْلِيُّ الشَّافِعِيُّ الْمُدَّةَ فِي الْعُمْرَةِ إِلَى ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ. فَإِذَا وَقَعَ مَانِعٌ يُتَوَقَّعُ زَوَالُهُ عَنْ قَرِيبٍ فَلَيْسَ بِإِحْصَارٍ. وَيُشِيرُ إِلَى أَصْل هَذَا الشَّرْطِ تَعْلِيل الْحَنَفِيَّةِ إِبَاحَةَ التَّحَلُّل بِالإِْحْصَارِ بِأَنَّهُ مُعَلَّلٌ بِمَشَقَّةِ امْتِدَادِ الإِْحْرَامِ.
الشَّرْطُ الرَّابِعُ: نَصَّ عَلَيْهِ الْمَالِكِيَّةُ وَتَفَرَّدُوا بِهِ، وَهُوَ أَلاَّ يَعْلَمَ حِينَ إِحْرَامِهِ بِالْمَانِعِ مِنْ إِتْمَامِ الْحَجِّ أَوِ الْعُمْرَةِ. فَإِنْ عَلِمَ فَلَيْسَ لَهُ التَّحَلُّل، وَيَبْقَى عَلَى إِحْرَامِهِ حَتَّى يَحُجَّ فِي الْعَامِ الْقَابِل، إِلاَّ أَنْ يَظُنَّ أَنَّهُ لاَ يَمْنَعُهُ فَمَنَعَهُ، فَلَهُ أَنْ يَتَحَلَّل حِينَئِذٍ، كَمَا وَقَعَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ أَحْرَمَ بِالْعُمْرَةِ عَامَ الْحُدَيْبِيَةِ عَالِمًا بِالْعَدُوِّ، ظَانًّا أَنَّهُ لاَ يَمْنَعُهُ، فَمَنَعَهُ الْعَدُوُّ، فَلَمَّا مَنَعَهُ تَحَلَّل (4) .
__________
(1) شرح اللباب ص 276، ومواهب الجليل 3 / 201، والمجموع 8 / 249، والمغني 3 / 360، فتح القدير 2 / 302
(2) شرح الدردير 2 / 93، ومواهب الجليل 3 / 196 - 197
(3) منهاج المحتاج 2 / 474
(4) الشرح الكبير وحاشية الدسوقي الموضع السابق.

(2/199)


أَنْوَاعُ الإِْحْصَارِ
بِحَسَبِ الرُّكْنِ الْمُحْصَرِ عَنْهُ
يَتَنَوَّعُ الإِْحْصَارُ بِحَسَبِ الرُّكْنِ الَّذِي أُحْصِرَ عَنْهُ الْمُحْرِمُ ثَلاَثَةَ أَنْوَاعٍ:

الأَْوَّل: الإِْحْصَارُ عَنِ الْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ وَعَنْ طَوَافِ الإِْفَاضَةِ:
9 - هَذَا الإِْحْصَارُ يَتَحَقَّقُ بِهِ الإِْحْصَارُ الشَّرْعِيُّ، بِمَا يَتَرَبَّبُ عَلَيْهِ مِنْ أَحْكَامٍ سَتَأْتِي (ف 26) وَذَلِكَ بِاتِّفَاقِ الأَْئِمَّةِ، مَعَ اخْتِلاَفِهِمْ فِي بَعْضِ أَسْبَابِ الإِْحْصَارِ.

الثَّانِي: الإِْحْصَارُ عَنِ الْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ دُونَ الطَّوَافِ:
10 - مَنْ أُحْصِرَ عَنِ الْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ، دُونَ الطَّوَافِ بِالْبَيْتِ، فَلَيْسَ بِمُحْصَرٍ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ.
وَوَجْهُ ذَلِكَ عِنْدَهُمْ أَنَّهُ يَسْتَطِيعُ أَنْ يَتَحَلَّل بِمَنَاسِكِ الْعُمْرَةِ، فَيَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يُؤَدِّيَ مَنَاسِكَ الْعُمْرَةِ بِالإِْحْرَامِ السَّابِقِ نَفْسِهِ. وَيَتَحَلَّل بِتِلْكَ الْعُمْرَةِ (1) .
قَال فِي الْمَسْلَكِ الْمُتَقَسِّطِ: " وَإِنْ مُنِعَ عَنِ الْوُقُوفِ فَقَطْ يَكُونُ فِي مَعْنَى فَائِتِ الْحَجِّ، فَيَتَحَلَّل بَعْدَ فَوْتِ الْوُقُوفِ عَنْ إِحْرَامِهِ بِأَفْعَال الْعُمْرَةِ، وَلاَ دَمَ عَلَيْهِ، وَلاَ عُمْرَةَ فِي الْقَضَاءِ (2) ".
__________
(1) لباب المناسك ص 273، وهذا معنى قول الحنفية: " فتحلله بالطواف " أي وما معه من السعي والحلق. رد المحتار 2 / 323، والكافي 1 / 628، والمغني 3 / 360
(2) المسلك المتقسط / 273

(2/200)


وَهَذَا يُفِيدُ بِظَاهِرِهِ أَنَّهُ يَنْتَظِرُ حَتَّى يَفُوتَ الْوُقُوفُ، فَيَتَحَلَّل بِعُمْرَةٍ، أَيْ بِأَعْمَال عُمْرَةٍ بِإِحْرَامِهِ السَّابِقِ، كَمَا صَرَّحَ بِذَلِكَ فِي الْمَبْسُوطِ بِقَوْلِهِ: " إِنْ لَمْ يَكُنْ مَمْنُوعًا مِنَ الطَّوَافِ يُمْكِنُهُ أَنْ يَصْبِرَ حَتَّى يَفُوتَهُ الْحَجُّ، فَيَتَحَلَّل بِالطَّوَافِ وَالسَّعْيِ (1) " وَمَذْهَبُ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ أَنَّهُ يُعْتَبَرُ مَنْ أُحْصِرَ عَنِ الْوُقُوفِ فَقَطْ مُحْصَرًا، وَيَتَحَلَّل بِأَعْمَال الْعُمْرَةِ. لَكِنَّهُ وَإِنْ تَشَابَهَتِ الصُّورَةُ عِنْدَ هَؤُلاَءِ الأَْئِمَّةِ إِلاَّ أَنَّ النَّتِيجَةَ تَخْتَلِفُ فِيمَا بَيْنَهُمْ. فَالْحَنَفِيَّةُ يَعْتَبِرُونَهُ تَحَلُّل فَائِتِ حَجٍّ، فَلاَ يُوجِبُونَ عَلَيْهِ دَمًا، وَيَعْتَبِرُهُ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ تَحَلُّل إِحْصَارٍ، فَعَلَيْهِ دَمٌ (2) أَمَّا الْحَنَابِلَةُ فَقَالُوا: لَهُ أَنْ يَفْسَخَ نِيَّةَ الْحَجِّ، وَيَجْعَلَهُ عُمْرَةً، وَلاَ هَدْيَ عَلَيْهِ، لإِِبَاحَةِ ذَلِكَ لَهُ مِنْ غَيْرِ إِحْصَارٍ، فَفِيهِ أَوْلَى، فَإِنْ كَانَ طَافَ وَسَعَى لِلْقُدُومِ ثُمَّ أُحْصِرَ أَوْ مَرِضَ، حَتَّى فَاتَهُ الْحَجُّ، تَحَلَّل بِطَوَافٍ وَسَعْيٍ آخَرَ، لأَِنَّ الأَْوَّل لَمْ يَقْصِدْ بِهِ طَوَافَ الْعُمْرَةِ وَلاَ سَعْيَهَا، وَلَيْسَ عَلَيْهِ أَنْ يُجَدِّدَ إِحْرَامًا (3) .

الثَّالِثُ: الإِْحْصَارُ عَنْ طَوَافِ الرُّكْنِ:
11 - مَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ أَنَّ مَنْ وَقَفَ بِعَرَفَةَ ثُمَّ أُحْصِرَ لاَ يَكُونُ مُحْصَرًا، لِوُقُوعِ الأَْمْنِ عَنِ الْفَوَاتِ، كَمَا قَال الْحَنَفِيَّةُ. وَيَفْعَل مَا سِوَى ذَلِكَ مِنْ أَعْمَال الْحَجِّ، وَيَظَل مُحْرِمًا فِي حَقِّ النِّسَاءِ حَتَّى يَطُوفَ
__________
(1) المبسوط 4 / 114، صرح به ابن قدامة في الكافي، وقال في المغني: " فإن فاته الحج فحكمه حكم من فاته بغير حصر ".
(2) المنتقي للباجي 2 / 272، والدسوقي 2 / 95، 96، والحطاب 3 / 200، والمجموع 8 / 146، والقليوبي 2 / 151
(3) المغني لابن قدامة 3 / 360

(2/200)


طَوَافَ الإِْفَاضَةِ (1) .
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: إِنْ مُنِعَ الْمُحْرِمُ مِنْ مَكَّةَ دُونَ عَرَفَةَ وَقَفَ وَتَحَلَّل، وَلاَ قَضَاءَ عَلَيْهِ فِي الأَْظْهَرِ (2) . وَأَمَّا الْحَنَابِلَةُ فَفَرَّقُوا بَيْنَ أَمْرَيْنِ فَقَالُوا:
إِنْ أُحْصِرَ عَنِ الْبَيْتِ بَعْدَ الْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ قَبْل رَمْيِ الْجَمْرَةِ فَلَهُ التَّحَلُّل (3) .
وَإِنْ أُحْصِرَ عَنْ طَوَافِ الإِْفَاضَةِ بَعْدَ رَمْيِ الْجَمْرَةِ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَتَحَلَّل.
وَاسْتَدَلُّوا عَلَى التَّحَلُّل فِي الصُّورَةِ الأُْولَى فِي الإِْحْصَارِ قَبْل الرَّمْيِ بِأَنَّ " الْحَصْرَ يُفِيدُهُ التَّحَلُّل مِنْ جَمِيعِهِ، فَأَفَادَ التَّحَلُّل مِنْ بَعْضِهِ ".
وَهُوَ دَلِيلٌ لِمَذْهَبِ الشَّافِعِيَّةِ أَيْضًا.
وَاسْتَدَلُّوا لِعَدَمِ التَّحَلُّل بَعْدَ رَمْيِ جَمْرَةِ الْعَقَبَةِ إِذَا أُحْصِرَ عَنِ الْبَيْتِ: بِأَنَّ إِحْرَامَهُ أَيْ بَعْدَ الرَّمْيِ عِنْدَهُمْ إِنَّمَا هُوَ عَنِ النِّسَاءِ، وَالشَّرْعُ إِنَّمَا وَرَدَ بِالتَّحَلُّل الإِْحْرَامُ التَّامُّ الَّذِي يَحْرُمُ جَمِيعُ مَحْظُورَاتِهِ، فَلاَ يَثْبُتُ - التَّحَلُّل - بِمَا لَيْسَ مِثْلَهُ (4) . وَمَتَى زَال الْحَصْرُ أَتَى بِالطَّوَافِ، وَقَدْ تَمَّ حَجُّهُ (5) .
__________
(1) الهداية 2 / 302 وتبيين الحقائق وحاشية الشلبي 2 / 81، وشرح اللباب ص 275، ومواهب الجليل 3 / 199، وحاشية الدسوقي 2 / 95، وفتح القدير 2 / 302
(2) نهاية المحتاج 2 / 474، وانظر مزيدا من التفاصيل والأقوال في مذهب الشافعية في المجموع 8 / 245 - 246، وهو قول الباجي من المالكية في المنتقى 2 / 272 واستدل بمعنى ما أوردناه هنا.
(3) المغني 3 / 359 - 360
(4) هكذا الحكم والتعليل في كل كتب المذهب الموجودة في متناول الموسوعة، وهو كما يظهر غريب، وفي التزامه حرج شديد. وفي المذاهب الأخرى سعة " اللجنة ".
(5) المرجع السابق، ومطالب أولي النهى 2 / 459

(2/201)


أَنْوَاعُ الإِْحْصَارِ مِنْ حَيْثُ سَبَبُهُ
الإِْحْصَارُ بِسَبَبٍ فِيهِ قَهْرٌ (أَوْ سُلْطَةٌ)
12 - ذَكَرُوا مِنْ صُوَرِهِ مَا يَلِي: الْحَصْرَ بِالْعَدُوِّ - الْفِتْنَةَ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ - الْحَبْسَ - مَنْعَ السُّلْطَانِ عَنِ الْمُتَابَعَةِ - السَّبُعَ - مَنْعَ الدَّائِنِ مَدِينَهُ عَنِ الْمُتَابَعَةِ - مَنْعَ الزَّوْجِ زَوْجَتَهُ عَنِ الْمُتَابَعَةِ - مَوْتَ الْمَحْرَمِ أَوِ الزَّوْجِ أَوْ فَقْدَهُمَا - الْعِدَّةَ الطَّارِئَةَ - مَنْعَ الْوَلِيِّ الصَّبِيَّ وَالسَّفِيهَ عَنِ الْمُتَابَعَةِ - مَنْعَ السَّيِّدِ عَبْدَهُ عَنِ الْمُتَابَعَةِ.
وَقَبْل الدُّخُول فِي تَفْصِيل الْبَحْثِ لاَ بُدَّ مِنْ إِجْمَالٍ مُهِمٍّ، هُوَ: أَنَّ الْمَالِكِيَّةَ قَصَرُوا الْحَصْرَ الَّذِي يُبِيحُ التَّحَلُّل لِلْمُحْصَرِ بِثَلاَثَةِ أَسْبَابٍ، أَحْصَوْهَا بِالْعَدَدِ، وَهِيَ: الْحَصْرُ بِالْعَدُوِّ، وَالْحَصْرُ بِالْفِتْنَةِ، وَالْحَبْسُ ظُلْمًا. وَبِالتَّالِي فَإِنَّ هَذِهِ الأَْسْبَابَ مُتَّفَقٌ عَلَيْهَا بَيْنَ الْمَذَاهِبِ.
وَأَمَّا الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ فَاتَّفَقُوا مَعَ الْحَنَفِيَّةِ عَلَى جَمِيعِ الصُّوَرِ الَّتِي صَدَرَ بِهَا الْمَوْضُوعُ مَا عَدَا ثَلاَثَةَ أَسْبَابٍ هِيَ: مَنْعُ السُّلْطَانِ عَنِ الْمُتَابَعَةِ، وَالْحَصْرُ بِالسَّبُعِ، وَالْعِدَّةُ الطَّارِئَةُ.
فَهَذِهِ الثَّلاَثَةُ تَفَرَّدَ بِهَا الْحَنَفِيَّةُ.
هَذَا مَعَ مُرَاعَاةِ تَفْصِيلٍ فِي بَعْضِ الأَْسْبَابِ الَّتِي ذُكِرَ اتِّفَاقُ الْحَنَفِيَّةِ مَعَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ عَلَيْهَا وَيَأْتِي تَفْصِيلُهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

أ - الْحَصْرُ بِالْعَدُوِّ الْكَافِرِ:
13 - وَهُوَ أَنْ يَتَسَلَّطَ الْعَدُوُّ عَلَى بُقْعَةٍ تَقَعُ فِي طَرِيقِ الْحُجَّاجِ، فَيَقْطَعَ عَلَى الْمُحْرِمِينَ السُّبُل، وَيَصُدَّهُمْ عَنِ الْمُتَابَعَةِ لأَِدَاءِ مَنَاسِكِهِمْ.
وَتَحَقُّقُ الْحَصْرِ الشَّرْعِيِّ بِهَذِهِ الصُّورَةِ مَحَل إِجْمَاعِ

(2/201)


الْعُلَمَاءِ، وَفِيهَا نَزَل الْقُرْآنُ الْكَرِيمُ. كَمَا سَبَقَ (1) .
وَقَدْ قَرَّرَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ أَنَّهُ لَوْ أَحْصَرَ الْعَدُوُّ طَرِيقًا إِلَى مَكَّةَ أَوْ عَرَفَةَ، وَوَجَدَ الْمُحْصَرُ طَرِيقًا آخَرَ، يَنْظُرُ فِيهِ: فَإِنْ أَضَرَّ بِهِ سُلُوكُهَا لِطُولِهِ، أَوْ صُعُوبَةِ طَرِيقِهِ، ضَرَرًا مُعْتَبَرًا، فَهُوَ مُحْصَرٌ شَرْعًا. وَإِنْ لَمْ يَتَضَرَّرْ بِهِ فَلاَ يَكُونُ مُحْصَرًا شَرْعًا (2) .
أَمَّا الشَّافِعِيَّةُ فَقَدْ أَلْزَمُوا الْمُحْصَرَ بِالطَّرِيقِ الآْخَرِ وَلَوْ كَانَ أَطْوَل أَوْ فِيهِ مَشَقَّةٌ، مَا دَامَتِ النَّفَقَةُ تَكْفِيهِمْ لِذَلِكَ الطَّرِيقِ.
أَمَّا الْحَنَابِلَةُ فَعِبَارَاتُهُمْ مُطْلَقَةٌ عَنِ التَّقْيِيدِ بِأَيٍّ مِنْ هَذَيْنِ الأَْمْرَيْنِ، مِمَّا يُشِيرُ إِلَى أَنَّهُمْ يُلْزِمُونَهُ بِالطَّرِيقِ الآْخَرِ وَلَوْ كَانَ أَطْوَل أَوْ أَشَقَّ، وَلَوْ كَانَتِ النَّفَقَةُ لاَ تَكْفِيهِمْ. وَهَذَا يُشِيرُ إِلَى تَرْجِيحِ وُجُوبِ الْقَضَاءِ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ لِفَوَاتِ الْحَجِّ بِسَبَبِ الطَّرِيقِ الثَّانِي، وَلَعَلَّهُ لِذَلِكَ ذَكَرَهُ ابْنُ قُدَامَةَ أَوَّلاً (3) .
فَإِذَا سَلَكَ الطَّرِيقَ الأَْطْوَل فَفَاتَهُ الْحَجُّ بِطُول الطَّرِيقِ أَوْ خُشُونَتِهِ أَوْ غَيْرِهِمَا، فَمَا يَحْصُل الْفَوَاتُ بِسَبَبِهِ فَقَوْلاَنِ مَشْهُورَانِ فِي الْمَذْهَبَيْنِ الشَّافِعِيِّ وَالْحَنْبَلِيِّ أَصَحُّهُمَا عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ: لاَ يَلْزَمُهُ الْقَضَاءُ، بَل يَتَحَلَّل تَحَلُّل الْمُحْصَرِ؛ لأَِنَّهُ مُحْصَرٌ، وَلِعَدَمِ تَقْصِيرِهِ. وَالثَّانِي: يَلْزَمُهُ الْقَضَاءُ، كَمَا لَوْ سَلَكَهُ ابْتِدَاءً، فَفَاتَهُ بِضَلاَلٍ فِي الطَّرِيقِ وَنَحْوِهِ، وَلَوِ اسْتَوَى الطَّرِيقَانِ مِنْ كُل وَجْهٍ وَجَبَ الْقَضَاءُ بِلاَ خِلاَفٍ؛ لأَِنَّهُ فَوَاتٌ مَحْضٌ.
__________
(1) المجموع 8 / 267، والمغني 3 / 356
(2) المسلك المتقسط 273، والدردير شرح مختصر خليل 2 / 93
(3) وقال في منار السبيل 1 / 269: " لو صد عن الوقوف فتحلل قبل فواته فلا قضاء " فأشار إلى أنه لو تحلل بعد الفوات فعليه القضاء، كما هنا. والعبارة للمجموع للنووي الشافعي 8 / 240 بتصرف يسير. وانظر المغني 3 / 357، والكافي 1 / 624، وغاية المنتهى وشرحه مطالب أولي النهى 2 / 457

(2/202)


ب - الإِْحْصَارُ بِالْفِتْنَةِ:
14 - بِأَنْ تَحْصُل حَرْبٌ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ عِيَاذًا بِاللَّهِ تَعَالَى، وَيُحْصَرُ الْمُحْرِمُ بِسَبَبِ ذَلِكَ، مِثْل الْفِتْنَةِ الَّتِي ثَارَتْ بِحَرْبِ الْحَجَّاجِ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ سَنَةَ 73 هـ. وَهَذَا يَتَحَقَّقُ بِهِ الإِْحْصَارُ شَرْعًا أَيْضًا بِاتِّفَاقِ الأَْئِمَّةِ كَالإِْحْصَارِ بِالْعَدُوِّ سَوَاءً بِسَوَاءٍ (1) .

ج - الْحَبْسُ:
15 - بِأَنْ يُسْجَنَ الْمُحْرِمُ بَعْدَمَا تَلَبَّسَ بِالإِْحْرَامِ. وَقَدْ فَرَّقَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ بَيْنَ الْحَبْسِ بِحَقٍّ أَوْ بِغَيْرِ حَقٍّ. فَإِنْ حُبِسَ بِغَيْرِ حَقٍّ، بِأَنِ اعْتُقِل ظُلْمًا، أَوْ كَانَ مَدِينًا ثَبَتَ إِعْسَارُهُ فَإِنَّهُ يَكُونُ مُحْصَرًا. وَإِنْ حُبِسَ بِحَقٍّ عَلَيْهِ يُمْكِنُهُ الْخُرُوجُ مِنْهُ فَلاَ يَجُوزُ لَهُ التَّحَلُّل وَلاَ يَكُونُ مُحْصَرًا، وَيَكُونُ حُكْمُهُ حُكْمَ الْمَرَضِ. أَمَّا الْحَنَفِيَّةُ فَقَدْ أَطْلَقُوا الْحَبْسَ سَبَبًا لِلإِْحْصَارِ (2) .

د - مَنْعُ الدَّائِنِ مَدِينَهُ عَنِ الْمُتَابَعَةِ:
16 - عَدَّ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ الدَّيْنَ مَانِعًا مِنْ مَوَانِعِ النُّسُكِ فِي بَابِ الإِْحْصَارِ.
وَأَمَّا الْمَالِكِيَّةُ فَقَدْ صَرَّحُوا بِأَنَّهُ إِنْ حُبِسَ ظُلْمًا
__________
(1) المراجع السابقة.
(2) شرح الدردير 2 / 93، ومواهب الجليل 3 / 195، وحاشية عميرة على شرح المنهاج 2 / 147، والمجموع 8 / 248، ونهاية المحتاج 2 / 474، والكافي 1 / 628، والمغني 3 / 356، والشرح الكبير على المقنع 3 / 516، والمسلك المتقسط ص 273

(2/202)


كَانَ مُحْصَرًا، وَإِلاَّ فَلاَ، فَآلَتِ الْمَسْأَلَةُ عِنْدَهُمْ إِلَى الْحَبْسِ، كَالْحَنَفِيَّةِ (1) .

هـ - مَنْعُ الزَّوْجِ زَوْجَتَهُ عَنِ الْمُتَابَعَةِ:
17 - مَنْعُ الزَّوْجِ زَوْجَتَهُ عَنِ الْمُتَابَعَةِ يَتَحَقَّقُ بِهِ إِحْصَارُهَا بِاتِّفَاقِ الْمَذَاهِبِ الأَْرْبَعَةِ (الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ، عَلَى الأَْصَحِّ عِنْدَهُمْ، وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ) ، وَذَلِكَ فِي حَجِّ النَّفْل، أَوْ عُمْرَةِ النَّفْل، عِنْدَ الْجَمِيعِ، وَعُمْرَةِ الإِْسْلاَمِ، عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ لِقَوْلِهِمْ بِعَدَمِ فَرْضِيَّتِهَا (2) .
وَإِنْ أَذِنَ لَهَا الزَّوْجُ ابْتِدَاءً بِحَجِّ النَّفْل أَوْ عُمْرَةِ النَّفْل وَلَهَا مَحْرَمٌ فَإِنَّهُ لَيْسَ لَهُ مَنْعُهَا بَعْدَ الإِْحْرَامِ؛ لأَِنَّهُ تَغْرِيرٌ، وَلاَ تَصِيرُ مُحْصَرَةً بِمَنْعِهِ.
وَحَجَّةُ الإِْسْلاَمِ، أَوِ الْحَجُّ الْوَاجِبُ، كَالنَّذْرِ، إِذَا أَحْرَمَتِ الزَّوْجَةُ بِهِمَا بِغَيْرِ إِذْنِ الزَّوْجِ، وَلَهَا مَحْرَمٌ، فَلاَ تَكُونُ مُحْصَرَةً عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، لأَِنَّهُمْ لاَ يَشْتَرِطُونَ إِذْنَ الزَّوْجِ لِوُجُوبِ الْحَجِّ عَلَيْهَا، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَمْنَعَهَا مِنْ حَجِّ الْفَرْضِ، وَلاَ يَجُوزُ لَهُ أَنْ يُحَلِّلَهَا بِمَحْظُورٍ مِنْ مَحْظُورَاتِ الإِْحْرَامِ، وَلَوْ تَحَلَّلَتْ هِيَ لَمْ
__________
(1) روض الطالب 1 / 528، ومغني المحتاج 1 / 537، ونهاية المحتاج 2 / 479، والشرح الكبير 3 / 51، والمغني 3 / 357، والمسلك المتقسط لملا علي القاري 1 / 45، بتصرف يسير، وفتح القدير 2 / 118، ونحوه في الفتاوى الهندية 1 / 206، والزرقاني في شرحه على مختصر خليل 2 / 341
(2) البدائع 2 / 176، ورد المحتار 2 / 320، والمسلك المتقسط ص 274، والمبسوط 2 / 112، وشرح الدردير 2 / 97، وشرح الزرقاني 2 / 339، ومواهب الجليل 3 / 205، وشرح المنهاج 2 / 149 - 150، والمجموع 8 / 258، والمهذب 8 / 256، ونهاية المحتاج 2 / 478، والشرح الكبير 3 / 516، والكافي 1 / 628، والمغني 3 / 357

(2/203)


يَصِحَّ تَحَلُّلُهَا (1) .
وَأَمَّا الشَّافِعِيَّةُ فَيَقُولُونَ بِاشْتِرَاطِ إِذْنِ الزَّوْجِ لِفَرْضِيَّةِ الْحَجِّ، فَإِذَا لَمْ يَأْذَنْ لَهَا قَبْل إِحْرَامِهَا، وَأَحْرَمَتْ، كَانَ لَهُ مَنْعُهَا، فَصَارَتْ كَالصُّورَةِ الأُْولَى عَلَى الأَْصَحِّ عِنْدَهُمْ (2) .
وَإِنْ أَحْرَمَتْ بِحَجَّةِ الْفَرْضِ وَكَانَ لَهَا زَوْجٌ وَلَيْسَ مَعَهَا مَحْرَمٌ، فَمَنَعَهَا الزَّوْجُ، فَهِيَ مُحْصَرَةٌ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، وَكَذَا عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ.
وَأَمَّا عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ فَلاَ تَكُونُ مُحْصَرَةً إِذَا سَافَرَتْ مَعَ الرُّفْقَةِ الْمَأْمُونَةِ، وَكَانَتْ هِيَ مَأْمُونَةً أَيْضًا، لأَِنَّهُمْ يَكْتَفُونَ بِهَذَا لِسَفَرِ الْمَرْأَةِ فِي الْحَجِّ الْفَرْضِ، وَلاَ يَشْتَرِطُونَ إِذْنَ الزَّوْجِ لِلسَّفَرِ فِي الْحَجِّ الْفَرْضِ (3) .

و مَنْعُ الأَْبِ ابْنَهُ عَنِ الْمُتَابَعَةِ:
18 - مَذْهَبُ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ أَنَّ لِلأَْبَوَيْنِ أَوْ أَحَدَهُمَا مَنْعَ ابْنِهِ عَنْ حَجِّ التَّطَوُّعِ لاَ الْفَرْضِ. وَفِي رِوَايَةٍ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالْفَرْضِ أَيْضًا، لَكِنْ لاَ يَصِيرُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ مُحْصَرًا بِمَنْعِهِمَا، لِمَا عُرِفَ مِنْ حَصْرِ الْمَالِكِيَّةِ أَسْبَابَ الإِْحْصَارِ بِمَا لاَ يَدْخُل هَذَا فِيهِ (4) .
__________
(1) المسلك المتقسط ص 274، والمراجع السابقة. وانظر الكافي 1 / 519، والمغني 3 / 240
(2) شرح المنهاج 2 / 150، والمجموع 8 / 257
(3) البدائع 2 / 176، والمغني 3 / 236، وحاشية الدسوقي 2 / 9، وحاشية العدوي على شرح رسالة ابن أبي زيد 1 / 455، ومحل الاكتفاء بالرفقة المأمونة إذا لم تجد الزوج أو المحرم، ولو بأجرة، فليتنبه.
(4) شرح الزرقاني على مختصر خليل 2 / 241، والمغني 3 / 533 - 534 والمجموع على المهذب 8 / 263 - 264. ونهاية المحتاج للرملي 2 / 479

(2/203)


وَمَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ: يُكْرَهُ الْخُرُوجُ إِلَى الْحَجِّ إِذَا كَرِهَ أَحَدُ أَبَوَيْهِ وَكَانَ الْوَالِدُ مُحْتَاجًا إِلَى خِدْمَةِ الْوَلَدِ، وَإِنْ كَانَ مُسْتَغْنِيًا عَنْ خِدْمَتِهِ فَلاَ بَأْسَ.
وَذَكَرَ فِي السِّيَرِ الْكَبِيرِ إِذَا كَانَ لاَ يَخَافُ عَلَيْهِ الضَّيْعَةَ فَلاَ بَأْسَ بِالْخُرُوجِ. وَحَجُّ الْفَرْضِ أَوْلَى مِنْ طَاعَةِ الْوَالِدَيْنِ، وَطَاعَتُهُمَا أَوْلَى مِنْ حَجِّ النَّفْل (1) .

ز - الْعِدَّةُ الطَّارِئَةُ:
19 - وَالْمُرَادُ طُرُوءُ عِدَّةِ الطَّلاَقِ بَعْدَ الإِْحْرَامِ: فَإِذَا أَهَلَّتِ الْمَرْأَةُ بِحَجَّةِ الإِْسْلاَمِ أَوْ حَجَّةِ نَذْرٍ أَوْ نَفْلٍ، فَطَلَّقَهَا زَوْجُهَا، فَوَجَبَتْ عَلَيْهَا الْعِدَّةُ، صَارَتْ مُحْصَرَةً، وَإِنْ كَانَ لَهَا مَحْرَمٌ، عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ دُونَ أَنْ تَتَقَيَّدَ بِمَسَافَةِ السَّفَرِ (2) .
وَأَمَّا الْمَالِكِيَّةُ فَأَجْرَوْا عَلَى عِدَّةِ الطَّلاَقِ حُكْمَ وَفَاةِ الزَّوْجِ.
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: لَوْ أَحْرَمَتْ بِحَجٍّ أَوْ قِرَانٍ بِإِذْنِهِ أَوْ بِغَيْرِهِ، ثُمَّ طَلَّقَهَا أَوْ مَاتَ، وَخَافَتْ فَوْتَهُ لِضِيقِ الْوَقْتِ، خَرَجَتْ وُجُوبًا وَهِيَ مُعْتَدَّةٌ؛ لِتَقَدُّمِ الإِْحْرَامِ.
وَإِنْ أَمِنَتِ الْفَوَاتَ لِسَعَةِ الْوَقْتِ جَازَ لَهَا الْخُرُوجُ لِذَلِكَ، لِمَا فِي تَعَيُّنِ التَّأْخِيرِ مِنْ مَشَقَّةِ مُصَابَرَةِ الإِْحْرَامِ. وَأَمَّا الْحَنَابِلَةُ فَفَرَّقُوا بَيْنَ عِلَّةِ الطَّلاَقِ الْمَبْتُوتِ وَالرَّجْعِيِّ، فَلَهَا أَنْ تَخْرُجَ إِلَيْهِ - يَعْنِي الْحَجَّ - فِي عِدَّةِ الطَّلاَقِ الْمَبْتُوتِ، وَأَمَّا عِدَّةُ الرَّجْعِيَّةِ فَالْمَرْأَةُ فِي الإِْحْصَارِ كَالزَّوْجَةِ (3) .
__________
(1) فتح القدير 2 / 118، والفتاوى الهندية 1 / 206
(2) المسلك المتقسط ص 275، ورد المحتار 2 / 320، والمبسوط 4 / 111، وفيه: " لو كانت معتدة لم يكن لها أن تخرج
(3) المغني 3 / 240 - 241، ونهاية المحتاج 6 / 220 - 221

(2/204)


الْمَنْعُ بِعِلَّةٍ تَمْنَعُ الْمُتَابَعَةَ
20 - وَمِنْ صُوَرِهِ: الْكَسْرُ أَوِ الْعَرَجُ - الْمَرَضُ - هَلاَكُ النَّفَقَةِ - هَلاَكُ الرَّاحِلَةِ - الْعَجْزُ عَنِ الْمَشْيِ - الضَّلاَلَةُ عَنِ الطَّرِيقِ. وَتَحَقُّقُ الإِْحْصَارِ بِسَبَبٍ مِنْ هَذِهِ الأَْسْبَابِ هُوَ مَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ.
أَمَّا الْجُمْهُورُ فَيَقُولُونَ إِنَّهَا لاَ تَجْعَل صَاحِبَهَا مُحْصَرًا شَرْعًا، فَإِذَا حُبِسَ بِشَيْءٍ مِنْهَا لاَ يَتَحَلَّل حَتَّى يَبْلُغَ الْبَيْتَ، فَإِنْ أَدْرَكَ الْحَجَّ فِيهَا، وَإِلاَّ تَحَلَّل بِأَعْمَال الْعُمْرَةِ، وَيَكُونُ حُكْمُهُ حُكْمَ (الْفَوَاتِ) . انْظُرْ مُصْطَلَحَ (فَوَاتٌ)

الْكَسْرُ أَوِ الْعَرَجُ:
21 - وَالْمُرَادُ بِالْعَرَجِ الْمَانِعُ مِنَ الذَّهَابِ وَالأَْصْل فِي هَذَا السَّبَبِ مَا سَبَقَ فِي الْحَدِيثِ: مَنْ كُسِرَ أَوْ عَرِجَ فَقَدْ حَل.

الْمَرَضُ:
22 - وَالْمُعْتَبَرُ هُنَا الْمَرَضُ الَّذِي لاَ يَزِيدُ بِالذَّهَابِ، بِنَاءً عَلَى غَلَبَةِ الظَّنِّ، أَوْ بِإِخْبَارِ طَبِيبٍ حَاذِقٍ مُتَدَيِّنٍ (1) .
وَالأَْصْل فِي الإِْحْصَارِ بِالْمَرَضِ مِنَ السُّنَّةِ الْحَدِيثُ الَّذِي سَبَقَ فَقَدْ وَرَدَ فِي بَعْضِ رِوَايَاتِهِ: " أَوْ مَرِضَ ".

هَلاَكُ النَّفَقَةِ أَوِ الرَّاحِلَةِ:
23 - إِنْ سُرِقَتْ نَفَقَةُ الْمُحْرِمِ فِي الطَّرِيقِ بَعْدَ أَنْ أَحْرَمَ، أَوْ ضَاعَتْ، أَوْ نُهِبَتْ، أَوْ نَفِدَتْ، إِنْ قَدَرَ عَلَى
__________
(1) المسلك المتقسط ص 273

(2/204)


الْمَشْيِ فَلَيْسَ بِمُحْصَرٍ، وَإِنْ لَمْ يَقْدِرْ عَلَى الْمَشْيِ فَهُوَ مُحْصَرٌ، عَلَى مَا فِي التَّجْنِيسِ (1) .

الْعَجْزُ عَنِ الْمَشْيِ:
24 - إِنْ أَحْرَمَ وَهُوَ عَاجِزٌ عَنِ الْمَشْيِ ابْتِدَاءً مِنْ أَوَّل إِحْرَامِهِ، وَلَهُ قُدْرَةٌ عَلَى النَّفَقَةِ دُونَ الرَّاحِلَةِ، فَهُوَ مُحْصَرٌ حِينَئِذٍ (2) .
وَالضَّلاَلَةُ عَنِ الطَّرِيقِ:
25 - أَيْ طَرِيقِ مَكَّةَ أَوْ عَرَفَةَ. فَمَنْ ضَل الطَّرِيقَ فَهُوَ مُحْصَرٌ (3) .

أَحْكَامُ الإِْحْصَارِ
تَنْدَرِجُ أَحْكَامُ الإِْحْصَارِ فِي أَمْرَيْنِ: التَّحَلُّل، وَمَا يَجِبُ عَلَى الْمُحْصَرِ بَعْدَ التَّحَلُّل (4) .

التَّحَلُّل
تَعْرِيفُ التَّحَلُّل:
26 - التَّحَلُّل لُغَةً: أَنْ يَفْعَل الإِْنْسَانُ مَا يَخْرُجُ بِهِ مِنَ الْحُرْمَةِ (5) .
وَاصْطِلاَحًا: هُوَ فَسْخُ الإِْحْرَامِ، وَالْخُرُوجُ مِنْهُ بِالطَّرِيقِ الْمَوْضُوعِ لَهُ شَرْعًا (6) .
__________
(1) المسلك المتقسط ص 273
(2) المرجع السابق ص 274
(3) المرجع السابق
(4) كذا أرجع الكاساني في البدائع 2 / 177
(5) المصباح المنير: مادة (حلل) .
(6) بدائع الصنائع 2 / 177

(2/205)


جَوَازُ التَّحَلُّل لِلْمُحْصَرِ:
27 - إِذَا تَحَقَّقَ لِلْمُحْرِمِ وَصْفُ الإِْحْصَارِ فَإِنَّهُ يَجُوزُ لَهُ التَّحَلُّل.
وَهَذَا الْحُكْمُ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ، كُلٌّ حَسَبَ الأَْسْبَابِ الَّتِي يَعْتَبِرُهَا مُوجِبَةً لِتَحَقُّقِ الإِْحْصَارِ الشَّرْعِيِّ.
وَالأَْصْل فِي الإِْحْرَامِ وُجُوبُ الْمُضِيِّ عَلَى الْمُحْرِمِ فِي النُّسُكِ الَّذِي أَحْرَمَ بِهِ، وَأَلاَّ يَخْرُجَ مِنْ إِحْرَامِهِ إِلاَّ بِتَمَامِ مُوجِبِ هَذَا الإِْحْرَامِ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} . (1)
لَكِنْ جَازَ التَّحَلُّل لِلْمُحْصَرِ قَبْل إِتْمَامِ مُوجِبِ إِحْرَامِهِ اسْتِثْنَاءً مِنْ هَذَا الأَْصْل، لِمَا دَل عَلَيْهِ الدَّلِيل الشَّرْعِيُّ.
وَالدَّلِيل عَلَى جَوَازِ التَّحَلُّل قَوْله تَعَالَى: {فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} . (2)
وَجْهُ الاِسْتِدْلاَل بِالآْيَةِ: أَنَّ الْكَلاَمَ عَلَى تَقْدِيرِ مُضْمَرٍ، وَمَعْنَاهُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ، فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ عَنْ إِتْمَامِ الْحَجِّ أَوِ الْعُمْرَةِ، وَأَرَدْتُمْ أَنْ تَحِلُّوا فَاذْبَحُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْهَدْيِ.
وَالدَّلِيل عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ أَنَّ الإِْحْصَارَ نَفْسَهُ لاَ يُوجِبُ الْهَدْيَ، أَلاَ تَرَى أَنَّ لَهُ أَنْ لاَ يَتَحَلَّل وَيَبْقَى مُحْرِمًا كَمَا كَانَ، إِلَى أَنْ يَزُول الْمَانِعُ، فَيَمْضِيَ فِي مُوجِبِ الإِْحْرَامِ (3) .
وَمِنَ السُّنَّةِ: فِعْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَدْ تَحَلَّل وَأَمَرَ أَصْحَابَهُ بِالتَّحَلُّل عَامَ الْحُدَيْبِيَةِ حِينَ صَدَّهُمْ
__________
(1) سورة البقرة / 196
(2) سورة البقرة / 196
(3) بدائع الصنائع 3 / 177

(2/205)


الْمُشْرِكُونَ عَنِ الاِعْتِمَارِ بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ، كَمَا وَرَدَتِ الأَْحَادِيثُ الصَّحِيحَةُ السَّابِقَةُ.

الْمُفَاضَلَةُ بَيْنَ التَّحَلُّل وَمُصَابَرَةِ الإِْحْرَامِ:
28 - أَطْلَقَ الْحَنَفِيَّةُ الْحُكْمَ عَلَى الْمُحْصَرِ أَنَّهُ " جَازَ لَهُ التَّحَلُّل (1) " وَأَنَّهُ رُخْصَةٌ فِي حَقِّهِ، حَتَّى لاَ يَمْتَدَّ إِحْصَارُهُ، فَيَشُقَّ عَلَيْهِ، وَأَنَّ لَهُ أَنْ يَبْقَى مُحْرِمًا (2) . يَرْجِعُ إِلَى أَهْلِهِ بِغَيْرِ تَحَلُّلٍ وَيُعْتَبَرُ مُحْرِمًا حَتَّى يَزُول الْخَوْفُ.
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ إِنْ مَنَعَهُ بَعْضُ مَا ذُكِرَ مِنْ أَسْبَابِ الإِْحْصَارِ الثَّلاَثَةِ الْمُعْتَبَرَةِ عِنْدَهُمْ، عِنْدَ إِتْمَامِ حَجٍّ، بِأَنْ أُحْصِرَ عَنِ الْوُقُوفِ وَالْبَيْتِ مَعًا، أَوْ عَنْ إِكْمَال عُمْرَةٍ، بِأَنْ أُحْصِرَ عَنِ الْبَيْتِ أَوِ السَّعْيِ، فَلَهُ التَّحَلُّل بِالنِّيَّةِ، مِمَّا هُوَ مُحْرِمٌ بِهِ، فِي أَيِّ مَحَلٍّ كَانَ، قَارَبَ مَكَّةَ أَوْ لاَ، دَخَلَهَا أَوْ لاَ. وَلَهُ الْبَقَاءُ لِقَابِلٍ أَيْضًا، إِلاَّ أَنَّ تَحَلُّلَهُ أَفْضَل (3) .
أَمَّا مَنْ مُنِعَ عَنْ إِتْمَامِ نُسُكِهِ بِغَيْرِ الأَْسْبَابِ الثَّلاَثَةِ (الْعَدُوِّ وَالْفِتْنَةِ وَالْحَبْسِ) كَالْمَرَضِ، فَإِنْ قَارَبَ مَكَّةَ كُرِهَ لَهُ إِبْقَاءُ إِحْرَامِهِ بِالْحَجِّ لِقَابِلٍ، وَيَتَحَلَّل بِفِعْل عُمْرَةٍ (4) .
أَمَّا الشَّافِعِيَّةُ فَفَرَّقُوا بَيْنَ حَالَيِ اتِّسَاعِ الْوَقْتِ وَضِيقِهِ: فَإِنْ كَانَ الْوَقْتُ وَاسِعًا فَالأَْفْضَل أَنْ لاَ يُعَجِّل التَّحَلُّل، فَرُبَّمَا زَال الْمَنْعُ فَأَتَمَّ الْحَجَّ، وَمِثْلُهُ
__________
(1) فتح القدير على الهداية 2 / 295، أو " حل له التحلل " كما في الدر المختار 2 / 320
(2) رد المحتار 2 / 320، وسبق نقلنا عبارة: " جواز التحلل " وهو لفظ الكاساني في البدائع 2 / 177
(3) شرح الدردير بحاشية الدسوقي 2 / 93
(4) المرجع السابق ص 94، وشرح الزرقاني 2 / 336

(2/206)


الْعُمْرَةُ، وَإِنْ كَانَ الْوَقْتُ ضَيِّقًا فَالأَْفْضَل تَعْجِيل التَّحَلُّل؛ لِئَلاَّ يَفُوتَ الْحَجُّ. وَذَلِكَ مَا لَمْ يَغْلِبْ عَلَى ظَنِّ الْمُحْرِمِ الْمُحْصَرِ إِدْرَاكُهُ بَعْدَ الْحَصْرِ، أَوْ إِدْرَاكُ الْعُمْرَةِ فِي ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ فَيَجِبُ الصَّبْرُ (1) كَمَا سَبَقَ. وَأَطْلَقَ الْحَنَابِلَةُ فَقَالُوا " الْمُسْتَحَبُّ لَهُ الإِْقَامَةُ مَعَ إِحْرَامِهِ رَجَاءَ زَوَال الْحَصْرِ، فَمَتَى زَال قَبْل تَحَلُّلِهِ فَعَلَيْهِ الْمُضِيُّ لإِِتْمَامِ نُسُكِهِ (2) .
وَالْحَاصِل أَنَّ جَوَازَ التَّحَلُّل مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، إِنَّمَا اخْتَلَفُوا فِي الْمُفَاضَلَةِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْبَقَاءِ عَلَى الإِْحْرَامِ، فَإِنِ اخْتَارَ الْمُحْصَرُ التَّحَلُّل تَحَلَّل مَتَى شَاءَ، إِذَا صَنَعَ مَا يَلْزَمُهُ لِلتَّحَلُّل، مِمَّا سَيَأْتِي ذِكْرُهُ فِي مَوْضِعِهِ.
وَهَذَا الْحُكْمُ سَوَاءٌ فِيهِ الْمُحْصَرُ عَنِ الْحَجِّ، أَوْ عَنِ الْعُمْرَةِ، أَوْ عَنْهُمَا مَعًا، عِنْدَ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ (3) .

التَّحَلُّل مِنَ الإِْحْرَامِ الْفَاسِدِ:
29 - يَجُوزُ لِلْمُحْرِمِ الَّذِي فَسَدَ إِحْرَامُهُ - إِذَا أُحْصِرَ - أَنْ يَتَحَلَّل مِنْ إِحْرَامِهِ الْفَاسِدِ، فَإِذَا جَامَعَ الْمُحْرِمُ بِالْحَجِّ جِمَاعًا مُفْسِدًا ثُمَّ أُحْصِرَ تَحَلَّل، وَيَلْزَمُهُ دَمٌ لِلإِْفْسَادِ، وَدَمٌ لِلإِْحْصَارِ، وَيَلْزَمُهُ الْقَضَاءُ بِسَبَبِ الإِْفْسَادِ اتِّفَاقًا هُنَا؛ لأَِنَّ الْخِلاَفَ فِي الْقَضَاءِ هُوَ فِي الإِْحْصَارِ بَعْدَ الإِْحْرَامِ الصَّحِيحِ.
فَلَوْ لَمْ يَتَحَلَّل حَتَّى فَاتَهُ الْوُقُوفُ، وَلَمْ يُمْكِنْهُ الطَّوَافُ بِالْكَعْبَةِ، تَحَلَّل فِي مَوْضِعِهِ تَحَلُّل الْمُحْصَرِ، وَيَلْزَمُهُ ثَلاَثَةُ دِمَاءٍ: دَمٌ لِلإِْفْسَادِ، وَدَمٌ لِلْفَوَاتِ، وَدَمٌ
__________
(1) شرح المنهاج وحاشية القليوبي 2 / 147، والمهذب 8 / 242
(2) المغني 3 / 359
(3) بدائع الصنائع 2 / 177، وتفسير القرطبي 2 / 354.

(2/206)


لِلإِْحْصَارِ. فَدَمُ الإِْفْسَادِ بَدَنَةٌ، وَالآْخَرَانِ شَاتَانِ، وَيَلْزَمُهُ قَضَاءٌ وَاحِدٌ (1) .
لَكِنْ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ يَكْفِيهِ فِي الصُّورَةِ الأُْولَى هَدْيٌ وَاحِدٌ هُوَ هَدْيُ الإِْفْسَادِ: بَدَنَةٌ؛ لأَِنَّهُ لاَ هَدْيَ عَلَى الْمُحْصَرِ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ.
وَعَلَيْهِ فِي الصُّورَةِ الثَّانِيَةِ هَدْيَانِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ: هَدْيُ الإِْفْسَادِ وَهَدْيُ الإِْحْصَارِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ؛ لأَِنَّهُ لاَ دَمَ عِنْدَهُمْ لِلْفَوَاتِ، وَهَدْيُ الإِْفْسَادِ (2) . وَهَدْيُ الْفَوَاتِ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ (3) .

الْبَقَاءُ عَلَى الإِْحْرَامِ:
30 - إِنِ اخْتَارَ الْمُحْصَرُ الْبَقَاءَ عَلَى الإِْحْرَامِ وَمُصَابَرَتَهُ حَتَّى يَزُول الْمَانِعُ فَلَهُ بِالنِّسْبَةِ لِلْحَجِّ حَالاَنِ:
الْحَالَةُ الأُْولَى: أَنْ يَتَمَكَّنَ مِنْ إِدْرَاكِ الْحَجِّ بِإِدْرَاكِ الْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ، فَبِهَا وَنِعْمَتْ.
الْحَالَةُ الثَّانِيَةُ: أَنْ لاَ يَتَمَكَّنَ مِنْ إِدْرَاكِ الْحَجِّ، بِأَنْ يَفُوتَهُ الْحَجُّ لِفَوَاتِ الْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ.
فَاتَّفَقَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ عَلَى أَنَّهُ يَتَحَلَّل تَحَلُّل فَوَاتِ الْحَجِّ، بِأَنْ يُؤَدِّيَ أَعْمَال الْعُمْرَةِ. ثُمَّ اخْتَلَفُوا: فَقَال: الْحَنَفِيَّةُ لاَ دَمَ عَلَيْهِ لأَِنَّ ذَلِكَ هُوَ حُكْمُ
__________
(1) المجموع وسياق الكلام له 8 / 249، والمسلك المتقسط ص 276، والمغني 3 / 360، ومواهب الجليل 3 / 201
(2) انظر في دم الإفساد شرح الكنز للعيني 1 / 102، والمجموع 7 / 381. والمغني 4 / 334، والمنتقى شرح الموطأ 3 / 3، ونهاية المحتاج 2 / 457، والهداية 2 / 238 - 240، على تفصيل في نوع الهدي الواجب بالإفساد عند الحنفية.
(3) شرح الزرقاني 2 / 338، وشرح المنهاج 2 / 151، والمجموع 8 / 233، والمغني 3 / 328، وفتح القدير على الهداية 2 / 303

(2/207)


الْفَوَاتِ وَعَلَيْهِ الْقَضَاءُ.
وَأَمَّا الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ فَقَالُوا: عَلَيْهِ دَمُ الْفَوَاتِ دُونَ دَمِ الإِْحْصَارِ. وَالأَْصَحُّ أَنَّهُ لاَ قَضَاءَ عَلَيْهِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَعَلَيْهِ الْقَضَاءُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ، كَمَا هِيَ الْقَاعِدَةُ عِنْدَهُمْ: " إِنَّ مَنْ لَمْ يَتَحَلَّل حَتَّى فَاتَهُ الْحَجُّ لَزِمَهُ الْقَضَاءُ (1) ". وَأَمَّا الْمَالِكِيَّةُ فَقَالُوا: لَوِ اسْتَمَرَّ الْمُحْصَرُ عَلَى إِحْرَامِهِ حَتَّى دَخَل وَقْتُ الإِْحْرَامِ مِنَ الْعَامِ الْقَابِل، وَزَال الْمَانِعُ فَلاَ يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَتَحَلَّل بِالْعُمْرَةِ لِيُسْرِ مَا بَقِيَ (2) .
فَقَدْ أَجَازَ الْمَالِكِيَّةُ الْبَقَاءَ عَلَى الإِْحْرَامِ بَعْدَ الْفَوَاتِ، وَلَمْ يُلْزِمُوهُ بِالتَّحَلُّل بِعُمْرَةٍ، وَعِنْدَهُمْ يُجْزِئُهُ الإِْحْرَامُ السَّابِقُ لِلْحَجِّ فِي الْعَامِ الْقَابِل (3) .
31 - وَأَمَّا إِذَا بَقِيَ الإِْحْصَارُ قَائِمًا وَفَاتَ الْحَجُّ: فَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ لَهُ أَنْ يَحِل تَحَلُّل الْمُحْصَرِ، وَلاَ قَضَاءَ عَلَيْهِ. وَعَلَيْهِ دَمٌ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ. وَفِي قَوْلٍ عَلَيْهِ الْقَضَاءُ (4) .
أَمَّا الْحَنَابِلَةُ فَأَوْجَبُوا عَلَيْهِ الْقَضَاءَ، فِيمَا يَظْهَرُ مِنْ كَلاَمِهِمْ (5) .
وَأَمَّا الْحَنَفِيَّةُ فَحُكْمُهُ عِنْدَهُمْ حُكْمُ الْفَوَاتِ، وَلاَ أَثَرَ لِلْحَصْرِ.
__________
(1) المسلك المتقسط ص 285، المجموع 8 / 241 والسياق له. المغني 3 / 359، والكافي 1 / 627، ومطالب أولي النهى 2 / 457
(2) حاشية الدسوقي 2 / 94، وقارن بشرح الزرقاني 2 / 336، ونقد البناني إياه في تخصيص الحكم بمن يتحلل بالعمرة، وقد نبه عليه الدسوقي أيضا.
(3) مواهب الجليل 3 / 198، وحاشية الدسوقي في الموضع السابق.
(4) المجموع 8 / 241، ومواهب الجليل 3 / 200
(5) لما سبق أن ذكرناه.

(2/207)


حِكْمَةُ مَشْرُوعِيَّةِ التَّحَلُّل:
32 - الْمُحْصَرُ كَمَا قَال الْكَاسَانِيُّ مُحْتَاجٌ إِلَى التَّحَلُّل؛ لأَِنَّهُ مُنِعَ عَنِ الْمُضِيِّ فِي مُوجِبِ الإِْحْرَامِ، عَلَى وَجْهٍ لاَ يُمْكِنُهُ الدَّفْعُ، فَلَوْ لَمْ يَجُزْ لَهُ التَّحَلُّل لَبَقِيَ مُحْرِمًا لاَ يَحِل لَهُ مَا حَظَرَهُ الإِْحْرَامُ إِلَى أَنْ يَزُول الْمَانِعُ فَيَمْضِيَ فِي مُوجِبِ الإِْحْرَامِ، وَفِيهِ مِنَ الضَّرَرِ وَالْحَرَجِ مَا لاَ يَخْفَى، فَمَسَّتِ الْحَاجَةُ إِلَى التَّحَلُّل وَالْخُرُوجِ مِنَ الإِْحْرَامِ، دَفْعًا لِلضَّرَرِ وَالْحَرَجِ.
وَسَوَاءٌ كَانَ الإِْحْصَارُ عَنِ الْحَجِّ، أَوْ عَنِ الْعُمْرَةِ، أَوْ عَنْهُمَا عِنْدَ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ (1) .

مَا يَتَحَلَّل بِهِ الْمُحْصَرُ
33 - الإِْحْصَارُ بِحَسَبِ إِطْلاَقِ الإِْحْرَامِ الَّذِي وَقَعَ فِيهِ أَوْ تَقْيِيدِهِ بِالشَّرْطِ نَوْعَانِ:
النَّوْعُ الأَْوَّل: الإِْحْصَارُ فِي الإِْحْرَامِ الْمُطْلَقِ، وَهُوَ الَّذِي لَمْ يَشْتَرِطْ فِيهِ الْمُحْرِمُ لِنَفْسِهِ حَقَّ التَّحَلُّل إِذَا طَرَأَ لَهُ مَانِعٌ. النَّوْعُ الثَّانِي: الإِْحْصَارُ فِي الإِْحْرَامِ الَّذِي اشْتَرَطَ فِيهِ الْمُحْرِمُ التَّحَلُّل.

التَّحَلُّل بِالإِْحْصَارِ فِي الإِْحْرَامِ الْمُطْلَقِ

34 - يَنْقَسِمُ هَذَا الإِْحْصَارُ إِلَى قِسْمَيْنِ، حَسْبَمَا يُسْتَخْلَصُ مِنَ الْفِقْهِ الْحَنَفِيِّ:
الْقِسْمُ الأَْوَّل: الإِْحْصَارُ بِمَانِعٍ حَقِيقِيٍّ، أَوْ شَرْعِيٍّ لِحَقِّ اللَّهِ تَعَالَى، لاَ دَخْل لِحَقِّ الْعَبْدِ فِيهِ.
__________
(1) بدائع الصنائع 2 / 177، فتح القدير 2 / 296، والمهذب نسخة المجموع 8 / 242، الكافي 1 / 625

(2/208)


الْقِسْمُ الثَّانِي: الإِْحْصَارُ بِمَانِعٍ شَرْعِيٍّ لِحَقِّ الْعَبْدِ لاَ لِحَقِّ اللَّهِ تَعَالَى.
وَقَدْ وَجَدْتُ نَتِيجَةَ التَّقْسِيمِ مِنْ حَيْثُ الْحُكْمُ مُطَابِقَةً لِغَيْرِ الْحَنَفِيَّةِ إِجْمَالاً، فِيمَا اتَّفَقُوا مَعَ الْحَنَفِيَّةِ عَلَى كَوْنِهِ إِحْصَارًا.

كَيْفِيَّةُ تَحَلُّل الْمُحْصَرِ

أَوَّلاً: نِيَّةُ التَّحَلُّل:
35 - إِنَّ مَبْدَأَ نِيَّةِ التَّحَلُّل بِالْمَعْنَى الْوَاسِعِ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ كَشَرْطٍ لِتَحَلُّل الْمُحْصَرِ مِنْ إِحْرَامِهِ، ثُمَّ وَقَعَ الْخِلاَفُ فِيمَا وَرَاءَ ذَلِكَ:
أَمَّا الشَّافِعِيَّةُ (1) وَالْحَنَابِلَةُ (2) فَقَدْ شَرَطُوا نِيَّةَ التَّحَلُّل عِنْدَ ذَبْحِ الْهَدْيِ، بِأَنْ يَنْوِيَ التَّحَلُّل بِذَبْحِهِ؛ لأَِنَّ الْهَدْيَ قَدْ يَكُونُ لِلتَّحَلُّل وَقَدْ يَكُونُ لِغَيْرِهِ فَوَجَبَ أَنْ يَنْوِيَ لِيُمَيِّزَ بَيْنَهُمَا ثُمَّ يَحْلِقَ؛ وَلأَِنَّ مَنْ أَتَى بِأَفْعَال النُّسُكِ فَقَدْ أَتَى بِمَا عَلَيْهِ فَيَحِل مِنْهَا بِإِكْمَالِهَا، فَلَمْ يَحْتَجْ إِلَى نِيَّةٍ، بِخِلاَفِ الْمَحْصُورِ، فَإِنَّهُ يُرِيدُ الْخُرُوجَ مِنَ الْعِبَادَةِ قَبْل إِكْمَالِهَا، فَافْتَقَرَ إِلَى قَصْدِهِ.
كَذَلِكَ تُشْتَرَطُ نِيَّةُ التَّحَلُّل عِنْدَ الْحَلْقِ، بِنَاءً عَلَى الأَْصَحِّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّ الْحَلْقَ نُسُكٌ، وَأَنَّهُ شَرْطٌ لِحُصُول التَّحَلُّل، كَمَا سَيَأْتِي (ف. . . .) وَذَلِكَ مِنَ الدَّلِيل عَلَى شَرْطِيَّةِ النِّيَّةِ عِنْدَ ذَبْحِ الْهَدْيِ.
وَأَمَّا الْمَالِكِيَّةُ (3) فَقَالُوا: نِيَّةُ التَّحَلُّل وَحْدَهَا هِيَ
__________
(1) المهذب 8 / 243، والمجموع 8 / 247، وشرح المنهاج 2 / 148، وانظر مزيدا من التوجيه في حاشية عميرة الصفحة نفسها، وانظر نهاية المحتاج 2 / 476
(2) المغني 3 / 361، والكافي 1 / 625 - 626
(3) شرح الدردير وحاشية الدسوقي 2 / 93 - 94 ومواهب الجليل 3 / 198، وشرح الزرقاني 2 / 335

(2/208)


رُكْنُ التَّحَلُّل فَقَطْ، بِالنِّسْبَةِ لِتَحَلُّل الْمُحْصَرِ بِالْعَدُوِّ، أَوِ الْفِتْنَةِ، أَوِ الْحَبْسِ بِغَيْرِ حَقٍّ. هَؤُلاَءِ يَتَحَلَّلُونَ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ بِالنِّيَّةِ فَحَسْبُ، وَلاَ يُغْنِي عَنْهَا غَيْرُهَا، حَتَّى لَوْ نَحَرَ الْهَدْيَ وَحَلَقَ وَلَمْ يَنْوِ التَّحَلُّل لَمْ يَتَحَلَّل.
وَأَمَّا الْحَنَفِيَّةُ فَقَالُوا: " إِذَا أُحْصِرَ الْمُحْرِمُ بِحَجَّةٍ أَوْ عُمْرَةٍ، وَكَذَا إِذَا كَانَ مُحْرِمًا بِهِمَا، وَأَرَادَ التَّحَلُّل - بِخِلاَفِ مَنْ أَرَادَ الاِسْتِمْرَارَ عَلَى حَالِهِ، مُنْتَظِرًا زَوَال إِحْصَارِهِ - يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَبْعَثَ الْهَدْيَ. . . إِلَخْ " (1) فَقَدْ عَلَّقُوا التَّحَلُّل بِبَعْثِ الْهَدْيِ وَذَبْحِهِ عَلَى إِرَادَةِ التَّحَلُّل، وَاحْتَرَزُوا عَمَّنْ أَرَادَ الاِسْتِمْرَارَ عَلَى حَالِهِ. فَلَوْ بَعَثَ هَدْيًا، وَهُوَ مُرِيدُ الاِنْتِظَارِ لاَ يَحِل بِذَبْحِ الْهَدْيِ إِلاَّ إِذَا قَصَدَ بِهِ التَّحَلُّل.

ثَانِيًا: ذَبْحُ الْهَدْيِ:
تَعْرِيفُ الْهَدْيِ:
36 - الْهَدْيُ مَا يُهْدَى إِلَى الْحَرَمِ مِنْ حَيَوَانٍ وَغَيْرِهِ (2) .
لَكِنَّ الْمُرَادَ هُنَا وَفِي أَبْحَاثِ الْحَجِّ خَاصَّةً: مَا يُهْدَى إِلَى الْحَرَمِ مِنَ الإِْبِل وَالْبَقَرِ وَالْغَنَمِ وَالْمَاعِزِ خَاصَّةً.
حُكْمُ ذَبْحِ الْهَدْيِ لِتَحَلُّل الْمُحْصَرِ:
36 م - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ إِلَى وُجُوبِ ذَبْحِ الْهَدْيِ عَلَى الْمُحْصَرِ، لِكَيْ يَتَحَلَّل مِنْ إِحْرَامِهِ، وَأَنَّهُ لَوْ بَعَثَ بِهِ وَاشْتَرَاهُ، لاَ يَحِل مَا لَمْ يُذْبَحْ.
__________
(1) كما في لباب المناسك وشرحه المسلك المتقسط ص 276
(2) المصباح المنير مادة (هدي) ، والنهاية لابن الأثير 5 / 254، والمجموع 8 / 268 - 269

(2/209)


وَهُوَ مَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ (1) وَالشَّافِعِيَّةِ (2) وَالْحَنَابِلَةِ (3) وَقَوْل أَشْهَبَ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ.
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّ الْمُحْصَرَ يَتَحَلَّل بِالنِّيَّةِ فَقَطْ، وَلاَ يَجِبُ عَلَيْهِ ذَبْحُ الْهَدْيِ، بَل هُوَ سُنَّةٌ، وَلَيْسَ شَرْطًا (4) .
اسْتَدَل الْجُمْهُورُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} (5) عَلَى مَا سَبَقَ.
وَاحْتَجَّ الْجُمْهُورُ أَيْضًا بِالسُّنَّةِ: بِأَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَحِل يَوْمَ الْحُدَيْبِيَةِ وَلَمْ يَحْلِقْ رَأْسَهُ حَتَّى نَحَرَ الْهَدْيَ، فَدَل ذَلِكَ عَلَى أَنَّ مِنْ شَرْطِ إِحْلاَل الْمُحْصَرِ ذَبْحَ هَدْيٍ إِنْ كَانَ عِنْدَهُ (6) .
وَأَمَّا وَجْهُ قَوْل الْمَالِكِيَّةِ وَدَلِيلُهُمْ فَهُوَ دَلِيلٌ مِنْ جِهَةِ الْقِيَاسِ، وَهُوَ كَمَا ذَكَرَهُ أَبُو الْوَلِيدِ الْبَاجِيُّ أَنَّهُ تَحَلُّلٌ مَأْذُونٌ فِيهِ، عَارٍ مِنَ التَّفْرِيطِ وَإِدْخَال النَّقْصِ، فَلَمْ يَجِبْ بِهِ هَدْيٌ، أَصْل ذَلِكَ إِذَا أَكْمَل حَجَّهُ (7) .

مَا يُجْزِئُ مِنَ الْهَدْيِ فِي الإِْحْصَارِ:
37 - يُجْزِئُ فِي الْهَدْيِ الشَّاةُ عَنْ وَاحِدٍ، وَكَذَا الْمَاعِزُ بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ، وَأَمَّا الْبَدَنَةُ وَهِيَ مِنَ الإِْبِل وَالْبَقَرِ، فَتَكْفِي عَنْ سَبْعَةٍ عِنْدَ الْجَمَاهِيرِ وَمِنْهُمُ الأَْئِمَّةُ الأَْرْبَعَةُ. وَلِلتَّفْصِيل (ر: هَدْيٌ) .
__________
(1) الهداية وشروحها 2 / 297، والبدائع 2 / 177 - 178، ومتن التنوير ورد المحتار 2 / 321.
(2) المهذب 8 / 242، والمجموع 8 / 246، وشرح المنهاج 2 / 148
(3) المغني 3 / 357، 358، والكافي 1 / 625
(4) مواهب الجليل 3 / 198، وشرح الدردير وحاشية الدسوقي 2 / 94 والزرقاني 2 / 335
(5) المهذب 8 / 243، وانظر المجموع 8 / 267، والآية من سورة البقرة / 196
(6) تفسير القرطبي 2 / 351
(7) المنتقى شرح الموطأ 2 / 273

(2/209)


مَا يَجِبُ مِنَ الْهَدْيِ عَلَى الْمُحْصَرِ:
38 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الْمُحْرِمَ بِالْعُمْرَةِ مُفْرَدَةً، أَوِ الْحَجِّ مُفْرَدًا، إِذَا أُحْصِرَ يَلْزَمُهُ ذَبْحُ هَدْيٍ وَاحِدٍ لِلتَّحَلُّل مِنْ إِحْرَامِهِ.
أَمَّا الْقَارِنُ فَقَدِ اخْتَلَفُوا فِيمَا يَجِبُ عَلَيْهِ مِنَ الْهَدْيِ لِلتَّحَلُّل بِالإِْحْصَارِ: فَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ (1) وَالْحَنَابِلَةُ (2) إِلَى أَنَّهُ يَحِل بِدَمٍ وَاحِدٍ، حَيْثُ أَطْلَقُوا وُجُوبَ هَدْيٍ عَلَى الْمُحْصَرِ دُونَ تَفْصِيلٍ، وَالْمَسْأَلَةُ مَشْهُورَةٌ.
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ لاَ يَحِل إِلاَّ بِدَمَيْنِ يَذْبَحُهُمَا فِي الْحَرَمِ (3) .
وَمَنْشَأُ الْخِلاَفِ هُوَ اخْتِلاَفُ الْفَرِيقَيْنِ فِي حَقِيقَةِ إِحْرَامِ الْقَارِنِ. (انْظُرْ مُصْطَلَحَ إِحْرَامٌ) .
فَالشَّافِعِيَّةُ وَمَنْ مَعَهُمْ: الْقَارِنُ عِنْدَهُمْ مُحْرِمٌ بِإِحْرَامٍ وَاحِدٍ يُجْزِئُ عَنِ الإِْحْرَامَيْنِ: إِحْرَامِ الْحَجِّ وَإِحْرَامِ الْعُمْرَةِ، لِذَلِكَ قَالُوا: يَكْفِيهِ طَوَافٌ وَاحِدٌ وَسَعْيٌ وَاحِدٌ لِلْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ مَقْرُونَيْنِ، فَأَلْزَمُوهُ إِذَا أُحْصِرَ بِهَدْيٍ وَاحِدٍ.
وَأَمَّا الْحَنَفِيَّةُ فَالْقَارِنُ عِنْدَهُمْ مُحْرِمٌ بِإِحْرَامَيْنِ: إِحْرَامِ الْحَجِّ وَإِحْرَامِ الْعُمْرَةِ، لِذَلِكَ أَلْزَمُوهُ بِطَوَافَيْنِ وَسَعْيَيْنِ، فَأَلْزَمُوهُ إِذَا أُحْصِرَ بِهَدْيَيْنِ. وَقَالُوا: الأَْفْضَل أَنْ يَكُونَا مُعَيَّنَيْنِ مُبَيَّنَيْنِ، هَذَا لإِِحْصَارِ الْحَجِّ، وَهَذَا لإِِحْصَارِ الْعُمْرَةِ، كَمَا أَلْزَمُوهُ فِي جِنَايَاتِ الإِْحْرَامِ عَلَى
__________
(1) المهذب مع المجموع 8 / 242 - 246، وشرح المنهاج 2 / 148
(2) المغني 3 / 357 - 358، والكافي 1 / 625
(3) الاختيار 1 / 168، والهداية 2 / 298، والبدائع 2 / 179، واللباب وشرحه ص 277، وتنوير الأبصار وحاشيته رد المحتار 2 / 320

(2/210)


الْقِرَانِ الَّتِي يَلْزَمُ فِيهَا الْمُفْرِدَ دَمٌ أَلْزَمُوا الْقَارِنَ بِدَمَيْنِ، وَكَذَا الصَّدَقَةُ.

مَكَانُ ذَبْحِ هَدْيِ الإِْحْصَارِ:
39 - ذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ (1) وَالْحَنَابِلَةُ (2) فِي رِوَايَةٍ إِلَى أَنَّ الْمُحْصَرَ يَذْبَحُ الْهَدْيَ حَيْثُ أُحْصِرَ، فَإِنْ كَانَ فِي الْحَرَمِ ذَبَحَهُ فِي الْحَرَمِ، وَإِنْ كَانَ فِي غَيْرِهِ ذَبَحَهُ فِي مَكَانِهِ. حَتَّى لَوْ كَانَ فِي غَيْرِ الْحَرَمِ وَأَمْكَنَهُ الْوُصُول إِلَى الْحَرَمِ فَذَبَحَهُ فِي مَوْضِعِهِ أَجْزَأَهُ عَلَى الأَْصَحِّ فِي الْمَذْهَبَيْنِ.
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ (3) - وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنِ الإِْمَامِ أَحْمَدَ - إِلَى أَنَّ ذَبْحَ هَدْيِ الإِْحْصَارِ مُؤَقَّتٌ بِالْمَكَانِ، وَهُوَ الْحَرَمُ، فَإِذَا أَرَادَ الْمُحْصَرُ أَنْ يَتَحَلَّل يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَبْعَثَ الْهَدْيَ إِلَى الْحَرَمِ فَيُذْبَحَ بِتَوْكِيلِهِ نِيَابَةً عَنْهُ فِي الْحَرَمِ، أَوْ يَبْعَثَ ثَمَنَ الْهَدْيِ لِيُشْتَرَى بِهِ الْهَدْيُ وَيُذْبَحَ عَنْهُ فِي الْحَرَمِ. ثُمَّ لاَ يَحِل بِبَعْثِ الْهَدْيِ وَلاَ بِوُصُولِهِ إِلَى الْحَرَمِ، حَتَّى يُذْبَحَ فِي الْحَرَمِ، وَلَوْ ذُبِحَ فِي غَيْرِ الْحَرَمِ لَمْ يَتَحَلَّل مِنَ الإِْحْرَامِ، بَل هُوَ مُحْرِمٌ عَلَى حَالِهِ. وَيَتَوَاعَدُ مَعَ مَنْ يَبْعَثُ مَعَهُ الْهَدْيَ عَلَى وَقْتٍ يَذْبَحُ فِيهِ لِيَتَحَلَّل بَعْدَهُ. وَإِذَا تَبَيَّنَ لِلْمُحْصَرِ أَنَّ الْهَدْيَ ذُبِحَ فِي غَيْرِ الْحَرَمِ فَلاَ يُجْزِي (4) .
وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى عَنْ أَحْمَدَ أَنَّهُ إِنْ قَدَرَ عَلَى الذَّبْحِ فِي أَطْرَافِ الْحَرَمِ فَفِيهِ وَجْهَانِ.
__________
(1) المهذب مع المجموع 8 / 243 - 267، وشرح المنهاج 2 / 148 ونهاية المحتاج 2 / 475
(2) الكافي 1 / 625، والمغني - 3 / 358
(3) الهداية وشروحها 2 / 297، وشرح الكنز للزيلعي 2 / 78، والبدائع 2 / 179 والمسلك المتقسط والسياق له ص 276
(4) المرجعين السابقين في المذهب الحنبلي. وقال في المغني: " هذا والله أعلم فيمن كان حصره خاصا ".

(2/210)


اسْتَدَل الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ بِفِعْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِنَّهُ نَحَرَ هَدْيَهُ فِي الْحُدَيْبِيَةِ حِينَ أُحْصِرَ، وَهِيَ مِنَ الْحِل (1) . بِدَلِيل قَوْله تَعَالَى: {وَالْهَدْيَ مَعْكُوفًا أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ} . (2)
وَاسْتَدَلُّوا كَذَلِكَ مِنْ جِهَةِ الْعَقْل بِمَا يَرْجِعُ إِلَى حِكْمَةِ تَشْرِيعِ التَّحَلُّل مِنَ التَّسْهِيل وَرَفْعِ الْحَرَجِ، كَمَا قَال فِي الْمُغْنِي (3) . " لأَِنَّ ذَلِكَ يُفْضِي إِلَى تَعَذُّرِ الْحِل، لِتَعَذُّرِ وُصُول الْهَدْيِ إِلَى الْحَرَمِ " أَيْ وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ دَل عَلَى ضَعْفِ هَذَا الاِشْتِرَاطِ. وَاسْتَدَل الْحَنَفِيَّةُ عَلَى تَوْقِيتِ ذَبْحِ الْهَدْيِ بِالْحَرَمِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلاَ تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ} . (4)
وَتَوْجِيهُ الاِسْتِدْلاَل بِالآْيَةِ عِنْدَهُمْ مِنْ وَجْهَيْنِ: الأَْوَّل: التَّعْبِيرُ بِ " الْهَدْيِ ". الثَّانِي: الْغَايَةُ فِي قَوْلِهِ {حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ} وَتَفْسِيرُ قَوْلِهِ " مَحِلَّهُ " بِأَنَّهُ الْحَرَمُ.
وَاسْتَدَلُّوا بِالْقِيَاسِ عَلَى دِمَاءِ الْقُرُبَاتِ، لأَِنَّ الإِْحْصَارَ دَمُ قُرْبَةٍ، وَالإِْرَاقَةُ لَمْ تُعْرَفْ قُرْبَةً إِلاَّ فِي زَمَانٍ، أَوْ مَكَانٍ، فَلاَ يَقَعُ قُرْبَةً دُونَهُ (5) . أَيْ دُونَ تَوْقِيتٍ بِزَمَانٍ وَلاَ مَكَانٍ، وَالزَّمَانُ غَيْرُ مَطْلُوبٍ، فَتَعَيَّنَ التَّوْقِيتُ بِالْمَكَانِ.
__________
(1) المراجع السابقة في المذهبين.
(2) سورة الفتح / 25
(3) المغني 3 / 358
(4) سورة البقرة / 196
(5) الهداية 2 / 297

(2/211)


زَمَانُ ذَبْحِ هَدْيِ الإِْحْصَارِ:
40 - ذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ (1) وَالشَّافِعِيُّ (2) وَأَحْمَدُ (3) - عَلَى الْمُعْتَمَدِ فِي مَذْهَبِهِ - إِلَى أَنَّ زَمَانَ ذَبْحِ الْهَدْيِ هُوَ مُطْلَقُ الْوَقْتِ، لاَ يَتَوَقَّتُ بِيَوْمِ النَّحْرِ، بَل أَيُّ وَقْتٍ شَاءَ الْمُحْصَرُ ذَبْحَ هَدْيِهِ، سَوَاءٌ كَانَ الإِْحْصَارُ عَنِ الْحَجِّ أَوْ عَنِ الْعُمْرَةِ.
وَقَال أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ - وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنِ الإِْمَامِ أَحْمَدَ - لاَ يَجُوزُ الذَّبْحُ لِلْمُحْصَرِ بِالْحَجِّ إِلاَّ فِي أَيَّامِ النَّحْرِ الثَّلاَثَةِ، وَيَجُوزُ لِلْمُحْصَرِ بِالْعُمْرَةِ مَتَى شَاءَ (4) .
اسْتَدَل الْجُمْهُورُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} . فَقَدْ ذَكَرَ الْهَدْيَ فِي الآْيَةِ مُطْلَقًا عَنِ التَّوْقِيتِ بِزَمَانٍ، وَتَقْيِيدُهُ بِالزَّمَانِ نَسْخٌ أَوْ تَخْصِيصٌ لِنَصِّ الْكِتَابِ الْقَطْعِيِّ فَلاَ يَجُوزُ إِلاَّ بِدَلِيلٍ قَاطِعٍ وَلاَ دَلِيل.
وَاسْتَدَل أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ بِأَنَّ هَذَا دَمٌ يَتَحَلَّل بِهِ مِنْ إِحْرَامِ الْحَجِّ، فَيَخْتَصُّ بِيَوْمِ النَّحْرِ فِي الْحَجِّ. وَرُبَّمَا يَعْتَبِرَانِهِ بِدَمِ التَّمَتُّعِ وَالْقِرَانِ (5) فَيَقِيسَانِهِ عَلَيْهِ، حَيْثُ إِنَّهُ يَجِبُ أَنْ يُذْبَحَ فِي أَيَّامِ النَّحْرِ.
وَيَتَفَرَّعُ عَلَى هَذَا الْخِلاَفِ أَنَّ الْمُحْصَرَ يَسْتَطِيعُ عَلَى مَذْهَبِ الْجُمْهُورِ أَنْ يَتَحَلَّل مَتَى تَحَقَّقَ إِحْصَارُهُ بِذَبْحِ
__________
(1) الهداية 2 / 299، ومتن الكنز وشرحه للزيلعي 2 / 79، والبدائع 2 / 180 - 181
(2) المجموع 8 / 247، وفيه قول النووي: " قال المصنف والأصحاب: أما وقت التحلل فينظر إن كان واجدا للهدي ذبحه ونوى التحلل عند ذبحه " فأطلق وقت الذبح، ولم يقيده بأيام النحر.
(3) المغني 3 / 359
(4) المراجع الحنفية السابقة ورد المحتار 2 / 321
(5) تبين الحقائق 2 / 79، وقارن بالبدائع 3 / 180 - 181

(2/211)


الْهَدْيِ، دُونَ مَشَقَّةِ الاِنْتِظَارِ.
أَمَّا عَلَى قَوْل الصَّاحِبَيْنِ: فَلاَ يَحِل إِلَى يَوْمِ النَّحْرِ؛ لأَِنَّ التَّحَلُّل مُتَوَقِّفٌ عَلَى ذَبْحِ الْهَدْيِ، وَلاَ يُذْبَحُ الْهَدْيُ عِنْدَهُمَا إِلاَّ أَيَّامَ النَّحْرِ.

الْعَجْزُ عَنِ الْهَدْيِ:
41 - مَذْهَبُ الشَّافِعِيَّةِ (1) وَالْحَنَابِلَةِ (2) وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنْ أَبِي يُوسُفَ (3) مَنْ عَجَزَ عَنِ الْهَدْيِ فَلَهُ بَدَلٌ يَحِل مَحَل الْهَدْيِ، وَفِي تَعْيِينِ هَذَا الْبَدَل ثَلاَثَةُ أَقْوَالٍ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ.
الْقَوْل الأَْوَّل وَهُوَ الأَْظْهَرُ: أَنَّ بَدَل الْهَدْيِ طَعَامٌ تُقَوَّمُ بِهِ الشَّاةُ وَيَتَصَدَّقُ بِهِ، فَإِنْ عَجَزَ عَنْ قِيمَةِ الطَّعَامِ صَامَ عَنْ كُل مُدٍّ يَوْمًا، وَهُوَ قَوْل أَبِي يُوسُفَ، لَكِنَّهُ قَال: يَصُومُ لِكُل نِصْفِ صَاعٍ يَوْمًا.
ثُمَّ إِذَا انْتَقَل إِلَى الصِّيَامِ فَلَهُ التَّحَلُّل فِي الْحَال فِي الأَْظْهَرِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ بِالْحَلْقِ وَالنِّيَّةُ عِنْدَهُ؛ لأَِنَّ الصَّوْمَ يَطُول انْتِظَارُهُ، فَتَعْظُمُ الْمَشَقَّةُ فِي الصَّبْرِ عَلَى الإِْحْرَامِ إِلَى فَرَاغِهِ.
الْقَوْل الثَّانِي: بَدَل الْهَدْيِ الطَّعَامُ فَقَطْ، وَفِيهِ وَجْهَانِ: الأَْوَّل أَنْ يُقَوَّمَ كَمَا سَبَقَ. الثَّانِي أَنَّهُ ثَلاَثُ آصُعٍ لِسِتَّةِ مَسَاكِينَ، مِثْل كَفَّارَةِ جِنَايَةِ الْحَلْقِ.
الْقَوْل الثَّالِثُ لِلشَّافِعِيَّةِ وَهُوَ مَذْهَبُ الْحَنَابِلَةِ أَنَّ بَدَل الدَّمِ الصَّوْمُ فَقَطْ. وَهُوَ عَشَرَةُ أَيَّامٍ كَصَوْمِ
__________
(1) المهذب مع المجموع 8 / 243 - 247. وشرح المنهاج 2 / 148 - 149، ونهاية المحتاج 2 / 476
(2) المغني 3 / 361، والكافي 1 / 626
(3) البدائع 2 / 180، وفتح القدير 2 / 297، والمسلك المتقسط 278، والدر المختار 2 / 320

(2/212)


التَّمَتُّعِ (1) .
وَقَال أَبُو حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٌ (2) ، وَهُوَ قَوْلٌ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ (3) وَهُوَ الْمُعْتَمَدُ فِي الْمَذْهَبِ الْحَنَفِيِّ لاَ بَدَل لِلْهَدْيِ. فَإِنْ عَجَزَ الْمُنْحَصِرُ عَنِ الْهَدْيِ بِأَنْ لَمْ يَجِدْهُ، أَوْ لَمْ يَجِدْ ثَمَنَهُ، أَوْ لَمْ يَجِدْ مَنْ يَبْعَثُ مَعَهُ الْهَدْيَ إِلَى الْحَرَمِ بَقِيَ مُحْرِمًا أَبَدًا، لاَ يَحِل بِالصَّوْمِ، وَلاَ بِالصَّدَقَةِ، وَلَيْسَا بِبَدَلٍ عَنْ هَدْيِ الْمُحْصَرِ.
وَأَمَّا الْمَالِكِيَّةُ فَلاَ يَجِبُ الْهَدْيُ مِنْ أَصْلِهِ عَلَى الْمُحْصَرِ عِنْدَهُمْ، فَلاَ بَحْثَ فِي بَدَلِهِ عِنْدَهُمْ.
اسْتَدَل الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ الْقَائِلُونَ بِمَشْرُوعِيَّةِ الْبَدَل لِمَنْ عَجَزَ عَنِ الْهَدْيِ بِالْقِيَاسِ، وَوَجْهُهُ " أَنَّهُ دَمٌ يَتَعَلَّقُ وُجُوبُهُ بِإِحْرَامٍ، فَكَانَ لَهُ بَدَلٌ، كَدَمِ التَّمَتُّعِ (4) ".
وَقَاسُوهُ أَيْضًا عَلَى غَيْرِهِ مِنَ الدِّمَاءِ الْوَاجِبَةِ (5) ، فَإِنَّ لَهَا بَدَلاً عِنْدَ الْعَجْزِ عَنْهَا (ر: إِحْرَامٌ) .
وَاسْتَدَل الْحَنَفِيَّةُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلاَ تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ} . (6)
وَجْهُ دَلاَلَةِ الآْيَةِ كَمَا قَال فِي الْبَدَائِعِ (7) : " نَهَى اللَّهُ عَنْ حَلْقِ الرَّأْسِ مَمْدُودًا إِلَى غَايَةِ ذَبْحِ الْهَدْيِ، وَالْحُكْمُ الْمُدَوَّدُ إِلَى غَايَةٍ لاَ يَنْتَهِي قَبْل وُجُودِ الْغَايَةِ، فَيَقْتَضِي أَنْ لاَ يَتَحَلَّل مَا لَمْ يَذْبَحِ الْهَدْيَ، سَوَاءٌ صَامَ، أَوْ أَطْعَمَ، أَوْ لاَ ".
__________
(1) المهذب مع المجموع 8 / 243
(2) البدائع 2 / 180، والملك المتقسط ص 278، ورد المحتار 2 / 320
(3) المهذب 8 / 243
(4) المرجع السابق
(5) نهاية المحتاج 2 / 476
(6) سورة البقرة / 196
(7) البدائع 2 / 180

(2/212)


وَبِتَوْجِيهٍ آخَرَ (1) : أَنَّهُ تَعَالَى " ذَكَرَ الْهَدْيَ، وَلَمْ يَذْكُرْ لَهُ بَدَلاً، وَلَوْ كَانَ لَهُ بَدَلٌ لَذَكَرَهُ، كَمَا ذَكَرَهُ فِي جَزَاءِ الصَّيْدِ ". وَاسْتَدَلُّوا بِالْعَقْل وَذَلِكَ " لأَِنَّ التَّحَلُّل بِالدَّمِ قَبْل إِتْمَامِ مُوجِبِ الإِْحْرَامِ عُرِفَ بِالنَّصِّ، بِخِلاَفِ الْقِيَاسِ، فَلاَ يَجُوزُ إِقَامَةُ غَيْرِهِ مَقَامَهُ بِالرَّأْيِ (2) ".

ثَالِثًا: الْحَلْقُ أَوِ التَّقْصِيرُ:
42 - مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ فِي رِوَايَةٍ عَنْهُ - وَمُحَمَّدٍ (3) وَمَالِكٍ (4) وَهُوَ قَوْلٌ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ (5) الْحَلْقُ لَيْسَ بِشَرْطٍ لِتَحَلُّل الْمُحْصَرِ مِنَ الإِْحْرَامِ. وَيَحِل الْمُحْصَرُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ بِالذَّبْحِ بِدُونِ الْحَلْقِ، وَإِنْ حَلَقَ فَحَسَنٌ، وَصَرَّحَ الْمَالِكِيَّةُ أَنَّ الْحَلْقَ سُنَّةٌ.
وَقَال أَبُو يُوسُفَ فِي رِوَايَةٍ ثَانِيَةٍ: إِنَّهُ وَاجِبٌ، وَلَوْ تَرَكَهُ لاَ شَيْءَ عَلَيْهِ. أَيْ أَنَّهُ سُنَّةٌ، وَفِي رِوَايَةٍ ثَالِثَةٍ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ قَال فِي الْحَلْقِ لِلْمُحْصَرِ: " هُوَ وَاجِبٌ لاَ يَسَعُهُ تَرْكُهُ " وَهُوَ قَوْلُهُ آخِرًا، وَأَخَذَ بِهِ الطَّحَاوِيُّ (6) .
وَالأَْظْهَرُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ (7) وَهُوَ قَوْلٌ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ (8)
__________
(1) المجموع مع المهذب 8 / 243
(2) البدائع الموضع السابق.
(3) الهداية 2 / 298، والبدائع 2 / 180، وانظر المسلك المتقسط ص 280، ورد المحتار 2 / 321، ففيهما تفصيل أقوال أبي يوسف وصرح في رد المحتار بأن قول أبي يوسف في الحلق: ينبغي أن يفعل وإلا فلا شيء عليه. وهو ظاهر الرواية.
(4) مواهب الجليل 3 / 198، وحاشية الدسوقي 2 / 94
(5) وهو المذهب كما في مطالب أولي النهى 2 / 455
(6) مختصر الطحاوي ص 72، ورد المحتار 2 / 321، وانظر الجوهرة النيرة ص 231
(7) المجموع والمهذب 8 / 243، و 247، وشرح المنهاج للمحلي 2 / 148
(8) المغني 3 / 361، والكافي 1 / 626، ومطالب أولي النهى 2 / 456

(2/213)


أَنَّ الْحَلْقَ أَوِ التَّقْصِيرَ شَرْطٌ لِلتَّحَلُّل، وَذَلِكَ بِنَاءً عَلَى الْقَوْل بِأَنَّ الْحَلْقَ نُسُكٌ مِنْ مَنَاسِكِ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ، كَمَا هُوَ الْمَشْهُورُ الرَّاجِحُ فِي الْمَذْهَبَيْنِ (1) ، وَلاَ بُدَّ مِنْ نِيَّةِ التَّحَلُّل بِالْحَلْقِ أَوِ التَّقْصِيرِ لِمَا ذُكِرَ فِي النِّيَّةِ عِنْدَ الذَّبْحِ.
اسْتَدَل أَبُو حَنِيفَةَ وَمَنْ مَعَهُ بِالْقِرَانِ وَهُوَ قَوْله تَعَالَى: {فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} وَوَجْهُ دَلاَلَةِ الآْيَةِ: أَنَّ الْمَعْنَى: " إِنْ أُحْصِرْتُمْ وَأَرَدْتُمْ أَنْ تَحِلُّوا فَاذْبَحُوا مَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ. جَعَل ذَبْحَ الْهَدْيِ فِي حَقِّ الْمُحْصَرِ إِذَا أَرَادَ الْحِل كُل مُوجَبِ الإِْحْصَارِ، فَمَنْ أَوْجَبَ الْحَلْقَ فَقَدْ جَعَلَهُ بَعْضَ الْمُوجَبِ، وَهَذَا خِلاَفُ النَّصِّ (2) ".
وَاسْتَدَل الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَأَبُو يُوسُفَ: بِفِعْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَامَ الْحُدَيْبِيَةِ فَإِنَّهُ حَلَقَ، وَأَمَرَ أَصْحَابَهُ أَنْ يَحْلِقُوا (3) ، وَلَمَّا تَبَاطَئُوا عَظُمَ عَلَيْهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى بَادَرَ فَحَلَقَ بِنَفْسِهِ، فَأَقْبَل النَّاسُ فَحَلَقُوا وَقَصَّرُوا، فَدَعَا رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِلْمُحَلِّقِينَ قَالُوا: وَالْمُقَصِّرِينَ؟ ، فَقَال وَالْمُقَصِّرِينَ فِي الثَّالِثَةِ أَوِ الرَّابِعَةِ (4) .
وَلَوْلاَ أَنَّ الْحَلْقَ نُسُكٌ مَا دَعَا لَهُمْ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَإِذَا كَانَ نُسُكًا وَجَبَ فِعْلُهُ كَمَا يَجِبُ
__________
(1) انظر المنهاج وحاشية عميرة 2 / 127، ونهابة المحتاج 2 / 441، والمغني 3 / 435 و 436.
(2) بدائع الصنائع 2 / 180
(3) الهداية 2 / 298، والمهذب 8 / 243، والمغني 3 / 361، وقد خرجنا أصل الحديث (فقرة 6) .
(4) سيرة ابن هشام ج 2 ص 319

(2/213)


عِنْدَ الْقَضَاءِ لِغَيْرِ الْمُحْصَرِ (1) .
وَاسْتَدَل لَهُمْ أَيْضًا بِالآْيَةِ {وَلاَ تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ} . (2)
وَوَجْهُ الاِسْتِدْلاَل بِهَا أَنَّ التَّعْبِيرَ بِالْغَايَةِ يَقْتَضِي " أَنْ يَكُونَ حُكْمُ الْغَايَةِ بِضِدِّ مَا قَبْلَهَا، فَيَكُونُ تَقْدِيرُهُ وَلاَ تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ فَإِذَا بَلَغَ فَاحْلِقُوا. وَذَلِكَ يَقْتَضِي وُجُوبَ الْحَلْقِ (3) ".

تَحَلُّل الْمُحْصَرِ لِحَقِّ الْعَبْدِ:
43 - الْمُحْصَرُ لِحَقِّ الْعَبْدِ - عَلَى التَّفْصِيل وَالْخِلاَفِ السَّابِقِ - يَكُونُ تَحْلِيلُهُ عَلَى النَّحْوِ الآْتِي:
عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ بِأَنْ يَأْتِيَ مَنْ لَهُ الْحَقُّ فِي الإِْحْصَارِ عَمَلاً مِنْ مَحْظُورَاتِ الإِْحْرَامِ نَاوِيًا التَّحْلِيل كَقَصِّ شَعْرٍ أَوْ تَقْلِيمِ ظُفُرٍ أَوْ نَحْوِهِمَا، وَلاَ يَكْفِي الْقَوْل (4) ، وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ عَلَى الرَّاجِحِ: يَكُونُ التَّحَلُّل بِنِيَّةِ الْمُحْصَرِ، فَإِنِ امْتَنَعَ عَنِ التَّحَلُّل قَامَ مَنْ كَانَ الإِْحْصَارُ لِحَقِّهِ بِتَحْلِيلِهِ بِنِيَّتِهِ أَيْضًا (5) .
وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ لِلزَّوْجِ تَحْلِيل زَوْجَتِهِ، وَلِلأَْبِ تَحْلِيل ابْنِهِ، وَلِلسَّيِّدِ تَحْلِيل عَبْدِهِ فِي الأَْحْوَال السَّابِقَةِ.
وَمَعْنَى التَّحْلِيل عِنْدَهُمْ عَلَى مَا ذَكَرُوا فِي الزَّوْجِ وَالسَّيِّدِ: أَنْ يَأْمُرَ الزَّوْجُ زَوْجَتَهُ بِالتَّحَلُّل، فَيَجِبُ
__________
(1) أحكام القرآن لأبي بكر الرازي 1 / 325
(2) سورة البقرة / 196
(3) المراجع السابقة.
(4) بدائع الصنائع 2 / 181، والمسلك المتقسط ص 290، وفتح القدير 2 / 131، ورد المحتار 2 / 320، 347
(5) الدسوقي 2 / 97 - 98 والزرقاني 2 / 339

(2/214)


عَلَيْهَا التَّحَلُّل بِأَمْرِهِ، وَيَمْتَنِعُ عَلَيْهَا التَّحَلُّل قَبْل أَمْرِهِ. وَتَحَلُّلُهَا كَتَحَلُّل الْمُحْصَرِ بِالذَّبْحِ ثُمَّ الْحَلْقِ، بِنِيَّةِ التَّحَلُّل فِيهِمَا. وَلاَ يَحْصُل التَّحَلُّل إِلاَّ بِمَا يَحْصُل بِهِ تَحَلُّل الْمُحْصَرِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ (1) . وَيُقَاسُ عَلَيْهِ تَحْلِيل الأَْبِ لِلاِبْنِ أَيْضًا. وَلَوْ لَمْ تَتَحَلَّل الزَّوْجَةُ بَعْدَ أَنْ أَمَرَهَا زَوْجُهَا بِالتَّحَلُّل، فَلِلزَّوْجِ أَنْ يَسْتَمْتِعَ بِهَا، وَالإِْثْمُ عَلَيْهَا (2) .

إِحْصَارُ مَنِ اشْتَرَطَ فِي إِحْرَامِهِ التَّحَلُّل إِذَا حَصَل لَهُ مَانِعٌ
مَعْنَى الاِشْتِرَاطِ وَالْخِلاَفُ فِيهِ:
44 - الاِشْتِرَاطُ فِي الإِْحْرَامِ: هُوَ أَنْ يَقُول الْمُحْرِمُ عِنْدَ الإِْحْرَامِ: " إِنِّي أُرِيدُ الْحَجَّ " مَثَلاً، أَوِ " الْعُمْرَةَ، فَإِنْ حَبَسَنِي حَابِسٌ فَمَحِلِّي حَيْثُ حَبَسْتَنِي ". وَقَدِ اخْتَلَفَتِ الْمَذَاهِبُ فِي مَشْرُوعِيَّةِ الاِشْتِرَاطِ فِي الإِْحْرَامِ، فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّ الاِشْتِرَاطَ فِي الإِْحْرَامِ غَيْرُ مَشْرُوعٍ، وَلاَ أَثَرَ لَهُ فِي إِبَاحَةِ التَّحَلُّل
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى مَشْرُوعِيَّةِ الاِشْتِرَاطِ فِي الإِْحْرَامِ، وَأَنَّ لَهُ أَثَرًا فِي التَّحَلُّل.
وَتَفْصِيلُهُ فِي مُصْطَلَحِ: (إِحْرَامٌ) .

آثَارُ الاِشْتِرَاطِ:
45 - أَمَّا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ الْمَانِعِينَ لِشَرْعِيَّةِ الاِشْتِرَاطِ فِي الإِْحْرَامِ. فَإِنَّ الاِشْتِرَاطَ فِي الإِْحْرَامِ لاَ
__________
(1) المجموع 8 / 258، 7 / 41، وشرح المنهاج للمحلي بحاشية عميرة 2 / 149 - 150، والمغني 3 / 357، والكافي 1 / 519.
(2) المرجعين السابقين

(2/214)


يُفِيدُ الْمُحْرِمَ شَيْئًا، وَلاَ يُجِيزُ لَهُ أَنْ يَتَحَلَّل إِذَا طَرَأَ لَهُ مَانِعٌ عَنِ الْمُتَابَعَةِ، مِنْ عَدُوٍّ، أَوْ مَرَضٍ، فَلاَ يَسْقُطُ عَنْهُ الْهَدْيُ الَّذِي يَتَحَلَّل بِهِ الْمُحْصَرُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ إِذَا أَرَادَ التَّحَلُّل، وَلاَ يُجْزِئُهُ عَنْ نِيَّةِ التَّحَلُّل الَّتِي بِهَا يَتَحَلَّل عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ (1) .
وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّ الاِشْتِرَاطَ فِي الإِْحْرَامِ يُفِيدُ الْمُحْرِمَ الْمُشْتَرِطَ جَوَازَ التَّحَلُّل إِذَا طَرَأَ لَهُ مَانِعٌ مِمَّا لاَ يُعْتَبَرُ سَبَبًا لِلإِْحْصَارِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ كَالْمَرَضِ وَنَفَادِ النَّفَقَةِ، وَضَلاَل الطَّرِيقِ، وَالأَْوْجَهُ فِي الْمَرَضِ أَنْ يَضْبِطَ بِمَا يَحْصُل مَعَهُ مَشَقَّةٌ لاَ تُحْتَمَل عَادَةً فِي إِتْمَامِ النُّسُكِ (2) .
ثُمَّ يُرَاعِي فِي كَيْفِيَّةِ التَّحَلُّل مَا شَرَطَهُ عِنْدَ الإِْحْرَامِ، وَفِي هَذَا يَقُول الرَّمْلِيُّ الشَّافِعِيُّ (3) : إِنْ شَرَطَهُ بِلاَ هَدْيٍ لَمْ يَلْزَمْهُ هَدْيٌ، عَمَلاً بِشَرْطِهِ. وَكَذَا لَوْ أَطْلَقَ - أَيْ لَمْ يَتَعَرَّضْ لِنَفْيِ الْهَدْيِ وَلاَ لإِِثْبَاتِهِ - لِعَدَمِ شَرْطِهِ، وَلِظَاهِرِ خَبَرِ ضُبَاعَةَ (4) . فَالتَّحَلُّل فِيهِمَا يَكُونُ بِالنِّيَّةِ فَقَطْ. وَإِنْ شَرَطَهُ بِهَدْيٍ لَزِمَهُ، عَمَلاً بِشَرْطِهِ.
وَلَوْ قَال: إِنْ مَرِضْتُ فَأَنَا حَلاَلٌ، فَمَرِضَ صَارَ حَلاَلاً بِالْمَرَضِ مِنْ غَيْرِ نِيَّةٍ وَعَلَيْهِ حَمَلُوا خَبَرَ أَبِي دَاوُدَ وَغَيْرِهِ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ: مَنْ كُسِرَ أَوْ عَرِجَ فَقَدْ حَل، وَعَلَيْهِ الْحَجُّ مِنْ قَابِلٍ. (5)
__________
(1) المسلك المتقسط ص 279، وشرح الدردير 2 / 97
(2) نهاية المحتاج 2 / 475
(3) المرجع السابق، ونحوه في مغني المحتاج 1 / 534
(4) الذي أخرجه البخاري ومسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم علمها الاشتراط فقال: " حجي واشترطي أن محلي حيث حبستني ".
(5) الحديث سبق تخريجه.

(2/215)


وَإِنْ شَرَطَ قَلْبَ حَجِّهِ عُمْرَةً بِالْمَرَضِ أَوْ نَحْوِهِ، جَازَ، كَمَا لَوْ شَرَطَ التَّحَلُّل بِهِ، بَل أَوْلَى، وَلِقَوْل عُمَرَ لأَِبِي أُمَيَّةَ سُوَيْدِ بْنِ غَفَلَةَ: حُجَّ وَاشْتَرِطْ، وَقُل: اللَّهُمَّ الْحَجَّ أَرَدْتُ وَلَهُ عَمَدْتُ، فَإِنْ تَيَسَّرَ، وَإِلاَّ فَعُمْرَةٌ رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ بِسَنَدٍ حَسَنٍ. وَلِقَوْل عَائِشَةَ لِعُرْوَةِ: هَل تَسْتَثْنِي إِذَا حَجَجْتَ؟ فَقَال: مَاذَا أَقُول؟ قَالَتْ: قُل: اللَّهُمَّ الْحَجَّ أَرَدْتُ وَلَهُ عَمَدْتُ، فَإِنْ يَسَّرْتَهُ فَهُوَ الْحَجُّ، وَإِنْ حَبَسَنِي حَابِسٌ فَهُوَ عُمْرَةٌ. رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ وَالْبَيْهَقِيُّ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عَلَى شَرْطِ الشَّيْخَيْنِ.
فَلَهُ فِي ذَلِكَ - أَيْ إِذَا شَرَطَ قَلْبَ حَجِّهِ عُمْرَةً - إِذَا وُجِدَ الْعُذْرُ أَنْ يَقْلِبَ حَجَّهُ عُمْرَةً، وَتُجْزِئُهُ عَنْ عُمْرَةِ الإِْسْلاَمِ. وَالأَْوْجَهُ أَنَّهُ لاَ يَلْزَمُهُ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ الْخُرُوجُ إِلَى أَدْنَى الْحِل وَلَوْ بِيَسِيرٍ، إِذْ يُغْتَفَرُ فِي الدَّوَامِ مَا لاَ يُغْتَفَرُ فِي الاِبْتِدَاءِ.
وَلَوْ شَرَطَ أَنْ يَنْقَلِبَ حَجُّهُ عُمْرَةً عِنْدَ الْعُذْرِ، فَوُجِدَ الْعُذْرُ، انْقَلَبَ حَجُّهُ عُمْرَةً، وَأَجْزَأَتْهُ عَنْ عُمْرَةِ الإِْسْلاَمِ، بِخِلاَفِ عُمْرَةِ التَّحَلُّل بِالإِْحْصَارِ فَإِنَّهَا لاَ تُجْزِئُ عَنْ عُمْرَةِ الإِْسْلاَمِ؛ لأَِنَّهَا فِي الْحَقِيقَةِ لَيْسَتْ عُمْرَةً، وَإِنَّمَا هِيَ أَعْمَال عُمْرَةٍ.
وَحُكْمُ التَّحَلُّل بِالْمَرَضِ وَنَحْوِهِ حُكْمُ التَّحَلُّل بِالإِْحْصَارِ. وَقَال الْحَنَابِلَةُ: يُفِيدُ الاِشْتِرَاطُ عِنْدَ الإِْحْرَامِ جَوَازَ التَّحَلُّل عَلَى نَحْوِ مَا قَالَهُ الشَّافِعِيُّ، إِلاَّ أَنَّ الْحَنَابِلَةَ تَوَسَّعُوا، فَقَالُوا: يُفِيدُ اشْتِرَاطُ التَّحَلُّل الْمُطْلَقِ شَيْئَيْنِ:
أَحَدَهُمَا: أَنَّهُ إِذَا عَاقَهُ عَائِقٌ مِنْ عَدُوٍّ، أَوْ مَرَضٍ، أَوْ ذَهَابِ نَفَقَةٍ، وَنَحْوِهِ أَنَّ لَهُ التَّحَلُّل. الثَّانِي: أَنَّهُ مَتَى حَل بِذَلِكَ فَلاَ دَمَ عَلَيْهِ وَلاَ صَوْمَ

(2/215)


أَيْ بَدَلاً عَنِ الدَّمِ - بَل يَحِل بِالْحَلْقِ عَلَيْهِ التَّحَلُّل (1) .
وَهَذَا يُوَافِقُ مَا قَالَهُ الشَّافِعِيَّةُ، إِلاَّ أَنَّ الْحَنَابِلَةَ سَوَّوْا فِي الاِشْتِرَاطِ بَيْنَ الْمَوَانِعِ الَّتِي تُعْتَبَرُ سَبَبًا لِلإِْحْصَارِ كَالْعَدُوِّ، وَبَيْنَ الْمَوَانِعِ الَّتِي لاَ تُعْتَبَرُ سَبَبًا لِلإِْحْصَارِ عِنْدَهُمْ.
أَمَّا الشَّافِعِيَّةُ فَلَمْ يُجْرُوا الاِشْتِرَاطَ فِيمَا يُعْتَبَرُ سَبَبًا لِلإِْحْصَارِ. وَمَلْحَظُهُمْ فِي ذَلِكَ أَنَّ التَّحَلُّل بِالإِْحْصَارِ جَائِزٌ بِلاَ شَرْطٍ، فَشَرْطُهُ لاَغٍ (2) . وَإِذَا كَانَ لاَغِيًا، لاَ يُؤَثِّرُ فِي سُقُوطِ الدَّمِ.

تَحَلُّل مَنْ أُحْصِرَ عَنِ الْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ دُونَ الطَّوَافِ
46 - هَذَا لاَ يُعْتَبَرُ مُحْصَرًا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، وَيُعْتَبَرُ مُحْصَرًا عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ، وَيَتَحَلَّل عِنْدَ جَمِيعِهِمْ بِعَمَل عُمْرَةٍ، عَلَى التَّفْصِيل وَالاِعْتِبَارُ الْخَاصُّ لِهَذِهِ الْعُمْرَةِ، عِنْدَ كُل مَذْهَبٍ، كَمَا سَبَقَ.
هَذَا وَإِنَّ مَنْ أُحْصِرَ عَنِ الْوُقُوفِ دُونَ الطَّوَافِ إِذَا تَحَلَّل قَبْل فَوَاتِ وَقْتِ الْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ أُجْرِيَ عَلَيْهِ حُكْمُ الْمُحْصَرِ. أَمَّا إِنْ تَأَخَّرَ فِي التَّحَلُّل حَتَّى فَاتَ الْوُقُوفُ أَصْبَحَ حُكْمُهُ حُكْمَ الْفَوَاتِ لاَ الْحَصْرِ، عَلَى مَا قَرَّرَهُ الْمَالِكِيَّةُ (3) . وَهَذَا يَنْبَغِي أَنْ يَجْرِيَ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ أَيْضًا. وَقَدْ قَرَّرَ الْحَنَابِلَةُ أَنْ يَجْرِيَ هَذَا الْحُكْمُ عِنْدَهُمْ إِذَا لَمْ يَفْسَخِ الْحَجَّ إِلَى عُمْرَةٍ حَتَّى فَاتَهُ الْحَجُّ (4) .
__________
(1) المغني 3 / 282 - 283 و 364
(2) نهاية المحتاج 2 / 475
(3) حاشية الدسوقي 2 / 96
(4) المغني 3 / 360

(2/216)


تَحَلُّل مَنْ أُحْصِرَ عَنِ الْبَيْتِ دُونَ الْوُقُوفِ
47 - مَنْ أُحْصِرَ عَنِ الْبَيْتِ دُونَ الْوُقُوفِ يُعْتَبَرُ مُحْصَرًا عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، عَلَى تَفْصِيلٍ سَبَقَ ذِكْرُهُ. وَهَذَا يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَقِفَ بِعَرَفَةَ ثُمَّ يَتَحَلَّل. وَيَحْصُل تَحَلُّلُهُ بِمَا يَتَحَلَّل بِهِ الْمُحْصَرُ، وَهُوَ الذَّبْحُ وَالْحَلْقُ بِنِيَّةِ التَّحَلُّل فِيهِمَا (1) . أَمَّا الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ فَلاَ يَكُونُ مُحْصَرًا عِنْدَهُمْ، وَعَلَيْهِ أَنْ يَأْتِيَ بِطَوَافِ الإِْفَاضَةِ، وَيَظَل مُحْرِمًا بِالنِّسْبَةِ لِلنِّسَاءِ حَتَّى يُفِيضَ.
وَكَذَا هُوَ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ إِذَا أُحْصِرَ عَنِ الْبَيْتِ بَعْدَ الرَّمْيِ، عَلَى مَا سَبَقَ بَيَانُهُ. وَكَذَا لَوْ لَمْ يَتَحَلَّل عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ. وَيُؤَدِّي طَوَافَ الإِْفَاضَةِ بِإِحْرَامِهِ الأَْوَّل؛ لأَِنَّهُ مَا دَامَ لَمْ يَتَحَلَّل التَّحَلُّل الأَْكْبَرَ فَإِحْرَامُهُ قَائِمٌ، إِذِ التَّحَلُّل يَكُونُ بِالطَّوَافِ، وَلَمْ يُوجَدِ الطَّوَافُ، فَيَكُونُ الإِْحْرَامُ قَائِمًا، وَلاَ يَحْتَاجُ إِلَى إِحْرَامٍ جَدِيدٍ (2) .

تَفْرِيعٌ عَلَى شُرُوطِ تَحَلُّل الْمُحْصَرِ:
أَجْزِيَةُ مَحْظُورَاتِ الإِْحْرَامِ قَبْل تَحَلُّل الْمُحْصَرِ:
48 - يَتَفَرَّعُ عَلَى شُرُوطِ التَّحَلُّل لِلْمُحْصَرِ أَنَّ الْمُحْصَرَ إِذَا لَمْ يَتَحَلَّل، وَوَقَعَ فِي بَعْضِ مَحْظُورَاتِ الإِْحْرَامِ، أَوْ تَحَلَّل لَكِنْ وَقَعَ قَبْل التَّحَلُّل فِي شَيْءٍ مِنْ مَحْظُورَاتِ الإِْحْرَامِ فَإِنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ مِنَ الْجَزَاءِ مَا يَجِبُ عَلَى الْمُحْرِمِ
__________
(1) نهاية المحتاج 2 / 474
(2) البدائع 2 / 133، وهذا المعنى متفق عليه، لأنهم متفقون على أنه يبقى إحرامه قائما في حق النساء حتى يطوف طواف الإفاضة.

(2/216)


غَيْرِ الْمُحْصَرِ، بِاتِّفَاقِ الْمَذَاهِبِ الأَْرْبَعَةِ (1) .
إِلاَّ أَنَّ الْحَنَابِلَةَ فِيمَا ذَهَبَ إِلَيْهِ أَكْثَرُهُمْ وَقَال الْمِرْدَاوِيُّ: إِنَّهُ الْمَذْهَبُ. قَالُوا: مَنْ كَانَ مُحْصَرًا فَنَوَى التَّحَلُّل قَبْل ذَبْحِ الْهَدْيِ - أَوِ الصَّوْمِ عِنْدَ عَدَمِ الْهَدْيِ - لَمْ يَحِل. لِفَقْدِ شَرْطِهِ، وَهُوَ الذَّبْحُ أَوِ الصَّوْمُ بِالنِّيَّةِ: أَيْ بِنِيَّةِ التَّحَلُّل، وَلَزِمَ دَمٌ لِكُل مَحْظُورٍ فَعَلَهُ بَعْدَ التَّحَلُّل، وَدَمٌ لِتَحَلُّلِهِ بِالنِّيَّةِ.
فَزَادُوا عَلَى الْجُمْهُورِ دَمًا لِتَحَلُّلِهِ بِالنِّيَّةِ، وَوَجْهُهُ عِنْدَهُمْ: أَنَّهُ عَدَل عَنِ الْوَاجِبِ عَلَيْهِ مِنْ هَدْيٍ أَوْ صَوْمٍ - أَيْ عِنْدَ عَدَمِ الْهَدْيِ - فَلَزِمَهُ دَمٌ (2) .

مَا يَجِبُ عَلَى الْمُحْصَرِ بَعْدَ التَّحَلُّل
قَضَاءُ مَا أُحْصِرَ عَنْهُ الْمُحْرِمُ

قَضَاءُ النُّسُكِ الْوَاجِبِ الَّذِي أُحْصِرَ عَنْهُ الْمُحْرِمُ:
49 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ يَجِبُ عَلَى الْمُحْصَرِ قَضَاءُ النُّسُكِ الَّذِي أُحْصِرَ عَنْهُ إِذَا كَانَ وَاجِبًا، كَحَجَّةِ الإِْسْلاَمِ، وَالْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ الْمَنْذُورَيْنِ عِنْدَ جَمِيعِهِمْ، وَكَعُمْرَةِ الإِْسْلاَمِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، وَلاَ يَسْقُطُ هَذَا الْوَاجِبُ عَنْهُ بِسَبَبِ الإِْحْصَارِ (3) .
__________
(1) البدائع 2 / 178، وشرح الدردير وحاشية الدسوقي عليه 2 / 95 والمجموع 8 / 250، والمغني 3 / 362
(2) مطالب أولي النهى 2 / 456.
(3) البدائع 2 / 182، وشرح اللباب ص 282، وشرح الدردير 2 / 95. والمجموع 8 / 248، والمغني 3 / 357

(2/217)


وَهَذَا ظَاهِرٌ؛ لأَِنَّ الْخِطَابَ بِالْوُجُوبِ لاَ يَسْقُطُ عَنِ الْمُكَلَّفِ إِلاَّ بِأَدَاءِ مَا وَجَبَ عَلَيْهِ.
لَكِنَّ الشَّافِعِيَّةَ فَصَلُوا بَيْنَ الْوَاجِبِ الْمُسْتَقِرِّ وَبَيْنَ الْوَاجِبِ غَيْرِ الْمُسْتَقِرِّ، فَقَالُوا: " إِنْ كَانَ وَاجِبًا مُسْتَقِرًّا كَالْقَضَاءِ، وَالنَّذْرِ، وَحَجَّةِ الإِْسْلاَمِ الَّتِي اسْتَقَرَّ وُجُوبُهَا قَبْل هَذِهِ السَّنَةِ بَقِيَ الْوُجُوبُ فِي ذِمَّتِهِ كَمَا كَانَ، وَإِنَّمَا أَفَادَهُ الإِْحْصَارُ جَوَازَ الْخُرُوجِ مِنْهَا، وَإِنْ كَانَ وَاجِبًا غَيْرَ مُسْتَقِرٍّ، وَهِيَ حَجَّةُ الإِْسْلاَمِ فِي السَّنَةِ الأُْولَى مِنْ سِنِي الإِْمْكَانِ سَقَطَتِ الاِسْتِطَاعَةُ فَلاَ حَجَّ عَلَيْهِ إِلاَّ أَنْ تَجْتَمِعَ فِيهِ شُرُوطُ الاِسْتِطَاعَةِ بَعْدَ ذَلِكَ. فَلَوْ تَحَلَّل بِالإِْحْصَارِ ثُمَّ زَال الإِْحْصَارُ وَالْوَقْتُ وَاسِعٌ وَأَمْكَنَهُ الْحَجُّ مِنْ سَنَتِهِ اسْتَقَرَّ الْوُجُوبُ عَلَيْهِ لِوُجُودِ الاِسْتِطَاعَةِ لَكِنْ لَهُ أَنْ يُؤَخِّرَ الْحَجَّ عَنْ هَذِهِ السَّنَةِ لأَِنَّ الْحَجَّ عَلَى التَّرَاخِي (1) ".
50 - أَمَّا مَنْ أُحْصِرَ عَنْ نُسُكِ التَّطَوُّعِ فَقَدْ ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّهُ لاَ يَجِبُ عَلَيْهِ الْقَضَاءُ، وَاسْتَدَلُّوا بِأَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ رَجَعَ عَنِ الْبَيْتِ فِي عَامِ الْحُدَيْبِيَةِ لَمْ يَأْمُرْ أَحَدًا مِنْ أَصْحَابِهِ وَلاَ مِمَّنْ كَانَ مَعَهُ أَنْ يَقْضُوا شَيْئًا وَلاَ أَنْ يَعُودُوا لِشَيْءٍ، وَلاَ حُفِظَ ذَلِكَ عَنْهُ بِوَجْهٍ مِنَ الْوُجُوهِ، وَلاَ قَال فِي الْعَامِ الْمُقْبِل: إِنَّ عُمْرَتِي هَذِهِ قَضَاءٌ عَنِ الْعُمْرَةِ الَّتِي حُصِرْتُ فِيهَا. وَلَمْ يُنْقَل ذَلِكَ عَنْهُ، وَإِنَّمَا سُمِّيَتْ عُمْرَةَ الْقَضَاءِ وَعُمْرَةَ الْقَضِيَّةِ لأَِنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَاضَى قُرَيْشًا وَصَالَحَهُمْ فِي ذَلِكَ الْعَامِ عَلَى الرُّجُوعِ عَنِ الْبَيْتِ، وَقَصْدِهِ مِنْ قَابِلٍ فَسُمِّيَتْ بِذَلِكَ عُمْرَةَ الْقَضِيَّةِ.
__________
(1) المجموع 8 / 306 ط أولى.

(2/217)


وَصَرَّحَ ابْنُ رُشْدٍ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ بِوُجُوبِ الْقَضَاءِ عَلَى الزَّوْجَةِ وَالسَّفِيهِ وَعَزَاهُ إِلَى ابْنِ الْقَاسِمِ رِوَايَةً عَنْ مَالِكٍ. وَقَال الدَّرْدِيرُ: يَجِبُ الْقَضَاءُ عَلَى الزَّوْجَةِ فَقَطْ. وَعَلَّلَهُ الدُّسُوقِيُّ بِأَنَّ الْحَجْرَ عَلَى الزَّوْجَةِ ضَعِيفٌ؛ لأَِنَّهُ لِحَقِّ غَيْرِهَا، بِخِلاَفِ الْحَجْرِ عَلَى السَّفِيهِ وَمَنْ يُشْبِهُهُ لأَِنَّهُ لِحَقِّ نَفْسِهِ. وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ يَجِبُ قَضَاءُ النَّفْل الَّذِي أُحْصِرَ عَنْهُ الْمُحْرِمُ؛ لأَِنَّ اعْتِمَارَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابِهِ فِي الْعَامِ الْمُقْبِل مِنْ عَامِ الْحُدَيْبِيَةِ إِنَّمَا كَانَ قَضَاءً لِتِلْكَ الْعُمْرَةِ، وَلِذَلِكَ قِيل لَهَا عُمْرَةُ الْقَضَاءِ. وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنِ الإِْمَامِ أَحْمَدَ. وَهِيَ رِوَايَةٌ مُقَابِلَةٌ لِلصَّحِيحِ (1) .

مَا يَلْزَمُ الْمُحْصَرَ فِي الْقَضَاءِ:
51 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ الْمُحْصَرَ عَنِ الْحَجِّ إِذَا تَحَلَّل وَقَضَى فِيمَا يُسْتَقْبَل يَجِبُ عَلَيْهِ حَجٌّ وَعُمْرَةٌ، وَالْقَارِنُ عَلَيْهِ حَجَّةٌ وَعُمْرَتَانِ. أَمَّا الْمُعْتَمِرُ فَيَقْضِي الْعُمْرَةَ فَقَطْ. وَعَلَيْهِ نِيَّةُ الْقَضَاءِ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ (2) .
وَذَهَبَ الأَْئِمَّةُ الثَّلاَثَةُ إِلَى أَنَّ النُّسُكَ الَّذِي وَجَبَ فِيهِ الْقَضَاءُ لِلتَّحَلُّل بِالإِْحْصَارِ يَلْزَمُ فِيهِ قَضَاءُ مَا فَاتَهُ بِالإِْحْصَارِ فَحَسْبُ، إِنْ حَجَّةً فَحَجَّةٌ فَقَطْ، وَإِنْ عُمْرَةً فَعُمْرَةٌ، وَهَكَذَا. وَعَلَيْهِ نِيَّةُ الْقَضَاءِ عِنْدَهُمْ أَيْضًا (3) .
__________
(1) مواهب الجليل 2 / 205، وشرح الدردير وحاشية الدسوقي 2 / 97 - 98، والمجموع 8 / 265، والجامع لأحكام القرآن 2 / 534، والمغني 3 / 357
(2) الهداية 2 / 299، وشرح الكنز للزيلعي 2 / 79 - 80
(3) المهذب مع المجموع 8 / 244، والمغني 3 / 357

(2/218)


اسْتَدَل الْحَنَفِيَّةُ بِمَا رُوِيَ عَنْ بَعْضِ الصَّحَابَةِ كَابْنِ مَسْعُودٍ وَابْنِ عَبَّاسٍ، فَإِنَّهُمَا قَالاَ فِي الْمُحْصَرِ بِالْحَجِّ: " عَلَيْهِ عُمْرَةٌ وَحَجَّةٌ (1) " وَذَلِكَ لاَ يَكُونُ إِلاَّ عَنْ تَوْقِيفٍ.
وَتَابَعَهُمَا فِي ذَلِكَ عَلْقَمَةُ، وَالْحَسَنُ، وَإِبْرَاهِيمُ، وَسَالِمٌ، وَالْقَاسِمُ، وَمُحَمَّدُ بْنُ سِيرِينَ (2) .
وَاسْتَدَل الْجُمْهُورُ بِحَدِيثِ: مَنْ كُسِرَ أَوْ عَرِجَ فَقَدْ حَل، وَعَلَيْهِ الْحَجُّ مِنْ قَابِلٍ. (3) وَجْهُ الاِسْتِدْلاَل بِهِ أَنَّهُ لَمْ يَذْكُرِ الْعُمْرَةَ، وَلَوْ كَانَتْ وَاجِبَةً مَعَ الْحَجِّ لَذَكَرَهَا.

مَوَانِعُ الْمُتَابَعَةِ بَعْدَ الْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ:
52 - مَوَانِعُ الْمُتَابَعَةِ بَعْدَ الْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ لَهَا حَالاَنِ:
الْحَال الأُْولَى: أَنْ تَمْنَعَ مِنَ الإِْفَاضَةِ وَمَا بَعْدَهَا. الْحَال الثَّانِيَةُ: أَنْ تَمْنَعَ مِمَّا بَعْدَ طَوَافِ الإِْفَاضَةِ. سَبَقَ الْبَحْثُ فِيمَنْ مُنِعَ مِنْ طَوَافِ الإِْفَاضَةِ، هَل يَكُونُ مُحْصَرًا أَوْ لاَ، مَعَ بَيَانِ الْخِلاَفِ فِي ذَلِكَ.
أَمَّا عَلَى الْقَوْل بِأَنَّهُ يَتَحَقَّقُ فِيهِ الإِْحْصَارُ إِذَا اسْتَوْفَى الْمَانِعُ شُرُوطَ الإِْحْصَارِ فَحُكْمُ تَحَلُّلِهِ حُكْمُ تَحَلُّل الْمُحْصَرِ، بِكُل التَّفَاصِيل الَّتِي سَبَقَتْ. وَأَمَّا عَلَى الْقَوْل بِأَنَّهُ لاَ يَتَحَقَّقُ فِيهِ الإِْحْصَارُ فَإِنَّهُ يَظَل مُحْرِمًا حَتَّى يُؤَدِّيَ طَوَافَ الإِْفَاضَةِ، وَهُوَ مَذْهَبُ
__________
(1) أحكام القرآن لأبي بكر الرازي 1 / 326، والبدائع 2 / 182، وفيه: " ابن مسعود وابن عمر ". وفي الهداية " ابن عباس وابن عمر ". قال في نصب الراية 3 / 144: " ذكره أبو بكر الرازي عن ابن عباس وابن مسعود لا غير "، ولم يخرجه في نصب الراية من مراجع السنة.
(2) أحكام القرآن المرجع السابق.
(3) سبق تخريجه (في فترة 9)

(2/218)


الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ. وَعَلَيْهِ جَزَاءُ مَا فَاتَهُ مِنْ وَاجِبَاتٍ، كَمَا سَيَأْتِي.

مَوَانِعُ الْمُتَابَعَةِ بَعْدَ طَوَافِ الإِْفَاضَةِ:
53 - اتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّ الْحَاجَّ إِذَا مُنِعَ عَنِ الْمُتَابَعَةِ بَعْدَ أَدَاءِ الْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ وَطَوَافِ الإِْفَاضَةِ فَلَيْسَ بِمُحْصَرٍ، أَيًّا كَانَ الْمَانِعُ عَدُوًّا أَوْ مَرَضًا أَوْ غَيْرَهُمَا وَلَيْسَ لَهُ التَّحَلُّل بِهَذَا الإِْحْصَارِ؛ لأَِنَّ صِحَّةَ الْحَجِّ لاَ تَقِفُ عَلَى مَا بَعْدَ الْوُقُوفِ وَالطَّوَافِ، وَيَجِبُ عَلَيْهِ فِدَاءُ تَرْكِ مَا تَرَكَهُ مِنْ أَعْمَال الْحَجِّ.

فُرُوعٌ:
وَيَتَفَرَّعُ عَلَى هَذَيْنِ الأَْصْلَيْنِ فُرُوعٌ فِي الْمَذَاهِبِ الْفِقْهِيَّةِ هِيَ.
54 - قَال الْحَنَفِيَّةُ: لَوْ وَقَفَ بِعَرَفَةَ، ثُمَّ عَرَضَ لَهُ مَانِعٌ لاَ يَكُونُ مُحْصَرًا شَرْعًا كَمَا تَقَدَّمَ، وَيَبْقَى مُحْرِمًا فِي حَقِّ كُل شَيْءٍ مِنْ مَحْظُورَاتِ الإِْحْرَامِ إِنْ لَمْ يَحْلِقْ، وَإِنْ حَلَقَ فَهُوَ مُحْرِمٌ فِي حَقِّ النِّسَاءِ لاَ غَيْرُ إِلَى أَنْ يَطُوفَ لِلزِّيَارَةِ.
وَإِنْ مُنِعَ عَنْ بَقِيَّةِ أَفْعَال حَجِّهِ بَعْدَ وُقُوفِهِ حَتَّى مَضَتْ أَيَّامُ النَّحْرِ فَعَلَيْهِ أَرْبَعَةُ دِمَاءٍ مُجْتَمِعَةٌ، لِتَرْكِ الْوُقُوفِ بِمُزْدَلِفَةَ، وَالرَّمْيِ، وَتَأْخِيرِ الطَّوَافِ، وَتَأْخِيرِ الْحَلْقِ. وَعَلَيْهِ دَمٌ خَامِسٌ لَوْ حَلَقَ فِي الْحِل، بِنَاءً عَلَى الْقَوْل بِوُجُوبِهِ فِي الْحَرَمِ، وَسَادِسٌ لَوْ كَانَ قَارِنًا أَوْ مُتَمَتِّعًا لِفَوَاتِ التَّرْتِيبِ، وَعَلَيْهِ أَنْ يَطُوفَ لِلزِّيَارَةِ وَلَوْ إِلَى آخِرِ عُمُرِهِ، وَيَطُوفَ لِلصَّدْرِ إِنْ خَلَّى بِمَكَّةَ وَكَانَ آفَاقِيًّا (1) .
__________
(1) شرح اللباب 275 - 276، وانظر البدائع 2 / 176، وشرح لعناية 2 / 302.

(2/219)


وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: لاَ يَحِل إِلاَّ بِطَوَافِ الإِْفَاضَةِ إِذَا كَانَ قَدَّمَ السَّعْيَ قَبْل الْوُقُوفِ ثُمَّ حُصِرَ بَعْدَ ذَلِكَ. وَأَمَّا إِنْ كَانَ حُصِرَ قَبْل سَعْيِهِ فَلاَ يَحِل إِلاَّ بِالإِْفَاضَةِ وَالسَّعْيِ.
وَعَلَيْهِ هَدْيٌ وَاحِدٌ لِلرَّمْيِ وَمَبِيتُ لَيَالِي مِنًى وَنُزُول مُزْدَلِفَةَ إِذَا تَرَكَهَا لِلْحَصْرِ عَنْهَا، كَمَا لَوْ تَرَكَهَا بِنِسْيَانِهَا جَمِيعَهَا، فَإِنَّهُ يَكُونُ عَلَيْهِ هَدْيٌ وَاحِدٌ (1) . " وَكَأَنَّهُمْ لاَحَظُوا أَنَّ الْمُوجِبَ وَاحِدٌ، لاَ سِيَّمَا وَهُوَ مَعْذُورٌ (2) ".
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: إِنْ كَانَ الإِْحْصَارُ بَعْدَ الْوُقُوفِ، فَإِنْ تَحَلَّل فَذَاكَ، وَإِنْ لَمْ يَتَحَلَّل حَتَّى فَاتَهُ الرَّمْيُ وَالْمَبِيتُ بِمِنًى فَهُوَ فِيمَا يَرْجِعُ إِلَى وُجُوبِ الدَّمِ لِفَوَاتِهِمَا كَغَيْرِ الْمُحْصَرِ.
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: إِنْ أُحْصِرَ عَنِ الْبَيْتِ بَعْدَ الْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ فَلَهُ التَّحَلُّل؛ لأَِنَّ الْحَصْرَ يُفِيدُهُ التَّحَلُّل مِنْ جَمِيعِهِ فَأَفَادَ التَّحَلُّل مِنْ بَعْضِهِ.
وَإِنْ كَانَ مَا حُصِرَ عَنْهُ لَيْسَ مِنْ أَرْكَانِ الْحَجِّ كَالرَّمْيِ، وَطَوَافِ الْوَدَاعِ، وَالْمَبِيتِ بِمُزْدَلِفَةَ، أَوْ بِمِنًى فِي لَيَالِيهَا فَلَيْسَ لَهُ تَحَلُّل الإِْحْصَارِ؛ لأَِنَّ صِحَّةَ الْحَجِّ لاَ تَقِفُ عَلَى ذَلِكَ، وَيَكُونُ عَلَيْهِ دَمٌ لِتَرْكِهِ ذَلِكَ، وَحَجُّهُ صَحِيحٌ، كَمَا لَوْ تَرَكَهُ مِنْ غَيْرِ حَصْرٍ.

زَوَال الإِْحْصَارِ:
55 - اخْتَلَفَتِ الْمَذَاهِبُ فِي الآْثَارِ الْمُتَرَتِّبَةِ عَلَى زَوَال الإِْحْصَارِ، فَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ تَأْتِي الأَْحْوَال الآْتِيَةُ. الْحَالَةُ الأُْولَى: أَنْ يَزُول الإِْحْصَارُ قَبْل بَعْثِ
__________
(1) شرح الدردير 2 / 95، وانظر مواهب الجليل 3 / 199 - 200
(2) مواهب الجيل 2 / 199

(2/219)


الْهَدْيِ مَعَ إِمْكَانِ إِدْرَاكِ الْحَجِّ.
وَالْحَالَةُ الثَّانِيَةُ: أَنْ يَزُول الإِْحْصَارُ بَعْدَ بَعْثِ الْهَدْيِ، وَهُنَاكَ مُتَّسَعٌ لإِِدْرَاكِ الْهَدْيِ وَالْحَجِّ جَمِيعًا. فَفِي هَاتَيْنِ الْحَالَتَيْنِ يَجِبُ عَلَيْهِ الْمُضِيُّ فِي مُوجِبِ إِحْرَامِهِ وَأَدَاءِ النُّسُكِ الَّذِي أَحْرَمَ بِهِ.
الْحَالَةُ الثَّالِثَةُ: أَنْ لاَ يَقْدِرَ عَلَى بَعْثِ الْهَدْيِ وَلاَ الْحَجِّ مَعًا. فَلاَ يَلْزَمُهُ الْمُضِيُّ، وَيَجُوزُ لَهُ التَّحَلُّل، لِعَدَمِ الْفَائِدَةِ مِنَ الْمُضِيِّ، فَتَقَرَّرَ الإِْحْصَارُ، فَيَتَقَرَّرُ حُكْمُهُ. فَيَصْبِرُ حَتَّى يَتَحَلَّل بِنَحْرِ الْهَدْيِ فِي الْوَقْتِ الَّذِي وَاعَدَ عَلَيْهِ.
وَلَهُ أَنْ يَتَوَجَّهَ لِيَتَحَلَّل بِأَفْعَال الْعُمْرَةِ؛ لأَِنَّهُ فَائِتُ الْحَجِّ. فَإِذَا تَحَلَّل يَلْزَمُهُ فِي الْقَضَاءِ أَدَاءُ عُمْرَةٍ إِضَافَةً لِمَا فَاتَهُ، لِمَا سَبَقَ.
الْحَالَةُ الرَّابِعَةُ: أَنْ يَقْدِرَ عَلَى إِدْرَاكِ الْهَدْيِ وَلاَ يَقْدِرَ عَلَى إِدْرَاكِ الْحَجِّ. فَلاَ يَلْزَمُهُ الْمُضِيُّ فِي أَدَاءِ الْحَجِّ أَيْضًا؛ لِعَدَمِ الْفَائِدَةِ فِي إِدْرَاكِ الْهَدْيِ بِدُونِ إِدْرَاكِ الْحَجِّ، إِذِ الذَّهَابُ لأَِجْل إِدْرَاكِ الْحَجِّ، فَإِذَا كَانَ لاَ يُدْرِكُهُ فَلاَ فَائِدَةَ فِي الذَّهَابِ، فَكَانَتْ قُدْرَتُهُ عَلَى إِدْرَاكِ الْهَدْيِ وَعَدَمُهَا بِمَنْزِلَةٍ وَاحِدَةٍ.
الْحَالَةُ الْخَامِسَةُ: أَنْ يَقْدِرَ عَلَى إِدْرَاكِ الْحَجِّ وَلاَ يَقْدِرَ عَلَى إِدْرَاكِ الْهَدْيِ (1) :
قِيَاسُ مَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ فِي هَذَا الْوَجْهِ أَنْ يَلْزَمَهُ
__________
(1) وقد قيل: إن هذا الوجه إنما يتصور على مذهب أبي حنيفة، لأن دم الإحصار عنده لا يتوقت بأيام النحر، بل يجور قبلها، فيتصور إدراك الحج دون إدراك الهدي " فأما على مذهب أبي يوسف ومحمد فلا يتصور هذا الوجه إلا في المحصر عن العمرة لأن الإحصار عنها لا يتوقت بأيام النحر بلا خلاف، بدائع الصنائع 2 / 183

(2/220)


الْمُضِيُّ، وَلاَ يَجُوزُ لَهُ التَّحَلُّل؛ لأَِنَّهُ إِذَا قَدَرَ عَلَى إِدْرَاكِ الْحَجِّ لَمْ يَعْجِزْ عَنِ الْمُضِيِّ فِي الْحَجِّ، فَلَمْ يُوجَدْ عُذْرُ الإِْحْصَارِ، فَلاَ يَجُوزُ لَهُ التَّحَلُّل، وَيَلْزَمُهُ الْمُضِيُّ (1) .
وَوَجْهُ الاِسْتِحْسَانِ أَنَّا لَوْ أَلْزَمْنَاهُ التَّوَجُّهَ لَضَاعَ مَالُهُ؛ لأَِنَّ الْمَبْعُوثَ عَلَى يَدَيْهِ الْهَدْيُ يَذْبَحُهُ وَلاَ حَصَل مَقْصُودُهُ. وَالأَْوْلَى فِي تَوْجِيهِ الاِسْتِحْسَانِ أَنْ نَقُول: يَجُوزُ لَهُ التَّحَلُّل؛ لأَِنَّهُ إِذَا كَانَ لاَ يَقْدِرُ عَلَى إِدْرَاكِ الْهَدْيِ صَارَ كَأَنَّ الإِْحْصَارَ زَال عَنْهُ بِالذَّبْحِ، فَيَحِل بِالذَّبْحِ عَنْهُ؛ وَلأَِنَّ الْهَدْيَ قَدْ مَضَى فِي سَبِيلِهِ، بِدَلِيل أَنَّهُ لاَ يَجِبُ الضَّمَانُ بِالذَّبْحِ عَلَى مَنْ بَعَثَ عَلَى يَدِهِ بَدَنَةً، فَصَارَ كَأَنَّهُ قَدَرَ عَلَى الذَّهَابِ بَعْدَ مَا ذَبَحَ عَنْهُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَأَمَّا الْمَالِكِيَّةُ فَقَالُوا (2) .
أ - مَنْ أُحْصِرَ فَلَمَّا قَارَبَ أَنْ يَحِل انْكَشَفَ الْعَدُوُّ قَبْل أَنْ يَحْلِقَ وَيَنْحَرَ فَلَهُ أَنْ يَحِل وَيَحْلِقَ، كَمَا لَوْ كَانَ الْعَدُوُّ قَائِمًا إِذَا فَاتَهُ الْحَجُّ فِي عَامِهِ، وَهُوَ أَيْضًا عَلَى بُعْدٍ مِنْ مَكَّةَ.
ب - إِنِ انْكَشَفَ الْحَصْرُ وَكَانَ فِي الإِْمْكَانِ إِدْرَاكُ الْحَجِّ فِي عَامِهِ فَلاَ يَحِل.
ج - وَأَمَّا إِنِ انْكَشَفَ الْحَصْرُ وَقَدْ ضَاقَ الْوَقْتُ عَنْ إِدْرَاكِ الْحَجِّ إِلاَّ أَنَّهُ بِقُرْبِ مَكَّةَ لَمْ يَحِل إِلاَّ بِعَمَل عُمْرَةٍ؛ لأَِنَّهُ قَادِرٌ عَلَى الطَّوَافِ وَالسَّعْيِ مِنْ غَيْرِ كَبِيرِ مَضَرَّةٍ.
وَأَمَّا الشَّافِعِيَّةُ فَقَالُوا (3) :
أ - إِنْ زَال الإِْحْصَارُ وَكَانَ الْوَقْتُ وَاسِعًا بِحَيْثُ يُمْكِنُهُ تَجْدِيدُ الإِْحْرَامِ وَإِدْرَاكُ الْحَجِّ، وَكَانَ حَجُّهُ
__________
(1) بدائع الصنائع 2 / 183
(2) على ما يؤخذ من مواهب الجليل 3 / 197
(3) المجموع 8 / 241

(2/220)


تَطَوُّعًا، فَلاَ يَجِبُ عَلَيْهِ شَيْءٌ.
ب - وَإِنْ كَانَ الْوَقْتُ وَاسِعًا وَكَانَتِ الْحَجَّةُ قَدْ تَقَدَّمَ وُجُوبُهَا بَقِيَ وُجُوبُهَا كَمَا كَانَ. وَالأَْوْلَى أَنْ يُحْرِمَ بِهَا فِي هَذِهِ السَّنَةِ، وَلَهُ التَّأْخِيرُ.
ج - وَإِنْ كَانَتِ الْحَجَّةُ حَجَّةَ الإِْسْلاَمِ وَجَبَتْ هَذِهِ السَّنَةَ بِأَنِ اسْتَطَاعَ هَذِهِ السَّنَةَ دُونَ مَا قَبْلَهَا فَقَدِ اسْتَقَرَّ الْوُجُوبُ فِي ذِمَّتِهِ لِتَمَكُّنِهِ، وَالأَْوْلَى أَنْ يُحْرِمَ بِهَا فِي هَذِهِ السَّنَةِ، وَلَهُ التَّأْخِيرُ؛ لأَِنَّ الْحَجَّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ عَلَى التَّرَاخِي. انْظُرْ مُصْطَلَحَ (حَجٌّ) .
د - وَإِنْ كَانَ الْوَقْتُ ضَيِّقًا بِحَيْثُ لاَ يُمْكِنُهُ إِدْرَاكُ الْحَجِّ، أَيْ وَلَمْ يَسْتَقِرَّ الْوُجُوبُ فِي ذِمَّتِهِ لِكَوْنِهَا وَجَبَتْ هَذِهِ السَّنَةَ - سَقَطَ عَنْهُ الْوُجُوبُ فِي هَذِهِ السَّنَةِ، فَإِنِ اسْتَطَاعَ بَعْدَهُ لَزِمَهُ، وَإِلاَّ فَلاَ.
وَأَمَّا الْحَنَابِلَةُ فَقَالُوا (1) :
أ - إِنْ لَمْ يَحِل الْمُحْصَرُ حَتَّى زَال الْحَصْرُ لَمْ يَجُزْ لَهُ التَّحَلُّل؛ لأَِنَّهُ زَال الْعُذْرُ.
ب - إِنْ زَال الْعُذْرُ بَعْدَ الْفَوَاتِ تَحَلَّل بِعُمْرَةٍ، وَعَلَيْهِ هَدْيٌ لِلْفَوَاتِ، لاَ لِلْحَصْرِ؛ لأَِنَّهُ لَمْ يَحِل بِالْحَصْرِ.
ج - إِنْ فَاتَهُ الْحَجُّ مَعَ بَقَاءِ الْحَصْرِ فَلَهُ التَّحَلُّل بِهِ؛ لأَِنَّهُ إِذَا حَل بِالْحَصْرِ قَبْل الْفَوَاتِ فَمَعَهُ أَوْلَى، وَعَلَيْهِ الْهَدْيُ لِلْحِل، وَيُحْتَمَل أَنْ يَلْزَمَهُ هَدْيٌ آخَرُ لِلْفَوَاتِ.
د - إِنْ حَل بِالإِْحْصَارِ ثُمَّ زَال الإِْحْصَارُ وَأَمْكَنَهُ الْحَجُّ مِنْ عَامِهِ لَزِمَهُ ذَلِكَ إِنْ قُلْنَا بِوُجُوبِ الْقَضَاءِ (2) أَوْ
__________
(1) الكافي 1 / 627، والمغني 3 / 360
(2) انظر ما سبق في فقرة (50) أن عند الحنبلية قولا بوجوب قضاء النسك النفل الذي أحصر عنه المحرم كالحنفية.

(2/221)


كَانَتِ الْحَجَّةُ وَاجِبَةً لأَِنَّ الْحَجَّ عَلَى الْفَوْرِ، وَإِنْ لَمْ نَقُل بِوُجُوبِ الْقَضَاءِ وَلَمْ تَكُنِ الْحَجَّةُ وَاجِبَةً فَلاَ يَجِبُ شَيْءٌ.

زَوَال الإِْحْصَارِ بِالْعُمْرَةِ:
56 - مَعْلُومٌ أَنَّ وَقْتَ الْعُمْرَةِ جَمِيعُ الْعُمْرِ، فَلاَ يَتَأَتَّى فِيهَا كُل الْحَالاَتِ الَّتِي ذُكِرَتْ فِي زَوَال الإِْحْصَارِ بِالْحَجِّ. وَيَتَأَتَّى فِيهَا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ الأَْحْوَال التَّالِيَةُ (1) :
الْحَال الأُْولَى: أَنْ يَزُول الإِْحْصَارُ قَبْل الْبَعْثِ بِالْهَدْيِ. وَهَذَا يَلْزَمُهُ التَّوَجُّهُ لأَِدَاءِ الْعُمْرَةِ وَوَجْهُهُ ظَاهِرٌ وَقَدْ تَقَدَّمَ. الْحَال الثَّانِيَةُ: أَنْ يَتَمَكَّنَ بَعْدَ زَوَال الإِْحْصَارِ مِنْ إِدْرَاكِ الْهَدْيِ وَالْعُمْرَةِ، وَهَذَا يَلْزَمُهُ التَّوَجُّهُ لأَِدَاءِ الْعُمْرَةِ أَيْضًا كَمَا تَقَدَّمَ. الْحَال الثَّالِثَةُ: أَنْ يَتَمَكَّنَ مِنْ إِدْرَاكِ الْعُمْرَةِ فَقَطْ دُونَ الْهَدْيِ.
وَهَذِهِ حُكْمُهَا فِي الاِسْتِحْسَانِ أَلاَّ يَلْزَمَهُ التَّوَجُّهُ، وَفِي الْقِيَاسِ أَنْ يَلْزَمَهُ التَّوَجُّهُ (2) .
وَأَمَّا الْمَالِكِيَّةُ فَقَالُوا (3) :
أ - إِنِ انْكَشَفَ الْعَدُوُّ عَنِ الْمُحْصَرِ بِالْعُمْرَةِ وَكَانَ بَعِيدًا مِنْ مَكَّةَ وَبَلَغَ أَنْ يَحِل فَلَهُ أَنْ يَحِل.
ب - وَإِنِ انْكَشَفَ الْعَدُوُّ وَكَانَ قَرِيبًا مِنْ مَكَّةَ " يَنْبَغِي أَلاَّ يَتَحَلَّل، لأَِنَّهُ قَادِرٌ عَلَى فِعْل الْعُمْرَةِ، كَمَا
__________
(1) المسلك المتقسط 281 - 282، ورد المحتار 2 / 322 مع التصرف بالتفصيل والتوجيه.
(2) غير أن تحقق هذه الحال متفق عليه بين أئمة الحنفية.
(3) مواهب الجليل 3 / 197

(2/221)


لَوِ انْكَشَفَ الْعَدُوُّ فِي الْحَجِّ وَالْوَقْتُ مُتَّسِعٌ ".
أَمَّا الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ فَعِنْدَهُمْ:
أ - إِنِ انْصَرَفَ الْعَدُوُّ قَبْل تَحَلُّل الْمُحْصَرِ بِالْعُمْرَةِ لَمْ يَجُزْ لَهُ التَّحَلُّل، وَوَجَبَ عَلَيْهِ أَدَاءُ الْعُمْرَةِ.
ب - إِنِ انْصَرَفَ الْعَدُوُّ بَعْدَ التَّحَلُّل وَكَانَتِ الْعُمْرَةُ الَّتِي تَحَلَّل عَنْهَا وَاجِبَةً، وَجَبَ عَلَيْهِ قَضَاؤُهَا، لَكِنَّهُ لاَ يُلْزَمُ بِهِ فِي وَقْتٍ مُعَيَّنٍ؛ لأَِنَّ الْعُمْرَةَ غَيْرُ مُؤَقَّتَةٍ.
ج - إِنْ زَال الْحَصْرُ بَعْدَ التَّحَلُّل وَكَانَتِ الْعُمْرَةُ تَطَوُّعًا فَعَلَى الْقَوْل بِعَدَمِ وُجُوبِ قَضَاءِ التَّطَوُّعِ لاَ شَيْءَ عَلَيْهِ.

تَفْرِيعٌ عَلَى التَّحَلُّل وَزَوَال الإِْحْصَارِ:
أ - (فَرْعٌ) فِي تَحَلُّل الْمُحْصَرِ مِنَ الإِْحْرَامِ الْفَاسِدِ ثُمَّ زَوَال إِحْصَارِهِ:
57 - يَتَفَرَّعُ عَلَى تَحَلُّل الْمُحْصَرِ مِنَ الإِْحْرَامِ الْفَاسِدِ ثُمَّ زَوَال إِحْصَارِهِ: أَنَّهُ إِذَا تَحَلَّل الْمُحْصَرُ مِنَ الإِْحْرَامِ الْفَاسِدِ، ثُمَّ زَال الإِْحْصَارُ وَفِي الْوَقْتِ مُتَّسَعٌ، فَإِنَّهُ يَقْضِي الْحَجَّ الْفَاسِدَ مِنْ سَنَتِهِ، وَيَلْزَمُهُ ذَلِكَ بِنَاءً عَلَى مَنْ ذَهَبَ إِلَى أَنَّ الْقَضَاءَ عَلَى الْفَوْرِ. وَهَذِهِ لَطِيفَةٌ: أَنْ يَتَمَكَّنَ مِنْ قَضَاءِ الْحَجِّ الْفَاسِدِ فِي سَنَةِ الإِْفْسَادِ نَفْسِهَا، وَلاَ يُمْكِنُ أَنْ يَتَحَقَّقَ ذَلِكَ إِلاَّ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ. وَهَذَا مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ (1) .

ب - (فَرْعٌ) فِي الإِْحْصَارِ بَعْدَ الإِْحْصَارِ:
58 - إِنْ بَعَثَ الْمُحْصَرُ بِالْهَدْيِ إِلَى الْحَرَمِ ثُمَّ زَال إِحْصَارُهُ، وَحَدَثَ إِحْصَارٌ آخَرُ، فَإِنْ عَلِمَ الْمُحْصَرُ أَنَّهُ يُدْرِكُ الْهَدْيَ حَيًّا، وَنَوَى بِهِ التَّحَلُّل مِنْ إِحْصَارِهِ
__________
(1) المجموع 8 / 249 - 250، والمغني 3 / 360 - 361

(2/222)


الثَّانِي بَعْدَ تَصَوُّرِ إِدْرَاكِهِ جَازَ وَحَل بِهِ، إِنْ صَحَّتْ شُرُوطُهُ، وَإِنْ لَمْ يَنْوِ لَمْ يَجُزْ أَصْلاً (1) . وَهَذَا بِنَاءً عَلَى مَذْهَبِ الْحَنَفِيَّةِ بِوُجُوبِ بَعْثِ الْمُحْصَرِ هَدْيَهُ إِلَى الْحَرَمِ، أَمَّا عِنْدَ غَيْرِهِمْ فَهُوَ إِحْصَارٌ قَبْل التَّحَلُّل، يَتَحَلَّل مِنْهُ بِمَا يَتَحَلَّل مِنَ الإِْحْصَارِ السَّابِقِ وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.