الموسوعة
الفقهية الكويتية
إِفْطَارٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الإِْفْطَارُ لُغَةً: مَصْدَرُ أَفْطَرَ: يُقَال: أَفْطَرَ الصَّائِمُ:
دَخَل فِي وَقْتِ الْفِطْرِ وَكَانَ لَهُ أَنْ يُفْطِرَ، وَمِنْ ذَلِكَ
حَدِيثُ: {إِذَا أَقْبَل اللَّيْل مِنْ هَاهُنَا، وَأَدْبَرَ النَّهَارُ
مِنْ هَاهُنَا، وَغَرَبَتِ الشَّمْسُ، فَقَدْ أَفْطَرَ الصَّائِمُ} (1) .
وَالإِْفْطَارُ فِي الاِصْطِلاَحِ لاَ يَخْرُجُ عَنْ هَذَا الْمَعْنَى (2)
.
الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ:
2 - الأَْصْل فِي الإِْفْطَارِ بِالنِّسْبَةِ لِمَنْ وَجَبَ عَلَيْهِ
الصَّوْمُ الْحُرْمَةُ، إِذِ الصَّوْمُ مَعْنَاهُ الإِْمْسَاكُ عَنْ كُل
مَا يُفْطِرُ. أَمَّا بِالنِّسْبَةِ لِصَوْمِ رَمَضَانَ فَظَاهِرٌ،
وَأَمَّا بِالنِّسْبَةِ لِلصَّوْمِ الْوَاجِبِ بِالنَّذْرِ فَكَذَلِكَ،
لأَِنَّهُ يُسْلَكُ بِالنَّذْرِ مَسْلَكَ الْوَاجِبِ بِالشَّرْعِ. وَقَدْ
يَعْرِضُ لَهُ الْوُجُوبُ، لِوُجُودِ مَانِعٍ مِنَ الصَّوْمِ، سَوَاءٌ
أَكَانَ الْمَانِعُ مِنْ نَاحِيَةِ الشَّخْصِ، كَالْمَرَضِ، الْمُؤَدِّي
لِلْهَلاَكِ، وَكَالْحَائِضِ وَالنُّفَسَاءِ، أَمْ كَانَ الْمَانِعُ مِنْ
نَاحِيَةِ الأَْيَّامِ الَّتِي نُهِيَ عَنِ الصِّيَامِ فِيهَا
__________
(1) حديث: " إذا أقبل الليل من هاهنا، وأدبر النهار من هاهنا. . . ". أخرجه
البخاري من حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه مرفوعا. (فتح الباري 4 / 196 ط
السلفية) .
(2) المصباح المنير ولسان العرب والمغرب مادة (فطر) .
(5/298)
كَيَوْمَيِ الْعِيدِ.
3 - وَقَدْ يَكُونُ الْفِطْرُ مَكْرُوهًا، كَالْمُسَافِرِ الَّذِي
تَحَقَّقَتْ لَهُ شَرَائِطُ السَّفَرِ، فَإِنَّهُ يَجُوزُ لَهُ الْفِطْرُ
مَعَ الْكَرَاهَةِ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ، إِذِ الصَّوْمُ أَفْضَل
لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ} (1) .
وَكَإِفْطَارِ مَنْ شَرَعَ فِي صَوْمِ النَّفْل إِنْ كَانَ بِغَيْرِ
عُذْرٍ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلاَ تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ} (2) .
وَلِلْخُرُوجِ مِنْ خِلاَفِ مَنْ أَوْجَبَ إِتْمَامَهُ.
4 - وَقَدْ يَكُونُ مَنْدُوبًا:
كَمَا لَوْ كَانَ هُنَاكَ عُذْرٌ، كَمُسَاعَدَةِ ضَيْفٍ فِي الأَْكْل إِذَا
عَزَّ عَلَيْهِ امْتِنَاعُ مُضِيفِهِ مِنْهُ أَوْ عَكْسِهِ، فَلاَ يُكْرَهُ
الإِْفْطَارُ بَل يُسْتَحَبُّ، لِحَدِيثِ {وَإِنَّ لِزَوْرِكَ عَلَيْكَ
حَقًّا} (3) وَحَدِيثِ: {مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ
الآْخِرِ فَلْيُكْرِمْ ضَيْفَهُ} (4) . أَمَّا إِذَا لَمْ يَعِزُّ عَلَى
أَحَدِهِمَا امْتِنَاعُ الآْخَرِ عَنْ ذَلِكَ، فَالأَْفْضَل عَدَمُ
خُرُوجِهِ مِنْهُ.
5 - وَقَدْ يَكُونُ مُبَاحًا:
كَالْمَرِيضِ الَّذِي لاَ يَخْشَى الْهَلاَكَ، وَلَكِنَّهُ يَخْشَى
زِيَادَةَ الْمَرَضِ، وَكَالْحَامِل الَّتِي تَخَافُ ضَرَرًا يَسِيرًا
عَلَى حَمْلِهَا أَوْ نَفْسِهَا.
__________
(1) سورة البقرة / 184.
(2) سورة محمد / 33.
(3) حديث: " وإن لزورك عليك حقا. . . " أخرجه البخاري من حديث عبد الله بن
عمرو بن العاص رضي الله عنهما مرفوعا. (فتح الباري 4 / 217، 218 ط السلفية)
.
(4) حديث: " من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه. . ". أخرجه مسلم
من حديث أبي شريح الخزاعي رضي الله عنه مرفوعا. (صحيح مسلم 1 / 69 ط عيسى
الحلبي) .
(5/298)
وَمِنَ الْمُبَاحِ عِنْدَ الْجُمْهُورِ
الصِّيَامُ فِي السَّفَرِ عَلَى خِلاَفِ الأَْفْضَلِيَّةِ بِنَاءً عَلَى
اعْتِبَارِهِ رُخْصَةً أَوْ عَزِيمَةً (1) .
أَثَرُ الإِْفْطَارِ:
أ - فِي قَطْعِ الصَّوْمِ الْمُتَتَابِعِ:
6 - مَنْ أَفْطَرَ بِغَيْرِ عُذْرٍ فِي نَهَارِ صَوْمٍ وَاجِبٍ يَجِبُ
فِيهِ التَّتَابُعُ، كَصَوْمٍ عَنْ كَفَّارَةِ ظِهَارٍ أَوْ قَتْلٍ،
انْقَطَعَ تَتَابُعُهُ وَوَجَبَ اسْتِئْنَافُهُ، فَإِنْ كَانَ لِعُذْرٍ
فَلاَ يَنْقَطِعُ تَتَابُعُهُ وَيَبْنِي عَلَى مَا سَبَقَ (2) . وَهَذَا
فِي الْجُمْلَةِ. وَلِلْفُقَهَاءِ تَفْصِيلٌ فِيمَا يُعْتَبَرُ عُذْرًا لاَ
يَقْطَعُ التَّتَابُعَ وَمَا لاَ يُعْتَبَرُ (ر: صَوْمٌ - كَفَّارَةٌ) .
ب - فِي تَرَتُّبِ الْقَضَاءِ وَغَيْرِهِ:
7 - يَجِبُ الْقَضَاءُ عَلَى مَنْ أَفْطَرَ فِي صِيَامٍ وَاجِبٍ وَهَذَا
بِاتِّفَاقٍ. وَفِي صِيَامِ التَّطَوُّعِ خِلاَفٌ. وَقَدْ يَكُونُ مَعَ
الْقَضَاءِ فِدْيَةٌ أَوْ كَفَّارَةٌ. وَفِي ذَلِكَ تَفْصِيلٌ يُنْظَرُ فِي
مَوْضِعِهِ.
__________
(1) ابن عابدين 1 / 193، 2 / 120، 121، والاختيار 1 / 125، 134، والزيلعي 1
/ 333، والشرح الصغير 1 / 691، 718، 719، 720، والمجموع 6 / 258، 263، 267،
268، ومغني المحتاج 1 / 420، 436، 440، 448، 449، 4 / 365، 368.
(2) المغني 7 / 365، 366.
(5/299)
إِفْكٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الإِْفْكُ: لُغَةً: الْكَذِبُ (1) .
وَيَسْتَعْمِلُهُ الْفُقَهَاءُ فِي بَابِ الْقَذْفِ بِمَعْنَى الْكَذِبِ،
وَفِي الأَْلُوسِيِّ وَغَيْرِهِ، الإِْفْكُ: أَبْلَغُ مَا يَكُونُ مِنَ
الْكَذِبِ وَالاِفْتِرَاءِ، وَكَثِيرًا مَا يُفَسَّرُ بِالْكَذِبِ
مُطْلَقًا. وَقِيل هُوَ الْبُهْتَانُ لاَ تَشْعُرُ بِهِ حَتَّى يَفْجَأَكَ،
وَأَصْلُهُ مِنِ الأَْفْكِ (بِفَتْحٍ فَسُكُونٍ) وَهُوَ الْقَلْبُ
وَالصَّرْفُ، لأَِنَّ الْكَذِبَ مَصْرُوفٌ عَنِ الْوَجْهِ الْحَقِّ (2) .
وَقَدْ قَال الْمُفَسِّرُونَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ
جَاءُوا بِالإِْفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ} (3)
إِنَّ الْمُرَادَ مَا افْتُرِيَ عَلَى عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا،
فَتَكُونُ (أَل) فِي " الإِْفْكِ " لِلْعَهْدِ، وَجَوَّزَ بَعْضُهُمْ حَمْل
(أَل) عَلَى الْجِنْسِ، قِيل فَيُفِيدُ الْقَصْرَ: كَأَنَّهُ لاَ إِفْكَ
إِلاَّ ذَلِكَ الإِْفْكَ، وَفِي لَفْظِ (الْمَجِيءِ) إِشَارَةٌ إِلَى
أَنَّهُمْ أَظْهَرُوهُ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ
لَهُ أَصْلٌ (4) .
وَقَدْ وَرَدَ فِي سُورَةِ النُّورِ - الآْيَةَ 11 فَمَا بَعْدَهَا -
ذِكْرُ حَادِثَةِ الإِْفْكِ، وَتَشْرِيفُ اللَّهِ تَعَالَى لِعَائِشَةَ،
وَتَبْرِئَتُهَا بِالْوَحْيِ.
__________
(1) مفردات القرآن للراغب الأصفهاني (أفك) .
(2) النظم المستعذب 2 / 288 نشر دار المعرفة، وتفسير الألوسي 18 / 111 ط
المنيرية، وتفسير الرازي 23 / 172 ط البهية، والقرطبي 2 / 198 ط دار الكتب.
(3) سورة النور / 11.
(4) تفسير الألوسي 18 / 111، 112، وتفسير الفخر الرازي 23 / 172، 173.
(5/299)
الْحُكْمُ الإِْجْمَالِيُّ وَمَوَاطِنُ
الْبَحْثِ:
2 - الإِْفْكُ حَرَامٌ، فِيهِ يُصَوَّرُ الْحَقُّ بِصُورَةِ الْبَاطِل،
وَلاَ يَخْرُجُ فِي عُقُوبَتِهِ عَنْ عُقُوبَةِ الْكَذِبِ، وَفِيهِ
التَّعْزِيرُ، إِلاَّ أَنْ يَكُونَ قَذْفًا بِالْمَفْهُومِ الشَّرْعِيِّ،
وَهُوَ مَا كَانَ مَوْضُوعُهُ الاِتِّهَامَ كَذِبًا بِالْفَاحِشَةِ،
فَيَكُونُ فِيهِ الْحَدُّ. وَتَفْصِيلُهُ فِي (الْقَذْفِ) .
إِفْلاَسٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الإِْفْلاَسُ مَصْدَرُ أَفْلَسَ، وَهُوَ لاَزِمٌ، يُقَال: أَفْلَسَ
الرَّجُل إِذَا صَارَ ذَا فُلُوسٍ بَعْدَ أَنْ كَانَ ذَا ذَهَبٍ وَفِضَّةٍ،
أَوْ صَارَ إِلَى حَالٍ لَيْسَ لَهُ فُلُوسٌ. وَالْفَلَسُ اسْمُ
الْمَصْدَرِ، بِمَعْنَى الإِْفْلاَسِ (1) .
وَالإِْفْلاَسُ فِي الاِصْطِلاَحِ: أَنْ يَكُونَ الدَّيْنُ الَّذِي عَلَى
الرَّجُل أَكْثَرَ مِنْ مَالِهِ، وَسَوَاءٌ أَكَانَ غَيْرَ ذِي مَالٍ
أَصْلاً، أَمْ كَانَ لَهُ مَالٌ إِلاَّ أَنَّهُ أَقَل مِنْ دَيْنِهِ (2) .
قَال ابْنُ قُدَامَةَ: وَإِنَّمَا سُمِّيَ مَنْ غَلَبَ دَيْنُهُ مَالَهُ
مُفْلِسًا وَإِنْ كَانَ لَهُ مَالٌ، لأَِنَّ مَالَهُ مُسْتَحَقُّ الصَّرْفِ
فِي جِهَةِ دَيْنِهِ، فَكَأَنَّهُ مَعْدُومٌ (3) .
__________
(1) لسان العرب، والمصباح، والمغني 4 / 408 ط 3، والزرقاني على خليل 5 /
261.
(2) كما يفهم من كلام ابن رشد في بداية المجتهد 2 / 284، 293 ط ثالثة عيسى
الحلبي 1379 هـ.
(3) المغني 4 / 408.
(5/300)
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - التَّفْلِيسُ:
2 - التَّفْلِيسُ هُوَ: مَصْدَرُ فَلَّسْتُ الرَّجُل، إِذَا نَسَبْتُهُ
إِلَى الإِْفْلاَسِ. وَاصْطِلاَحًا: جَعْل الْحَاكِمِ الْمَدِينَ مُفْلِسًا
بِمَنْعِهِ مِنَ التَّصَرُّفِ فِي مَالِهِ (1) .
وَهَذَا مَا صَرَّحَ بِهِ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ عِنْدَمَا
عَرَّفُوا التَّفْلِيسَ بِالْمَعْنَى الأَْخَصِّ. وَالْعَلاَقَةُ بَيْنَ
التَّفْلِيسِ وَالإِْفْلاَسِ: أَنَّ الإِْفْلاَسَ أَثَرُ التَّفْلِيسِ فِي
الْجُمْلَةِ. وَجَرَى الْمَالِكِيَّةُ عَلَى أَنَّ التَّفْلِيسَ يُطْلَقُ
عَلَى مَا قَبْل الْحَجْرِ بَعْدَ قِيَامِ الْغُرَمَاءِ عَلَى الْمَدِينِ،
قَالُوا: وَيُقَال حِينَئِذٍ: إِنَّهُ تَفْلِيسٌ بِالْمَعْنَى الأَْعَمِّ،
وَيُطْلَقُ عَلَى مَا بَعْدَ الْحَجْرِ عَلَيْهِ بِحُكْمِ الْحَاكِمِ،
وَيَكُونُ حِينَئِذٍ تَفْلِيسًا بِالْمَعْنَى الأَْخَصِّ (2) .
ب - الإِْعْسَارُ:
3 - الإِْعْسَارُ فِي اللُّغَةِ: مَصْدَرُ أَعْسَرَ، وَهُوَ ضِدُّ
الْيَسَارِ. وَالْعُسْرُ: اسْمُ مَصْدَرٍ، وَهُوَ الضِّيقُ وَالشِّدَّةُ
وَالصُّعُوبَةُ. وَفِي الاِصْطِلاَحِ: عَدَمُ الْقُدْرَةِ عَلَى
النَّفَقَةِ بِمَالٍ وَلاَ كَسْبٍ. فَبَيْنَ الإِْعْسَارِ وَالإِْفْلاَسِ
عُمُومٌ وَخُصُوصٌ مُطْلَقٌ، فَكُل مُفْلِسٍ مُعْسِرٌ، وَلاَ عَكْسَ.
__________
(1) الجمل على المنهج 3 / 309، ونهاية المحتاج 4 / 300، ورد المحتار 5 /
96.
(2) الدسوقي على الشرح الكبير 3 / 263 ط عيسى الحلبي، والبناني على
الزرقاني 5 / 262، 265، والمغني 4 / 453 ط الرياض.
(5/300)
ج - الْحَجْرُ:
4 - الْحَجْرُ لُغَةً: الْمَنْعُ مُطْلَقًا، وَشَرْعًا: مَنْعُ نَفَاذِ
تَصَرُّفٍ قَوْلِيٍّ. وَهُوَ أَعَمُّ مِنَ التَّفْلِيسِ مِنْ حَيْثُ
الأَْثَرُ، إِذْ يَشْمَل مَنْعَ الصَّبِيِّ وَالسَّفِيهِ وَالْمَجْنُونِ
وَمَنْ فِي حُكْمِهِمْ مِنَ التَّصَرُّفِ فِي الْمَال.
حُكْمُ الإِْفْلاَسِ:
5 - لَمَّا كَانَ الإِْفْلاَسُ صِفَةً لِلشَّخْصِ لاَ فِعْلاً لَهُ لَمْ
يُوصَفْ بِحِلٍّ وَلاَ حُرْمَةٍ، وَلَكِنْ لِلإِْفْلاَسِ مُقَدِّمَاتٌ هِيَ
مِنْ فِعْل الْمُكَلَّفِ، كَالاِسْتِدَانَةِ، وَهَذِهِ قَدْ تَرِدُ
عَلَيْهَا الأَْحْكَامُ التَّكْلِيفِيَّةُ، وَيُرْجَعُ فِي ذَلِكَ إِلَى
مُصْطَلَحِ (اسْتِدَانَةٌ) . وَقَدْ يَكُونُ سَبَبُ الإِْفْلاَسِ
الإِْعْسَارَ، وَلَهُ أَحْكَامٌ وَضْعِيَّةٌ (آثَارٌ) مُفَصَّلَةٌ فِي
مُصْطَلَحِ (إِعْسَارٌ) ، وَأَمَّا الإِْفْلاَسُ مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ
أَثَرٌ لِلتَّفْلِيسِ، فَإِنَّهُ يُنَاسِبُ هُنَا الْكَلاَمَ عَلَى
أَحْكَامِ التَّفْلِيسِ.
الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ لِلتَّفْلِيسِ:
6 - إِذَا أَحَاطَ الدَّيْنُ بِمَال الْمَدِينِ، وَطَلَبَ الْغُرَمَاءُ
الْحَجْرَ عَلَيْهِ، وَجَبَ عَلَى الْحَاكِمِ تَفْلِيسُهُ عِنْدَ
الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، وَصَاحِبَيْ أَبِي
حَنِيفَةَ، وَهُوَ الْمُفْتَى بِهِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ. وَاشْتَرَطَ
الْمَالِكِيَّةُ لِوُجُوبِ ذَلِكَ أَلاَّ يُمْكِنَ لِلْغُرَمَاءِ الْوُصُول
إِلَى حَقِّهِمْ إِلاَّ بِهِ. أَمَّا إِذَا أَمْكَنَ الْوُصُول إِلَى
حَقِّهِمْ بِغَيْرِ ذَلِكَ كَبَيْعِ بَعْضِ مَالِهِ، فَإِنَّهُ لاَ يُصَارُ
إِلَى التَّفْلِيسِ. وَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ إِلَى أَنَّهُ لاَ
يُفَلَّسُ، لأَِنَّهُ كَامِل الأَْهْلِيَّةِ، وَفِي الْحَجْرِ عَلَيْهِ
إِهْدَارٌ لآِدَمِيَّتِهِ. وَاسْتَدَل الْقَائِلُونَ بِتَفْلِيسِهِ:
بِأَنَّ الْكُل مُجْمِعٌ
(5/301)
عَلَى الْحَجْرِ عَلَى الْمَرِيضِ مَرَضَ
الْمَوْتِ فِيمَا زَادَ عَلَى الثُّلُثِ لِحَقِّ الْوَرَثَةِ، فَلأََنْ
يُحْجَرَ عَلَيْهِ وَيُمْنَعَ مِنَ التَّصَرُّفِ فِي أَمْوَالِهِ لِحَقِّ
الْغُرَمَاءِ أَوْلَى. وَمِمَّا يَتَّصِل بِهَذَا الْمَوْضُوعِ: أَنَّهُ
هَل يَجُوزُ لِلْحَاكِمِ أَنْ يَبِيعَ مَالَهُ جَبْرًا عَلَيْهِ أَوْ لاَ؟
ذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى جَوَازِ ذَلِكَ مُسْتَدِلِّينَ بِحَدِيثِ
مُعَاذٍ: {أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَجَرَ
عَلَيْهِ، وَبَاعَ مَالَهُ فِي دَيْنٍ كَانَ عَلَيْهِ، وَقَسَمَهُ بَيْنَ
غُرَمَائِهِ. . .} (1)
وَكَذَلِكَ أَثَرُ أُسَيْفِعٍ: أَنَّهُ كَانَ يَشْتَرِي الرَّوَاحِل،
فَيُغَالِي بِهَا، ثُمَّ يُسْرِعُ فِي السَّيْرِ فَيَسْبِقُ الْحَاجَّ،
فَأَفْلَسَ، فَرُفِعَ أَمْرُهُ إِلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ فَقَال: "
أَمَّا بَعْدُ: أَيُّهَا النَّاسُ فَإِنَّ الأُْسَيْفِعَ أَسَفْعَ
جُهَيْنَةَ رَضِيَ مِنْ دِينِهِ وَأَمَانَتِهِ أَنْ يُقَال: سَبَقَ
الْحَاجَّ، إِلاَّ أَنَّهُ قَدِ ادان مُغْرِضًا، فَأَصْبَحَ وَقَدْ رِينَ
بِهِ، فَمَنْ كَانَ لَهُ دَيْنٌ فَلْيَأْتِنَا بِالْغَدَاةِ نَقْسِمُ
مَالَهُ بَيْنَ غُرَمَائِهِ، وَإِيَّاكُمْ وَالدَّيْنَ. . . (2)
وَلأَِنَّهُ مَحْجُورٌ عَلَيْهِ مُحْتَاجٌ إِلَى قَضَاءِ دَيْنِهِ فَجَازَ
بَيْعُ مَالِهِ بِغَيْرِ رِضَاهُ، كَالصَّغِيرِ وَالْمَجْنُونِ. وَقَال
أَبُو حَنِيفَةَ: لاَ يُبَاعُ مَالُهُ جَبْرًا عَنْهُ، لأَِنَّهُ لاَ
وِلاَيَةَ عَلَيْهِ فِي مَالِهِ، إِلاَّ أَنَّ الْحَاكِمَ يُجْبِرُهُ عَلَى
الْبَيْعِ إِذَا لَمْ يُمْكِنِ الإِْيفَاءُ بِدُونِ إِجْبَارٍ، لِقَوْلِهِ
تَعَالَى:
__________
(1) حديث معاذ أخرجه البيهقي، وقد روي متصلا ومرسلا، ونقل ابن حجر عن عبد
الحق قوله: المرسل أصح من المتصل (سنن البيهقي 6 / 48 ط الهند، والتلخيص
الحبير 3 / 37 ط شركة الطباعة الفنية المتحدة) .
(2) الأثر عن عمر رضي الله عنه أخرجه مالك والبيهقي. وفيه جهالة كما في
التاريخ الكبير للبخاري (السنن الكبرى للبيهقي 6 / 49 ط الهند، والموطأ
للإمام مالك 2 / 770 ط عيسى الحلبي، والتاريخ الكبير للبخاري 5 / 328 ط دار
المعارف العثمانية) .
(5/301)
{لاَ تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ
بِالْبَاطِل إِلاَّ أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} (1) .
وَاسْتَثْنَى أَبُو حَنِيفَةَ مِنْ ذَلِكَ أَنَّهُ إِذَا كَانَ دَيْنُهُ
دَرَاهِمَ، وَفِي الْمَال دَرَاهِمُ، دُفِعَتْ لِلْغَرِيمِ جَبْرًا.
وَكَذَلِكَ إِنْ كَانَ دَيْنُهُ دَنَانِيرَ وَفِي الْمَال دَنَانِيرُ،
دُفِعَتْ لِلدَّائِنِينَ جَبْرًا. وَكَذَلِكَ إِذَا كَانَ عَلَيْهِ أَحَدُ
النَّقْدَيْنِ وَفِي مَالِهِ النَّقْدُ الآْخَرُ، لأَِنَّهُمَا كَجِنْسٍ
وَاحِدٍ. وَاسْتَدَل لِذَلِكَ بِأَنَّ الْغَرِيمَ إِذَا ظَفِرَ بِمِثْل
دَيْنِهِ أَخَذَهُ جَبْرًا، فَالْحَاكِمُ أَوْلَى، وَهَذَا الاِسْتِثْنَاءُ
عِنْدَهُ مِنْ قَبِيل الاِسْتِحْسَانِ. وَمِمَّا يَتَّصِل بِهَذَا أَنَّ
الْمَدِينَ الْمُسْتَغْرِقَ بِالدَّيْنِ، يَحْرُمُ عَلَيْهِ دِيَانَةً كُل
تَصَرُّفٍ يَضُرُّ بِالدَّائِنِينَ، كَمَا يَحْرُمُ عَلَى الآْخَرِينَ أَنْ
يَتَعَامَلُوا مَعَهُ بِمَا يَضُرُّ بِدَائِنِيهِ مَتَى عَلِمُوا.
وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي (اسْتِدَانَةٌ) (2) .
شَرَائِطُ الْحَجْرِ عَلَى الْمُفْلِسِ:
الشَّرِيطَةُ الأُْولَى:
7 - يُشْتَرَطُ لِلْحَجْرِ عَلَى الْمُفْلِسِ عِنْدَ كُل مَنْ أَجَازَهُ
أَنْ يَطْلُبَ الْغُرَمَاءُ أَوْ مَنْ يَنُوبُ عَنْهُمْ أَوْ يَخْلُفُهُمْ
__________
(1) سورة النساء / 29.
(2) شرح الزرقاني على خليل وحاشية البناني عليه 5 / 261 - 265، وبداية
المجتهد 2 / 284، 285، وقواعد ابن رجب (قاعدة 12 ص 14، والقاعدة 53 ص 87،
والمغني 4 / 438، وشرح المنتهى 2 / 278 ط مطبعة أنصار السنة، والزيلعي 5 /
199، والاختيار 1 / 269، وشرح المنهاج بحاشية القليوبي 2 / 285 ط عيسى
الحلبي، وكشاف القناع 3 / 423، والهداية وشروحها 8 / 202 - 207، وحاشية
الدسوقي على الشرح الكبير 3 / 263، 264، ومجلة الأحكام الشرعية بشرح
الأتاسي 3 / 553.
(5/302)
الْحَجْرَ عَلَيْهِ. فَلَوْ طَالَبُوا
بِدُيُونِهِمْ وَلَمْ يَطْلُبُوا الْحَجْرَ لَمْ يُحْجَرْ عَلَيْهِ. وَلاَ
يُشْتَرَطُ أَنْ يَطْلُبَهُ جَمِيعُ الْغُرَمَاءِ، بَل لَوْ طَلَبَهُ
وَاحِدٌ مِنْهُمْ لَزِمَ، وَإِنْ أَبَى بَقِيَّةُ الْغُرَمَاءِ ذَلِكَ أَوْ
سَكَتُوا، أَوْ طَلَبُوا تَرْكَهُ لِيَسْعَى. وَإِذَا فُلِّسَ لِطَلَبِ
بَعْضِهِمْ كَانَ لِلْبَاقِينَ الْمُحَاصَّةُ. وَلَوْ طَلَبَ الْمَدِينُ
تَفْلِيسَ نَفْسِهِ وَالْحَجْرَ عَلَيْهِ لَمْ يُجِبْهُ الْحَاكِمُ إِلَى
ذَلِكَ مِنْ غَيْرِ طَلَبِ الْغُرَمَاءِ. وَهَذَا عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ
وَالْحَنَابِلَةِ (1) ، وَهُوَ مُقَابِل الأَْصَحِّ عِنْدَ
الشَّافِعِيَّةِ. وَالأَْصَحُّ عِنْدَهُمْ يُحْجَرُ عَلَى الْمَدِينِ
بِسُؤَالِهِ أَوْ سُؤَال وَكِيلِهِ، قِيل: وُجُوبًا، وَقِيل: جَوَازًا.
قَالُوا: لأَِنَّ لَهُ غَرَضًا ظَاهِرًا فِي ذَلِكَ، وَهُوَ صَرْفُ مَالِهِ
إِلَى دُيُونِهِ. وَوَجْهُ الأَْوَّل أَنَّ الْحَجْرَ يُنَافِي
الْحُرِّيَّةَ وَالرُّشْدَ، وَإِنَّمَا حُجِرَ بِطَلَبِ الْغُرَمَاءِ
لِلضَّرُورَةِ، وَأَنَّهُمْ لاَ يَتَمَكَّنُونَ مِنْ تَحْصِيل
مَقْصُودِهِمْ إِلاَّ بِالْحَجْرِ، خَشْيَةَ الضَّيَاعِ، بِخِلاَفِ
الْمَدِينِ فَإِنَّ غَرَضَهُ الْوَفَاءُ، وَهُوَ مُتَمَكِّنٌ مِنْهُ
بِبَيْعِ أَمْوَالِهِ وَقِسْمَتِهَا عَلَى غُرَمَائِهِ. وَجَعَل بَعْضُهُمْ
مِنَ الْحَجْرِ بِطَلَبِ الْمَدِينِ حَجْرَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى مُعَاذٍ. قَالُوا: الأَْصْوَبُ أَنَّهُ كَانَ
بِسُؤَال مُعَاذٍ نَفْسِهِ (2) .
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: وَلَوْ كَانَ الدَّيْنُ لِقَاصِرٍ، وَلَمْ يَسْأَل
وَلِيُّهُ الْحَجْرَ، وَجَبَ عَلَى الْحَاكِمِ الْحَجْرُ مِنْ غَيْرِ
سُؤَالٍ، لأَِنَّهُ نَاظِرٌ لِمَصْلَحَتِهِ.
__________
(1) الدسوقي على الشرح الكبير 3 / 164، وشرح المنهاج بحاشية القليوبي 2 /
285، وشرح المنتهى 2 / 7.
(2) نهاية المحتاج وحواشيه 4 / 300، 301، 305.
(5/302)
وَمِثْلُهُ عِنْدَهُمْ مَا لَوْ كَانَتِ
الدُّيُونُ لِمَسْجِدٍ، أَوْ جِهَةٍ عَامَّةٍ كَالْفُقَرَاءِ (1) .
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ أَيْضًا فِي حَالَةِ مَا إِذَا طَلَبَ بَعْضُ
الدَّائِنِينَ الْحَجْرَ دُونَ بَعْضٍ: يُشْتَرَطُ أَنْ يَكُونَ دَيْنُ
الطَّالِبِ أَكْثَرَ مِنْ مَال الْمَدِينِ، وَإِلاَّ فَلاَ حَجْرَ، لأَِنَّ
دَيْنَهُ يُمْكِنُ وَفَاؤُهُ بِكَمَالِهِ. وَهَذَا هُوَ الْمُعْتَمَدُ
عِنْدَهُمْ، وَفِي قَوْلٍ: يُعْتَبَرُ أَنْ يَزِيدَ دَيْنُ الْجَمِيعِ
عَلَى مَالِهِ، لاَ دَيْنُ طَالِبِ الْحَجْرِ فَقَطْ (2) .
الشَّرِيطَةُ الثَّانِيَةُ:
8 - يُشْتَرَطُ أَنْ يَكُونَ الدَّيْنُ الَّذِي طَلَبَ رَبُّهُ الْحَجْرَ
عَلَى الْمَدِينِ بِسَبَبِهِ دَيْنًا حَالًّا، سَوَاءٌ أَكَانَ حَالًّا
أَصَالَةً، أَمْ حَل بِانْتِهَاءِ أَجَلِهِ، فَلاَ حَجْرَ بِالدَّيْنِ
الْمُؤَجَّل، لأَِنَّهُ لاَ يُطَالَبُ بِهِ فِي الْحَال، وَلَوْ طُولِبَ
بِهِ لَمْ يَلْزَمْهُ الأَْدَاءُ (3) .
الشَّرِيطَةُ الثَّالِثَةُ:
9 - يُشْتَرَطُ أَنْ تَكُونَ الدُّيُونُ عَلَى الْمُفْلِسِ أَكْثَرَ مِنْ
مَالِهِ (4) .
وَعَلَى هَذَا فَلاَ يُفَلَّسُ بِدَيْنٍ مُسَاوٍ لِمَالِهِ، وَهُوَ قَوْل
الْمَالِكِيَّةِ، وَيُفْهَمُ أَيْضًا مِنْ كَلاَمِ الْحَنَابِلَةِ، وَقَال
الْمَالِكِيَّةُ: وَلَوْ لَمْ يَزِدْ دَيْنُهُ الْحَال عَلَى مَالِهِ
لَكِنْ بَقِيَ مِنْ مَال الْمَدِينِ مَالاً يَفِي بِالْمُؤَجَّل يُفَلَّسُ
أَيْضًا، كَمَنْ عَلَيْهِ مِائَتَانِ. مِائَةٌ حَالَّةٌ وَمِائَةٌ
مُؤَجَّلَةٌ، وَمَعَهُ
__________
(1) المرجع السابق.
(2) نهاية المحتاج 4 / 303، 304.
(3) حاشية الدسوقي 3 / 264، ونهاية المحتاج 4 / 301، 304، 305، وكشاف
القناع 3 / 417.
(4) نهاية المحتاج 4 / 301، والمغني 4 / 438.
(5/303)
مِائَةٌ وَخَمْسُونَ فَقَطْ، فَيُفَلَّسُ،
إِلاَّ إِنْ كَانَ يُرْجَى مِنْ تَنْمِيَتِهِ لِلْفَضْلَةِ - وَهِيَ
خَمْسُونَ فِي مِثَالِنَا - وَفَاءُ الْمُؤَجَّل (1) .
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: إِنْ كَانَتْ دُيُونُهُ بِقَدْرِ مَالِهِ، فَإِنْ
كَانَ كَسُوبًا يُنْفِقُ مِنْ كَسْبِهِ فَلاَ حَجْرَ لِعَدَمِ الْحَاجَةِ،
وَإِنْ لَمْ يَكُنْ كَسُوبًا، وَكَانَتْ نَفَقَتُهُ مِنْ مَالِهِ،
فَيُحْجَرُ عَلَيْهِ كَيْ لاَ يُضَيِّعَ مَالَهُ فِي نَفَقَتِهِ عَلَى
قَوْلٍ عِنْدَهُمْ. وَالأَْصَحُّ عِنْدَهُمْ: أَنَّهُ لاَ حَجْرَ فِي
هَذِهِ الْحَال أَيْضًا، لِتَمَكُّنِ الْغُرَمَاءِ مِنَ الْمُطَالَبَةِ فِي
الْحَال (2) .
الشَّرِيطَةُ الرَّابِعَةُ:
10 - الدَّيْنُ الَّذِي يُحْجَرُ بِهِ هُوَ دَيْنُ الآْدَمِيِّينَ. أَمَّا
دَيْنُ اللَّهِ تَعَالَى فَلاَ يُحْجَرُ بِهِ. نَصَّ عَلَى ذَلِكَ
الشَّافِعِيَّةُ. قَالُوا: وَلَوْ فَوْرِيًّا، كَنَذْرٍ، وَإِنْ كَانَ
مُسْتَحِقُّوهُ مَحْصُورِينَ، وَكَالزَّكَاةِ إِذَا حَال الْحَوْل وَحَضَرَ
الْمُسْتَحِقُّونَ (3) .
الشَّرِيطَةُ الْخَامِسَةُ:
11 - يُشْتَرَطُ أَنْ يَكُونَ الدَّيْنُ الْمَحْجُورُ بِهِ لاَزِمًا، فَلاَ
حَجْرَ بِالثَّمَنِ فِي مُدَّةِ الْخِيَارِ، نَصَّ عَلَى ذَلِكَ
الشَّافِعِيَّةُ (4) .
الْحَجْرُ عَلَى الْمَدِينِ الْغَائِبِ:
12 - يَصِحُّ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ عَلَى قَوْل الصَّاحِبَيْنِ الْحَجْرُ
عَلَى الْمَدِينِ الْغَائِبِ، وَلَكِنْ يُشْتَرَطُ عِلْمُ الْمَحْجُورِ
__________
(1) الشرح الكبير وحاشية الدسوقي 3 / 264.
(2) نهاية المحتاج 4 / 303.
(3) شرح المنهاج وحاشية القليوبي 2 / 285 ونهاية المحتاج وحواشيه 4 / 301.
(4) حاشية القليوبي على المنهاج 2 / 285، ونهاية المحتاج 4 / 301.
(5/303)
عَلَيْهِ بَعْدَ الْحَجْرِ، حَتَّى إِنَّ
كُل تَصَرُّفٍ بَاشَرَهُ بَعْدَ الْحَجْرِ قَبْل الْعِلْمِ بِهِ يَكُونُ
صَحِيحًا عِنْدَهُمْ (1) .
وَإِنْ ثَبَتَ الدَّيْنُ بِإِقْرَارِهِ، أَوْ بِبَيِّنَةٍ قَامَتْ عَلَيْهِ
عِنْدَ الْقَاضِي، فَغَابَ الْمَطْلُوبُ قَبْل الْحُكْمِ وَامْتَنَعَ مِنَ
الْحُضُورِ، قَال أَبُو يُوسُفَ: يَنْصِبُ الْقَاضِي وَكِيلاً، وَيَحْكُمُ
عَلَيْهِ بِالْمَال، إِنْ سَأَل الْخَصْمُ ذَلِكَ، وَإِنْ سَأَل الْخَصْمُ
أَنْ يُحْجَرَ عَلَيْهِ، فَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ لاَ
يُحْكَمُ وَلاَ يُحْجَرُ حَتَّى يَحْضُرَ الْغَائِبُ، ثُمَّ يُحْكَمُ
عَلَيْهِ، ثُمَّ يُحْجَرُ عَلَيْهِ عِنْدَ مُحَمَّدٍ، لأَِنَّهُ إِنَّمَا
يُحْجَرُ بَعْدَ الْحُكْمِ لاَ قَبْلَهُ. كَذَا فِي الذَّخِيرَةِ.
وَفِي النَّوَادِرِ عَنْ مُحَمَّدٍ: إِنْ كَانُوا قَدْ أَثْبَتُوا
دُيُونَهُمْ يُحْجَرُ عَلَيْهِ (2) .
وَيَصِحُّ الْحَجْرُ عَلَى الْغَائِبِ كَذَلِكَ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ،
إِنْ كَانَتْ غَيْبَتُهُ مُتَوَسِّطَةً كَعَشَرَةِ أَيَّامٍ، أَوْ
طَوِيلَةً كَشَهْرٍ مَثَلاً، أَمَّا الْغَائِبُ الْغَيْبَةَ الْقَرِيبَةَ
فَفِي حُكْمِ الْحَاضِرِ (3) .
وَاشْتَرَطُوا لِلْحَجْرِ عَلَى الْغَائِبِ أَلاَّ يَتَقَدَّمَ الْعِلْمُ
بِمَلاَءَتِهِ قَبْل سَفَرِهِ. فَإِنْ عَلِمَ مَلاَءَتَهُ قَبْل سَفَرِهِ
اسْتُصْحِبَ ذَلِكَ وَلَمْ يُفَلَّسْ. . وَعِنْدَ ابْنِ رُشْدٍ يُفَلَّسُ
فِي الْغَيْبَةِ الطَّوِيلَةِ، وَإِنْ عَلِمَ مَلاَءَتَهُ حَال خُرُوجِهِ
(4) .
وَلَمْ نَجِدْ لِلشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ كَلاَمًا عَنْ هَذِهِ
الْمَسْأَلَةِ فِيمَا اطَّلَعْنَا عَلَيْهِ.
__________
(1) الفتاوى الهندية 5 / 61، وشرح مجلة الأحكام للأتاسي 3 / 554.
(2) الفتاوى الهندية 5 / 62.
(3) واللجنة ترى أن التحديد بالأيام المذكورة أمر اجتهادي يرجع فيه إلى
تقدير القاضي.
(4) الزرقاني على خليل 5 / 265، والدسوقي 3 / 264.
(5/304)
مَنْ يَحْجُرُ عَلَى الْمُفْلِسِ:
13 - لاَ يَكُونُ الْمُفْلِسُ مَحْجُورًا عَلَيْهِ إِلاَّ بِحَجْرِ
الْقَاضِي عَلَيْهِ. وَالْحَجْرُ لِلْقَاضِي دُونَ غَيْرِهِ،
لاِحْتِيَاجِهِ إِلَى نَظَرٍ وَاجْتِهَادٍ. هَذَا وَإِنَّ لِقِيَامِ
الْغُرَمَاءِ عَلَى الْمَدِينِ الَّذِي أَحَاطَ الدَّيْنُ بِمَالِهِ بَعْضَ
أَحْكَامِ التَّفْلِيسِ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ، وَيُسَمَّى هَذَا عِنْدَ
الْمَالِكِيَّةِ تَفْلِيسًا عَامًّا، وَهُوَ أَنْ يَقُومَ الْغُرَمَاءُ
عَلَى مَنْ أَحَاطَ الدَّيْنُ بِمَالِهِ - وَقَبْل أَنْ يَحْجُرَ عَلَيْهِ
الْحَاكِمُ - فَيَسْجُنُوهُ، أَوْ يَقُومُوا عَلَيْهِ فَيَسْتَتِرُ
عَنْهُمْ فَلاَ يَجِدُونَهُ، وَيَحُولُونَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ التَّصَرُّفِ
فِي مَالِهِ بِالْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ وَالأَْخْذِ وَالإِْعْطَاءِ، هَذَا
بِالإِْضَافَةِ إِلَى مَنْعِ تَبَرُّعِهِ، وَمَنْعِهِمْ لِسَفَرِهِ، كَمَا
فِي كُل مَدِينٍ بِدَيْنٍ حَالٍّ أَوْ يَحِل فِي الْغَيْبَةِ، وَلَيْسَ
لَهُمْ فِي هَذِهِ الْحَال مَنْعُهُ مِنْ تَزَوُّجٍ وَاحِدَةٍ،
وَتَرَدَّدُوا فِي حَجِّ الْفَرِيضَةِ، وَالْفَتْوَى عِنْدَهُمْ عَلَى
أَنَّ لَهُمْ مَنْعَهُ مِنْهُ (1) .
وَنَقَل ابْنُ رَجَبٍ الْحَنْبَلِيُّ فِي قَوَاعِدِهِ أَنَّ ابْنَ
تَيْمِيَّةَ كَانَ لاَ يَرَى نَفَاذَ تَبَرُّعِ الْمَدِينِ بِالدَّيْنِ
الْمُسْتَغْرِقِ بَعْدَ الْمُطَالَبَةِ (2) .
وَنُقِل عَنِ الإِْمَامِ أَحْمَدَ أَنَّ تَصَرُّفَهُ بِالْعَيْنِ الَّتِي
لَهُ حَقُّ الرُّجُوعِ فِيهَا عَلَى الْمَحْجُورِ عَلَيْهِ لاَ يَنْفُذُ
إِنْ طَالَبَهُ بِهَا صَاحِبُهَا، وَلَوْ قَبْل الْحَجْرِ (3) .
وَأَمَّا عِنْدَ سَائِرِ الْفُقَهَاءِ فَإِنَّ الْمُفْلِسَ قَبْل الْحَجْرِ
عَلَيْهِ كَغَيْرِ الْمُفْلِسِ، وَمَا يَفْعَلُهُ مِنْ بَيْعٍ أَوْ هِبَةٍ
أَوْ إِقْرَارٍ أَوْ قَضَاءِ بَعْضِ الْغُرَمَاءِ دُونَ بَعْضٍ فَهُوَ
جَائِزٌ نَافِذٌ، لأَِنَّهُ رَشِيدٌ غَيْرُ مَحْجُورٍ عَلَيْهِ، فَنَفَذَ
تَصَرُّفُهُ كَغَيْرِهِ.
__________
(1) الزرقاني والبناني 5 / 264.
(2) قواعد ابن رجب، قاعدة 12 ص 14.
(3) قواعد ابن رجب، قاعدة 53 ص 87.
(5/304)
وَنَصَّ شَارِحُ الْمُنْتَهَى مِنَ
الْحَنَابِلَةِ عَلَى أَنَّهُ يَحْرُمُ عَلَيْهِ التَّصَرُّفُ فِي مَالِهِ
بِمَا يَضُرُّ غَرِيمَهُ (1) .
وَصِيغَةُ الْحَجْرِ أَنْ يَقُول الْحَاكِمُ: مَنَعْتُكَ مِنَ
التَّصَرُّفِ، أَوْ حَجَرْتُ عَلَيْكَ لِلْفَلَسِ. وَيَقْتَضِي كَلاَمُ
الْجُمْهُورِ التَّخْيِيرَ بَيْنَ الصِّيغَتَيْنِ، وَنَحْوِهِمَا -
كَفَلَّسْتُكَ - مِنْ كُل مَا يُفِيدُ مَعْنَى الْحَجْرِ (2) .
الإِْثْبَاتُ:
14 - لاَ حَجْرَ بِالدَّيْنِ إِلاَّ إِنْ ثَبَتَ لَدَى الْقَاضِي بِطَرِيقٍ
مِنْ طُرُقِ الإِْثْبَاتِ الشَّرْعِيَّةِ (ر: إِثْبَاتٌ) .
إِشْهَارُ الْحَجْرِ بِالإِْفْلاَسِ وَالإِْشْهَادُ عَلَيْهِ:
15 - الَّذِينَ قَالُوا بِمَشْرُوعِيَّةِ الْحَجْرِ عَلَى الْمُفْلِسِ
قَالُوا: يُسْتَحَبُّ إِظْهَارُ الْحَجْرِ عَلَيْهِ وَإِشْهَارُهُ
لِتُجْتَنَبَ مُعَامَلَتُهُ، كَيْ لاَ يَسْتَضِرَّ النَّاسُ بِضَيَاعِ
أَمْوَالِهِمْ (3) .
وَقَال الْحَنَفِيَّةُ - عَلَى رَأْيِ الصَّاحِبَيْنِ - وَالشَّافِعِيَّةُ
وَالْحَنَابِلَةُ: وَيُسَنُّ الإِْشْهَادُ عَلَيْهِ لِيَنْتَشِرَ ذَلِكَ
عَنْهُ، وَلأَِنَّهُ رُبَّمَا عُزِل الْحَاكِمُ أَوْ مَاتَ، فَيَثْبُتُ
الْحَجْرُ عِنْدَ الآْخَرِ فَيُمْضِيهِ، وَلاَ يَحْتَاجُ إِلَى ابْتِدَاءِ
حَجْرٍ ثَانٍ. وَلأَِنَّ الْحَجْرَ تَتَعَلَّقُ بِهِ أَحْكَامٌ، وَرُبَّمَا
يَقَعُ التَّجَاحُدُ
__________
(1) المغني 4 / 438، وشرح المنتهى 2 / 278 مطبعة أنصار السنة.
(2) نهاية المحتاج وحاشية الشبراملسي 4 / 302، والدسوقي 3 / 264.
(3) واللجنة ترى أن أي وسيلة من وسائل الإشهار أو الإعلان كالصحف وغيرها
كافية. وفي تسجيل الحكم وضبط وقائعه بالطرق المعروفة ما يكفي لدفع الضرر عن
الراغبين بالمعاملة مع هذا الشخص.
(5/305)
فَيَحْتَاجُ إِلَى إِثْبَاتِهِ (1) .
وَلَمْ يَتَعَرَّضِ الْمَالِكِيَّةُ لِذَلِكَ فِيمَا اطَّلَعْنَا عَلَيْهِ
مِنْ كَلاَمِهِمْ.
آثَارُ الْحَجْرِ عَلَى الْمُفْلِسِ:
16 - إِذَا حَجَرَ الْقَاضِي عَلَى الْمُفْلِسِ، تَعَلَّقَ بِذَلِكَ مِنَ
الآْثَارِ مَا يَلِي:
أ - تَتَعَلَّقُ حُقُوقُ الْغُرَمَاءِ بِمَالِهِ، وَيُمْنَعُ مِنَ
الإِْقْرَارِ عَلَى ذَلِكَ الْمَال وَالتَّصَرُّفِ فِيهِ.
ب - انْقِطَاعُ الطَّلَبِ عَنْهُ بِدَيْنٍ جَدِيدٍ بَعْدَ الْحُكْمِ
بِالإِْفْلاَسِ.
ج - حُلُول الدَّيْنِ الْمُؤَجَّل فِي ذِمَّةِ الْمَدِينِ.
د - اسْتِحْقَاقُ مَنْ وَجَدَ عَيْنَ مَالِهِ عِنْدَ الْمَدِينِ
اسْتِرْجَاعَهُ.
هـ - اسْتِحْقَاقُ بَيْعِ مَال الْمُفَلَّسِ وَقَسْمِهِ بَيْنَ
الْغُرَمَاءِ. وَفِيمَا يَلِي تَفْصِيل الْقَوْل فِي هَذِهِ الآْثَارِ.
الأَْوَّل: تَعَلُّقُ حَقِّ الْغُرَمَاءِ بِالْمَال:
17 - بِالْحَجْرِ يَتَعَلَّقُ حَقُّ الْغُرَمَاءِ بِالْمَال، نَظِيرُ
تَعَلُّقِ حَقِّ الرَّاهِنِ بِالْمَال الْمَرْهُونِ، فَلاَ يَنْفُذُ
تَصَرُّفُ الْمَحْجُورِ عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ الْمَال بِمَا يَضُرُّهُمْ،
وَلاَ يَنْفُذُ إِقْرَارُهُ عَلَيْهِ. وَالْمَال الَّذِي يَتَعَلَّقُ بِهِ
حَقُّ الْغُرَمَاءِ هُوَ مَال الْمَدِينِ الَّذِي يَمْلِكُهُ حَال
الْحَجْرِ اتِّفَاقًا عِنْدَ مَنْ يَقُول بِجَوَازِ تَفْلِيسِ الْمَدِينِ.
وَأَمَّا مَا يَحْدُثُ لَهُ بَعْدَ ذَلِكَ فَلاَ يَشْمَلُهُ الْحَجْرُ
عِنْدَ صَاحِبَيْ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ -
وَالْمَالِكِيَّةِ، وَعَلَى قَوْلٍ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ -
__________
(1) المغني 4 / 440، والفتاوى الهندية 5 / 62، ونهاية المحتاج 4 / 305.
(5/305)
هُوَ مُقَابِل الأَْصَحِّ عِنْدَهُمْ -
قَالُوا: كَمَا لاَ يَتَعَدَّى حَجْرُ الرَّاهِنِ عَلَى نَفْسِهِ فِي
الْعَيْنِ الْمَرْهُونَةِ إِلَى غَيْرِهَا. وَالأَْصَحُّ عِنْدَ
الشَّافِعِيَّةِ وَمَذْهَبُ الْحَنَابِلَةِ: يَشْمَلُهُ الْحَجْرُ كَذَلِكَ
مَا دَامَ الْحَجْرُ قَائِمًا، نَحْوُ مَا مَلَكَهُ بِإِرْثٍ، أَوْ هِبَةٍ
أَوِ اصْطِيَادٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ دِيَةٍ أَوْ وَصِيَّةٍ، قَال
الشَّافِعِيَّةُ: أَوْ شِرَاءٍ فِي الذِّمَّةِ. قَالُوا: لأَِنَّ مَقْصُودَ
الْحَجْرِ وُصُول الْحُقُوقِ إِلَى أَهْلِهَا، وَذَلِكَ لاَ يَخْتَصُّ
بِالْمَوْجُودِ (1) .
فَعَلَى قَوْل الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ يَتَصَرَّفُ الْمَحْجُورُ
عَلَيْهِ لِفَلَسٍ فِيمَا تَجَدَّدَ لَهُ بَعْدَ الْحَجْرِ مِنَ الْمَال،
سَوَاءٌ كَانَ عَنْ أَصْلٍ، كَرِبْحِ مَالٍ تَرَكَهُ بِيَدِهِ بَعْضُ مَنْ
فَلَّسَهُ، أَوْ عَنْ مُعَامَلَةٍ جَدِيدَةٍ، أَوْ عَنْ غَيْرِ أَصْلٍ
كَمِيرَاثٍ وَهِبَةٍ وَوَصِيَّةٍ. وَلاَ يُمْنَعُ مِنْ ذَلِكَ التَّصَرُّفِ
إِلاَّ بِحَجْرٍ جَدِيدٍ عَلَى مَا صَرَّحَ بِهِ الْمَالِكِيَّةُ (2) .
الإِْقْرَارُ:
18 - عَلَى قَوْل الْحَنَفِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ - وَهُوَ خِلاَفُ
الأَْظْهَرِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ - لاَ يُقْبَل عَلَى الْغُرَمَاءِ
إِقْرَارُ الْمُفَلَّسِ بِشَيْءٍ مِنْ مَالِهِ الَّذِي حُجِرَ عَلَيْهِ
فِيهِ، لاِحْتِمَال التَّوَاطُؤِ بَيْنَ الْمُفَلَّسِ وَمَنْ أَقَرَّ لَهُ،
وَيَلْزَمُهُ مَا أَقَرَّ بِهِ بَعْدَ فَكِّ الْحَجْرِ عَنْهُ.
وَالأَْظْهَرُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ: أَنَّهُ يُقْبَل فِي حَقِّ
الْغُرَمَاءِ، إِنْ أُسْنِدَ وُجُوبُهُ إِلَى مَا قَبْل الْحَجْرِ عَلَيْهِ
أَوْ
__________
(1) الفتاوى الهندية 5 / 62، والزرقاني 5 / 268، والشرح الكبير مع حاشية
الدسوقي 3 / 268، وشرح المنتهى 2 / 278، ونهاية المحتاج 4 / 309.
(2) الزرقاني والبناني على خليل 5 / 268، والشرح الكبير الدسوقي 3 / 268.
(5/306)
أُطْلِقَ، لاَ إِنْ أَضَافَهُ إِلَى مَا
بَعْدَ الْحَجْرِ. وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ تَفْصِيلٌ، قَالُوا: يُقْبَل
إِقْرَارُهُ عَلَى غُرَمَائِهِ إِنْ أَقَرَّ بِالْمَجْلِسِ الَّذِي حُجِرَ
عَلَيْهِ فِيهِ، أَوْ قَرِيبًا مِنْهُ، إِنْ كَانَ دَيْنُهُ الَّذِي حُجِرَ
عَلَيْهِ بِهِ ثَبَتَ بِالإِْقْرَارِ، أَوْ عُلِمَ تَقَدُّمُ
الْمُعَامَلَةِ بَيْنَهُمَا. أَمَّا فِي غَيْرِ ذَلِكَ إِنْ ثَبَتَ
بِالْبَيِّنَةِ، فَلاَ يُقْبَل إِمْرَارُهُ عَلَيْهِ لِغَيْرِهِمْ (1) .
تَصَرُّفَاتُ الْمُفَلِّسِ فِي الْمَال:
19 - تَصَرُّفَاتُ الْمُفَلِّسِ ثَلاَثَةُ أَنْوَاعٍ: الأَْوَّل:
تَصَرُّفَاتٌ نَافِعَةٌ لِلْغُرَمَاءِ، كَقَبُولِهِ الْهِبَةَ
وَالصَّدَقَةَ، فَهَذِهِ لاَ يُمْنَعُ مِنْهَا. الثَّانِي: تَصَرُّفَاتٌ
ضَارَّةٌ، كَهِبَتِهِ لِمَالِهِ، وَوَقْفِهِ لَهُ، وَتَصَدُّقِهِ بِهِ،
وَالإِْبْرَاءِ مِنْهُ، وَسَائِرِ التَّبَرُّعَاتِ، فَهَذِهِ يُؤَثِّرُ
فِيهَا الْحَجْرُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ
وَالْحَنَابِلَةِ، وَعَلَى الأَْظْهَرِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ. وَالْقَوْل
الثَّانِي عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ: أَنَّ التَّصَرُّفَ يَقَعُ مَوْقُوفًا،
فَإِنْ فَضَل ذَلِكَ عَنِ الدَّيْنِ نَفَذَ وَإِلاَّ لَغَا. وَمِنْ أَجْل
ذَلِكَ قَال الْحَنَابِلَةُ: لاَ يُكَفِّرُ الْمُفَلِّسُ بِغَيْرِ
الصَّوْمِ، لِئَلاَّ يَضُرَّ بِالْغُرَمَاءِ. وَيُسْتَثْنَى مِنْ هَذَا
النَّوْعِ التَّصَرُّفُ بَعْدَ الْمَوْتِ، كَمَا لَوْ أَوْصَى بِمَالٍ.
وَإِنَّمَا صَحَّ هَذَا لأَِنَّ الْوَصِيَّةَ تَخْرُجُ مِنَ الثُّلُثِ
بَعْدَ حَقِّ الدَّائِنِينَ.
__________
(1) الفتاوى الهندية 5 / 62، والشرح الكبير وحاشية الدسوقي 3 / 267، 268،
وشرح المنهاج 2 / 287، والمغني 4 / 439، وشرح المنتهى 2 / 278.
(5/306)
َاسْتَثْنَى الْحَنَابِلَةُ أَيْضًا
تَصَرُّفَهُ بِالصَّدَقَةِ الْيَسِيرَةِ (1) .
الثَّالِثُ: تَصَرُّفَاتٌ دَائِرَةٌ بَيْنَ النَّفْعِ وَالضَّرِّ،
كَالْبُيُوعِ وَالإِْجَارَةِ. وَالأَْصْل فِي هَذَا النَّوْعِ أَنَّهُ
بَاطِلٌ عَلَى قَوْل بَعْضِ الْفُقَهَاءِ، مِنْهُمُ الْحَنَابِلَةُ
وَالشَّافِعِيَّةُ فِي الأَْظْهَرِ، وَابْنُ عَبْدِ السَّلاَمِ مِنَ
الْمَالِكِيَّةِ. وَمَذْهَبُ الْمَالِكِيَّةِ: أَنَّهُ يُمْنَعُ مِنَ
التَّصَرُّفِ الْمَذْكُورِ، فَإِنْ أَوْقَعَهُ وَقَعَ مَوْقُوفًا عَلَى
نَظَرِ الْحَاكِمِ إِنِ اخْتَلَفَ الْغُرَمَاءُ، وَعَلَى نَظَرِهِمْ إِنِ
اتَّفَقُوا، وَمَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ عَلَى قَوْل الصَّاحِبَيْنِ أَنَّ
لِلْمُفَلِّسِ أَنْ يَبِيعَ مَالَهُ بِثَمَنٍ مِثْلِهِ، لأَِنَّهُ لاَ
يُبْطِل حَقَّ الْغُرَمَاءِ، وَإِنْ بَاعَ بِالْغَبْنِ لاَ يَصِحُّ مِنْهُ،
سَوَاءٌ أَكَانَ الْغَبْنُ يَسِيرًا أَمْ فَاحِشًا، وَيُخَيَّرُ
الْمُشْتَرِي بَيْنَ إِزَالَةِ الْغَبْنِ وَبَيْنَ الْفَسْخِ (2) .
وَلَوْ بَاعَ بَعْضَ مَالِهِ لِغَرِيمِهِ بِدَيْنِهِ، فَقَال
الْحَنَابِلَةُ: لاَ يَصِحُّ، لأَِنَّهُ مَحْجُورٌ عَلَيْهِ. وَقَال
الشَّافِعِيَّةُ فِي الأَْصَحِّ عِنْدَهُمْ: لاَ يَصِحُّ إِلاَّ بِإِذْنِ
الْقَاضِي، لأَِنَّ الْحَجْرَ يَثْبُتُ عَلَى الْعُمُومِ، وَمِنَ
الْجَائِزِ أَنْ يَظْهَرَ لَهُ غَرِيمٌ آخَرُ. وَمُقَابِلُهُ عِنْدَ
الشَّافِعِيَّةِ: يَصِحُّ، وَلَوْ بِغَيْرِ إِذْنِ الْقَاضِي، لأَِنَّ
الأَْصْل عَدَمُ الْغَرِيمِ الآْخَرِ. لَكِنْ لاَ يَصِحُّ إِلاَّ بِشَرْطِ
أَنْ يَكُونَ الْبَيْعُ لِلْغُرَمَاءِ جَمِيعِهِمْ بِلَفْظٍ وَاحِدٍ،
وَأَنْ يَكُونَ دَيْنُهُمْ مِنْ نَوْعٍ وَاحِدٍ.
__________
(1) الفتاوى الهندية 5 / 62، وشرح المنتهى 2 / 278، وشرح المنهاج وحاشية
القليوبي 2 / 287، والزرقاني على خليل 5 / 262 - 266.
(2) الاختيار لتعليل المختار 1 / 269 ط صبيح، وتكملة شرح فتح القدير 8 /
206، وحاشية الدسوقي على الشرح الكبير 3 / 265، والزرقاني والبناني 5 /
266، وشرح المنهاج 3 / 286، وشرح المنتهى 2 / 278.
(5/307)
وَقَال الْحَنَفِيَّةُ: إِنْ بَاعَ مَالَهُ
مِنَ الْغَرِيمِ، وَجَعَل الدَّيْنَ بِالثَّمَنِ عَلَى سَبِيل
الْمُقَاصَّةِ صَحَّ إِنْ كَانَ الْغَرِيمُ وَاحِدًا. وَإِنْ كَانَ
الْغَرِيمُ أَكْثَرَ مِنْ وَاحِدٍ، فَبَاعَ مَالَهُ مِنْ أَحَدِهِمْ
بِمِثْل قِيمَتِهِ يَصِحُّ، كَمَا لَوْ بَاعَ مِنْ أَجْنَبِيٍّ بِمِثْل
قِيمَتِهِ، وَلَكِنَّ الْمُقَاصَّةَ لاَ تَصِحُّ، كَمَا لَوْ قَضَى دَيْنَ
بَعْضِ الْغُرَمَاءِ دُونَ بَعْضٍ. وَلَمْ نَجِدِ الْمَالِكِيَّةَ
تَعَرَّضُوا لِهَذِهِ الْمَسْأَلَةِ بِخُصُوصِهَا، فَيَظْهَرُ أَنَّهَا
عِنْدَهُمْ أَيْضًا مَوْقُوفَةٌ عَلَى نَظَرِ الْقَاضِي أَوِ الْغُرَمَاءِ
كَمَا تَقَدَّمَ (1) .
التَّصَرُّفُ فِي الذِّمَّةِ مِنَ الْمَحْجُورِ عَلَيْهِ لِفَلَسٍ:
20 - لَوْ تَصَرَّفَ الْمَحْجُورُ عَلَيْهِ لِفَلَسٍ تَصَرُّفًا فِي
ذِمَّتِهِ بِشِرَاءٍ أَوْ بَيْعٍ أَوْ كِرَاءٍ صَحَّ، نَصَّ عَلَى ذَلِكَ
الْمَالِكِيَّةُ، وَالشَّافِعِيَّةُ عَلَى الصَّحِيحِ عِنْدَهُمْ،
وَالْحَنَابِلَةُ، وَهُوَ مُقْتَضَى مَذْهَبِ الصَّاحِبَيْنِ،
لأَِهْلِيَّتِهِ لِلتَّصَرُّفِ، وَالْحَجْرُ يَتَعَلَّقُ بِمَالِهِ لاَ
بِذِمَّتِهِ، وَلأَِنَّهُ لاَ ضَرَرَ فِيهِ عَلَى الْغُرَمَاءِ، وَيُتْبَعُ
بِهِ بَعْدَ فَكِّ الْحَجْرِ عَنْهُ (2) . إِمْضَاءُ التَّصَرُّفَاتِ
السَّابِقَةِ عَلَى الْحَجْرِ أَوْ إِلْغَاؤُهَا:
21 - ذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ لِلْمُفَلِّسِ
بَعْدَ الْحَجْرِ عَلَيْهِ إِمْضَاءُ خِيَارٍ، وَفَسْخٌ لِعَيْبٍ فِيمَا
اشْتَرَاهُ قَبْل الْحَجْرِ، لأَِنَّهُ إِتْمَامٌ لِتَصَرُّفٍ سَابِقٍ
عَلَى حَجْرِهِ فَلَمْ يُمْنَعْ مِنْهُ، كَاسْتِرْدَادِ وَدِيعَةٍ
أَوْدَعَهَا قَبْل الْحَجْرِ
__________
(1) الفتاوى الهندية 5 / 62، وشرح المنهاج مع حاشية القليوبي 2 / 6286،
وشرح المنتهى 2 / 278.
(2) الزرقاني والبناني على خليل 5 / 266، وشرح المنتهى 2 / 278، ونهاية
المحتاج 4 / 306.
(5/307)
عَلَيْهِ، وَسَوَاءٌ أَكَانَ فِي ذَلِكَ
الإِْمْضَاءِ أَوِ الْفَسْخِ حَظٌّ لِلْمُفَلِّسِ أَوْ لَمْ يَكُنْ. وَقَال
الْمَالِكِيَّةُ: يَنْتَقِل الْخِيَارُ لِلْحَاكِمِ أَوْ لِلْغُرَمَاءِ،
فَلَهُمُ الرَّدُّ أَوِ الإِْمْضَاءُ. وَصَرَّحَ الْحَنَفِيَّةُ بِأَنَّ
الْبَيْعَ، إِنْ كَانَ بِمِثْل الْقِيمَةِ جَازَ مِنَ الْمَحْجُورِ
عَلَيْهِ، فَيُؤْخَذُ مِنْهُ مُرَاعَاةً لِحَظِّ الْغُرَمَاءِ فِي
الْفَسْخِ أَوِ الإِْمْضَاءِ (1) .
حُكْمُ مَا يَلْزَمُ الْمُفَلِّسَ مِنَ الْحُقُوقِ فِي مُدَّةِ الْحَجْرِ:
22 - مَا لَزِمَ الْمُفَلِّسَ مِنْ دِيَةٍ أَوْ أَرْشِ جِنَايَةٍ زَاحَمَ
مُسْتَحِقُّهَا الْغُرَمَاءَ، وَكَذَا كُل حَقٍّ لَزِمَهُ بِغَيْرِ رِضَى
الْغَرِيمِ وَاخْتِيَارِهِ، كَضَمَانِ إِتْلاَفِ الْمَال، لاِنْتِفَاءِ
تَقْصِيرِهِ. بِخِلاَفِ التَّصَرُّفَاتِ الَّتِي تَقَدَّمَ ذِكْرُ
الْمَنْعِ مِنْهَا، فَإِنَّهَا تَكُونُ بِرِضَا الْغَرِيمِ وَاخْتِيَارِهِ.
قَال الشَّافِعِيَّةُ عَلَى الأَْصَحِّ عِنْدَهُمْ: وَلَوْ أَقَرَّ
الْمُفَلِّسُ بِجِنَايَةٍ قَبْل إِقْرَارِهِ عَلَى الْغُرَمَاءِ، سَوَاءٌ
أَسْنَدَ الْمُفَلِّسُ سَبَبَ الْحَقِّ إِلَى مَا قَبْل الْحَجْرِ أَوْ
إِلَى مَا بَعْدَهُ. (2)
وَجَعَل مِنْ ذَلِكَ صَاحِبُ الْمُغْنِي أَنَّهُ لَوْ أَفْلَسَ، وَلَهُ
دَارٌ مُسْتَأْجَرَةٌ فَانْهَدَمَتْ، بَعْدَمَا قَبَضَ الْمُفَلِّسُ
الأُْجْرَةَ، انْفَسَخَتِ الإِْجَارَةُ فِيمَا بَقِيَ مِنَ الْمُدَّةِ،
وَسَقَطَ مِنَ الأُْجْرَةِ بِقَدْرِ ذَلِكَ. ثُمَّ إِنْ وَجَدَ عَيْنَ مَا
لَهُ أَخَذَ بِقَدْرِ ذَلِكَ، وَإِنْ لَمْ يَجِدْهُ شَارَكَ الْغُرَمَاءَ
بِقَدْرِهِ. (3)
__________
(1) مطالب أولي النهى 3 / 376، والقليوبي 2 / 286، والدسوقي 3 / 101،
والهندية 4 / 62.
(2) الفتاوى الهندية 5 / 62، ونهاية المحتاج 4 / 308، والمغني 4 / 440،
ومطالب أولي النهى 3 / 377.
(3) المغني 4 / 441.
(5/308)
الأَْثَرُ الثَّانِي - انْقِطَاعُ
الْمُطَالَبَةِ عَنْهُ:
23 - وَذَلِكَ لِقَوْل اللَّهِ تَعَالَى: {وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ
فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ} (1) وَقَوْل النَّبِيِّ لِغُرَمَاءِ مُعَاذٍ:
خُذُوا مَا وَجَدْتُمْ، وَلَيْسَ لَكُمْ إِلاَّ ذَلِكَ وَفِي رِوَايَةٍ
وَلاَ سَبِيل لَكُمْ عَلَيْهِ (2) فَمَنْ أَقْرَضَهُ شَيْئًا أَوْ بَاعَهُ
شَيْئًا عَالِمًا بِحَجْرِهِ لَمْ يَمْلِكْ مُطَالَبَتَهُ بِبَدَلِهِ
حَتَّى يَنْفَكَّ الْحَجْرَ عَنْهُ، لِتَعَلُّقِ حَقِّ الْغُرَمَاءِ
حَالَةَ الْحَجْرِ بِعَيْنِ مَال الْمُفَلِّسِ، وَلأَِنَّهُ هُوَ
الْمُتْلِفُ لِمَالِهِ بِمُعَامَلَةِ مَنْ لاَ شَيْءَ مَعَهُ، لَكِنْ إِنْ
وَجَدَ الْمُقْرِضُ أَوِ الْبَائِعُ أَعْيَانَ مَا لَهُمَا فَلَهُمَا
أَخْذُهَا كَمَا سَبَقَ، إِنْ لَمْ يَعْلَمَا بِالْحَجْرِ (3) .
الأَْثَرُ الثَّالِثُ - حُلُول الدَّيْنِ الْمُؤَجَّل:
24 - فِي حُلُول الدُّيُونِ الَّتِي عَلَى الْمُفَلِّسِ بِالْحَجْرِ
عَلَيْهِ قَوْلاَنِ لِلْفُقَهَاءِ:
الأَْوَّل وَهُوَ قَوْل الْمَالِكِيَّةِ الْمَشْهُورُ عِنْدَهُمْ، وَقَوْلٌ
لِلشَّافِعِيِّ هُوَ خِلاَفُ الأَْظْهَرِ عِنْدَ أَصْحَابِهِ، وَرِوَايَةً
عَنْ أَحْمَدَ: أَنَّ الدُّيُونَ الْمُؤَجَّلَةَ الَّتِي عَلَى
الْمُفَلِّسِ تَحِل بِتَفْلِيسِهِ. قَال الْمَالِكِيَّةُ: مَا لَمْ يَكُنِ
الْمَدِينُ قَدِ اشْتَرَطَ عَدَمَ حُلُولِهَا بِالتَّفْلِيسِ. وَاحْتَجَّ
أَصْحَابُ هَذَا الْقَوْل: بِأَنَّ التَّفْلِيسَ يَتَعَلَّقُ بِهِ
الدَّيْنُ بِالْمَال، فَيَسْقُطُ الأَْجَل، كَالْمَوْتِ.
__________
(1) سورة البقرة / 280.
(2) حديث " خذوا ما وجدتم، وليس لكم إلا ذلك ". وفي رواية " ولا سبيل لكم
عليه " أخرجه مسلم من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه مرفوعا بلفظ "
أصيب رجل في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم في ثمار ابتاعها، فكثر دينه،
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " تصدق
(3) كشاف القناع 3 / 442، ومطالب أولي النهى 3 / 400.
(5/308)
قَال الْمَالِكِيَّةُ: وَلَوْ طَلَبَ
الدَّائِنُ بَقَاءَ دَيْنِهِ مُؤَجَّلاً لَمْ يَجِبْ لِذَلِكَ.
وَالثَّانِي، وَهُوَ قَوْل الْحَنَفِيَّةِ، وَالشَّافِعِيِّ وَهُوَ
الأَْظْهَرُ عِنْدَ أَصْحَابِهِ، وَرِوَايَةً عَنْ أَحْمَدَ هِيَ الَّتِي
اقْتَصَرَ عَلَيْهَا فِي الإِْقْنَاعِ: لاَ يَحِل الأَْجَل بِالتَّفْلِيسِ.
قَالُوا: لأَِنَّ الأَْجَل حَقٌّ لِلْمُفَلِّسِ، فَلاَ يَسْقُطُ
بِفَلَسِهِ، كَسَائِرِ حُقُوقِهِ، وَلأَِنَّهُ لاَ يُوجِبُ حُلُول مَا
لَهُ، فَلاَ يُوجِبُ حُلُول مَا عَلَيْهِ، كَالْجُنُونِ وَالإِْغْمَاءِ،
وَلَيْسَ هُوَ كَالْمَوْتِ، فَإِنَّ الْمَوْتَ تَخْرَبُ بِهِ الذِّمَّةُ،
بِخِلاَفِ التَّفْلِيسِ.
فَعَلَى هَذَا الْقَوْل: لاَ يُشَارِكُ أَصْحَابُ الدُّيُونِ
الْمُؤَجَّلَةِ أَصْحَابَ الدُّيُونِ الْحَالَّةِ، إِلاَّ إِنْ حَل
الْمُؤَجَّل قَبْل قِسْمَةِ الْمَال فَيُحَاصَّهُمْ. أَوْ قَبْل قِسْمَةِ
بَعْضِهِ فَيُشَارِكُهُمُ الدَّائِنُ فِي ذَلِكَ الْبَعْضِ. قَال
الرَّمْلِيُّ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ، وَصَاحِبُ الإِْقْنَاعِ مِنَ
الْحَنَابِلَةِ: وَإِذَا بِيعَتْ أَمْوَال الْمُفَلِّسِ لَمْ يُدَّخَرْ
مِنْهَا شَيْءٌ لِلْمُؤَجَّل.
وَلاَ يَرْجِعُ رَبُّ الدَّيْنِ الْمُؤَجَّل عَلَى الْغُرَمَاءِ إِذَا حَل
دَيْنُهُ بِشَيْءٍ، لأَِنَّهُ لَمْ يَسْتَحِقَّ مُشَارَكَتَهُمْ حَال
الْقِسْمَةِ. وَقَال الْحَنَفِيَّةُ: يُرْجَعُ عَلَيْهِمْ فِيمَا قَبَضُوا
بِالْحِصَصِ.
أَمَّا عَلَى الْقَوْل الأَْوَّل: فَيُشَارِكُ أَصْحَابُ الدُّيُونِ
الْمُؤَجَّلَةِ أَصْحَابَ الدُّيُونِ الْحَالَّةِ فِي مَال الْمُفَلِّسِ
(1) .
__________
(1) الزرقاني على خليل 5 / 267، والشرح الكبير مع الدسوقي 3 / 266، والمغني
4 / 435، وشرح الإقناع 3 / 438، ونهاية المحتاج 4 / 305، وشرح المنهاج،
وحاشية القليوبي 2 / 285، والفتاوى الهندية 5 / 64.
(5/309)
أَمَّا دُيُونُ الْمُفَلِّسِ عَلَى
النَّاسِ فَلاَ تَحِل بِفَلَسِهِ إِذَا كَانَتْ مُؤَجَّلَةً، لاَ يُعْلَمُ
فِي ذَلِكَ خِلاَفٌ (1) .
الأَْثَرُ الرَّابِعُ: مَدَى اسْتِحْقَاقِ الْغَرِيمِ أَخْذَ عَيْنِ
مَالِهِ إِنْ وَجَدَهَا:
إِذَا أَوْقَعَ الْحَجْرَ عَلَى الْمُفَلِّسِ، فَوَجَدَ أَحَدُ أَصْحَابِ
الدُّيُونِ عَيْنَ مَالِهِ الَّتِي بَاعَهَا لِلْمُفَلِّسِ وَأَقْبَضَهَا
لَهُ (2) ، فَفِي أَحَقِّيَّتِهِ بِاسْتِرْجَاعِهَا قَوْلاَنِ
لِلْعُلَمَاءِ:
25 - الْقَوْل الأَْوَّل: أَنَّ بَائِعَهَا أَحَقُّ بِهَا بِشُرُوطِهِ،
وَهُوَ قَوْل مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ وَالأَْوْزَاعِيِّ
وَالْعَنْبَرِيِّ وَإِسْحَاقَ وَأَبِي ثَوْرٍ وَابْنِ الْمُنْذِرِ،
وَرُوِيَ هَذَا الْقَوْل عَنْ بَعْضِ الصَّحَابَةِ، مِنْهُمْ عُثْمَانُ
وَعَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، وَعَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ
مِنَ التَّابِعِينَ.
وَاحْتَجَّ أَصْحَابُ هَذَا الْقَوْل بِحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُ الْمَرْفُوعِ مَنْ أَدْرَكَ مَالَهُ بِعَيْنِهِ عِنْدَ
رَجُلٍ أَوْ إِنْسَانٍ قَدْ أَفْلَسَ فَهُوَ أَحَقُّ بِهِ مِنْ غَيْرِهِ
(3) .
وَاحْتَجُّوا أَيْضًا بِأَنَّ هَذَا عَقْدٌ يَلْحَقُهُ الْفَسْخُ
بِالإِْقَالَةِ، فَجَازَ فِيهِ الْفَسْخُ لِتَعَذُّرِ الْعِوَضِ،
كَالْمُسْلَمِ فِيهِ إِذَا تَعَذَّرَ، وَبِأَنَّهُ لَوْ شَرَطَ فِي
الْعَقْدِ رَهْنًا، فَعَجَزَ
__________
(1) كشاف القناع شرح الإقناع للبهوتي 3 / 437.
(2) أما إن لم يقبضها له فهو أحق بها اتفاقا، لأنها من ضمانه (بداية
المجتهد) .
(3) الشرح الكبير مع حاشيته 3 / 282، شرح المنهاج 2 / 293، والمغني 4 / 453
ط الرياض. وحديث " من أدرك ماله بعينه عند رجل أو إنسان قد أفلس فهو أحق به
من غيره ". أخرجه البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعا.
(فتح الباري 5 / 62 ط السلفية، وصحيح مسلم 3 / 1193 ط عيسى الحلبي) .
(5/309)
عَنْ تَسْلِيمِهِ، اسْتَحَقَّ الْفَسْخَ،
وَهُوَ وَثِيقَةٌ بِالثَّمَنِ، فَالْعَجْزُ عَنْ تَسْلِيمِ الثَّمَنِ
نَفْسِهِ أَوْلَى (1) .
26 - الْقَوْل الثَّانِي: قَوْل أَبِي حَنِيفَةَ وَأَهْل الْكُوفَةِ
وَقَوْل ابْنِ سِيرِينَ وَإِبْرَاهِيمَ مِنَ التَّابِعِينَ وَابْنِ
شُبْرُمَةَ. وَرُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: أَنَّهُ لَيْسَ
أَحَقَّ بِهَا، بَل هُوَ فِي ثَمَنِهَا أُسْوَةُ الْغُرَمَاءِ.
وَاحْتَجُّوا بِأَنَّ هَذَا مُقْتَضَى الأُْصُول الْيَقِينِيَّةِ
الْمَقْطُوعِ بِهَا، قَالُوا: وَخَبَرُ الْوَاحِدِ إِذَا خَالَفَ الأُْصُول
يُرَدُّ، كَمَا قَال عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: لاَ
نَدَعُ كِتَابَ رَبِّنَا وَسُنَّةَ نَبِيِّنَا لِحَدِيثِ امْرَأَةٍ.
قَالُوا: وَلِمَا رُوِيَ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُ مَرْفُوعًا: أَيُّمَا رَجُلٍ مَاتَ أَوْ أَفْلَسَ فَوَجَدَ بَعْضُ،
غُرَمَائِهِ مَالَهُ بِعَيْنِهِ فَهُوَ أُسْوَةُ الْغُرَمَاءِ (2) .
__________
(1) المغني 4 / 410، ونيل المآرب 1 / 121، وشرح المنهاج مع حاشية القليوبي
2 / 293، وحاشية الدسوقي على الشرح الكبير 3 / 282.
(2) حديث " أيما رجل مات أو أفلس فوجد بعض غرمائه ماله بعينه فهو أسوة
الغرماء " أورده ابن رشد في بداية المجتهد بهذا اللفظ وقال: رواه الزهري عن
أبي بكر بن عبد الرحمن عن أبي هريرة مرفوعا، وذكره البابرتي في العناية
بلفظ مقارب وقال: رواه الخصاف بإسناده، إلا أنن وتعقبه بقوله: " قلت:
المرسل عندنا (الحنفية) حجة، وأسنده الخصاف والرازي (بداية المجتهد 2 / 287
نشر دار المعرفة، والعناية بهامش فتح القدير 8 / 210 ط دار إحياء التراث
العربي، والعناية شرح الهداية 8 / 276 ط دار الفكر) .
(5/310)
قَالُوا: وَهَذَا الْحَدِيثُ أَوْلَى مِنْ
غَيْرِهِ، لِمُوَافَقَتِهِ الأُْصُول الْعَامَّةَ، وَلأَِنَّ الذِّمَّةَ
بَاقِيَةٌ وَحَقُّهُ فِيهَا (1) .
الرُّجُوعُ فِيمَا قَبَضَهُ الْمَدِينُ بِغَيْرِ الشِّرَاءِ:
27 - اخْتَلَفَ الْقَائِلُونَ بِالرُّجُوعِ فِيمَا قَبَضَهُ الْغَرِيمُ
بِغَيْرِ الشِّرَاءِ
أ - فَقَدْ عَمَّمَ الشَّافِعِيَّةُ الْقَوْل بِأَنَّ لَهُ الرُّجُوعَ فِي
عَيْنِ مَالِهِ بِالْفَسْخِ فِي سَائِرِ الْمُعَاوَضَاتِ الْمَالِيَّةِ
الْمَحْضَةِ كَالْقَرْضِ وَالسَّلَمِ، بِخِلاَفِ غَيْرِهَا، كَالْهِبَةِ،
وَالنِّكَاحِ وَالصُّلْحِ عَنْ دَمِ الْعَمْدِ وَالْخُلْعِ.
وَصَنِيعُ الْحَنَابِلَةِ يُوحِي بِأَنَّ قَوْلَهُمْ فِي ذَلِكَ كَقَوْل
الشَّافِعِيَّةِ، وَإِنْ لَمْ نَرَهُمْ صَرَّحُوا بِذَلِكَ، لَكِنَّ
تَمْثِيلَهُمْ لِمَا يُرْجَعُ فِيهِ بِعَيْنِ الْقَرْضِ وَرَأْسِ مَال
السَّلَمِ وَالْعَيْنِ الْمُؤَجَّرَةِ يَدُل عَلَى ذَلِكَ.
ب - وَأَجَازَ الْمَالِكِيَّةُ الرُّجُوعَ لِلْوَارِثِ، وَمَنْ ذَهَبَ لَهُ
الثَّمَنُ، أَوْ تُصُدِّقَ عَلَيْهِ بِهِ، أَوْ أُحِيل بِهِ.
وَأَبَوْا الرُّجُوعَ فِيمَا لاَ يُمْكِنُ الرُّجُوعُ فِيهِ كَعِصْمَةٍ،
فَلَوْ خَالَعَتْ زَوْجَهَا عَلَى مَالٍ، ثُمَّ فَلَّسَتْ قَبْل أَدَاءِ
الْبَدَل، لَمْ يَكُنْ لِمُخَالِعِهَا الرُّجُوعُ بِالْعِصْمَةِ لأَِنَّهَا
خَرَجَتْ مِنْهُ، وَيُحَاصُّ الْغُرَمَاءُ بِبَدَل الْخُلْعِ، وَكَمَا لَوْ
فَلَّسَ الْجَانِي بَعْدَ الصُّلْحِ عَنِ الْقِصَاصِ لَمْ يَكُنْ
لأَِوْلِيَاءِ الْقَتِيل الرُّجُوعُ إِلَى الْقِصَاصِ، لِتَعَذُّرِ ذَلِكَ
شَرْعًا بَعْدَ الْعَفْوِ، بَل يُحَاصُّونَ الْغُرَمَاءَ بِعِوَضِ
الصُّلْحِ (2) .
__________
(1) بداية المجتهد 2 / 288 وفتح القدير 8 / 210.
(2) الشرح الكبير وحاشية الدسوقي 3 / 283، والزرقاني 5 / 282، وكشاف القناع
3 / 425، ومطالب أولي النهى 3 / 378، ونهاية المحتاج 4 / 326، والقليوبي 2
/ 293.
(5/310)
شُرُوطُ الرُّجُوعِ فِي عَيْنِ الْمَال:
جُمْلَةُ الشُّرُوطِ الَّتِي اشْتَرَطَهَا الْقَائِلُونَ بِالرُّجُوعِ فِي
عَيْنِ الْمَال الَّتِي عِنْدَ الْمُفَلِّسِ هِيَ كَمَا يَلِي:
الشَّرْطُ الأَْوَّل:
28 - أَنْ يَكُونَ الْمُفَلِّسُ قَدْ مَلَكَهَا قَبْل الْحَجْرِ لاَ
بَعْدَهُ. فَإِنْ كَانَ مَلَكَهَا بَعْدَ الْحَجْرِ فَلَيْسَ الْبَائِعُ
أَحَقَّ بِهَا، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ عَالِمًا بِالْحَجْرِ، وَذَلِكَ
لأَِنَّهُ لَيْسَ لَهُ الْمُطَالَبَةُ بِثَمَنِهَا فِي الْحَال، فَلَمْ
يَمْلِكِ الْفَسْخَ.
وَقِيل: لَيْسَ هَذَا شَرْطًا، لِعُمُومِ الْخَبَرِ. وَقِيل بِالتَّفْرِيقِ
بَيْنَ الْعَالِمِ وَمَنْ لَمْ يَعْلَمْ (1) .
الشَّرْطُ الثَّانِي:
29 - قَال الْحَنَابِلَةُ: أَنْ تَكُونَ السِّلْعَةُ بَاقِيَةً
بِعَيْنِهَا، وَلَمْ يَتْلَفْ بَعْضُهَا، فَإِنْ تَلِفَتْ كُلُّهَا أَوْ
تَلِفَ جُزْءٌ مِنْهَا، كَمَا لَوِ انْهَدَمَ بَعْضُ الدَّارِ، أَوْ
تَلِفَتْ ثَمَرَةُ الْبُسْتَانِ، لَمْ يَكُنْ لِلْبَائِعِ الرُّجُوعُ،
وَكَانَ أُسْوَةَ الْغُرَمَاءِ.
وَاحْتَجُّوا بِقَوْل النَّبِيِّ: مَنْ أَدْرَكَ مَالَهُ بِعَيْنِهِ عِنْدَ
رَجُلٍ أَوْ إِنْسَانٍ قَدْ أَفْلَسَ فَهُوَ أَحَقُّ بِهِ مِنْ غَيْرِهِ
(2) قَالُوا: فَإِنَّ قَوْلَهُ: " بِعَيْنِهِ " يَقْتَضِي ذَلِكَ.
وَلأَِنَّهُ إِذَا أَدْرَكَهُ بِعَيْنِهِ فَأَخَذَهُ انْقَطَعَتِ
الْخُصُومَةُ بَيْنَهُمَا.
وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ يَمْنَعُ تَلَفُ كُلِّهِ
__________
(1) المغني 4 / 410، وحاشية الدسوقي 3 / 282، والزرقاني 5 / 282.
(2) حديث " من أدرك ماله بعينه عند رجل أو إنسان قد أفلس فهو أحق به " سبق
تخريجه. ف 25.
(5/311)
الرُّجُوعَ، وَلاَ يَمْنَعُ تَلَفُ
بَعْضِهِ الرُّجُوعَ، عَلَى تَفْصِيلٍ عِنْدَهُمْ فِي ذَلِكَ يُرْجَعُ.
إِلَيْهِ فِي بَابِهِ (1) .
الشَّرْطُ الثَّالِثُ:
30 - أَنْ تَكُونَ السِّلْعَةُ عِنْدَ الْمُفَلِّسِ عَلَى حَالِهَا الَّتِي
اشْتَرَاهَا عَلَيْهَا. فَإِنِ انْتَقَلَتْ عَيْنُ السِّلْعَةِ عَنِ
الْحَال الَّتِي اشْتَرَاهَا عَلَيْهَا، بَعْدَ شِرَائِهِ لَهَا - قَال
الْحَنَابِلَةُ: بِمَا يُزِيل اسْمَهَا - مَنَعَ ذَلِكَ الرُّجُوعَ، كَمَا
لَوْ طَحَنَ الْحِنْطَةَ، أَوْ فَصَّل الثَّوْبَ، أَوْ ذَبَحَ الْكَبْشَ،
أَوْ تَتَمَّرَ رُطَبُهُ، أَوْ نَجَّرَ الْخَشَبَةَ بَابًا، أَوْ نَسَجَ
الْغَزْل، أَوْ فَصَّل الْقُمَاشَ قَمِيصًا. وَهَذَا عِنْدَ
الْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ. وَقَالُوا: لأَِنَّهُ لَمْ يَجِدْ
عَيْنَ مَالِهِ.
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: إِنْ لَمْ تَزِدِ الْقِيمَةُ بِهَذَا الاِنْتِقَال
رَجَعَ وَلاَ شَيْءَ لِلْمُفَلِّسِ. وَإِنْ نَقَصَتْ فَلاَ شَيْءَ
لِلْبَائِعِ إِنْ رَجَعَ بِهِ. وَإِنْ زَادَتْ، فَالأَْظْهَرُ أَنَّهُ
يُبَاعُ وَلِلْمُفَلِّسِ مِنْ ثَمَنِهِ بِنِسْبَةِ مَا زَادَ (2) .
الشَّرْطُ الرَّابِعُ:
31 - أَلاَّ يَكُونَ الْمَبِيعُ قَدْ زَادَ عِنْدَ الْمُفَلِّسِ زِيَادَةً.
مُتَّصِلَةً، كَالسِّمَنِ وَالْكِبَرِ، وَتَجَدَّدَ الْحَمْل - مَا لَمْ
تَلِدْ - وَهَذَا عَلَى قَوْلٍ فِي مَذْهَبِ أَحْمَدَ.
وَقَوْل الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ، وَهُوَ رِوَايَةً عَنْ
أَحْمَدَ: أَنَّ الزِّيَادَةَ الْمُتَّصِلَةَ الْمُتَوَلِّدَةَ لاَ
تَمْنَعُ الرُّجُوعَ، وَيَفُوزُ بِهَا الْبَائِعُ، إِلاَّ أَنَّ
الْمَالِكِيَّةَ يُخَيِّرُونَ الْغُرَمَاءَ بَيْنَ أَنْ يُعْطُوا
السِّلْعَةَ، أَوْ ثَمَنَهَا الَّذِي بَاعَهَا بِهِ (3) .
__________
(1) المغني 4 / 413، وشرح المنهاج 2 / 294، وبلغة السالك 2 / 135.
(2) الزرقاني 5 / 283، والمغني 4 / 416، وشرح المنهاج بحاشية القليوبي 2 /
297.
(3) المغني 4 / 465.
(5/311)
وَهَذَا بِخِلاَفِ نَقْصِ الصِّفَةِ فَلاَ
يَمْنَعُ الرُّجُوعَ (1) .
أَمَّا الزِّيَادَةُ الْمُنْفَصِلَةُ فَإِنَّهَا لاَ تَمْنَعُ الرُّجُوعَ،
وَذَلِكَ كَالثَّمَرَةِ وَالْوَلَدِ. وَهَذَا قَوْل مَالِكٍ
وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ، سَوَاءٌ أَنَقَصَ بِهَا الْمَبِيعُ أَمْ لَمْ
يَنْقُصْ، إِذَا كَانَ نَقْصَ صِفَةٍ. وَالزِّيَادَةُ الْمُنْفَصِلَةُ
لِلْمُشْتَرِي وَهُوَ الْمُفَلِّسُ (2) .
الشَّرْطُ الْخَامِسُ:
32 - أَلاَّ يَكُونَ قَدْ تَعَلَّقَ بِالسِّلْعَةِ حَقٌّ لِلْغَيْرِ،
كَأَنْ وَهَبَهَا الْمُشْتَرِي أَوْ بَاعَهَا أَوْ وَقَفَهَا فَلاَ
رُجُوعَ، لأَِنَّهُ لَمْ يُدْرِكْ مَتَاعَهُ بِعَيْنِهِ عِنْدَ
الْمُفَلِّسِ، فَلاَ يَدْخُل فِي النَّصِّ (3) .
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ فِي الْمَرْهُونِ: إِنَّ لِلدَّائِنِ أَنْ يَفُكَّ
الرَّهْنَ بِدَفْعِ مَا رُهِنَتْ بِهِ الْعَيْنُ، وَيَأْخُذُهَا،
وَيُحَاصُّ الْغُرَمَاءَ بِمَا دَفَعَ (4) .
الشَّرْطُ السَّادِسُ:
33 - وَهُوَ لِلشَّافِعِيَّةِ. قَالُوا: أَنْ يَكُونَ الثَّمَنُ دَيْنًا،
فَلَوْ كَانَ الثَّمَنُ عَيْنًا قُدِّمَ عَلَى الْغُرَمَاءِ بِقَبْضِ
الْعَيْنِ الَّتِي هِيَ ثَمَنٌ، وَذَلِكَ كَمَا لَوْ بَاعَ بَقَرَةً
بِبَعِيرٍ، ثُمَّ أَفْلَسَ الْمُشْتَرِي، فَالْبَائِعُ يَرْجِعُ
بِالْبَعِيرِ وَلاَ يَرْجِعُ بِالْمَبِيعِ، أَيِ الْبَقَرَةِ (5) .
__________
(1) المغني 4 / 464.
(2) المغني 4 / 465.
(3) المغني 4 / 431، 432، ونهاية المحتاج 4 / 330، 332.
(4) الشرح الكبير وحاشية الدسوقي 2 / 285.
(5) نهاية المحتاج وحاشية الرشيدي 4 / 332.
(5/312)
الشَّرْطُ السَّابِعُ:
34 - قَال الشَّافِعِيَّةُ: أَنْ يَكُونَ الثَّمَنُ حَالًّا عِنْدَ
الرُّجُوعِ، فَلاَ رُجُوعَ فِيمَا كَانَ ثَمَنُهُ مُؤَجَّلاً وَلَمْ يَحِل،
إِذْ لاَ مُطَالَبَةَ فِي الْحَال.
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: إِنْ كَانَ الثَّمَنُ مُؤَجَّلاً لَمْ يَحِل
رُجُوعُ الْبَائِعِ فِي السِّلْعَةِ، فَتَوَقَّفَ إِلَى الأَْجَل،
فَيَخْتَارُ الْبَائِعُ حِينَئِذٍ بَيْنَ الْفَسْخِ وَالتَّرْكِ. وَلاَ
تُبَاعُ فِيمَا يُبَاعُ مِنْ مَال الْمُفَلِّسِ. قَالُوا: لأَِنَّ حَقَّ
الْبَائِعِ تَعَلَّقَ بِهَا، فَقُدِّمَ عَلَى غَيْرِهِ، وَإِنْ كَانَ
مُؤَجَّلاً، كَالْمُرْتَهِنِ (1) .
الشَّرْطُ الثَّامِنُ:
35 - وَهُوَ لِلْحَنَابِلَةِ، قَالُوا: يُشْتَرَطُ أَلاَّ يَكُونَ
الْبَائِعُ قَدْ قَبَضَ مِنْ ثَمَنِهَا شَيْئًا. وَإِلاَّ سَقَطَ حَقُّهُ
فِي الرُّجُوعِ. قَالُوا: وَالإِْبْرَاءُ مِنْ بَعْضِ الثَّمَنِ
كَقَبْضِهِ.
وَاحْتَجُّوا بِمَا رَوَى الدَّارَقُطْنِيُّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ
مَرْفُوعًا: أَيُّمَا رَجُلٍ بَاعَ سِلْعَةً، فَأَدْرَكَ سِلْعَتَهُ
بِعَيْنِهَا عِنْدَ رَجُلٍ قَدْ أَفْلَسَ، وَلَمْ يَكُنْ قَبَضَ مِنْ
ثَمَنِهَا شَيْئًا، فَهِيَ لَهُ. وَإِنْ كَانَ قَبَضَ مِنْ ثَمَنِهَا
شَيْئًا فَهُوَ أُسْوَةُ الْغُرَمَاءِ (2) .
وَقَال الشَّافِعِيُّ فِي مَذْهَبِهِ الْجَدِيدِ: لِلْبَائِعِ أَنْ
يَرْجِعَ بِمَا يُقَابِل الْبَاقِيَ مِنْ دَيْنِهِ. وَقَال مَالِكٌ: هُوَ
مُخَيَّرٌ إِنْ شَاءَ رَدَّ مَا أَخَذَهُ وَرَجَعَ فِي جَمِيعِ الْعَيْنِ،
وَإِنْ شَاءَ حَاصَّ الْغُرَمَاءَ وَلَمْ يَرْجِعْ (3) .
__________
(1) نهاية المحتاج 4 / 328، وكشاف القناع 3 / 425.
(2) حديث " أيما رجل باع سلعة فأدرك سلعته بعينها عند رجل قد أفلس. . . "
أخرجه الدارقطني وفي إسناده إسماعيل بن عياش، قال الدراقطني: إسماعيل بن
عياش مضطرب الحديث ولا يثبت هذا عن الزهري مسندا وإنما هو مرسل (سنن
الدارقطني 3 / 29 - 30 ط دار المحاسن) .
(3) المغني 4 / 430، وكشاف القناع 4 / 426، ونهاية المحتاج 4 / 332، 333،
وبداية المجتهد 2 / 288، والدسوقي على الشرح الكبير 3 / 286.
(5/312)
الشَّرْطُ التَّاسِعُ:
36 - وَهُوَ لِلْمَالِكِيَّةِ، قَالُوا: يُشْتَرَطُ أَلاَّ يَفْدِيَهُ
الْغُرَمَاءُ بِثَمَنِهِ الَّذِي عَلَى الْمُفَلِّسِ، فَإِنْ فَدَوْهُ -
وَلَوْ بِمَا لَهُمْ - لَمْ يَأْخُذْهُ، وَكَذَا لَوْ ضَمِنُوا لَهُ
الثَّمَنَ، وَهُمْ ثِقَاتٌ، أَوْ أَعْطَوْا بِهِ كَفِيلاً ثِقَةً.
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ: لاَ يَسْقُطُ حَقُّهُ فِي
الْفَسْخِ، وَلَوْ قَال الْغُرَمَاءُ لَهُ: لاَ تَفْسَخْ وَنَحْنُ
نُقَدِّمُكَ بِالثَّمَنِ مِنَ التَّرِكَةِ. قَال الْحَنَابِلَةُ: لِعُمُومِ
الأَْدِلَّةِ. وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: لِمَا فِي ذَلِكَ مِنَ الْمِنَّةِ،
وَلِخَوْفِ ظُهُورِ غَرِيمٍ آخَرَ. لَكِنْ لَوْ أَنَّ الْغُرَمَاءَ
بَذَلُوا الثَّمَنَ لِلْمُفَلِّسِ، فَأَعْطَاهُ لِلْبَائِعِ سَقَطَ حَقُّهُ
فِي الْفَسْخِ (1) .
الشَّرْطُ الْعَاشِرُ:
37 - أَنْ يَكُونَ الْمُفَلِّسُ حَيًّا إِلَى أَخْذِهَا، فَإِنْ مَاتَ
بَعْدَ الْحَجْرِ عَلَيْهِ، سَقَطَ حَقُّ الْبَائِعِ فِي الرُّجُوعِ.
وَهَذَا مَذْهَبُ مَالِكٍ وَأَحْمَدَ. لِحَدِيثِ:. . . فَإِنْ مَاتَ
فَصَاحِبُ الْمَتَاعِ أُسْوَةُ الْغُرَمَاءِ (2) . وَفِي رِوَايَةٍ:
__________
(1) الزرقاني 5 / 282، ونهاية المحتاج 4 / 329، وكشاف القناع 3 / 425.
(2) حديث: ". . . فإن مات فصاحب المتاع أسوة الغرماء ". أخرجه أبو داود من
حديث أبي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام، بلفظ: " أن رسول الله صلى
الله عليه وسلم قال: أيما رجل باع متاعا، فأفلس الذي ابتاعه، ولم يقبض الذي
باعه من ثمنه شيئا، فوجد متاعه بعين (عون المعبود 3 / 309 ط الهند.) .
(5/313)
أَيُّمَا امْرِئٍ مَاتَ، وَعِنْدَهُ مَال
امْرِئٍ بِعَيْنِهِ، اقْتَضَى مِنْهُ شَيْئًا أَوْ لَمْ يَقْتَضِ فَهُوَ
أُسْوَةُ الْغُرَمَاءِ (1) .
قَالُوا: وَلأَِنَّهُ تَعَلَّقَ بِهِ حَقُّ غَيْرِ الْمُفَلِّسِ، وَهُمُ
الْوَرَثَةُ، كَالْمَرْهُونِ، وَكَمَا لَوْ بَاعَهُ.
وَقَال الشَّافِعِيُّ: لَهُ الْفَسْخُ وَاسْتِرْجَاعُ الْعَيْنِ، لِحَدِيثِ
أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا: أَيُّمَا رَجُلٍ مَاتَ أَوْ أَفْلَسَ
فَصَاحِبُ الْمَتَاعِ أَحَقُّ بِمَتَاعِهِ، إِذَا وَجَدَهُ بِعَيْنِهِ (2)
.
الشَّرْطُ الْحَادِيَ عَشَرَ:
38 - أَنْ يَكُونَ الْبَائِعُ أَيْضًا حَيًّا، فَلَوْ مَاتَ قَبْل
الرُّجُوعِ فَلاَ رُجُوعَ عَلَى قَوْلٍ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ. وَفِي
الإِْنْصَافِ: لِلْوَرَثَةِ الرُّجُوعُ (3) .
__________
(1) حديث " أيما امرئ مات وعنده مال امرئ بعينه. . . ". أخرجه ابن ماجه
والدارقطني من حديث أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعا، وفي إسناديهما اليمان
بن عدي، قال عنه الدراقطني: ضعيف الحديث (سنن ابن ماجه 2 / 791 ط عيسى
الحلبي، وسنن الدراقطني 3 / 30 ط دار المحاسن) .
(2) المغني 4 / 453، 454، ومطالب أولي النهى 3 / 379، ونهاية المحتاج 4 /
325. وحديث " أيما رجل مات أو أفلس فصاحب المتاع أحق بمتاعه إذا وجده بعينه
" أخرجه أبو داود وابن ماجه والحاكم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه
مرفوعا، وفي إسناده أبو المعتمر، قال عنه أبو داود: لا يعرف، قال الحافظ
ابن حجر هو حديث حسن يحتج بمثله، وصححه الحاكم وأقره الذهبي. (عون المعبود
3 / 309 ط الهند، ومختصر سنن أبي داود للمنذري 5 / 177 نشر دار المعرفة،
وسنن ابن ماجه 2 / 790 ط عيسى الحلبي، وفتح الباري 4 / 64 ط السلفية،
والمستدرك 2 / 50 - 51 نشر دار الكتاب العربي) .
(3) كشاف القناع 3 / 428، 429.
(5/313)
الشَّرْطُ الثَّانِيَ عَشَرَ:
39 - قَال الشَّافِعِيَّةُ عَلَى الأَْصَحِّ عِنْدَهُمْ: لَهُ أَنْ
يَرْجِعَ فَوْرَ عِلْمِهِ بِالْحَجْرِ، فَإِنْ تَرَاخَى فِي الرُّجُوعِ،
وَادَّعَى أَنَّهُ جَهِل أَنَّ الرُّجُوعَ عَلَى الْفَوْرِ، قُبِل مِنْهُ.
وَلَوْ صُولِحَ عَنِ الرُّجُوعِ عَلَى مَالٍ لَمْ يَصِحَّ الصُّلْحُ،
وَبَطَل حَقُّهُ مِنَ الْفَسْخِ إِنْ عَلِمَ.
وَوَجْهُ اشْتِرَاطِهِ عِنْدَهُمْ أَنَّهُ كَالرَّدِّ بِالْعَيْبِ،
بِجَامِعِ دَفْعِ الضَّرَرِ.
وَالْقَوْل الآْخَرُ لِلشَّافِعِيَّةِ، وَهُوَ مَذْهَبُ الْحَنَابِلَةِ:
أَنَّ الرُّجُوعَ عَلَى التَّرَاخِي. قَالُوا: وَهُوَ كَرُجُوعِ الأَْبِ
فِي هِبَتِهِ لاِبْنِهِ. (1)
الرُّجُوعُ بِعَيْنِ الثَّمَنِ:
40 - لَوْ كَانَ الْغَرِيمُ اشْتَرَى مِنَ الْمُفَلِّسِ شَيْئًا فِي
الذِّمَّةِ، وَأَسْلَمَ الثَّمَنُ، وَلَمْ يَقْبِضِ السِّلْعَةَ، حَتَّى
حُجِرَ عَلَى الْمُفَلِّسِ، فَهَل يَرْجِعُ الْغَرِيمُ بِمَا أَسْلَمَهُ
مِنَ النُّقُودِ؟ قَال الْمَالِكِيَّةُ: نَعَمْ يَرْجِعُ إِنْ ثَبَتَ
عَيْنُهَا بِبَيِّنَةٍ أَوْ طَبْعٍ، قِيَاسًا لِلثَّمَنِ عَلَى
الْمُثَمَّنِ.
وَقَال أَشْهَبُ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ: لاَ يَرْجِعُ، لأَِنَّ
الأَْحَادِيثَ إِنَّمَا فِيهَا مَنْ وَجَدَ سِلْعَتَهُ. . . (2)
__________
(1) نهاية المحتاج 4 / 325، 326، وكشاف القناع 3 / 429.
(2) حديث " من وجد سلعته. . . " أخرجه مسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه
بلفظ: " إذا أفلس الرجل فوجد الرجل عنده سلعته بعينها فهو أحق به ". (صحيح
مسلم 3 / 1194 ط عيسى الحلبي) .
(5/314)
وَ: مَنْ وَجَدَ مَتَاعَهُ. . . (1)
وَالنَّقْدَانِ لاَ يُطْلَقُ عَلَيْهِمَا ذَلِكَ عُرْفًا (2) .
ثُمَّ قَدْ قَال الْمَالِكِيَّةُ: وَلَوِ اشْتَرَى شِرَاءً فَاسِدًا
فَفَسَخَهُ الْحَاكِمُ وَأَفْلَسَ الْبَائِعُ، فَالْمُشْتَرِي أَحَقُّ
بِالثَّمَنِ إِنْ كَانَ مَوْجُودًا لَمْ يَفُتْ (3) .
وَلَمْ نَعْثُرْ عَلَى نَصٍّ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ لِسَائِرِ
الْمَذَاهِبِ.
اسْتِحْقَاقُ مُشْتَرِي الْعَيْنِ أَخْذَهَا إِنْ حُجِرَ عَلَى الْبَائِعِ
لِلْفَلَسِ قَبْل تَقْبِيضِهَا:
41 - نَصَّ الْحَنَابِلَةُ عَلَى أَنَّ الرَّجُل لَوْ بَاعَ عَيْنًا، ثُمَّ
أَفْلَسَ قَبْل تَقْبِيضِهَا، فَالْمُشْتَرِي أَحَقُّ بِهَا مِنَ
الْغُرَمَاءِ، لأَِنَّهَا عَيْنُ مِلْكِهِ، وَذَلِكَ صَادِقٌ عِنْدَهُمْ
سَوَاءٌ كَانَتِ السِّلْعَةُ مِمَّا لاَ يَحْتَاجُ لِحَقِّ تَوْفِيَةٍ،
كَدَارٍ وَسَيَّارَةٍ، أَوْ مَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ، كَالْمَكِيل
وَالْمَوْزُونِ (4) .
وَلَمْ نَجِدْ تَعَرُّضًا لِهَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فِي الْمَذَاهِبِ
الأُْخْرَى.
هَل يَحْتَاجُ الرُّجُوعُ إِلَى حُكْمِ حَاكِمٍ:
42 - لاَ يَفْتَقِرُ الرُّجُوعُ فِي الْعَيْنِ إِلَى حُكْمِ حَاكِمٍ، عَلَى
مَذْهَبِ الْحَنَابِلَةِ، وَعَلَى الأَْصَحِّ فِي مَذْهَبِ
الشَّافِعِيَّةِ. قَالُوا: لأَِنَّهُ ثَبَتَ بِالنَّصِّ (5) .
__________
(1) حديث " من وجد متاعه. . . . " أخرجه مسلم من حديث أبي هريرة بلفظ: "
إذا أفلس الرجل فوجد الرجل متاعه بعينه فهو أحق بها ". (صحيح مسلم 3 / 1194
ط عيسى الحلبي) .
(2) الزرقاني 5 / 282، والدسوقي 3 / 83.
(3) الشرح الكبير والدسوقي 3 / 290، وجواهر الإكليل 2 / 97.
(4) كشاف القناع 3 / 437.
(5) كشاف القناع 3 / 429، ونهاية المحتاج 4 / 326، وشرح المحلي على المنهاج
2 / 293.
(5/314)
وَلَوْ حَكَمَ بِمَنْعِ الْفَسْخِ حَاكِمٌ
فَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ: لاَ يُنْقَضُ حُكْمُهُ قَالُوا: لأَِنَّ
الْمَسْأَلَةَ اجْتِهَادِيَّةٌ، وَالْخِلاَفُ فِيهَا قَوِيٌّ، إِذِ
النَّصُّ كَمَا يُحْتَمَل أَنَّهُ " أَحَقُّ بِعَيْنِ مَتَاعِهِ "
يُحْتَمَل أَنَّهُ " أَحَقُّ بِثَمَنِهِ " وَإِنْ كَانَ الأَْوَّل
أَظْهَرَ.
وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ: يَجُوزُ نَقْضُ حُكْمِهِ (1) ، نَقَل صَاحِبُ
الْمُغْنِي عَنْ نَصِّ أَحْمَدَ: لَوْ حَكَمَ حَاكِمٌ بِأَنَّ صَاحِبَ
الْمَتَاعِ أُسْوَةُ الْغُرَمَاءِ، ثُمَّ رُفِعَ إِلَى رَجُلٍ يَرَى
الْعَمَل بِالْحَدِيثِ، جَازَ لَهُ نَقْضُ حُكْمِهِ. أَيْ فَمَا كَانَ
بِهَذِهِ الْمَثَابَةِ لاَ يَحْتَاجُ إِلَى حُكْمِ حَاكِمٍ.
مَا يَحْصُل بِهِ الرُّجُوعُ:
43 - يَحْصُل الرُّجُوعُ بِالْقَوْل، بِأَنْ يَقُول: فَسَخْتُ الْبَيْعَ
أَوْ رَفَعْتُهُ أَوْ نَقَضْتُهُ أَوْ أَبْطَلْتُهُ أَوْ رَدَدْتُ. نَصَّ
عَلَى هَذَا الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ، قَال الْحَنَابِلَةُ:
فَلَوْ قَال ذَلِكَ صَحَّ رُجُوعُهُ وَلَوْ لَمْ يَقْبِضِ الْعَيْنَ.
فَلَوْ رَجَعَ كَذَلِكَ ثُمَّ تَلِفَتِ الْعَيْنُ تَلِفَتْ مِنْ مَال
الْبَائِعِ مَا لَمْ يَتَبَيَّنْ أَنَّهَا تَلِفَتْ قَبْل رُجُوعِهِ، أَوْ
كَانَتْ بِحَالَةٍ لاَ يَصِحُّ الرُّجُوعُ فِيهَا لِفَقْدِ شَرِيطَةٍ مِنْ
شَرَائِطِ الرُّجُوعِ الْمُعْتَبَرَةِ، أَوْ لِمَانِعٍ يَمْنَعُ
الرُّجُوعَ، كَمَا لَوْ كَانَ دَقِيقًا فَاِتَّخَذَهُ خُبْزًا، أَوْ
حَدِيدًا فَاِتَّخَذَهُ سَيْفًا (2) .
أَمَّا الرُّجُوعُ بِالْفِعْل: فَقَدْ نَصَّ الشَّافِعِيَّةُ - فِي
الأَْصَحِّ عِنْدَهُمْ - وَالْحَنَابِلَةُ عَلَى أَنَّ الرُّجُوعَ لاَ
يَحْصُل بِالتَّصَرُّفِ النَّاقِل لِلْمِلْكِيَّةِ كَالْبَيْعِ، وَلَوْ
نَوَى بِهِ الرُّجُوعَ. قَال صَاحِبُ مَطَالِبِ أُولِي النُّهَى: حَتَّى
لَوْ أَخَذَ الْعَيْنَ بِنِيَّةِ الرُّجُوعِ لَمْ يَحْصُل الرُّجُوعُ.
__________
(1) نهاية المحتاج 4 / 326، وكشاف القناع 3 / 429.
(2) نهاية المحتاج 4 / 326، وكشاف القناع 3 / 429.
(5/315)
وَالْقَوْل الآْخَرُ: أَنَّهُ يَحْصُل
بِذَلِكَ، كَالْبَيْعِ فِي مُدَّةِ الْخِيَارِ (1) .
وَلَمْ نَجِدْ لِلْمَالِكِيَّةِ نَصًّا فِي ذَلِكَ.
ظُهُورُ عَيْنٍ مُسْتَحَقَّةٍ فِي مَال الْمُفَلِّسِ:
44 - لَوْ ظَهَرَ شَيْءٌ مُسْتَحَقٌّ فِي مَال الْمُفَلِّسِ فَهُوَ
لِصَاحِبِهِ.
وَلَوْ أَنَّ الْمُفَلِّسَ بَاعَهُ قَبْل الْحَجْرِ ثُمَّ اسْتَحَقَّ -
وَالثَّمَنُ تَالِفٌ - فَإِنَّ الْمُشْتَرِيَ يُشَارِكُ الْغُرَمَاءَ
كَوَاحِدٍ مِنْهُمْ، وَسَوَاءٌ أَكَانَ تَلَفُ الثَّمَنِ قَبْل الْحِجْرِ
أَوْ بَعْدَهُ، لأَِنَّ دَيْنَهُ مِنْ جُمْلَةِ الدُّيُونِ الثَّابِتَةِ
فِي ذِمَّةِ الْمُفَلِّسِ قَبْل إِفْلاَسِهِ.
وَإِنْ كَانَ الثَّمَنُ غَيْرَ تَالِفٍ، فَالْمُشْتَرِي أَوْلَى بِهِ عَلَى
مَا صَرَّحَ بِهِ الشَّافِعِيَّةُ، وَيُفْهَمُ مِنْ كَلاَمِ
الْحَنَابِلَةِ، لأَِنَّهُ عَيْنُ مَالِهِ (2) .
الرُّجُوعُ فِي الأَْرْضِ بَعْدَ الْبِنَاءِ فِيهَا أَوْ غَرْسِهَا:
45 - عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ: إِذَا أَفْلَسَ مُشْتَرِي
الأَْرْضِ وَحُجِرَ عَلَيْهِ، وَكَانَ قَدْ غَرَسَ فِيهَا غِرَاسًا أَوْ
بَنَى بِنَاءً، لَمْ يَمْنَعْ ذَلِكَ مِنْ رُجُوعِ الْبَائِعِ فِيهَا.
وَالزَّرْعُ الَّذِي يُجَذُّ مَرَّةً بَعْدَ أُخْرَى وَتَبْقَى أُصُولُهُ
كَالْغِرَاسِ فِي هَذَا.
ثُمَّ إِنْ تَرَاضَى الطَّرَفَانِ - الْبَائِعُ مِنْ جِهَةٍ،
وَالْغُرَمَاءُ مَعَ الْمُفَلِّسِ مِنَ الْجِهَةِ الأُْخْرَى - عَلَى
الْقَلْعِ، أَوْ أَبَاهُ الْبَائِعُ وَطَلَبُوهُ هُمْ فَلَهُمْ ذَلِكَ،
لأَِنَّهُ
__________
(1) مطالب أولي النهى 3 / 382، ونهاية المحتاج 4 / 326.
(2) نهاية المحتاج 4 / 317، والسراج الوهاج ص 225 ط مصطفى الحلبي، وكشاف
القناع 3 / 436، وحاشية الدسوقي مع الشرح الكبير 3 / 275.
(5/315)
مِلْكٌ لِلْمُفَلِّسِ لاَ حَقٌّ
لِلْبَائِعِ فِيهِ، وَلاَ يُمْنَعُ الإِْنْسَانُ مِنْ أَخْذِ مِلْكِهِ.
وَيَلْزَمُ حِينَئِذٍ تَسْوِيَةُ الأَْرْضِ مِنَ الْحُفَرِ، وَأَرْشُ
نَقْصِ الأَْرْضِ بِسَبَبِ الْقَلْعِ يَجِبُ ذَلِكَ فِي مَال الْمُفَلِّسِ،
لأَِنَّهُ نَقْصٌ حَصَل لِتَخْلِيصِ مِلْكِ الْمُفَلِّسِ، فَكَانَ
عَلَيْهِ، وَيُقَدَّمُ بِهِ الآْخِذُ عَلَى حُقُوقِ الْغُرَمَاءِ عِنْدَ
الشَّافِعِيَّةِ، لأَِنَّهُ لِمَصْلَحَةِ تَحْصِيل الْمَال، وَيُحَاصُّهُمْ
بِهِ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ.
وَإِنْ أَبَى الْمُفَلِّسُ وَالْغُرَمَاءُ الْقَلْعَ، لَمْ يُجْبَرُوا
عَلَيْهِ، لأَِنَّهُ وُضِعَ بِحَقٍّ. وَلِلآْخِذِ حِينَئِذٍ تَمَلُّكُ
الْغَرْسِ وَالْبِنَاءِ بِقِيمَتِهِ قَائِمًا، لأَِنَّهُ غَرَسَ أَوْ بَنَى
وَهُوَ صَاحِبُ حَقٍّ، وَإِنْ شَاءَ فَلَهُ الْقَلْعُ وَإِعْطَاؤُهُ
لِلْغُرَمَاءِ مَعَ أَرْشِ نَقْصِهِ، فَإِنْ أَبَى الآْخِذُ تَمَلَّكَ
الْغَرْسَ وَالْبِنَاءَ، وَأَبَى أَدَاءَ أَرْشِ النَّقْصِ، فَلاَ رُجُوعَ
لَهُ عَلَى الأَْظْهَرِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْمُقَدَّمُ عِنْدَ
الْحَنَابِلَةِ، لأَِنَّ الرُّجُوعَ حِينَئِذٍ ضَرَرٌ عَلَى الْغُرَمَاءِ،
وَلاَ يُزَال الضَّرَرُ بِالضَّرَرِ.
وَالْوَجْهُ الآْخَرُ عِنْدَ الطَّرَفَيْنِ: لَهُ الرُّجُوعُ، وَتَكُونُ
الأَْرْضُ عَلَى مِلْكِهِ، وَالْغَرْسُ وَالْبِنَاءُ لِلْمُفَلِّسِ (1) .
وَلَمْ يَتَعَرَّضِ الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَفِيَّةُ لِهَذِهِ
الْمَسْأَلَةِ فِيمَا اطَّلَعْنَا عَلَيْهِ مِنْ كَلاَمِهِمْ.
إِفْلاَسُ الْمُسْتَأْجِرِ:
46 - عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ: إِذَا
آجَرَ عَيْنًا لَهُ بِأُجْرَةٍ حَالَّةٍ وَلَمْ يَقْبِضْهَا حَتَّى حُجِرَ
عَلَى الْمُسْتَأْجِرِ لِفَلَسٍ، فَالْمُؤَجِّرُ مُخَيَّرٌ، إِنْ شَاءَ
رَجَعَ فِي الْعَيْنِ
__________
(1) شرح المنهاج 2 / 296، ونهاية المحتاج 4 / 335 وما بعدها، وشرح المنتهى
2 / 282، وكشاف القناع 3 / 431، المغني 4 / 426 - 428.
(5/316)
بِالْفَسْخِ، وَإِنْ شَاءَ تَرَكَ ذَلِكَ
لِلْغُرَمَاءِ وَحَاصَّ بِجَمِيعِ الأُْجْرَةِ.
وَإِنِ اخْتَارَ الْفَسْخَ، وَكَانَ قَدْ مَضَى شَيْءٌ مِنَ الْمُدَّةِ،
فَقَال الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ: يُشَارِكُ الْمُؤَجِّرُ
الْغُرَمَاءَ بِأُجْرَةِ مَا مَضَى، وَيَفْسَخُ فِي الْبَاقِي.
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: فِي هَذِهِ الْحَال يَسْقُطُ حَقُّهُ فِي الْفَسْخِ
بِنَاءً عَلَى قَوْلِهِمْ: إِنَّ تَلَفَ بَعْضِ السِّلْعَةِ يَمْنَعُ
الرُّجُوعَ (1) .
إِفْلاَسُ الْمُؤَجِّرِ:
47 - إِنْ آجَرَ دَارًا بِعَيْنِهَا ثُمَّ أَفْلَسَ الْمُؤَجِّرُ،
فَالإِْجَارَةُ مَاضِيَةٌ وَلاَ تَنْفَسِخُ بِفَلَسِهِ لِلُزُومِهَا،
وَسَوَاءٌ أَقَبَضَ الْعَيْنَ أَمْ لَمْ يَقْبِضْهَا. وَإِنْ طَلَبَ
الْغُرَمَاءُ بَيْعَ الدَّارِ الْمُعَيَّنَةِ فِي الْحَال بِيعَتْ
مُؤَجَّرَةً، وَإِنِ اتَّفَقُوا عَلَى تَأْخِيرِ بَيْعِهَا حَتَّى
تَنْقَضِيَ الإِْجَارَةُ جَازَ.
أَمَّا إِنِ اسْتَأْجَرَ دَارًا مَوْصُوفَةً فِي الذِّمَّةِ، ثُمَّ
أَفْلَسَ الْمُؤَجِّرُ قَبْل الْقَبْضِ، فَالْمُسْتَأْجِرُ أُسْوَةُ
الْغُرَمَاءِ، لِعَدَمِ تَعَلُّقِ حَقِّهِ بِعَيْنٍ (2) .
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ: وَإِنْ أَفْلَسَ مُلْتَزِمُ
عَمَلٍ فِي الذِّمَّةِ، وَقَدْ سَلَّمَ لِلْمُسْتَأْجِرِ عَيْنًا
لِيَسْتَوْفِيَ مِنْهَا، قُدِّمَ بِهَا كَالْمُعَيَّنَةِ فِي الْعَقْدِ.
ثُمَّ قَال الشَّافِعِيَّةُ: فَإِنْ لَمْ يَكُنْ سَلَّمَ لَهُ عَيْنًا،
وَكَانَتِ الأُْجْرَةُ بَاقِيَةً فِي يَدِ الْمُؤَجِّرِ،
فَلِلْمُسْتَأْجِرِ الْفَسْخُ وَيَسْتَرِدُّ الأُْجْرَةَ. فَإِنْ كَانَتْ
تَالِفَةً ضُرِبَ مَعَ الْغُرَمَاءِ بِأُجْرَةِ الْمِثْل لِلْمَنْفَعَةِ،
__________
(1) شرح المنهاج وحاشية القليوبي 2 / 294، ونهاية المحتاج 4 / 327، وحاشية
الدسوقي 3 / 266، 288، وكشاف القناع 3 / 426.
(2) كشاف القناع 3 / 436، 437، ومطالب أولي النهى 3 / 393، ونهاية المحتاج
4 / 328.
(5/316)
وَلاَ تُسَلَّمُ إِلَيْهِ حِصَّتُهُ
مِنْهَا بِالْمُحَاصَّةِ، لاِمْتِنَاعِ الاِعْتِيَاضِ عَنِ الْمُسْلَمِ
فِيهِ، إِذْ إِجَارَةُ الذِّمَّةِ سَلَمٌ فِي الْمَنَافِعِ، فَيَحْصُل لَهُ
بَعْضُ الْمَنْفَعَةِ الْمُلْتَزَمَةِ إِنْ تَبَعَّضَتْ بِلاَ ضَرَرٍ،
كَحَمْل مِائَةِ رِطْلٍ مَثَلاً، وَإِلاَّ - كَخِيَاطَةِ ثَوْبٍ - فَسَخَ،
وَيُحَاصُّ بِالأُْجْرَةِ الْمَبْذُولَةِ (1) .
وَلَمْ نَجِدْ لِلْحَنَفِيَّةِ كَلاَمًا فِي هَذِهِ الْمَسَائِل.
الأَْثَرُ الْخَامِسُ مِنْ آثَارِ الْحَجْرِ عَلَى الْمُفَلِّسِ: بَيْعُ
الْحَاكِمِ مَالَهُ:
48 - يَبِيعُ الْحَاكِمُ مَال الْمَحْجُورِ عَلَيْهِ لِفَلَسٍ، عِنْدَ
غَيْرِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمَنْ وَافَقَهُ، لِيُؤَدِّيَ مَا عَلَيْهِ مِنَ
الدُّيُونِ.
وَإِنَّمَا يَبِيعُهُ إِنْ كَانَ مِنْ غَيْرِ جِنْسِ الدَّيْنِ.
وَيُرَاعِي الْحَاكِمُ عِنْدَ الْبَيْعِ مَا فِيهِ الْمَصْلَحَةُ
لِلْمُفَلِّسِ.
وَذَكَرَ ابْنُ قُدَامَةَ الأُْمُورَ التَّالِيَةَ، وَذَكَرَهَا غَيْرُهُ
أَيْضًا:
أ - يَبِيعُ بِنَقْدِ الْبَلَدِ لأَِنَّهُ أَوْفَرُ، فَإِنْ كَانَ فِي
الْبَلَدِ نُقُودٌ بَاعَ بِغَالِبِهَا، فَإِنْ تَسَاوَتْ بَاعَ بِجِنْسِ
الدَّيْنِ.
ب - يُسْتَحَبُّ إِحْضَارُ الْمُفَلِّسِ الْبَيْعَ، قَال: لِيُحْصِيَ
ثَمَنَهُ وَيَضْبِطَهُ لِيَكُونَ أَطْيَبَ لِقَلْبِهِ، وَلأَِنَّهُ
أَعْرَفُ بِجَيِّدِ مَتَاعِهِ وَرَدِيئِهِ، فَإِذَا حَضَرَ تَكَلَّمَ
عَلَيْهِ، فَتَكْثُرُ الرَّغْبَةُ فِيهِ.
ج - يُسْتَحَبُّ إِحْضَارُ الْغُرَمَاءِ أَيْضًا، لأَِنَّهُ يُبَاعُ
لَهُمْ، وَرُبَّمَا رَغِبُوا فِي شِرَاءِ شَيْءٍ مِنْهُ، فَزَادُوا فِي
ثَمَنِهِ، فَيَكُونُ أَصْلَحَ لَهُمْ وَلِلْمُفَلِّسِ، وَأَطْيَبَ
لِنُفُوسِهِمْ وَأَبْعَدَ مِنَ التُّهْمَةِ، وَرُبَّمَا وَجَدَ أَحَدُهُمْ
__________
(1) نهاية المحتاج وحاشية الشبراملسي 4 / 338.
(5/317)
عَيْنَ مَالِهِ فَيَأْخُذَهَا.
د - يُسْتَحَبُّ بَيْعُ كُل شَيْءٍ فِي سُوقِهِ، لأَِنَّهُ أَحْوَطُ
وَأَكْثَرُ لِطُلاَّبِهِ وَعَارِفِي قِيمَتِهِ.
هـ - يُتْرَكُ لِلْمُفَلِّسِ مِنْ مَالِهِ شَيْءٌ، وَيَأْتِي تَفْصِيل
الْكَلاَمِ فِيهِ.
و يُلاَحِظُ الْحَاكِمُ نَوْعًا مِنَ التَّرْتِيبِ تَتَحَقَّقُ بِهِ
الْمَصْلَحَةُ، فِيمَا يُقَدِّمُ بَيْعَهُ وَمَا يُؤَخِّرُهُ، فَيُقَدِّمُ
الأَْيْسَرَ فَالأَْيْسَرَ، حَسْبَمَا هُوَ أَنْظَرُ لِلْمُفَلِّسِ، إِذْ
قَدْ يَكْتَفِي بِبَيْعِ الْبَعْضِ، فَيَبْدَأُ بِبَيْعِ الرَّهْنِ،
وَيَدْفَعُ إِلَى الْمُرْتَهِنِ قَدْرَ دَيْنِهِ، وَيُرَدُّ مَا فَضَل مِنَ
الثَّمَنِ عَلَى الْغُرَمَاءِ، وَإِنْ بَقِيَتْ مِنْ دَيْنِهِ بَقِيَّةٌ
ضَرَبَ بِهَا مَعَ الْغُرَمَاءِ.
ثُمَّ يَبِيعُ مَا يَسْرُعُ إِلَيْهِ الْفَسَادُ مِنَ الطَّعَامِ الرَّطْبِ
وَغَيْرِهِ، لأَِنَّ إِبْقَاءَهُ يُتْلِفُهُ. وَقَدَّمَهُ الشَّافِعِيَّةُ
عَلَى بَيْعِ الرَّهْنِ.
ثُمَّ يَبِيعُ الْحَيَوَانَ، لأَِنَّهُ مُعَرَّضٌ لِلتَّلَفِ، وَيَحْتَاجُ
إِلَى مَئُونَةٍ فِي بَقَائِهِ.
ثُمَّ يَبِيعُ السِّلَعَ وَالأَْثَاثَ، لأَِنَّهُ يُخَافُ عَلَيْهِ
الضَّيَاعُ وَتَنَالُهُ الأَْيْدِي. ثُمَّ يَبِيعُ الْعَقَارَ آخِرًا. قَال
الْمَالِكِيَّةُ: يَسْتَأْنِي بِهِ الشَّهْرَ وَالشَّهْرَيْنِ.
وَنَصَّ الشَّافِعِيَّةُ عَلَى أَنَّ هَذَا التَّرْتِيبَ مُسْتَحَبٌّ فِي
غَيْرِ الْحَيَوَانِ، وَمَا يَسْرُعُ إِلَيْهِ الْفَسَادُ، وَمَا يُخَافُ
عَلَيْهِ النَّهْبُ أَوِ اسْتِيلاَءُ نَحْوِ ظَالِمٍ عَلَيْهِ.
وَذَكَرَ الْمَالِكِيَّةُ الأُْمُورَ الآْتِيَةَ أَيْضًا:
ز - أَنَّهُ لاَ يَبِيعُ إِلاَّ بَعْدَ الإِْعْذَارِ فِي الْبَيِّنَةِ
لِلْمُفَلِّسِ فِيمَا ثَبَتَ عِنْدَهُ مِنَ الدَّيْنِ، وَالإِْعْذَارُ
لِكُلٍّ مِنَ الْقَائِمِينَ (الدَّائِنِينَ الْمُطَالِبِينَ) ، لأَِنَّ
لِكُلٍّ الطَّعْنَ فِي بَيِّنَةِ صَاحِبِهِ، وَيَحْلِفُ كُلًّا مِنَ
الدَّائِنِينَ أَنَّهُ لَمْ يَقْبِضْ
(5/317)
مِنْ دَيْنِهِ شَيْئًا، وَلاَ أَحَال بِهِ،
وَلاَ أَسْقَطَهُ، وَأَنَّهُ بَاقٍ فِي ذِمَّتِهِ إِلَى الآْنَ.
ح - وَأَنَّهُ يَبِيعُ بِالْخِيَارِ ثَلاَثًا لِطَلَبِ الزِّيَادَةِ فِي
كُل سِلْعَةٍ، إِلاَّ مَا يُفْسِدُهُ التَّأْخِيرُ.
ط - وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: لاَ يَبِيعُ بِأَقَل مِنْ ثَمَنِ الْمِثْل،
وَهُوَ مَذْهَبُ الْحَنَابِلَةِ، كَمَا فِي مَطَالِبِ أُولِي النُّهَى،
وَبَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ قَال: يَبِيعُ بِمَا تَنْتَهِي إِلَيْهِ
الرَّغَبَاتُ، قَالُوا جَمِيعًا: فَإِنْ ظَهَرَ رَاغِبٌ فِي السِّلْعَةِ
بِأَكْثَرَ مِمَّا بِيعَتْ بِهِ - وَكَانَ ذَلِكَ فِي مُدَّةِ خِيَارٍ،
وَمِنْهُ خِيَارُ الْمَجْلِسِ - وَجَبَ الْفَسْخُ، وَالْبَيْعُ
لِلزَّائِدِ. وَبَعْدَ مُدَّةِ الْخِيَارِ لاَ يَلْزَمُ الْفَسْخُ،
وَلَكِنْ يُسْتَحَبُّ لِلْمُشْتَرِي الإِْقَالَةُ.
ي - وَقَالُوا أَيْضًا: لاَ يَبِيعُ إِلاَّ بِنَقْدٍ، وَلاَ يَبِيعُ
بِثَمَنٍ مُؤَجَّلٍ، وَلاَ يُسَلِّمُ الْمَبِيعَ حَتَّى يَقْبِضَ الثَّمَنَ
(1) .
مَا يُتْرَكُ لِلْمُفَلِّسِ مِنْ مَالِهِ:
49 - يُتْرَكُ لِلْمُفَلِّسِ مِنْ مَالِهِ مَا يَأْتِي:
أ - الثِّيَابُ:
يُتْرَكُ لِلْمُفَلِّسِ بِالاِتِّفَاقِ دَسْتٌ (2) مِنْ ثِيَابِهِ، وَقَال
الْحَنَفِيَّةُ: أَوْ دَسْتَانِ. وَيُبَاعُ مَا عَدَاهُمَا مِنَ
الثِّيَابِ.
وَقَال الْحَنَفِيَّةُ: يُبَاعُ مَا لاَ يَحْتَاجُ إِلَيْهِ فِي الْحَال،
كَثِيَابِ الشِّتَاءِ فِي الصَّيْفِ. وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: يُبَاعُ
ثَوْبَا
__________
(1) الزرقاني على خليل 5 / 270، والدسوقي 3 / 270، 271، ونهاية المحتاج 4 /
310 - 312، والمغني 4 / 443، 444، ومطالب أولي النهى 3 / 389، 390، وانظر
فتح القدير 8 / 207، والفتاوى الهندية 5 / 62، والدر المختار وحاشيته 5 /
98 ط بولاق 1326 هـ.
(2) الدست - كما في المصباح - ما يلبسه الإنسان ويكفيه لتردده في حوائجه،
وجمعه دسوت، كفلس وفلوس. وعبر عنه ابن عابدين بالبدلة.
(5/318)
جُمُعَتِهِ إِنْ كَثُرَتْ قِيمَتُهُمَا،
وَيَشْتَرِي لَهُ دُونَهُمَا، وَهُوَ بِمَعْنَى مَا صَرَّحَ بِهِ
الْحَنَابِلَةُ وَالشَّافِعِيَّةُ مِنْ أَنَّ الثِّيَابَ إِنْ كَانَتْ
رَفِيعَةً لاَ يَلْبَسُ مِثْلُهُ مِثْلَهَا تُبَاعُ، وَيُتْرَكُ لَهُ أَقَل
مَا يَكْفِيهِ مِنَ الثِّيَابِ.
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ: يُتْرَكُ لِعِيَالِهِ كَمَا
يُتْرَكُ لَهُ مِنَ الْمَلاَبِسِ (1) .
ب - الْكُتُبُ:
وَتُتْرَكُ لَهُ الْكُتُبُ الَّتِي يَحْتَاجُ إِلَيْهَا فِي الْعُلُومِ
الشَّرْعِيَّةِ وَآلَتُهَا، إِنْ كَانَ عَالِمًا لاَ يَسْتَغْنِي عَنْهَا.
عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، وَعَلَى قَوْلٍ فِي مَذْهَبِ الْمَالِكِيَّةِ.
وَالْمُقَدَّمُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ أَنَّهَا تُبَاعُ أَيْضًا (2) .
ج - دَارُ السُّكْنَى:
قَال مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ - فِي الأَْصَحِّ عَنْهُ - وَشُرَيْحٌ:
تُبَاعُ دَارُ الْمُفَلِّسِ وَيُكْتَرَى لَهُ بَدَلَهَا، وَاخْتَارَ هَذَا
ابْنُ الْمُنْذِرِ، لأَِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
قَال لِغُرَمَاءِ الَّذِي أُصِيبَ فِي ثِمَارٍ ابْتَاعَهَا: خُذُوا مَا
وَجَدْتُمْ، وَلَيْسَ لَكُمْ إِلاَّ ذَلِكَ (3) .
وَقَال أَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ، وَهُوَ قَوْلٌ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ
وَالشَّافِعِيَّةِ. لاَ تُبَاعُ دَارُهُ الَّتِي لاَ غِنًى لَهُ عَنْ
سُكْنَاهَا. فَإِنْ كَانَتِ الدَّارُ نَفِيسَةً بِيعَتْ وَاشْتُرِيَ لَهُ
__________
(1) ابن عابدين 5 / 95، والزرقاني على خليل 5 / 270، والدسوقي 3 / 277،
ونهاية المحتاج 4 / 319، وشرح المحلي على المنهاج 2 / 291، والمغني لابن
قدامة 4 / 441، 445.
(2) الزرقاني 5 / 270، ونهاية المحتاج وحاشية الشبراملسي 4 / 319.
(3) حديث: " خذوا ما وجدتم. . . " سبق تخريجه (ف 23) .
(5/318)
بِبَعْضِ ثَمَنِهَا مَسْكَنٌ يَبِيتُ
فِيهِ، وَيُصْرَفُ الْبَاقِي إِلَى الْغُرَمَاءِ (1) .
د - آلاَتُ الصَّانِعِ:
قَال الْحَنَابِلَةُ وَبَعْضُ الْمَالِكِيَّةِ: تُتْرَكُ لِلْمُفَلِّسِ
آلَةُ صَنْعَتِهِ، ثُمَّ قَال الْمَالِكِيَّةُ مِنْ هَؤُلاَءِ: إِنَّمَا
تُتْرَكُ إِنْ كَانَتْ قَلِيلَةَ الْقِيمَةِ، كَمِطْرَقَةِ الْحَدَّادِ:
وَقَال بَعْضُهُمْ: تُبَاعُ أَيْضًا. وَنَصَّ الشَّافِعِيَّةُ أَنَّهَا
تُبَاعُ (2) .
هـ - رَأْسُ مَال التِّجَارَةِ:
قَال الْحَنَابِلَةُ وَابْنُ سُرَيْجٍ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ: يُتْرَكُ
لِلْمُفَلِّسِ رَأْسُ مَالٍ يَتَّجِرُ فِيهِ، إِذَا لَمْ يُحْسِنِ
الْكَسْبَ إِلاَّ بِهِ. قَال الرَّمْلِيُّ: وَأَظُنُّهُ يُرِيدُ الشَّيْءَ
الْيَسِيرَ، أَمَّا الْكَثِيرُ فَلاَ.
وَلَمْ نَرَ نَصًّا فِي ذَلِكَ لِلْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ (3) .
و الْقُوتُ الضَّرُورِيُّ:
عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ: يُتْرَكُ لِلْمُفَلِّسِ أَيْضًا
مِنْ مَالِهِ قَدْرُ مَا يَكْفِيهِ وَعِيَالَهُ مِنَ الْقُوتِ
الضَّرُورِيِّ الَّذِي تَقُومُ بِهِ الْبُنْيَةُ، لاَ مَا يُتَرَفَّهُ.
قَال الْمَالِكِيَّةُ: وَتُتْرَكُ لَهُ وَلِزَوْجَاتِهِ وَأَوْلاَدِهِ
وَوَالِدَيْهِ النَّفَقَةُ الْوَاجِبَةُ عَلَيْهِ، بِالْقَدْرِ الَّذِي
تَقُومُ بِهِ الْبُنْيَةُ. وَهَذَا إِنْ كَانَ مِمَّنْ لاَ يُمْكِنُهُ
الْكَسْبُ، أَمَّا إِنْ كَانَ ذَا صَنْعَةٍ
__________
(1) الفتاوى الهندية 5 / 62، ونهاية المحتاج 4 / 318، 319، والمغني 4 /
444، 445.
(2) الزرقاني 5 / 270، ونهاية المحتاج 4 / 319، ومطالب أولي النهى 3 / 391.
(3) نهاية المحتاج 4 / 317.
(5/319)
يَكْتَسِبُ مِنْهَا، أَوْ يُمْكِنُهُ أَنْ
يُؤَجِّرَ نَفْسَهُ فَلاَ يُتْرَكُ لَهُ شَيْءٌ.
ثُمَّ قَدْ قَال الْمَالِكِيَّةُ: يُتْرَكُ ذَلِكَ لَهُ وَلِمَنْ ذُكِرَ
قَدْرُ مَا يَكْفِيهِمْ إِلَى وَقْتٍ يُظَنُّ بِحَسَبِ الاِجْتِهَادِ
أَنَّهُ يَحْصُل لَهُ فِيهِ مَا تَتَأَتَّى مَعَهُ الْمَعِيشَةُ.
أَمَّا عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ فَلاَ يُتْرَكُ لَهُ مِنَ الْقُوتِ شَيْءٌ
مَا عَدَا قُوتَ يَوْمِ الْقِسْمَةِ، وَلاَ نَفَقَةَ عَلَيْهِ أَيْضًا
لِقَرِيبٍ، لأَِنَّهُ مُعْسِرٌ بِخِلاَفِ حَالِهِ قَبْل الْقِسْمَةِ.
وَتَسْقُطُ نَفَقَةُ الْقَرِيبِ لِمَا بَعْدَ الْقِسْمَةِ أَيْضًا عِنْدَ
الْحَنَابِلَةِ (1) .
الإِْنْفَاقُ عَلَى الْمُفَلِّسِ وَعَلَى عِيَالِهِ مُدَّةَ الْحَجْرِ
وَقَبْل قِسْمَةِ مَالِهِ عَلَى الْغُرَمَاءِ:
50 - عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ عَلَى قَوْل الصَّاحِبَيْنِ، وَالشَّافِعِيَّةِ
وَالْحَنَابِلَةِ، وَهُوَ مُقْتَضَى مَذْهَبِ الْمَالِكِيَّةِ كَمَا
تَقَدَّمَ: يَجِبُ عَلَى الْحَاكِمِ أَنْ يُنْفِقَ مِنْ مَال الْمُفَلِّسِ
عَلَيْهِ - أَيْ عَلَى الْمُفَلِّسِ - بِالْمَعْرُوفِ، وَهُوَ أَدْنَى مَا
يُنْفِقُ عَلَى مِثْلِهِ، إِلَى أَنْ يُقْسَمَ مَالُهُ. وَذَلِكَ لأَِنَّ
مِلْكَهُ لَمْ يَزُل عَنْ مَالِهِ قَبْل الْقِسْمَةِ. وَكَذَلِكَ يُنْفِقُ
عَلَى مَنْ تَلْزَمُ الْمُفَلِّسَ نَفَقَتُهُ، مِنْ زَوْجَةٍ وَقَرِيبٍ
وَلَوْ حَدَثَ بَعْدَ الْحَجْرِ، لِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ابْدَأْ بِنَفْسِكَ ثُمَّ بِمَنْ تَعُول (2) وَهَذَا
مَا لَمْ يَسْتَغْنِ الْمُفَلِّسُ بِكَسْبٍ
__________
(1) الشرح الكبير وحاشية الدسوقي 3 / 277، ونهاية المحتاج 4 / 317، وشرح
المنهاج مع حاشية القليوبي 2 / 290، 291، والمغني 4 / 446، ومطالب أولي
النهى 3 / 391.
(2) حديث " ابدأ بنفسك ثم بمن تعول ". أخرجه مسلم من حديث جابر رضي الله
عنه مرفوعا بلفظ " ابدأ بنفسك فتصدق عليها، فإن فضل شيء فلأهلك، فإن فضل عن
أهلك شيء فلذي قرابتك، فإن فضل عن ذي قرابتك شيء فهكذا وهكذا " يقول: فبين
يديك، وعن يمينك وعن شمالك. (صحيح مسل
(5/319)
حَلاَلٍ لاَئِقٍ بِهِ (1) .
وَفِي الْخَانِيَّةِ مِنْ كُتُبِ الْحَنَفِيَّةِ: وَلاَ يُضَيَّقُ عَلَيْهِ
فِي مَأْكُولِهِ وَمَشْرُوبِهِ وَمَلْبُوسِهِ، وَيُقَدَّرُ لَهُ
الْمَعْرُوفُ وَالْكَفَافُ (2) .
أَمَّا بَعْدَ الْقِسْمَةِ فَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُ مَا يُتْرَكُ لَهُ
مِنَ النَّفَقَةِ.
الْمُبَادَرَةُ بِقَسْمِ مَال الْمُفَلِّسِ بَيْنَ غُرَمَائِهِ:
51 - نَصَّ الْمَالِكِيَّةُ عَلَى أَنَّهُ لاَ يَنْبَغِي الاِسْتِينَاءُ
(التَّمَهُّل وَالتَّأْخِيرُ) بِقَسْمِ مَال الْمُفَلِّسِ، وَقَال
الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ: يُنْدَبُ الْمُبَادَرَةُ بِالْقَسْمِ
لِبَرَاءَةِ ذِمَّةِ الْمَدِينِ، وَلِئَلاَّ يَطُول زَمَنُ الْحَجْرِ
عَلَيْهِ، وَلِئَلاَّ يَتَأَخَّرَ إِيصَال الْحَقِّ لِمُسْتَحِقِّهِ،
وَتَأْخِيرُ قَسْمِهِ مَطْلٌ وَظُلْمٌ لِلْغُرَمَاءِ. قَال
الشَّافِعِيَّةُ: وَلاَ يُفَرَّطُ فِي الاِسْتِعْجَال، كَيْ لاَ يُطْمَعَ
فِيهِ بِثَمَنٍ بَخْسٍ. وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: إِنْ كَانَ يُخْشَى أَنْ
يَكُونَ عَلَى الْمُفَلِّسِ دَيْنٌ لِغَيْرِ الْغُرَمَاءِ الْحَاضِرِينَ
فَإِنَّ الْقَاضِيَ يَسْتَأْنِي بِالْقَسْمِ بِاجْتِهَادٍ (3) .
وَنَصَّ الشَّافِعِيَّةُ عَلَى أَنَّهُ لاَ يَلْزَمُ الْحَاكِمَ أَنْ
يَنْتَظِرَ لِيَتِمَّ بَيْعُ الأَْمْوَال كُلِّهَا، بَل يُنْدَبُ
لِلْحَاكِمِ عِنْدَهُمْ أَنْ يَقْسِمَ بِالتَّدْرِيجِ كُل مَا يَقْبِضُهُ.
فَإِنْ طَلَبَ الْغُرَمَاءُ ذَلِكَ وَجَبَ. فَإِنْ تَعَسَّرَ ذَلِكَ
لِقِلَّةِ الْحَاصِل يُؤَخِّرُ الْقِسْمَةَ حَتَّى يَجْتَمِعَ مَا تَسْهُل
قِسْمَتُهُ، فَيَقْسِمَهُ، وَلَوْ طَلَبَهُ الْغُرَمَاءُ لَمْ يَلْزَمْهُ
(4) .
__________
(1) نهاية المحتاج 4 / 317، وشرح المنهاج بحاشية القليوبي 2 / 290، وكشاف
القناع 3 / 434، والفتاوى الهندية 5 / 63، والشرح الكبير، وحاشية الدسوقي
عليه 3 / 277.
(2) شرح المجلة للأتاسي 3 / 556 م 1000.
(3) نهاية المحتاج 4 / 311، وحاشية الدسوقي 3 / 315، ومطالب أولي النهى 3 /
389.
(4) نهاية المحتاج 4 / 315.
(5/320)
هَل يَلْزَمُ قَبْل الْقِسْمَةِ حَصْرُ
الدَّائِنِينَ؟
52 - نَصَّ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ عَلَى
أَنَّهُ لاَ يُكَلِّفُ الْقَاضِي غُرَمَاءَ الْمُفَلِّسِ إِثْبَاتَ أَنَّهُ
لاَ غَرِيمَ غَيْرُهُمْ، وَذَلِكَ لاِشْتِهَارِ الْحَجْرِ، فَلَوْ كَانَ
ثَمَّةَ غَرِيمٌ لَظَهَرَ. وَهَذَا بِخِلاَفِ قِسْمَةِ التَّرِكَةِ عِنْدَ
جَمِيعِهِمْ، فَإِنَّ الْقَاضِيَ لاَ يَقْسِمُ حَتَّى يُكَلِّفَهُمْ
بَيِّنَةً تَشْهَدُ بِحَصْرِهِمْ (1) .
ظُهُورُ غَرِيمٍ بَعْدَ الْقِسْمَةِ:
53 - لَوْ قَسَمَ الْحَاكِمُ مَال الْمُفَلِّسِ بَيْنَ غُرَمَائِهِ،
فَظَهَرَ غَرِيمٌ بَعْدَ ذَلِكَ بِدَيْنٍ سَابِقٍ عَلَى الْحَجْرِ، شَارَكَ
كُل وَاحِدٍ مَعَهُمْ بِالْحِصَّةِ، وَلَمْ تُنْقَضِ الْقِسْمَةُ. فَإِنْ
أَتْلَفَ أَحَدُهُمْ مَا أَخَذَهُ رَجَعَ عَلَيْهِ كَذَلِكَ، عَلَى مَا
نَصَّ عَلَيْهِ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ
وَالْحَنَابِلَةُ. ثُمَّ قَال الشَّافِعِيَّةُ: فَإِنْ كَانَ الآْخِذُ
مُعْسِرًا جَعَل مَا أَخَذَهُ كَالْمَعْدُومِ، وَشَارَكَ مَنْ ظَهَرَ
الآْخَرِينَ.
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: إِنِ اقْتَسَمُوا، وَلَمْ يَعْلَمُوا بِالْغَرِيمِ
الآْخَرِ، يَرْجِعُ عَلَى كُل وَاحِدٍ مِنْهُمْ بِمَا يَنُوبُهُ، وَلاَ
يَأْخُذُ أَحَدٌ عَنْ أَحَدٍ. وَإِنْ كَانُوا عَالِمِينَ يَرْجِعُ
عَلَيْهِمْ بِحِصَّتِهِ، وَلَكِنْ يَأْخُذُ الْمَلِيءُ عَنِ الْمُعْدَمِ،
وَالْحَاضِرُ عَنِ الْغَائِبِ، وَالْحَيُّ عَنِ الْمَيِّتِ، أَيْ فِي
حُدُودِ مَا قَبَضَهُ كُلٌّ مِنْهُمْ. وَفِي قَوْلٍ عِنْدَ
الشَّافِعِيَّةِ: تُنْقَضُ الْقِسْمَةُ بِكُل حَالٍ، كَمَا لَوْ ظَهَرَ
وَارِثٌ بَعْدَ قِسْمَةِ التَّرِكَةِ (2) .
__________
(1) حاشية الدسوقي 3 / 271، 272، ونهاية المحتاج 4 / 316، وكشاف القناع 3 /
437.
(2) الفتاوى الهندية 5 / 64، والشرح الكبير وحاشية الدسوقي 3 / 274، 276،
والزرقاني 5 / 275، ونهاية المحتاج 4 / 316، 317، وكشاف القناع 3 / 438.
(5/320)
كَيْفِيَّةُ قِسْمَةِ مَال الْمُفَلِّسِ
بَيْنَ غُرَمَائِهِ:
54 - أ - يُبْدَأُ مِنْ مَال الْمُفَلِّسِ بِإِعْطَاءِ أُجْرَةِ مَنْ
يَصْنَعُ مَا فِيهِ مَصْلَحَةٌ لِلْمَال، مِنْ مُنَادٍ وَسِمْسَارٍ
وَحَافِظٍ وَحَمَّالٍ وَكَيَّالٍ وَوَزَّانٍ وَنَحْوِهِمْ، تُقَدَّمُ عَلَى
دُيُونِ الْغُرَمَاءِ. ذَكَرَ ذَلِكَ صَاحِبُ الإِْقْنَاعِ مِنَ
الْحَنَابِلَةِ. وَذَكَرَ الدَّرْدِيرُ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ تَقْدِيمَ
سَاقِيَ الزَّرْعِ الَّذِي أَفْلَسَ رَبُّهُ عَلَى الْمُرْتَهِنِ، وَقَال:
إِذْ لَوْلاَهُ لَمَا انْتُفِعَ بِالزَّرْعِ (1) .
ب - ثُمَّ بِمَنْ لَهُ رَهْنٌ لاَزِمٌ أَيْ مَقْبُوضٌ، فَيَخْتَصُّ
بِثَمَنِهِ إِنْ كَانَ قَدْرَ دَيْنِهِ، لأَِنَّ حَقَّهُ مُتَعَلِّقٌ
بِعَيْنِ الرَّهْنِ وَذِمَّةِ الرَّاهِنِ. وَمَا زَادَ مِنْ ثَمَنِ
الرَّهْنِ رُدَّ عَلَى الْمَال، وَمَا نَقَصَ ضَرَبَ بِهِ الْغَرِيمُ مَعَ
الْغُرَمَاءِ (2) .
وَأَضَافَ الْمَالِكِيَّةُ: إِنَّ الصَّانِعَ أَحَقُّ مِنَ الْغُرَمَاءِ
بِمَا فِي يَدِهِ إِذَا أَفْلَسَ رَبُّ الشَّيْءِ الْمَصْنُوعِ بَعْدَ
تَمَامِ الْعَمَل حَتَّى يَسْتَوْفِيَ أُجْرَتَهُ مِنْهُ، لأَِنَّهُ وَهُوَ
تَحْتَ يَدِهِ كَالرَّهْنِ، حَائِزُهُ أَحَقُّ بِهِ فِي الْفَلَسِ،
وَإِلاَّ فَلَيْسَ أَحَقَّ بِهِ إِذَا سَلَّمَهُ لِرَبِّهِ قَبْل أَنْ
يُفَلِّسَ، أَوْ أَفْلَسَ رَبُّهُ قَبْل تَمَامِ الْعَمَل (3) .
قَالُوا: وَمَنِ اسْتَأْجَرَ دَابَّةً وَنَحْوَهَا كَسَفِينَةٍ،
وَأَفْلَسَ، فَرَبُّهَا أَحَقُّ بِالْمَحْمُول عَلَيْهَا مِنْ أَمْتِعَةِ
الْمُكْتَرِي، يَأْخُذُهُ فِي أُجْرَةِ دَابَّتِهِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ
رَبُّهَا مَعَهَا، مَا لَمْ يَقْبِضِ الْمَحْمُول رَبُّهُ - وَهُوَ
الْمُكْتَرِي - قَبْضَ تَسَلُّمٍ. وَهَذَا بِخِلاَفِ مُكْتَرِي الْحَانُوتِ
وَنَحْوِهِ فَلاَ يَخْتَصُّ بِمَا فِيهِ. وَالْفَرْقُ أَنَّ بِحِيَازَةِ
الظَّهْرِ لِمَا
__________
(1) كشاف القناع 3 / 436، ومطالب أولي النهى 3 / 391، والشرح الكبير على
خليل 3 / 288، ونهاية المحتاج 4 / 317.
(2) كشاف القناع 3 / 436.
(3) حاشية الدسوقي 3 / 288.
(5/321)
فِيهَا مِنَ الْحَمْل وَالنَّقْل أَقْوَى
مِنْ حِيَازَةِ الْحَانُوتِ وَالدَّارِ (1) .
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ أَيْضًا: وَكَذَلِكَ الْمُكْتَرِي لِدَابَّةٍ
وَنَحْوِهَا أَحَقُّ بِهَا حَتَّى يَسْتَوْفِيَ مِنْ مَنَافِعِهَا مَا
نَقَدَهُ مِنَ الْكِرَاءِ، سَوَاءٌ أَكَانَتْ مُعَيَّنَةً أَوْ غَيْرَ
مُعَيَّنَةٍ، إِلاَّ أَنَّهَا إِنْ كَانَتْ غَيْرَ مُعَيَّنَةٍ لَمْ يَكُنْ
أَحَقَّ بِهَا مَا لَمْ يَقْبِضْهَا قَبْل فَلَسِ الْمُؤَجِّرِ (2) .
ج - ثُمَّ مَنْ وَجَدَ عَيْنَ مَالِهِ أَخَذَهَا بِشُرُوطِهَا
الْمُتَقَدِّمَةِ. وَكَذَا مَنْ لَهُ عَيْنٌ مُؤَجَّرَةٌ اسْتَأْجَرَهَا
مِنْهُ الْمُفَلِّسُ، فَلَهُ أَخْذُهَا وَفَسْخُ الإِْجَارَةِ عَلَى
الْخِلاَفِ وَالتَّفْصِيل الْمُتَقَدِّمِ (3) .
د - ثُمَّ تُقْسَمُ أَمْوَال الْمُفَلِّسِ الْمُتَحَصِّلَةُ بَيْنَ
غُرَمَائِهِ.
وَهَذَا إِنْ كَانَتِ الدُّيُونُ كُلُّهَا مِنَ النَّقْدِ. وَكَذَلِكَ إِنْ
كَانَتْ كُلُّهَا عُرُوضًا مُوَافِقَةً لِمَال الْمُفَلِّسِ فِي الْجِنْسِ
وَالصِّفَةِ، فَلاَ حَاجَةَ لِلتَّقْوِيمِ، بَل يَتَحَاصُّونَ بِنِسْبَةِ
عَرْضِ كُلٍّ مِنْهُمْ إِلَى مَجْمُوعِ الدُّيُونِ (4) .
فَإِنْ كَانَتِ الدُّيُونُ كُلُّهَا أَوْ بَعْضُهَا عُرُوضًا وَكَانَ مَال
الْمُفَلِّسِ نَقْدًا، قُوِّمَتِ الْعُرُوضُ بِقِيمَتِهَا يَوْمَ
الْقِسْمَةِ، وَحَاصَّ كُل غَرِيمٍ بِقِيمَةِ عُرُوضِهِ، يُشْتَرَى لَهُ
بِهَا مِنْ جِنْسِ عُرُوضِهِ وَصِفَتِهَا. وَيَجُوزُ مَعَ التَّرَاضِي
أَخْذٌ الثَّمَنِ إِنْ خَلاَ مِنْ مَانِعٍ، كَمَا لَوْ كَانَ دَيْنُهُ
ذَهَبًا، وَنَابَهُ فِي الْقَسْمِ فِضَّةٌ، فَلاَ يَجُوزُ لَهُ أَخْذُ مَا
نَابَهُ، لأَِنَّهُ يُؤَدِّي إِلَى الصَّرْفِ الْمُؤَخَّرِ. وَهَذَا
التَّفْصِيل مَنْصُوصُ الْمَالِكِيَّةِ.
__________
(1) الشرح الكبير وحاشية الدسوقي 3 / 289.
(2) المرجع السابق.
(3) كشاف القناع 3 / 436.
(4) حاشية الدسوقي مع الشرح الكبير 3 / 271، وكشاف القناع 3 / 435.
(5/321)
وَلَوْ أَنَّ الْمُفَلِّسَ أَوِ الْحَاكِمَ
قَضَى دُيُونَ بَعْضِهِمْ دُونَ بَعْضٍ، أَوْ قَضَى بَعْضًا مِنْهُمْ
أَكْثَرَ مِمَّا تَقْتَضِيهِ التَّسْوِيَةُ الْمَذْكُورَةُ شَارَكُوهُ
فِيمَا أَخَذَ بِالنِّسْبَةِ (1) .
مَا يُطَالَبُ بِهِ الْمُفَلِّسُ بَعْدَ قِسْمَةِ مَالِهِ:
55 - لاَ تَسْقُطُ دُيُونُ الْفَلَسِ الَّتِي لَمْ يَفِ مَالُهُ بِهَا، بَل
تَبْقَى فِي ذِمَّتِهِ.
ثُمَّ إِنْ كَانَ هُنَاكَ أَرْضٌ أَوْ عَقَارٌ مُوصًى لَهُ بِنَفْعِهِ أَوْ
مَوْقُوفٌ عَلَيْهِ، يَلْزَمُ بِإِجَارَتِهِ، وَيُصْرَفُ بَدَل
الْمَنْفَعَةِ إِلَى الدُّيُونِ، وَيُؤَجِّرُ مَرَّةً بَعْدَ أُخْرَى إِلَى
أَنْ تَتِمَّ الْبَرَاءَةُ، صَرَّحَ بِذَلِكَ الشَّافِعِيَّةُ
وَالْحَنَابِلَةُ.
أَمَّا تَكْلِيفُ الْمُفَلِّسِ حِينَئِذٍ بِالتَّكَسُّبِ، بِإِيجَارِ
نَفْسِهِ لِسَدَادِ الدُّيُونِ الْبَاقِيَةِ، فَقَدْ قَسَّمَ
الشَّافِعِيَّةُ الدُّيُونَ إِلَى قِسْمَيْنِ:
الأَْوَّل: مَا كَانَ الْمُفَلِّسُ عَاصِيًا بِسَبَبِهِ، كَغَاصِبٍ،
وَجَانٍ مُتَعَمِّدٍ، فَهَذَا يَلْزَمُ بِالتَّكَسُّبِ، وَلَوْ بِإِجَارَةِ
نَفْسِهِ، وَلَوْ كَانَ ذَلِكَ مُزْرِيًا بِهِ، بَل مَتَى أَطَاقَهُ
لَزِمَهُ، قَالُوا: إِذْ لاَ نَظَرَ لِلْمُرُوآتِ فِي جَنْبِ الْخُرُوجِ
مِنَ الْمَعْصِيَةِ، وَلأَِنَّ التَّوْبَةَ مِنَ الْمَعْصِيَةِ وَاجِبَةٌ،
وَهِيَ مُتَوَقِّفَةٌ فِي حُقُوقِ الآْدَمِيِّينَ عَلَى الْوَفَاءِ.
الثَّانِي: مَا لَمْ يَعْصِ بِهِ مِنَ الدُّيُونِ، فَهَذَا لاَ يَلْزَمُهُ
التَّكَسُّبُ وَلاَ إِيجَارُ نَفْسِهِ (2) .
وَأَمَّا الْمَالِكِيَّةُ فَقَدْ أَطْلَقُوا الْقَوْل بِأَنَّ الْمُفَلِّسَ
لاَ يَلْزَمُ بِالتَّكَسُّبِ وَلَوْ كَانَ قَادِرًا عَلَيْهِ، وَلَوْ كَانَ
قَدْ
__________
(1) حاشية الدسوقي على الشرح الكبير 3 / 272، والزرقاني على خليل 5 / 273،
ونهاية المحتاج 4 / 314، ومطالب أولي النهى 3 / 393.
(2) نهاية المحتاج 4 / 319، 320.
(5/322)
شَرَطَ عَلَى نَفْسِهِ ذَلِكَ فِي عَقْدِ
الدَّيْنِ. قَالُوا: لأَِنَّ الدَّيْنَ إِنَّمَا تَعَلَّقَ بِذِمَّتِهِ (1)
.
وَأَمَّا الْحَنَابِلَةُ فَقَدْ أَطْلَقُوا الْقَوْل بِإِجْبَارِ
الْمُفَلِّسِ الْمُحْتَرِفِ عَلَى الْكَسْبِ، وَإِيجَارِ نَفْسِهِ فِيمَا
يَلِيقُ بِهِ مِنَ الصَّنَائِعِ، وَاحْتَجُّوا بِأَنَّ الْمَنَافِعَ
تَجْرِي مَجْرَى الأَْعْيَانِ فِي صِحَّةِ الْعَقْدِ عَلَيْهَا، فَأُجْبِرَ
عَلَى الْعَقْدِ عَلَيْهَا، كَمَا يُبَاعُ مَالُهُ رَغْمًا عَنْهُ (2) .
ثُمَّ قَال الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ: لاَ يُجْبَرُ الْمُفَلِّسُ
عَلَى قَبُول التَّبَرُّعَاتِ، مِنْ هِبَةٍ أَوْ وَصِيَّةٍ أَوْ عَطِيَّةٍ
أَوْ صَدَقَةٍ، لِئَلاَّ يَلْزَمَ بِتَحَمُّل مِنَّةٍ لاَ يَرْضَاهَا،
وَلاَ عَلَى اقْتِرَاضٍ. وَكَذَا لاَ يُجْبَرُ عَلَى خُلْعِ زَوْجَتِهِ
وَإِنْ بَذَلَتْ، لأَِنَّ عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ ضَرَرًا، وَلاَ عَلَى أَخْذِ
دِيَةٍ عَنْ قَوَدٍ وَجَبَ لَهُ بِجِنَايَةٍ عَلَيْهِ أَوْ عَلَى
مُوَرِّثِهِ، لأَِنَّ ذَلِكَ يُفَوِّتُ الْمَعْنَى الَّذِي لأَِجْلِهِ
شُرِعَ الْقِصَاصُ.
ثُمَّ إِنْ عَفَا بِاخْتِيَارِهِ عَلَى مَالٍ ثَبَتَ وَتَعَلَّقَتْ بِهِ
حُقُوقُ الْغُرَمَاءِ.
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ لاَ يُجْبَرُ عَلَى التَّكَسُّبِ،
وَلاَ يُؤَاجِرُهُ الْقَاضِي، لِسَدَادِ دُيُونِهِ مِنَ الأُْجْرَةِ (3) .
مَا يَنْفَكُّ بِهِ الْحَجْرُ عَنِ الْمُفَلِّسِ:
56 - عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ - وَمِثْلُهُمُ الْحَنَابِلَةُ فِيمَا لَوْ
بَقِيَ عَلَى الْمُفَلِّسِ شَيْءٌ مِنَ الدُّيُونِ - لاَ يَنْفَكُّ
الْحَجْرُ عَنْهُ بِقِسْمَةِ مَالِهِ بَيْنَ الْغُرَمَاءِ، قَال
الشَّافِعِيَّةُ: وَلاَ يَنْفَكُّ الْحَجْرُ أَيْضًا بِاتِّفَاقِ
الْغُرَمَاءِ عَلَى فَكِّهِ، وَلاَ بِإِبْرَائِهِمْ
__________
(1) حاشية الدسوقي 3 / 270.
(2) كشاف القناع 3 / 439.
(3) كشاف القناع 3 / 440، والشرح الكبير وحاشية الدسوقي 3 / 270، والفتاوى
الهندية 5 / 63، والفتاوى البزازية 5 / 224، والزيلعي 5 / 199.
(5/322)
لِلْمُفَلِّسِ، بَل إِنَّمَا يَنْفَكُّ
بِفَكِّ الْقَاضِي، لأَِنَّهُ لاَ يَثْبُتُ إِلاَّ بِإِثْبَاتِ الْقَاضِي،
فَلاَ يَنْفَكُّ إِلاَّ بِفَكِّهِ، وَلأَِنَّهُ يَحْتَاجُ إِلَى نَظَرٍ
وَاجْتِهَادٍ، وَلاِحْتِمَال ظُهُورِ غَرِيمٍ آخَرَ. وَلاَ يَنْتَظِرُ
الْبَرَاءَةَ مِنْ كُل الدُّيُونِ، بَل مَتَى ثَبَتَ إِعْسَارُهُ
بِالْبَاقِي يُفَكُّ الْحَجْرُ عَلَيْهِ كَمَا لاَ يُحْجَرُ عَلَى
الْمُعْسِرِ أَصَالَةً. وَقَال الْقَلْيُوبِيُّ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ:
الْمُعْتَمَدُ يَبْقَى مَحْجُورًا إِلَى تَمَامِ الأَْدَاءِ.
وَصَرَّحَ الْحَنَابِلَةُ بِأَنَّ الْحَجْرَ يَنْفَكُّ عَنِ الْمُفَلِّسِ
إِنْ لَمْ يَبْقَ عَلَيْهِ لِلْغُرَمَاءِ شَيْءٌ، دُونَ حَاجَةٍ إِلَى
فَكِّهِ مِنْ قِبَل الْحَاكِمِ. قَالُوا: لأَِنَّ الْمَعْنَى الَّذِي
حُجِرَ عَلَيْهِ لأَِجْلِهِ قَدْ زَال.
أَمَّا عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ، وَهُوَ وَجْهٌ آخَرُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ
ذَكَرَهُ صَاحِبُ الْمُغْنِي: فَإِنَّ حَجْرَ الْمُفَلِّسِ يَنْفَكُّ
بِمُجَرِّدِ قِسْمَةِ الْمَوْجُودِ مِنْ مَالِهِ. قَال الْمَالِكِيَّةُ:
وَيَحْلِفُ أَنَّهُ لَمْ يَكْتُمْ شَيْئًا، فَيَنْفَكُّ حِينَئِذٍ وَلَوْ
بِلاَ حُكْمِ حَاكِمٍ.
ثُمَّ قَدْ قَال الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ: وَإِذَا انْفَكَّ
الْحَجْرُ عَنِ الْمُفَلِّسِ، ثُمَّ ثَبَتَ أَنَّ عِنْدَهُ مَالاً غَيْرُ
مَا قُسِمَ، أَوِ اكْتَسَبَ بَعْدَ فَكِّ الْحَجْرِ مَالاً، يُعَادُ
الْحَجْرُ عَلَيْهِ بِطَلَبِ الْغُرَمَاءِ، وَتَصَرُّفُهُ حِينَئِذٍ قَبْل
الْحَجْرِ صَحِيحٌ. وَلاَ يُعَادُ الْحَجْرُ عَلَيْهِ بَعْدَ انْفِكَاكِهِ
مَا لَمْ يَثْبُتْ أَوْ يَتَجَدَّدُ لَهُ مَالٌ (1) .
وَلَمْ نَجِدْ تَصْرِيحًا بِحُكْمِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ لَدَى
الْحَنَفِيَّةِ، غَيْرَ أَنَّهُمْ قَالُوا فِي الْحَجْرِ عَلَى السَّفِيهِ
(وَهُوَ
__________
(1) حاشية الدسوقي 3 / 268، 269، وكشاف القناع 3 / 441، والمغني 4 / 449،
وشرح المنهاج مع حاشية القليوبي 2 / 291، وتحفة المحتاج لابن حجر 4 / 129،
ونهاية المحتاج 4 / 320.
(5/323)
الْمُبَذِّرُ لِمَالِهِ) : لاَ يَرْتَفِعُ
الْحَجْرُ عَنْهُ إِلاَّ بِحُكْمِ الْقَاضِي عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ (1) .
مَا يَلْزَمُ الْمُفَلِّسَ مِنَ الدُّيُونِ بَعْدَ فَكِّ الْحَجْرِ:
57 - إِذَا انْفَكَّ الْحَجْرُ عَنِ الْمُفَلِّسِ بِقَسْمِ مَالِهِ أَوْ
بِفَكِّ الْقَاضِي الْحَجْرَ عَنْهُ عَلَى التَّفْصِيل الْمُتَقَدِّمِ،
وَبَقِيَ عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنَ الدَّيْنِ، فَلَزِمَتْهُ دُيُونٌ أُخْرَى
بَعْدَ فَكِّ الْحَجْرِ عَنْهُ، وَتَجَدَّدَ لَهُ مَالٌ، فَحُجِرَ عَلَيْهِ
مَرَّةً أُخْرَى بِطَلَبِ الْغُرَمَاءِ، قَال الْحَنَابِلَةُ: يُشَارِكُ
أَصْحَابُ الْحَجْرِ الأَْوَّل بِبَقِيَّةِ دُيُونِهِمْ أَصْحَابَ
الْحَجْرِ الثَّانِي بِجَمِيعِ دُيُونِهِمْ، لأَِنَّهُمْ تَسَاوَوْا فِي
ثُبُوتِ حُقُوقِهِمْ فِي ذِمَّتِهِ، فَتَسَاوَوْا فِي الاِسْتِحْقَاقِ (2)
.
أَمَّا الْمَالِكِيَّةُ فَقَدْ فَصَلُوا، فَقَالُوا: يُشَارِكُ
الأَْوَّلُونَ الآْخَرِينَ فِيمَا تَجَدَّدَ بِسَبَبٍ مُسْتَقِلٍّ،
كَإِرْثٍ وَصِلَةٍ وَأَرْشِ جِنَايَةٍ وَوَصِيَّةٍ وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَلاَ
يُشَارِكُونَهُمْ فِي أَثْمَانِ مَا أَخَذَهُ مِنَ الآْخَرِينَ، وَفِيمَا
تَجَدَّدَ عَنْ ذَلِكَ إِلاَّ أَنْ يَفْضُل عَنْ دُيُونِهِمْ فَضْلَةٌ.
وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّهُ لَوْ فُكَّ الْحَجْرُ عَنِ
الْمُفَلِّسِ، وَحَدَثَ لَهُ مَالٌ بَعْدَهُ فَلاَ تَعَلُّقَ لأَِحَدٍ
بِهِ، فَيَتَصَرَّفُ فِيهِ كَيْفَ شَاءَ، فَلَوْ ظَهَرَ لَهُ مَالٌ - كَانَ
قَبْل الْفَكِّ - تَبَيَّنَ بَقَاءُ الْحَجْرِ فِيهِ، سَوَاءٌ حَدَثَ لَهُ
بَعْدَ الْفَكِّ مَالٌ وَغُرَمَاءُ أَوْ لاَ، وَالْمَال الَّذِي ظَهَرَ
أَنَّهُ كَانَ قَبْل فَكِّ الْحَجْرِ لِلْغُرَمَاءِ الأَْوَّلِينَ،
وَيُشَارِكُونَ مَنْ حَدَثَ بَعْدَهُمْ فِيمَا حَدَثَ بَعْدَ الْفَكِّ،
وَلاَ يُشَارِكُ غَرِيمٌ حَادِثٌ مَنْ قَبْلَهُ فِي مَالٍ حَدَثَ قَبْلَهُ
أَوْ مَعَهُ.
__________
(1) البدائع 7 / 172 - 173.
(2) كشاف القناع 3 / 441، وحاشية الدسوقي 3 / 268، 269، والمغني 4 / 450،
والقليوبي 2 / 289.
(5/323)
أَحْكَامُ مَنْ مَاتَ مُفَلِّسًا:
58 - مَنْ مَاتَ مُفَلِّسًا تَجْرِي بَعْضُ أَحْكَامِ الإِْفْلاَسِ فِي
حَقِّ دُيُونِهِ، وَيَمْتَنِعُ جَرَيَانُ بَعْضِ أَحْكَامِ الإِْفْلاَسِ
الأُْخْرَى. وَيُرْجَعُ لِلتَّفْصِيل إِلَى مُصْطَلَحِ (تَرِكَةٌ) (1)
أَحْكَامٌ أُخْرَى يَسْتَتْبِعُهَا التَّفْلِيسُ:
59 - إِذَا فَلَّسَ الْمَدِينُ اسْتَتْبَعَ تَفْلِيسُهُ أَحْكَامًا فِي
بَعْضِ مَا كَانَ صَدَرَ مِنْهُ مِنَ التَّصَرُّفَاتِ، كَمَا فِي
تَوْكِيلِهِ أَوْ ضَمَانِهِ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ. وَيُنْظَرُ حُكْمُ كُل
شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ فِي بَابِهِ.
أَقَارِبُ
انْظُرْ: قَرَابَةٌ
إِقَالَةٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الإِْقَالَةُ فِي اللُّغَةِ: الرَّفْعُ وَالإِْزَالَةُ، وَمِنْ ذَلِكَ
قَوْلُهُمْ: أَقَال اللَّهُ عَثْرَتَهُ إِذَا رَفَعَهُ مِنْ سُقُوطِهِ.
__________
(1) ابن عابدين 4 / 44، وبداية المجتهد 2 / 252، والوجيز 1 / 182،
والقليوبي 3 / 135، وجواهر الإكليل 2 / 94، 111، والدسوقي 3 / 331.
(5/324)
وَمِنْهُ الإِْقَالَةُ فِي الْبَيْعِ،
لأَِنَّهَا رَفْعُ الْعَقْدِ (1) .
وَهِيَ فِي اصْطِلاَحِ الْفُقَهَاءِ: رَفْعُ الْعَقْدِ، وَإِلْغَاءُ
حُكْمِهِ وَآثَارِهِ بِتَرَاضِي الطَّرَفَيْنِ (2) .
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - الْبَيْعُ:
2 - تَخْتَلِفُ الإِْقَالَةُ عَنِ الْبَيْعِ فِي أُمُورٍ مِنْهَا:
أَنَّهُمُ اخْتَلَفُوا فِي الإِْقَالَةِ، فَقَال بَعْضُهُمْ: إِنَّهَا
فَسْخٌ، وَقَال آخَرُونَ: هِيَ بَيْعٌ، وَهُنَاكَ أَقْوَالٌ أُخْرَى
سَيَأْتِي تَفْصِيلُهَا. وَمِنْهَا أَنَّ الإِْقَالَةَ يُمْكِنُ أَنْ
يَقَعَ فِيهَا الإِْيجَابُ بِلَفْظِ الاِسْتِقْبَال كَقَوْل أَحَدِهِمَا:
أَقِلْنِي، بِخِلاَفِ الْبَيْعِ فَإِنَّهُ لاَ يَقَعُ إِلاَّ بِلَفْظِ
الْمَاضِي، لأَِنَّ لَفْظَةَ الاِسْتِقْبَال لِلْمُسَاوَمَةِ حَقِيقَةً،
وَالْمُسَاوَمَةُ فِي الْبَيْعِ مُعْتَادَةٌ، فَكَانَتِ اللَّفْظَةُ
مَحْمُولَةً عَلَى حَقِيقَتِهَا، فَلَمْ تَقَعْ إِيجَابًا، بِخِلاَفِ
الإِْقَالَةِ، لأَِنَّ الْمُسَاوَمَةَ فِيهَا لَيْسَتْ مُعْتَادَةً،
فَيُحْمَل اللَّفْظُ فِيهَا عَلَى الإِْيجَابِ (3) .
ب - الْفَسْخُ:
3 - تَخْتَلِفُ الإِْقَالَةُ عَنِ الْفَسْخِ فِي أَنَّ الْفَسْخَ هُوَ
رَفْعُ جَمِيعِ أَحْكَامِ الْعَقْدِ وَآثَارِهِ وَاعْتِبَارِهِ كَأَنْ لَمْ
يَكُنْ
__________
(1) المصباح المنير مادة: (قيل) .
(2) هناك تعريفات متعددة للإقالة في المذاهب المختلفة، واختارت اللجنة
التعريف المشار إليه، لأنه أجمع لآراء الفقهاء في تكييفها، وانظر: البحر
الرائق شرح كنز الدقائق 6 / 110، ومنح الله المعين على شرح الكنز. محمد
منلا مسكين 2 / 585، ومجمع الأنهر شرح ملتقى الأبحر 2 / 254، والخرشي على
مختصر خليل وبهامشه حاشية العدوي 5 / 169، والأم للشافعي 3 / 67، والمغني
لابن قدامة 4 / 135.
(3) بدائع الصنائع 5 / 306.
(5/324)
بِالنِّسْبَةِ لِلْمُسْتَقْبَل. وَأَمَّا
الإِْقَالَةُ فَقَدِ اعْتَبَرَهَا بَعْضُهُمْ فَسْخًا، وَاعْتَبَرَهَا
آخَرُونَ بَيْعًا (1)
. حُكْمُ الإِْقَالَةِ التَّكْلِيفِيِّ:
4 - الإِْقَالَةُ دَائِرَةٌ بَيْنَ النَّدْبِ وَالْوُجُوبِ بِحَسَبِ
حَالَةِ الْعَقْدِ، فَإِنَّهَا تَكُونُ مَنْدُوبًا إِلَيْهَا إِذَا نَدِمَ
أَحَدُ الطَّرَفَيْنِ، لِحَدِيثِ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ فِيمَا يَرْوِيهِ أَبُو هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: {مَنْ
أَقَال مُسْلِمًا بَيْعَتَهُ أَقَال اللَّهُ عَثْرَتَهُ} (2) . وَقَدْ دَل
الْحَدِيثُ عَلَى مَشْرُوعِيَّةِ الإِْقَالَةِ، وَعَلَى أَنَّهَا مَنْدُوبٌ
إِلَيْهَا، لِوَعْدِ الْمُقِيلِينَ بِالثَّوَابِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ.
وَأَمَّا كَوْنُ الْمُقَال مُسْلِمًا فَلَيْسَ بِشَرْطٍ، وَإِنَّمَا
ذَكَرَهُ لِكَوْنِهِ حُكْمًا أَغْلَبِيًّا، وَإِلاَّ فَثَوَابُ
الإِْقَالَةِ ثَابِتٌ فِي إِقَالَةِ غَيْرِ الْمُسْلِمِ، وَقَدْ وَرَدَ
بِلَفْظِ: {مَنْ أَقَال نَادِمًا. . .} . وَتَكُونُ الإِْقَالَةُ وَاجِبَةً
إِذَا كَانَتْ بَعْدَ عَقْدٍ مَكْرُوهٍ أَوْ بَيْعٍ فَاسِدٍ، لأَِنَّهُ
إِذَا وَقَعَ الْبَيْعُ فَاسِدًا أَوْ مَكْرُوهًا وَجَبَ عَلَى كُلٍّ مِنَ
الْمُتَعَاقِدَيْنِ الرُّجُوعُ إِلَى مَا كَانَ لَهُ مِنْ رَأْسِ الْمَال
صَوْنًا لَهُمَا عَنِ الْمَحْظُورِ، لأَِنَّ رَفْعَ الْمَعْصِيَةِ وَاجِبٌ
بِقَدْرِ الإِْمْكَانِ، وَيَكُونُ ذَلِكَ بِالإِْقَالَةِ أَوْ بِالْفَسْخِ.
كَمَا يَنْبَغِي أَنْ تَكُونَ الإِْقَالَةُ وَاجِبَةً إِذَا كَانَ
الْبَائِعُ غَارًّا لِلْمُشْتَرِي وَكَانَ الْغَبْنُ يَسِيرًا، وَإِنَّمَا
قُيِّدَ الْغَبْنُ
__________
(1) فتح القدير 6 / 489 - 491.
(2) حديث: من أقال مسلما. . . . . . " أخرجه أبو داود 3 / 738 - ط عزت عبيد
دعاس. وصححه ابن دقيق العيد كما في الفيض للمناوي 6 / 79 - ط المكتبة
التجارية.
(5/325)
بِالْيَسِيرِ هُنَا، لأَِنَّ الْغَبْنَ
الْفَاحِشَ يُوجِبُ الرَّدَّ إِنْ غَرَّهُ الْبَائِعُ عَلَى الصَّحِيحِ (1)
.
رُكْنُ الإِْقَالَةِ:
5 - رُكْنُ الإِْقَالَةِ الإِْيجَابُ وَالْقَبُول الدَّالاَّنِ عَلَيْهَا.
فَإِذَا وُجِدَ الإِْيجَابُ مِنْ أَحَدِهِمَا وَالْقَبُول مِنَ الآْخَرِ
بِلَفْظٍ يَدُل عَلَيْهِ فَقَدْ تَمَّ الرُّكْنُ، وَهِيَ تَتَوَقَّفُ عَلَى
الْقَبُول فِي الْمَجْلِسِ، نَصًّا بِالْقَوْل أَوْ دَلاَلَةً بِالْفِعْل.
وَيَأْتِي الْقَبُول مِنَ الآْخَرِ بَعْدَ الإِْيجَابِ، أَوْ تَقَدَّمَ
السُّؤَال، أَوْ قَبَضَ الآْخَرُ مَا هُوَ لَهُ فِي مَجْلِسِ الإِْقَالَةِ
أَوْ مَجْلِسِ عِلْمِهَا، لأَِنَّ مَجْلِسَ الْعِلْمِ فِي حَقِّ الْغَائِبِ
كَمَجْلِسِ اللَّفْظِ فِي الْحَاضِرِ، فَلاَ يَصِحُّ مِنَ الْحَاضِرِ فِي
غَيْرِ مَجْلِسِهَا (2) .
الأَْلْفَاظُ الَّتِي تَنْعَقِدُ بِهَا الإِْقَالَةُ:
6 - لاَ خِلاَفَ فِي أَنَّ الإِْقَالَةَ تَنْعَقِدُ صَحِيحَةً بِلَفْظِ
الإِْقَالَةِ أَوْ مَا يَدُل عَلَيْهَا، كَمَا لاَ خِلاَفَ فِي أَنَّهَا
تَنْعَقِدُ بِلَفْظَيْنِ يُعَبَّرُ بِهِمَا عَنِ الْمَاضِي. وَلَكِنَّ
الْخِلاَفَ فِي صِيغَةِ اللَّفْظِ الَّذِي تَنْعَقِدُ بِهِ إِذَا كَانَ
أَحَدُهُمَا مَاضِيًا وَالآْخَرُ مُسْتَقْبَلاً. فَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ
وَأَبُو يُوسُفَ إِلَى أَنَّهَا تَصِحُّ بِلَفْظَيْنِ أَحَدُهُمَا
مُسْتَقْبَلٌ وَالآْخَرُ مَاضٍ، كَمَا لَوْ قَال: أَقِلْنِي: فَقَال،
أَقَلْتُكَ، أَوْ قَال لَهُ: جِئْتُكَ لِتُقِيلَنِي، فَقَال: أَقَلْتُكَ،
فَهِيَ تَنْعَقِدُ عِنْدَهُمَا بِهَذَيْنِ اللَّفْظَيْنِ كَمَا يَنْعَقِدُ
النِّكَاحُ.
__________
(1) سبل السلام للصنعاني 3 / 42 - 43، 4 / 491، وشرح العناية على الهداية
للبابرتي 6 / 486، والبحر الرائق 6 / 110 - 111.
(2) البدائع 7 / 3394، ومجمع الأنهر 2 / 54، والبحر الرائق 6 / 110.
(5/325)
وَمَعَ أَنَّ الإِْقَالَةَ بَيْعٌ عِنْدَ
أَبِي يُوسُفَ، فَإِنَّهُ لَمْ يُعْطِ الإِْقَالَةَ حُكْمَهُ، لأَِنَّ
الْمُسَاوَمَةَ لاَ تَجْرِي فِي الإِْقَالَةِ، فَحُمِل اللَّفْظُ عَلَى
التَّحْقِيقِ بِخِلاَفِ الْبَيْعِ. وَأَمَّا مُحَمَّدٌ فَهُوَ يَقُول:
إِنَّهَا لاَ تَنْعَقِدُ إِلاَّ بِلَفْظَيْنِ يُعَبَّرُ بِهِمَا عَنِ
الْمَاضِي، لأَِنَّهَا كَالْبَيْعِ فَأُعْطِيَتْ بِسَبَبِ الشَّبَهِ حُكْمَ
الْبَيْعِ، وَذَلِكَ بِأَنْ يَقُول أَحَدُهُمَا: أَقَلْتُ، وَالآْخَرُ:
قَبِلْتُ، أَوْ رَضِيتُ، أَوْ هَوَيْتُ، أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ (1) .
وَتَنْعَقِدُ بِفَاسَخْتُكَ وَتَارَكْتُ، كَمَا تَصِحُّ بِلَفْظِ "
الْمُصَالَحَةِ " وَتَصِحُّ بِلَفْظِ " الْبَيْعِ " وَمَا يَدُل عَلَى
الْمُعَاطَاةِ، لأَِنَّ الْمَقْصُودَ الْمَعْنَى، وَكُل مَا يُتَوَصَّل
إِلَيْهِ أَجْزَأَ (2) . خِلاَفًا لِلْقَاضِي مِنَ الْحَنَابِلَةِ فِي
أَنَّ مَا يَصْلُحُ لِلْعَقْدِ لاَ يَصْلُحُ لِلْحَل، وَمَا يَصْلُحُ
لِلْحَل لاَ يَصْلُحُ لِلْعَقْدِ. وَتَنْعَقِدُ الإِْقَالَةُ بِالتَّعَاطِي
كَالْبَيْعِ، كَمَا لَوْ قَال لَهُ: أَقَلْتُكَ فَرَدَّ إِلَيْهِ
الثَّمَنَ، وَتَصِحُّ بِالْكِتَابَةِ وَالإِْشَارَةِ مِنَ الأَْخْرَسِ (3)
.
شُرُوطُ الإِْقَالَةِ:
7 - يُشْتَرَطُ لِصِحَّةِ الإِْقَالَةِ مَا يَلِي:
أ - رِضَى الْمُتَقَايِلَيْنِ: لأَِنَّهَا رَفْعُ عَقْدٍ لاَزِمٍ، فَلاَ
بُدَّ مِنْ رِضَى الطَّرَفَيْنِ.
ب - اتِّحَادُ الْمَجْلِسِ: لأَِنَّ مَعْنَى الْبَيْعِ مَوْجُودٌ فِيهَا،
فَيُشْتَرَطُ لَهَا الْمَجْلِسُ، كَمَا يُشْتَرَطُ لِلْبَيْعِ.
__________
(1) بدائع الصنائع 7 / 3394، والبحر الرائق 6 / 110، ومجمع الأنهر 2 / 54،
وشرح العناية على الهداية بهامش فتح القدير 6 / 487.
(2) شرح العناية على الهداية 6 / 487، والبحر الرائق 6 / 110، وكشاف القناع
3 / 204.
(3) البحر الرائق 6 / 110، وشرح العناية على الهداية بهامش فتح القدير 6 /
487.
(5/326)
ج - أَنْ يَكُونَ التَّصَرُّفُ قَابِلاً
لِلنَّسْخِ كَالْبَيْعِ وَالإِْجَارَةِ، فَإِنْ كَانَ التَّصَرُّفُ لاَ
يَقْبَل الْفَسْخَ كَالنِّكَاحِ وَالطَّلاَقِ فَلاَ تَصِحُّ الإِْقَالَةُ
(1) .
د - بَقَاءُ الْمَحَل وَقْتَ الإِْقَالَةِ، فَإِنْ كَانَ هَالِكًا وَقْتَ
الإِْقَالَةِ لَمْ تَصِحَّ، فَأَمَّا قِيَامُ الثَّمَنِ وَقْتَ
الإِْقَالَةِ فَلَيْسَ بِشَرْطٍ (2) .
هـ - تَقَابُضُ بَدَلَيِ الصَّرْفِ فِي إِقَالَةِ الصَّرْفِ، وَهَذَا عَلَى
قَوْل مَنْ يَقُول: إِنَّهَا بَيْعٌ، لأَِنَّ قَبْضَ الْبَدَلَيْنِ
إِنَّمَا وَجَبَ حَقًّا لِلَّهِ تَعَالَى، وَهَذَا الْحَقُّ لاَ يَسْقُطُ
بِإِسْقَاطِ الْعَبْدِ. و - أَلاَّ يَكُونَ الْبَيْعُ بِأَكْثَرَ مِنْ
ثَمَنِ الْمِثْل فِي بَيْعِ الْوَصِيِّ، فَإِنْ كَانَ لَمْ تَصِحَّ
إِقَالَتُهُ (3) .
حَقِيقَتُهَا الشَّرْعِيَّةُ:
8 - لِلْفُقَهَاءِ فِي تَكْيِيفِ الإِْقَالَةِ اتِّجَاهَاتٌ: الأَْوَّل:
أَنَّهَا فَسْخٌ يَنْحَل بِهِ الْعَقْدُ فِي حَقِّ الْعَاقِدَيْنِ
وَغَيْرِهِمَا، وَهُوَ قَوْل الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ وَمُحَمَّدِ
بْنِ الْحَسَنِ (4) . وَجْهُ هَذَا الْقَوْل أَنَّ الإِْقَالَةَ فِي
اللُّغَةِ عِبَارَةٌ عَنِ الرَّفْعِ، يُقَال فِي الدُّعَاءِ: اللَّهُمَّ
أَقِلْنِي عَثَرَاتِي، أَيِ ارْفَعْهَا، وَالأَْصْل أَنَّ مَعْنَى
التَّصَرُّفِ شَرْعًا مَا يُنْبِئُ عَنْهُ اللَّفْظُ لُغَةً، وَرَفْعُ
الْعَقْدِ فَسْخُهُ، وَلأَِنَّ الْبَيْعَ وَالإِْقَالَةَ اخْتَلَفَا
اسْمًا، فَتَخَالَفَا حُكْمًا، فَإِذَا كَانَتْ رَفْعًا لاَ تَكُونُ
بَيْعًا، لأَِنَّ الْبَيْعَ إِثْبَاتٌ وَالرَّفْعُ نَفْيٌ، وَبَيْنَهُمَا
تَنَافٍ، فَكَانَتِ الإِْقَالَةُ عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ فَسْخًا
مَحْضًا، فَتَظْهَرُ فِي حَقِّ كَافَّةِ النَّاسِ.
__________
(1) ابن عابدين 5 / 123، 124.
(2) البدائع 7 / 3401.
(3) البدائع 7 / 3400 - 3401، والبحر الرائق 6 / 110.
(4) المغني 4 / 135، والاختيار 1 / 184.
(5/326)
الثَّانِي: أَنَّهَا بَيْعٌ فِي حَقِّ
الْعَاقِدَيْنِ وَغَيْرِهِمَا، إِلاَّ إِذَا تَعَذَّرَ جَعْلُهَا بَيْعًا
فَإِنَّهَا تَكُونُ فَسْخًا، وَهَذَا قَوْل أَبِي يُوسُفَ وَالإِْمَامِ
مَالِكٍ. وَمِنْ أَمْثِلَةِ ذَلِكَ أَنْ تَقَعَ الإِْقَالَةُ فِي
الطَّعَامِ قَبْل قَبْضِهِ. وَجْهُ هَذَا الْقَوْل أَنَّ مَعْنَى الْبَيْعِ
هُوَ مُبَادَلَةُ الْمَال بِالْمَال، وَهُوَ أَخْذُ بَدَلٍ وَإِعْطَاءُ
بَدَلٍ، وَقَدْ وُجِدَ، فَكَانَتِ الإِْقَالَةُ بَيْعًا لِوُجُودِ مَعْنَى
الْبَيْعِ فِيهَا، وَالْعِبْرَةُ فِي الْعُقُودِ لِلْمَعَانِي لاَ
لِلأَْلْفَاظِ وَالْمَبَانِي (1) .
الثَّالِثُ: أَنَّهَا فَسْخٌ فِي حَقِّ الْعَاقِدَيْنِ بَيْعٌ فِي حَقِّ
غَيْرِهِمَا، وَهُوَ قَوْل أَبِي حَنِيفَةَ. وَجْهُ هَذَا الْقَوْل أَنَّ
الإِْقَالَةَ تُنْبِئُ عَنِ الْفَسْخِ وَالإِْزَالَةِ، فَلاَ تَحْتَمِل
مَعْنًى آخَرَ نَفْيًا لِلاِشْتِرَاكِ، وَالأَْصْل الْعَمَل بِحَقِيقَةِ
اللَّفْظِ، وَإِنَّمَا جُعِل بَيْعًا فِي حَقِّ غَيْرِ الْعَاقِدَيْنِ،
لأَِنَّ فِيهَا نَقْل مِلْكٍ بِإِيجَابٍ وَقَبُولٍ بِعِوَضٍ مَالِيٍّ،
فَجُعِلَتْ بَيْعًا فِي حَقِّ غَيْرِ الْعَاقِدَيْنِ مُحَافَظَةً عَلَى
حَقِّهِ مِنَ الإِْسْقَاطِ، إِذْ لاَ يَمْلِكُ الْعَاقِدَانِ إِسْقَاطَ
حَقِّ غَيْرِهِمَا (2) .
آثَارُ اخْتِلاَفِ الْفُقَهَاءِ فِي حَقِيقَةِ الإِْقَالَةِ:
يَتَرَتَّبُ عَلَى اخْتِلاَفِ الْفُقَهَاءِ فِي حَقِيقَةِ الإِْقَالَةِ
آثَارٌ فِي التَّطْبِيقِ فِي أَحْوَالٍ كَثِيرَةٍ مِنْهَا مَا يَلِي:
أَوَّلاً - الإِْقَالَةُ بِأَقَل أَوْ أَكْثَرَ مِنَ الثَّمَنِ:
9 - إِذَا تَقَايَل الْمُتَبَايِعَانِ وَلَمْ يُسَمِّيَا الثَّمَنَ
الأَْوَّل، أَوْ سَمَّيَا زِيَادَةً عَلَى الثَّمَنِ الأَْوَّل، أَوْ
سَمَّيَا جِنْسًا آخَرَ سِوَى الْجِنْسِ الأَْوَّل، قَل أَوْ كَثُرَ، أَوْ
أَجَّلاَ الثَّمَنَ الأَْوَّل، فَالإِْقَالَةُ عَلَى الثَّمَنِ الأَْوَّل،
وَتَسْمِيَةُ الزِّيَادَةِ وَالأَْجَل وَالْجِنْسِ الآْخَرِ بَاطِلَةٌ
عَلَى الْقَوْل بِأَنَّ
__________
(1) البدائع 7 / 3394، والخرشي 5 / 166، والمدونة 9 / 761.
(2) الاختيار 1 / 184.
(5/327)
الإِْقَالَةَ فَسْخٌ، سَوَاءٌ أَكَانَتِ
الإِْقَالَةُ قَبْل الْقَبْضِ أَوْ بَعْدَهُ، وَسَوَاءٌ أَكَانَ الْمَبِيعُ
مَنْقُولاً أَمْ غَيْرَ مَنْقُولٍ، لأَِنَّ الْفَسْخَ رَفْعُ الْعَقْدِ
الأَْوَّل، وَالْعَقْدُ وَقَعَ بِالثَّمَنِ الأَْوَّل، فَيَكُونُ فَسْخُهُ
بِالثَّمَنِ الأَْوَّل، وَحُكْمُ الْفَسْخِ لاَ يَخْتَلِفُ بَيْنَ مَا
قَبْل الْقَبْضِ وَمَا بَعْدَهُ، وَبَيْنَ الْمَنْقُول وَغَيْرِ
الْمَنْقُول، وَتَبْطُل تَسْمِيَةُ الزِّيَادَةِ وَالنُّقْصَانِ
وَالْجِنْسِ الآْخَرِ وَالأَْجَل، وَتَبْقَى الإِْقَالَةُ صَحِيحَةً،
لأَِنَّ تَسْمِيَةَ هَذِهِ الأَْشْيَاءِ لاَ تُؤَثِّرُ فِي الإِْقَالَةِ
(1) ، وَلأَِنَّ الإِْقَالَةَ رَفْعُ مَا كَانَ لاَ رَفْعُ مَا لَمْ
يَكُنْ، حَيْثُ إِنَّ رَفْعَ مَا لَمْ يَكُنْ ثَابِتًا مُحَالٌ (2) .
وَتَكُونُ الإِْقَالَةُ أَيْضًا بِمِثْل الثَّمَنِ الأَْوَّل الْمُسَمَّى،
لاَ بِمَا يُدْفَعُ بَدَلاً عَنْهُ، حَتَّى لَوْ كَانَ عَشَرَةَ دَنَانِيرَ
فَدَفَعَ إِلَيْهِ دَرَاهِمَ عِوَضًا عَنْهَا، ثُمَّ تَقَايَلاَ - وَقَدْ
رُخِّصَتِ الدَّنَانِيرُ - رَجَعَ بِالدَّنَانِيرِ لاَ بِمَا دَفَعَ،
لأَِنَّهُ لَمَّا اعْتُبِرَتِ الإِْقَالَةُ فَسْخًا، وَالْفَسْخُ يُرَدُّ
عَلَى عَيْنِ مَا يُرَدُّ عَلَيْهِ الْعَقْدُ، كَانَ اشْتِرَاطُ خِلاَفِ
الثَّمَنِ الأَْوَّل بَاطِلاً (3) .
ثَانِيًا - الشُّفْعَةُ فِيمَا يُرَدُّ بِالإِْقَالَةِ:
10 - يَقْتَضِي الْقِيَاسُ أَلاَّ يَكُونَ لِلشَّفِيعِ حَقُّ الشُّفْعَةِ
فِيمَا رُدَّ بِالإِْقَالَةِ إِذَا اعْتُبِرَتْ هَذِهِ الإِْقَالَةُ
فَسْخًا مُطْلَقًا، وَهَذَا قِيَاسٌ عَلَى أَصْل مُحَمَّدٍ وَزُفَرَ مِنَ
الْحَنَفِيَّةِ، لأَِنَّ الإِْقَالَةَ عِنْدَ مُحَمَّدٍ فَسْخٌ، إِلاَّ
إِذَا لَمْ يُمْكِنْ جَعْلُهَا فَسْخًا فَتُجْعَل بَيْعًا. وَعَنْ زُفَرَ:
هِيَ فَسْخٌ فِي حَقِّ النَّاسِ كَافَّةً. أَمَّا سَائِرُ الْحَنَفِيَّةِ،
وَكَذَلِكَ بَقِيَّةُ الْمَذَاهِبِ
__________
(1) البدائع 7 / 3395 - 3396.
(2) شرح العناية على الهداية بهامش فتح القدير 6 / 487 - 491.
(3) البدائع 6 / 3397.
(5/327)
الأُْخْرَى، فَإِنَّهَا تُعْطِي الشَّفِيعَ
حَقَّ الشُّفْعَةِ فِيمَا رُدَّ بِالإِْقَالَةِ. فَعَلَى اعْتِبَارِ
أَنَّهَا فَسْخٌ فِي حَقِّ الْعَاقِدَيْنِ بَيْعٌ فِي حَقٍّ ثَالِثٍ، كَمَا
هُوَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، أَوْ عَلَى اعْتِبَارِ أَنَّهَا بَيْعٌ فِي
حَقِّهِمَا، كَمَا هُوَ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ، فَإِنَّ الشَّفِيعَ يَأْخُذُ
بِالشُّفْعَةِ بَعْدَ تَقَايُل الْبَيْعِ بَيْنَ الْبَائِعِ
وَالْمُشْتَرِي، فَمَنِ اشْتَرَى دَارًا وَلَهَا شَفِيعٌ، فَسَلَّمَ
الشُّفْعَةَ، ثُمَّ تَقَايَلاَ الْبَيْعَ، أَوِ اشْتَرَاهَا وَلَمْ يَكُنْ
بِجَنْبِهَا دَارٌ، ثُمَّ بُنِيَتْ بِجَنْبِهَا دَارٌ، ثُمَّ تَقَايَلاَ
الْبَيْعَ، فَإِنَّ الشَّفِيعَ يَأْخُذُهَا بِالشُّفْعَةِ. وَعَلَى أَصْل
أَبِي حَنِيفَةَ تَكُونُ الإِْقَالَةُ بَيْعًا فِي حَقِّ غَيْرِ
الْعَاقِدَيْنِ، وَالشَّفِيعُ غَيْرُهُمَا، فَتَكُونُ بَيْعًا فِي حَقِّهِ
فَيَسْتَحِقُّ. وَعَلَى أَصْل أَبِي يُوسُفَ تُعَدُّ الإِْقَالَةُ بَيْعًا
جَدِيدًا فِي حَقِّ الْكُل، وَلاَ مَانِعَ مِنْ جَعْلِهَا بَيْعًا فِي
حَقِّ الشَّفِيعِ، وَلِهَذَا الشَّفِيعِ الأَْخْذُ بِالشُّفْعَةِ، إِنْ
شَاءَ بِالْبَيْعِ الأَْوَّل، وَإِنْ شَاءَ بِالْبَيْعِ الْحَاصِل
بِالإِْقَالَةِ، أَوْ بِمَعْنًى آخَرَ مِنْ أَيِّهِمَا شَاءَ: مِنَ
الْمُشْتَرِي لأَِجْل الشِّرَاءِ، أَوْ مِنَ الْبَائِعِ لِشِرَائِهِ مِنَ
الْمُشْتَرِي بِالإِْقَالَةِ، حَيْثُ تَكُونُ الإِْقَالَةُ بَيْعًا مِنَ
الْمُشْتَرِي لِلْبَائِعِ، وَحَيْثُ تَكُونُ فَسْخَ بَيْعٍ فَتُؤْخَذُ مِنَ
الْمُشْتَرِي فَقَطْ، وَلاَ يَتِمُّ فَسْخُهُ إِلاَّ إِنْ رَضِيَ
الشَّفِيعُ لأَِنَّ الشِّرَاءَ لَهُ (1) .
إِقَالَةُ الْوَكِيل:
11 - مَنْ مَلَكَ الْبَيْعَ مَلَكَ الإِْقَالَةَ، فَصَحَّتْ إِقَالَةُ
الْمُوَكِّل بَيْعَ وَكِيلِهِ، وَتَصِحُّ إِقَالَةُ الْوَكِيل بِالْبَيْعِ
إِذَا
__________
(1) البدائع 6 / 2689، 7 / 3399، وابن عابدين على البحر 6 / 112 - 113،
وحاشية سعدي جلبي بهامش فتح القدير 6 / 487.
(5/328)
تَمَّتْ قَبْل قَبْضِ الثَّمَنِ. فَإِنْ
أَقَال بَعْدَ قَبْضِهِ يَضْمَنُ الثَّمَنَ لِلْمُوَكِّل، إِذْ تُعْتَبَرُ
الإِْقَالَةُ مِنَ الْوَكِيل حِينَئِذٍ شِرَاءً لِنَفْسِهِ. وَبِإِقَالَةِ
الْوَكِيل بِالْبَيْعِ يَسْقُطُ الثَّمَنُ عَنِ الْمُشْتَرِي عِنْدَ أَبِي
حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ، وَيَلْزَمُ الْمَبِيعُ الْوَكِيل. وَعِنْدَ أَبِي
يُوسُفَ لاَ يَسْقُطُ الثَّمَنُ عَنِ الْمُشْتَرِي أَصْلاً. وَتَجُوزُ
الإِْقَالَةُ مِنَ الْوَكِيل بِالسَّلَمِ فِي قَوْل أَبِي حَنِيفَةَ
وَمُحَمَّدٍ كَالإِْبْرَاءِ، خِلاَفًا لأَِبِي يُوسُفَ. وَالْمُرَادُ
بِإِقَالَةِ الْوَكِيل بِالسَّلَمِ: الْوَكِيل بِشِرَاءِ السَّلَمِ،
بِخِلاَفِ الْوَكِيل بِشِرَاءِ الْعَيْنِ. وَإِقَالَةُ الْوَكِيل
بِالشِّرَاءِ لاَ تَجُوزُ بِإِجْمَاعِ الْحَنَفِيَّةِ بِخِلاَفِ الْوَكِيل
بِالْبَيْعِ، وَعِنْدَ مَالِكٍ لاَ تَجُوزُ إِقَالَةُ الْوَكِيل
بِالْبَيْعِ مُطْلَقًا. وَاتَّفَقَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ عَلَى
صِحَّةِ التَّوْكِيل فِي حَقِّ كُل آدَمِيٍّ مِنَ الْعُقُودِ وَالْفُسُوخِ.
وَعَلَى هَذَا فَيَصِحُّ التَّوْكِيل بِالإِْقَالَةِ عِنْدَهُمُ
ابْتِدَاءً، سَوَاءٌ أَقُلْنَا: إِنَّ الإِْقَالَةَ فَسْخٌ عَلَى
الْمَذْهَبِ عِنْدَهُمْ جَمِيعًا أَمْ بَيْعٌ. هَذَا، وَلَمْ يَذْكُرِ
الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ مَنْ لَهُ حَقُّ الإِْقَالَةِ مِنْ
غَيْرِ الْمُتَعَاقِدَيْنِ سِوَى الْوَرَثَةِ عَلَى الصَّحِيحِ مِنَ
الْمَذْهَبَيْنِ. أَمَّا حُكْمُ الإِْقَالَةِ الصَّادِرَةِ مِنَ الْوَكِيل
بِالْبَيْعِ وَالْوَكِيل بِالشِّرَاءِ فَلَمْ يَتَطَرَّقُوا لَهُ.
وَالْمُتَوَلِّي عَلَى الْوَقْفِ إِذَا اشْتَرَى شَيْئًا بِأَقَل مِنْ
قِيمَتِهِ فَإِنَّ إِقَالَتَهُ لاَ تَصِحُّ (1) .
__________
(1) شرح العناية على الهداية 6 / 493، والبحر الرائق وحاشية ابن عابدين
عليه 6 / 111، والمدونة 5 / 83، والروضة 3 / 494، والجمل 3 / 156، وشرح
البهجة 3 / 173، وقليوبي على شرح المنهاج 2 / 210، والشرواني على التحفة 4
/ 392، والمبدع 4 / 126، والإنصاف 4 / 480، 5 / 356.
(5/328)
مَحَل الإِْقَالَةِ:
12 - مَحَل الإِْقَالَةِ الْعُقُودُ اللاَّزِمَةُ فِي حَقِّ الطَّرَفَيْنِ
مِمَّا يَقْبَل الْفَسْخَ بِالْخِيَارِ، لأَِنَّ هَذِهِ الْعُقُودَ لاَ
يُمْكِنُ فَسْخُهَا إِلاَّ بِاتِّفَاقِ الطَّرَفَيْنِ الْمُتَعَاقِدَيْنِ،
وَعَلَى ذَلِكَ فَإِنَّ الإِْقَالَةَ تَصِحُّ فِي الْعُقُودِ الآْتِيَةِ:
الْبَيْعِ - الْمُضَارَبَةِ - الشَّرِكَةِ - الإِْجَارَةِ - الرَّهْنِ
(بِالنِّسْبَةِ لِلرَّاهِنِ فَهِيَ مَوْقُوفَةٌ عَلَى إِجَازَةِ
الْمُرْتَهِنِ أَوْ قَضَاءِ الرَّاهِنِ دَيْنَهُ) - السَّلَمِ - الصُّلْحِ.
وَأَمَّا الْعُقُودُ الَّتِي لاَ تَصِحُّ فِيهَا الإِْقَالَةُ فَهِيَ
الْعُقُودُ غَيْرُ اللاَّزِمَةِ، كَالإِْعَارَةِ وَالْوَصِيَّةِ
وَالْجِعَالَةِ، أَوِ الْعُقُودُ اللاَّزِمَةُ الَّتِي لاَ تَقْبَل
الْفَسْخَ بِالْخِيَارِ، مِثْل الْوَقْفِ وَالنِّكَاحِ حَيْثُ لاَ يَجُوزُ
فَسْخُ أَحَدِهِمَا بِالْخِيَارِ (1) .
أَثَرُ الشُّرُوطِ الْفَاسِدَةِ فِي الإِْقَالَةِ:
13 - إِذَا اعْتَبَرْنَا الإِْقَالَةَ فَسْخًا، فَإِنَّهَا لاَ تَبْطُل
بِالشُّرُوطِ الْفَاسِدَةِ، بَل تَكُونُ هَذِهِ الشُّرُوطُ لَغْوًا،
وَتَصِحُّ الإِْقَالَةُ. فَفِي الإِْقَالَةِ فِي الْبَيْعِ، إِذَا شَرَطَ
أَكْثَرَ مِمَّا دَفَعَ، فَالإِْقَالَةُ عَلَى الثَّمَنِ الأَْوَّل،
لِمُتَعَذِّرِ الْفَسْخِ عَلَى الزِّيَادَةِ، وَتُبْطِل الشَّرْطَ،
لأَِنَّهُ يُشْبِهُ الرِّبَا، وَفِيهِ نَفْعٌ لأَِحَدِ الْمُتَعَاقِدَيْنِ
مُسْتَحَقٌّ بِعَقْدِ الْمُعَاوَضَةِ خَالٍ عَنِ الْعِوَضِ. وَكَذَا إِذَا
شَرَطَ أَقَل مِنَ الثَّمَنِ الأَْوَّل، لِتَعَذُّرِ الْفَسْخِ عَلَى
الأَْقَل، لأَِنَّ فَسْخَ الْعَقْدِ عِبَارَةٌ عَنْ رَفْعِهِ عَلَى
الْوَصْفِ الَّذِي كَانَ قَبْلَهُ، وَالْفَسْخُ عَلَى الأَْقَل
__________
(1) المبسوط 29 / 55، والبدائع 7 / 3179، 3396، وشرح العناية على الهداية 6
/ 492، وابن عابدين على البحر الرائق 6 / 111، والمدونة 5 / 83، ومختصر
المزني على الأم 2 / 28، ومغني المحتاج 2 / 433، والمهذب للشيرازي 1 / 418،
وكشاف القناع 3 / 252.
(5/329)
لَيْسَ كَذَلِكَ، لأَِنَّ فِيهِ رَفْعَ مَا
لَمْ يَكُنْ ثَابِتًا وَهُوَ مُحَالٌ. وَالنُّقْصَانُ لَمْ يَكُنْ ثَابِتًا
فَرَفْعُهُ يَكُونُ مُحَالاً، إِلاَّ أَنْ يَحْدُثَ فِي الْمَبِيعِ عَيْبٌ
فَتَجُوزُ الإِْقَالَةُ بِالأَْقَل، لأَِنَّ الْحَطَّ يُجْعَل بِإِزَاءِ
مَا فَاتَ مِنَ الْعَيْبِ. وَهَذَا عَلَى قِيَاسِ قَوْل أَبِي حَنِيفَةَ
وَمُحَمَّدٍ وَغَيْرِهِمَا مِمَّنْ يَرَوْنَ الإِْقَالَةَ فَسْخًا،
وَأَمَّا عَلَى قِيَاسِ قَوْل مَنْ قَال: إِنَّ الإِْقَالَةَ بَيْعٌ،
فَإِنَّهَا تَبْطُل بِالشُّرُوطِ الْفَاسِدَةِ، لأَِنَّ الْبَيْعَ يَبْطُل
بِالشُّرُوطِ الْفَاسِدَةِ، فَإِذَا زَادَ كَانَ قَاصِدًا بِهَذَا
ابْتِدَاءَ الْبَيْعِ، وَإِذَا شَرَطَ الأَْقَل فَكَذَلِكَ (1) .
الإِْقَالَةُ فِي الصَّرْفِ:
14 - الإِْقَالَةُ فِي الصَّرْفِ كَالإِْقَالَةِ فِي الْبَيْعِ، أَيْ
يُشْتَرَطُ فِيهَا التَّقَابُضُ مِنَ الْجَانِبَيْنِ قَبْل الاِفْتِرَاقِ
كَمَا فِي ابْتِدَاءِ عَقْدِ الصَّرْفِ. فَلَوْ تَقَايَلاَ الصَّرْفَ،
وَتَقَابَضَا قَبْل الاِفْتِرَاقِ، مَضَتِ الإِْقَالَةُ عَلَى الصِّحَّةِ.
وَإِنِ افْتَرَقَا قَبْل التَّقَابُضِ بَطَلَتِ الإِْقَالَةُ، سَوَاءٌ
اعْتُبِرَتْ بَيْعًا أَمْ فَسْخًا. فَعَلَى اعْتِبَارِهَا بَيْعًا كَانَتِ
الْمُصَارَفَةُ مُبْتَدَأَةً، فَلاَ بُدَّ مِنَ التَّقَابُضِ يَدًا بِيَدٍ،
مَا دَامَتِ الإِْقَالَةُ بَيْعًا مُسْتَقِلًّا يُحِلُّهَا مَا يُحِل
الْبُيُوعَ، وَيُحَرِّمُهَا مَا يُحَرِّمُ الْبُيُوعَ، فَلاَ تَصْلُحُ
الإِْقَالَةُ إِذْ حَصَل الاِفْتِرَاقُ قَبْل الْقَبْضِ. عَلَى
اعْتِبَارِهَا فَسْخًا فِي حَقِّ الْمُتَعَاقِدَيْنِ، فَهِيَ بَيْعٌ
جَدِيدٌ فِي حَقٍّ ثَالِثٍ، وَاسْتِحْقَاقُ الْقَبْضِ حَقٌّ
__________
(1) البدائع 7 / 3180، 3395 - 3396، والعناية وحاشية سعدي جلبي بهامش فتح
القدير 6 / 489، 491، والبحر الرائق 6 / 111 - 113، وكشاف القناع 3 / 204.
(5/329)
لِلشَّرْعِ، وَهُوَ هُنَا ثَالِثٌ،
فَيُعْتَبَرُ بَيْعًا جَدِيدًا فِي حَقِّ هَذَا الْحُكْمِ فَيُشْتَرَطُ
فِيهِ التَّقَابُضُ. وَهَلاَكُ الْبَدَلَيْنِ فِي الصَّرْفِ لاَ يُعَدُّ
مَانِعًا مِنَ الإِْقَالَةِ، لأَِنَّهُ فِي الصَّرْفِ لاَ يَلْزَمُهُ رَدُّ
الْمَقْبُوضِ بَعْدَ الإِْقَالَةِ، بَل رَدُّهُ أَوْ رَدُّ مِثْلِهِ،
فَلَمْ تَتَعَلَّقِ الإِْقَالَةُ بِعَيْنِهِمَا، فَلاَ تَبْطُل
بِهَلاَكِهِمَا (1) .
إِقَالَةُ الإِْقَالَةِ:
15 - إِقَالَةُ الإِْقَالَةِ إِلْغَاءٌ لَهَا وَالْعَوْدَةُ إِلَى أَصْل
الْعَقْدِ، وَهِيَ تَصِحُّ فِي أَحْوَالٍ مُعَيَّنَةٍ، فَلَوْ تَقَايَلاَ
الْبَيْعَ، ثُمَّ تَقَايَلاَ الإِْقَالَةَ، ارْتَفَعَتِ الإِْقَالَةُ
وَعَادَ الْبَيْعُ (2) . وَقَدِ اسْتَثْنَى الْعُلَمَاءُ مِنْ إِقَالَةِ
الإِْقَالَةِ إِقَالَةَ الْمُسْلِمِ قَبْل قَبْضِ الْمُسْلَمِ فِيهِ،
فَإِنَّهَا لاَ تَصِحُّ، لأَِنَّ الْمُسْلَمَ فِيهِ دَيْنٌ وَقَدْ سَقَطَ
بِالإِْقَالَةِ الأُْولَى، فَلَوِ انْفَسَخَتْ لَعَادَ الْمُسْلَمُ فِيهِ
الَّذِي سَقَطَ، وَالسَّاقِطُ لاَ يَعُودُ (3) .
مَا يُبْطِل الإِْقَالَةَ:
16 - مِنَ الأَْحْوَال الَّتِي تَبْطُل فِيهَا الإِْقَالَةُ بَعْدَ
وُجُودِهَا مَا يَأْتِي: أ - هَلاَكُ الْمَبِيعِ: فَلَوْ هَلَكَ الْمَبِيعُ
بَعْدَ الإِْقَالَةِ وَقَبْل التَّسْلِيمِ بَطَلَتْ، لأَِنَّ مِنْ
شَرْطِهَا بَقَاءَ الْمَبِيعِ، لأَِنَّهَا رَفْعُ الْعَقْدِ وَهُوَ
مَحَلُّهُ، بِخِلاَفِ هَلاَكِ الثَّمَنِ فَإِنَّهُ لاَ يَمْنَعُ
الإِْقَالَةَ لِكَوْنِهِ لَيْسَ بِمَحَل الْعَقْدِ، وَلِذَا
__________
(1) المبسوط 14 / 10، والبدائع 7 / 3102، 3103، 9 / 318، وشرح العناية على
الهداية بهامش فتح القدير 6 / 493، والمدونة 5 / 69.
(2) البحر الرائق 6 / 111.
(3) البدائع 7 / 3397، والمهذب للشيرازي 1 / 386، وكشاف القناع 4 / 130،
والمدونة 9 / 75.
(5/330)
بَطَل الْبَيْعُ بِهَلاَكِ الْبَيْعِ قَبْل
الْقَبْضِ دُونَ الثَّمَنِ. وَهَذَا إِذَا لَمْ يَكُنِ الثَّمَنُ
قِيَمِيًّا، فَإِنْ كَانَ قِيَمِيًّا فَهَلَكَ بَطَلَتِ الإِْقَالَةُ.
وَلَكِنْ لاَ يُرَدُّ عَلَى اشْتَرَطَ قِيَامَ الْمَبِيعِ لِصِحَّةِ
الإِْقَالَةِ إِقَالَةَ السَّلَمِ قَبْل قَبْضِ الْمُسْلَمِ فِيهِ،
لأَِنَّهَا صَحِيحَةٌ سَوَاءٌ أَكَانَ رَأْسُ الْمَال عَيْنًا أَمْ
دَيْنًا، وَسَوَاءٌ أَكَانَ قَائِمًا فِي يَدِ الْمُسْلَمِ إِلَيْهِ أَمْ
هَالِكًا. لأَِنَّ الْمُسْلَمَ فِيهِ وَإِنْ كَانَ دَيْنًا حَقِيقَةً
فَلَهُ حُكْمُ الْعَيْنِ حَتَّى لاَ يَجُوزُ الاِسْتِبْدَال بِهِ قَبْل
قَبْضِهِ (1) .
ب - تَغَيُّرُ الْمَبِيعِ: كَأَنْ زَادَ الْمَبِيعُ زِيَادَةً مُنْفَصِلَةً
مُتَوَلِّدَةً، كَمَا لَوْ وَلَدَتِ الدَّابَّةُ بَعْدَ الإِْقَالَةِ،
فَإِنَّهَا تَبْطُل بِذَلِكَ، وَكَذَلِكَ الزِّيَادَةُ الْمُتَّصِلَةُ
غَيْرُ الْمُتَوَلِّدَةِ كَصَبْغِ الثَّوْبِ. وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ
تَبْطُل الإِْقَالَةُ بِتَغَيُّرِ ذَاتِ الْمَبِيعِ مَهْمَا كَانَ.
كَتَغَيُّرِ الدَّابَّةِ بِالسِّمَنِ وَالْهُزَال، بِخِلاَفِ
الْحَنَابِلَةِ (2) .
اخْتِلاَفُ الْمُتَقَايِلَيْنِ:
17 - قَدْ يَقَعُ الاِخْتِلاَفُ بَيْنَ الْمُتَقَايِلَيْنِ عَلَى صِحَّةِ
الْبَيْعِ، أَوْ عَلَى كَيْفِيَّتِهِ، أَوْ عَلَى الثَّمَنِ، أَوْ عَلَى
الإِْقَالَةِ مِنْ أَسَاسِهَا. فَإِنَّهُمَا إِذَا اتَّفَقَا عَلَى صِحَّةِ
الْبَيْعِ، ثُمَّ اخْتَلَفَا فِي كَيْفِيَّتِهِ تَحَالَفَا، فَيَحْلِفُ
كُلٌّ عَلَى نَفْيِ قَوْل صَاحِبِهِ وَإِثْبَاتِ قَوْلِهِ. وَيُسْتَثْنَى
مِنَ التَّحَالُفِ مَا لَوْ تَقَايَلاَ الْعَقْدَ ثُمَّ
__________
(1) البحر الرائق 6 / 114 - 115، وشرح العناية على الهداية 6 / 489 - 491،
وكشاف القناع 3 / 204.
(2) مجمع الأنهر 2 / 55، والخرشي على مختصر خليل 5 / 88، وكشاف القناع 3 /
204، 250، وبداية المجتهد 2 / 263.
(5/330)
اخْتَلَفَا فِي قَدْرِ الثَّمَنِ فَلاَ
تَحَالُفَ، بَل الْقَوْل قَوْل الْبَائِعِ لأَِنَّهُ غَارِمٌ. وَلَوِ
اخْتَلَفَ الْبَائِعُ وَالْمُشْتَرِي، فَقَال الْمُشْتَرِي: بِعْتُهُ مِنَ
الْبَائِعِ بِأَقَل مِنَ الثَّمَنِ الأَْوَّل قَبْل نَقْدِهِ
(5/331)
وَفَسَدَ الْبَيْعُ بِذَلِكَ، وَقَال
الْبَائِعُ: بَل تَقَايَلْنَاهُ، فَالْقَوْل لِلْمُشْتَرِي مَعَ يَمِينِهِ
فِي إِنْكَارِهِ الإِْقَالَةَ. فَإِنْ كَانَ الْبَائِعُ هُوَ الَّذِي
يَدَّعِي أَنَّهُ اشْتَرَاهُ مِنَ الْمُشْتَرِي بِأَقَل مِمَّا بَاعَهُ،
وَالْمُشْتَرِي يَدَّعِي الإِْقَالَةَ يَحْلِفُ كُلٌّ عَلَى دَعْوَى
صَاحِبِهِ (1) .
__________
(1) مغني المحتاج 2 / 95، والبحر الرائق 6 / 114، وشرح العناية على الهداية
بهامش فتح القدير 6 / 494.
(5/331)
إقَامَةٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الإِْقَامَةُ فِي اللُّغَةِ مَصْدَرُ: أَقَامَ، وَأَقَامَ
بِالْمَكَانِ: ثَبَتَ بِهِ، وَأَقَامَ الشَّيْءَ: ثَبَّتَهُ أَوْ
عَدَّلَهُ، وَأَقَامَ الرَّجُل الشَّرْعَ: أَظْهَرَهُ، وَأَقَامَ
الصَّلاَةَ: أَدَامَ فِعْلَهَا، وَأَقَامَ لِلصَّلاَةِ إقَامَةً: نَادَى
لَهَا. (1)
وَتُطْلَقُ الإِْقَامَةُ فِي الشَّرْعِ بِمَعْنَيَيْنِ:
الأَْوَّل: الثُّبُوتُ فِي الْمَكَانِ، فَيَكُونُ ضِدَّ السَّفَرِ.
الثَّانِي: إعْلاَمُ الْحَاضِرِينَ الْمُتَأَهِّبِينَ لِلصَّلاَةِ
بِالْقِيَامِ إلَيْهَا، بِأَلْفَاظٍ مَخْصُوصَةٍ وَصِفَةٍ مَخْصُوصَةٍ (2)
.
أَوَّلاً: أَحْكَامُ الإِْقَامَةِ الَّتِي بِمَعْنَى الثُّبُوتِ فِي
الْمَكَانِ
أ - إقَامَةُ الْمُسَافِرِ:
2 - يُصْبِحُ الْمُسَافِرُ مُقِيمًا إذَا دَخَل وَطَنَهُ، أَوْ نَوَى
الإِْقَامَةَ فِي مَكَانٍ مَا بِالشُّرُوطِ الَّتِي ذَكَرَهَا
الْفُقَهَاءُ، وَيَنْقَطِعُ بِذَلِكَ عَنْهُ حُكْمُ السَّفَرِ،
وَتَنْطَبِقُ عَلَيْهِ أَحْكَامُ الْمُقِيمِ، كَامْتِنَاعِ الْقَصْرِ فِي
الصَّلاَةِ، وَعَدَمِ جَوَازِ الْفِطْرِ فِي رَمَضَانَ. (3) وَإِقَامَةُ
الآْفَاقِيِّ دَاخِل الْمَوَاقِيتِ الْمَكَانِيَّةِ، أَوْ فِي الْحَرَمِ -
تُعْطِيهِ حُكْمَ الْمُقِيمِ دَاخِل الْمَوَاقِيتِ أَوْ دَاخِل الْحَرَمِ
مِنْ حَيْثُ الإِْحْرَامُ،
__________
(1) لسان العرب، والمصباح المنير مادة: (قوم) ، تفسير الطبري 15 / 290 طبع
مصطفى الحلبي
(2) كشاف القناع 1 / 209، وفتح القدير 1 / 178 ط دار صادر.
(3) البدائع 1 / 97.
(6/5)
وَطَوَافُ الْوَدَاعِ، وَالْقُدُومُ،
وَالْقِرَانُ، وَالتَّمَتُّعُ.
وَيُنْظَرُ تَفْصِيلاَتُ ذَلِكَ فِي (قِرَان - تَمَتُّع - حَجّ - إحْرَام)
.
إقَامَةُ الْمُسْلِمِ فِي دَارِ الْحَرْبِ:
3 - إقَامَةُ الْمُسْلِمِ فِي دَارِ الْحَرْبِ لاَ تَقْدَحُ فِي
إسْلاَمِهِ، إلاَّ أَنَّهُ إذَا كَانَ يَخْشَى عَلَى دِينِهِ، بِحَيْثُ لاَ
يُمْكِنُهُ إظْهَارَهُ، تَجِبُ عَلَيْهِ الْهِجْرَةُ إلَى دَارِ
الإِْسْلاَمِ، لِقَوْل اللَّهِ تَعَالَى: {إنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ
الْمَلاَئِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا
كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَْرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ
اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا} (1) وَهَذَا إذَا كَانَ
يُمْكِنُهُ الْهِجْرَةُ وَلَمْ يَكُنْ بِهِ عَجْزٌ، لِمَرَضٍ أَوْ
إِكْرَاهٍ عَلَى الإِْقَامَةِ.
أَمَّا إذَا كَانَ لاَ يَخْشَى الْفِتْنَةَ وَيَتَمَكَّنُ مِنْ إِظْهَارِ
دِينِهِ مَعَ إِقَامَتِهِ فِي دَارِ الْحَرْبِ، فَإِنَّهُ يُسْتَحَبُّ لَهُ
الْهِجْرَةُ إلَى دَارِ الإِْسْلاَمِ، لِتَكْثِيرِ الْمُسْلِمِينَ
وَمَعُونَتِهِمْ، وَلاَ تَجِبُ عَلَيْهِ الْهِجْرَةُ. وَقَدْ كَانَ
الْعَبَّاسُ عَمُّ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُقِيمًا
بِمَكَّةَ مَعَ إسْلاَمِهِ (2) .
وَلِلْفُقَهَاءِ تَفْصِيلاَتٌ كَثِيرَةٌ فِي ذَلِكَ: (ر: جِهَاد - دَارُ
الْحَرْبِ - دَارُ الإِْسْلاَمِ - هِجْرَة) .
ثَانِيًا: الإِْقَامَةُ لِلصَّلاَةِ
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ بِإِقَامَةِ الصَّلاَةِ:
4 - هُنَاكَ أَلْفَاظٌ لَهَا صِلَةٌ بِالإِْقَامَةِ لِلصَّلاَةِ، مِنْهَا:
أ - الأَْذَانُ: يُعَرَّفُ الأَْذَانُ بِأَنَّهُ: إعْلاَمٌ بِدُخُول
__________
(1) سورة النساء / 97.
(2) المغني 8 / 457 ط الرياض الحديثة، وكفاية الطالب الرباني 2 / 4 ط مصطفى
الحلبي، وقليوبي 4 / 226 ط عيسى الحلبي، وابن عابدين 3 / 254 ط بولاق
ثالثة.
(6/5)
وَقْتِ الصَّلاَةِ بِأَلْفَاظٍ مَعْلُومَةٍ
مَأْثُورَةٍ عَلَى صِفَةٍ مَخْصُوصَةٍ يَحْصُل بِهَا الإِْعْلاَمُ، (1) .
فَالأَْذَانُ وَالإِْقَامَةُ يَشْتَرِكَانِ فِي أَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا
إِعْلاَمٌ، وَيَفْتَرِقَانِ مِنْ حَيْثُ إِنَّ الإِْعْلاَمَ فِي
الإِْقَامَةِ هُوَ لِلْحَاضِرِينَ الْمُتَأَهِّبِينَ لاِفْتِتَاحِ
الصَّلاَةِ، وَالأَْذَانُ لِلْغَائِبِينَ لِيَتَأَهَّبُوا لِلصَّلاَةِ،
كَمَا أَنَّ صِيغَةَ الأَْذَانِ قَدْ تَنْقُصُ أَوْ تَزِيدُ عَنِ
الإِْقَامَةِ عَلَى خِلاَفٍ بَيْنَ الْمَذَاهِبِ.
ب - التَّثْوِيبُ:
التَّثْوِيبُ عَوْدٌ إِلَى الإِْعْلاَمِ بَعْدَ الإِْعْلاَمِ. وَهُوَ
عِنْدَ الْفُقَهَاءِ، زِيَادَةُ " الصَّلاَةُ خَيْرٌ مِنَ النَّوْمِ " (2)
.
حُكْمُ الإِْقَامَةِ التَّكْلِيفِيُّ:
5 - فِي حُكْمِ الإِْقَامَةِ التَّكْلِيفِيِّ رَأْيَانِ:
الأَْوَّل: أَنَّ الإِْقَامَةَ فَرْضُ كِفَايَةٍ إِذَا قَامَ بِهِ
الْبَعْضُ سَقَطَ عَنِ الآْخَرِينَ، وَإِذَا تُرِكَ أَثِمُوا جَمِيعًا.
قَال بِهَذَا الْحَنَابِلَةُ، وَهُوَ رَأْيٌ لِبَعْضِ الشَّافِعِيَّةِ فِي
الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ، وَلِبَعْضٍ آخَرَ لِلْجُمُعَةِ فَقَطْ. وَهُوَ
رَأْيُ عَطَاءٍ وَالأَْوْزَاعِيِّ، حَتَّى رُوِيَ عَنْهُمَا أَنَّهُ إِنْ
نَسِيَ الإِْقَامَةَ أَعَادَ الصَّلاَةَ، وَقَال مُجَاهِدٌ: إِنْ نَسِيَ
الإِْقَامَةَ فِي السَّفَرِ أَعَادَ، (3) وَلَعَلَّهُ لِمَا فِي السَّفَرِ
مِنَ الْحَاجَةِ إِلَى إِظْهَارِ الشَّعَائِرِ.
وَاسْتُدِل لِلْقَوْل بِأَنَّهَا فَرْضُ كِفَايَةٍ بِكَوْنِهَا مِنْ
شَعَائِرِ الإِْسْلاَمِ الظَّاهِرَةِ، وَفِي تَرْكِهَا تَهَاوُنٌ،
فَكَانَتْ فَرْضَ كِفَايَةٍ مِثْل الْجِهَادِ. (4)
__________
(1) الاختيار 1 / 42، وابن عابدين 1 / 256 ط بولاق، والمغني 1 / 413، ط
المنار، وفتح القدير 1 / 178.
(2) المبسوط 1 / 120.
(3) كشاف القناع 1 / 210، والمجموع للنووي 3 / 81 - 82.
(4) مغني المحتاج 1 / 134 ط دار إحياء التراث العربي، والمغني لابن قدامة 1
/ 417 ط الرياض.
(6/6)
الثَّانِي: أَنَّ الإِْقَامَةَ سُنَّةٌ
مُؤَكَّدَةٌ، وَهُوَ مَذْهَبُ الْمَالِكِيَّةِ، وَالرَّاجِحُ عِنْدَ
الشَّافِعِيَّةِ، وَهُوَ الأَْصَحُّ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، وَقَال
مُحَمَّدٌ بِالْوُجُوبِ، وَلَكِنَّ الْمُرَادَ بِالسُّنَّةِ هُنَا
السُّنَنُ الَّتِي هِيَ مِنْ شَعَائِرِ الإِْسْلاَمِ الظَّاهِرَةِ، فَلاَ
يَسَعُ الْمُسْلِمِينَ تَرْكُهَا، وَمَنْ تَرَكَهَا فَقَدْ أَسَاءَ،
لأَِنَّ تَرْكَ السُّنَّةِ الْمُتَوَاتِرَةِ يُوجِبُ الإِْسَاءَةَ وَإِنْ
لَمْ يَكُنْ مِنْ شَعَائِرِ الإِْسْلاَمِ، فَهَذَا أَوْلَى، وَفَسَّرَ
أَبُو حَنِيفَةَ السُّنِّيَّةَ بِالْوُجُوبِ، حَيْثُ قَال فِي
التَّارِكِينَ: أَخْطَئُوا السُّنَّةَ وَخَالَفُوا وَأَثِمُوا، وَالإِْثْمُ
إِنَّمَا يَلْزَمُ بِتَرْكِ الْوَاجِبِ. (1) وَاحْتَجُّوا لِلسُّنِّيَّةِ
بِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلأَْعْرَابِيِّ الْمُسِيءِ
صَلاَتَهُ: افْعَل كَذَا وَكَذَا. (2) وَلَمْ يَذْكُرِ الأَْذَانَ وَلاَ
الإِْقَامَةَ مَعَ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَكَرَ
الْوُضُوءَ وَاسْتِقْبَال الْقِبْلَةِ وَأَرْكَانَ الصَّلاَةِ، وَلَوْ
كَانَتِ الإِْقَامَةُ وَاجِبَةً لَذَكَرَهَا.
تَارِيخُ تَشْرِيعِ الإِْقَامَةِ، وَحِكْمَتُهَا:
6 - تَارِيخُ تَشْرِيعِ الإِْقَامَةِ هُوَ تَارِيخُ تَشْرِيعِ الأَْذَانِ
(ر: أَذَان) .
أَمَّا حِكْمَتُهَا: فَهِيَ إِعْلاَءُ اسْمِ اللَّهِ تَعَالَى وَاسْمِ
رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَإِقْرَارٌ لِلْفَلاَحِ
وَالْفَوْزِ عِنْدَ كُل صَلاَةٍ فِي الْيَوْمِ أَكْثَرَ مِنْ مَرَّةٍ،
لِتَرْكِيزِ ذَلِكَ فِي نَفْسِ الْمُسْلِمِ، وَإِظْهَارٌ لِشَعِيرَةٍ مِنْ
أَفْضَل الشَّعَائِرِ (3) .
كَيْفِيَّةُ الإِْقَامَةِ:
7 - اتَّفَقَتِ الْمَذَاهِبُ عَلَى أَنَّ أَلْفَاظَ الإِْقَامَةِ هِيَ
__________
(1) بدائع الصنائع 1 / 403 ط العاصمة، ومواهب الجليل 1 / 461 ط ليبيا،
والمجموع للنووي 3 / 81.
(2) حديث: " المسيء صلاته ". أخرجه البخاري (2 / 237 - الفتح ط السلفية)
ومسلم (1 / 298 - ط الحلبي) .
(3) فتح القدير 1 / 167، ومواهب الجليل 1 / 423، والمجموع للنووي 3 / 81،
ونهاية المحتاج 1 / 384
(6/6)
نَفْسُ أَلْفَاظِ الأَْذَانِ فِي
الْجُمْلَةِ بِزِيَادَةِ: " قَدْ قَامَتِ الصَّلاَةُ " بَعْدَ " حَيَّ
عَلَى الْفَلاَحِ ".
وَكَذَلِكَ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ التَّرْتِيبَ بَيْنَ أَلْفَاظِهَا هُوَ
نَفْسُ تَرْتِيبِ أَلْفَاظِ الأَْذَانِ، إِلاَّ أَنَّهُمُ اخْتَلَفُوا فِي
تَكْرَارِ وَإِفْرَادِ أَلْفَاظِهَا عَلَى الْوَجْهِ الآْتِي:
اللَّهُ أَكْبَرُ.
تُقَال فِي بَدْءِ الإِْقَامَةِ " مَرَّتَيْنِ " عِنْدَ الْمَذَاهِبِ
الثَّلاَثَةِ، وَأَرْبَعَ مَرَّاتٍ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ.
أَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ.
تُقَال " مَرَّةً وَاحِدَةً " عِنْدَ الْمَذَاهِبِ الثَّلاَثَةِ "
وَمَرَّتَيْنِ " عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ.
أَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُول اللَّهِ.
تُقَال " مَرَّةً وَاحِدَةً " عِنْدَ الْمَذَاهِبِ الثَّلاَثَةِ "
وَمَرَّتَيْنِ " عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ.
حَيَّ عَلَى الصَّلاَةِ.
تُقَال: " مَرَّةً وَاحِدَةً " عِنْدَ الْمَذَاهِبِ الثَّلاَثَةِ "
وَمَرَّتَيْنِ " عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ.
حَيَّ عَلَى الْفَلاَحِ.
تُقَال: " مَرَّةً وَاحِدَةً " عِنْدَ الْمَذَاهِبِ الثَّلاَثَةِ "
وَمَرَّتَيْنِ " عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ.
قَدْ قَامَتِ الصَّلاَةُ.
تُقَال " مَرَّتَيْنِ " عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ
وَالْحَنَابِلَةِ " وَمَرَّةً وَاحِدَةً " عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ عَلَى
الْمَشْهُورِ.
اللَّهُ أَكْبَرُ.
تُقَال " مَرَّتَيْنِ " عَلَى الْمَذَاهِبِ الأَْرْبَعَةِ.
لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ.
تُقَال " مَرَّةً وَاحِدَةً " عَلَى الْمَذَاهِبِ الأَْرْبَعَةِ.
وَيُسْتَخْلَصُ مِنْ ذَلِكَ أَنَّ الْمَذَاهِبَ الثَّلاَثَةَ تَخْتَلِفُ
عَنِ الْحَنَفِيَّةِ بِإِفْرَادِ أَكْثَرِ أَلْفَاظِ الإِْقَامَةِ كَمَا
تَقَدَّمَ.
(6/7)
وَاحْتَجُّوا بِمَا رُوِيَ عَنْ أَنَسٍ
قَال: أُمِرَ بِلاَلٌ أَنْ يَشْفَعَ الأَْذَانَ وَيُوتِرَ الإِْقَامَةَ.
(1) وَبِمَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَال: إِنَّمَا كَانَ الأَْذَانُ
عَلَى عَهْدِ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
مَرَّتَيْنِ مَرَّتَيْنِ، وَالإِْقَامَةُ مَرَّةً مَرَّةً. (2)
أَمَّا الْحَنَفِيَّةُ فَيَجْعَلُونَ الإِْقَامَةَ مِثْل الأَْذَانِ
بِزِيَادَةِ " قَدْ قَامَتِ الصَّلاَةُ " مَرَّتَيْنِ بَعْدَ " حَيَّ عَلَى
الْفَلاَحِ (3) ".
وَاحْتَجُّوا بِحَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَيْدٍ الأَْنْصَارِيِّ،
أَنَّهُ جَاءَ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَال:
يَا رَسُول اللَّهِ، رَأَيْتُ فِي الْمَنَامِ كَأَنَّ رَجُلاً قَامَ
وَعَلَيْهِ بُرْدَانِ أَخْضَرَانِ، فَقَامَ عَلَى حَائِطٍ فَأَذَّنَ
مَثْنَى مَثْنَى، وَأَقَامَ مَثْنَى مَثْنَى وَلِمَا رُوِيَ كَذَلِكَ عَنْ
عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَيْدٍ فَاسْتَقْبَل الْقِبْلَةَ، يَعْنِي الْمَلَكَ،
وَقَال: اللَّهُ أَكْبَرُ. اللَّهُ أَكْبَرُ. . إِلَى آخِرِ الأَْذَانِ.
قَال: ثُمَّ أَمْهَل هُنَيْهَةً، ثُمَّ قَامَ فَقَال مِثْلَهَا، إِلاَ
أَنَّهُ قَال: زَادَ بَعْدَمَا قَال " حَيَّ عَلَى الْفَلاَحِ ": قَدْ
قَامَتِ الصَّلاَةُ، قَدْ قَامَتِ الصَّلاَةُ (4) .
وَأَمَّا الْمَالِكِيَّةُ فَيَخْتَلِفُونَ عَنْ غَيْرِهِمْ فِي تَثْنِيَةِ
" قَدْ قَامَتِ الصَّلاَةُ "، فَالْمَشْهُورُ عِنْدَهُمْ أَنَّهَا تُقَال
مَرَّةً
__________
(1) حديث أنس: " أمر بلال أن يشفع الأذان ويوتر الإقامة "، أخرجه البخاري
(2 / 77 - الفتح ط السلفية) ومسلم (1 / 286 ط الحلبي) وزاد البخاري فيه (2
/ 82) قوله: " إلا الإقامة ".
(2) حديث ابن عمر: " إنما كان الأذان على عهد رسول صلى الله عليه وسلم
مرتين مرتين والإقامة مرة مرة ". أخرجه أبو داود (1 / 350 - ط عزت عبيد
دعاس) والنسائي (2 / 21 ط المكتبة التجارية) . وهو ثابت لطرقه. التلخيص
الحبير (1 / 196 - ط دار المحاسن) .
(3) فتح القدير 1 / 169، والجمل على شرح المنهج 1 / 301 ط إحياء التراث،
ومواهب الجليل 1 / 461 ط ليبيا، والمغني 1 / 406 ط الرياض
(4) حديث عبد الله بن زيد. . أخرجه أبو داود (1 / 337 - ط عزت عبيد دعاس)
وحسنه ابن عبد البر. كما في فتح الباري (2 / 81 - ط السلفية) .
(6/7)
وَاحِدَةً. لِمَا رَوَى أَنَسٌ قَال:
أُمِرَ بِلاَلٌ أَنْ يَشْفَعَ الأَْذَانَ وَيُوتِرَ الإِْقَامَةَ. (1)
حَدْرُ الإِْقَامَةِ:
8 - الْحَدْرُ هُوَ الإِْسْرَاعُ وَقَطْعُ التَّطْوِيل.
وَقَدِ اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى الْحَدْرِ فِي الإِْقَامَةِ
وَالتَّرَسُّل فِي الأَْذَانِ، لِحَدِيثِ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِذَا أَذَّنْتَ فَتَرَسَّل، وَإِذَا أَقَمْتَ
فَاحْدُرْ، وَلِمَا رَوَى أَبُو عُبَيْدٍ بِإِسْنَادِهِ، عَنْ عُمَرَ
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَال لِمُؤَذِّنِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ: "
إِذَا أَذَّنْتَ فَتَرَسَّل، وَإِذَا أَقَمْتَ فَاحْذِمْ قَال
الأَْصْمَعِيُّ: وَأَصْل الْحَذْمِ - بِالْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ - فِي
الْمَشْيِ إِنَّمَا هُوَ الإِْسْرَاعُ (2) .
وَقْتُ الإِْقَامَةِ:
9 - شُرِعَتِ الإِْقَامَةُ أُهْبَةً لِلصَّلاَةِ بَيْنَ يَدَيْهَا،
تَفْخِيمًا لَهَا كَغُسْل الإِْحْرَامِ، وَغُسْل الْجُمُعَةِ، ثُمَّ
لإِِعْلاَمِ النَّفْسِ بِالتَّأَهُّبِ وَالْقِيَامِ لِلصَّلاَةِ،
وَإِعْلاَمِ
__________
(1) شرح الزرقاني 1 / 162 ط دار الفكر، وجواهر الإكليل 1 / 37، والدسوقي 1
/ 184 ط دار الفكر. وحديث أنس سبق تخريجه في هذه الفقرة نفسها.
(2) المغني 1 / 407، والاختيار 1 / 43 ط دار المعرفة، ومواهب الجليل 1 /
437، والمجموع 3 / 108، وفتح القدير 1 / 170 ط دار صادر، والأشباه والنظائر
بحاشية الحموي 2 ر 244 ط العامرة. وحديث: " وإذا أذنت فترسل، وإذا أقمت
فاحدر ". رواه الترمذي (1 / 373 - ط الحلبي) وأعله الزيلعي في نصب الراية
(1 / 275 - ط المجلس العلمي) بضعف راويين في إسناده. ورواية أبي عبيد
بإسناده عن عمر رضي الله عنه " إذا أذنت فترسل وإذا أقمت فاحذم " أخرجه
الدارقطني (1 / 238 - ط شركة الطباعة الفنية) وفي إسناده جهالة. كذا في
التعليق على الدارقطني.
(6/8)
الاِفْتِتَاحِ (1) . وَلاَ يَصِحُّ
تَقْدِيمُهَا عَلَى وَقْتِ الصَّلاَةِ، بَل يَدْخُل وَقْتُهَا بِدُخُول
وَقْتِ الصَّلاَةِ، وَيُشْتَرَطُ لَهَا شَرْطَانِ، الأَْوَّل: دُخُول
الْوَقْتِ، وَالثَّانِي: إِرَادَةُ الدُّخُول فِي الصَّلاَةِ.
فَإِنْ أَقَامَ قُبَيْل الْوَقْتِ بِجُزْءٍ يَسِيرٍ بِحَيْثُ دَخَل
الْوَقْتُ عَقِبَ الإِْقَامَةِ، ثُمَّ شَرَعَ فِي الصَّلاَةِ عَقِبَ ذَلِكَ
لَمْ تَحْصُل الإِْقَامَةُ، وَإِنْ أَقَامَ فِي الْوَقْتِ وَأَخَّرَ
الدُّخُول فِي الصَّلاَةِ بَطَلَتْ إِقَامَتُهُ إِنْ طَال الْفَصْل،
لأَِنَّهَا تُرَادُ لِلدُّخُول فِي الصَّلاَةِ، فَلاَ يَجُوزُ إِطَالَةُ
الْفَصْل. (2) .
مَا يُشْتَرَطُ لإِِجْزَاءِ الإِْقَامَةِ:
10 - يُشْتَرَطُ فِي الإِْقَامَةِ مَا يَأْتِي:
دُخُول الْوَقْتِ، وَنِيَّةُ الإِْقَامَةِ، وَالأَْدَاءُ بِاللُّغَةِ
الْعَرَبِيَّةِ، وَالْخُلُوُّ مِنَ اللَّحْنِ الْمُغَيِّرِ لِلْمَعْنَى،
وَرَفْعُ الصَّوْتِ. وَلَكِنْ رَفْعُ الصَّوْتِ بِالإِْقَامَةِ يَكُونُ
أَخَفَّ مِنْ رَفْعِهِ بِالأَْذَانِ، لاِخْتِلاَفِ الْمَقْصُودِ فِي كُلٍّ
مِنْهُمَا. فَالْمَقْصُودُ مِنَ الأَْذَانِ: إِعْلاَمُ الْغَائِبِينَ
بِالصَّلاَةِ، أَمَّا الإِْقَامَةُ فَالْمَقْصُودُ مِنْهَا طَلَبُ قِيَامِ
الْحَاضِرِينَ فِعْلاً لِلصَّلاَةِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ ذَلِكَ فِي وَقْتِ
الإِْقَامَةِ. وَكَذَلِكَ يُشْتَرَطُ التَّرْتِيبُ بَيْنَ الْكَلِمَاتِ،
وَالْمُوَالاَةُ بَيْنَ أَلْفَاظِ الإِْقَامَةِ.
وَفِي هَذِهِ الشُّرُوطِ خِلاَفٌ وَتَفْصِيلٌ يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ "
أَذَان (3) ".
__________
(1) الحطاب 1 / 464 ط ليبيا، والهداية مع فتح القدير 1 / 178.
(2) المجموع للنووي 3 / 89، والمغني 1 / 2 1 4، 6 1 4، وشرح العناية على
فتح القدير 171، 172
(3) ابن عابدين 1 / 256، وبدائع الصنائع 1 / 149، 409، والطحطاوي 1 / 105،
وحاشية السوقي 1 / 181، 196، والحطاب 1 / 428، 437، 477، والمجموع 3 / 113،
وأسنى المطالب 1 / 33 1، والرهوني 1 / 314، والمغني 1 / 439، 449، وكشاف
القناع 1 / 211 - 222
(6/8)
شَرَائِطُ الْمُقِيمِ:
11 - تَشْتَرِكُ الإِْقَامَةُ مَعَ الأَْذَانِ فِي هَذِهِ الشَّرَائِطِ
وَنَذْكُرُهَا إِجْمَالاً، وَمَنْ أَرَادَ زِيَادَةَ تَفْصِيلٍ
فَلْيَرْجِعْ إِلَى مُصْطَلَحِ (أَذَان) ، وَأَوَّل هَذِهِ الشُّرُوطِ.
أ - الإِْسْلاَمُ:
اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى اشْتِرَاطِ الإِْسْلاَمِ فِي الْمُقِيمِ،
فَلاَ تَصِحُّ الإِْقَامَةُ مِنَ الْكَافِرِ وَلاَ الْمُرْتَدِّ لأَِنَّهَا
عِبَادَةٌ، وَهُمَا لَيْسَا مِنْ أَهْلِهَا. (1)
ب - الذُّكُورَةُ:
اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى عَدَمِ جَوَازِ أَذَانِ الْمَرْأَةِ
وَإِقَامَتِهَا لِجَمَاعَةِ الرِّجَال، لأَِنَّ الأَْذَانَ فِي الأَْصْل
لِلإِْعْلاَمِ، وَلاَ يُشْرَعُ لَهَا ذَلِكَ، وَالأَْذَانُ يُشْرَعُ لَهُ
رَفْعُ الصَّوْتِ، وَلاَ يُشْرَعُ لَهَا رَفْعُ الصَّوْتِ، وَمَنْ لاَ
يُشْرَعُ فِي حَقِّهِ الأَْذَانُ لاَ يُشْرَعُ فِي حَقِّهِ الإِْقَامَةُ.
وَأَمَّا إِذَا كَانَتْ مُنْفَرِدَةً أَوْ فِي جَمَاعَةِ النِّسَاءِ
فَفِيهِ اتِّجَاهَاتٌ.
الأَْوَّل: الاِسْتِحْبَابُ. وَهُوَ قَوْل الْمَالِكِيَّةِ
وَالشَّافِعِيَّةِ، وَهِيَ رِوَايَةٌ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ.
الثَّانِي: الإِْبَاحَةُ. وَهِيَ رِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ.
الثَّالِثُ: الْكَرَاهَةُ. وَهُوَ قَوْل الْحَنَفِيَّةِ. (2)
ج - الْعَقْل:
نَصَّ فُقَهَاءُ الْمَذَاهِبِ عَلَى بُطْلاَنِ
__________
(1) ابن عابدين 1 / 263، والبحر الرائق 1 / 279، والجمل 1 / 304، ونهاية
المحتاج 1 / 394، والمجموع 3 / 99، والحطاب 1 / 434، وحاشية الدسوقي 1 /
195، والمغني 1 / 429.
(2) تبيين الحقائق 1 / 94، والفتاوى الهندية 1 / 54 ط بولاق، والمغني 1 /
422 ط الرياض، والمهذب 1 / 64، وحاشية الدسوقي 1 / 200 ط دار الفكر، ومواهب
الجليل 1 / 463، 464.
(6/9)
أَذَانِ وَإِقَامَةِ الْمَجْنُونِ
وَالْمَعْتُوهِ وَالسَّكْرَانِ، وَقَالُوا: يَجِبُ إِعَادَةُ أَذَانِهِمْ،
وَلَمْ يُخَالِفْ فِي هَذَا إِلاَّ بَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ فِي
السَّكْرَانِ، حَيْثُ قَالُوا بِكَرَاهَةِ أَذَانِهِ وَإِقَامَتِهِ
وَاسْتِحْبَابِ إِعَادَتِهِمَا. (1)
د - الْبُلُوغُ: لِلْعُلَمَاءِ فِي إِقَامَةِ الصَّبِيِّ ثَلاَثَةُ آرَاءَ:
الأَْوَّل: لاَ تَصِحُّ إِقَامَةُ الصَّبِيِّ سَوَاءٌ أَكَانَ مُمَيِّزًا
أَمْ غَيْرَ مُمَيِّزٍ، وَهُوَ رَأْيٌ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ
وَالْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ.
الثَّانِي: تَصِحُّ إِقَامَتُهُ إِنْ كَانَ مُمَيِّزًا عَاقِلاً، وَهُوَ
رَأْيٌ آخَرُ فِي تِلْكَ الْمَذَاهِبِ.
الثَّالِثُ: الْكَرَاهَةُ إِذَا كَانَ مُمَيِّزًا، وَهُوَ رَأْيٌ
لِلْحَنَفِيَّةِ. (2)
هـ - الْعَدَالَةُ: فِي إِقَامَةِ الْفَاسِقِ ثَلاَثَةُ أَقْوَالٍ (3) :
الأَْوَّل: لاَ يُعْتَدُّ بِهَا، وَهُوَ رَأْيٌ لِلْحَنَفِيَّةِ، وَرَأْيٌ
لِلْحَنَابِلَةِ.
الثَّانِي: الْكَرَاهَةُ: وَهُوَ رَأْيٌ لِلْحَنَفِيَّةِ،
وَالشَّافِعِيَّةِ، وَالْمَالِكِيَّةِ.
الثَّالِثُ: يَصِحُّ وَيُسْتَحَبُّ إِعَادَتُهُ. وَهُوَ رَأْيٌ
لِلْحَنَفِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ.
وَيُنْظَرُ تَفْصِيل وَتَوْجِيهُ ذَلِكَ فِي (الأَْذَان) .
و الطَّهَارَةُ:
اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى كَرَاهَةِ الإِْقَامَةِ مَعَ الْحَدَثِ
الأَْصْغَرِ، لأَِنَّ السُّنَّةَ وَصْل الإِْقَامَةِ بِالشُّرُوعِ
بِالصَّلاَةِ، وَاتَّفَقُوا عَلَى سُنِّيَّةِ الإِْعَادَةِ
__________
(1) ابن عابدين 1 / 263 ط بولاق، والفتاوى الهندية 1 / 54، والحطاب 1 / 434
ط ليبيا، وحاشية الدسوقي 1 / 195، والمجموع 3 / 100، والمغني 1 / 429
(2) ابن عابدين 1 / 263، والحطاب 1 / 435، والمجموع 3 / 100، والمغني 1 /
429
(3) منحة الخالق على البحر الرائق 1 / 278، والمغني 1 / 413 ط الرياض،
والخرشي 1 / 232، والنووي 3 / 101.
(6/9)
مَا عَدَا الْحَنَفِيَّةَ. وَفِي رَأْيٍ
لِلْحَنَفِيَّةِ أَنَّ إِقَامَةَ الْمُحْدِثِ حَدَثًا أَصْغَرَ جَائِزَةٌ
بِغَيْرِ كَرَاهَةٍ.
أَمَّا مِنَ الْحَدَثِ الأَْكْبَرِ فَفِيهِ رَأْيَانِ:
الأَْوَّل: ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ،
وَهُوَ إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ، إِلَى كَرَاهَةِ
إِقَامَةِ الْمُحْدِثِ حَدَثًا أَكْبَرَ.
الثَّانِي: الرِّوَايَةُ الأُْخْرَى عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ: بُطْلاَنُ
الأَْذَانِ مَعَ الْحَدَثِ الأَْكْبَرِ، وَهُوَ قَوْل عَطَاءٍ وَمُجَاهِدٍ
وَالأَْوْزَاعِيِّ وَإِسْحَاقَ (1) .
مَا يُسْتَحَبُّ فِي الإِْقَامَةِ:
12 - اتَّفَقَتِ الْمَذَاهِبُ عَلَى اسْتِحْبَابِ الْحَدْرِ فِي
الإِْقَامَةِ وَالتَّرَسُّل فِي الأَْذَانِ كَمَا مَرَّ (ف) . وَفِي
الْوَقْفِ عَلَى آخِرِ كُل جُمْلَةٍ فِي الإِْقَامَةِ رَأْيَانِ:
الأَْوَّل: قَال الْمَالِكِيَّةُ، وَهُوَ رَأْيٌ لِلْحَنَفِيَّةِ،
الإِْقَامَةُ مُعْرَبَةٌ إِنْ وَصَل كَلِمَةً بِكَلِمَةٍ. فَإِنْ وَقَفَ
الْمُقِيمُ وَقَفَ عَلَيْهَا بِالسُّكُونِ.
الثَّانِي: قَال الْحَنَابِلَةُ، وَهُوَ رَأْيٌ آخَرُ لِلْحَنَفِيَّةِ،
وَرَأْيٌ لِلْمَالِكِيَّةِ: الإِْقَامَةُ عَلَى الْجَزْمِ مِثْل
الأَْذَانِ، لِمَا رُوِيَ عَنِ النَّخَعِيِّ مَوْقُوفًا عَلَيْهِ
وَمَرْفُوعًا إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. أَنَّهُ
قَال: الأَْذَانُ جَزْمٌ، وَالإِْقَامَةُ جَزْمٌ، وَالتَّكْبِيرُ جَزْمٌ
(2) .
وَفِي التَّكْبِيرَتَيْنِ الأُْولَيَيْنِ أَقْوَالٌ، فَالتَّكْبِيرَةُ
الأُْولَى فِيهَا قَوْلاَنِ:
__________
(1) بدائع الصنائع 1 / 413 ط العاصمة، والبحر الرائق 1 / 277 وحاشية
الدسوقي 1 / 195، والمجموع للنووي 3 / 104، 105، والمغني 1 / 413 ط الرياض.
ويلاحظ أنه لا يحل للمحدث حدثا أكبر دخول المسجد.
(2) ابن عابدين 1 / 259، والحطاب 1 / 426، وكشاف القناع 1 / 216، والمغني 1
/ 407 وحديث: " الأذان جزم، والإقامة جزم، والتكبير جزم ". قال السخاوي: لا
أصل له، إنما هو من قول إبراهيم النخعي. المقاصد الحسنة (ص 160 - ط
الخانجي) .
(6/10)
الأَْوَّل، لِلْحَنَفِيَّةِ
وَالْمَالِكِيَّةِ: فِيهَا الْوَقْفُ بِالسُّكُونِ، وَالْفَتْحُ،
وَالضَّمُّ.
الثَّانِي، رَأْيٌ لِلْمَالِكِيَّةِ: فِيهَا السُّكُونُ، أَوِ الضَّمُّ.
أَمَّا التَّكْبِيرَةُ الثَّانِيَةُ فَفِيهَا أَيْضًا قَوْلاَنِ:
الأَْوَّل، رَأْيٌ لِلْمَالِكِيَّةِ، وَرَأْيٌ لِلْحَنَفِيَّةِ: الْجَزْمُ
لاَ غَيْرُ، لِمَا رُوِيَ أَنَّ الإِْقَامَةَ جَزْمٌ.
الثَّانِي: الإِْعْرَابُ وَهُوَ: الضَّمُّ، وَهُوَ رَأْيٌ آخَرُ
لِلْمَالِكِيَّةِ، وَرَأْيٌ لِلْحَنَفِيَّةِ، وَالْجَمِيعُ جَائِزٌ،
وَلَكِنَّ الْخِلاَفَ فِي الأَْفْضَل وَالْمُسْتَحَبِّ. (1)
13 - وَمِنْ مُسْتَحَبَّاتِ الأَْذَانِ وَالإِْقَامَةِ عِنْدَ
الْمَذَاهِبِ: اسْتِقْبَال الْقِبْلَةِ، غَيْرَ أَنَّهُمُ اسْتَثْنَوْا
مِنْ ذَلِكَ الاِلْتِفَاتَ عِنْدَ الْحَيْعَلَتَيْنِ " حَيَّ عَلَى
الصَّلاَةِ، حَيَّ عَلَى الْفَلاَحِ ". وَفِي الاِلْتِفَاتِ عِنْدَ
الْحَيْعَلَتَيْنِ فِي الإِْقَامَةِ ثَلاَثَةُ آرَاءَ.
الأَْوَّل: يُسْتَحَبُّ الاِلْتِفَاتُ عِنْدَ الْحَيْعَلَتَيْنِ
الثَّانِي: يُسْتَحَبُّ إِذَا كَانَ الْمَكَانُ مُتَّسَعًا، وَلاَ
يُسْتَحَبُّ إِذَا كَانَ الْمَكَانُ ضَيِّقًا، أَوِ الْجَمَاعَةُ
قَلِيلَةً.
وَهَذَانِ الرَّأْيَانِ لِلْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ. (2)
الثَّالِثُ: لاَ يُسْتَحَبُّ أَصْلاً لأَِنَّ الاِسْتِحْبَابَ فِي
الأَْذَانِ كَانَ لإِِعْلاَمِ الْغَائِبِينَ، وَالإِْقَامَةُ لإِِعْلاَمِ
الْحَاضِرِينَ الْمُنْتَظِرِينَ لِلصَّلاَةِ، فَلاَ يُسْتَحَبُّ تَحْوِيل
الْوَجْهِ، وَهَذَا الرَّأْيُ لِلْحَنَابِلَةِ، وَهُوَ رَأْيٌ
لِلْحَنَفِيَّةِ، وَرَأْيٌ لِلشَّافِعِيَّةِ. وَيُؤْخَذُ مِنْ كَلاَمِ
الْمَالِكِيَّةِ جَوَازُ
__________
(1) نفس المراجع السابقة.
(2) البحر الرائق 1 / 272، والمجموع للنووي 3 / 07 1.
(6/10)
الاِلْتِفَاتِ فِي الْحَيْعَلَتَيْنِ.
وَفِي رَأْيٍ آخَرَ أَنَّ الْمُسْتَحَبَّ هُوَ اسْتِقْبَال الْقِبْلَةِ فِي
الاِبْتِدَاءِ. (1)
14 - وَيُسْتَحَبُّ فِيمَنْ يُقِيمُ الصَّلاَةَ: أَنْ يَكُونَ تَقِيًّا،
عَالِمًا بِالسُّنَّةِ، وَعَالِمًا بِأَوْقَاتِ الصَّلاَةِ، وَحَسَنَ
الصَّوْتِ، مُرْتَفِعَهُ مِنْ غَيْرِ تَطْرِيبٍ وَلاَ غِنَاءٍ، وَتَفْصِيل
ذَلِكَ فِي الأَْذَانِ.
15 - وَاتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ لِمُقِيمِ
الصَّلاَةِ أَنْ يُقِيمَ وَاقِفًا. وَتُكْرَهُ الإِْقَامَةُ قَاعِدًا مِنْ
غَيْرِ عُذْرٍ. فَإِنْ كَانَ بِعُذْرٍ فَلاَ بَأْسَ. قَال الْحَسَنُ
الْعَبْدِيُّ: " رَأَيْتُ أَبَا زَيْدٍ صَاحِبَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكَانَتْ رِجْلُهُ أُصِيبَتْ فِي سَبِيل
اللَّهِ، يُؤَذِّنُ قَاعِدًا (2) وَلِمَا رُوِيَ أَنَّ الصَّحَابَةَ
كَانُوا مَعَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي
مَسِيرٍ فَانْتَهَوْا إِلَى مَضِيقٍ، وَحَضَرَتِ الصَّلاَةُ، فَمَطَرَتِ
السَّمَاءُ مِنْ فَوْقِهِمْ، وَالْبِلَّةُ مِنْ أَسْفَل فِيهِمْ، فَأَذَّنَ
رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ عَلَى
رَاحِلَتِهِ وَأَقَامَ، فَتَقَدَّمَ عَلَى رَاحِلَتِهِ، فَصَلَّى بِهِمْ
يُومِئُ إِيمَاءً، يَجْعَل السُّجُودَ أَخْفَضَ مِنَ الرُّكُوعِ (3) .
كَمَا تُكْرَهُ إِقَامَةُ الْمَاشِي وَالرَّاكِبِ فِي السَّفَرِ وَغَيْرِهِ
مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ. لِمَا رُوِيَ أَنَّ بِلاَلاً رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ "
أَذَّنَ وَهُوَ رَاكِبٌ، ثُمَّ
__________
(1) البحر الرائق 1 / 272، والحطاب والتاج والإكليل عليه 1 / 441 ط ليبيا،
وحاشية الدسوقي 1 / 156 ط دار الفكر، والخرشي وحاشية العدوي عليه 1 / 232 ط
دار صادر، والمجموع للنووي 3 / 107، والمغني 1 / 426 ط الرياض، وكشاف
القناع 1 / 217 ط أنصار السنة
(2) قول الحسن العبدي: رأيت أبا زيد صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم
يؤذن قاعدا. رواه البيهقي (1 / 392) وإسناده حسن. التلخيص لابن حجر (1 /
303 - ط دار المحاسن) .
(3) حديث: " أن الصحابة كانوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في مسير. .
أخرجه الترمذي (2 / 267 ط الحلبي) والبيهقي (2 / 7 - ط دائرة المعارف
العثمانية) وقال: وفي إسناده ضعف.
(6/11)
نَزَل وَأَقَامَ عَلَى الأَْرْضِ (1) .
وَلأَِنَّهُ لَوْ لَمْ يَنْزِل لَوَقَعَ الْفَصْل بَيْنَ الإِْقَامَةِ
وَالشُّرُوعِ فِي الصَّلاَةِ بِالنُّزُول، وَأَنَّهُ مَكْرُوهٌ،
وَلأَِنَّهُ يَدْعُو النَّاسَ إِلَى الْقِيَامِ لِلصَّلاَةِ وَهُوَ غَيْرُ
مُتَهَيِّئٍ لَهَا. وَيَرَى الْحَنَابِلَةُ أَنَّ إِقَامَةَ الرَّاكِبِ فِي
السَّفَرِ بِدُونِ عُذْرٍ جَائِزَةٌ بِدُونِ كَرَاهَةٍ (2) .
مَا يُكْرَهُ فِي الإِْقَامَةِ
16 - يُكْرَهُ فِي الإِْقَامَةِ: تَرْكُ شَيْءٍ مِنْ مُسْتَحَبَّاتِهَا
الَّتِي سَبَقَتِ الإِْشَارَةُ إِلَيْهَا، وَمِمَّا يُكْرَهُ أَيْضًا:
الْكَلاَمُ فِي الإِْقَامَةِ لِغَيْرِ ضَرُورَةٍ إِذَا كَانَ كَثِيرًا،
أَمَّا إِنْ كَانَ الْكَلاَمُ فِي الإِْقَامَةِ لِضَرُورَةٍ مِثْل مَا لَوْ
رَأَى أَعْمَى يَخَافُ وُقُوعَهُ فِي بِئْرٍ، أَوْ حَيَّةً تَدِبُّ إِلَى
غَافِلٍ، أَوْ سَيَّارَةً تُوشِكُ أَنْ تَدْهَمَهُ وَجَبَ عَلَيْهِ
إِنْذَارَهُ وَيَبْنِي عَلَى إِقَامَتِهِ.
أَمَّا الْكَلاَمُ الْقَلِيل لِغَيْرِ ضَرُورَةٍ فَفِيهِ رَأْيَانِ:
الأَْوَّل: لاَ يُكْرَهُ بَل يُؤَدِّي إِلَى تَرْكِ الأَْفْضَل. قَال
بِهَذَا الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ، وَاسْتَدَلُّوا لِذَلِكَ بِمَا
ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ مِنْ أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ تَكَلَّمَ فِي الْخُطْبَةِ، (3) فَالأَْذَانُ أَوْلَى أَلاَّ
يَبْطُل، وَكَذَلِكَ الإِْقَامَةُ، وَلأَِنَّهُمَا يَصِحَّانِ مَعَ
الْحَدَثِ، وَقَاعِدًا، وَغَيْرَ ذَلِكَ مِنْ وُجُوهِ التَّخْفِيفِ.
__________
(1) الأثر عن بلال رضي الله عنه: أذن بلال وهو راكب ثم نزل أخرجه البيهقي
في سننه (1 / 392 - ط دائرة المعارف العثمانية) وأعله بالإرسال.
(2) ابن عابدين 1 / 26، وبدائع الصنائع 1 / 413، 414، وكشاف القناع 1 /
216، 217، والمغني 1 / 424 ط الرياض، والمجموع للنووي 3 / 106، والحطاب 1 /
441.
(3) حديث: " تكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم في الخطبة ". أخرجه البخاري
(2 / 407 - الفتح ط السلفية) ومسلم (2 / 596 - ط الحلبي) .
(6/11)
الثَّانِي: يُكْرَهُ لَهُ ذَلِكَ،
وَيَبْنِي عَلَى إِقَامَتِهِ، وَبِهَذَا قَال الزُّهْرِيُّ
وَالْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ، لأَِنَّ الإِْقَامَةَ حَدْرٌ، وَهَذَا
يُخَالِفُ الْوَارِدَ، وَيَقْطَعُ بَيْنَ كَلِمَاتِهَا. (1)
وَاتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ التَّمْطِيطَ وَالتَّغَنِّيَ
وَالتَّطْرِيبَ بِزِيَادَةِ حَرَكَةٍ أَوْ حَرْفٍ أَوْ مَدٍّ أَوْ
غَيْرِهَا فِي الأَْوَائِل وَالأَْوَاخِرِ مَكْرُوهٌ، لِمُنَافَاةِ
الْخُشُوعِ وَالْوَقَارِ.
أَمَّا إِذَا تَفَاحَشَ التَّغَنِّي وَالتَّطْرِيبُ بِحَيْثُ يُخِل
بِالْمَعْنَى فَإِنَّهُ يَحْرُمُ بِدُونِ خِلاَفٍ فِي ذَلِكَ (2) . لِمَا
رُوِيَ أَنَّ رَجُلاً قَال لاِبْنِ عُمَرَ: إِنِّي لأَُحِبُّكَ فِي
اللَّهِ. قَال: وَأَنَا أَبْغَضُكَ فِي اللَّهِ، إِنَّكَ تَتَغَنَّى فِي
أَذَانِكَ (3) . قَال حَمَّادٌ: يَعْنِي التَّطْرِيبَ.
إِقَامَةُ غَيْرِ الْمُؤَذِّنِ:
17 - قَال الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ: يَنْبَغِي أَنْ يَتَوَلَّى
الإِْقَامَةَ مَنْ تَوَلَّى الأَْذَانَ. وَاحْتَجُّوا بِمَا رُوِيَ عَنِ
الْحَارِثِ الصُّدَائِيِّ أَنَّهُ قَال: بَعَثَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِلاَلاً إِلَى حَاجَةٍ لَهُ فَأَمَرَنِي أَنْ
أُؤَذِّنَ فَأَذَّنْتُ، فَجَاءَ بِلاَلٌ وَأَرَادَ أَنْ يُقِيمَ، فَنَهَاهُ
عَنْ ذَلِكَ وَقَال: إِنَّ أَخَا صِدَاءٍ هُوَ الَّذِي أَذَّنَ، وَمَنْ
أَذَّنَ فَهُوَ الَّذِي يُقِيمُ (4)
__________
(1) ابن عابدين 1 / 260 ط بولاق، وحاشية الدسوقي 1 / 179ط دار الفكر،
والمجموع للنووي 3 / 115، والمغني 1 / 425 ط الرياض.
(2) المجموع للنووي 3 / 108، وابن عابدين 1 / 259، وكشاف القناع 1 / 222،
وحاشية الدسوقي 1 / 196.
(3) روي أن رجلا قال لابن عمر: " إني أحبك في الله ". أخرجه الطبراني في
الكبير كما في مجمع الزوائد للهيثمي (2 / 3 - ط القدسي) وقال الهيثمي: فيه
يحيى البكاء ضعفه أحمد وأبو حاتم وأبو داود.
(4) حديث: " إن أخا صداء هو الذي أذن ومن أذن فهو الذي يقيم " أخرجه ابن
ماجه (1 / 237 - ط الحلبي) وإسناده ضعيف. التلخيص لابن حجر (1 / 209 - ط
دار المحاسن) .
(6/12)
وَلأَِنَّهُمَا فِعْلاَنِ مِنَ الذِّكْرِ
يَتَقَدَّمَانِ الصَّلاَةَ، فَيُسَنُّ أَنْ يَتَوَلاَّهُمَا وَاحِدٌ
كَالْخُطْبَتَيْنِ، وَوَافَقَهُمُ الْحَنَفِيَّةُ عَلَى هَذَا الرَّأْيِ
إِذَا كَانَ الْمُؤَذِّنُ يَتَأَذَّى مِنْ إِقَامَةِ غَيْرِهِ، لأَِنَّ
أَذَى الْمُسْلِمِ مَكْرُوهٌ (1) .
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: لاَ بَأْسَ أَنْ يُؤَذِّنَ رَجُلٌ وَيُقِيمَ
غَيْرُهُ، لِمَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ فِي حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ
زَيْدٍ أَنَّهُ رَأَى الأَْذَانَ فِي الْمَنَامِ فَأَتَى النَّبِيَّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَخْبَرَهُ فَقَال: أَلْقِهِ عَلَى بِلاَلٍ،
فَأَلْقَاهُ عَلَيْهِ، فَأَذَّنَ بِلاَلٌ، فَقَال عَبْدُ اللَّهِ: أَنَا
رَأَيْتُهُ وَأَنَا كُنْتُ أُرِيدُهُ قَال: أَقِمْ أَنْتَ.
وَلأَِنَّهُ يَحْصُل الْمَقْصُودُ مِنْهُ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ
تَوَلاَّهُمَا مَعًا، وَوَافَقَهُمْ عَلَى ذَلِكَ الْحَنَفِيَّةُ إِذَا
كَانَ الْمُؤَذِّنُ لاَ يَتَأَذَّى مِنْ إِقَامَةِ غَيْرِهِ. (2)
إِعَادَةُ الإِْقَامَةِ فِي الْمَسْجِدِ الْوَاحِدِ:
18 - لَوْ صُلِّيَ فِي مَسْجِدٍ بِأَذَانٍ وَإِقَامَةٍ، هَل يُكْرَهُ أَنْ
يُؤَذَّنَ وَيُقَامَ فِيهِ ثَانِيًا؟ فِي الْمَسْأَلَةِ ثَلاَثَةُ آرَاءَ:
الأَْوَّل لِلْحَنَفِيَّةِ، وَهُوَ رَأْيٌ لِلْمَالِكِيَّةِ، وَرَأْيٌ
ضَعِيفٌ لِلشَّافِعِيَّةِ: إِذَا صُلِّيَ فِي الْمَسْجِدِ بِأَذَانٍ
وَإِقَامَةٍ كُرِهَ لِمَنْ جَاءَ بَعْدَهُمْ أَنْ يُؤَذِّنَ وَيُقِيمَ،
وَشَرَطَ الْحَنَفِيَّةُ أَنْ يَكُونَ مَنْ أَذَّنَ وَصَلَّى أَوَّلاً هُمْ
أَهْل الْمَسْجِدِ " أَيْ أَهْل حَيِّهِ " فَمَنْ جَاءَ بَعْدَهُمْ
فَأَذَانُ الْجَمَاعَةِ وَإِقَامَتُهُمْ لَهُمْ أَذَانٌ وَإِقَامَةٌ.
الثَّانِي فِي الرَّأْيِ الرَّاجِحِ لِلْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ:
__________
(1) بدائع الصنائع 1 / 414 ط العاصمة، والمغني 1 / 415 ط الرياض، والمجموع
3 / 121.
(2) بدائع الصنائع 1 / 414 ط العاصمة، والحطاب 1 / 453 ط ليبيا، والمغني 1
/ 416 ط الرياض.
(6/12)
يُسْتَحَبُّ أَنْ يُؤَذِّنَ وَيُقِيمَ
لِلْجَمَاعَةِ الثَّانِيَةِ، إِلاَّ أَنَّهُ لاَ يَرْفَعُ صَوْتَهُ فَوْقَ
مَا يَسْمَعُونَ، وَوَافَقَهُمْ عَلَى ذَلِكَ الْحَنَفِيَّةُ إِذَا كَانَ
الْمَسْجِدُ عَلَى الطَّرِيقِ، وَلَيْسَ لَهُ أَهْلٌ مَعْلُومُونَ، أَوْ
صَلَّى فِيهِ غَيْرُ أَهْلِهِ بِأَذَانٍ وَإِقَامَةٍ، فَإِنَّهُ يَجُوزُ
لأَِهْلِهِ أَنْ يُؤَذِّنُوا وَيُقِيمُوا.
الثَّالِثُ لِلْحَنَابِلَةِ: الْخِيَارُ، إِنْ شَاءَ أَذَّنَ وَأَقَامَ
وَيُخْفِيَ أَذَانَهُ وَإِقَامَتَهُ، وَإِنْ شَاءَ صَلَّى مِنْ غَيْرِ
أَذَانٍ وَلاَ إِقَامَةٍ. (1)
مَا يُقَامُ لَهُ مِنَ الصَّلَوَاتِ:
19 - يُقَامُ لِلصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ الْمَفْرُوضَةِ فِي حَال الْحَضَرِ
وَالسَّفَرِ وَالاِنْفِرَادِ وَالْجَمَاعَةِ وَالْجُمُعَةِ.
وَاتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى طَلَبِ الإِْقَامَةِ لِكُلٍّ مِنَ
الصَّلاَتَيْنِ الْمَجْمُوعَتَيْنِ، لأَِنَّ الرَّسُول صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَمَعَ الْمَغْرِبَ وَالْعِشَاءَ بِمُزْدَلِفَةَ
وَأَقَامَ لِكُل صَلاَةٍ (2) . وَلأَِنَّهُمَا صَلاَتَانِ جَمَعَهُمَا
وَقْتٌ وَاحِدٌ، وَتُصَلَّى كُل صَلاَةٍ وَحْدَهَا، فَاقْتَضَى أَنْ
تَكُونَ لِكُل صَلاَةٍ إِقَامَةٌ. (3)
وَاتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى طَلَبِ الإِْقَامَةِ لِلصَّلَوَاتِ
الْفَوَائِتِ، لِمَا رُوِيَ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ عَنْ رَسُول اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ حِينَ شَغَلَهُمُ الْكُفَّارُ يَوْمَ
الأَْحْزَابِ عَنْ أَرْبَعِ صَلَوَاتٍ أَمَرَ بِلاَلاً أَنْ يُؤَذِّنَ
وَيُقِيمَ لِكُل وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ، حَتَّى قَالُوا: أَذَّنَ وَأَقَامَ
وَصَلَّى الظُّهْرَ، ثُمَّ أَذَّنَ وَأَقَامَ وَصَلَّى الْعَصْرَ، ثُمَّ
أَذَّنَ وَأَقَامَ وَصَلَّى
__________
(1) بدائع الصنائع 1 / 418، وحاشية الدسوقي 1 / 198، والمجموع 3 / 85،
والمغني 1 / 421
(2) حديث: أن الرسول صلى الله عليه وسلم جمع المغرب. . . . "، أخرجه
البخاري (3 / 523 - الفتح ط السلفية) .
(3) بدائع الصنائع 1 / 419 ط العاصمة، والمجموع 3 / 83 ط المنيرية، والمغني
1 / 420، وحاشية الدسوقي 1 / 200.
(6/13)
الْمَغْرِبَ، ثُمَّ أَذَّنَ وَأَقَامَ
وَصَلَّى الْعِشَاءَ. (1) وَاتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى اسْتِحْبَابِ
الإِْقَامَةِ لِلْمُنْفَرِدِ، سَوَاءٌ صَلَّى فِي بَيْتِهِ أَوْ فِي
مَكَانٍ آخَرَ غَيْرِ الْمَسْجِدِ، لِخَبَرِ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ، قَال:
سَمِعْتُ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُول:
يَعْجَبُ رَبُّكَ مِنْ رَاعِي غَنَمٍ فِي رَأْسِ الشَّظِيَّةِ لِلْجَبَل
يُؤَذِّنُ وَيُقِيمُ لِلصَّلاَةِ وَيُصَلِّي، فَيَقُول اللَّهُ عَزَّ
وَجَل: انْظُرُوا إِلَى عَبْدِي هَذَا يُؤَذِّنُ وَيُقِيمُ الصَّلاَةَ
يَخَافُ مِنِّي، قَدْ غَفَرْتُ لِعَبْدِي وَأَدْخَلْتُهُ الْجَنَّةَ (2)
وَلَكِنَّهُ إِذَا اقْتَصَرَ عَلَى أَذَانِ الْحَيِّ وَإِقَامَتِهِ
أَجْزَأَهُ، لِمَا رُوِيَ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مَسْعُودٍ " صَلَّى
بِعَلْقَمَةَ وَالأَْسْوَدِ بِغَيْرِ أَذَانٍ وَلاَ إِقَامَةٍ وَقَال:
يَكْفِينَا أَذَانُ الْحَيِّ وَإِقَامَتُهُمْ (3) .
الإِْقَامَةُ لِصَلاَةِ الْمُسَافِرِ:
20 - الأَْذَانُ وَالإِْقَامَةُ لِلْفَرْدِ وَالْجَمَاعَةِ مَشْرُوعَانِ
فِي السَّفَرِ كَمَا فِي الْحَضَرِ، سَوَاءٌ أَكَانَ السَّفَرُ سَفَرَ
قَصْرٍ أَوْ دُونَهُ. (4)
__________
(1) المجموع للنووي 3 / 82، 83، والمغني 1 / 420 ط الأولى، وبدائع الصنائع
1 / 419 وحديث أبي سعيد حين شغلهم الكفار يوم الأحزاب عن أربع صلوات. أخرجه
الشافعي (1 / 86 - ط مكتبة الكليات الأزهرية) وصححه أحمد شاكر في تعليقه
على الترمذي (1 / 338 - ط الحلبي) .
(2) حديث: " يعجب ربك. . . " أخرجه النسائي (2 / 20 - ط المكتبة التجارية)
وأبو داود (2 / 9 - ط عزت عبيد دعاس) وقال المنذري: رجاله ثقات.
(3) بدائع الصنائع 1 / 416، 417 ط العاصمة، وحاشية الدسوقي 1 / 197، ومواهب
الجليل 1 / 451، وابن عابدين 1 / 264، 265، والمجموع للنووي 3 / 85،
والمغني 1 / 420 وما بعدها ط الرياض، وكشاف القناع 1 / 211، والأثر عن عبد
الله بن مسعود أنه صلى بعلقمة. أخرجه ابن أبي شيبة في المصنف (1 / 220 ط
الدار السلفية) وإسناده صحيح.
(4) (4) بدائع الصنائع 1 / 417، وابن عابدين 1 / 264، ومواهب الجليل 1 /
449، وحاشية الدسوقي 1 / 197، والمجموع للنووي 3 / 82، وكشاف القناع 1 /
211، والمغني 1 / 421.
(6/13)
الأَْذَانُ لِلصَّلاَةِ الْمُعَادَةِ:
21 - فِي الإِْقَامَةِ لِلصَّلاَةِ الْمُعَادَةِ فِي وَقْتِهَا لِلْفَسَادِ
رَأْيَانِ:
الأَْوَّل: لِلْحَنَفِيَّةِ: تُعَادُ الصَّلاَةُ الْفَاسِدَةُ فِي
الْوَقْتِ بِغَيْرِ أَذَانٍ وَلاَ إِقَامَةٍ، وَأَمَّا إِنْ قَضَوْهَا
بَعْدَ الْوَقْتِ قَضَوْهَا فِي غَيْرِ ذَلِكَ الْمَسْجِدِ بِأَذَانٍ
وَإِقَامَةٍ. (1)
الثَّانِي: لِلْمَالِكِيَّةِ: يُقَامُ لِلصَّلاَةِ الْمُعَادَةِ
لِلْبُطْلاَنِ أَوِ الْفَسَادِ،
وَلَمْ يُعْثَرْ لِلشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ عَلَى تَصْرِيحٍ
بِذَلِكَ، وَلَكِنَّ قَوَاعِدَهُمْ لاَ تَأْبَاهُ (2) .
مَا لاَ يُقَامُ لَهُ مِنَ الصَّلَوَاتِ:
22 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ لاَ يُسَنُّ الإِْقَامَةُ
لِغَيْرِ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ وَالْجُمُعَةِ. فَلاَ أَذَانَ وَلاَ
إِقَامَةَ لِصَلاَةِ الْجِنَازَةِ وَلاَ لِلْوَتْرِ وَلاَ لِلنَّوَافِل
وَلاَ لِصَلاَةِ الْعِيدَيْنِ وَصَلاَةِ الْكُسُوفِ وَالْخُسُوفِ
وَالاِسْتِسْقَاءِ. (3) لِمَا رُوِيَ عَنْ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ قَال:
صَلَّيْتُ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْعِيدَ
غَيْرَ مَرَّةٍ وَلاَ مَرَّتَيْنِ بِغَيْرِ أَذَانٍ وَلاَ إِقَامَةٍ. (4)
__________
(1) ابن عابدين 1 / 261 - 262.
(2) الخرشي 1 / 236 ط دار صادر، والدسوقي 1 / 199 ط الحلبي، ونهاية المحتاج
1 / 387 ط المكتب الإسلامي، والمغني 1 / 420 ط الرياض.
(3) بدائع الصنائع 1 / 415، وابن عابدين 1 / 258، والحطاب 1 / 435، وحاشية
العدوي على الخرشي 1 / 228، وكشاف القناع 1 / 211، والمجموع 3 / 77،
والتحفة 1 / 462.
(4) حديث جابر بن سمرة: " صليت مع النبي صلى الله عليه وسلم العيد غير مرة
ولا مرتين بغير أذان ولا إقامة ". أخرجه مسلم (2 / 604 - ط الحلبي) . .
(6/14)
وَمَا رُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: خَسَفَتِ الشَّمْسُ عَلَى عَهْدِ رَسُول اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَبَعَثَ مُنَادِيًا يُنَادِي:
الصَّلاَةُ جَامِعَةٌ. (1)
إِجَابَةُ السَّامِعِ لِلْمُؤَذِّنِ وَالْمُقِيمِ:
23 - نَصَّ الْفُقَهَاءُ عَلَى صِيغَةِ الإِْجَابَةِ بِاللِّسَانِ
فَقَالُوا: يَقُول السَّامِعُ مِثْل مَا يَقُول الْمُقِيمُ، إِلاَّ فِي
الْحَيْعَلَتَيْنِ " حَيَّ عَلَى الصَّلاَةِ وَحَيَّ عَلَى الْفَلاَحِ "
فَإِنَّهُ يُحَوْقِل " لاَ حَوْل وَلاَ قُوَّةَ إِلاَّ بِاَللَّهِ ".
وَيَزِيدُ عِنْدَ إِقَامَةِ الصَّلاَةِ " أَقَامَهَا اللَّهُ وَأَدَامَهَا
"، لِمَا رَوَى أَبُو دَاوُدَ بِإِسْنَادِهِ عَنْ بَعْضِ أَصْحَابِ
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَنَّ بِلاَلاً أَخَذَ فِي
الإِْقَامَةِ، فَلَمَّا أَنْ قَال: قَدْ قَامَتِ الصَّلاَةُ، قَال
النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَقَامَهَا اللَّهُ
وَأَدَامَهَا. (2) وَقَال فِي سَائِرِ الإِْقَامَةِ كَنَحْوِ حَدِيثِ
عُمَرَ فِي الأَْذَانِ الَّذِي رَوَاهُ جَعْفَرُ بْنُ عَاصِمٍ عَنْ أَبِيهِ
عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: إِذَا قَال الْمُؤَذِّنُ: اللَّهُ أَكْبَرُ
اللَّهُ أَكْبَرُ، فَقَال أَحَدُكُمْ: اللَّهُ أَكْبَرُ اللَّهُ أَكْبَرُ
(3) وَانْظُرْ مُصْطَلَحَ أَذَانٍ.
وَحُكْمُ الإِْجَابَةِ بِاللِّسَانِ أَنَّهَا سُنَّةٌ عِنْدَ
الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، وَأَمَّا
الْحَنَفِيَّةُ فَإِنَّ الإِْجَابَةَ عِنْدَهُمْ تَكُونُ فِي الأَْذَانِ
دُونَ الإِْقَامَةِ (4) .
__________
(1) حديث عائشة: " الصلاة جامعة " أخرجه البخاري (2 / 549 - الفتح - ط
السلفية) ، ومسلم (2 / 620 ط الحلبي) .
(2) حديث: " أن بلالا. . . . " أخرجه أبو داود (1 / 362 - ط عزت عبيد دعاس)
قال المنذري: في إسناده رجل مجهول. مختصر سنن أبي داود (1 / 285 - نشر دار
المعرفة) .
(3) حديث عمر: " إذا قال المؤذن: الله أكبر الله أكبر " أخرجه مسلم (1 /
289 - ط الحلبي) .
(4) ابن عابدين 1 / 267 وبدائع الصنائع 1 / 422، والقرطبي 18 / 101 ط دار
الكتب، والمغني 1 / 427، والمجموع 3 / 122.
(6/14)
الْفَصْل بَيْنَ الأَْذَانِ
وَالإِْقَامَةِ:
24 - صَرَّحَ الْفُقَهَاءُ بِاسْتِحْبَابِ الْفَصْل بَيْنَ الأَْذَانِ
وَالإِْقَامَةِ بِصَلاَةٍ أَوْ جُلُوسٍ أَوْ وَقْتٍ يَسَعُ حُضُورَ
الْمُصَلِّينَ فِيمَا سِوَى الْمَغْرِبِ، مَعَ مُلاَحَظَةِ الْوَقْتِ
الْمُسْتَحَبِّ لِلصَّلاَةِ.
وَتُكْرَهُ عِنْدَهُمُ الإِْقَامَةُ لِلصَّلاَةِ بَعْدَ الأَْذَانِ
مُبَاشَرَةً بِدُونِ هَذَا الْفَصْل، وَذَلِكَ لِمَا رُوِيَ عَنْ رَسُول
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَال لِبِلاَلٍ: اجْعَل
بَيْنَ أَذَانِكَ وَإِقَامَتِكَ نَفَسًا حَتَّى يَقْضِيَ الْمُتَوَضِّئُ
حَاجَتَهُ فِي مَهْلٍ، وَحَتَّى يَفْرُغَ الآْكِل مِنْ أَكْل طَعَامِهِ فِي
مَهْلٍ
وَفِي رِوَايَةٍ: لِيَكُنْ بَيْنَ أَذَانِكَ وَإِقَامَتِكَ مِقْدَارُ مَا
يَفْرُغُ الآْكِل مِنْ أَكْلِهِ، وَالشَّارِبُ مِنْ شُرْبِهِ،
وَالْمُعْتَصِرُ إِذَا دَخَل لِقَضَاءِ حَاجَتِهِ. (1)
وَلأَِنَّ الْمَقْصُودَ بِالأَْذَانِ إِعْلاَمُ النَّاسِ بِدُخُول
الْوَقْتِ لِيَتَهَيَّئُوا لِلصَّلاَةِ بِالطَّهَارَةِ فَيَحْضُرُوا
الْمَسْجِدَ، وَبِالْوَصْل يَنْتَفِي هَذَا الْمَقْصُودُ، وَتَفُوتُ
صَلاَةُ الْجَمَاعَةِ عَلَى كَثِيرٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ. (2)
وَقَدْ وَرَدَ عَنْ بَعْضِ الْفُقَهَاءِ تَحْدِيدُ مِقْدَارِ الْفَصْل
بَيْنَ الأَْذَانِ وَالإِْقَامَةِ، فَرَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ
أَنَّ مِقْدَارَ الْفَصْل فِي الْفَجْرِ قَدْرُ مَا يَقْرَأُ عِشْرِينَ
آيَةً،
__________
(1) حديث: " اجعل من أذانك. . . " أخرجه عبد الله بن أحمد في زياداته على
المسند (5 / 143 - ط الميمنية) من حديث أبي بن كعب، وذكره الهيثمي في
المجمع (2 / 4 - ط القدسي) وأعله بالانقطاع. وحديث: " ليكن بين أذانك
وإقامتك مقدار ما يفرغ الأكل ". أخرجه الترمذي (1 / 373 - ط الحلبي) وضعفه
ابن حجر في التلخيص (1 / 200 - ط شركة الطباعة الفنية) .
(2) مراقي الفلاح 1 / 107 وابن عابدين 1 / 261، والخرشي 1 / 235ط بولاق،
وبدائع الصنائع ا / 410 ط العاصمة، وأسنى المطالب 1 / 130 ط المكتب
الإسلامي، وكشاف القناع 1 / 221.
(6/15)
وَفِي الظُّهْرِ قَدْرُ مَا يُصَلِّي
أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ، يَقْرَأُ فِي كُل رَكْعَةٍ نَحْوًا مِنْ عَشْرِ
آيَاتٍ، وَفِي الْعَصْرِ مِقْدَارُ مَا يُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ، يَقْرَأُ
فِي كُل رَكْعَةٍ نَحْوًا مِنْ عَشْرِ آيَاتٍ. (1)
أَمَّا فِي الْمَغْرِبِ: فَقَدِ اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى تَعْجِيل
الإِْقَامَةِ فِيهَا لِحَدِيثِ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ: بَيْنَ كُل أَذَانَيْنِ صَلاَةٌ لِمَنْ شَاءَ إِلاَّ
الْمَغْرِبَ (2) لأَِنَّ مَبْنَى الْمَغْرِبِ عَلَى التَّعْجِيل، وَلِمَا
رَوَى أَبُو أَيُّوبَ الأَْنْصَارِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ رَسُول
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَال: لَنْ تَزَال
أُمَّتِي بِخَيْرٍ مَا لَمْ يُؤَخِّرُوا الْمَغْرِبَ إِلَى اشْتِبَاكِ
النُّجُومِ (3) وَعَلَى هَذَا يُسَنُّ أَنْ يَكُونَ الْفَصْل بَيْنَ
الأَْذَانِ وَالإِْقَامَةِ فِيهَا يَسِيرًا.
وَلِلْعُلَمَاءِ فِي مِقْدَارِ هَذَا الْفَصْل الْيَسِيرِ أَقْوَالٌ:
أ - قَال أَبُو حَنِيفَةَ وَالْمَالِكِيَّةُ: يَفْصِل بَيْنَ الأَْذَانِ
وَالإِْقَامَةِ فِي الْمَغْرِبِ قَائِمًا بِمِقْدَارِ ثَلاَثِ آيَاتٍ،
وَلاَ يَفْصِل بِالصَّلاَةِ، لأَِنَّ الْفَصْل بِالصَّلاَةِ تَأْخِيرٌ،
كَمَا لاَ يَفْصِل الْمُقِيمُ بِالْجُلُوسِ، لأَِنَّهُ تَأْخِيرٌ
لِلْمَغْرِبِ، وَلأَِنَّهُ لَمْ يَفْصِل بِالصَّلاَةِ فَبِغَيْرِهَا
أَوْلَى.
ب - وَقَال أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ: يَفْصِل بِجَلْسَةٍ خَفِيفَةٍ
كَالْجَلْسَةِ بَيْنَ الْخُطْبَتَيْنِ، وَهُوَ الرَّاجِحُ عِنْدَ
الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، وَوَجْهُ قَوْلِهِمْ أَنَّ الْفَصْل
__________
(1) بدائع الصنائع 1 / 410.
(2) حديث: " بين كل أذانين ركعتين ما خلا صلاة المغرب ". أخرجه الدارقطني
(1 / 264 - شركة الطباعة الفنية) والبيهقي في المعرفة كما في نصب الراية (1
/ 140 - ط المجلس العلمي) وأعلاه بتفرد أحد رواته ثم قال: " لمن شاء ".
(3) حديث: " لا تزال أمتي بخير " - أو قال: " على الفطرة ما لم يؤخروا
المغرب إلى أن تشتبك النجوم. " أخرجه أبو داود (1 / 291 - ط عزت عبيد دعاس)
والحاكم (1 / 190 - ط دائرة المعارف العثمانية) وصححه، ووافقه الذهبي.
(6/15)
مَسْنُونٌ وَلاَ يُمْكِنُ بِالصَّلاَةِ،
فَيَفْصِل بِالْجَلْسَةِ لإِِقَامَةِ السُّنَّةِ.
ج - وَأَجَازَ الْحَنَابِلَةُ وَبَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ الْفَصْل
بِرَكْعَتَيْنِ بَيْنَ الأَْذَانِ وَالإِْقَامَةِ فِي الْمَغْرِبِ، أَيْ
أَنَّهُمَا لاَ يُكْرَهَانِ وَلاَ يُسْتَحَبَّانِ. (1)
الأُْجْرَةُ عَلَى الإِْقَامَةِ مَعَ الأَْذَانِ:
25 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ إِذَا وُجِدَ مَنْ يُؤَذِّنُ
وَيُقِيمُ مُحْتَسِبًا - مِمَّنْ تَتَحَقَّقُ فِيهِ شَرَائِطُ الْمُؤَذِّنِ
- فَلاَ يَجُوزُ اسْتِئْجَارُ أَحَدٍ لِلأَْذَانِ وَالإِْقَامَةِ.
وَأَمَّا إِذَا لَمْ يُوجَدِ الْمُتَطَوِّعُ أَوْ وُجِدَ وَلَمْ
تَتَحَقَّقْ فِيهِ الشُّرُوطُ فَهَل يُسْتَأْجَرُ عَلَى الأَْذَانِ
وَالإِْقَامَةِ؟
فِي الْمَسْأَلَةِ ثَلاَثَةُ آرَاءَ:
الأَْوَّل: الْمَنْعُ لأَِنَّهُ طَاعَةٌ، وَلاَ يَجُوزُ اسْتِئْجَارُ
أَحَدٍ عَلَى الطَّاعَةِ لأَِنَّهُ عَامِلٌ لِنَفْسِهِ، وَلِمَا رُوِيَ
أَنَّ آخِرَ مَا عَهِدَ بِهِ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ لِعُثْمَانَ بْنِ الْعَاصِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنْ يُصَلِّيَ
بِالنَّاسِ صَلاَةَ أَضْعَفِهِمْ، وَأَنْ يَتَّخِذَ مُؤَذِّنًا لاَ
يَأْخُذُ عَلَيْهِ أَجْرًا (2)
وَهَذَا الرَّأْيُ لِمُتَقَدِّمِي الْحَنَفِيَّةِ، وَهُوَ رَأْيٌ
لِلْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ.
الثَّانِي: الْجَوَازُ لأَِنَّهُ كَسَائِرِ الأَْعْمَال، وَهُوَ قَوْلٌ
لِمُتَأَخِّرِي الْحَنَفِيَّةِ، وَرَأْيٌ لِلْمَالِكِيَّةِ
وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، وَوَجْهُ ذَلِكَ: أَنَّ
بِالْمُسْلِمِينَ حَاجَةً إِلَيْهِ، وَقَدْ لاَ يُوجَدُ مُتَطَوِّعٌ.
وَلأَِنَّهُ إِذَا انْقَطَعَ لَهُ قَدْ لاَ يَجِدُ مَا يُقِيتُ بِهِ
عِيَالَهُ.
__________
(1) المراجع السابقة مع بدائع الصنائع 1 / 411.
(2) حديث: " أن يصلي (عثمان بن العاص) بالناس صلاة. . . " أخرجه أبو داود
(1 / 363 - ط عزت عبيد دعاس) والحاكم (1 / 201 ط دائرة المعارف العثمانية)
وصححه ووافقه الذهبي.
(6/16)
الثَّالِثُ، وَهُوَ رَأْيٌ
لِلشَّافِعِيَّةِ: يَجُوزُ لِلإِْمَامِ أَنْ يَسْتَأْجِرَ دُونَ آحَادِ
النَّاسِ لأَِنَّهُ هُوَ الَّذِي يَتَوَلَّى مَصَالِحَ الْمُسْلِمِينَ.
وَيَجُوزُ لَهُ الإِْعْطَاءُ مِنْ بَيْتِ الْمَال.
هَذَا، وَقَدْ صَرَّحَ الشَّافِعِيَّةُ بِأَنَّهُ لاَ يَجُوزُ
الاِسْتِئْجَارُ عَلَى الإِْقَامَةِ فَقَطْ بِدُونِ الأَْذَانِ لأَِنَّهُ
عَمَلٌ قَلِيلٌ. (1)
وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ (أَذَان، وَإِجَارَة) .
الإِْقَامَةُ لِغَيْرِ الصَّلاَةِ:
26 - يُسْتَحَبُّ الأَْذَانُ فِي أُذُنِ الْمَوْلُودِ الْيُمْنَى
وَالإِْقَامَةُ فِي الْيُسْرَى، لِمَا رُوِيَ عَنْ أَبِي رَافِعٍ قَال:
رَأَيْتُ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَذَّنَ فِي
أُذُنِ الْحَسَنِ حِينَ وَلَدَتْهُ فَاطِمَةُ بِالصَّلاَةِ. (2)
وَيُنْظَرُ مُصْطَلَحُ (أَذَان) فِقْرَةُ 51 (ج 2 ص 372) .
اقْتِبَاسٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الاِقْتِبَاسُ فِي اللُّغَةِ: هُوَ طَلَبُ الْقَبَسِ، وَهُوَ
__________
(1) ابن عابدين 1 / 263، وبدائع الصنائع 1 / 415، والحطاب 1 / 455،
والمجموع للنووي 2 / 127، والمغني 1 / 415 ط.
(2) ابن عابدين 1 / 258، والحطاب 1 / 433، وتحفة المحتاج 1 / 461 ط دار
صادر. وحديث: " رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم أذن في أذن الحسن حين
ولدته فاطمة بالصلاة " أخرجه الترمذي (4 / 97 - ط الحلبي) وقال ابن حجر في
التلخيص (4 / 149 - ط شركة الطباعة الفنية) : مداره على عاصم بن عبيد الله
وهو ضعيف.
(6/16)
الشُّعْلَةُ مِنَ النَّارِ، وَيُسْتَعَارُ
لِطَلَبِ الْعِلْمِ، قَال الْجَوْهَرِيُّ فِي الصِّحَاحِ: اقْتَبَسْتُ
مِنْهُ عِلْمًا: أَيِ اسْتَفَدْتُهُ. (1)
وَفِي الاِصْطِلاَحِ: تَضْمِينُ الْمُتَكَلِّمِ كَلاَمَهُ - شِعْرًا كَانَ
أَوْ نَثْرًا - شَيْئًا مِنَ الْقُرْآنِ أَوِ الْحَدِيثِ، عَلَى وَجْهٍ لاَ
يَكُونُ فِيهِ إِشْعَارٌ بِأَنَّهُ مِنَ الْقُرْآنِ أَوِ الْحَدِيثِ (2) .
أَنْوَاعُهُ:
2 - الاِقْتِبَاسُ عَلَى نَوْعَيْنِ: أَحَدُهُمَا: مَا لَمْ يُنْقَل فِيهِ
الْمُقْتَبَسُ (بِفَتْحِ الْبَاءِ) عَنْ مَعْنَاهُ الأَْصْلِيِّ، وَمِنْهُ
قَوْل الشَّاعِرِ:
قَدْ كَانَ مَا خِفْتُ أَنْ يَكُونَا
إِنَّا إِلَى اللَّهِ رَاجِعُونَا
وَهَذَا مِنَ الاِقْتِبَاسِ الَّذِي فِيهِ تَغْيِيرٌ يَسِيرٌ، لأَِنَّ
الآْيَةَ {إِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ} . (3)
وَالثَّانِي: مَا نُقِل فِيهِ الْمُقْتَبَسُ عَنْ مَعْنَاهُ الأَْصْلِيِّ
كَقَوْل ابْنِ الرُّومِيِّ:
لَئِنْ أَخْطَأْتُ فِي مَدْحِكَ مَا أَخْطَأْتَ فِي مَنْعِي
لَقَدْ أَنْزَلْتُ حَاجَاتِي (بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ)
فَقَوْلُهُ
{بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ} (4) اقْتِبَاسٌ مِنَ الْقُرْآنِ
__________
(1) الصحاح للجوهري، والكليات لأبي البقاء، ومفردات الراغب، والمصباح
المنير مادة: (قبس) .
(2) موسوعة اصطلاحات العلوم الإسلامية للتهانوي 5 / 1187 طبع خياط. بيروت،
والكليات لأبي البقاء الكفوي 1 / 253 طبع وزارة الثقافة. دمشق، والإتقان في
علوم القرآن للسيوطي 1 / 111 طبع مصطفى البابي الحلبي 1370 هـ، والآداب
الشرعية لابن مفلح 2 / 300.
(3) سورة البقرة / 156.
(4) سورة إبراهيم / 37.
(6/17)
الْكَرِيمِ، فَهِيَ وَرَدَتْ فِي
الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ بِمَعْنَى " مَكَّةَ الْمُكَرَّمَةِ "، إِذْ لاَ
مَاءَ فِيهَا وَلاَ نَبَاتَ، فَنَقَلَهُ الشَّاعِرُ عَنْ هَذَا الْمَعْنَى
الْحَقِيقِيِّ إِلَى مَعْنًى مَجَازِيٍّ، هُوَ: " لاَ نَفْعَ فِيهِ وَلاَ
خَيْرَ ".
حُكْمُهُ التَّكْلِيفِيُّ:
3 - يَرَى جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ (1) جَوَازَ الاِقْتِبَاسِ فِي
الْجُمْلَةِ إِذَا كَانَ لِمَقَاصِدَ لاَ تَخْرُجُ عَنِ الْمَقَاصِدِ
الشَّرْعِيَّةِ تَحْسِينًا لِلْكَلاَمِ، أَمَّا إِنْ كَانَ كَلاَمًا
فَاسِدًا فَلاَ يَجُوزُ الاِقْتِبَاسُ فِيهِ مِنَ الْقُرْآنِ، وَذَلِكَ
كَكَلاَمِ الْمُبْتَدِعَةِ وَأَهْل الْمُجُونِ وَالْفُحْشِ.
قَال السُّيُوطِيُّ (2) : لَمْ يَتَعَرَّضْ لَهُ الْمُتَقَدِّمُونَ وَلاَ
أَكْثَرُ الْمُتَأَخِّرِينَ، مِنَ الشَّافِعِيَّةِ مَعَ شُيُوعِ
الاِقْتِبَاسِ فِي أَعْصَارِهِمْ وَاسْتِعْمَال الشُّعَرَاءِ لَهُ قَدِيمًا
وَحَدِيثًا، وَقَدْ تَعَرَّضَ لَهُ جَمَاعَةٌ مِنَ الْمُتَأَخِّرِينَ،
فَسُئِل عَنْهُ الشَّيْخُ الْعِزُّ بْنُ عَبْدِ السَّلاَمِ فَأَجَازَهُ،
وَاسْتَدَل لَهُ بِمَا وَرَدَ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
مِنْ قَوْلِهِ فِي الصَّلاَةِ وَغَيْرِهَا: وَجَّهْتُ وَجْهِي. . . (3)
إِلَخْ، وَقَوْلِهِ: اللَّهُمَّ فَالِقَ الإِْصْبَاحِ وَجَاعِل اللَّيْل
سَكَنًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْبَانًا اقْضِ عَنِّي الدَّيْنَ
وَأَغْنِنِي مِنَ الْفَقْرِ. (4)
__________
(1) حاشية ابن عابدين 3 / 238 ط بولاق، والآداب الشرعية لابن مفلح 2 / 300،
والإتقان للسيوطي 1 / 111
(2) الإتقان للسيوطي 1 / 111 - 113.
(3) حديث " وجهت وجهي. . . " أخرجه مسلم (1 / 536 - ط الحلبي)
(4) حديث " اللهم فالق الإصباح وجاعل الليل سكنا والشمس والقمر حسبانا، اقض
عني الدين، وأغنني من الفقر ". أخرجه ابن أبي شيبة كما في الدر المنثور
للسيوطي (3 / 328 - ط دار الفكر) من حديث مسلم بن يسار مرفوعا، وإسناده
ضعيف لإرساله.
(6/17)
وَفِي سِيَاقِ الْكَلاَمِ لأَِبِي بَكْرٍ.
. . {وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ} .
وَفِي حَدِيثٍ لاِبْنِ عُمَرَ. . . {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُول
اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} .
وَقَدِ اشْتُهِرَ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ تَحْرِيمُهُ وَتَشْدِيدُ
النَّكِيرِ عَلَى فَاعِلِهِ (1) ، لَكِنَّ مِنْهُمْ مَنْ فَرَّقَ بَيْنَ
الشِّعْرِ فَكَرِهَ الاِقْتِبَاسَ فِيهِ، وَبَيْنَ النَّثْرِ فَأَجَازَهُ.
وَمِمَّنِ اسْتَعْمَلَهُ فِي النَّثْرِ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ الْقَاضِي
عِيَاضٌ وَابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ وَقَدِ اسْتَعْمَلَهُ فُقَهَاءُ
الْحَنَفِيَّةِ فِي كُتُبِهِمُ الْفِقْهِيَّةِ. (2)
4 - وَنَقَل السُّيُوطِيُّ عَنْ شَرْحِ بَدِيعِيَّةِ ابْنِ حُجَّةَ أَنَّ
الاِقْتِبَاسَ ثَلاَثَةُ أَقْسَامٍ:
الأَْوَّل: مَقْبُولٌ، وَهُوَ مَا كَانَ فِي الْخُطَبِ وَالْمَوَاعِظِ
وَالْعُهُودِ.
وَالثَّانِي: مُبَاحٌ، وَهُوَ مَا كَانَ فِي الْغَزَل وَالرَّسَائِل
وَالْقِصَصِ.
وَالثَّالِثُ: مَرْدُودٌ، وَهُوَ عَلَى ضَرْبَيْنِ.
(أَحَدُهُمَا) اقْتِبَاسُ مَا نَسَبَهُ اللَّهُ إِلَى نَفْسِهِ، بِأَنْ
يَنْسِبَهُ الْمُقْتَبِسُ إِلَى نَفْسِهِ، كَمَا قِيل عَمَّنْ وَقَعَ عَلَى
شَكْوَى بِقَوْلِهِ: {إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا
حِسَابَهُمْ} . (3)
وَ (الآْخَرُ) تَضْمِينُ آيَةٍ فِي مَعْنَى هَزْلٍ أَوْ مُجُونٍ.
قَال السُّيُوطِيّ: وَهَذَا التَّقْسِيمُ حَسَنٌ جِدًّا، وَبِهِ أَقُول (4)
.
__________
(1) الإتقان للسيوطي 1 / 111 - 113.
(2) حاشية ابن عابدين 3 / 238.
(3) سورة الغاشية 25 - 26.
(4) الإتقان 1 / 112.
(6/18)
اقْتِدَاءٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الاِقْتِدَاءُ لُغَةً: مَصْدَرُ اقْتَدَى بِهِ، إِذَا فَعَل مِثْل
فِعْلِهِ تَأَسِّيًا، وَيُقَال: فُلاَنٌ قُدْوَةٌ: أَيْ يُقْتَدَى بِهِ،
وَيُتَأَسَّى بِأَفْعَالِهِ. (1)
وَيَسْتَعْمِلُهُ الْفُقَهَاءُ بِالْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ، وَهُوَ إِذَا
كَانَ فِي الصَّلاَةِ يُعَرِّفُونَهُ بِأَنَّهُ: اتِّبَاعُ الْمُؤْتَمِّ
الإِْمَامَ فِي أَفْعَال الصَّلاَةِ. أَوْ هُوَ رَبْطُ صَلاَةِ
الْمُؤْتَمِّ بِالإِْمَامِ بِشُرُوطٍ خَاصَّةٍ جَاءَ بِهَا الشَّرْعُ،
وَبَيَّنَهَا الْفُقَهَاءُ فِي كِتَابِ الصَّلاَةِ عِنْدَ الْكَلاَمِ عَنْ
صَلاَةِ الْجَمَاعَةِ. (2)
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - الاِئْتِمَامُ:
2 - الاِئْتِمَامُ: بِمَعْنَى الاِقْتِدَاءِ. يَقُول ابْنُ عَابِدِينَ:
إِذَا رَبَطَ صَلاَتَهُ بِصَلاَةِ إِمَامِهِ حَصَل لَهُ صِفَةُ
الاِقْتِدَاءِ وَالاِئْتِمَامِ، وَحَصَل لإِِمَامِهِ صِفَةُ الإِْمَامَةِ.
(3)
وَالاِقْتِدَاءُ فِي اسْتِعْمَال الْفُقَهَاءِ أَعَمُّ مِنَ الاِئْتِمَامِ،
لأَِنَّهُ يَكُونُ فِي الصَّلاَةِ وَغَيْرِهَا.
ب - الاِتِّبَاعُ:
3 - مِنْ مَعَانِي الاِتِّبَاعِ فِي اللُّغَةِ: الْمَشْيُ خَلْفَ
الْغَيْرِ، وَمِنْهُ اتِّبَاعُ الْجَنَائِزِ، وَالْمُطَالَبَةُ بِالْحَقِّ
كَمَا فِي الآْيَةِ {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ
__________
(1) المصباح المنير ولسان العرب مادة: (قدو) .
(2) ابن عابدين 1 / 369، والطحطاوي على الدر 1 / 239.
(3) نفس المراجع.
(6/18)
بِالْمَعْرُوفِ} (1) وَيَأْتِي بِمَعْنَى
الاِئْتِمَامِ، يُقَال: اتَّبَعَ الْقُرْآنَ: ائْتَمَّ بِهِ وَعَمِل بِمَا
فِيهِ. (2)
وَاسْتَعْمَلَهُ الْفُقَهَاءُ بِهَذِهِ الْمَعَانِي، كَمَا اسْتَعْمَلُوهُ
بِمَعْنَى الرُّجُوعِ إِلَى قَوْلٍ ثَبَتَتْ عَلَيْهِ حُجَّةٌ، فَهُوَ
بِهَذَا الْمَعْنَى أَخَصُّ مِنَ الاِقْتِدَاءِ (3) .
ج - التَّأَسِّي:
4 - التَّأَسِّي فِي اللُّغَةِ: مِنَ الأُْسْوَةِ بِمَعْنَى الْقُدْوَةِ،
يُقَال: تَأَسَّيْتُ بِهِ وَائْتَسَيْتُ: أَيِ اقْتَدَيْتُ. فَالتَّأَسِّي
بِمَعْنَى الاِقْتِدَاءِ. (4)
وَمِنْ مَعَانِي التَّأَسِّي: التَّعَزِّي، أَيِ: التَّصَبُّرُ. وَأَكْثَرُ
مَا يَكُونُ الاِقْتِدَاءُ فِي الصَّلاَةِ، أَمَّا التَّأَسِّي
فَيُسْتَعْمَل فِي غَيْرِ ذَلِكَ.
د - التَّقْلِيدُ:
5 - التَّقْلِيدُ عِبَارَةٌ عَنْ: قَبُول قَوْل الْغَيْرِ بِلاَ حُجَّةٍ
وَلاَ دَلِيلٍ (5) .
أَقْسَامُ الاِقْتِدَاءِ:
6 - الاِقْتِدَاءُ عَلَى أَقْسَامٍ، مِنْهَا: اقْتِدَاءُ الْمُؤْتَمِّ
بِالإِْمَامِ فِي أَفْعَالِهِ مِنَ الْقِيَامِ وَالرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ
وَغَيْرِهَا.
وَمِنْهَا: الاِقْتِدَاءُ فِي غَيْرِ الصَّلاَةِ، فَهُوَ بِمَعْنَى
التَّأَسِّي، كَاقْتِدَاءِ الأُْمَّةِ بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي أَقْوَالِهِ وَأَفْعَالِهِ، وَاتِّبَاعِ سُنَّتِهِ،
وَغَيْرِ ذَلِكَ كَمَا سَيَأْتِي.
__________
(1) سورة البقرة / 178.
(2) لسان العرب والمصباح المنير مادة: (تبع) .
(3) التقرير والتحبير لابن الهمام 3 / 300، وحاشية الطحطاوي على الدر 1 /
239.
(4) المصباح المنير ولسان العرب مادة: (أسى) ، وتفسير القرطبي 18 / 56.
(5) التعريفات للجرجاني، ومسلم الثبوت 2 / 400.
(6/19)
الاِقْتِدَاءُ فِي الصَّلاَةِ
7 - الاِقْتِدَاءُ فِي الصَّلاَةِ هُوَ: رَبْطُ صَلاَةِ الْمُؤْتَمِّ
بِصَلاَةِ الإِْمَامِ كَمَا سَبَقَ، فَلاَ بُدَّ أَنْ يَكُونَ هُنَاكَ
إِمَامٌ وَمُقْتَدٍ، وَلَوْ وَاحِدًا. وَأَقَل مَنْ تَنْعَقِدُ بِهِ
الْجَمَاعَةُ - فِي غَيْرِ الْعِيدَيْنِ وَالْجُمُعَةِ - اثْنَانِ، وَهُوَ
أَنْ يَكُونَ مَعَ الإِْمَامِ وَاحِدٌ، لِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: الاِثْنَانِ فَمَا فَوْقَهُمَا جَمَاعَةٌ (1)
وَلِفِعْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ حِينَ صَلَّى بِابْنِ
عَبَّاسٍ وَحْدَهُ. (2)
وَسَوَاءٌ كَانَ ذَلِكَ الْوَاحِدُ رَجُلاً أَوِ امْرَأَةً أَوْ صَبِيًّا
يَعْقِل، لأَِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَمَّى
الاِثْنَيْنِ مُطْلَقًا جَمَاعَةً.
وَأَمَّا الْمَجْنُونُ وَالصَّبِيُّ الَّذِي لاَ يَعْقِل فَلاَ عِبْرَةَ
بِهِمَا، لأَِنَّهُمَا لَيْسَا مِنْ أَهْل الصَّلاَةِ. (3)
هَذَا، وَهُنَاكَ شُرُوطٌ لاَ بُدَّ مِنْ تَوَفُّرِهَا فِي الاِقْتِدَاءِ
وَالْمُقْتَدَى بِهِ (الإِْمَامِ) ، وَحَالاَتٌ تَخُصُّ الْمُقْتَدِيَ أَيْ
(الْمَأْمُومَ) نَذْكُرُهَا فِيمَا يَلِي:
شُرُوطُ الْمُقْتَدَى بِهِ (الإِْمَامِ) :
8 - يُشْتَرَطُ فِي الإِْمَامِ فِي الْجُمْلَةِ: الإِْسْلاَمُ وَالْعَقْل
اتِّفَاقًا، وَالْبُلُوغُ عِنْدَ الْجُمْهُورِ، وَكَذَلِكَ الذُّكُورَةُ
إِذَا كَانَ الْمُقْتَدُونَ ذُكُورًا، وَالسَّلاَمَةُ مِنَ الأَْعْذَارِ -
كَرُعَافٍ وَسَلَسِ الْبَوْل - إِذَا اقْتَدَى بِهِ أَصِحَّاءُ،
وَالسَّلاَمَةُ مِنْ عَاهَاتِ اللِّسَانِ - كَفَأْفَأَةٍ وَتَمْتَمَةٍ -
إِذَا اقْتَدَى بِهِ السَّلِيمُ مِنْهُمَا، وَكَذَا السَّلاَمَةُ مِنْ
فَقْدِ شَرْطٍ
__________
(1) حديث: " الاثنان فما فوقهما جماعة. . . " أخرجه ابن ماجه (1 / 312 - ط
الحلبي) وقال الحافظ البوصيري في الزوائد: الربيع وولده ضعيفان.
(2) حديث: " صلى النبي صلى الله عليه وسلم بابن عباس وحده. . . ". أخرجه
البخاري (2 / 190 - الفتح - ط السلفية) .
(3) البدائع 1 / 156، والقليوبي 1 / 220، وكشاف القناع 1 / 453، وجواهر
الإكليل 1 / 76.
(6/19)
كَطَهَارَةٍ وَسَتْرِ عَوْرَةٍ. (1) عَلَى
تَفْصِيلٍ وَخِلاَفٍ فِي بَعْضِهَا يُذْكَرُ فِي مُصْطَلَحِ: (إِمَامَة) .
شُرُوطُ الاِقْتِدَاءِ:
أ - النِّيَّةُ:
9 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ نِيَّةَ الْمُؤْتَمِّ الاِقْتِدَاءَ
بِالإِْمَامِ شَرْطٌ لِصِحَّةِ الاِقْتِدَاءِ، إِذِ الْمُتَابَعَةُ عَمَلٌ
يَفْتَقِرُ إِلَى النِّيَّةِ. وَالْمُعْتَبَرُ فِي النِّيَّةِ عَمَل
الْقَلْبِ اللاَّزِمُ لِلإِْرَادَةِ، وَيُسْتَحَبُّ التَّلَفُّظُ بِهَا
عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ، وَهُوَ قَوْلٌ لِلْحَنَابِلَةِ
قِيَاسًا عَلَى الْحَجِّ. وَذَكَرَ جَمَاعَةٌ إِلَى أَنَّ التَّلَفُّظَ
بِهَا بِدْعَةٌ، لأَِنَّهُ لَمْ يَرِدْ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلاَ عَنْ أَحَدٍ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ.
(2)
وَيُشْتَرَطُ فِي النِّيَّةِ أَنْ تَكُونَ مُقَارِنَةً لِلتَّحْرِيمَةِ،
أَوْ مُتَقَدِّمَةً عَلَيْهَا بِشَرْطِ أَلاَّ يَفْصِل بَيْنَهَا وَبَيْنَ
التَّحْرِيمَةِ فَاصِلٌ أَجْنَبِيٌّ، وَعَلَى ذَلِكَ فَلاَ تَصِحُّ نِيَّةُ
الاِقْتِدَاءِ فِي خِلاَل الصَّلاَةِ بَعْدَمَا أَحْرَمَ مُنْفَرِدًا
عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ: (الْحَنَفِيَّةِ، وَالْمَالِكِيَّةِ،
وَهُوَ رِوَايَةٌ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ) (3)
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ، وَهُوَ رِوَايَةٌ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ: يَجُوزُ
لِلَّذِي أَحْرَمَ مُنْفَرِدًا أَنْ يَجْعَل نَفْسَهُ مَأْمُومًا، بِأَنْ
__________
(1) الطحطاوي على مراقي الفلاح 1 / 157، 158، والمهذب 1 / 104، 105،
والمغني 2 / 35، 53، 54، وجواهر الإكليل 1 / 78.
(2) ابن عابدين 1 / 178، 279، 370، والطحطاوي على مراقي الفلاح 1 / 158،
والمغني 2 / 231، 3 / 93، ونهاية المحتاج 1 / 143، 2 / 200، وجواهر الإكليل
1 / 81، وكشاف القناع 1 / 87، 314.
(3) ابن عابدين 1 / 370، والشرح الصغير 1 / 449، والدسوقي 1 / 338، والمغني
2 / 231، 232.
(6/20)
تَحْضُرَ جَمَاعَةٌ فَيَنْوِيَ الدُّخُول
مَعَهُمْ بِقَلْبِهِ فِي صَلاَتِهِمْ، سَوَاءٌ أَكَانَ فِي أَوَّل
الصَّلاَةِ أَمْ قَدْ صَلَّى رَكْعَةً فَأَكْثَرَ. (1)
وَلاَ فَرْقَ فِي اشْتِرَاطِ النِّيَّةِ لِلْمَأْمُومِ بَيْنَ الْجُمُعَةِ
وَسَائِرِ الصَّلَوَاتِ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ، وَهُوَ الصَّحِيحُ عِنْدَ
الشَّافِعِيَّةِ.
وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، وَهُوَ مُقَابِل الصَّحِيحِ عِنْدَ
الشَّافِعِيَّةِ: لاَ يُشْتَرَطُ فِي الْجُمُعَةِ نِيَّةُ الاِقْتِدَاءِ
وَكَذَلِكَ الْعِيدَانِ، لأَِنَّ الْجُمُعَةَ لاَ تَصِحُّ بِدُونِ
الْجَمَاعَةِ، فَكَانَ التَّصْرِيحُ بِنِيَّةِ الْجُمُعَةِ أَوِ الْعِيدِ
مُغْنِيًا عَنِ التَّصْرِيحِ بِنِيَّةِ الْجَمَاعَةِ. (2)
وَلاَ يَجِبُ تَعْيِينُ الإِْمَامِ بِاسْمِهِ كَزَيْدٍ، أَوْ صِفَتِهِ
كَالْحَاضِرِ، أَوِ الإِْشَارَةُ إِلَيْهِ، بَل تَكْفِي نِيَّةُ
الاِقْتِدَاءِ بِالإِْمَامِ، فَإِنْ عَيَّنَهُ وَأَخْطَأَ بَطَلَتْ
صَلاَتُهُ، لِرَبْطِ صَلاَتِهِ بِمَنْ لَمْ يَنْوِ الاِقْتِدَاءَ بِهِ. (3)
هَذَا، وَلاَ يُشْتَرَطُ لِصِحَّةِ الاِقْتِدَاءِ أَنْ يَكُونَ الإِْمَامُ
قَدْ نَوَى الإِْمَامَةَ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ خِلاَفًا
لِلْحَنَابِلَةِ. وَاشْتَرَطَ الْحَنَفِيَّةُ نِيَّةَ الرَّجُل
الإِْمَامَةَ لِصِحَّةِ اقْتِدَاءِ النِّسَاءِ بِهِ. (4) وَتَفْصِيلُهُ فِي
مُصْطَلَحِ (إِمَامَة)
__________
(1) نهاية المحتاج 2 / 200 - 203 والمغني 2 / 232.
(2) الطحطاوي على مراقي الفلاح 1 / 158، والشرح الصغير 1 / 449، ونهاية
المحتاج 2 / 202، 203.
(3) ابن عابدين 1 / 282، والطحطاوي على مراقي الفلاح 1 / 158، ونهاية
المحتاج 2 / 202، 203 والدسوقي 1 / 337.
(4) ابن عابدين 1 / 370، ومراقي الفلاح بحاشية الطحطاوي ص 158، وبلغة
السالك 1 / 451، ونهاية المحتاج 2 / 204، والمغني 2 / 231.
(6/20)
ب - عَدَمُ التَّقَدُّمِ عَلَى الإِْمَامِ:
10 - يُشْتَرَطُ لِصِحَّةِ الاِقْتِدَاءِ أَلاَّ يَتَقَدَّمَ الْمُقْتَدِي
إِمَامَهُ فِي الْمَوْقِفِ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ: (الْحَنَفِيَّةِ
وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ) لِحَدِيثِ: إِنَّمَا جُعِل الإِْمَامُ
لِيُؤْتَمَّ بِهِ (1) وَالاِئْتِمَامُ الاِتِّبَاعُ، وَالْمُتَقَدِّمُ
غَيْرُ تَابِعٍ، وَلأَِنَّهُ إِذَا تَقَدَّمَ الإِْمَامَ يَشْتَبِهُ
عَلَيْهِ حَال الإِْمَامِ، وَمُحْتَاجٌ إِلَى النَّظَرِ وَرَاءَهُ فِي كُل
وَقْتٍ لِيُتَابِعَهُ، فَلاَ يُمْكِنُهُ الْمُتَابَعَةُ.
وَقَال مَالِكٌ: هَذَا لَيْسَ بِشَرْطٍ، وَيُجْزِئُهُ التَّقَدُّمُ إِذَا
أَمْكَنَهُ مُتَابَعَةُ الإِْمَامِ، لأَِنَّ الاِقْتِدَاءَ يُوجِبُ
الْمُتَابَعَةَ فِي الصَّلاَةِ، وَالْمَكَانَ لَيْسَ مِنَ الصَّلاَةِ.
لَكِنَّهُ يُنْدَبُ أَنْ يَكُونَ الإِْمَامُ مُتَقَدِّمًا عَلَى
الْمَأْمُومِ، وَيُكْرَهُ التَّقَدُّمُ عَلَى الإِْمَامِ وَمُحَاذَاتُهُ
إِلاَّ لِضَرُورَةٍ. (2)
وَالاِعْتِبَارُ فِي التَّقَدُّمِ وَعَدَمِهِ لِلْقَائِمِ بِالْعَقِبِ،
وَهُوَ مُؤَخَّرُ الْقَدَمِ لاَ الْكَعْبِ، فَلَوْ تَسَاوَيَا فِي
الْعَقِبِ وَتَقَدَّمَتْ أَصَابِعُ الْمَأْمُومِ لِطُول قَدَمِهِ لَمْ
يَضُرَّ. وَكَذَلِكَ إِذَا كَانَ الْمَأْمُومُ طَوِيلاً وَسَجَدَ قُدَّامَ
الإِْمَامِ، إِذَا لَمْ تَكُنْ عَقِبُهُ مُقَدَّمَةً عَلَى الإِْمَامِ
حَالَةَ الْقِيَامِ، صَحَّتِ الصَّلاَةُ، أَمَّا لَوْ تَقَدَّمَتْ عَقِبُهُ
وَتَأَخَّرَتْ أَصَابِعُهُ فَيَضُرُّ، لأَِنَّهُ يَسْتَلْزِمُ تَقَدُّمَ
الْمَنْكِبِ، وَالْعِبْرَةُ فِي التَّقَدُّمِ بِالأَْلْيَةِ
لِلْقَاعِدِينَ، وَبِالْجَنْبِ لِلْمُضْطَجِعِينَ. (3)
__________
(1) حديث: " إنما جعل الإمام. . . " أخرجه البخاري (2 / 173 - الفتح - ط
السلفية) ومسلم (1 / 308 - ط الحلبي) .
(2) البدائع 1 / 145، 158، 159، وابن عابدين 1 / 350، والشرح الصغير 1 /
457، والفواكه الدواني 1 / 246، ومغني المحتاج 1 / 245، وأسنى المطالب 1 /
221، 222، والمغني 2 / 214، وكشاف القناع 1 / 485 - 486.
(3) نفس المراجع السابقة.
(6/21)
11 - فَإِذَا كَانَ الْمَأْمُومُ امْرَأَةً
أَوْ أَكْثَرَ مِنْ وَاحِدٍ يَقِفُ خَلْفَ الإِْمَامِ، وَإِذَا كَانَ
وَاحِدًا ذَكَرًا - وَلَوْ صَبِيًّا - يَقِفُ عَلَى يَمِينِ الإِْمَامِ
مُسَاوِيًا لَهُ عِنْدَ الْجُمْهُورِ، وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ
وَمُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ إِلَى أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ تَأَخُّرُهُ عَنِ
الإِْمَامِ قَلِيلاً. (1)
وَصَرَّحَ الْحَنَفِيَّةُ بِأَنَّ مُحَاذَاةَ الْمَرْأَةِ لِلرِّجَال
تُفْسِدُ صَلاَتَهُمْ. يَقُول الزَّيْلَعِيُّ الْحَنَفِيُّ: فَإِنْ
حَاذَتْهُ امْرَأَةٌ مُشْتَهَاةٌ فِي صَلاَةٍ مُطْلَقَةٍ - وَهِيَ الَّتِي
لَهَا رُكُوعٌ وَسُجُودٌ - مُشْتَرَكَةٌ بَيْنَهُمَا تَحْرِيمَةٌ وَأَدَاءٌ
فِي مَكَان وَاحِدٍ بِلاَ حَائِلٍ، وَنَوَى الإِْمَامُ إِمَامَتَهَا وَقْتَ
الشُّرُوعِ بَطَلَتْ صَلاَتُهُ دُونَ صَلاَتِهَا، لِحَدِيثِ: أَخِّرُوهُنَّ
مِنْ حَيْثُ أَخَّرَهُنَّ اللَّهُ (2) وَهُوَ الْمُخَاطَبُ بِهِ دُونَهَا،
فَيَكُونُ هُوَ التَّارِكَ لِفَرْضِ الْقِيَامِ، فَتَفْسُدُ صَلاَتُهُ
دُونَ صَلاَتِهَا. (3)
وَجُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ: (الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ
وَالْحَنَابِلَةُ) يَقُولُونَ: إِنَّ مُحَاذَاةَ الْمَرْأَةِ لِلرِّجَال
لاَ تُفْسِدُ الصَّلاَةَ، وَلَكِنَّهَا تُكْرَهُ، فَلَوْ وَقَفَتْ فِي
صَفِّ الرِّجَال لَمْ تَبْطُل صَلاَةُ مَنْ يَلِيهَا وَلاَ مَنْ خَلْفَهَا
وَلاَ مَنْ أَمَامَهَا، وَلاَ صَلاَتُهَا، كَمَا لَوْ وَقَفَتْ فِي غَيْرِ
الصَّلاَةِ، وَالأَْمْرُ فِي الْحَدِيثِ بِالتَّأْخِيرِ لاَ يَقْتَضِي
الْفَسَادَ مَعَ عَدَمِهِ. (4)
هَذَا، وَفِي الصَّلاَةِ حَوْل الْكَعْبَةِ فِي الْمَسْجِدِ
__________
(1) فتح القدير 1 / 307، ومغني المحتاج 1 / 246، والزيلعي 1 / 136.
(2) حديث: " أخروهن من حيث أخرهن الله. . . " من حديث ابن مسعود موقوفا
عليه. أخرجه عبد الرزاق (3 / 149 - ط المكتب الإسلامي) وصححه ابن حجر في
الفتح (1 / 400 - ط السلفية) .
(3) الزيلعي 1 / 138، وفتح القدير 1 / 312، 313.
(4) جواهر الإكليل 1 / 79، 331، ومغني المحتاج 1 / 245، 246، وكشاف القناع
1 / 488.
(6/21)
الْحَرَامِ يُشْتَرَطُ لِصِحَّةِ
الاِقْتِدَاءِ عِنْدَ الْجُمْهُورِ عَدَمُ تَقَدُّمِ الْمَأْمُومِ عَلَى
الإِْمَامِ فِي نَفْسِ الْجِهَةِ، حَتَّى إِذَا تَقَدَّمَهُ فِي غَيْرِ
جِهَتِهِمَا لَمْ يَضُرَّ اتِّفَاقًا. (1) وَتَفْصِيل هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ
وَكَيْفِيَّةُ الصَّلاَةِ دَاخِل الْكَعْبَةِ يُرْجَعُ فِيهِ إِلَى
مُصْطَلَحَيْ: (صَلاَةُ الْجَمَاعَةِ، وَاسْتِقْبَال الْقِبْلَةِ) .
ج - أَلاَّ يَكُونَ الْمُقْتَدِي أَقْوَى حَالاً مِنَ الإِْمَامِ:
12 - يُشْتَرَطُ لِصِحَّةِ الاِقْتِدَاءِ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ
(الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ) أَلاَّ يَكُونَ
الْمُقْتَدِي أَقْوَى حَالاً مِنَ الإِْمَامِ، فَلاَ يَجُوزُ اقْتِدَاءُ
قَارِئٍ بِأُمِّيٍّ، وَلاَ مُفْتَرِضٍ بِمُتَنَفِّلٍ، وَلاَ بَالِغٍ
بِصَبِيٍّ فِي فَرْضٍ، وَلاَ قَادِرٍ عَلَى رُكُوعٍ وَسُجُودٍ بِعَاجِزٍ
عَنْهُمَا، وَكَذَلِكَ لاَ يَصِحُّ اقْتِدَاءُ سَالِمٍ بِمَعْذُورٍ، كَمَنْ
بِهِ سَلَسُ بَوْلٍ، وَلاَ مَسْتُورِ عَوْرَةٍ بِعَارٍ عِنْدَ
الْحَنَفِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، وَيُكْرَهُ ذَلِكَ عِنْدَ
الْمَالِكِيَّةِ. (2)
وَقَدْ ذَكَرَ الْحَنَفِيَّةُ فِي ذَلِكَ قَاعِدَةً فَقَالُوا: الأَْصْل
أَنَّ حَال الإِْمَامِ إِنْ كَانَ مِثْل حَال الْمُقْتَدِي أَوْ فَوْقَهُ
جَازَتْ صَلاَةُ الْكُل، وَإِنْ كَانَ دُونَ حَال الْمُقْتَدِي صَحَّتْ
صَلاَةُ الإِْمَامِ. وَلاَ تَصِحُّ صَلاَةُ الْمُقْتَدِي إِلاَّ إِذَا
كَانَ الإِْمَامُ أُمِّيًّا وَالْمُقْتَدِي قَارِئًا، أَوْ كَانَ
الإِْمَامُ أَخْرَسَ فَلاَ يَصِحُّ صَلاَةُ الإِْمَامِ أَيْضًا. (3) وَقَدْ
تَوَسَّعَ الْحَنَفِيَّةُ فِي تَطْبِيقِ هَذَا الأَْصْل عَلَى كَثِيرٍ مِنَ
__________
(1) الزيلعي 1 / 136، ومغني المحتاج 1 / 246، وقليوبي 1 / 237، 238، وكشاف
القناع 1 / 486، وبلغة السالك 1 / 457.
(2) ابن عابدين 1 / 389، والهندية 1 / 85، 86، والدسوقي 1 / 322، 329، 333،
وكشاف القناع 1 / 476، 480 - 484.
(3) الفتاوى الهندية 1 / 89.
(6/22)
الْمَسَائِل، وَوَافَقَهُمُ
الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ فِي هَذِهِ الْقَاعِدَةِ مَعَ خِلاَفٍ
وَتَفْصِيلٍ فِي بَعْضِ الْمَسَائِل. وَخَالَفَهُمُ الشَّافِعِيَّةُ فِي
أَكْثَرِ الْمَسَائِل كَمَا سَيَأْتِي بَيَانُهُ عِنْدَ الْكَلاَمِ فِي:
(اخْتِلاَفِ صِفَةِ الإِْمَامِ وَالْمُقْتَدِي) .
د - اتِّحَادُ صَلاَتَيِ الْمُقْتَدِي وَالإِْمَامِ:
13 - يُشْتَرَطُ فِي الاِقْتِدَاءِ اتِّحَادُ صَلاَتَيِ الإِْمَامِ
وَالْمَأْمُومِ سَبَبًا وَفِعْلاً وَوَصْفًا، لأَِنَّ الاِقْتِدَاءَ
بِنَاءُ التَّحْرِيمَةِ عَلَى التَّحْرِيمَةِ، فَالْمُقْتَدِي عَقَدَ
تَحْرِيمَتَهُ لَمَّا انْعَقَدَتْ لَهُ تَحْرِيمَةُ الإِْمَامِ، فَكُل مَا
تَنْعَقِدُ لَهُ تَحْرِيمَةُ الإِْمَامِ جَازَ الْبِنَاءُ عَلَيْهِ مِنَ
الْمُقْتَدِي، وَعَلَى ذَلِكَ فَلاَ تَصِحُّ ظُهْرٌ خَلْفَ عَصْرٍ أَوْ
غَيْرِهِ وَلاَ عَكْسُهُ، وَلاَ تَصِحُّ صَلاَةُ ظُهْرٍ قَضَاءً خَلْفَ
ظُهْرٍ أَدَاءً، وَلاَ ظُهْرَيْنِ مِنْ يَوْمَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ،
كَظُهْرِ يَوْمِ السَّبْتِ خَلْفَ ظُهْرِ الأَْحَدِ الْمَاضِيَيْنِ، إِذْ
لاَ بُدَّ مِنَ الاِتِّحَادِ فِي عَيْنِ الصَّلاَةِ وَصِفَتِهَا
وَزَمَنِهَا، وَهَذَا عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ: (الْحَنَفِيَّةِ
وَالْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ) وَذَلِكَ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ
السَّلَامُ: إِنَّمَا جُعِل الإِْمَامُ لِيُؤْتَمَّ بِهِ فَلاَ
تَخْتَلِفُوا عَلَيْهِ. (1)
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: مِنْ شُرُوطِ صِحَّةِ الْقُدْوَةِ تَوَافُقُ
نَظْمِ صَلاَتَيْهِمَا فِي الأَْفْعَال الظَّاهِرَةِ، وَلاَ يُشْتَرَطُ
اتِّحَادُ الصَّلاَتَيْنِ. وَعَلَى ذَلِكَ تَصِحُّ قُدْوَةُ مَنْ يُؤَدِّي
الصَّلاَةَ بِمَنْ يَقْضِيهَا، وَالْمُفْتَرِضِ بِالْمُتَنَفِّل،
وَمُؤَدِّي الظُّهْرِ بِالْعَصْرِ، وَبِالْمَعْكُوسِ. أَيْ الْقَاضِي
بِالْمُؤَدِّي، وَالْمُتَنَفِّل بِالْمُفْتَرِضِ، وَفِي الْعَصْرِ
بِالظُّهْرِ، نَظَرًا لاِتِّفَاقِ الْفِعْل فِي الصَّلاَةِ وَإِنِ
اخْتَلَفَتِ النِّيَّةُ.
__________
(1) البدائع 1 / 138، وابن عابدين 1 / 370 - 396، والهندية 1 / 85،
والدسوقي 1 / 339، وجواهر الإكليل 1 / 80، وكشاف القناع 1 / 484 - 485.
والحديث سبق تخريجه ف / 11.
(6/22)
وَكَذَا يَجُوزُ الظُّهْرُ وَالْعَصْرُ
بِالصُّبْحِ وَالْمَغْرِبِ، وَتَجُوزُ الصُّبْحُ خَلْفَ الظُّهْرِ فِي
الأَْظْهَرِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، وَلَهُ حِينَئِذٍ الْخُرُوجُ
بِنِيَّةِ الْمُفَارَقَةِ أَوِ الاِنْتِظَارِ لِيُسَلِّمَ مَعَ الإِْمَامِ
وَهُوَ الأَْفْضَل. (1) لَكِنَّ الأَْوْلَى فِيهَا الاِنْفِرَادُ.
فَإِنِ اخْتَلَفَ فِعْلُهُمَا كَمَكْتُوبَةٍ وَكُسُوفٍ أَوْ جَنَازَةٍ،
لَمْ يَصِحَّ الاِقْتِدَاءُ فِي ذَلِكَ عَلَى الصَّحِيحِ، لِمُخَالَفَتِهِ
النَّظْمَ، وَتَعَذُّرِ الْمُتَابَعَةِ مَعَهَا. (2)
أَمَّا اقْتِدَاءُ الْمُتَنَفِّل خَلْفَ الْمُفْتَرِضِ فَجَائِزٌ عِنْدَ
جَمِيعِ الْفُقَهَاءِ. (3)
هـ - عَدَمُ الْفَصْل بَيْنَ الْمُقْتَدِي وَالإِْمَامِ:
14 - يُشْتَرَطُ لِصِحَّةِ الاِقْتِدَاءِ أَلاَّ يَكُونَ بَيْنَ
الْمُقْتَدِي وَالإِْمَامِ فَاصِلٌ كَبِيرٌ.
وَهَذَا الشَّرْطُ مَحَل اتِّفَاقٍ بَيْنَ فُقَهَاءِ الْمَذَاهِبِ فِي
الْجُمْلَةِ، وَإِنِ اخْتَلَفُوا فِي بَعْضِ الْفُرُوعِ وَالتَّفَاصِيل
عَلَى النَّحْوِ التَّالِي:
بُعْدُ الْمَسَافَةِ:
15 - فَرَّقَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ بَيْنَ الْمَسْجِدِ وَغَيْرِ
الْمَسْجِدِ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِالْمَسَافَةِ بَيْنَ الإِْمَامِ
وَالْمُقْتَدِي، فَقَال الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ
وَالْحَنَابِلَةُ: إِذَا كَانَ الْمَأْمُومُ يَرَى الإِْمَامَ أَوْ مَنْ
وَرَاءَهُ، أَوْ يَسْمَعُ التَّكْبِيرَ وَهُمَا فِي مَسْجِدٍ وَاحِدٍ صَحَّ
الاِقْتِدَاءُ، وَإِنْ بَعُدَتِ
__________
(1) مغني المحتاج 1 / 253، 254، ونهاية المحتاج 2 / 205 - 207، 211.
(2) المراجع السابقة.
(3) ابن عابدين 1 / 370، والدسوقي 1 / 339، وكشاف القناع 1 / 484، ومغني
المحتاج 1 / 253.
(6/23)
الْمَسَافَةُ (1) . أَمَّا فِي خَارِجِ
الْمَسْجِدِ فَإِذَا كَانَتِ الْمَسَافَةُ قَدْرَ مَا يَسَعُ صَفَّيْنِ
فَإِنَّهَا تَمْنَعُ مِنْ صِحَّةِ الاِقْتِدَاءِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ،
إِلاَّ فِي صَلاَةِ الْعِيدَيْنِ، وَفِي صَلاَةِ الْجِنَازَةِ خِلاَفٌ
عِنْدَهُمْ. (2) وَلاَ يَمْنَعُ الاِقْتِدَاءَ بُعْدُ الْمَسَافَةِ فِي
خَارِجِ الْمَسْجِدِ إِذَا لَمْ يَزِدْ عَنْ ثَلاَثِمِائَةِ ذِرَاعٍ عِنْدَ
الشَّافِعِيَّةِ. (3) وَاشْتَرَطَ الْحَنَابِلَةُ فِي صِحَّةِ
الاِقْتِدَاءِ خَارِجَ الْمَسْجِدِ رُؤْيَةَ الْمَأْمُومِ لِلإِْمَامِ أَوْ
بَعْضِ مَنْ وَرَاءَهُ. فَلاَ يَصِحُّ الاِقْتِدَاءُ إِنْ لَمْ يَرَ
الْمَأْمُومُ أَحَدَهُمَا، وَإِنْ سَمِعَ التَّكْبِيرَ، وَمَهْمَا كَانَتِ
الْمَسَافَةُ. (4)
وَلَمْ يُفَرِّقِ الْمَالِكِيَّةُ بَيْنَ الْمَسْجِدِ وَغَيْرِهِ وَلاَ
بَيْنَ قُرْبِ الْمَسَافَةِ وَبُعْدِهَا، فَقَالُوا بِصِحَّةِ
الاِقْتِدَاءِ إِذَا أَمْكَنَ رُؤْيَةُ الإِْمَامِ أَوِ الْمَأْمُومِ أَوْ
سَمَاعُ الإِْمَامِ وَلَوْ بِمُسَمِّعٍ. (5)
وُجُودُ الْحَائِل، وَلَهُ عِدَّةُ صُوَرٍ:
16 - الأُْولَى: إِنْ كَانَ بَيْنَ الْمُقْتَدِي وَالإِْمَامِ نَهْرٌ
كَبِيرٌ تَجْرِي فِيهِ السُّفُنُ (وَلَوْ زَوْرَقًا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ)
لاَ يَصِحُّ الاِقْتِدَاءُ، وَهَذَا بِاتِّفَاقِ الْمَذَاهِبِ، وَإِنِ
اخْتَلَفُوا فِي تَحْدِيدِ النَّهْرِ الْكَبِيرِ وَالصَّغِيرِ. فَقَال
الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ: النَّهْرُ الصَّغِيرُ هُوَ مَا لاَ
تَجْرِي فِيهِ السُّفُنُ، وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: هُوَ مَا لاَ يَمْنَعُ
مِنْ سَمَاعِ الإِْمَامِ، أَوْ بَعْضِ الْمَأْمُومِينَ، أَوْ رُؤْيَةِ
فِعْل أَحَدِهِمَا. وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: هُوَ النَّهْرُ الَّذِي
يُمْكِنُ الْعُبُورُ مِنْ أَحَدِ
__________
(1) الفتاوى الهندية 1 / 88، ومغني المحتاج 1 / 248، وكشاف القناع 1 / 491.
(2) الفتاوى الهندية 1 / 87.
(3) مغني المحتاج 1 / 249.
(4) كشاف القناع 1 / 491.
(5) الدسوقي 1 / 337. والمراد بالمسمع: من يبلغ عن الإمام الحاضر، فليس منه
الائتمام بمجرد سماع صوت الإمام المنقول بالمذياع لعدم تحقق الاجتماع.
(6/23)
طَرَفَيْهِ إِلَى الآْخَرِ مِنْ غَيْرِ
سِبَاحَةٍ بِالْوُثُوبِ فَوْقَهُ، أَوِ الْمَشْيِ فِيهِ، وَفِي حُكْمِهِ
النَّهْرُ الْمُحْوِجُ إِلَى سِبَاحَةٍ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ عَلَى
الصَّحِيحِ. (1)
17 - الثَّانِيَةُ: يَمْنَعُ مِنَ الاِقْتِدَاءِ طَرِيقٌ نَافِذٌ يُمْكِنُ
أَنْ تَجْرِيَ فِيهِ عَجَلَةٌ، وَلَيْسَ فِيهِ صُفُوفٌ مُتَّصِلَةٌ عِنْدَ
الْحَنَفِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ. (2) قَال الْحَنَفِيَّةُ: لَوْ كَانَ
عَلَى الطَّرِيقِ مَأْمُومٌ وَاحِدٌ - لاَ يَثْبُتُ بِهِ الاِتِّصَال،
وَبِالثَّلاَثِ يَثْبُتُ، وَفِي الْمُثَنَّى خِلاَفٌ. (3)
وَلاَ يَضُرُّ الطَّرِيقُ إِذَا لَمْ يَمْنَعْ مِنْ سَمَاعِ الإِْمَامِ
أَوْ بَعْضِ الْمَأْمُومِينَ أَوْ رُؤْيَةِ فِعْل أَحَدِهِمَا عِنْدَ
الْمَالِكِيَّةِ، وَهُوَ الصَّحِيحُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، وَلِهَذَا
صَرَّحُوا بِجَوَازِ صَلاَةِ الْجَمَاعَةِ لأَِهْل الأَْسْوَاقِ وَإِنْ
فَرَّقَتِ الطُّرُقُ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ إِمَامِهِمْ. وَالرِّوَايَةُ
الثَّانِيَةُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ يَضُرُّ، لأَِنَّهُ قَدْ تَكْثُرُ
فِيهِ الزَّحْمَةُ فَيَعْسُرُ الاِطِّلاَعُ عَلَى أَحْوَال الإِْمَامِ. (4)
هَذَا، وَأَجَازَ أَكْثَرُ الْفُقَهَاءِ الْفَصْل بِطَرِيقٍ فِي صَلاَةِ
الْجُمُعَةِ وَالْعِيدَيْنِ وَصَلاَةِ الْخَوْفِ وَنَحْوِهَا،
وَالتَّفْصِيل فِي مَوَاضِعِهَا.
18 - الثَّالِثَةُ: صَرَّحَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ، وَهُوَ
رِوَايَةٌ عَنِ الْحَنَابِلَةِ، بِأَنَّهُ إِذَا كَانَ بَيْنَ الإِْمَامِ
وَالْمَأْمُومِ جِدَارٌ كَبِيرٌ أَوْ بَابٌ مُغْلَقٌ يَمْنَعُ
الْمُقْتَدِيَ مِنَ الْوُصُول إِلَى إِمَامِهِ لَوْ قَصَدَ الْوُصُول
إِلَيْهِ لاَ يَصِحُّ الاِقْتِدَاءُ، وَيَصِحُّ إِذَا كَانَ صَغِيرًا لاَ
يَمْنَعُ، أَوْ كَبِيرًا وَلَهُ ثُقْبٌ
__________
(1) ابن عابدين 1 / 393، وكشاف القناع 1 / 292، والدسوفي 1 / 336، ومغني
المحتاج 1 / 249.
(2) ابن عابدين 1 / 393، ومراقي الفلاح ص159، 160، وكشاف القناع 1 / 492.
(3) الهندية 1 / 87.
(4) الدسوقي 1 / 336، ومغني المحتاج 1 / 249.
(6/24)
لاَ يَشْتَبِهُ عَلَيْهِ حَال الإِْمَامِ
سَمَاعًا أَوْ رُؤْيَةً، لِمَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُصَلِّي فِي حُجْرَةِ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهَا وَالنَّاسُ فِي الْمَسْجِدِ يُصَلُّونَ بِصَلاَتِهِ (1) .
قَال الشَّافِعِيَّةُ: فَإِنْ حَال مَا يَمْنَعُ الْمُرُورَ لاَ
الرُّؤْيَةَ كَالشُّبَّاكِ أَوْ يَمْنَعُ الرُّؤْيَةَ لاَ الْمُرُورَ
كَالْبَابِ الْمَرْدُودِ فَوَجْهَانِ.
وَعَلَى هَذَا الاِقْتِدَاءُ فِي الْمَسَاكِنِ الْمُتَّصِلَةِ
بِالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَأَبْوَابِهَا مِنْ خَارِجِهِ - صَحِيحٌ، إِذَا
لَمْ يَشْتَبِهْ حَال الإِْمَامِ لِسَمَاعٍ أَوْ رُؤْيَةٍ، وَلَمْ
يَتَخَلَّل إِلاَّ الْجِدَارُ، كَمَا ذَكَرَهُ شَمْسُ الأَْئِمَّةِ فِيمَنْ
صَلَّى عَلَى سَطْحِ بَيْتِهِ الْمُتَّصِل بِالْمَسْجِدِ أَوْ فِي
مَنْزِلِهِ بِجَنْبِ الْمَسْجِدِ وَبَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمَسْجِدِ حَائِطٌ
مُقْتَدِيًا بِإِمَامٍ فِي الْمَسْجِدِ وَهُوَ يَسْمَعُ التَّكْبِيرَ مِنَ
الإِْمَامِ أَوْ مِنَ الْمُكَبِّرِ تَجُوزُ صَلاَتُهُ. وَيَصِحُّ
اقْتِدَاءُ الْوَاقِفِ عَلَى السَّطْحِ بِمَنْ هُوَ فِي الْبَيْتِ، وَلاَ
يَخْفَى عَلَيْهِ حَالُهُ. (2)
وَلَمْ يُفَرِّقِ الْمَالِكِيَّةُ، وَهُوَ رِوَايَةٌ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ
بَيْنَ مَا إِذَا كَانَ الْجِدَارُ كَبِيرًا أَوْ صَغِيرًا، فَقَالُوا
بِجَوَازِ الاِقْتِدَاءِ إِذَا لَمْ يَمْنَعْ مِنْ سَمَاعِ الإِْمَامِ أَوْ
بَعْضِ الْمَأْمُومِينَ أَوْ رُؤْيَةِ فِعْل أَحَدِهِمَا. (3)
و اتِّحَادُ الْمَكَانِ:
19 - يُشْتَرَطُ لِصِحَّةِ الاِقْتِدَاءِ أَنْ يَجْمَعَ الْمُقْتَدِي
وَالإِْمَامَ مَوْقِفٌ وَاحِدٌ، إِذْ مِنْ مَقَاصِدِ الاِقْتِدَاءِ
__________
(1) حديث: " كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي في حجرة عائشة. . . " أخرجه
البخاري (الفتح 2 / 213 - ط السلفية) .
(2) الفتاوى الهندية 1 / 87، ومراقي الفلاح ص 160، ومغني المحتاج 1 / 250،
وحاشية القليوبي 1 / 242، 244.
(3) الإنصاف 2 / 295 - 297، والدسوقي 1 / 336.
(6/24)
اجْتِمَاعُ جَمْعٍ فِي مَكَانٍ، كَمَا
عُهِدَ عَلَيْهِ الْجَمَاعَاتُ فِي الأَْعْصُرِ الْخَالِيَةِ، وَمَبْنَى
الْعِبَادَاتِ عَلَى رِعَايَةِ الاِتِّبَاعِ فَيُشْتَرَطُ لِيَظْهَرَ
الشِّعَارُ. (1) وَلِلْفُقَهَاءِ فِي تَطْبِيقِ هَذَا الشَّرْطِ تَفْصِيلٌ،
وَفِي بَعْضِ الْفُرُوعِ خِلاَفٌ كَالآْتِي:
أَوَّلاً - الأَْبْنِيَةُ الْمُخْتَلِفَةُ:
20 - تَقَدَّمَ مَا يَتَعَلَّقُ بِالأَْبْنِيَةِ الْمُنْفَصِلَةِ.
ثَانِيًا - الاِقْتِدَاءُ فِي السُّفُنِ الْمُخْتَلِفَةِ:
21 - يُشْتَرَطُ فِي الاِقْتِدَاءِ أَلاَّ يَكُونَ الْمُقْتَدِي فِي
سَفِينَةٍ وَالإِْمَامُ فِي سَفِينَةٍ أُخْرَى غَيْرِ مُقْتَرِنَةٍ بِهَا
عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، وَهُوَ الْمُخْتَارُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ،
لاِخْتِلاَفِ الْمَكَانِ، وَلَوِ اقْتَرَنَتَا صَحَّ اتِّفَاقًا،
لِلاِتِّحَادِ الْحُكْمِيِّ. وَالْمُرَادُ بِالاِقْتِرَانِ: مُمَاسَّةُ
السَّفِينَتَيْنِ، وَقِيل رَبْطُهُمَا. (2)
وَتَوَسَّعَ الْمَالِكِيَّةُ فِي جَوَازِ اقْتِدَاءِ ذَوِي سُفُنٍ
مُتَقَارِبَةٍ، وَلَمْ يَشْتَرِطُوا رَبْطَ السَّفِينَتَيْنِ، وَلاَ
الْمُمَاسَّةَ، وَلَمْ يُحَدِّدُوا الْمَسَافَةَ حَيْثُ قَالُوا: جَازَ
اقْتِدَاءُ ذَوِي سُفُنٍ مُتَقَارِبَةٍ فِي الْمَرْسَى بِإِمَامٍ وَاحِدٍ
فِي بَعْضِهَا يَسْمَعُونَ أَقْوَالَهُ أَوْ أَقْوَال مَنْ مَعَهُ فِي
سَفِينَتِهِ مِنْ مَأْمُومِينَ، أَوْ يَرَوْنَ أَفْعَالَهُ أَوْ أَفْعَال
مَنْ مَعَهُ فِي سَفِينَتِهِ مِنْ مَأْمُومِينَ. وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَتِ
السُّفُنُ سَائِرَةً عَلَى الْمَشْهُورِ، لأَِنَّ الأَْصْل السَّلاَمَةُ
مِنْ طُرُوءِ مَا يُفَرِّقُهَا مِنْ رِيحٍ أَوْ غَيْرِهِ.
لَكِنَّهُمْ نَصُّوا عَلَى اسْتِحْبَابِ أَنْ يَكُونَ الإِْمَامُ فِي
__________
(1) نهاية المحتاج 2 / 191، ومغني المحتاج 1 / 248.
(2) مراقي الفلاح ص 160، وشرح منتهى الإرادات 1 / 694.
(6/25)
السَّفِينَةِ الَّتِي تَلِي الْقِبْلَةَ.
(1)
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: لَوْ كَانَا فِي سَفِينَتَيْنِ صَحَّ اقْتِدَاءُ
أَحَدِهِمَا بِالآْخَرِ وَإِنْ لَمْ تَكُونَا مَكْشُوفَتَيْنِ، وَلَمْ
تُرْبَطْ إِحْدَاهُمَا بِالأُْخْرَى، بِشَرْطِ أَلاَّ تَزِيدَ الْمَسَافَةُ
عَلَى ثَلاَثِمِائَةِ ذِرَاعٍ، وَعَدَمِ الْحَائِل. وَالْمَاءُ بَيْنَهُمَا
كَالنَّهْرِ بَيْنَ الْمَكَانَيْنِ، (2) بِمَعْنَى أَنَّهُ يُمْكِنُ
اجْتِيَازُهُ سِبَاحَةً وَلَمْ يَشْتَرِطُوا الاِلْتِصَاقَ وَلاَ
الرَّبْطَ، خِلاَفًا لِلْحَنَفِيَّةِ، وَالْمُخْتَارِ عِنْدَ
الْحَنَابِلَةِ.
ثَالِثًا: عُلُوُّ مَوْقِفِ الْمُقْتَدِي عَلَى الإِْمَامِ أَوْ عَكْسُهُ:
22 - يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَوْقِفُ الْمَأْمُومِ عَالِيًا - وَلَوْ
بِسَطْحٍ - عَنِ الإِْمَامِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ،
وَهُوَ رَأْيُ الْمَالِكِيَّةِ فِي غَيْرِ صَلاَةِ الْجُمُعَةِ. فَصَحَّ
اقْتِدَاءُ مَنْ بِسَطْحِ الْمَسْجِدِ بِالإِْمَامِ الَّذِي يُصَلِّي
بِالْمَسْجِدِ، لإِِمْكَانِ الْمُتَابَعَةِ.
وَيُكْرَهُ أَنْ يَكُونَ مَوْقِفُ الإِْمَامِ عَالِيًا عَنْ مَوْقِفِ
الْمَأْمُومِ. (3)
وَلَمْ يُفَرِّقِ الشَّافِعِيَّةُ بَيْنَ ارْتِفَاعِ مَوْقِفِ الإِْمَامِ
وَالْمَأْمُومِ، فَشَرَطُوا فِي هَذِهِ الْحَال مُحَاذَاةَ بَعْضِ بَدَنِ
الْمَأْمُومِ بَعْضَ بَدَنِ الإِْمَامِ، وَالْعِبْرَةُ فِي ذَلِكَ
بِالطُّول الْعَادِيِّ، وَقَال النَّوَوِيُّ يُكْرَهُ ارْتِفَاعُ
الْمَأْمُومِ عَلَى إِمَامِهِ حَيْثُ أَمْكَنَ وُقُوفُهُمَا بِمُسْتَوًى
وَاحِدٍ، وَعَكْسُهُ كَذَلِكَ، إِلاَّ لِحَاجَةٍ تَتَعَلَّقُ بِالصَّلاَةِ،
كَتَبْلِيغٍ يَتَوَقَّفُ عَلَيْهِ إِسْمَاعُ الْمَأْمُومِينَ
وَتَعْلِيمُهُمْ صِفَةَ الصَّلاَةِ،
__________
(1) جواهر الإكليل 1 / 81، والدسوقي 1 / 336.
(2) القليوبي 1 / 243.
(3) ابن عابدين 1 / 394 - 395، والدسوقي 1 / 336، والمغني 2 / 206، 209.
(6/25)
فَيُسْتَحَبُّ ارْتِفَاعُهُمَا لِذَلِكَ،
تَقْدِيمًا لِمَصْلَحَةِ الصَّلاَةِ. (1)
وَهَذَا الْكَلاَمُ فِي الْبِنَاءِ وَنَحْوِهِ.
أَمَّا الْجَبَل الَّذِي يُمْكِنُ صُعُودُهُ كَالصَّفَا أَوِ الْمَرْوَةِ
أَوْ جَبَل أَبِي قُبَيْسٍ فَالْعِبْرَةُ فِيهِ بِالْمَسَافَةِ الَّتِي
سَبَقَ الْقَوْل فِيهَا وَهِيَ ثَلاَثُمِائَةِ ذِرَاعٍ.
فَالاِقْتِدَاءُ فِيهِ صَحِيحٌ وَإِنْ كَانَ الْمَأْمُومُ أَعْلَى مِنَ
الإِْمَامِ.
ز - عَدَمُ تَوَسُّطِ النِّسَاءِ بَيْنَ الإِْمَامِ وَالْمَأْمُومِ:
23 - يُشْتَرَطُ لِصِحَّةِ الاِقْتِدَاءِ عِنْدَ الْجُمْهُورِ عَدَمُ
تَوَسُّطِ النِّسَاءِ، فَإِنْ وَقَفَتِ الْمَرْأَةُ فِي صَفِّ الرَّجُل
كُرِهَ، وَلَمْ تَبْطُل صَلاَتُهَا، وَلاَ صَلاَةُ مَنْ يَلِيهَا، وَلاَ
مَنْ خَلْفَهَا. لأَِنَّهَا لَوْ وَقَفَتْ فِي غَيْرِ صَلاَةٍ لَمْ تَبْطُل
صَلاَتُهُ، فَكَذَلِكَ فِي الصَّلاَةِ، وَقَدْ ثَبَتَ أَنَّ عَائِشَةَ
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا كَانَتْ تَعْتَرِضُ بَيْنَ يَدَيْ رَسُول اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَائِمَةً وَهُوَ يُصَلِّي. وَالنَّهْيُ
لِلْكَرَاهَةِ، وَلِهَذَا لاَ تَفْسُدُ صَلاَتُهَا فَصَلاَةُ مَنْ يَلِيهَا
أَوْلَى. وَهَكَذَا إِنْ كَانَ هُنَاكَ صَفٌّ تَامٌّ مِنَ النِّسَاءِ،
فَإِنَّهُ لاَ يَمْنَعُ اقْتِدَاءَ مَنْ خَلْفَهُنَّ مِنَ الرِّجَال. (2)
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ يُشْتَرَطُ لِصِحَّةِ الاِقْتِدَاءِ
أَلاَّ يَكُونَ بَيْنَ الْمُقْتَدِي وَالإِْمَامِ صَفٌّ مِنَ النِّسَاءِ
بِلاَ حَائِلٍ قَدْرَ ذِرَاعٍ، وَبِهَذَا قَال أَبُو بَكْرٍ مِنَ
الْحَنَابِلَةِ،
__________
(1) القليوبي 1 / 243، ونهاية المحتاج 2 / 198.
(2) جواهر الإكليل 1 / 79، والدسوقي 1 / 332، ومغني المحتاج 1 / 245، 246،
والمغني لابن قدامة 2 / 204، وكشاف القناع 1 / 488 وحديث اعتراض عائشة. . .
أخرجه البخاري (الفتح 1 / 588 - ط السلفية) .
(6/26)
وَالْمُرَادُ بِالصَّفِّ عِنْدَ
الْحَنَفِيَّةِ مَا زَادَ عَلَى الثَّلاَثِ، وَفِي رِوَايَةٍ الْمُرَادُ
بِالصَّفِّ الثَّلاَثُ، وَعَلَى هَذَا قَالُوا:
(1) الْمَرْأَةُ الْوَاحِدَةُ تُفْسِدُ صَلاَةَ ثَلاَثَةٍ، وَاحِدٍ عَنْ
يَمِينِهَا وَآخَرَ عَنْ يَسَارِهَا وَآخَرَ خَلْفَهَا، وَلاَ تُفْسِدُ
أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ. (2) وَالْمَرْأَتَانِ تُفْسِدَانِ صَلاَةَ
أَرْبَعَةٍ مِنَ الرِّجَال، وَاحِدٍ عَنْ يَمِينِهِمَا، وَآخَرَ عَنْ
يَسَارِهِمَا، وَصَلاَةَ اثْنَيْنِ خَلْفَهُمَا.
(3) وَإِنْ كُنَّ ثَلاَثًا أَفْسَدْنَ صَلاَةَ وَاحِدٍ عَنْ يَمِينِهِنَّ،
وَآخَرَ عَنْ يَسَارِهِنَّ وَثَلاَثَةٍ ثَلاَثَةٍ إِلَى آخِرِ الصُّفُوفِ.
وَهَذَا جَوَابُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ.
وَفِي رِوَايَةٍ: الثَّلاَثُ كَالصَّفِّ، تُفْسِدُ صَلاَةَ كُل الصُّفُوفِ
خَلْفَهُنَّ إِلَى آخِرِ الصُّفُوفِ، لأَِنَّ الثَّلاَثَةَ جَمْعٌ كَامِلٌ.
وَفِي رِوَايَةٍ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّ الثِّنْتَيْنِ كَالثَّلاَثِ.
وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى جَعَل الثَّلاَثَ كَالاِثْنَتَيْنِ (1) .
ح - الْعِلْمُ بِانْتِقَالاَتِ الإِْمَامِ:
24 - يُشْتَرَطُ فِي الاِقْتِدَاءِ عِلْمُ الْمَأْمُومِ بِانْتِقَالاَتِ
الإِْمَامِ، بِسَمَاعٍ أَوْ رُؤْيَةٍ لِلإِْمَامِ أَوْ لِبَعْضِ
الْمُقْتَدِينَ بِهِ، لِئَلاَّ يُشْتَبَهَ عَلَى الْمُقْتَدِي حَال
الإِْمَامِ فَلاَ يَتَمَكَّنَ مِنْ مُتَابَعَتِهِ، فَلَوْ جَهِل
الْمَأْمُومُ أَفْعَال إِمَامِهِ الظَّاهِرَةَ كَالرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ،
أَوِ اشْتَبَهَتْ عَلَيْهِ لَمْ تَصِحَّ صَلاَتُهُ، لأَِنَّ الاِقْتِدَاءَ
مُتَابَعَةٌ، وَمَعَ الْجَهْل أَوِ الاِشْتِبَاهِ لاَ تُمْكِنُ
الْمُتَابَعَةُ، وَهَذَا الشَّرْطُ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ
__________
(1) الفتاوى الهندية 1 / 88، وابن عابدين 1 / 393، والزيلعي 1 / 138، 139.
(6/26)
عِنْدَ الْفُقَهَاءِ. (1)
زَادَ الْحَنَفِيَّةُ: وَكَذَا عِلْمُهُ بِحَال إِمَامِهِ مِنْ إِقَامَةٍ
أَوْ سَفَرٍ قَبْل الْفَرَاغِ أَوْ بَعْدَهُ، وَهَذَا فِيمَا لَوْ صَلَّى
الرُّبَاعِيَّةَ رَكْعَتَيْنِ فِي مِصْرٍ أَوْ قَرْيَةٍ. (2)
هَذَا، وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ الْحَنَابِلَةَ لاَ يُجَوِّزُونَ
الاِقْتِدَاءَ خَارِجَ الْمَسْجِدِ بِالسَّمَاعِ وَحْدَهُ. بَل
يَشْتَرِطُونَ فِي إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ رُؤْيَةَ الْمَأْمُومِ
لِلإِْمَامِ أَوْ بَعْضِ الْمُقْتَدِينَ بِهِ، لِقَوْل عَائِشَةَ لِنِسَاءٍ
كُنَّ يُصَلِّينَ فِي حُجْرَتِهَا: لاَ تُصَلِّينَ بِصَلاَةِ الإِْمَامِ
فَإِنَّكُنَّ دُونَهُ فِي حِجَابٍ وَلأَِنَّهُ لاَ يُمْكِنُهُ
الْمُتَابَعَةُ فِي الْغَالِبِ.
وَأَمَّا عَلَى الرِّوَايَةِ الأُْخْرَى فَالْحَنَابِلَةُ يَكْتَفُونَ
بِالْعِلْمِ بِانْتِقَالاَتِ الإِْمَامِ بِالسَّمَاعِ أَوْ بِالرُّؤْيَةِ.
(3)
ط - صِحَّةُ صَلاَةِ الإِْمَامِ:
25 - يُشْتَرَطُ لِصِحَّةِ الاِقْتِدَاءِ صِحَّةُ صَلاَةِ الإِْمَامِ،
فَلَوْ تَبَيَّنَ فَسَادُهَا لاَ يَصِحُّ الاِقْتِدَاءُ، قَال
الْحَنَفِيَّةُ: لَوْ تَبَيَّنَ فَسَادُ صَلاَةِ الإِْمَامِ، فِسْقًا
مِنْهُ، أَوْ نِسْيَانًا لِمُضِيِّ مُدَّةِ الْمَسْحِ، أَوْ لِوُجُودِ
الْحَدَثِ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ، لَمْ تَصِحَّ صَلاَةُ الْمُقْتَدِي لِعَدَمِ
صِحَّةِ الْبِنَاءِ، وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَتْ صَحِيحَةً فِي زَعْمِ
الإِْمَامِ فَاسِدَةً فِي زَعْمِ الْمُقْتَدِي لِبِنَائِهِ عَلَى
الْفَاسِدِ فِي زَعْمِهِ. (4)
وَالْمُرَادُ بِالْفِسْقِ هُنَا: الْفِسْقُ الَّذِي يُخِل بِرَكْنٍ أَوْ
شَرْطٍ فِي الصَّلاَةِ، كَأَنْ يُصَلِّيَ وَهُوَ سَكْرَانُ، أَوْ هُوَ
__________
(1) ابن عابدين 1 / 370، والدسوقي 1 / 331، والحطاب 2 / 106، ومغني المحتاج
1 / 248، ونهاية المحتاج 2 / 191، وكشاف القناع 1 / 491.
(2) ابن عابدين 1 / 370.
(3) كشاف القناع 1 / 492.
(4) ابن عابدين 1 / 370.
(6/27)
مُحْدِثٌ مُتَعَمِّدًا.
أَمَّا الْفِسْقُ فِي الْعَقِيدَةِ، أَوْ بِارْتِكَابِ الْمُحَرَّمَاتِ،
فَهِيَ مَسْأَلَةٌ خِلاَفِيَّةٌ، وَقَدْ شَدَّدَ فِيهَا الإِْمَامُ
أَحْمَدُ، وَقَال: إِنَّهُ إِذَا كَانَ دَاعِيًا إِلَى بِدْعَتِهِ،
وَعَلِمَ بِذَلِكَ الْمُقْتَدِي، فَعَلَيْهِ إِعَادَةُ الصَّلاَةِ، حَتَّى
لَوْ عَلِمَ بِذَلِكَ بَعْدَ الصَّلاَةِ، وَهَذِهِ الرِّوَايَةُ
الْمُعْتَمَدَةُ فِي الْمَذْهَبِ.
أَمَّا إِذَا كَانَ لاَ يَدْعُو إِلَى بِدْعَتِهِ، وَهُوَ مَسْتُورُ
الْحَال، فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ لاَ إِعَادَةَ عَلَى مَنِ اقْتَدَى بِهِ،
وَفِي رِوَايَةٍ: عَلَيْهِ الإِْعَادَةُ.
وَذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ الصَّلاَةَ خَلْفَ الْفَاسِقِ
مَكْرُوهَةٌ، وَلاَ إِعَادَةَ فِيهَا. لِحَدِيثِ: صَلُّوا خَلْفَ مَنْ قَال
لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ. وَلأَِنَّ ابْنَ عُمَرَ كَانَ يُصَلِّي خَلْفَ
الْحَجَّاجِ. وَأَنَّ الْحَسَنَ وَالْحُسَيْنَ كَانَا يُصَلِّيَانِ خَلْفَ
مَرْوَانَ وَوَرَاءَ الْوَلِيدِ بْنِ عُقْبَةَ. (1)
وَمِثْلُهُ مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الْمَالِكِيَّةُ حَيْثُ قَالُوا: لاَ
يَصِحُّ الاِقْتِدَاءُ بِإِمَامٍ تَبَيَّنَ فِي الصَّلاَةِ أَوْ بَعْدَهَا
أَنَّهُ كَافِرٌ، أَوِ امْرَأَةٌ، أَوْ مَجْنُونٌ، أَوْ فَاسِقٌ (عَلَى
خِلاَفٍ فِيهِ) أَوْ ظَهَرَ أَنَّهُ مُحْدِثٌ، إِنْ تَعَمَّدَ الْحَدَثَ
أَوْ عَلِمَ الْمُؤْتَمُّ بِحَدَثِهِ فِي الصَّلاَةِ أَوْ قَبْلَهَا، أَوِ
اقْتَدَى بِهِ بَعْدَ الْعِلْمِ وَلَوْ نَاسِيًا. (2)
وَكَذَا قَال الشَّافِعِيَّةُ: لاَ يَصِحُّ اقْتِدَاؤُهُ بِمَنْ يَعْلَمُ
بُطْلاَنَ صَلاَتِهِ، كَمَنْ عَلِمَ بِكُفْرِهِ أَوْ حَدَثِهِ أَوْ
نَجَاسَةِ ثَوْبِهِ، لأَِنَّهُ لَيْسَ فِي صَلاَةٍ فَكَيْفَ يَقْتَدِي
بِهِ، وَكَذَا
__________
(1) شرح الدردير 1 / 326 و327 والمغني 2 / 185 - 188. وحديث: " صلوا خلف من
قال لا إله إلا الله. . . " أخرجه الدارقطني (1 / 56 ط دار المحاسن) وضعفه
ابن حجر في التلخيص (2 / 35 ط دار المحاسن) والأثر عن ابن عمر أنه كان يصلي
خلف الحجاج. أخرجه ابن أبي شيبة (2 / 378 ط الدار السلفية) .
(2) جواهر الإكليل 1 / 78، والدسوقي 1 / 326، 327.
(6/27)
لاَ يَصِحُّ الاِقْتِدَاءُ بِإِمَامٍ
يَعْتَقِدُ الْمُقْتَدِي بُطْلاَنَ صَلاَتِهِ (1) .
وَصَرَّحَ الْحَنَابِلَةُ بِأَنَّهُ لاَ يَصِحُّ الاِقْتِدَاءُ بِكَافِرٍ
وَلَوْ بِبِدْعَةٍ مُكَفِّرَةٍ وَلَوْ أَسَرَّهُ وَجَهِل الْمَأْمُومُ
كُفْرَهُ ثُمَّ تَبَيَّنَ لَهُ. وَكَذَلِكَ مَنْ ظَنَّ كُفْرَهُ أَوْ
حَدَثَهُ، وَلَوْ بَانَ خِلاَفُ ذَلِكَ فَيُعِيدُ الْمَأْمُومُ،
لاِعْتِقَادِهِ بُطْلاَنَ صَلاَتِهِ. (2)
لَكِنَّ الْمَالِكِيَّةُ قَالُوا: لَوْ عَلِمَ الْمُقْتَدِي بِحَدَثِ
إِمَامِهِ بَعْدَ الصَّلاَةِ فَلاَ بُطْلاَنَ. (3) كَمَا أَنَّ
الْحَنَابِلَةَ صَرَّحُوا بِأَنَّهُ لَوْ صَلَّى خَلْفَ مَنْ يَعْلَمُهُ
مُسْلِمًا، فَقَال بَعْدَ الصَّلاَةِ: هُوَ كَافِرٌ، لَمْ يُؤَثِّرْ فِي
صَلاَةِ الْمَأْمُومِ لأَِنَّهَا كَانَتْ مَحْكُومًا بِصِحَّتِهَا. (4)
وَأَمَّا الإِْمَامُ فَلَوْ أَخْطَأَ أَوْ نَسِيَ لَمْ يُؤَاخَذْ بِذَلِكَ
الْمَأْمُومُ، كَمَا فِي الْبُخَارِيِّ وَغَيْرِهِ، أَنَّ النَّبِيَّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: أَئِمَّتُكُمْ يُصَلُّونَ لَكُمْ
وَلَهُمْ، فَإِنْ أَصَابُوا فَلَكُمْ وَلَهُمْ، وَإِنْ أَخْطَئُوا فَلَكُمْ
وَعَلَيْهِمْ. فَجَعَل خَطَأَ الإِْمَامِ عَلَى نَفْسِهِ دُونَهُمْ، وَقَدْ
صَلَّى عُمَرُ وَغَيْرُهُ مِنَ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ
وَهُوَ جُنُبٌ نَاسِيًا لِلْجَنَابَةِ، فَأَعَادَ وَلَمْ يَأْمُرِ
الْمَأْمُومِينَ بِالإِْعَادَةِ، وَهَذَا مَذْهَبُ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ،
كَمَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ فِي الْمَشْهُورِ عَنْهُ.
وَكَذَلِكَ لَوْ فَعَل الإِْمَامُ مَا يَسُوغُ عِنْدَهُ، وَهُوَ عِنْدَ
الْمَأْمُومِ يُبْطِل الصَّلاَةَ، مِثْل أَنْ يَفْتَصِدَ وَيُصَلِّيَ وَلاَ
يَتَوَضَّأَ، أَوْ يَمَسَّ ذَكَرَهُ، أَوْ يَتْرُكَ الْبَسْمَلَةَ، وَهُوَ
يَعْتَقِدُ أَنَّ صَلاَتَهُ تَصِحُّ مَعَ ذَلِكَ، وَالْمَأْمُومُ
يَعْتَقِدُ أَنَّهَا لاَ تَصِحُّ مَعَ ذَلِكَ، فَجُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ
عَلَى صِحَّةِ
__________
(1) مغني المحتاج 1 / 237.
(2) كشاف القناع 1 / 475، 476.
(3) حاشية الدسوقي على الشرح الكبير 1 / 327.
(4) كشاف القناع 1 / 475.
(6/28)
صَلاَةِ الْمَأْمُومِ، كَمَا هُوَ مَذْهَبُ
مَالِكٍ وَأَحْمَدَ فِي أَظْهَرِ الرِّوَايَتَيْنِ، بَل فِي أَنَصِّهِمَا
عَنْهُ. وَهُوَ أَحَدُ الْوَجْهَيْنِ فِي مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ،
اخْتَارَهُ الْقَفَّال وَغَيْرُهُ. (1)
وَاسْتَدَل الإِْمَامُ أَحْمَدُ لِهَذَا الاِتِّجَاهِ بِأَنَّ الصَّحَابَةَ
- رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ - كَانَ يُصَلِّي بَعْضُهُمْ خَلْفَ بَعْضٍ
عَلَى اخْتِلاَفِهِمْ فِي الْفُرُوعِ. وَأَنَّ الْمَسَائِل الْخِلاَفِيَّةَ
لاَ تَخْلُو إِمَّا أَنْ يُصِيبَ الْمُجْتَهِدُ فَيَكُونَ لَهُ أَجْرَانِ:
أَجْرُ اجْتِهَادِهِ وَأَجْرُ إِصَابَتِهِ، أَوْ أَنْ يُخْطِئَ فَلَهُ
أَجْرٌ وَاحِدٌ وَهُوَ أَجْرُ اجْتِهَادِهِ، وَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ فِي
الْخَطَأِ. (2)
أَحْوَال الْمُقْتَدِي:
26 - الْمُقْتَدِي إِمَّا مُدْرِكٌ، أَوْ مَسْبُوقٌ، أَوْ لاَحِقٌ،
فَالْمُدْرِكُ: مَنْ صَلَّى الرَّكَعَاتِ كَامِلَةً مَعَ الإِْمَامِ، أَيْ
أَدْرَكَ جَمِيعَ رَكَعَاتِهَا مَعَهُ، سَوَاءٌ أَأَدْرَكَ مَعَهُ
التَّحْرِيمَةَ أَوْ أَدْرَكَهُ فِي جُزْءٍ مِنْ رُكُوعِ الرَّكْعَةِ
الأُْولَى إِلَى أَنْ قَعَدَ مَعَهُ الْقَعْدَةَ الأَْخِيرَةَ، وَسَوَاءٌ
أَسَلَّمَ مَعَهُ أَمْ قَبْلَهُ (3) .
وَالْمُدْرِكُ يُتَابِعُ إِمَامَهُ فِي أَفْعَالِهِ وَأَقْوَالِهِ، إِلاَّ
فِي حَالاَتٍ خَاصَّةٍ تُذْكَرُ فِي كَيْفِيَّةِ الاِقْتِدَاءِ.
27 - وَالْمَسْبُوقُ: مَنْ سَبَقَهُ الإِْمَامُ بِكُل الرَّكَعَاتِ بِأَنِ
اقْتَدَى بِالإِْمَامِ بَعْدَ رُكُوعِ الأَْخِيرَةِ، أَوْ بِبَعْضِ
الرَّكَعَاتِ (4) . وَقَدِ اخْتَلَفُوا فِي حُكْمِهِ، فَقَال
__________
(1) مجموع فتاوى شيخ الإسلام 23 / 352، 372. وحديث: " أئمتكم يصلون لكم. .
. " أخرجه البخاري (الفتح 2 / 187 - ط السلفية) .
(2) المغني 2 / 190و191.
(3) ابن عابدين 1 / 399.
(4) كشاف القناع 1 / 461، والفتاوى الهندية 1 / 91، وابن عابدين 1 / 400.
(6/28)
أَبُو حَنِيفَةَ وَالْحَنَابِلَةُ: مَا
أَدْرَكَهُ الْمَسْبُوقُ فَهُوَ آخِرُ صَلاَتِهِ قَوْلاً وَفِعْلاً، فَإِنْ
أَدْرَكَهُ فِيمَا بَعْدَ الرَّكْعَةِ الأُْولَى كَالثَّانِيَةِ أَوِ
الثَّالِثَةِ لَمْ يَسْتَفْتِحْ، وَلَمْ يَسْتَعِذْ، وَمَا يَقْضِيهِ
فَهُوَ أَوَّل صَلاَتِهِ، يَسْتَفْتِحُ فِيهِ، وَيَتَعَوَّذُ، وَيَقْرَأُ
الْفَاتِحَةَ وَالسُّورَةَ كَالْمُنْفَرِدِ، لِمَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: مَا أَدْرَكْتُمْ فَصَلُّوا،
وَمَا فَاتَكُمْ فَاقْضُوا (1) وَالْمَقْضِيُّ هُوَ الْفَائِتُ، فَيَكُونُ
عَلَى صِفَتِهِ، لَكِنْ لَوْ أَدْرَكَ مِنْ رُبَاعِيَّةٍ أَوْ مَغْرِبٍ
رَكْعَةً، تَشَهَّدَ عَقِبَ قَضَاءِ رَكْعَةٍ أُخْرَى عِنْدَ
الْحَنَابِلَةِ كَمَا قَال بِهِ سَائِرُ الْفُقَهَاءِ، غَيْرَ أَبِي
حَنِيفَةَ، لِئَلاَّ يَلْزَمَ تَغْيِيرُ هَيْئَةِ الصَّلاَةِ، لأَِنَّهُ
لَوْ تَشَهَّدَ عَقِبَ رَكْعَتَيْنِ لَزِمَ قَطْعُ الرُّبَاعِيَّةِ عَلَى
وِتْرٍ، وَالثُّلاَثِيَّةِ شَفْعًا، وَمُرَاعَاةُ هَيْئَةِ الصَّلاَةِ
مُمْكِنَةٌ، وَقَال أَبُو حَنِيفَةَ: لَوْ أَدْرَكَهُ فِي رَكْعَةِ
الرُّبَاعِيِّ يَقْضِي رَكْعَتَيْنِ بِفَاتِحَةٍ وَسُورَةٍ ثُمَّ
يَتَشَهَّدُ، ثُمَّ يَأْتِي بِفَاتِحَةٍ خَاصَّةٍ، لِيَكُونَ الْقَضَاءُ
بِالْهَيْئَةِ الَّتِي فَاتَتْ. (2)
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: مَا أَدْرَكَهُ الْمَسْبُوقُ مَعَ الإِْمَامِ
فَهُوَ أَوَّل صَلاَتِهِ، وَمَا يَفْعَلُهُ بَعْدَ سَلاَمِ إِمَامِهِ
آخِرُهَا، لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: فَمَا
أَدْرَكْتُمْ فَصَلُّوا، وَمَا فَاتَكُمْ فَأَتِمُّوا (3) وَإِتْمَامُ
الشَّيْءِ لاَ يَكُونُ إِلاَّ بَعْدَ أَوَّلِهِ، وَعَلَى ذَلِكَ إِذَا
صَلَّى مَعَ الإِْمَامِ الرَّكْعَةَ الثَّانِيَةَ مِنَ الصُّبْحِ، وَقَنَتَ
الإِْمَامُ فِيهَا يُعِيدُ فِي الْبَاقِي الْقُنُوتَ، وَلَوْ أَدْرَكَ
رَكْعَةً مِنَ الْمَغْرِبِ مَعَ الإِْمَامِ تَشَهَّدَ فِي الثَّانِيَةِ (4)
.
__________
(1) حديث: " ما أدركتم فصلوا وما فاتكم فاقضوا. . . " أخرجه البخاري (الفتح
2 / 116 - ط السلفية) ومسلم (1 / 421 - ط الحلبي) .
(2) ابن عابدين 1 / 401، وكشاف القناع 1 / 461، 462.
(3) حديث: " فما أدركتم فصلوا. . . " أخرجه البخاري (2 / 116 - الفتح - ط
السلفية) ومسلم (1 / 427 - ط الحلبي) .
(4) مغني المحتاج 1 / 260.
(6/29)
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ، وَأَبُو يُوسُفَ
وَمُحَمَّدٌ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ، وَهُوَ الْمُعْتَمَدُ فِي الْمَذْهَبِ،
أَنَّ الْمَسْبُوقَ يَقْضِي أَوَّل صَلاَتِهِ فِي حَقِّ الْقِرَاءَةِ،
وَآخِرَهَا فِي حَقِّ التَّشَهُّدِ، فَمُدْرِكُ رَكْعَةٍ مِنْ غَيْرِ
فَجْرٍ يَأْتِي بِرَكْعَتَيْنِ بِفَاتِحَةٍ وَسُورَةٍ وَتَشَهُّدٍ
بَيْنَهُمَا، وَبِرَابِعَةِ الرُّبَاعِيِّ بِفَاتِحَةٍ فَقَطْ، وَلاَ
يَعْقِدُ قَبْلَهُمَا، فَهُوَ قَاضٍ فِي حَقِّ الْقَوْل عَمَلاً
بِرِوَايَةِ: وَمَا فَاتَكُمْ فَاقْضُوا لَكِنَّهُ بَانٍ عَلَى صَلاَتِهِ
فِي حَقِّ الْفِعْل عَمَلاً بِرِوَايَةِ: وَمَا فَاتَكُمْ فَأَتِمُّوا
وَذَلِكَ تَطْبِيقًا لِقَاعِدَةِ الأُْصُولِيِّينَ: (إِذَا أَمْكَنَ
الْجَمْعُ بَيْنَ الدَّلِيلَيْنِ جُمِعَ) فَحَمَلْنَا رِوَايَةَ
الإِْتْمَامِ عَلَى الأَْفْعَال، وَرِوَايَةَ الْقَضَاءِ عَلَى
الأَْقْوَال. (1)
28 - وَاللاَّحِقُ: هُوَ مَنْ فَاتَتْهُ الرَّكَعَاتُ كُلُّهَا أَوْ
بَعْضُهَا بَعْدَ اقْتِدَائِهِ بِعُذْرٍ، كَغَفْلَةٍ وَزَحْمَةٍ، وَسَبْقِ
حَدَثٍ وَنَحْوِهَا، أَوْ بِغَيْرِ عُذْرٍ كَأَنْ سَبَقَ إِمَامَهُ فِي
رُكُوعٍ أَوْ سُجُودٍ، كَمَا عَرَّفَهُ الْحَنَفِيَّةُ، وَهُوَ
الْمُتَخَلِّفُ عَنِ الإِْمَامِ بِرُكْنٍ أَوْ أَكْثَرَ، كَمَا عَبَّرَ
عَنْهُ غَيْرُ الْحَنَفِيَّةِ.
وَحُكْمُ اللاَّحِقِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ كَمُؤْتَمٍّ، لاَ يَأْتِي
بِقِرَاءَةٍ وَلاَ سُجُودِ سَهْوٍ، وَلاَ يَتَغَيَّرُ فَرْضُهُ بِنِيَّةِ
إِقَامَةٍ، وَيَبْدَأُ بِقَضَاءِ مَا فَاتَهُ بِعُذْرٍ، ثُمَّ يُتَابِعُ
الإِْمَامَ إِنْ لَمْ يَكُنْ قَدْ فَرَغَ، عَكْسُ الْمَسْبُوقِ. (2)
وَقَال الْجُمْهُورُ: (الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ
وَالْحَنَابِلَةُ) إِنْ تَخَلَّفَ عَنِ الإِْمَامِ بِرَكْعَةٍ فَأَكْثَرَ
بِعُذْرٍ، مِنْ نَوْمٍ أَوْ غَفْلَةٍ، تَابَعَ إِمَامَهُ فِيمَا بَقِيَ
مِنْ صَلاَتِهِ، وَيَقْضِي مَا سَبَقَهُ الإِْمَامُ بِهِ بَعْدَ سَلاَمِ
الإِْمَامِ كَالْمَسْبُوقِ، وَإِنْ تَخَلَّفَ بِرُكْنَيْنِ بِغَيْرِ عُذْرٍ
بَطَلَتْ صَلاَتُهُ عِنْدَهُمْ. وَكَذَلِكَ لَوْ تَخَلَّفَ بِرُكْنٍ
وَاحِدٍ عَمْدًا عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ،
__________
(1) ابن عابدين 1 / 401، والدسوقي 1 / 346.
(2) الفتاوى الهندية 1 / 91، وابن عابدين 1 / 400.
(6/29)
وَهُوَ رِوَايَةٌ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ،
وَلاَ تَبْطُل فِي الأَْصَحِّ عِنْدَهُمْ.
وَإِنْ تَخَلَّفَ بِرُكْنٍ أَوْ رُكْنَيْنِ لِعُذْرٍ فَإِنَّ الْمَأْمُومَ
يَفْعَل مَا سَبَقَهُ بِهِ إِمَامُهُ وَيُدْرِكُهُ إِنْ أَمْكَنَ، فَإِنْ
أَدْرَكَهُ فَلاَ شَيْءَ عَلَيْهِ، وَإِلاَّ تَبْطُل هَذِهِ الرَّكْعَةُ
فَيَتَدَارَكُهَا بَعْدَ سَلاَمِ الإِْمَامِ. (1) وَهَذَا فِي الْجُمْلَةِ،
وَفِي الْمَسْأَلَةِ تَفْصِيلٌ، وَفِي بَعْضِ الْفُرُوعِ خِلاَفٌ يُرْجَعُ
إِلَيْهِ فِي مُصْطَلَحِ (لاَحِق) .
كَيْفِيَّةُ الاِقْتِدَاءِ
أَوَّلاً - فِي أَفْعَال الصَّلاَةِ:
29 - الاِقْتِدَاءُ فِي الصَّلاَةِ هُوَ مُتَابَعَةُ الإِْمَامِ،
وَالْمُتَابَعَةُ وَاجِبَةٌ فِي الْفَرَائِضِ وَالْوَاجِبَاتِ مِنْ غَيْرِ
تَأْخِيرِ وَاجِبٍ، مَا لَمْ يُعَارِضْهَا وَاجِبٌ آخَرُ، فَإِنْ
عَارَضَهَا وَاجِبٌ آخَرُ فَلاَ يَنْبَغِي أَنْ يَفُوتَهُ، بَل يَأْتِي
بِهِ ثُمَّ يُتَابِعُهُ، لأَِنَّ الإِْتْيَانَ بِهِ لاَ يُفَوِّتُ
الْمُتَابَعَةَ بِالْكُلِّيَّةِ، وَإِنَّمَا يُؤَخِّرُهَا، وَتَأْخِيرُ
أَحَدِ الْوَاجِبَيْنِ مَعَ الإِْتْيَانِ بِهِمَا أَوْلَى مِنْ تَرْكِ
أَحَدِهِمَا بِالْكُلِّيَّةِ، بِخِلاَفِ مَا إِذَا كَانَ مَا يُعَارِضُ
الْمُتَابَعَةَ سُنَّةٌ، فَإِنَّهُ يَتْرُكُ السُّنَّةَ وَيُتَابِعُ
الإِْمَامَ بِلاَ تَأْخِيرٍ، لأَِنَّ تَرْكَ السُّنَّةِ أَوْلَى مِنْ
تَأْخِيرِ الْوَاجِبِ.
وَعَلَى ذَلِكَ فَلَوْ رَفَعَ الإِْمَامُ رَأْسَهُ مِنَ الرُّكُوعِ أَوِ
السُّجُودِ قَبْل أَنْ يُتِمَّ الْمَأْمُومُ التَّسْبِيحَاتِ الثَّلاَثَ
وَجَبَ مُتَابَعَتُهُ، وَكَذَا عَكْسُهُ. بِخِلاَفِ سَلاَمِ الإِْمَامِ
أَوْ قِيَامِهِ لِثَالِثَةٍ قَبْل إِتْمَامِ الْمَأْمُومِ التَّشَهُّدَ،
فَإِنَّهُ لاَ يُتَابِعُهُ، بَل يُتِمُّ التَّشَهُّدَ لِوُجُوبِهِ. (2)
__________
(1) جواهر الإكليل 1 / 69، 70، ومغني المحتاج 1 / 256، وكشاف القناع 1 /
466، 467، والمغني لابن قدامة 1 / 527.
(2) ابن عابدين 1 / 333.
(6/30)
هَذَا، وَمُقْتَضَى الاِقْتِدَاءِ
وَالْمُتَابَعَةِ أَلاَّ يَحْصُل فِعْلٌ مِنْ أَفْعَال الْمُقْتَدِي قَبْل
فِعْل الإِْمَامِ، وَقَدْ فَصَّل الْفُقَهَاءُ بَيْنَ الأَْفْعَال الَّتِي
يُسَبِّبُ فِيهَا سَبْقُ الْمَأْمُومِ فِعْل إِمَامِهِ أَوْ مُقَارَنَتُهُ
لَهُ بُطْلاَنَ الاِقْتِدَاءِ، وَبَيْنَ غَيْرِهَا مِنَ الأَْفْعَال،
فَقَالُوا: إِنْ تَقَدَّمَ الْمَأْمُومُ إِمَامَهُ فِي تَكْبِيرَةِ
الإِْحْرَامِ لَمْ يَصِحَّ الاِقْتِدَاءُ أَصْلاً، لِعَدَمِ صِحَّةِ
الْبِنَاءِ، وَهَذَا بِاتِّفَاقِ الْمَذَاهِبِ. (1)
وَجُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ: (الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ
وَالْحَنَابِلَةُ، وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَبِي يُوسُفَ مِنَ
الْحَنَفِيَّةِ) عَلَى أَنَّ مُقَارَنَةَ الْمَأْمُومِ لِلإِْمَامِ فِي
تَكْبِيرَةِ الإِْحْرَامِ تَضُرُّ بِالاِقْتِدَاءِ وَتُبْطِل صَلاَةَ
الْمُقْتَدِي، عَمْدًا كَانَ أَوْ سَهْوًا، لِحَدِيثِ: إِنَّمَا جُعِل
الإِْمَامُ لِيُؤْتَمَّ بِهِ، فَلاَ تَخْتَلِفُوا عَلَيْهِ، فَإِذَا
كَبَّرَ فَكَبِّرُوا، وَإِذَا رَكَعَ فَارْكَعُوا (2)
لَكِنَّ الْمَالِكِيَّةَ قَالُوا: إِنْ سَبَقَهُ الإِْمَامُ وَلَوْ
بِحَرْفٍ صَحَّتْ، إِنْ خَتَمَ الْمُقْتَدِي مَعَهُ أَوْ بَعْدَهُ، لاَ
قَبْلَهُ. (3)
وَاشْتَرَطَ الشَّافِعِيَّةُ - وَهُوَ الْمَفْهُومُ مِنْ كَلاَمِ
الْحَنَابِلَةِ - تَأَخُّرَ جَمِيعِ تَكْبِيرَةِ الْمُقْتَدِي عَنْ
تَكْبِيرَةِ الإِْمَامِ. (4)
وَلاَ تَضُرُّ مُقَارَنَةُ تَكْبِيرَةِ الْمُقْتَدِي لِتَكْبِيرِ
الإِْمَامِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، حَتَّى نُقِل عَنْهُ الْقَوْل بِأَنَّ
الْمُقَارَنَةَ هِيَ السُّنَّةُ، قَال فِي الْبَدَائِعِ: وَمِنْهَا (أَيْ
مِنْ سُنَنِ الْجَمَاعَةِ) أَنْ يُكَبِّرَ الْمُقْتَدِي مُقَارِنًا
لِتَكْبِيرِ الإِْمَامِ فَهُوَ أَفْضَل بِاتِّفَاقِ الرِّوَايَاتِ عَنْ
أَبِي حَنِيفَةَ. . لأَِنَّ
__________
(1) البدائع 1 / 200، ومغني المحتاج 1 / 258، والدسوقي 1 / 340، 341، وكشاف
القناع 1 / 465، 466.
(2) الحديث: تقدم تخريجه ف / 10.
(3) الدسوقي 1 / 340، 341.
(4) مغني المحتاج 1 / 255 - 257، وكشاف القناع1 / 465.
(6/30)
الاِقْتِدَاءَ مُشَارَكَةٌ، وَحَقِيقَةُ
الْمُشَارَكَةِ الْمُقَارَنَةُ، إِذْ بِهَا تَتَحَقَّقُ الْمُشَارَكَةُ فِي
جَمِيعِ أَجْزَاءِ الْعِبَادَةِ. (1)
وَاتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الْمُقْتَدِيَ يُتَابِعُ الإِْمَامَ
فِي السَّلاَمِ، بِأَنْ يُسَلِّمَ بَعْدَهُ، وَصَرَّحَ الْحَنَفِيَّةُ:
أَنَّهُ لَوْ سَلَّمَ الإِْمَامُ قَبْل أَنْ يَفْرُغَ الْمُقْتَدِي مِنَ
الدُّعَاءِ الَّذِي يَكُونُ بَعْدَ التَّشَهُّدِ، أَوْ قَبْل أَنْ
يُصَلِّيَ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَإِنَّهُ
يُتَابِعُ الإِْمَامَ فِي التَّسْلِيمِ. أَمَّا عِنْدَ الْجُمْهُورِ فَلَوْ
سَلَّمَ الإِْمَامُ قَبْل أَنْ يُصَلِّيَ الْمَأْمُومُ عَلَى النَّبِيِّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِنَّهُ يُصَلِّي عَلَيْهِ، ثُمَّ
يُسَلِّمُ مِنْ صَلاَتِهِ، لأَِنَّ الصَّلاَةَ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ أَرْكَانِ الصَّلاَةِ. وَلَوْ سَلَّمَ
قَبْل الإِْمَامِ سَهْوًا فَإِنَّهُ يُعِيدُ، وَيُسَلِّمُ بَعْدَهُ، وَلاَ
شَيْءَ عَلَيْهِ، أَمَّا إِنْ سَلَّمَ قَبْل الإِْمَامِ عَمْدًا فَإِنَّهُ
تَبْطُل صَلاَتُهُ عِنْدَ الْجُمْهُورِ، إِلاَّ أَنْ يَنْوِيَ
الْمُفَارَقَةَ عِنْدَ بَعْضِ الشَّافِعِيَّةِ.
أَمَّا مُقَارَنَةُ الْمُقْتَدِي لِلإِْمَامِ فِي السَّلاَمِ فَلاَ تَضُرُّ
عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ، إِلاَّ أَنَّهَا مَكْرُوهَةٌ عِنْدَ
الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، أَمَّا الْمَالِكِيَّةُ فَقَالُوا:
مُسَاوَاتُهُ لِلإِْمَامِ تُبْطِل الصَّلاَةَ. (2)
وَلاَ تَضُرُّ مُقَارَنَةُ الْمَأْمُومِ لِلإِْمَامِ فِي سَائِرِ
الأَْفْعَال، كَالرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ مَعَ الْكَرَاهَةِ أَوْ بِدُونِهَا
عَلَى خِلاَفٍ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ، فَإِنْ تَقَدَّمَهُ فِي رُكُوعٍ أَوْ
سُجُودٍ يَنْبَغِي الْبَقَاءُ فِيهِمَا حَتَّى يُدْرِكَهُ الإِْمَامُ،
وَلَوْ رَفَعَ الْمُقْتَدِي رَأْسَهُ مِنَ الرُّكُوعِ أَوِ السُّجُودِ
قَبْل الإِْمَامِ يَنْبَغِي أَنْ يَعُودَ وَلاَ يُعْتَبَرُ ذَلِكَ
رُكُوعَيْنِ أَوْ سُجُودَيْنِ اتِّفَاقًا، وَفِي الْمَسْأَلَةِ تَفْصِيلٌ
يُنْظَرُ فِي (صَلاَة) . (3)
__________
(1) البدائع 1 / 200.
(2) البدائع 1 / 200، وابن عابدين 1 / 333، ونهاية المحتاج 2 / 212 - 217،
ومغني المحتاج 1 / 255، 257، والدسوقي 1 / 341 - 342، وكشاف القناع 1 /
465.
(3) نفس المراجع.
(6/31)
ثَانِيًا - الاِقْتِدَاءُ فِي أَقْوَال
الصَّلاَةِ:
30 - لاَ يُشْتَرَطُ لِصِحَّةِ الاِقْتِدَاءِ مُتَابَعَةُ الإِْمَامِ فِي
سَائِرِ أَقْوَال الصَّلاَةِ غَيْرَ تَكْبِيرَةِ الإِْحْرَامِ
وَالسَّلاَمِ، كَالتَّشَهُّدِ وَالْقِرَاءَةِ وَالتَّسْبِيحِ، فَيَجُوزُ
فِيهَا التَّقَدُّمُ وَالتَّأَخُّرُ وَالْمُوَافَقَةُ. (1)
اخْتِلاَفُ صِفَةِ الْمُقْتَدِي وَالإِْمَامِ
:
أ - اقْتِدَاءُ الْمُتَوَضِّئِ بِالْمُتَيَمِّمِ:
31 - يَجُوزُ اقْتِدَاءُ الْمُتَوَضِّئِ بِالْمُتَيَمِّمِ عِنْدَ جُمْهُورِ
الْفُقَهَاءِ. (الْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ وَأَبِي حَنِيفَةَ
وَأَبِي يُوسُفَ) ، لِمَا وَرَدَ فِي حَدِيثِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ
أَنَّهُ بَعَثَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمِيرًا
عَلَى سَرِيَّةٍ، فَأَجْنَبَ، وَصَلَّى بِأَصْحَابِهِ بِالتَّيَمُّمِ
لِخَوْفِ الْبَرْدِ، وَعَلِمَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ فَلَمْ يَأْمُرْهُمْ بِالإِْعَادَةِ. (2)
وَاسْتَدَل الْحَنَفِيَّةُ لِلْجَوَازِ كَذَلِكَ عَلَى أَصْلِهِمْ بِأَنَّ
التَّيَمُّمَ يَرْفَعُ الْحَدَثَ مُطْلَقًا مِنْ كُل وَجْهٍ، مَا بَقِيَ
شَرْطُهُ، وَهُوَ الْعَجْزُ عَنِ اسْتِعْمَال الْمَاءِ، وَلِهَذَا تَجُوزُ
الْفَرَائِضُ الْمُتَعَدِّدَةُ بِتَيَمُّمٍ وَاحِدٍ عِنْدَهُمْ. (3)
وَكَرِهَ الْمَالِكِيَّةُ اقْتِدَاءَ الْمُتَوَضِّئِ بِالْمُتَيَمِّمِ،
كَمَا أَنَّ الْحَنَابِلَةَ صَرَّحُوا بِأَنَّ إِمَامَةَ الْمُتَوَضِّئِ
أَوْلَى مِنْ إِمَامَةِ الْمُتَيَمِّمِ، لأَِنَّ التَّيَمُّمَ لاَ يَرْفَعُ
الْحَدَثَ، بَل يُسْتَبَاحُ بِهِ
__________
(1) مغني المحتاج 1 / 163، 255، والفتاوى الهندية 1 / 90، 91، والدسوقي 1 /
341، والاختيار 1 / 50، وجواهر الإكليل 1 / 50، وكشاف القناع 1 / 465.
(2) حديث عمرو بن العاص " أنه بعثه النبي صلى الله عليه وسلم. . . ". أخرجه
أبو داود (1 / 334 ط عزت عبيد دعاس) والحاكم (1 / 177 ط دائرة المعارف
العثمانية) وقواه ابن حجر في الفتح (1 / 454 - ط السلفية) .
(3) فتح القدير 1 / 320، وابن عابدين 1 / 395، وجواهر الإكليل 1 / 26،
وكشاف القناع 1 / 474.
(6/31)
الصَّلاَةُ لِلضَّرُورَةِ. (1)
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: لاَ يَجُوزُ الاِقْتِدَاءُ بِمَنْ تَلْزَمُهُ
الإِْعَادَةُ كَمُتَيَمِّمٍ بِمُتَيَمِّمٍ، وَلَوْ كَانَ الْمُقْتَدِي
مِثْلَهُ، أَمَّا الْمُتَيَمِّمُ الَّذِي لاَ إِعَادَةَ عَلَيْهِ فَيَجُوزُ
اقْتِدَاءُ الْمُتَوَضِّئِ بِهِ، لأَِنَّهُ قَدْ أَتَى عَنْ طَهَارَتِهِ
بِبَدَلٍ مُغْنٍ عَنِ الإِْعَادَةِ. (2)
وَقَال مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ: لاَ يَصِحُّ
اقْتِدَاءُ الْمُتَوَضِّئِ بِالْمُتَيَمِّمِ مُطْلَقًا فِي غَيْرِ صَلاَةِ
الْجِنَازَةِ، لِلُزُومِ بِنَاءِ الْقَوِيِّ عَلَى الضَّعِيفِ (3) .
اقْتِدَاءُ الْغَاسِل بِالْمَاسِحِ:
32 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى جَوَازِ اقْتِدَاءِ غَاسِلٍ بِمَاسِحٍ
عَلَى خُفٍّ أَوْ جَبِيرَةٍ، لأَِنَّ الْخُفَّ مَانِعٌ سِرَايَةَ الْحَدَثِ
إِلَى الْقَدَمِ، وَمَا حَل بِالْخُفِّ يَرْفَعُهُ الْمَسْحُ، فَهُوَ بَاقٍ
عَلَى كَوْنِهِ غَاسِلاً، كَمَا عَلَّلَهُ الْحَنَفِيَّةُ، وَلأَِنَّ
صَلاَتَهُ مُغْنِيَةٌ عَنِ الإِْعَادَةِ لاِرْتِفَاعِ حَدَثِهِ، لأَِنَّ
الْمَسْحَ يَرْفَعُ الْحَدَثَ كَمَا وَجَّهَهُ الآْخَرُونَ (4) .
اقْتِدَاءُ الْمُفْتَرِضِ بِالْمُتَنَفِّل:
33 - جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ (الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ، وَهُوَ
الْمُخْتَارُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ) عَلَى عَدَمِ جَوَازِ اقْتِدَاءِ
الْمُفْتَرِضِ بِالْمُتَنَفِّل، لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ: إِنَّمَا جُعِل الإِْمَامُ لِيُؤْتَمَّ بِهِ، فَلاَ
تَخْتَلِفُوا عَلَيْهِ (5) وَلِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ: الإِْمَامُ
__________
(1) الحطاب 1 / 348، وكشاف القناع 1 / 474.
(2) مغني المحتاج 1 / 238، 240.
(3) ابن عابدين 1 / 395.
(4) ابن عابدين 1 / 396، ومغني المحتاج 1 / 240، ونهاية المحتاج 2 / 168،
والحطاب 1 / 368، جواهر الإكليل 1 / 24، وكشاف القناع 1 / 110، 484.
(5) حديث: " إنما جعل الإمام. . . " سبق تخريجه ف / 10.
(6/32)
ضَامِنٌ (1) وَمُقْتَضَى الْحَدِيثَيْنِ
أَلاَّ يَكُونَ الإِْمَامُ أَضْعَفَ حَالاً مِنَ الْمُقْتَدِي، وَلأَِنَّ
صَلاَةَ الْمَأْمُومِ لاَ تُؤَدَّى بِنِيَّةِ الإِْمَامِ، فَأَشْبَهَتْ
صَلاَةَ الْجُمُعَةِ خَلْفَ مَنْ يُصَلِّي الظُّهْرَ. (2)
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ، وَهُوَ الرِّوَايَةُ الثَّانِيَةُ عِنْدَ
الْحَنَابِلَةِ: يَصِحُّ اقْتِدَاءُ الْمُفْتَرِضِ بِالْمُتَنَفِّل
بِشَرْطِ تَوَافُقِ نَظْمِ صَلاَتَيْهِمَا، لِمَا وَرَدَ فِي
الصَّحِيحَيْنِ: أَنَّ مُعَاذًا كَانَ يُصَلِّي مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عِشَاءَ الآْخِرَةِ، ثُمَّ يَرْجِعُ إِلَى
قَوْمِهِ فَيُصَلِّي بِهِمْ تِلْكَ الصَّلاَةَ. (3)
فَإِنِ اخْتَلَفَ فِعْلُهُمَا كَمَكْتُوبَةٍ وَكُسُوفٍ أَوْ جَنَازَةٍ،
لَمْ يَصِحَّ الاِقْتِدَاءُ فِي ذَلِكَ عَلَى الصَّحِيحِ لِمُخَالِفَتِهِ
النَّظْمَ وَتَعَذُّرِ الْمُتَابَعَةِ. (4)
34 - وَيَتَفَرَّعُ عَلَى هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ اقْتِدَاءُ الْبَالِغِ
بِالصَّبِيِّ فِي الْفَرْضِ، فَإِنَّهُ لاَ يَجُوزُ عِنْدَ جُمْهُورِ
الْفُقَهَاءِ (الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ) (5)
لِقَوْل الشَّعْبِيِّ: لاَ يَؤُمُّ الْغُلاَمُ حَتَّى يَحْتَلِمَ.
وَلأَِنَّهُ لاَ يُؤْمَنُ مِنَ الصَّبِيِّ الإِْخْلاَل بِشَرْطٍ مِنْ
شَرَائِطِ الصَّلاَةِ. (6)
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: يَصِحُّ اقْتِدَاءُ الْبَالِغِ الْحُرِّ
بِالصَّبِيِّ
__________
(1) حديث: " الإمام ضامن. . . " أخرجه أبو داود (1 / 356 ط عزت عبيد دعاس)
وصححه المناوي في الفيض (3 / 182 ط المكتبة التجارية) .
(2) فتح القدير 1 / 324، 325، والدسوقي 1 / 329، وجواهر الإكليل 1 / 76،
وكشاف القناع 1 / 484، والمغني لابن قدامة 2 / 226.
(3) حديث: " أن معاذا كان يصلي مع النبي الله صلى الله عليه وسلم عشاء
الآخرة. . . " أخرجه البخاري (2 / 192 - الفتح - ط السلفية) .
(4) مغني المحتاج 1 / 253، 254، ونهاية المحتاج 2 / 168، والمغني لابن
قدامة 2 / 226.
(5) الزيلعي 1 / 140، وفتح القدير 1 / 310، 311، والدسوقي 1 / 329، والمغني
لابن قدامة 1 / 228، وكشاف القناع 1 / 480.
(6) قول الشعبي: " لا يؤم الغلام حتى يحتلم. . . " أخرجه ابن أبي شيبة (1 /
349 - ط السلفية) .
(6/32)
الْمُمَيِّزِ، وَلَوْ كَانَتِ الصَّلاَةُ
فَرْضًا، لِلاِعْتِدَادِ بِصَلاَتِهِ (1) ، لأَِنَّ عَمْرَو بْنَ سَلَمَةَ
" كَانَ يَؤُمُّ قَوْمَهُ عَلَى عَهْدِ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ ابْنُ سِتِّ أَوْ سَبْعِ سِنِينَ (2) .
لَكِنَّهُمْ صَرَّحُوا بِكَرَاهَةِ الاِقْتِدَاءِ بِالصَّبِيِّ
الْمُمَيِّزِ.
هَذَا فِي صَلاَةِ الْفَرِيضَةِ، أَمَّا فِي النَّافِلَةِ فَجَازَ
اقْتِدَاءُ الْبَالِغِ بِالصَّبِيِّ عِنْدَ بَعْضِ الْحَنَفِيَّةِ، وَهُوَ
الْمَشْهُورُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ، وَرِوَايَةٌ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ.
وَفِي الْمُخْتَارِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، وَرِوَايَةٌ عِنْدَ
الْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ: لاَ يَجُوزُ لأَِنَّ نَفْل الصَّغِيرِ
دُونَ نَفْل الْبَالِغِ، حَيْثُ لاَ يَلْزَمُهُ الْقَضَاءُ بِالإِْفْسَادِ،
وَلاَ يُبْنَى الْقَوِيُّ عَلَى الضَّعِيفِ، كَمَا عَلَّلَهُ
الْحَنَفِيَّةُ. (3) .
اقْتِدَاءُ الْمُفْتَرِضِ بِمَنْ يُصَلِّي فَرْضًا آخَرَ:
35 - جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ (الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ
وَالْحَنَابِلَةُ) عَلَى أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ اقْتِدَاءُ مُفْتَرِضٍ بِمَنْ
يُصَلِّي فَرْضًا آخَرَ غَيْرَ فَرْضِ الْمَأْمُومِ، فَلاَ يَصِحُّ
اقْتِدَاءُ مَنْ يُصَلِّي ظُهْرًا خَلْفَ مَنْ يُصَلِّي عَصْرًا أَوْ
غَيْرَهُ، وَلاَ عَكْسُهُ، وَلاَ اقْتِدَاءُ مَنْ يُصَلِّي أَدَاءً بِمَنْ
يُصَلِّي قَضَاءً، لأَِنَّ الاِقْتِدَاءَ بِنَاءُ تَحْرِيمَةِ الْمُقْتَدِي
عَلَى تَحْرِيمَةِ الإِْمَامِ، وَهَذَا يَقْتَضِي اتِّحَادَ
صَلاَتَيْهِمَا، كَمَا سَبَقَ فِي شُرُوطِ الاِقْتِدَاءِ.
وَيَجُوزُ ذَلِكَ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ إِذَا تَوَافَقَ نَظْمُ
صَلاَتَيْهِمَا فِي الأَْفْعَال الظَّاهِرَةِ، فَيَصِحُّ اقْتِدَاءُ مَنْ
يُصَلِّي فَرْضًا مِنْ الأَْوْقَاتِ الْخَمْسَةِ بِمَنْ يُصَلِّي فَرْضًا
__________
(1) نهاية المحتاج 2 / 168.
(2) حديث: " كان عمرو بن سلمة يؤم قومه. . . . " أخرجه البخاري (8 / 22
الفتح - ط السلفية) .
(3) الزيلعي 1 / 140، والدسوقي 1 / 339، والمغني لابن قدامة 1 / 229.
(6/33)
آخَرَ مِنْهُمَا أَدَاءً وَقَضَاءً، مَعَ
تَفْصِيلٍ ذُكِرَ فِي مَوْضِعِهِ (1) .
اقْتِدَاءُ الْمُقِيمِ بِالْمُسَافِرِ وَعَكْسُهُ:
36 - يَجُوزُ اقْتِدَاءُ الْمُقِيمِ بِالْمُسَافِرِ فِي الْوَقْتِ
وَخَارِجَ الْوَقْتِ بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ، فَإِذَا أَتَمَّ الإِْمَامُ
الْمُسَافِرُ صَلاَتَهُ يَقُول لِلْمُصَلِّينَ خَلْفَهُ: أَتِمُّوا
صَلاَتَكُمْ فَإِنِّي مُسَافِرٌ. فَيَقُومُ الْمُقْتَدِي الْمُقِيمُ
لِيُكْمِل صَلاَتَهُ. وَيُعْتَبَرُ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ كَالْمَسْبُوقِ
عِنْدَ أَكْثَرِ الْفُقَهَاءِ.
كَذَلِكَ يَجُوزُ اقْتِدَاءُ الْمُسَافِرِ بِالْمُقِيمِ فِي الْوَقْتِ
بِلاَ خِلاَفٍ، وَحِينَئِذٍ يَجِبُ عَلَيْهِ إِتْمَامُ صَلاَتِهِ أَرْبَعًا
مُتَابَعَةً لِلإِْمَامِ. (2) أَمَّا اقْتِدَاءُ الْمُسَافِرِ بِالْمُقِيمِ
خَارِجَ الْوَقْتِ فَلاَ يَجُوزُ فِي صَلاَةٍ رُبَاعِيَّةٍ عِنْدَ
الْحَنَفِيَّةِ، لأَِنَّ الْمُسَافِرَ بَعْدَ فَوَاتِ الْوَقْتِ تَقَرَّرَ
أَنَّ فَرْضَهُ رَكْعَتَانِ فَيَكُونُ اقْتِدَاءُ مُفْتَرِضٍ بِمُتَنَفِّلٍ
فِي حَقِّ قَعْدَةٍ أَوْ قِرَاءَةٍ بِاقْتِدَائِهِ فِي شَفْعٍ أَوَّلٍ أَوْ
ثَانٍ. (3)
اقْتِدَاءُ السَّلِيمِ بِالْمَعْذُورِ:
37 - يَرَى جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ: (الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ،
وَمُقَابِل الأَْصَحِّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ) أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ
اقْتِدَاءُ السَّلِيمِ بِالْمَعْذُورِ، كَمَنْ بِهِ سَلَسُ الْبَوْل،
وَاسْتِطْلاَقُ الْبَطْنِ، وَانْفِلاَتُ الرِّيحِ، وَكَذَا الْجُرْحُ
السَّائِل، وَالرُّعَافُ، وَالْمُسْتَحَاضَةُ، لأَِنَّ أَصْحَابَ
الأَْعْذَارِ
__________
(1) فتح القدير 1 / 224، وابن عابدين 1 / 0 39، والدسوقي 1 / 333، 339،
وجواهر الإكليل 1 / 80، وكشاف القناع 1 / 485، والمغني لابن قدامة 2 / 227،
ومغني المحتاج 1 / 252، ونهاية المحتاج 2 / 205، 207.
(2) الفتاوى الهندية 1 / 85، وجواهر الإكليل 1 / 87 - 90، وكشاف القناع 1 /
474، ومغني المحتاج 1 / 269.
(3) ابن عابدين 1 / 391.
(6/33)
يُصَلُّونَ مَعَ الْحَدَثِ حَقِيقَةً،
لَكِنْ جُعِل الْحَدَثُ الْمَوْجُودُ فِي حَقِّهِمْ كَالْمَعْدُومِ،
لِلْحَاجَةِ إِلَى الأَْدَاءِ فَلاَ يَتَعَدَّاهُمْ، لأَِنَّ الضَّرُورَةَ
تُقَدَّرُ بِقَدْرِهَا، وَلأَِنَّ الصَّحِيحَ أَقْوَى حَالاً مِنَ
الْمَعْذُورِ، وَلاَ يَجُوزُ بِنَاءُ الْقَوِيِّ عَلَى الضَّعِيفِ،
وَلأَِنَّ الإِْمَامَ ضَامِنٌ، بِمَعْنَى أَنَّهُ تَضْمَنُ صَلاَتُهُ
صَلاَةَ الْمُقْتَدِي، وَالشَّيْءُ لاَ يَتَضَمَّنُ مَا هُوَ فَوْقَهُ. (1)
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ فِي الأَْصَحِّ: يَصِحُّ اقْتِدَاءُ السَّلِيمِ
بِصَاحِبِ السَّلَسِ، وَالطَّاهِرَةِ بِالْمُسْتَحَاضَةِ غَيْرِ
الْمُتَحَيِّرَةِ، لِصِحَّةِ صَلاَتِهِمْ مِنْ غَيْرِ إِعَادَةٍ. (2)
وَجَوَازُ اقْتِدَاءِ السَّلِيمِ بِالْمَعْذُورِ هُوَ قَوْل
الْمَالِكِيَّةِ فِي الْمَشْهُورِ، لأَِنَّهُ إِذَا عُفِيَ عَنِ
الأَْعْذَارِ فِي حَقِّ صَاحِبِهَا عُفِيَ عَنْهَا فِي حَقِّ غَيْرِهِ.
لَكِنَّهُمْ صَرَّحُوا بِكَرَاهَةِ إِمَامَةِ أَصْحَابِ الأَْعْذَارِ
لِلأَْصِحَّاءِ. (3)
وَقَدْ نَقَل فِي التَّاجِ وَالإِْكْلِيل عَنِ الْمَالِكِيَّةِ فِي جَوَازِ
أَوْ عَدَمِ جَوَازِ اقْتِدَاءِ السَّلِيمِ بِالْمَعْذُورِ قَوْلَيْنِ.
وَاسْتَدَل لِلْجَوَازِ بِأَنَّ عُمَرَ كَانَ إِمَامًا وَأَخْبَرَ أَنَّهُ
يَجِدُ ذَلِكَ (أَيْ سَلَسَ الْمَذْيِ) وَلاَ يَنْصَرِفُ (4)
وَيَجُوزُ اقْتِدَاءُ صَاحِبِ الْعُذْرِ بِمِثْلِهِ مُطْلَقًا، أَيْ وَلَوْ
اخْتَلَفَ الْعُذْرُ، أَوْ إِنْ اتَّحَدَ عُذْرُهُمَا عَلَى تَفْصِيلٍ
يُذْكَرُ فِي مُصْطَلَحِ (عُذْر) . .
اقْتِدَاءُ الْمُكْتَسِي بِالْعَارِي:
38 - صَرَّحَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ (الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ
__________
(1) فتح القدير 1 / 318، والزيلعي 1 / 140، والفتاوى الهندية 1 / 84، ومغني
المحتاج 1 / 241، وكشاف القناع 1 / 476، والمغني لابن قدامة 2 / 225.
(2) مغني المحتاج 1 / 241.
(3) جواهر الإكليل 1 / 78، والدسوقي 1 / 330.
(4) التاج والإكليل بهامش الحطاب 2 / 104.
(6/34)
وَالْحَنَابِلَةُ، وَهُوَ مُقَابِل
الأَْصَحِّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ) بِعَدَمِ صِحَّةِ اقْتِدَاءِ
الْمُكْتَسِي (أَيْ مَسْتُورِ الْعَوْرَةِ) بِالْعَارِي، لأَِنَّ
الْمُقْتَدِيَ أَقْوَى حَالاً مِنَ الإِْمَامِ، فَيَلْزَمُ اقْتِدَاءُ
الْقَوِيِّ بِالضَّعِيفِ.
وَلأَِنَّهُ تَارِكٌ لِشَرْطٍ يَقْدِرُ عَلَيْهِ الْمَأْمُومُ، فَأَشْبَهَ
اقْتِدَاءَ الْمُعَافَى بِمَنْ بِهِ سَلَسُ الْبَوْل. (1)
حَتَّى إِنَّ الْمَالِكِيَّةَ قَالُوا: إِنْ وَجَدُوا ثَوْبًا صَلَّوْا
بِهِ أَفْذَاذًا لاَ يَؤُمُّهُمْ بِهِ أَحَدٌ. (2)
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ فِي الأَْصَحِّ إِلَى جَوَازِ اقْتِدَاءِ
الْمَسْتُورِ بِالْعَارِي، بِنَاءً عَلَى أَصْلِهِمْ فِي جَوَازِ
اقْتِدَاءِ السَّلِيمِ بِالْمَعْذُورِ. (3)
أَمَّا اقْتِدَاءُ الْعَارِي بِالْعَارِي فَيَجُوزُ عِنْدَ عَامَّةِ
الْفُقَهَاءِ، إِلاَّ أَنَّ الْمَالِكِيَّةَ قَيَّدُوا الْجَوَازَ بِمَا
إِنْ اجْتَمَعُوا بِظَلاَمٍ، وَإِلاَّ تَفَرَّقُوا وَصَلَّوْا أَفْذَاذًا
مُتَبَاعِدِينَ. (4)
اقْتِدَاءُ الْقَارِئِ بِالأُْمِّيِّ:
39 - لاَ يَجُوزُ اقْتِدَاءُ الْقَارِئِ بِالأُْمِّيِّ عِنْدَ جُمْهُورِ
الْفُقَهَاءِ (الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ،
وَالْجَدِيدُ مِنْ مَذْهَبِ الشَّافِعِيَّةِ) لأَِنَّ الإِْمَامَ ضَامِنٌ
وَيَتَحَمَّل الْقِرَاءَةَ عَنِ الْمَأْمُومِ، وَلاَ يُمْكِنُ ذَلِكَ فِي
الأُْمِّيِّ، لِعَدَمِ قُدْرَتِهِ عَلَى الْقِرَاءَةِ، وَلأَِنَّهُمَا
تَارِكَانِ لِشَرْطٍ يَقْدِرَانِ عَلَيْهِ بِتَقْدِيمِ الْقَارِئِ،
وَالْمُرَادُ بِالأُْمِّيِّ هُنَا عِنْدَ الْفُقَهَاءِ: مَنْ لاَ يُحْسِنُ
الْقِرَاءَةَ الَّتِي تَتَوَقَّفُ عَلَيْهَا الصَّلاَةُ.
وَيَجُوزُ اقْتِدَاءُ الْقَارِئِ بِالأُْمِّيِّ فِي الْقَدِيمِ مِنْ
__________
(1) ابن عابدين 1 / 370. والمغني لابن قدامة 2 / 225.
(2) المواق على هامش الحطاب 1 / 507.
(3) مغني المحتاج 1 / 241.
(4) نفس المراجع.
(6/34)
مَذْهَبِ الشَّافِعِيَّةِ، فِي الصَّلاَةِ
السِّرِّيَّةِ دُونَ الْجَهْرِيَّةِ، وَذَهَبَ الْمُزَنِيُّ إِلَى صِحَّةِ
الاِقْتِدَاءِ بِهِ مُطْلَقًا. (1)
وَجُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ عَلَى بُطْلاَنِ صَلاَةِ الْقَارِئِ إِذَا
اقْتَدَى بِالأُْمِّيِّ، لِعَدَمِ صِحَّةِ بِنَاءِ صَلاَتِهِ عَلَى صَلاَةِ
الأُْمِّيِّ، كَذَلِكَ تَبْطُل صَلاَةُ الأُْمِّيِّ الَّذِي أَمَّ
الْقَارِئَ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ فِي
الْجَدِيدِ لِفَقْدِ شَرْطٍ يَقْدِرَانِ عَلَيْهِ. (2)
أَمَّا الْحَنَابِلَةُ فَقَدْ فَصَّلُوا فِي الْمَوْضُوعِ فَقَالُوا: إِنْ
أَمَّ أُمِّيٌّ أُمِّيًّا وَقَارِئًا، فَإِنْ كَانَا عَنْ يَمِينِهِ، أَوْ
كَانَ الأُْمِّيُّ عَنْ يَمِينِهِ وَالْقَارِئُ عَنْ يَسَارِهِ صَحَّتْ
صَلاَةُ الإِْمَامِ وَالأُْمِّيِّ الْمَأْمُومِ، وَبَطَلَتْ صَلاَةُ
الْقَارِئِ لاِقْتِدَائِهِ بِأُمِّيٍّ. وَإِنْ كَانَا خَلْفَهُ، أَوِ
الْقَارِئُ وَحْدَهُ عَنْ يَمِينِهِ، وَالأُْمِّيُّ عَنْ يَسَارِهِ
فَسَدَتْ صَلاَةُ الْقَارِئِ لاِقْتِدَائِهِ بِالأُْمِّيِّ، وَتَبْطُل
صَلاَةُ الأُْمِّيِّ الْمَأْمُومِ (3) لِكَوْنِهِ فَذًّا خَلْفَ الإِْمَامِ
أَوْ عَنْ يَسَارِهِ، وَذَلِكَ مُبْطِلٌ لِلصَّلاَةِ عِنْدَهُمْ.
هَذَا، وَيَجُوزُ اقْتِدَاءُ الأُْمِّيِّ بِمِثْلِهِ بِلاَ خِلاَفٍ عِنْدَ
الْفُقَهَاءِ (4) .
اقْتِدَاءُ الْقَادِرِ بِالْعَاجِزِ عَنْ رُكْنٍ:
40 - لاَ يَجُوزُ اقْتِدَاءُ مَنْ يَقْدِرُ عَلَى رُكْنٍ، كَالرُّكُوعِ
أَوِ السُّجُودِ أَوِ الْقِيَامِ، بِمَنْ لاَ يَقْدِرُ عَلَيْهِ عِنْدَ
الْمَالِكِيَّةِ
__________
(1) فتح القدير 1 / 319، والدسوقي 1 / 328، وجواهر الإكليل 1 / 78، وكشاف
القناع 1 / 481، ومغني المحتاج 1 / 239، 242.
(2) المراجع السابقة.
(3) كشاف القناع 1 / 481.
(4) نفس المراجع.
(6/35)
وَالْحَنَابِلَةِ، وَهُوَ قَوْل مُحَمَّدٍ
مِنَ الْحَنَفِيَّةِ، لأَِنَّ الإِْمَامَ عَجَزَ عَنْ رُكْنٍ مِنْ
أَرْكَانِ الصَّلاَةِ فَلَمْ يَصِحَّ الاِقْتِدَاءُ بِهِ كَالْعَاجِزِ عَنِ
الْقِرَاءَةِ إِلاَّ بِمِثْلِهِ، وَلِعَدَمِ جَوَازِ اقْتِدَاءِ الْقَوِيِّ
بِالضَّعِيفِ كَمَا مَرَّ، إِلاَّ أَنَّ الْحَنَابِلَةَ اسْتَثْنَوْا
إِمَامَ الْحَيِّ الْمَرْجُوَّ زَوَال عِلَّتِهِ، وَفِي هَذِهِ الْحَالَةِ
يَصِحُّ أَنْ يُصَلِّيَ الْمُقْتَدِرُونَ وَرَاءَهُ جُلُوسًا أَوْ قِيَامًا
عِنْدَهُمْ. (1)
وَيَجُوزُ اقْتِدَاءُ قَائِمٍ بِقَاعِدٍ يَرْكَعُ وَيَسْجُدُ عِنْدَ أَبِي
حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ، وَجَازَ ذَلِكَ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَلَوْ
لَمْ يَكُنِ الْقَاعِدُ قَادِرًا عَلَى الرُّكُوعِ أَوِ السُّجُودِ، (2)
لِحَدِيثِ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَّى آخِرَ صَلاَتِهِ قَاعِدًا وَالْقَوْمُ
خَلْفَهُ قِيَامٌ. (3)
وَاخْتَلَفُوا فِي اقْتِدَاءِ الْمُسْتَوِي خَلْفَ الأَْحْدَبِ، فَقَال
الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ بِجَوَازِهِ، وَقَيَّدَهُ بَعْضُ
الْحَنَفِيَّةِ بِأَلاَّ تَبْلُغَ حَدَبَتُهُ حَدَّ الرُّكُوعِ،
وَيُمَيَّزُ قِيَامُهُ عَنْ رُكُوعِهِ، وَقَال الْمَالِكِيَّةُ بِجَوَازِهِ
مَعَ الْكَرَاهَةِ، وَمَنَعَهُ الْحَنَابِلَةُ مُطْلَقًا.
أَمَّا إِذَا كَانَ الإِْمَامُ يُصَلِّي بِالإِْيمَاءِ فَلاَ يَجُوزُ
اقْتِدَاءُ الْقَائِمِ أَوِ الرَّاكِعِ أَوِ السَّاجِدِ خَلْفَهُ عِنْدَ
الْجُمْهُورِ (الْحَنَفِيَّةِ عَدَا زُفَرَ، وَالْمَالِكِيَّةِ
وَالْحَنَابِلَةِ) خِلاَفًا لِلشَّافِعِيَّةِ الَّذِينَ قَاسُوا
الْمُضْطَجِعَ وَالْمُسْتَلْقِيَ عَلَى الْقَاعِدِ.
__________
(1) الدسوقي 1 / 328، والحطاب 2 / 197، وجواهر الإكليل 1 / 78، وكشاف
القناع 1 / 477، والمغني 2 / 223، وابن عابدين 1 / 396.
(2) الهداية مع الفتح 1 / 321، وابن عابدين 1 / 396، ومغني المحتاج 1 /
240.
(3) حديث عائشة: " أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى آخر صلاته. . . " أخرجه
البخاري (2 / 166 - الفتح ط السلفية) .
(6/35)
وَيَجُوزُ اقْتِدَاءُ الْمُومِئِ
بِمِثْلِهِ عِنْدَ الْجُمْهُورِ خِلاَفًا لِلْمَالِكِيَّةِ فِي
الْمَشْهُورِ، لأَِنَّ الإِْيمَاءَ لاَ يَنْضَبِطُ، فَقَدْ يَكُونُ
إِيمَاءُ الْمَأْمُومِ أَخْفَضَ مِنْ إِيمَاءِ الإِْمَامِ، وَقَدْ
يَسْبِقُهُ الْمَأْمُومُ فِي الإِْيمَاءِ، وَهَذَا يَضُرُّ. (1)
الاِقْتِدَاءُ بِالْفَاسِقِ:
41 - الْفَاسِقُ: مَنْ فَعَل كَبِيرَةً، أَوْ دَاوَمَ عَلَى صَغِيرَةٍ (2)
. وَقَدْ صَرَّحَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ بِجَوَازِ
الاِقْتِدَاءِ بِالْفَاسِقِ مَعَ الْكَرَاهَةِ، أَمَّا الْجَوَازُ فَلِمَا
وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ: صَلُّوا خَلْفَ كُل بَرٍّ وَفَاجِرٍ (3) ، وَلِمَا
رَوَاهُ الشَّيْخَانِ أَنَّ ابْنَ عُمَرَ " كَانَ يُصَلِّي خَلْفَ
الْحَجَّاجِ عَلَى ظُلْمِهِ (4) . وَأَمَّا الْكَرَاهَةُ فَلِعَدَمِ
الْوُثُوقِ بِهِ فِي الْمُحَافَظَةِ عَلَى الشُّرُوطِ (5) .
وَقَال الْحَنَابِلَةُ - وَهُوَ رِوَايَةٌ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ -: لاَ
تَصِحُّ إِمَامَةُ فَاسِقٍ بِفِعْلٍ، كَزَانٍ وَسَارِقٍ وَشَارِبِ خَمْرٍ
وَنَمَّامٍ وَنَحْوِهِ، أَوِ اعْتِقَادٍ، كَخَارِجِيٍّ أَوْ رَافِضِيٍّ
وَلَوْ كَانَ مَسْتُورًا. لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِنًا
__________
(1) فتح القدير 1 / 220، وابن عابدين 1 / 396، والدسوقي 1 / 328، ومغني
المحتاج 1 / 340، والمغني لابن قدامة 2 / 223، 224، وكشاف القناع 1 / 476،
477.
(2) ابن عابدين 1 / 376، وقليوبي 3 / 227، وكشاف القناع 1 / 475.
(3) حديث: " صلوا خلف كل بر وفاجر " أخرجه أبو داود (1 / 398 - ط عزت عبيد
دعاس) والدارقطني (2 / 56 - دار المحاسن) واللفظ له وأعله ابن حجر
بالانقطاع (التلخيص 2 / 35 - دار المحاسن) .
(4) حديث أن ابن عمر كان يصلي خلف الحجاج. . . أخرجه ابن أبي شيبة (2 / 378
- ط السلفية) .
(5) الفتاوى الهندية 1 / 85، وابن عابدين 1 / 376، ونهاية المحتاج 2 / 174.
(6/36)
كَمَنْ كَانَ فَاسِقًا لاَ يَسْتَوُونَ}
(1) ، وَلِمَا رُوِيَ عَنْ جَابِرٍ مَرْفُوعًا: لاَ تَؤُمَّنَّ امْرَأَةٌ
رَجُلاً، وَلاَ أَعْرَابِيٌّ مُهَاجِرًا، وَلاَ فَاجِرٌ مُؤْمِنًا إِلاَّ
أَنْ يَقْهَرَهُ بِسُلْطَانٍ يَخَافُ سَوْطَهُ وَسَيْفَهُ (2) .
وَفَصَّل الْمَالِكِيَّةُ فِي الرِّوَايَةِ الأُْخْرَى الْمُعْتَمَدَةِ
بَيْنَ الْفَاسِقِ بِجَارِحَةٍ كَزَانٍ وَشَارِبِ خَمْرٍ، وَبَيْنَ مَنْ
يَتَعَلَّقُ فِسْقُهُ بِالصَّلاَةِ، كَأَنْ يَقْصِدَ بِتَقَدُّمِهِ
الْكِبْرَ، أَوْ يُخِل بِرُكْنٍ أَوْ شَرْطٍ، أَوْ سُنَّةٍ عَمْدًا،
فَقَالُوا بِجَوَازِ الاِقْتِدَاءِ بِالأَْوَّل دُونَ الثَّانِي. (3)
وَهَذَا كُلُّهُ فِي الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ، أَمَّا فِي الْجُمَعِ
وَالأَْعْيَادِ فَيَجُوزُ الاِقْتِدَاءُ بِالْفَاسِقِ اتِّفَاقًا،
لأَِنَّهُمَا يَخْتَصَّانِ بِإِمَامٍ وَاحِدٍ، فَالْمَنْعُ مِنْهُمَا
خَلْفَهُ يُؤَدِّي إِلَى تَفْوِيتِهِمَا دُونَ سَائِرِ الصَّلَوَاتِ (4) .
.
الاِقْتِدَاءُ بِالأَْعْمَى وَالأَْصَمِّ وَالأَْخْرَسِ:
42 - لاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي صِحَّةِ الاِقْتِدَاءِ
بِالأَْعْمَى وَالأَْصَمِّ، لأَِنَّ الْعَمَى وَالصَّمَمَ لاَ يُخِلاَّنِ
بِشَيْءٍ مِنْ أَفْعَال الصَّلاَةِ، وَلاَ بِشُرُوطِهَا. لَكِنَّ
الْحَنَفِيَّةَ وَالْحَنَابِلَةَ صَرَّحُوا بِكَرَاهَةِ إِمَامَةِ
الأَْعْمَى، كَمَا صَرَّحَ الْمَالِكِيَّةُ بِأَفْضَلِيَّةِ إِمَامَةِ
الْبَصِيرِ الْمُسَاوِي لِلأَْعْمَى فِي الْفَضْل، لأَِنَّهُ أَشَدُّ
تَحَفُّظًا مِنَ
__________
(1) سورة السجدة / 18.
(2) كشاف القناع 1 / 474. وحديث: " لا تؤمن امرأة رجلا. . " أخرجه ابن ماجه
(1 / 343 - ط الحلبي) قال ابن حجر: فيه حميد بن محمد العدوي عن علي بن زيد
بن جدعان، والعدوي اتهمه وكيع بوضع الحديث وشيخه ضعيف (التلخيص 2 / 32 ط
دار المحاسن) .
(3) الدسوقي 1 / 326، وجواهر الإكليل 1 / 58
(4) المراجع السابقة.
(6/36)
النَّجَاسَاتِ. (1)
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: الأَْعْمَى وَالْبَصِيرُ سَوَاءٌ لِتَعَارُضِ
فَضْلَيْهِمَا، لأَِنَّ الأَْعْمَى لاَ يَنْظُرُ مَا يَشْغَلُهُ فَهُوَ
أَخْشَعُ، وَالْبَصِيرُ يَنْظُرُ الْخَبَثَ فَهُوَ أَقْدَرُ عَلَى
تَجَنُّبِهِ، وَهَذَا إِذَا كَانَ الأَْعْمَى لاَ يَتَبَذَّل، أَمَّا إِذَا
تَبَذَّل أَيْ تَرَكَ الصِّيَانَةَ عَنِ الْمُسْتَقْذَرَاتِ، كَأَنْ لَبِسَ
ثِيَابَ الْبِذْلَةِ، كَانَ الْبَصِيرُ أَوْلَى مِنْهُ. (2)
أَمَّا الأَْخْرَسُ فَلاَ يَجُوزُ الاِقْتِدَاءُ بِهِ، لأَِنَّهُ يَتْرُكُ
أَرْكَانَ الصَّلاَةِ مِنَ التَّحْرِيمَةِ وَالْقِرَاءَةِ. حَتَّى إِنَّ
الشَّافِعِيَّةَ وَالْحَنَابِلَةَ صَرَّحُوا بِعَدَمِ جَوَازِ
الاِقْتِدَاءِ بِالأَْخْرَسِ، وَلَوْ كَانَ الْمُقْتَدِي مِثْلَهُ، (3)
وَصَرَّحَ الْحَنَفِيَّةُ أَنَّ الأَْخْرَسَ أَسْوَأُ حَالاً مِنَ
الأُْمِّيِّ، لِقُدْرَةِ الأُْمِّيِّ عَلَى التَّحْرِيمَةِ دُونَ
الأَْخْرَسِ، فَلاَ يَجُوزُ اقْتِدَاءُ الأُْمِّيِّ بِالأَْخْرَسِ،
وَيَجُوزُ الْعَكْسُ (4) .
الاِقْتِدَاءُ بِمَنْ يُخَالِفُهُ فِي الْفُرُوعِ:
43 - لاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي صِحَّةِ الاِقْتِدَاءِ بِإِمَامٍ
يُخَالِفُ الْمُقْتَدِيَ فِي الْفُرُوعِ، إِذَا كَانَ الإِْمَامُ
يَتَحَامَى مَوَاضِعَ الْخِلاَفِ، بِأَنْ يَتَوَضَّأَ مِنَ الْخَارِجِ
النَّجَسِ مِنْ غَيْرِ السَّبِيلَيْنِ كَالْفَصْدِ مَثَلاً، وَلاَ
يَنْحَرِفُ عَنِ الْقِبْلَةِ انْحِرَافًا فَاحِشًا، وَيُرَاعِي الدَّلْكَ
وَالْمُوَالاَةَ فِي الْوُضُوءِ، وَالطُّمَأْنِينَةَ فِي الصَّلاَةِ. (5)
وَكَذَلِكَ يَصِحُّ الاِقْتِدَاءُ بِإِمَامٍ مُخَالِفٍ فِي الْمَذْهَبِ
__________
(1) ابن عابدين 1 / 399، والدسوقي 1 / 333، وكشاف القناع 1 / 476، والمغني
لابن قدامة 2 / 195.
(2) مغني المحتاج 1 / 441.
(3) الشرواني على التحفة 2 / 285، وكشاف القناع 1 / 476، والمغني لابن
قدامة 2 / 194.
(4) ابن عابدين 1 / 399.
(5) الفتاوى الهندية 1 / 84، وابن عابدين 1 / 378، 379، والدسوقي 1 / 333،
وجواهر الإكليل 1 / 80، ومغني المحتاج 1 / 238، وكشاف القناع 1 / 478.
(6/37)
إِذَا كَانَ لاَ يُعْلَمُ مِنْهُ
الإِْتْيَانُ بِمَا يُفْسِدُ الصَّلاَةَ عِنْدَ الْمُقْتَدِي بِيَقِينٍ،
لأَِنَّ الصَّحَابَةَ وَالتَّابِعِينَ وَمَنْ بَعْدَهُمْ مِنَ
الْمُسْلِمِينَ لَمْ يَزَل بَعْضُهُمْ يَقْتَدِي بِبَعْضٍ مَعَ
اخْتِلاَفِهِمْ فِي الْفُرُوعِ، وَلِمَا فِيهِ مِنْ وَحْدَةِ الصَّفِّ
وَقُوَّةِ الْمُسْلِمِينَ.
أَمَّا إِذَا عَلِمَ الْمُقْتَدِي أَنَّ الإِْمَامَ أَتَى بِمَانِعٍ
لِصِحَّةِ الصَّلاَةِ فِي مَذْهَبِ الْمَأْمُومِ، وَلَيْسَ مَانِعًا فِي
مَذْهَبِهِ، كَتَرْكِ الدَّلْكِ وَالْمُوَالاَةِ فِي الْوُضُوءِ، أَوْ
تَرَكَ شَرْطًا فِي الصَّلاَةِ عِنْدَ الْمَأْمُومِ، فَقَدْ صَرَّحَ
الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ - وَهُوَ رِوَايَةٌ عِنْدَ
الشَّافِعِيَّةِ - بِصِحَّةِ الاِقْتِدَاءِ، لأَِنَّ الْمُعْتَبَرَ فِي
شُرُوطِ الصَّلاَةِ مَذْهَبُ الإِْمَامِ لاَ الْمَأْمُومِ، مَا لَمْ يَكُنِ
الْمَتْرُوكُ رُكْنًا دَاخِلاً فِي الصَّلاَةِ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ،
كَتَرْكِ الرَّفْعِ مِنَ الرُّكُوعِ.
وَفِي الأَْصَحِّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ لاَ يَصِحُّ الاِقْتِدَاءُ
اعْتِبَارًا بِنِيَّةِ الْمُقْتَدِي، لأَِنَّهُ يَعْتَقِدُ فَسَادَ صَلاَةِ
إِمَامِهِ، فَلاَ يُمْكِنُ الْبِنَاءُ عَلَيْهِ.
وَقَال الْحَنَفِيَّةُ: إِنْ تَيَقَّنَ الْمُقْتَدِي تَرْكَ الإِْمَامِ
مُرَاعَاةَ الْفُرُوضِ عِنْدَ الْمُقْتَدِي لَمْ يَصِحَّ الاِقْتِدَاءُ،
وَإِنْ عَلِمَ تَرْكَهُ لِلْوَاجِبَاتِ فَقَطْ يُكْرَهُ، أَمَّا إِنْ
عَلِمَ مِنْهُ تَرْكَ السُّنَنِ فَيَنْبَغِي أَنْ يَقْتَدِيَ بِهِ، لأَِنَّ
الْجَمَاعَةَ وَاجِبَةٌ، فَتُقَدَّمُ عَلَى تَرْكِ كَرَاهَةِ التَّنْزِيهِ،
وَهَذَا بِنَاءٌ عَلَى أَنَّ الْعِبْرَةَ لِرَأْيِ الْمُقْتَدِي - وَهُوَ
الأَْصَحُّ - وَقِيل: لِرَأْيِ الإِْمَامِ، وَعَلَيْهِ جَمَاعَةٌ. قَال فِي
النِّهَايَةِ: وَهُوَ الأَْقْيَسُ، وَعَلَيْهِ فَيَصِحُّ الاِقْتِدَاءُ،
وَإِنْ كَانَ الإِْمَامُ لاَ يَحْتَاطُ (1) .
__________
(1) ابن عابدين 1 / 378.
(6/37)
الاِقْتِدَاءُ فِي غَيْرِ الصَّلاَةِ
44 - الاِقْتِدَاءُ فِي غَيْرِ الصَّلاَةِ - بِمَعْنَى التَّأَسِّي
وَالاِتِّبَاعِ - يَخْتَلِفُ حُكْمُهُ بِاخْتِلاَفِ الْمُقْتَدَى بِهِ،
فَالاِقْتِدَاءُ بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي
أُمُورِ الدِّينِ وَمَا يَتَعَلَّقُ بِالشَّرِيعَةِ وَاجِبٌ أَوْ مَنْدُوبٌ
(بِحَسَبِ حُكْمِ ذَلِكَ الْفِعْل) ، وَالاِقْتِدَاءُ بِأَفْعَالِهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْجِبِلِّيَّةِ حُكْمُهُ الإِْبَاحَةُ،
وَالاِقْتِدَاءُ بِالْمُجْتَهِدِ فِيمَا اجْتَهَدَ فِيهِ مِنَ الْمَسَائِل
الْفِقْهِيَّةِ مَطْلُوبٌ لِمَنْ لَيْسَ لَهُ أَهْلِيَّةُ الاِجْتِهَادِ
عِنْدَ الأُْصُولِيِّينَ. (1)
وَتَفْصِيل هَذِهِ الْمَسَائِل فِي الْمُلْحَقِ الأُْصُولِيِّ، وَانْظُرْ
مُصْطَلَحَيِ (اتِّبَاع، وَتَأَسِّي) .
اقْتِرَاضٌ
انْظُرْ: اسْتِدَانَة.
اقْتِصَارٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الاِقْتِصَارُ عَلَى الشَّيْءِ لُغَةً: الاِكْتِفَاءُ بِهِ، وَعَدَمُ
مُجَاوَزَتِهِ، وَقَدْ وَرَدَ اسْتِعْمَال الاِقْتِصَارِ بِهَذَا
الْمَعْنَى فِي بَعْضِ فُرُوعِ الشَّافِعِيَّةِ، كَقَوْلِهِمْ فِي
كِفَايَةِ الرَّقِيقِ: وَلاَ يَكْفِي الاِقْتِصَارُ عَلَى سَتْرِ
الْعَوْرَةِ، قَال
__________
(1) المستصفى للغزالي 2 / 354، 389، والتقرير والتحبير 2 / 312، وفواتح
الرحموت شرح مسلم الثبوت 2 / 180، 181، 214، 215، والأحكام للآمدي 3 / 167،
170.
(6/38)
الْغَزَالِيُّ: بِبِلاَدِنَا احْتِرَازًا
عَنْ بِلاَدِ السُّودَانِ. وَفِي الاِسْتِنْجَاءِ قَال الْمَحَلِّيُّ:
وَجَمْعُهُمَا (الْمَاءِ وَالْحَجَرِ) بِأَنْ يُقَدِّمَ الْحَجَرَ أَفْضَل
مِنَ الاِقْتِصَارِ عَلَى أَحَدِهِمَا.
وَالاِقْتِصَارُ عَلَى الْمَاءِ أَفْضَل مِنَ الاِقْتِصَارِ عَلَى
الْحَجَرِ، لأَِنَّهُ يُزِيل الْعَيْنَ وَالأَْثَرَ بِخِلاَفِ الْحَجَرِ.
(1)
وَقَدْ جَاءَ اسْتِعْمَال " الاِقْتِصَارِ " فِي الْمِثَالَيْنِ
السَّابِقَيْنِ بِمَعْنَاهُ اللُّغَوِيِّ " الاِكْتِفَاءِ ".
وَلِتَمَامِ الْفَائِدَةِ يُرَاجَعُ مُصْطَلَحُ: (اسْتِنَاد) .
وَالاِقْتِصَارُ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ هُوَ أَنْ يَثْبُتَ الْحُكْمُ عِنْدَ
حُدُوثِ الْعِلَّةِ لاَ قَبْل الْحُدُوثِ وَلاَ بَعْدَهُ، كَمَا فِي
الطَّلاَقِ الْمُنَجَّزِ، وَعَرَّفَهُ صَاحِبُ الدُّرِّ الْمُخْتَارِ
بِأَنَّهُ: ثُبُوتُ الْحُكْمِ فِي الْحَال، وَمَثَّل لَهُ ابْنُ
عَابِدِينَ: بِإِنْشَاءِ الْبَيْعِ وَالطَّلاَقِ وَالْعِتَاقِ وَغَيْرِهَا،
(2) وَالتَّعْرِيفَانِ مُتَقَارِبَانِ.
وَيَتَّضِحُ أَنَّ الْمَعْنَى الاِصْطِلاَحِيَّ لَمْ يَخْرُجْ عَنِ
الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ لِلاِقْتِصَارِ، لأَِنَّ ثُبُوتَ الْحُكْمِ فِي
الْحَال يَعْنِي الاِكْتِفَاءَ بِالْحَال وَعَدَمَ مُجَاوَزَتِهِ، لاَ
إِلَى الْمَاضِي وَلاَ إِلَى الْمُسْتَقْبَل.
2 - وَيُلاَحَظُ فِي تَعْرِيفِ " الاِقْتِصَارِ " الأُْمُورُ التَّالِيَةُ:
أ - أَنَّهُ أَحَدُ الطُّرُقِ الَّتِي يَثْبُتُ بِهَا الْحُكْمُ.
ب - ثُبُوتُ الْحُكْمِ عَنْ طَرِيقِ الاِقْتِصَارِ يَكُونُ فِي الْحَال،
أَيْ لاَ قَبْلَهُ وَلاَ بَعْدَهُ.
ج - أَنَّهُ إِنْشَاءٌ وَلَيْسَ بِخَبَرٍ.
د - أَنَّهُ إِنْشَاءٌ مُنَجَّزٌ لاَ مُعَلَّقٌ.
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
3 - يَتَّضِحُ مَعْنَى الاِقْتِصَارِ مِنْ ذِكْرِ بَقِيَّةِ الطُّرُقِ
الَّتِي
__________
(1) لسان العرب مادة: (قصر) ، والمحلي بهامش القليوبي 1 / 42
(2) الدر المختار مع حاشية ابن عابدين 2 / 444، وحاشية الطحطاوي 2 / 21.
(6/38)
يَثْبُتُ بِهَا الْحُكْمُ وَتَعْرِيفُهَا،
وَهِيَ أَلْفَاظٌ ذَاتُ صِلَةٍ بِالاِقْتِصَارِ.
قَال الْحَصْكَفِيُّ: اعْلَمْ أَنَّ طُرُقَ ثُبُوتِ الأَْحْكَامِ
أَرْبَعَةٌ: الاِنْقِلاَبُ، وَالاِقْتِصَارُ، وَالاِسْتِنَادُ،
وَالتَّبْيِينُ (1) .
الاِنْقِلاَبُ:
4 - الاِنْقِلاَبُ: صَيْرُورَةُ مَا لَيْسَ بِعِلَّةٍ عِلَّةً، كَمَا إِذَا
عَلَّقَ الطَّلاَقَ بِالشَّرْطِ، كَأَنْ يَقُول الرَّجُل لاِمْرَأَتِهِ:
أَنْتِ طَالِقٌ إِنْ دَخَلْتِ الدَّارَ، فَإِنَّ " أَنْتِ طَالِقٌ "
عِلَّةٌ لِثُبُوتِ حُكْمِهِ، وَهُوَ الطَّلاَقُ، لَكِنَّهُ بِالتَّعْلِيقِ
عَلَى الدُّخُول لَمْ يَنْعَقِدْ عِلَّةً إِلاَّ عِنْدَ وُجُودِ شَرْطِهِ،
وَهُوَ الدُّخُول، فَعِنْدَ وُجُودِ الشَّرْطِ يَنْقَلِبُ مَا لَيْسَ
بِعِلَّةٍ عِلَّةً (2) . وَيَتَبَيَّنُ مِنْ تَعْرِيفِ الاِنْقِلاَبِ
أَنَّهُ يَتَّفِقُ مَعَ الاِقْتِصَارِ فِي أَنَّهُمَا إِنْشَاءٌ لاَ
خَبَرٌ، إِلاَّ أَنَّهُمَا يَخْتَلِفَانِ فِي أَنَّ الاِقْتِصَارَ
مُنَجَّزٌ، وَالاِنْقِلاَبَ مُعَلَّقٌ.
الاِسْتِنَادُ:
5 - الاِسْتِنَادُ: ثُبُوتُ الْحُكْمِ فِي الْحَال، ثُمَّ يَسْتَنِدُ إِلَى
مَا قَبْلَهُ بِشَرْطِ بَقَاءِ الْمَحَل كُل الْمُدَّةِ، كَلُزُومِ
الزَّكَاةِ حِينَ الْحَوْل مُسْتَنِدًا لِوُجُودِ النِّصَابِ،
وَكَالْمَضْمُونَاتِ تُمْلَكُ عِنْدَ أَدَاءِ الضَّمَانِ مُسْتَنِدًا إِلَى
وَقْتِ وُجُودِ السَّبَبِ. (3)
__________
(1) الدر المختار بهامش ابن عابدين 2 / 443، والأشباه والنظائر لابن نجيم
314 - 315.
(2) الدر المختار 2 / 443، والأشباه والنظائر لابن نجيم ص 314.
(3) الأشباه والنظائر لابن نجيم ص 314، والدر المختار مع حاشية ابن عابدين
2 / 24، وحاشية الطحطاوي 2 / 121، وحاشية الحموي على الأشباه والنظائر 2 /
156 - 157.
(6/39)
فَالأَْثَرُ الرَّجْعِيُّ هُنَا وَاضِحٌ،
بِخِلاَفِ الاِقْتِصَارِ فَلَيْسَ فِيهِ أَثَرٌ رَجْعِيٌّ.
الْفَرْقُ بَيْنَ الاِسْتِنَادِ وَالاِقْتِصَارِ (1) :
6 - الاِسْتِنَادُ أَحَدُ الطُّرُقِ الأَْرْبَعَةِ الَّتِي تَثْبُتُ بِهَا
الأَْحْكَامُ، وَقَدْ تَبَيَّنَ مِنْ خِلاَل تَعْرِيفِهِ أَنَّ
الاِسْتِنَادَ لَهُ أَثَرٌ رَجْعِيٌّ بِخِلاَفِ الاِقْتِصَارِ.
جَاءَ فِي الْمَدْخَل الْفِقْهِيِّ الْعَامِّ:
فِي الاِصْطِلاَحِ الْقَانُونِيِّ الشَّائِعِ الْيَوْمَ فِي عَصْرِنَا
يُسَمَّى انْسِحَابُ الأَْحْكَامِ عَلَى الْمَاضِي أَثَرًا رَجْعِيًّا،
وَيُسْتَعْمَل هَذَا التَّعْبِيرُ فِي رَجْعِيَّةِ أَحْكَامِ الْقَوَانِينِ
نَفْسِهَا كَمَا فِي آثَارِ الْعُقُودِ عَلَى السَّوَاءِ. فَيُقَال: هَذَا
الْقَانُونُ لَهُ أَثَرٌ رَجْعِيٌّ، وَذَاكَ لَيْسَ لَهُ، كَمَا يُقَال:
إِنَّ بَيْعَ مِلْكِ الْغَيْرِ بِدُونِ إِذْنِهِ إِذَا أَجَازَهُ
الْمَالِكُ يَكُونُ لإِِجَازَتِهِ أَثَرٌ رَجْعِيٌّ، فَيُعْتَبَرُ حُكْمُ
الْعَقْدِ سَارِيًا مُنْذُ انْعِقَادِهِ لاَ مُنْذُ إِجَازَتِهِ، وَلَيْسَ
فِي لُغَةِ الْقَانُونِ اسْمٌ لِعَدَمِ الأَْثَرِ الرَّجْعِيِّ.
أَمَّا الْفِقْهُ الإِْسْلاَمِيُّ فَيُسَمِّي عَدَمَ رَجْعِيَّةِ الآْثَارِ
اقْتِصَارًا، بِمَعْنَى أَنَّ الْحُكْمَ يَثْبُتُ مُقْتَصِرًا عَلَى
الْحَال لاَ مُنْسَحِبًا عَلَى الْمَاضِي.
وَيُسَمِّي رَجْعِيَّةَ الآْثَارِ اسْتِنَادًا، وَهُوَ اصْطِلاَحُ
الْمَذْهَبِ الْحَنَفِيِّ، وَيُسَمِّيهِ الْمَالِكِيَّةُ " انْعِطَافًا "
(2) . ثُمَّ أَضَافَ صَاحِبُ الْمَدْخَل:
وَتَارَةً يَكُونُ الاِنْحِلاَل مُقْتَصَرًا لَيْسَ لَهُ انْعِطَافٌ
__________
(1) هذه التفرقة بين الاستناد والاقتصار، والمقارنة بالقانون مستمدة من
المدخل الفقهي العام للأستاذ الشيخ مصطفى الزرقا، واللجنة ترى أنه استقراء
دقيق واستنتاج مقبول مرجعه كتب الفقه القديمة.
(2) المدخل الفقهي العام 1 / 533 - 534 بتصرف.
(6/39)
وَأَثَرٌ رَجْعِيٌّ، وَإِنَّمَا يَسْرِي
حُكْمُهُ عَلَى الْمُسْتَقْبَل فَقَطْ مِنْ تَارِيخِ وُقُوعِهِ، وَذَلِكَ
فِي الْعُقُودِ الاِسْتِمْرَارِيَّةِ كَالشَّرِكَةِ وَكَالإِْجَارَةِ.
فَالْفَسْخُ أَوِ الاِنْفِسَاخُ يَقْطَعَانِ تَأْثِيرَ هَذِهِ الْعُقُودِ
بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْمُسْتَقْبَل، أَمَّا مَا مَضَى فَيَكُونُ عَلَى
حُكْمِ الْعَقْدِ، وَكَذَا انْحِلاَل الْوَكَالَةِ بِالْعَزْل لاَ يَنْقُضُ
تَصَرُّفَاتِ الْوَكِيل السَّابِقَةَ. (1)
ثُمَّ يُسْتَحْسَنُ التَّمْيِيزُ فِي تَسْمِيَةِ انْحِلاَل الْعَقْدِ
بَيْنَ حَالَتَيِ الاِسْتِنَادِ وَالاِقْتِصَارِ، فَيُقْتَرَحُ تَسْمِيَةُ
الْحِل وَالاِنْحِلاَل فِي حَالَةِ الاِسْتِنَادِ: فَسْخًا وَانْفِسَاخًا،
وَفِي حَالَةِ الاِقْتِصَارِ: إِنْهَاءً وَانْتِهَاءً. (2)
7 - هَذَا، وَلَمْ نَرَ التَّصْرِيحَ بِهَذَيْنِ الْمُصْطَلَحَيْنِ فِي
مَذْهَبِ غَيْرِ الْحَنَفِيَّةِ، إِلاَّ أَنَّ الشَّافِعِيَّةَ فَرَّقُوا
بَيْنَ حَالَتَيْنِ فِي الْفَسْخِ.
قَال الإِْمَامُ السُّيُوطِيُّ فِي كِتَابِهِ الأَْشْبَاهِ وَالنَّظَائِرِ
(3) : الْفَسْخُ هَل يَرْفَعُ الْعَقْدَ مِنْ أَصْلِهِ، أَوْ مِنْ حِينِهِ؟
يُمْكِنُ أَنْ نَفْهَمَ مِنْ قَوْل السُّيُوطِيِّ هَذَا أَنَّهُمْ
فَرَّقُوا بَيْنَ مَا يَرْفَعُ الْعَقْدَ مِنْ أَصْلِهِ وَبَيْنَ مَا
يَرْفَعُ الْعَقْدَ مِنْ حِينِهِ، فَيَصْدُقُ عَلَى الأَْوَّل
الاِسْتِنَادُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، وَعَلَى الثَّانِي الاِقْتِصَارُ
عِنْدَهُمْ أَيْضًا.
فَقَدْ فَرَّقَ السُّيُوطِيُّ هُنَا بَيْنَ مَا لَهُ أَثَرٌ رَجْعِيٌّ،
وَبَيْنَ مَا لَيْسَ لَهُ أَثَرٌ رَجْعِيٌّ.
8 - وَقَدْ مَثَّلُوا لِمَا يَرْفَعُ الْعَقْدَ مِنْ حِينِهِ بِمَا يَلِي:
أ - الْفَسْخُ بِخِيَارِ الْعَيْبِ، وَالتَّصْرِيَةِ وَنَحْوِهِمَا،
وَالأَْصَحُّ أَنَّهُ مِنْ حِينِهِ.
ب - فَسْخُ الْبَيْعِ بِخِيَارِ الْمَجْلِسِ أَوِ الشَّرْطِ فِيهِ
__________
(1) المرجع السابق: ص 534.
(2) المدخل الفقهي العام: 535.
(3) الأشباه والنظائر 317 - 318.
(6/40)
وَجْهَانِ، أَصَحُّهُمَا فِي شَرْحِ
الْمُهَذَّبِ مِنْ حِينِهِ.
ج - الْفَسْخُ بِالْفَلَسِ مِنْ حِينِهِ قَطْعًا.
هـ - الرُّجُوعُ فِي الْهِبَةِ مِنْ حِينِهِ قَطْعًا.
- وَفَسْخُ النِّكَاحِ بِأَحَدِ الْعُيُوبِ، وَالأَْصَحُّ: أَنَّهُ مِنْ
حِينِهِ
ز - فَسْخُ الْحَوَالَةِ: انْقِطَاعٌ مِنْ حِينِهِ.
9 - وَمَثَّل لِمَا يَرْفَعُ الْعَقْدَ مِنْ أَصْلِهِ أَيْضًا
بِقَوْلِهِمْ: إِذَا كَانَ رَأْسُ مَال السَّلَمِ فِي الذِّمَّةِ،
وَعَيَّنَ فِي الْمَجْلِسِ، ثُمَّ انْفَسَخَ السَّلَمُ بِسَبَبٍ
يَقْتَضِيهِ وَرَأْسُ الْمَال بَاقٍ، فَهَل يَرْجِعُ إِلَى عَيْنِهِ أَوْ
بَدَلِهِ؟ وَجْهَانِ: الأَْصَحُّ الأَْوَّل. قَال الْغَزَالِيُّ:
وَالْخِلاَفُ يَلْتَفِتُ إِلَى أَنَّ الْمُسَلَّمَ فِيهِ إِذَا رُدَّ
بِالْعَيْبِ هَل يَكُونُ نَقْضًا لِلْمِلْكِ فِي الْحَال، أَوْ هُوَ
مُبَيِّنٌ لِعَدَمِ جَرَيَانِ الْمِلْكِ؟ .
وَمُقْتَضَى هَذَا التَّفْرِيعِ: أَنَّ الأَْصَحَّ هُنَا، أَنَّهُ رَفْعٌ
لِلْعَقْدِ مِنْ أَصْلِهِ، وَيَجْرِي ذَلِكَ أَيْضًا فِي نُجُومِ
الْكِتَابَةِ (أَقْسَاطِهَا) ، وَبَدَل الْخُلْعِ إِذَا وَجَدَ بِهِ
عَيْبًا فَرَدَّهُ.
لَكِنْ فِي الْكِتَابَةِ يَرْتَدُّ الْعِتْقُ لِعَدَمِ الْقَبْضِ
الْمُعَلَّقِ عَلَيْهِ.
وَفِي الْخُلْعِ: لاَ يَرْتَدُّ الطَّلاَقُ بَل يَرْجِعُ إِلَى بَدَل
الْبُضْعِ. (1)
هَذَا مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الإِْمَامُ السُّيُوطِيُّ فِي الأَْشْبَاهِ
وَالنَّظَائِرِ، فِي أَنَّ الْفَسْخَ يَرْفَعُ الْعَقْدَ مِنْ أَصْلِهِ
حِينًا وَمِنْ حِينِهِ حِينًا آخَرَ.
إِلاَّ أَنَّنَا حِينَمَا نَرْجِعُ إِلَى الرَّوْضَةِ نَجِدُ الإِْمَامَ
النَّوَوِيَّ يُرَجِّحُ أَنَّ الْفَسْخَ يَرْفَعُ الْعَقْدَ مِنْ حِينِهِ،
وَأَنَّ الرَّفْعَ مِنَ الأَْصْل ضَعِيفٌ. (2)
__________
(1) الأشباه والنظائر للسيوطي 317 - 318.
(2) الروضة 3 / 489.
(6/40)
وَقَدْ تَبِعَهُ فِي ذَلِكَ
الْقَلْيُوبِيُّ فِي حَاشِيَتِهِ عَلَى شَرْحِ الْمِنْهَاجِ لِلْمَحَلِّيِّ
(1) ، فَيَقُول: إِنَّ الْفَسْخَ يَرْفَعُ الْعَقْدَ مِنْ أَصْلِهِ، وَهُوَ
ضَعِيفٌ.
وَيَقُول الْمَحَلِّيُّ، بِنَاءً عَلَى الأَْصَحِّ: إِنَّ الْفَسْخَ
يَرْفَعُ الْعَقْدَ مِنْ حِينِهِ. (2)
التَّبْيِينُ (3) :
10 - التَّبْيِينُ: أَنْ يَظْهَرَ فِي الْحَال أَنَّ الْحُكْمَ كَانَ
ثَابِتًا مِنْ قَبْل، مِثْل أَنْ يَقُول فِي الْيَوْمِ: إِنْ كَانَ زَيْدٌ
فِي الدَّارِ فَأَنْتِ طَالِقٌ، وَتَبَيَّنَ فِي الْغَدِ وُجُودُهُ فِيهَا،
يَقَعُ الطَّلاَقُ فِي الْيَوْمِ، وَيُعْتَبَرُ ابْتِدَاءُ الْمُدَّةِ
مِنْهُ (4) .
وَيُخَالِفُ التَّبْيِينُ الاِقْتِصَارَ فِي أَنَّ الْحُكْمَ فِي
التَّبْيِينِ يَظْهَرُ أَنَّهُ كَانَ ثَابِتًا مِنْ قَبْل، فِي حِينِ أَنَّ
الْحُكْمَ فِي الاِقْتِصَارِ يَثْبُتُ فِي الْحَال فَقَطْ.
هَذَا، وَلَمَّا كَانَ الاِقْتِصَارُ إِنْشَاءً لِلْعُقُودِ، أَوِ
الْفُسُوخِ الْمُنَجَّزَةِ، شَمَلَهَا جَمِيعًا، لأَِنَّ التَّنْجِيزَ هُوَ
الأَْصْل فِيهَا.
مِثَال الْعُقُودِ: الْبَيْعُ وَالسَّلَمُ وَالإِْجَارَةُ وَالْقِرَاضُ
وَغَيْرُ ذَلِكَ.
وَمِثَال الْفُسُوخِ: الطَّلاَقُ وَالْعِتَاقُ وَغَيْرُ ذَلِكَ.
أَمَّا إِذَا كَانَتِ الْفُسُوخُ غَيْرَ مُنَجَّزَةٍ، بِأَنْ كَانَ لَهَا
أَثَرٌ رَجْعِيٌّ، وَانْسَحَبَ حُكْمُهَا عَلَى الْمَاضِي، فَتَدْخُل
حِينَئِذٍ فِي بَابِ الاِسْتِنَادِ. وَمِثَالُهُ مَا لَوْ قَال: أَنْتِ
طَالِقٌ قَبْل مَوْتِ فُلاَنٍ بِشَهْرٍ، لَمْ تُطَلَّقْ حَتَّى
__________
(1) القليوبي على شرح المنهاج 2 / 326.
(2) شرح المحلي على المنهاج 2 / 208.
(3) قال ابن عابدين في حاشيته على الدر المختار: كذا عبارتهم فهو مصدر
بمعنى التبين، أي الظهور " 2 / 443
(4) الأشباه والنظائر مع الحموي 2 / 157.
(6/41)
يَمُوتَ فُلاَنٌ بَعْدَ الْيَمِينِ
بِشَهْرٍ، فَإِنْ مَاتَ لِتَمَامِ الشَّهْرِ طُلِّقَتْ مُسْتَنِدًا إِلَى
أَوَّل الشَّهْرِ، فَتُعْتَبَرُ الْعِدَّةُ أَوَّلَهُ.
اقْتِضَاءٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الاِقْتِضَاءُ: مَصْدَرُ اقْتَضَى، يُقَال: اقْتَضَيْتُ مِنْهُ حَقِّي،
وَتَقَاضَيْتُهُ: إِذَا طَلَبْتُهُ وَقَبَضْتُهُ وَأَخَذْتُهُ مِنْهُ،
وَأَصْلُهُ مِنْ قَضَاءِ الدَّيْنِ. (1)
وَالاِقْتِضَاءُ فِي اسْتِعْمَال الْفُقَهَاءِ بِمَعْنَاهُ اللُّغَوِيِّ.
وَيَسْتَعْمِلُهُ الأُْصُولِيُّونَ بِمَعْنَى الدَّلاَلَةِ. يَقُولُونَ:
الأَْمْرُ يَقْتَضِي الْوُجُوبَ أَيْ يَدُل عَلَيْهِ، وَيَسْتَعْمِلُونَهُ
أَيْضًا بِمَعْنَى الطَّلَبِ.
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - الْقَضَاءُ:
2 - الْقَضَاءُ: إِعْطَاءُ الْحَقِّ وَالْفَرَاغُ مِنْهُ، وَمِنْهُ أَدَاءُ
مَا عَلَى الإِْنْسَانِ مِنْ حُقُوقٍ لِلَّهِ تَعَالَى، سَوَاءٌ كَانَ
أَدَاؤُهَا فِي الْوَقْتِ الْمُحَدَّدِ لَهَا، وَمِنْهُ قَوْل اللَّهِ
عَزَّ وَجَل: {فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ} (2) أَيْ أَدَّيْتُمُوهَا
وَفَرَغْتُمْ مِنْهَا، أَوْ كَانَ أَدَاؤُهَا بَعْدَ خُرُوجِ وَقْتِهَا
كَقَضَاءِ الْفَائِتَةِ.
وَبَعْضُ الأُْصُولِيِّينَ يَقُول: إِنَّ لَفْظَ الْقَضَاءِ عَامٌّ
__________
(1) لسان العرب والمصباح مادة (قضى) ، وفيض القدير 4 / 26، وفتح الباري 4 /
245.
(2) سورة البقرة / 200.
(6/41)
يَجُوزُ إِطْلاَقُهُ عَلَى تَسْلِيمِ
عَيْنِ الْوَاجِبِ (وَهُوَ الأَْدَاءُ) ، أَوْ تَسْلِيمُ مِثْلِهِ (وَهُوَ
الْقَضَاءُ) ، لأَِنَّ مَعْنَى الْقَضَاءِ: الإِْسْقَاطُ وَالإِْتْمَامُ
وَالإِْحْكَامُ، وَهَذِهِ الْمَعَانِي مَوْجُودَةٌ فِي تَسْلِيمِ عَيْنِ
الْوَاجِبِ، كَمَا هِيَ مَوْجُودَةٌ فِي تَسْلِيمِ مِثْلِهِ، فَيَجُوزُ
إِطْلاَقُ الْقَضَاءِ عَلَى الأَْدَاءِ بِطَرِيقِ الْحَقِيقَةِ لِعُمُومِ
مَعْنَاهُ، إِلاَّ أَنَّهُ لَمَّا اخْتَصَّ بِتَسْلِيمِ الْمِثْل عُرْفًا
أَوْ شَرْعًا كَانَ فِي غَيْرِهِ مَجَازًا، وَكَانَ إِطْلاَقُهُ عَلَى
الأَْدَاءِ حَقِيقَةً لُغَوِيَّةً، مَجَازًا عُرْفِيًّا أَوْ شَرْعِيًّا.
(1)
وَيَشْمَل أَيْضًا أَدَاءَ مَا عَلَى الإِْنْسَانِ مِنْ حُقُوقٍ لِغَيْرِهِ
كَقَوْلِهِمْ: لَوْ عَرَفَ الْوَصِيُّ دَيْنًا عَلَى الْمَيِّتِ فَقَضَاهُ
لاَ يَأْثَمُ. (2) .
ب - الاِسْتِيفَاءُ:
3 - الاِسْتِيفَاءُ: طَلَبُ الْوَفَاءِ، يُقَال: اسْتَوْفَيْتُ مِنْ
فُلاَنٍ مَا لِي عَلَيْهِ، أَيْ: أَخَذْتُهُ حَتَّى لَمْ يَبْقَ عَلَيْهِ
شَيْءٌ، وَاسْتَوْفَيْتُ الْمَال: إِذَا أَخَذْتُهُ كُلَّهُ. (3) وَهُوَ
بِذَلِكَ نَوْعٌ مِنْ أَنْوَاعِ الاِقْتِضَاءِ.
دَلاَلَةُ الاِقْتِضَاءِ:
4 - دَلاَلَةُ الاِقْتِضَاءِ هِيَ تَقْدِيرُ مَحْذُوفٍ يَتَوَقَّفُ
عَلَيْهِ صِحَّةُ الْكَلاَمِ أَوْ صِدْقُهُ.
وَالْكَلاَمُ الَّذِي لاَ يَصِحُّ إِلاَّ بِالزِّيَادَةِ هُوَ
الْمُقْتَضِي، وَالْمَزِيدُ هُوَ الْمُقْتَضَى، وَطَلَبُ الزِّيَادَةِ هُوَ
الاِقْتِضَاءُ، وَالْحُكْمُ الَّذِي ثَبَتَ بِهِ هُوَ حُكْمُ الْمُقْتَضَى،
وَمِثَالُهُ مَا يُتَوَقَّفُ عَلَيْهِ لِصِحَّةِ قَوْل الْقَائِل: أَعْتِقْ
عَبْدَكَ عَنِّي بِأَلْفٍ، فَنَفْسُ هَذَا
__________
(1) كشف الأسرار 1 / 137.
(2) ابن عابدين 2 / 703.
(3) لسان العرب مادة (وفى) .
(6/42)
الْكَلاَمِ هُوَ الْمُقْتَضِي، لِعَدَمِ
صِحَّتِهِ فِي نَفْسِهِ شَرْعًا، لأَِنَّ الْعِتْقَ فَرْعُ الْمِلْكِيَّةِ،
فَكَأَنَّهُ قَال: بِعْنِي عَبْدَكَ بِكَذَا أَوْ وَكَّلْتُكَ فِي
إِعْتَاقِهِ، وَطَلَبُ الزِّيَادَةِ الَّتِي يَصِحُّ بِهَا الْكَلاَمُ هِيَ
الاِقْتِضَاءُ، وَهَذِهِ الزِّيَادَةُ (وَهِيَ الْبَيْعُ) هِيَ
الْمُقْتَضَى، وَمَا ثَبَتَ بِالْبَيْعِ (وَهُوَ الْمِلْكُ) هُوَ حُكْمُ
الْمُقْتَضِي، وَمِثَالُهُ مَا يَتَوَقَّفُ عَلَيْهِ صِدْقُ
الْمُتَكَلِّمِ، كَقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
رُفِعَ عَنْ أُمَّتِي الْخَطَأُ وَالنِّسْيَانُ وَمَا اسْتُكْرِهُوا
عَلَيْهِ (1) فَإِنَّ رَفْعَ الْخَطَأِ وَغَيْرِهِ مَعَ تَحَقُّقِهِ
مُمْتَنِعٌ فَلاَ بُدَّ مِنْ إِضْمَارِ نَفْيِ حُكْمٍ يُمْكِنُ نَفْيُهُ،
كَنَفْيِ الْمُؤَاخَذَةِ وَالْعِقَابِ.
وَمِنْهُ مَا أُضْمِرَ لِصِحَّةِ الْكَلاَمِ عَقْلاً، كَقَوْلِهِ تَعَالَى:
{وَاسْأَل الْقَرْيَةَ} (2) ، فَإِنَّهُ لاَ بُدَّ مِنْ إِضْمَارِ (أَهْل)
لِصِحَّةِ الْمَلْفُوظِ بِهِ عَقْلاً. (3)
الاِقْتِضَاءُ بِمَعْنَى الطَّلَبِ:
5 - الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ هُوَ: خِطَابُ اللَّهِ تَعَالَى
الْمُتَعَلِّقُ بِأَفْعَال الْمُكَلَّفِينَ بِالاِقْتِضَاءِ أَوِ
التَّخْيِيرِ. وَالاِقْتِضَاءُ - وَهُوَ الطَّلَبُ - إِمَّا أَنْ يَكُونَ
طَلَبَ الْفِعْل أَوْ طَلَبَ تَرْكِهِ (4) .
__________
(1) حديث: " رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه " قال العجلوني
في كشف الخفاء (1 / 522 - ط الرسالة) : قال في اللآلئ: لا يوجد بهذا اللفظ،
وأقرب ما وجد ما رواه ابن عدي عن أبي بكرة بلفظ: " رفع الله عن هذه الأمة
ثلاثا: الخطأ، والنسيان والأمر يكرهون عليه " ثم نقل استنكار ابن عدي لهذه
الرواية، وكذلك إعلال الإمام أحمد له. وذكر أنه ورد بلفظ: " وضع. . .
الحديث ". أخرجه ابن ماجه (1 / 659 - ط الحلبي) وقال: " رجاله ثقات ".
(2) سورة يوسف / 82، وهل يقدر المقتضى عاما أو خاصا، هذه مسألة خلافية تنظر
في الملحق الأصولي.
(3) كشف الأسرار 1 / 76، والأحكام للآمدي 2 / 141.
(4) الأحكام للآمدي 1 / 49.
(6/42)
وَطَلَبُ الْفِعْل، إِنْ كَانَ عَلَى
سَبِيل الْجَزْمِ فَهُوَ الإِْيجَابُ، وَإِنْ كَانَ غَيْرَ جَازِمٍ فَهُوَ
النَّدْبُ. وَأَمَّا طَلَبُ التَّرْكِ، فَإِنْ كَانَ جَازِمًا فَهُوَ
التَّحْرِيمُ، وَإِنْ كَانَ غَيْرَ جَازِمٍ فَهُوَ الْكَرَاهَةُ.
أَمَّا التَّخْيِيرُ فَهُوَ قَسِيمُ الاِقْتِضَاءِ، إِذْ هُوَ مَا كَانَ
فِعْلُهُ وَتَرْكُهُ عَلَى السَّوَاءِ.
اقْتِضَاءُ الْحَقِّ:
6 - الشَّائِعُ فِي اسْتِعْمَال الْفُقَهَاءِ هُوَ التَّعْبِيرُ بِلَفْظِ
(الاِسْتِيفَاءِ) مَقْصُودًا بِهِ أَخْذَ الْحَقِّ، سَوَاءٌ أَكَانَ حَقًّا
مَالِيًّا كَاسْتِيفَاءِ الأَْجِيرِ أُجْرَتَهُ، أَمْ كَانَ حَقًّا غَيْرَ
مَالِيٍّ كَاسْتِيفَاءِ الْمَنَافِعِ وَالْقِصَاصِ وَغَيْرِ ذَلِكَ. (1)
وَيَأْتِي الاِقْتِضَاءُ بِمَعْنَى طَلَبِ قَضَاءِ الْحَقِّ، وَمِنْهُ
الْحَدِيثُ: رَحِمَ اللَّهُ رَجُلاً سَمْحًا إِذَا بَاعَ، وَإِذَا
اشْتَرَى، وَإِذَا اقْتَضَى (2) قَال ابْنُ حَجَرٍ فِي شَرْحِهِ: أَيْ
طَلَبَ قَضَاءَ حَقِّهِ بِسُهُولَةٍ وَعَدَمِ إِلْحَافٍ. (3) (ر: اتِّبَاع.
اسْتِيفَاء) .
اقْتِنَاءٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الاِقْتِنَاءُ: مَصْدَرُ اقْتَنَى الشَّيْءَ يَقْتَنِيهِ، إِذَا
__________
(1) نهاية المحتاج 5 / 305، وبدائع الصنائع 7 / 247.
(2) حديث: " رحم الله رجلا سمحا إذا باع وإذا اشترى وإذا اقتضى " أخرجه
البخاري (4 / 306 - الفتح - ط السلفية) .
(3) فتح الباري 4 / 245 ط - البهية.
(6/43)
اتَّخَذَهُ لِنَفْسِهِ، لاَ لِلْبَيْعِ
أَوْ لِلتِّجَارَةِ. يُقَال: هَذِهِ الْفَرَسُ قُنْيَةٌ، وَقِنْيَةٌ
(بِكَسْرِ الْقَافِ وَضَمِّهَا) إِذَا اتَّخَذَهَا لِلنَّسْل أَوْ
لِلرُّكُوبِ وَنَحْوِهِمَا، لاَ لِلتِّجَارَةِ. (1) وَقَنَوْتُ
الْبَقَرَةَ، وَقَنَيْتُهَا: أَيِ اتَّخَذْتُهَا لِلْحَلْبِ أَوِ
الْحَرْثِ. وَمَال قُنْيَانٍ: إِذَا اتَّخَذْتَهُ لِنَفْسِكَ.
وَالْمَعْنَى الاِصْطِلاَحِيُّ لِهَذَا اللَّفْظِ لاَ يَفْتَرِقُ عَنِ
الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ.
حُكْمُ الاِقْتِنَاءِ:
2 - الاِقْتِنَاءُ لِلأَْشْيَاءِ قَدْ يَكُونُ مُبَاحًا، بَل قَدْ يَكُونُ
مَنْدُوبًا، مِثْل اقْتِنَاءِ الْمَصَاحِفِ وَكُتُبِ الْحَدِيثِ
وَالْعِلْمِ.
وَقَدْ يَكُونُ مُبَاحًا فِي حَالٍ دُونَ حَالٍ، مِثْل اقْتِنَاءِ
الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ، وَاقْتِنَاءِ الْكَلْبِ الْمُعَلَّمِ وَغَيْرِ
ذَلِكَ مِنَ الْمُبَاحَاتِ بِشُرُوطِهَا، يُنْظَرُ تَفْصِيلُهَا فِي
مُصْطَلَحِ (إِبَاحَة) .
وَقَدْ يَكُونُ حَرَامًا مِثْل الْخِنْزِيرِ وَالْخَمْرِ وَآلاَتِ
اللَّهْوِ الْمُحَرَّمِ. (2)
3 - وَقَدْ تَعَرَّضَ الْفُقَهَاءُ لِزَكَاةِ الْمُقْتَنَيَاتِ وَقَالُوا:
لاَ يُزَكَّى الْمُقْتَنَى مِنَ النَّعَمِ فِي الْجُمْلَةِ إِلاَّ مَا
أُسِيمَ لِحَمْلٍ أَوْ رُكُوبٍ أَوْ نَسْلٍ، إِذَا بَلَغَتْ نِصَابًا،
لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فِي خَمْسٍ مِنَ الإِْبِل
السَّائِمَةِ صَدَقَةٌ (3)
__________
(1) لسان العرب والمصباح المنير والقاموس المحيط.
(2) قليوبي 2 / 157، 3 / 8، 157، 297، وابن عابدين 5 / 134، 147، 217،
وجواهر الإكليل 2 / 4، 35، والشرح الصغير 3 / 22، 24، 4 / 141، 474،
والمغني 1 / 77، 3 / 15، 4 / 251 - 255، 8 / 321.
(3) حديث: " في خمس من الإبل. . . " ورد بلفظ: " من لم يكن معه إلا أربع من
الإبل فليس فيها صدقة إلا أن يشاء ربها، فإذا بلغت خمسا من الإبل ففيها شاة
". أخرجه البخاري (الفتح 3 / 317 - ط السلفية) .
(6/43)
كَمَا يُزَكَّى الْمُقْتَنَى مِنَ
الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ مَضْرُوبِهَا وَتِبْرِهَا وَحُلِيِّهَا
وَآنِيَتِهَا، نَوَى التِّجَارَةَ أَوْ لَمْ يَنْوِ، إِذَا بَلَغَ ذَلِكَ
نِصَابًا. وَهَذَا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، وَوَافَقَهُمْ عَلَى ذَلِكَ
الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ فِي الْجُمْلَةِ،
إِلاَّ فِي حُلِيِّ النِّسَاءِ. (1) (ر: زَكَاة) .
اقْتِيَاتٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الاِقْتِيَاتُ لُغَةً: مَصْدَرُ اقْتَاتَ، وَاقْتَاتَ: أَكَل الْقُوتَ،
وَالْقُوتُ: مَا يُؤْكَل لِيَمْسِكَ الرَّمَقَ، (2) كَالْقَمْحِ
وَالأُْرْزِ. وَالأَْشْيَاءُ الْمُقْتَاتَةُ: هِيَ الَّتِي تَصْلُحُ أَنْ
تَكُونَ قُوتًا تُغَذَّى بِهِ الأَْجْسَامُ عَلَى الدَّوَامِ، بِخِلاَفِ
مَا يَكُونُ قِوَامًا لِلأَْجْسَامِ لاَ عَلَى الدَّوَامِ. (3)
وَيُسْتَعْمَل الاِقْتِيَاتُ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ بِالْمَعْنَى
اللُّغَوِيِّ، إِذْ عَرَّفَهُ الدُّسُوقِيُّ بِأَنَّهُ: مَا تَقُومُ
الْبِنْيَةُ بِاسْتِعْمَالِهِ بِحَيْثُ لاَ تَفْسُدُ عِنْدَ الاِقْتِصَارِ
عَلَيْهِ (4) .
وَالأَْغْذِيَةُ أَعَمُّ مِنَ الْقُوتِ، فَإِنَّهَا قَدْ يَتَنَاوَلُهَا
الإِْنْسَانُ تَقَوُّتًا أَوْ تَأَدُّمًا أَوْ تَفَكُّهًا أَوْ تَدَاوِيًا.
الْحُكْمُ الإِْجْمَالِيُّ: وَمَوَاطِنُ الْبَحْثِ:
2 - يَتَكَلَّمُ الْفُقَهَاءُ عَنِ الاِقْتِيَاتِ فِي الزَّكَاةِ، وَفِي
بَيْعِ
__________
(1) الاختيار 1 / 107، 110، والوجيز 1 / 79، والمغني 2 / 575، 577. والكافي
1 / 284، 286، وجواهر الإكليل 1 / 118، 138.
(2) المصباح مادة: (قوت) .
(3) النظم المستعذب 1 / 160، 161 نشر دار المعرفة.
(4) الدسوقي 3 / 47 نشر دار الفكر.
(6/44)
الرِّبَوِيَّاتِ، وَفِي الاِحْتِكَارِ.
فَفِي الزَّكَاةِ لاَ يُخَالِفُ أَحَدٌ مِنَ الْفُقَهَاءِ فِي وُجُوبِ
الزَّكَاةِ فِي الزُّرُوعِ وَالثِّمَارِ إِنْ كَانَتْ مِمَّا يُقْتَاتُ
اخْتِيَارًا وَيُدَّخَرُ، أَمَّا غَيْرُ الْقُوتِ فَفِي بَعْضِ أَنْوَاعِهِ
زَكَاةٌ عِنْدَ بَعْضِ الْفُقَهَاءِ، وَلاَ زَكَاةَ فِيهِ عِنْدَ الْبَعْضِ
الآْخَرِ. (1)
3 - وَفِي بَيْعِ الرِّبَوِيَّاتِ لاَ يُعْتَبَرُ الاِقْتِيَاتُ عِلَّةً
فِي الرِّبَا عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ.
وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ: عِلَّةُ الرِّبَا الاِقْتِيَاتُ وَالاِدِّخَارُ،
إِذْ حَرَّمُوا الرِّبَا فِي كُل مَا كَانَ قُوتًا مُدَّخَرًا، وَنَفَوْهُ
عَمَّا لَيْسَ بِقُوتٍ كَالْفَوَاكِهِ، وَعَمَّا هُوَ قُوتٌ لاَ يُدَّخَرُ
كَاللَّحْمِ، وَفِي مَعْنَى الاِقْتِيَاتِ عِنْدَهُمْ: مَا يُصْلِحُ
الْقُوتَ كَالْمِلْحِ وَالتَّوَابِل. (2)
وَفِي الاِحْتِكَارِ يَتَّفِقُ الْفُقَهَاءُ عَلَى مَنْعِ احْتِكَارِ
الأَْقْوَاتِ عَلَى اخْتِلاَفٍ بَيْنَهُمْ فِي ذَلِكَ الْمَنْعِ،
فَأَغْلَبُهُمْ عَلَى تَحْرِيمِهِ.
وَنَظَرًا لأَِهَمِّيَّةِ الأَْقْوَاتِ لِكُل النَّاسِ قَال أَكْثَرُ
الْفُقَهَاءِ: الاِحْتِكَارُ لاَ يَجْرِي إِلاَّ فِي الأَْقْوَاتِ. (3)
وَقَدْ سَبَقَ تَفْصِيل ذَلِكَ فِي بَحْثِ (احْتِكَار) . .
أَقْرَاءُ
انْظُرْ: قُرْء.
__________
(1) تببين الحقائق 1 / 0 29 نشر دار المعرفة، والخرشي 2 / 168، والمغني 2 /
0 69، 1 69، والمهذب 1 / 160 نشر دار المعرفة.
(2) جواهر الإكليل 2 / 17.
(3) حاشية الشرنبلالي على درر الحكام 1 / 400 ط الأستانة، ومواهب الجليل 4
/ 380 ط ليبيا، والمغني 4 / 244،243 ط الرياض، ونهاية المحتاج 3 / 456.
(6/44)
إِقْرَاءٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الإِْقْرَاءُ لُغَةً: الْحَمْل عَلَى الْقِرَاءَةِ، يُقَال: أَقْرَأَ
غَيْرَهُ يُقْرِئُهُ إِقْرَاءً. وَأَقْرَأَهُ الْقُرْآنَ فَهُوَ مُقْرِئٌ،
وَإِذَا قَرَأَ الرَّجُل الْقُرْآنَ أَوِ الْحَدِيثَ عَلَى الشَّيْخِ
يَقُول: أَقْرَأَنِي فُلاَنٌ، أَيْ حَمَلَنِي عَلَى أَنْ أَقْرَأَ عَلَيْهِ
(1) .
وَلاَ يَخْرُجُ اسْتِعْمَال الْفُقَهَاءِ لَهُ عَنِ الْمَعْنَى
اللُّغَوِيِّ. (الْحَمْل عَلَى الْقِرَاءَةِ) سَوَاءٌ أَكَانَ ذَلِكَ
بِقَصْدِ الاِسْتِمَاعِ وَالذِّكْرِ، أَمْ كَانَ بِقَصْدِ التَّعْلِيمِ
وَالْحِفْظِ. (2)
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - الْقِرَاءَةُ وَالتِّلاَوَةُ:
2 - الْقِرَاءَةُ وَالتِّلاَوَةُ بِمَعْنًى وَاحِدٍ، تَقُول: فُلاَنٌ
يَتْلُو كِتَابَ اللَّهِ: أَيْ يَقْرَؤُهُ وَيَتَكَلَّمُ بِهِ، قَال
اللَّيْثُ: تَلاَ يَتْلُو تِلاَوَةً يَعْنِي: قَرَأَ، وَالْغَالِبُ فِي
التِّلاَوَةِ أَنَّهَا تَكُونُ لِلْقُرْآنِ، وَجَعَلَهُ بَعْضُهُمْ أَعَمَّ
مِنْ تِلاَوَةِ الْقُرْآنِ وَغَيْرِهِ. (3)
__________
(1) لسان العرب مادة: (قرأ) .
(2) المهذب 1 / 201، والمغني 3 / 204 ط الرياض، ومنح الجليل 1 / 427.
(3) لسان العرب مادة (قرأ) و (تلا) .
(6/45)
ب - الْمُدَارَسَةُ:
3 - الْمُدَارَسَةُ هِيَ: أَنْ يَقْرَأَ الشَّخْصُ عَلَى غَيْرِهِ،
وَيَقْرَأَ غَيْرُهُ عَلَيْهِ (1) .
ج - الإِْدَارَةُ:
4 - الإِْدَارَةُ هِيَ: أَنْ يَقْرَأَ بَعْضُ الْجَمَاعَةِ قِطْعَةً، ثُمَّ
يَقْرَأَ غَيْرُهُمْ مَا بَعْدَهَا، وَهَكَذَا (2) .
الْحُكْمُ الإِْجْمَالِيُّ:
5 - الإِْقْرَاءُ بِقَصْدِ الذِّكْرِ وَاسْتِمَاعِ الْقُرْآنِ - وَخَاصَّةً
مِمَّنْ كَانَ صَوْتُهُ حَسَنًا - أَمْرٌ مُسْتَحَبٌّ. فَعَنِ ابْنِ
مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ قَال: قَال لِي رَسُول اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: اقْرَأْ عَلَيَّ الْقُرْآنَ، فَقُلْت:
يَا رَسُول اللَّهِ أَقْرَأُ عَلَيْكَ، وَعَلَيْكَ أُنْزِل؟ قَال: إِنِّي
أُحِبُّ أَنْ أَسْمَعَهُ مِنْ غَيْرِي، قَال: فَقَرَأْتُ عَلَيْهِ سُورَةَ
النِّسَاءِ حَتَّى جِئْتُ إِلَى هَذِهِ الآْيَةِ: {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا
مِنْ كُل أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاَءِ شَهِيدًا}
قَال: حَسْبُكَ الآْنَ، فَالْتَفَتُّ إِلَيْهِ فَإِذَا عَيَّنَاهُ
تَذْرِفَانِ (3) . وَفِي ذَلِكَ تَفْصِيلٌ: (ر: اسْتِمَاع - قُرْآن) .
6 - وَالإِْقْرَاءُ بِقَصْدِ التَّعْلِيمِ وَالْحِفْظِ، وَمِنْهُ قَوْله
تَعَالَى: {سَنُقْرِئُكَ فَلاَ تَنْسَى} (4) . فَهُوَ يُعْتَبَرُ فِي
الْجُمْلَةِ مِنْ فُرُوضِ الْكِفَايَةِ. جَاءَ فِي مِنَحِ الْجَلِيل: مِنْ
فُرُوضِ الْكِفَايَةِ الْقِيَامُ بِعُلُومِ الشَّرْعِ مِمَّنْ هُوَ أَهْلٌ
لَهُ، غَيْرِ مَا يَجِبُ عَيْنًا، وَهُوَ مَا يَحْتَاجُهُ الشَّخْصُ فِي
__________
(1) حاشية ترشيح المستفيدين على فتح المعين ص 165.
(2) المرجع السابق.
(3) حديث ابن مسعود: أخرجه البخاري (9 / 98 الفتح ط السلفية) ، ومسلم (1 /
551 ط الحلبي) .
(4) سورة الأعلى / 6.
(6/45)
نَفْسِهِ، ثُمَّ قَال: وَالْمُرَادُ
بِالْقِيَامِ بِهَا حِفْظُهَا وَإِقْرَاؤُهَا وَقِرَاءَتُهَا
وَتَحْقِيقُهَا. (1)
وَيَتَعَلَّقُ بِذَلِكَ أَحْكَامٌ مُخْتَلِفَةٌ كَأَخْذِ الأُْجْرَةِ عَلَى
ذَلِكَ. وَيُنْظَرُ تَفْصِيل ذَلِكَ فِي - (تَعْلِيم - إِجَارَة -
اعْتِكَاف) .
إِقْرَارٌ
التَّعْرِيفُ
1 - مِنْ مَعَانِي الإِْقْرَارِ فِي اللُّغَةِ: الاِعْتِرَافُ. يُقَال:
أَقَرَّ بِالْحَقِّ إِذَا اعْتَرَفَ بِهِ. وَأَقَرَّ الشَّيْءَ أَوِ
الشَّخْصَ فِي الْمَكَانِ: أَثْبَتَهُ وَجَعَلَهُ يَسْتَقِرُّ فِيهِ. (2)
وَفِي اصْطِلاَحِ الْفُقَهَاءِ، الإِْقْرَارُ: هُوَ الإِْخْبَارُ عَنْ
ثُبُوتِ حَقٍّ لِلْغَيْرِ عَلَى الْمُخْبِرِ، وَهَذَا تَعْرِيفُ
الْجُمْهُورِ (3) .
وَذَهَبَ بَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ إِلَى أَنَّهُ إِنْشَاءٌ، وَذَهَبَ
آخَرُونَ مِنْهُمْ إِلَى أَنَّهُ إِخْبَارٌ مِنْ وَجْهٍ، وَإِنْشَاءٌ مِنْ
وَجْهٍ. (4)
__________
(1) منح الجليل 1 / 709.
(2) المصباح، والقاموس المحيط، واللسان.
(3) الفتاوى الهندية 4 / 156، وتبيين الحقائق 5 / 2، ومواهب الجليل 5 /
216، والشرح الصغير 3 / 525، والبناني على شرح الزرقاني 6 / 91، ونهاية
المحتاج 5 / 64 - 65، وحاشية قليوبي 3 / 2، وكشاف القناع 6 / 452.
(4) الدر المختار مع حاشية ابن عابدين 4 / 448، 449، وحاشية الطحطاوي 3 /
327.
(6/46)
وَالإِْقْرَارُ عِنْدَ الْمُحَدِّثِينَ
وَالأُْصُولِيِّينَ هُوَ: عَدَمُ الإِْنْكَارِ مِنَ النَّبِيِّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى قَوْلٍ أَوْ فِعْلٍ صَدَرَ أَمَامَهُ.
وَتُنْظَرُ أَحْكَامُهُ فِي مُصْطَلَحِ (تَقْرِير) ، وَالْمُلْحَقِ
الأُْصُولِيِّ.
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - الاِعْتِرَافُ:
2 - الاِعْتِرَافُ لُغَةً: مُرَادِفٌ لِلإِْقْرَارِ. يُقَال: اعْتَرَفَ
بِالشَّيْءِ: إِذَا أَقَرَّ بِهِ عَلَى نَفْسِهِ. وَهُوَ كَذَلِكَ عِنْدَ
الْفُقَهَاءِ.
يَقُول قَاضِي زَادَهْ: رُوِيَ فِي السُّنَّةِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَجَمَ مَاعِزًا بِإِقْرَارِهِ بِالزِّنَا،
وَالْغَامِدِيَّةَ بِاعْتِرَافِهَا، وَقَال فِي قِصَّةِ الْعَسِيفِ:
وَاغْدُ يَا أُنَيْسُ إِلَى امْرَأَةِ هَذَا فَإِنِ اعْتَرَفَتْ
فَارْجُمْهَا (1) . فَأَثْبَتَ الْحَدَّ بِالاِعْتِرَافِ. فَالاِعْتِرَافُ
إِقْرَارٌ، وَقَال الْقَلْيُوبِيُّ: إِنَّهُ تَفْسِيرٌ بِالْمُرَادِفِ. (2)
ب - الإِْنْكَارُ:
3 - الإِْنْكَارُ: ضِدُّ الإِْقْرَارِ. يُقَال فِي اللُّغَةِ: أَنْكَرْتُ
حَقَّهُ: إِذَا جَحَدْتُهُ. (3)
وَلاَ يَخْرُجُ الْمَعْنَى الاِصْطِلاَحِيُّ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ
(ر: مُصْطَلَحَ: إِنْكَار) .
__________
(1) حديث: " رجم ماعز. . . " أخرجه البخاري (الفتح 12 / 135 - ط السلفية) ،
ومسلم (3 / 1320 ط عيسى الحلبي) ، وحديث رجم الغامدية أخرجه مسلم (3 / 1322
ط عيسى الحلبي) . وحديث: " اغديا يا أنيس. . . " أخرجه البخاري (الفتح 12 /
137 - ط السلفية) ومسلم (3 / 1325 - ط الحلبي) .
(2) نتائج الأفكار " تكملة الفتح " 6 / 281، وحاشية قليوبي 3 / 2، وروض
الطالب 2 / 287، والمغني 5 / 149.
(3) المصباح المنير.
(6/46)
وَالْمُنْكِرُ فِي الاِصْطِلاَحِ: مَنْ
يَتَمَسَّكُ بِبَقَاءِ الأَْصْل (1) .
ج - الدَّعْوَى:
4 - الدَّعْوَى فِي الاِصْطِلاَحِ: مُبَايِنَةٌ لِلإِْقْرَارِ، فَهِيَ
قَوْلٌ مَقْبُولٌ عِنْدَ الْقَاضِي يُقْصَدُ بِهِ طَلَبُ حَقٍّ قِبَل
الْغَيْرِ، أَوْ دَفْعُ الْخَصْمِ عَنْ حَقِّ نَفْسِهِ (2) .
د - الشَّهَادَةُ:
5 - الشَّهَادَةُ هِيَ: الإِْخْبَارُ فِي مَجْلِسِ الْحُكْمِ بِلَفْظِ
الشَّهَادَةِ لإِِثْبَاتِ حَقٍّ لِلْغَيْرِ عَلَى الْغَيْرِ (3) .
فَيَجْمَعُ كُلًّا مِنَ الإِْقْرَارِ وَالدَّعْوَى وَالشَّهَادَةِ أَنَّهَا
إِخْبَارَاتٌ، وَالْفَرْقُ بَيْنَهَا أَنَّ الإِْخْبَارَ إِنْ كَانَ عَنْ
حَقٍّ سَابِقٍ عَلَى الْمُخْبِرِ وَيَقْتَصِرُ حُكْمُهُ عَلَيْهِ
فَإِقْرَارٌ، وَإِنْ لَمْ يَقْتَصِرْ: فَإِمَّا أَلاَّ يَكُونَ
لِلْمُخْبِرِ فِيهِ نَفْعٌ، وَإِنَّمَا هُوَ إِخْبَارٌ عَنْ حَقٍّ
لِغَيْرِهِ عَلَى غَيْرِهِ فَهُوَ الشَّهَادَةُ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ
لِلْمُخْبِرِ نَفْعٌ فِيهِ، لأَِنَّهُ إِخْبَارٌ بِحَقٍّ لَهُ، فَهُوَ
الدَّعْوَى. (4)
كَمَا تَفْتَرِقُ مِنْ نَاحِيَةِ أَنَّ الإِْقْرَارَ يَصِحُّ بِالْمُبْهَمِ
وَيَلْزَمُ تَعْيِينُهُ.
أَمَّا الدَّعْوَى بِالْمُبْهَمِ فَإِنْ كَانَتْ بِمَا يَصِحُّ وُقُوعُ
الْعَقْدِ عَلَيْهِ مُبْهَمًا كَالْوَصِيَّةِ فَإِنَّهَا تَصِحُّ.
__________
(1) حاشية ابن عابدين 3 / 144.
(2) الدر المختار 4 / 419.
(3) الدر بحاشية الطحطاوي 3 / 227، وحاشية قليوبي 4 / 318.
(4) الدر المختار بحاشية ابن عابدين 4 / 448، وتبيين الحقائق 5 / 2، ومواهب
الجليل 5 / 216، والشرح الصغير 3 / 525، والشرح الكبير للدردير وحاشية
الدسوقي عليه 3 / 397، وبلغة السالك 2 / 190، ونهاية المحتاج 5 / 65،
وحاشية قليوبي 3 / 2.
(6/47)
وَأَمَّا الدَّعْوَى عَلَى الْمُدَّعَى
عَلَيْهِ الْمُبْهَمِ فَلاَ تَصِحُّ، وَلاَ تُسْمَعُ.
وَأَمَّا الشَّهَادَةُ بِالْمُبْهَمِ فَإِنْ كَانَ الْمَشْهُودُ بِهِ
يَصِحُّ مُبْهَمًا صَحَّتِ الشَّهَادَةُ بِهِ كَالْعِتْقِ وَالطَّلاَقِ،
وَإِلاَّ لَمْ تَصِحَّ، لاَ سِيَّمَا الشَّهَادَةِ الَّتِي لاَ تَصِحُّ
بِدُونِ دَعْوَى (1) .
الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ:
6 - الأَْصْل فِي الإِْقْرَارِ بِحُقُوقِ الْعِبَادِ الْوُجُوبُ، وَمِنْ
ذَلِكَ: الإِْقْرَارُ بِالنَّسَبِ الثَّابِتِ لِئَلاَّ تَضِيعَ
الأَْنْسَابُ، لِمَا رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ
رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال حِينَ نَزَلَتْ
آيَةُ الْمُلاَعَنَةِ: أَيُّمَا رَجُلٍ جَحَدَ وَلَدَهُ وَهُوَ يَنْظُرُ
إِلَيْهِ احْتَجَبَ اللَّهُ عَنْهُ وَفَضَحَهُ اللَّهُ عَلَى رُءُوسِ
الأَْوَّلِينَ وَالآْخِرِينَ (2)
وَكَذَلِكَ الإِْقْرَارُ بِالْحَقِّ الَّذِي عَلَيْهِ لِلْغَيْرِ إِذَا
كَانَ مُتَعَيِّنًا لإِِثْبَاتِهِ، لأَِنَّ مَا لاَ يَتِمُّ الْوَاجِبُ
إِلاَّ بِهِ فَهُوَ وَاجِبٌ.
دَلِيل مَشْرُوعِيَّةِ الإِْقْرَارِ:
7 - ثَبَتَتْ حُجِّيَّةُ الإِْقْرَارِ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ
وَالإِْجْمَاعِ وَالْمَعْقُول.
أَمَّا الْكِتَابُ فَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَلْيُمْلِل الَّذِي عَلَيْهِ
الْحَقُّ} (3) أَمَرَهُ بِالإِْمْلاَل، فَلَوْ لَمْ يَقْبَل إِقْرَارَهُ
لَمَّا كَانَ لإِِمْلاَلِهِ مَعْنًى.
__________
(1) القواعد لابن رجب ص 234.
(2) حديث: " أيما رجل جحد ولده. . . . " أخرجه أبو داود (2 / 695 - ط عزت
عبيد دعاس) وأعله ابن حجر في التلخيص (3 / 226 - ط دار المحاسن) .
(3) سورة البقرة / 282.
(6/47)
وقَوْله تَعَالَى: {بَل الإِْنْسَانُ عَلَى
نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ} (1) أَيْ شَاهِدٌ كَمَا قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ.
وَأَمَّا السُّنَّةُ: فَمَا رُوِيَ أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ
وَالسَّلَامُ رَجَمَ مَاعِزًا وَالْغَامِدِيَّةَ بِإِقْرَارِهِمَا، فَإِذَا
وَجَبَ الْحَدُّ بِإِقْرَارِهِ عَلَى نَفْسِهِ فَالْمَال أَوْلَى أَنْ
يَجِبَ.
وَأَمَّا الإِْجْمَاعُ: فَلأَِنَّ الأُْمَّةَ أَجْمَعَتْ عَلَى أَنَّ
الإِْقْرَارَ حُجَّةٌ قَاصِرَةٌ عَلَى الْمُقِرِّ، حَتَّى أَوْجَبُوا
عَلَيْهِ الْحُدُودَ وَالْقِصَاصَ بِإِقْرَارِهِ، وَالْمَال أَوْلَى.
وَأَمَّا الْمَعْقُول: فَلأَِنَّ الْعَاقِل لاَ يُقِرُّ عَلَى نَفْسِهِ
كَاذِبًا بِمَا فِيهِ ضَرَرٌ عَلَى نَفْسِهِ أَوْ مَالِهِ، فَتَرَجَّحَتْ
جِهَةُ الصِّدْقِ فِي حَقِّ نَفْسِهِ، لِعَدَمِ التُّهْمَةِ، وَكَمَال
الْوِلاَيَةِ. (2)
أَثَرُ الإِْقْرَارِ:
8 - أَثَرُ الإِْقْرَارِ ظُهُورُ مَا أَقَرَّ بِهِ، أَيْ ثُبُوتُ الْحَقِّ
فِي الْمَاضِي، لاَ إِنْشَاءُ الْحَقِّ ابْتِدَاءً، فَلَوْ أَقَرَّ
لِغَيْرِهِ بِمَالٍ وَالْمُقَرُّ لَهُ يَعْلَمُ أَنَّ الْمُقِرَّ كَاذِبٌ
فِي إِقْرَارِهِ، لاَ يَحِل لَهُ أَخْذُ الْمَال عَنْ كُرْهٍ مِنْهُ فِيمَا
بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى، إِلاَّ أَنْ يُسَلِّمَهُ إِيَّاهُ
بِطِيبِ نَفْسٍ مِنْهُ فَيَكُونَ تَمْلِيكًا مُبْتَدَأً عَلَى سَبِيل
الْهِبَةِ.
وَقَال صَاحِبُ النِّهَايَةِ وَمَنْ يَحْذُو حَذْوَهُ: حُكْمُهُ لُزُومُ
مَا أَقَرَّ بِهِ عَلَى الْمُقِرِّ (3) .
__________
(1) سورة القيامة / 14.
(2) تبيين الحقائق 5 / 3 وحاشية الطحطاوي 3 / 326 والمغني 5 / 149، وكشاف
القناع 6 / 453، وانظر تفسير القرطبي 3 / 385
(3) تكملة فتح القدير 6 / 280 - 282.
(6/48)
حُجِّيَّةُ الإِْقْرَارِ:
9 - الإِْقْرَارُ خَبَرٌ، فَكَانَ مُحْتَمِلاً لِلصِّدْقِ وَالْكَذِبِ
بِاعْتِبَارِ ظَاهِرِهِ، وَلَكِنَّهُ جُعِل حُجَّةً لِظُهُورِ رُجْحَانِ
جَانِبِ الصِّدْقِ فِيهِ، إِذِ الْمُقِرُّ غَيْرُ مُتَّهَمٍ فِيمَا يُقِرُّ
بِهِ عَلَى نَفْسِهِ.
قَال ابْنُ الْقَيِّمِ: الْحُكْمُ بِالإِْقْرَارِ يَلْزَمُ قَبُولُهُ بِلاَ
خِلاَفٍ. (1)
وَالأَْصْل أَنَّ الإِْقْرَارَ حُجَّةٌ بِنَفْسِهِ، وَلاَ يَحْتَاجُ
لِثُبُوتِ الْحَقِّ بِهِ إِلَى الْقَضَاءِ، فَهُوَ أَقْوَى مَا يُحْكَمُ
بِهِ، وَهُوَ مُقَدَّمٌ عَلَى الْبَيِّنَةِ. (2) وَلِهَذَا يَبْدَأُ
الْحَاكِمُ بِالسُّؤَال عَنْهُ قَبْل السُّؤَال عَنِ الشَّهَادَةِ. قَال
الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ: وَلِهَذَا لَوْ شَهِدَ شَاهِدَانِ
لِلْمُدَّعِي ثُمَّ أَقَرَّ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ حُكِمَ بِالإِْقْرَارِ
وَبَطَلَتِ الشَّهَادَةُ. (3) وَلِذَا قِيل: إِنَّهُ سَيِّدُ الْحُجَجِ.
عَلَى أَنَّ حُجِّيَّتَهُ قَاصِرَةٌ عَلَى الْمُقِرِّ وَحْدَهُ لِقُصُورِ
وِلاَيَةِ الْمُقِرِّ عَنْ غَيْرِهِ فَيَقْتَصِرُ عَلَيْهِ. (4) فَلاَ
يَصِحُّ إِلْزَامُ أَحَدٍ بِعُقُوبَةٍ نَتِيجَةَ إِقْرَارِ آخَرَ بِأَنَّهُ
شَارَكَهُ فِي جَرِيمَتِهِ. وَهَذَا مَا جَرَى عَلَيْهِ الْقَضَاءُ فِي
عَهْدِ الرَّسُول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فَقَدْ رُوِيَ أَنَّ
رَجُلاً جَاءَ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَال:
إِنَّهُ قَدْ زَنَى بِامْرَأَةٍ - سَمَّاهَا - فَأَرْسَل النَّبِيُّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الْمَرْأَةِ فَدَعَاهَا فَسَأَلَهَا
عَمَّا قَال، فَأَنْكَرَتْ فَحَدَّهُ وَتَرَكَهَا (5) .
__________
(1) الطرق الحكمية ص 194 وبداية المجتهد 2 / 393 ط الخانجي.
(2) الطرق الحكمية ص 196.
(3) حاشية الرملي الكبير على أسنى المطالب 2 / 288.
(4) الهداية وتكملة الفتح 1 / 282، وتبيين الحقائق 5 / 3
(5) سبل السلام 4 / 6 الطبعة الثانية سنة 1950، والهداية وتكملة الفتح 6 /
282. وحديث: " جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم: فقال: إنه قد زنا
بامرأة. . . " أخرجه أبو داود (4 / 611 - ط عزت عبيد دعاس) وذكره الشوكاني
في النيل (7 / 106 - ط العثمانية) وذكر أن النسائى استنكره، وذكر أن فيه من
يتكلم فيه.
(6/48)
غَيْرَ أَنَّ هُنَاكَ بَعْضَ حَالاَتٍ لاَ
بُدَّ فِيهَا لِلْحُكْمِ بِمُقْتَضَى الإِْقْرَارِ مِنْ إِقَامَةِ
الْبَيِّنَةِ أَيْضًا. وَهَذَا إِذَا مَا طَلَبَ تَعَدِّيَ الْحُكْمِ إِلَى
الْغَيْرِ. فَلَوِ ادَّعَى شَخْصٌ عَلَى مَدِينِ الْمَيِّتِ أَنَّهُ
وَصِيُّهُ فِي التَّرِكَةِ، وَصَدَّقَهُ الْمَدِينُ فِي دَعْوَى
الْوِصَايَةِ وَالدَّيْنِ، فَإِنَّ الْوِصَايَةَ لاَ تَثْبُتُ بِهَذَا
الإِْقْرَارِ بِالنِّسْبَةِ لِمَدِينٍ آخَرَ يُنْكِرُ الْوِصَايَةَ
وَإِنَّمَا يَحْتَاجُ إِلَى بَيِّنَةٍ.
وَفِي الدُّرِّ الْمُخْتَارِ: أَحَدُ الْوَرَثَةِ أَقَرَّ بِالدَّيْنِ
الْمُدَّعَى بِهِ عَلَى مُورَثِهِ، وَجَحَدَهُ الْبَاقُونَ، يَلْزَمُهُ
الدَّيْنُ كُلُّهُ إِنْ وَفَّتْ حِصَّتُهُ مِنَ الْمِيرَاثِ بِهِ، وَقِيل:
لاَ يَلْزَمُهُ إِلاَّ حِصَّتُهُ مِنَ الدَّيْنِ رَفْعًا لِلضَّرَرِ
عَنْهُ، لأَِنَّهُ إِنَّمَا أَقَرَّ بِمَا يَتَعَلَّقُ بِكُل التَّرِكَةِ.
وَهُوَ قَوْل الشَّعْبِيِّ وَالْبَصْرِيِّ وَالثَّوْرِيِّ وَمَالِكٍ
وَابْنِ أَبِي لَيْلَى، وَاخْتَارَهُ ابْنُ عَابِدِينَ، وَلَوْ شَهِدَ
هَذَا الْمُقِرُّ مَعَ آخَرَ أَنَّ الدَّيْنَ كَانَ عَلَى الْمَيِّتِ
قُبِلَتْ شَهَادَتُهُ، وَلاَ يُؤْخَذُ مِنْهُ إِلاَّ مَا يَخُصُّهُ.
وَبِهَذَا عُلِمَ أَنَّهُ لاَ يَحِل الدَّيْنُ فِي نَصِيبِهِ بِمُجَرَّدِ
إِقْرَارِهِ، بَل بِقَضَاءِ الْقَاضِي عَلَيْهِ بِإِقْرَارِهِ. يَقُول
ابْنُ عَابِدِينَ: وَلَوْ أَقَرَّ مَنْ عِنْدَهُ الْعَيْنُ أَنَّهُ وَكِيلٌ
بِقَبْضِهَا لاَ يَكْفِي إِقْرَارُهُ، وَيُكَلَّفُ الْوَكِيل إِقَامَةَ
الْبَيِّنَةِ عَلَى إِثْبَاتِ الْوَكَالَةِ حَتَّى يَكُونَ لَهُ قَبْضُ
ذَلِكَ.
ثُمَّ الإِْقْرَارُ حُجَّةٌ فِي النَّسَبِ، وَيَثْبُتُ بِهِ النَّسَبُ
إِلاَّ إِذَا كَذَّبَهُ الْوَاقِعُ، كَأَنْ يُقِرَّ بِنَسَبِ مَنْ لاَ
يُولَدُ مِثْلُهُ لِمِثْلِهِ. (1)
__________
(1) حاشية ابن عابدين 4 / 456 - 457، والزرقاني على خليل 6 / 104، 105،
ومغني المحتاج 2 / 259، وابن عابدين 4 / 465، والمغني 5 / 200.
(6/49)
سَبَبُ الإِْقْرَارِ:
10 - سَبَبُ الإِْقْرَارِ كَمَا يَقُول الْكَمَال بْنُ الْهُمَامِ:
إِرَادَةُ إِسْقَاطِ الْوَاجِبِ عَنْ ذِمَّتِهِ بِإِخْبَارِهِ
وَإِعْلاَمِهِ، لِئَلاَّ يَبْقَى فِي تَبَعَةِ الْوَاجِبِ (1) .
رُكْنُ الإِْقْرَارِ:
11 - أَرْكَانُ الإِْقْرَارِ عِنْدَ غَيْرِ الْحَنَفِيَّةِ أَرْبَعَةٌ:
مُقِرٌّ، وَمُقَرٌّ لَهُ، وَمُقَرٌّ بِهِ، وَصِيغَةٌ (2) ، وَذَلِكَ
لأَِنَّ الرُّكْنَ عِنْدَهُمْ هُوَ مَا لاَ يَتِمُّ الشَّيْءُ إِلاَّ بِهِ،
سَوَاءٌ أَكَانَ جُزْءًا مِنْهُ أَمْ لاَزِمًا لَهُ. وَزَادَ بَعْضُهُمْ
كَمَا يَقُول الرَّمْلِيُّ: الْمُقَرُّ عِنْدَهُ مِنْ حَاكِمٍ أَوْ
شَاهِدٍ، وَقَال: وَهَذِهِ الزِّيَادَةُ مَحَل نَظَرٍ، إِذْ لَوْ تَوَقَّفَ
تَحَقُّقُ الإِْقْرَارِ عَلَى ذَلِكَ لَزِمَ أَنَّهُ لَوْ أَقَرَّ خَالِيًا
بِحَيْثُ لاَ يَسْمَعُهُ شَاهِدٌ، وَلَمْ يَكُنْ أَمَامَ قَاضٍ، ثُمَّ
بَعْدَ مُدَّةٍ تَبَيَّنَ أَنَّهُ أَقَرَّ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ فِي
يَوْمِ كَذَا، لَمْ يُعْتَدَّ بِهَذَا الإِْقْرَارِ، لِعَدَمِ وُجُودِ
هَذَا الرُّكْنِ الزَّائِدِ، وَهُوَ مَمْنُوعٌ، وَلِذَا فَإِنَّهُ لاَ
يُشْتَرَطُ (3) .
وَأَمَّا رُكْنُ الإِْقْرَارِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ فَهُوَ الصِّيغَةُ
فَقَطْ، صَرَاحَةً كَانَتْ أَوْ دَلاَلَةً، وَذَلِكَ لأَِنَّ الرُّكْنَ
عِنْدَهُمْ: مَا يَتَوَقَّفُ عَلَيْهِ وُجُودُ الشَّيْءِ، وَهُوَ جُزْءٌ
مِنْ مَاهِيَّتِهِ.
الْمُقِرُّ وَمَا يُشْتَرَطُ فِيهِ:
الْمُقِرُّ مَنْ صَدَرَ مِنْهُ الإِْخْبَارُ عَنْ ثُبُوتِ حَقٍّ لِلْغَيْرِ
عَلَى نَفْسِهِ وَتُشْتَرَطُ فِيهِ أُمُورٌ:
الشَّرْطُ الأَْوَّل: الْمَعْلُومِيَّةُ.
12 - أَوَّل مَا يُشْتَرَطُ لاِعْتِبَارِ الإِْقْرَارِ وَالأَْخْذِ بِهِ
أَنْ
__________
(1) فتح القدير على الهداية 4 / 280.
(2) التاج والإكليل 5 / 216، والشرح الصغير 3 / 529، وأسنى المطالب 2 / 287
- 288، ونهاية المحتاج 5 / 65.
(3) نهاية المحتاج إلى شرح المنهاج 5 / 65.
(6/49)
يَكُونَ الْمُقِرُّ مَعْلُومًا حَتَّى لَوْ
قَال رَجُلاَنِ: لِفُلاَنٍ عَلَى وَاحِدٍ مِنَّا أَلْفُ دِرْهَمٍ لاَ
يَصِحُّ، لأَِنَّهُ إِذَا لَمْ يَكُنْ مَعْلُومًا لاَ يَتَمَكَّنُ
الْمُقَرُّ لَهُ مِنَ الْمُطَالَبَةِ، وَكَذَلِكَ إِذَا قَال أَحَدُهُمَا:
غَصَبَ وَاحِدٌ مِنَّا، أَوْ زَنَا، أَوْ سَرَقَ، أَوْ شَرِبَ، أَوْ
قَذَفَ، لأَِنَّ مَنْ عَلَيْهِ الْحَقُّ غَيْرُ مَعْلُومٍ وَيُجْبَرَانِ
عَلَى الْبَيَانِ.
الشَّرْطُ الثَّانِي: الْعَقْل:
13 - وَيُشْتَرَطُ فِي الْمُقِرِّ أَنْ يَكُونَ عَاقِلاً. فَلاَ يَصِحُّ
إِقْرَارُ الصَّبِيِّ غَيْرِ الْمُمَيِّزِ وَالْمَجْنُونِ وَالْمَعْتُوهِ
وَالنَّائِمِ وَالسَّكْرَانِ عَلَى تَفْصِيلٍ يَأْتِي بَيَانُهُ.
إِقْرَارُ الْمَعْتُوهِ:
14 - لاَ يَصِحُّ إِقْرَارُ الْمَعْتُوهِ وَلَوْ بَعْدَ الْبُلُوغِ،
لأَِنَّ حُكْمَهُ حُكْمُ الصَّبِيِّ الْمُمَيِّزِ، فَلاَ يَلْتَزِمُ
بِشَيْءٍ فِيهِ ضَرَرٌ (1) إِلاَّ إِذَا كَانَ مَأْذُونًا لَهُ فَيَصِحُّ
إِقْرَارُهُ بِالْمَال، لِكَوْنِهِ مِنْ ضَرُورَاتِ التِّجَارَةِ:
كَالدُّيُونِ، وَالْوَدَائِعِ، وَالْعَوَارِيِّ، وَالْمُضَارَبَاتِ،
وَالْغُصُوبِ، فَيَصِحُّ إِقْرَارُهُ. لاِلْتِحَاقِهِ فِي حَقِّهَا
بِالْبَالِغِ الْعَامِل. بِخِلاَفِ مَا لَيْسَ مِنْ بَابِ التِّجَارَةِ:
كَالْمَهْرِ، وَالْجِنَايَةِ، وَالْكَفَالَةِ، حَيْثُ لاَ يَصِحُّ
إِقْرَارُهُ بِهَا لأَِنَّهَا لاَ تَدْخُل تَحْتَ الإِْذْنِ (2) .
إِقْرَارُ النَّائِمِ وَالْمُغْمَى عَلَيْهِ:
15 - النَّائِمُ وَالْمُغْمَى عَلَيْهِ إِقْرَارُهُمَا كَإِقْرَارِ
الْمَجْنُونِ،
__________
(1) التلويح 3 / 166، وشرح المنار لابن ملك ص 950.
(2) تبيين الحقائق 5 / 3، والهداية ونتائج الأفكار 6 / 284، وحاشية ابن
عابدين 4 / 449 - 450.
(6/50)
لأَِنَّهُمَا حَال النَّوْمِ
وَالإِْغْمَاءِ لَيْسَا مِنْ أَهْل الْمَعْرِفَةِ وَالتَّمْيِيزِ، وَهُمَا
شَرْطَانِ لِصِحَّةِ الإِْقْرَارِ. (1)
إِقْرَارُ السَّكْرَانِ:
16 - السَّكْرَانُ مَنْ فَقَدَ عَقْلَهُ بِشُرْبِ مَا يُسْكِرُ،
وَإِقْرَارُ السَّكْرَانِ جَائِزٌ بِالْحُقُوقِ كُلِّهَا إِلاَّ الْحُدُودَ
الْخَالِصَةَ، وَالرِّدَّةُ بِمَنْزِلَةِ سَائِرِ التَّصَرُّفَاتِ. (2)
وَهَذَا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمُزَنِيِّ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ
وَأَبِي ثَوْرٍ إِذَا كَانَ سُكْرُهُ بِطَرِيقٍ مَحْظُورٍ، لأَِنَّهُ لاَ
يُنَافِي الْخِطَابَ، إِلاَّ إِذَا أَقَرَّ بِمَا يَقْبَل الرُّجُوعَ
كَالْحُدُودِ الْخَالِصَةِ حَقًّا لِلَّهِ تَعَالَى، لأَِنَّ السَّكْرَانَ
يَكَادُ لاَ يَثْبُتُ عَلَى شَيْءٍ فَأُقِيمَ السُّكْرُ مَقَامَهُ فِيمَا
يَحْتَمِل الرُّجُوعَ فَلاَ يَلْزَمُهُ شَيْءٌ.
وَإِنْ سَكِرَ بِطَرِيقٍ غَيْرِ مُحَرَّمٍ، كَمَنْ شَرِبَ الْمُسْكِرَ
مُكْرَهًا لاَ يَلْزَمُهُ شَيْءٌ، وَكَذَا مَنْ شَرِبَ مَا لاَ يَعْلَمُ
أَنَّهُ مُسْكِرٌ فَسَكِرَ بِذَلِكَ. (3)
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: إِنَّ السَّكْرَانَ لاَ يُؤَاخَذُ بِإِقْرَارِهِ،
لأَِنَّهُ وَإِنْ كَانَ مُكَلَّفًا إِلاَّ أَنَّهُ مَحْجُورٌ عَلَيْهِ فِي
الْمَال. وَكَمَا لاَ يَلْزَمُهُ إِقْرَارُهُ - لاَ تَلْزَمُهُ الْعُقُودُ،
بِخِلاَفِ جِنَايَاتِهِ فَإِنَّهَا تَلْزَمُهُ.
وَقَال جُمْهُورُ الشَّافِعِيَّةِ: إِقْرَارُ السَّكْرَانِ صَحِيحٌ،
وَيُؤَاخَذُ بِهِ فِي كُل مَا أَقَرَّ بِهِ، سَوَاءٌ وَقَعَ الاِعْتِدَاءُ
فِيهَا عَلَى حَقِّ اللَّهِ سُبْحَانَهُ أَوْ عَلَى حَقِّ الْعَبْدِ،
لأَِنَّ
__________
(1) المصادر السابقة.
(2) الهداية وتكملة الفتح 6 / 284.
(3) تبيين الحقائق 5 / 3 - 4، والمهذب 2 / 77، 344، وأسنى المطالب 3 / 283،
والدر المختار وحاشية ابن عابدين 4 / 469، والبحر الرائق 5 / 7، والمغني 8
/ 195.
(6/50)
الْمُتَعَدِّيَ بِسُكْرِهِ يَجِبُ أَنْ
يَتَحَمَّل نَتِيجَةَ عَمَلِهِ، تَغْلِيظًا عَلَيْهِ وَجَزَاءً لِمَا
أَقْدَمَ عَلَيْهِ وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّهُ سَيُذْهِبُ عَقْلَهُ. (1)
17 - أَمَّا مَنْ تَغَيَّبَ عَقْلُهُ بِسَبَبٍ يُعْذَرُ فِيهِ فَلاَ
يُلْزَمُ بِإِقْرَارِهِ، سَوَاءٌ أَقَرَّ بِمَا يَجِبُ فِيهِ الْحَدُّ
حَقًّا لِلَّهِ خَالِصًا أَوْ مَا فِيهِ حَقُّ الْعَبْدِ أَيْضًا.
وَكَذَا فَإِنَّهُ لاَ يَصِحُّ إِقْرَارُ السَّكْرَانِ فِي رِوَايَةٍ
عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ، قَال ابْنُ مُنَجَّا: إِنَّهَا الْمَذْهَبُ
وَجَزَمَ بِهِ فِي الْوَجِيزِ وَغَيْرِهِ. وَجَاءَ فِي أَوَّل كِتَابِ
الطَّلاَقِ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ أَنَّ فِي أَقْوَال السَّكْرَانِ
وَأَفْعَالِهِ خَمْسَ رِوَايَاتٍ أَوْ سِتَّةً، وَأَنَّ الصَّحِيحَ فِي
الْمَذْهَبِ: أَنَّهُ مُؤَاخَذٌ بِعِبَارَتِهِ. (2)
(إِقْرَارُ السَّفِيهِ:
18 - السَّفِيهُ بَعْدَ الْحَجْرِ عَلَيْهِ لاَ يَصِحُّ إِقْرَارُهُ
بِالْمَال، لأَِنَّهُ مِنَ التَّصَرُّفَاتِ الضَّارَّةِ الْمَحْضَةِ مِنْ
حَيْثُ الظَّاهِرُ، وَإِنَّمَا قُبِل الإِْقْرَارُ مِنَ الْمَأْذُونِ
لِلضَّرُورَةِ.
وَإِذَا بَلَغَ الصَّبِيُّ سَفِيهًا أَوْ ذَا غَفْلَةٍ وَحُجِرَ عَلَيْهِ
بِسَبَبِ ذَلِكَ أَوِ اعْتُبِرَ مَحْجُورًا عَلَيْهِ فَإِنَّهُ فِي
تَصَرُّفَاتِهِ الْمَالِيَّةِ الضَّارَّةِ يَأْخُذُ حُكْمَ الصَّبِيِّ
الْمُمَيِّزِ، فَإِذَا تَزَوَّجَ وَأَقَرَّ بِأَنَّ الْمَهْرَ الَّذِي
قَرَّرَهُ لَهَا أَكْثَرَ مِنْ مَهْرِ الْمِثْل فَالزِّيَادَةُ بَاطِلَةٌ،
وَهَكَذَا فَإِنَّ الْقَاضِيَ يَرُدُّ كُل تَصَرُّفَاتِهِ الْمَالِيَّةِ
الضَّارَّةِ. (3)
__________
(1) الشرح الكبير وحاشية الدسوقي 3 / 397، والمهذب 2 / 77، 344، وأسنى
المطالب 3 / 283.
(2) الإنصاف 12 / 132، وكشاف القناع 6 / 454.
(3) البدائع 7 / 171، والهداية ونتائج الأفكار 6 / 283، وشرح المنار ص 989،
والتوضيح والتلويح 3 / 318، وحاشية الدسوقي 3 / 397.
(6/51)
وَعَلَى الْقَوْل بِأَنَّ الْحَجْرَ
عَلَيْهِ لاَ بُدَّ مِنَ الْحُكْمِ بِهِ وَلاَ يَكُونُ تِلْقَائِيًّا
بِسَبَبِ السَّفَهِ فَإِنَّ السَّفِيهَ الْمُهْمَل - أَيِ الَّذِي لَمْ
يُحْجَرْ عَلَيْهِ - يَصِحُّ إِقْرَارُهُ.
وَنَصَّ الشَّافِعِيَّةُ عَلَى أَنَّهُ لاَ يَصِحُّ إِقْرَارُهُ بِنِكَاحٍ،
وَلاَ بِدَيْنٍ أَسْنَدَ وُجُوبَهُ إِلَى مَا قَبْل الْحَجْرِ، أَوْ إِلَى
مَا بَعْدَهُ، وَلاَ يُقْبَل إِقْرَارُهُ بِعَيْنٍ فِي يَدِهِ فِي حَال
الْحَجْرِ، وَكَذَا بِإِتْلاَفِ مَال الْغَيْرِ، أَوْ جِنَايَةٍ تُوجِبُ
الْمَال فِي الأَْظْهَرِ. وَفِي قَوْلٍ عِنْدَهُمْ يُقْبَل، لأَِنَّهُ
إِذَا بَاشَرَ الإِْتْلاَفَ يَضْمَنُ، فَإِذَا أَقَرَّ بِهِ قُبِل
إِقْرَارُهُ، وَيَصِحُّ إِقْرَارُهُ بِالْحَدِّ وَالْقِصَاصِ لِعَدَمِ
تَعَلُّقِهِمَا بِالْمَال، وَسَائِرُ الْعُقُوبَاتِ مِثْلُهُمَا لِبُعْدِ
التُّهْمَةِ، وَلَوْ كَانَ الْحَدُّ سَرِقَةً قُطِعَ، وَلاَ يَلْزَمُهُ
الْمَال. (1)
وَذَكَرَ الأَْدَمِيُّ الْبَغْدَادِيُّ مِنَ الْحَنَابِلَةِ: أَنَّ
السَّفِيهَ إِنْ أَقَرَّ بِحَدٍّ أَوْ قَوَدٍ أَوْ نَسَبٍ أَوْ طَلاَقٍ
لَزِمَ - وَيُتْبَعُ بِهِ فِي الْحَال - وَإِنْ أَقَرَّ بِمَالٍ أُخِذَ
بِهِ بَعْدَ رَفْعِ الْحَجْرِ عَنْهُ.
وَالصَّحِيحُ مِنْ مَذْهَبِ الْحَنَابِلَةِ: صِحَّةُ إِقْرَارِ السَّفِيهِ
بِالْمَال سَوَاءٌ لَزِمَهُ بِاخْتِيَارِهِ أَوْ لاَ، وَيُتْبَعُ بِهِ
بَعْدَ فَكِّ الْحَجْرِ عَنْهُ، وَقِيل: لاَ يَصِحُّ مُطْلَقًا، وَهُوَ
احْتِمَالٌ ذَكَرَهُ ابْنُ قُدَامَةَ فِي الْمُقْنِعِ فِي بَابِ الْحَجْرِ،
وَاخْتَارَهُ هُوَ وَالشَّارِحُ (2) .
الشَّرْطُ الثَّالِثُ الْبُلُوغُ.
19 - أَمَّا الْبُلُوغُ فَإِنَّهُ لَيْسَ بِشَرْطٍ لِصِحَّةِ الإِْقْرَارِ
(3) فَيَصِحُّ إِقْرَارُ الصَّبِيِّ الْعَاقِل الْمَأْذُونِ لَهُ
بِالدَّيْنِ وَالْعَيْنِ، لأَِنَّ ذَلِكَ مِنْ ضَرُورَاتِ التِّجَارَةِ،
وَيَصِحُّ
__________
(1) نهاية المحتاج 4 / 358.
(2) الإنصاف 12 / 128 - 129.
(3) البدائع 5 / 222 - 223، وتبيين الحقائق 5 / 4، ونهاية المحتاج 4 / 307،
ومواهب الجليل 5 / 216، والمغني 5 / 149 - 150.
(6/51)
إِقْرَارُهُ فِي قَدْرِ مَا أُذِنَ لَهُ
فِيهِ دُونَ مَا زَادَ، وَنَصَّ الْحَنَابِلَةُ عَلَى أَنَّهُ الْمَذْهَبُ
وَعَلَيْهِ جُمْهُورُ الأَْصْحَابِ، وَهُوَ قَوْل أَبِي حَنِيفَةَ.
وَقَال الشَّافِعِيُّ: لاَ يَصِحُّ إِقْرَارُهُ بِحَالٍ لِعُمُومِ
الْخَبَرِ: رُفِعَ الْقَلَمُ عَنْ ثَلاَثَةٍ، عَنِ الصَّبِيِّ حَتَّى
يَبْلُغَ، وَعَنِ الْمَجْنُونِ حَتَّى يُفِيقَ، وَعَنِ النَّائِمِ حَتَّى
يَسْتَيْقِظَ (1) وَلأَِنَّهُ لاَ تُقْبَل شَهَادَتُهُ، وَفِي قَوْلٍ
عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ: إِنَّهُ لاَ يَصِحُّ إِقْرَارُ الْمَأْذُونِ لَهُ
إِلاَّ فِي الشَّيْءِ الْيَسِيرِ. إِلاَّ أَنَّهُ لاَ يَصِحُّ إِقْرَارُ
الْمَحْجُورِ عَلَيْهِ، لأَِنَّهُ مِنَ التَّصَرُّفَاتِ الضَّارَّةِ
الْمَحْضَةِ مِنْ حَيْثُ الظَّاهِرُ. (2) وَيُقْبَل إِقْرَارُ الصَّبِيِّ
بِبُلُوغِهِ الاِحْتِلاَمَ فِي وَقْتِ إِمْكَانِهِ، إِذْ لاَ يُمْكِنُ
مَعْرِفَةُ ذَلِكَ إِلاَّ مِنْ جِهَتِهِ، وَكَذَا ادِّعَاءُ الصَّبِيَّةِ
الْبُلُوغَ بِرُؤْيَةِ الْحَيْضِ. (3) وَلَوِ ادَّعَى الْبُلُوغَ
بِالسِّنِّ قُبِل بِبَيِّنَةٍ، وَقِيل: يُصَدَّقُ فِي سِنٍّ يُبْلَغُ فِي
مِثْلِهَا، وَهِيَ تِسْعُ سِنِينَ، وَقِيل: عَشْرُ سِنِينَ، وَقِيل:
اثْنَتَا عَشْرَةَ سَنَةً، وَيَلْزَمُهُ بِهَذَا الْبُلُوغِ مَا أَقَرَّ
بِهِ. (4)
وَأَفْتَى الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ: فِيمَنْ أَسْلَمَ أَبُوهُ،
فَادَّعَى أَنَّهُ بَالِغٌ، بِأَنَّهُ إِذَا كَانَ لَمْ يُقِرَّ
بِالْبُلُوغِ إِلَى حِينِ الإِْسْلاَمِ فَقَدْ حُكِمَ بِإِسْلاَمِهِ قَبْل
الإِْقْرَارِ بِالْبُلُوغِ. وَذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ مَا إِذَا ادَّعَتِ
انْقِضَاءَ الْعِدَّةِ بَعْدَ أَنِ ارْتَجَعَهَا، وَقَال: هَذَا يَجِيءُ
فِي كُل مَنْ أَقَرَّ
__________
(1) حديث: " رفع القلم عن ثلاثة. . . " أخرجه أبو داود (4 / 560 ط عزت عبيد
دعاس) وقواه ابن حجر كما في فيض القدير (4 / 36 ط المكتبة التجارية) .
(2) البدائع 7 / 222، والشرح الكبير مع حاشية الدسوقي 3 / 397، ونهاية
المحتاج 5 / 66، والإنصاف 12 / 128 - 129، والمغني 5 / 150.
(3) التاج والإكليل 5 / 216، ونهاية المحتاج 5 / 66.
(4) الإنصاف 12 / 131 - 132.
(6/52)
بِالْبُلُوغِ بَعْدَ حَقٍّ ثَبَتَ فِي
حَقِّ الصَّبِيِّ، مِثْل الإِْسْلاَمِ، وَثُبُوتِ أَحْكَامِ الذِّمَّةِ
تَبَعًا لأَِبِيهِ.
الشَّرْطُ الرَّابِعُ: فَهْمُ الْمُقِرِّ لِمَا يُقِرُّ بِهِ.
20 - لاَ بُدَّ لِلُزُومِ الإِْقْرَارِ وَاعْتِبَارِهِ - أَنْ تَكُونَ
الصِّيغَةُ مَفْهُومَةً لِلْمُقِرِّ فَلَوْ لُقِّنَ الْعَامِّيُّ كَلِمَاتٍ
عَرَبِيَّةً لاَ يَعْرِفُ مَعْنَاهَا لَمْ يُؤَاخَذْ بِهَا، لأَِنَّهُ
لَمَّا لَمْ يَعْرِفْ مَدْلُولَهَا يَسْتَحِيل عَلَيْهِ قَصْدُهَا، لأَِنَّ
الْعَامِّيَّ - غَيْرَ الْمُخَالِطِ لِلْفُقَهَاءِ - يُقْبَل مِنْهُ
دَعْوَى الْجَهْل بِمَدْلُول كَثِيرٍ مِنْ أَلْفَاظِ الْفُقَهَاءِ،
بِخِلاَفِ الْمُخَالِطِ فَلاَ يُقْبَل مِنْهُ فِيمَا لاَ يَخْفَى عَلَى
مِثْلِهِ مَعْنَاهُ. وَبِالأَْوْلَى لَوْ أَقَرَّ الْعَرَبِيُّ
بِالْعَجَمِيَّةِ أَوِ الْعَكْسِ وَقَال: لَمْ أَدْرِ مَا قُلْتُ، صُدِّقَ
بِيَمِينِهِ، لأَِنَّهُ أَدْرَى بِنَفْسِهِ، وَالظَّاهِرُ مَعَهُ (1) .
الشَّرْطُ الْخَامِسُ: الاِخْتِيَارُ.
21 - وَيُشْتَرَطُ فِي الْمُقِرِّ الاِخْتِيَارُ، مَدْعَاةً لِلصِّدْقِ،
فَيُؤَاخَذُ بِهِ الْمُكَلَّفُ بِلاَ حَجْرٍ، أَيْ حَال كَوْنِهِ غَيْرَ
مَحْجُورٍ عَلَيْهِ. فَإِذَا أَقَرَّ الْحُرُّ الْبَالِغُ الْعَاقِل
طَوَاعِيَةً بِحَقٍّ لَزِمَهُ. وَقَال الْحَنَابِلَةُ: إِنَّهُ يَصِحُّ
مِنْ مُكَلَّفٍ مُخْتَارٍ بِمَا يُتَصَوَّرُ مِنْهُ الْتِزَامُهُ، بِشَرْطِ
كَوْنِهِ بِيَدِهِ وَوِلاَيَتِهِ وَاخْتِصَاصِهِ، وَلَوْ عَلَى مُوَكِّلِهِ
أَوْ مُورَثِهِ أَوْ مُوَلِّيهِ. (2) .
__________
(1) المنثور في القواعد للزركشي 2 / 13 - 14.
(2) البدائع 7 / 222، وتبيين الحقائق 5 / 3 - 4، والهداية ونتائج الأفكار 6
/ 284، وحاشية ابن عابدين 4 / 449، والشرح الصغير بحاشية الصاوي 3 / 525،
والشرح الكبير وحاشية الدسوقي 3 / 397، ومواهب الجليل 5 / 216، ونهاية
المحتاج 4 / 307 والإنصاف 12 / 125 - 126، والمغني 5 / 149 - 150.
(6/52)
الشَّرْطُ السَّادِسُ: عَدَمُ التُّهْمَةِ.
22 - وَيُشْتَرَطُ فِي الْمُقِرِّ لِصِحَّةِ إِقْرَارِهِ أَنْ يَكُونَ
غَيْرَ مُتَّهَمٍ فِي إِقْرَارِهِ، لأَِنَّ التُّهْمَةَ تُخِل بِرُجْحَانِ
الصِّدْقِ عَلَى جَانِبِ الْكَذِبِ فِي إِقْرَارِهِ، لأَِنَّ إِقْرَارَ
الإِْنْسَانِ عَلَى نَفْسِهِ شَهَادَةٌ. قَال اللَّهُ تَعَالَى: {يَا
أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ
لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ} (1) وَالشَّهَادَةُ عَلَى نَفْسِهِ
إِقْرَارٌ. وَالشَّهَادَةُ تَرِدُ بِالتُّهْمَةِ (2) . وَمِنْ
أَمْثِلَتِهِ: مَا لَوْ أَقَرَّ لِمَنْ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ صَدَاقَةٌ أَوْ
مُخَالَطَةٌ. (3)
23 - وَمِمَّنْ يُتَّهَمُ فِي إِقْرَارِهِ الْمَدِينُ الْمَحْجُورُ
عَلَيْهِ، لإِِحَاطَةِ الدَّيْنِ بِمَالِهِ الَّذِي حُجِرَ عَلَيْهِ فِيهِ،
وَهُوَ مَا يُعَبَّرُ عَنْهُ بِالْمُفْلِسِ.
بَل صَرَّحَ الْمَالِكِيَّةُ أَنَّ هَذَا الْقَيْدَ - أَلاَّ يَكُونَ
مُتَّهَمًا - إِنَّمَا يُعْتَبَرُ فِي الْمَرِيضِ وَنَحْوِهِ وَالصَّحِيحِ
الْمَحْجُورِ عَلَيْهِ، لإِِحَاطَةِ الدَّيْنِ بِمَالِهِ الَّذِي حُجِرَ
عَلَيْهِ فِيهِ. (4)
وَالصَّحِيحُ: أَنَّ الْمُفْلِسَ بِالنِّسْبَةِ لِمَا فَلَّسَ فِيهِ
مُتَّهَمٌ فِي إِقْرَارِهِ، فَلاَ يُقْبَل إِقْرَارُهُ لأَِحَدٍ، حَيْثُ
كَانَ الدَّيْنُ الَّذِي فَلَّسَ فِيهِ ثَابِتًا بِالْبَيِّنَةِ، لأَِنَّهُ
مُتَّهَمٌ عَلَى ضَيَاعِ مَال الْغُرَمَاءِ، وَلاَ يَبْطُل الإِْقْرَارُ،
بَل هُوَ لاَزِمٌ يُتْبَعُ بِهِ فِي ذِمَّتِهِ، وَيُؤَاخَذُ بِهِ
الْمُقِرُّ فِيمَا يَجِدُّ لَهُ مِنْ مَالٍ فَقَطْ، وَلاَ يُحَاصُّ
الْمُقَرُّ لَهُ الْغُرَمَاءَ بِالدَّيْنِ الَّذِي أَقَرَّ لَهُ بِهِ
الْمُفْلِسُ. (5)
__________
(1) سورة النساء / 135.
(2) البدائع 7 / 223، وحاشية الدسوقي 3 / 397، والشرح الصغير 3 / 527،
والتاج والإكليل 5 / 216، والمهذب 2 / 345، وكشاف القناع 6 / 455.
(3) الدسوقي 3 / 398.
(4) حاشية الدسوقي 3 / 387.
(5) بلغة السالك على الشرح الصغير 3 / 190، وحاشية الدسوقي 3 / 398، وانظر
حاشية ابن عابدين عند الكلام عن إقرار المريض المدين 4 / 461 - 463.
(6/53)
وَنَقَل الْقَاضِي عَنِ الإِْمَامِ
أَحْمَدَ أَنَّ الْمُفْلِسَ إِذَا أَقَرَّ، وَعَلَيْهِ دَيْنٌ بِبَيِّنَةٍ،
يَبْدَأُ بِالدَّيْنِ الَّذِي بِالْبَيِّنَةِ، لأَِنَّهُ أَقَرَّ بَعْدَ
تَعَلُّقِ الْحَقِّ بِتَرِكَتِهِ، فَوَجَبَ أَلاَّ يُشَارِكَ الْمُقَرُّ
لَهُ مَنْ ثَبَتَ دَيْنُهُ بِبَيِّنَةٍ، كَغَرِيمِ الْمُفْلِسِ الَّذِي
أَقَرَّ لَهُ بَعْدَ الْحَجْرِ عَلَيْهِ، وَبِهَذَا قَال النَّخَعِيُّ
وَالثَّوْرِيُّ وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ. (1)
وَفَصَّل الشَّافِعِيَّةُ، فَقَالُوا: لَوْ أَقَرَّ الْمُفْلِسُ بِعَيْنٍ
أَوْ دَيْنٍ وَجَبَ قَبْل الْحَجْرِ، فَالأَْظْهَرُ قَبُولُهُ فِي حَقِّ
الْغُرَمَاءِ لاِنْتِفَاءِ التُّهْمَةِ الظَّاهِرَةِ، وَقِيل: لاَ يُقْبَل
إِقْرَارُهُ فِي حَقِّ الْغُرَمَاءِ، لِئَلاَّ يَضُرَّهُمْ
بِالْمُزَاحَمَةِ، وَلأَِنَّهُ رُبَّمَا وَاطَأَ الْمُقَرَّ لَهُ.
وَإِنْ أَسْنَدَ وُجُوبَهُ إِلَى مَا بَعْدَ الْحَجْرِ لَمْ يُقْبَل فِي
حَقِّهِمْ، بَل يُطَالَبُ بَعْدَ فَكِّ الْحَجْرِ. وَلَوْ لَمْ يُسْنِدْ
وُجُوبَهُ إِلَى مَا قَبْل الْحَجْرِ وَلاَ لِمَا بَعْدَهُ، فَقِيَاسُ
الْمَذْهَبِ - عَلَى مَا قَالَهُ الرَّافِعِيُّ - تَنْزِيلُهُ عَلَى
الأَْقَل، وَهُوَ جَعْلُهُ كَالْمُسْنَدِ إِلَى مَا بَعْدَ الْحَجْرِ. (2)
إِقْرَارُ الْمَرِيضِ مَرَضَ الْمَوْتِ:
24 - وَمِمَّنْ يُتَّهَمُ فِي إِقْرَارِهِ: الْمَرِيضُ مَرَضَ مَوْتٍ فِي
بَعْضِ الْحَالاَتِ عَلَى مَا سَنُبَيِّنُهُ فِي مُصْطَلَحِ (مَرَضِ
الْمَوْتِ) وَإِنْ كَانَ الأَْصْل أَنَّ الْمَرَضَ لَيْسَ بِمَانِعٍ مِنْ
صِحَّةِ الإِْقْرَارِ فِي الْجُمْلَةِ. (3)
إِذِ الصِّحَّةُ لَيْسَتْ شَرْطًا فِي الْمُقِرِّ لِصِحَّةِ إِقْرَارِهِ،
لأَِنَّ صِحَّةَ إِقْرَارِ الصَّحِيحِ بِرُجْحَانِ جَانِبِ الصِّدْقِ،
وَحَال الْمَرِيضِ أَدَل عَلَى الصِّدْقِ، فَكَانَ إِقْرَارُهُ أَوْلَى
__________
(1) المغني 5 / 213 ط الرياض.
(2) نهاية المحتاج 4 / 307، والمهذب 2 / 345.
(3) البدائع 7 / 223.
(6/53)
بِالْقَبُول. (1) غَيْرَ أَنَّ
الْمَالِكِيَّةَ نَصُّوا عَلَى أَنَّ مَنْ أَقَرَّ بِشَيْءٍ فِي صِحَّتِهِ:
بِشَيْءٍ مِنَ الْمَال، أَوِ الدَّيْنِ، أَوِ الْبَرَاءَاتِ، أَوْ قَبْضِ
أَثْمَانِ الْمَبِيعَاتِ، فَإِقْرَارُهُ عَلَيْهِ جَائِزٌ، لاَ تَلْحَقُهُ
فِيهِ تُهْمَةٌ، وَلاَ يُظَنُّ فِيهِ تَوْلِيجٌ، وَالأَْجْنَبِيُّ
وَالْوَارِثُ فِي ذَلِكَ سَوَاءٌ، وَكَذَا الْقَرِيبُ وَالْبَعِيدُ
وَالْعَدُوُّ وَالصَّدِيقُ. (2)
وَيَقُول الْحَطَّابُ: مَنْ أَقَرَّ بِشَيْءٍ فِي صِحَّتِهِ لِبَعْضِ
وَرَثَتِهِ، قُدِّمَ الْمُقَرُّ لَهُ بَعْدَ مَوْتِ الْمُقِرِّ، وَيُقِيمُ
الْبَيِّنَةَ عَلَى الإِْقْرَارِ. قَال ابْنُ رُشْدٍ: هَذَا هُوَ
الْمَعْلُومُ مِنْ قَوْل ابْنِ الْقَاسِمِ وَرِوَايَتِهِ عَنْ مَالِكٍ،
الْمَشْهُورُ فِي الْمَذْهَبِ. وَوَقَعَ فِي الْمَبْسُوطِ لاِبْنِ
كِنَانَةَ وَالْمَخْزُومِيِّ وَابْنِ أَبِي حَازِمٍ وَمُحَمَّدِ بْنِ
مَسْلَمَةَ أَنَّهُ لاَ شَيْءَ لَهُ، وَإِنْ أَقَرَّ لَهُ فِي صِحَّتِهِ
إِذَا لَمْ يُقِمْ عَلَيْهِ بِذَلِكَ بَيِّنَةً حَتَّى هَلَكَ إِلاَّ أَنْ
يُعْرَفَ سَبَبُ ذَلِكَ، فَإِنْ عُرِفَ ذَلِكَ فَبِهَا وَإِلاَّ فَإِذَا
لَمْ يُعْرَفْ لَهُ سَبَبٌ فَلاَ شَيْءَ لَهُ، لأَِنَّ الرَّجُل يُتَّهَمُ
أَنْ يُقِرَّ بِدَيْنٍ فِي صِحَّتِهِ لِمَنْ يَثِقُ بِهِ مِنْ وَرَثَتِهِ
عَلَى أَلاَّ يَقُومَ بِهِ حَتَّى يَمُوتَ. وَقِيل: إِنَّهُ نَافِذٌ
وَيُحَاصُّ بِهِ الْغُرَمَاءَ فِي الْفَلَسِ، وَهُوَ قَوْل ابْنِ
الْقَاسِمِ فِي الْمُدَوَّنَةِ وَالْعُتْبِيَّةِ، وَقَال ابْنُ رُشْدٍ: لاَ
يُحَاصُّ بِهِ عَلَى قَوْل ابْنِ الْقَاسِمِ إِنْ ثَبَتَ مَيْلُهُ إِلَيْهِ
إِلاَّ بِالْيَمِينِ، وَاخْتَارَ ابْنُ رُشْدٍ إِبْطَال الإِْقْرَارِ
بِالدَّيْنِ مُرَاعَاةً لِقَوْل الْمَدَنِيِّينَ. (3)
وَعَلَى هَذَا فَإِقْرَارُ الْمَرِيضِ مَرَضَ مَوْتٍ بِالْحَدِّ
وَالْقِصَاصُ مَقْبُولٌ اتِّفَاقًا، وَكَذَا إِقْرَارُهُ بِدَيْنٍ
لأَِجْنَبِيٍّ فَإِنَّهُ يَنْفُذُ مِنْ كُل مَالِهِ مَا لَمْ يَكُنْ
عَلَيْهِ دُيُونٌ أَقَرَّ بِهَا فِي حَال صِحَّتِهِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ
وَالْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ،
__________
(1) البدائع 7 / 223، وحاشية الدسوقي 3 / 398.
(2) شرح الزرقاني 6 / 94.
(3) مواهب الجليل 5 / 221 - 222.
(6/54)
وَأَصَحُّ الرِّوَايَاتِ عِنْدَ
الْحَنَابِلَةِ، وَهُوَ الْمَذْهَبُ عِنْدَهُمْ، وَجَزَمَ بِهِ فِي
الْوَجِيزِ، لأَِنَّهُ لَمْ يَتَضَمَّنْ إِبْطَال حَقِّ الْغَيْرِ وَكَانَ
الْمُقَرُّ لَهُ أَوْلَى مِنَ الْوَرَثَةِ، لِقَوْل عُمَرَ: إِذَا أَقَرَّ
الْمَرِيضُ بِدَيْنٍ جَازَ ذَلِكَ عَلَيْهِ فِي جَمِيعِ تَرِكَتِهِ،
وَلأَِنَّ قَضَاءَ الدَّيْنِ مِنَ الْحَوَائِجِ الأَْصْلِيَّةِ، وَحَقُّ
الْوَرَثَةِ يَتَعَلَّقُ بِالتَّرِكَةِ بِشَرْطِ الْفَرَاغِ. وَفِي
رِوَايَةٍ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ: أَنَّهُ لاَ يُقْبَل، وَفِي رِوَايَةٍ
أُخْرَى عِنْدَهُمْ لاَ يَصِحُّ بِزِيَادَةٍ عَلَى الثُّلُثِ. (1)
قَال ابْنُ قُدَامَةَ: أَجْمَعَ كُل مَنْ نَحْفَظُ عَنْهُ مِنْ أَهْل
الْعِلْمِ عَلَى أَنَّ إِقْرَارَ الْمَرِيضِ فِي مَرَضِهِ لِغَيْرِ وَارِثٍ
جَائِزٌ، وَحَكَى أَصْحَابُنَا رِوَايَةً أُخْرَى أَنَّهُ لاَ يُقْبَل،
لأَِنَّهُ إِقْرَارٌ فِي مَرَضِ الْمَوْتِ أَشْبَهَ الإِْقْرَارَ
لِوَارِثٍ. وَقَال أَبُو الْخَطَّابِ فِي رِوَايَةٍ أُخْرَى: إِنَّهُ لاَ
يُقْبَل إِقْرَارُهُ بِزِيَادَةٍ عَلَى الثُّلُثِ، لأَِنَّهُ مَمْنُوعٌ
مِنْ عَطِيَّةِ ذَلِكَ الأَْجْنَبِيِّ، كَمَا هُوَ مَمْنُوعٌ مِنْ
عَطِيَّةِ الْوَارِثِ، فَلاَ يَصِحُّ إِقْرَارُهُ بِمَا لاَ يُمْلَكُ
عَطِيَّتُهُ بِخِلاَفِ الثُّلُثِ فَمَا دُونَ. (2) وَالْمَقْصُودُ
بِالأَْجْنَبِيِّ هُنَا أَنْ يَكُونَ غَيْرَ وَارِثٍ فِي الْمُقِرِّ
فَيَشْمَل الْقَرِيبَ غَيْرَ الْوَارِثِ. وَيُصَرِّحُ الْمَالِكِيَّةُ
بِذَلِكَ فَيَقُولُونَ: إِنْ أَقَرَّ لِقَرِيبٍ غَيْرِ وَارِثٍ كَالْخَال
أَوْ لِصِدِّيقٍ مُلاَطِفٍ أَوْ مَجْهُولٍ حَالُهُ - لاَ يُدْرَى هَل هُوَ
قَرِيبٌ أَمْ لاَ - صَحَّ الإِْقْرَارُ إِنْ كَانَ لِذَلِكَ الْمُقِرِّ
وَلَدٌ وَإِلاَّ فَلاَ، وَقِيل: يَصِحُّ.
وَأَمَّا لَوْ أَقَرَّ لأَِجْنَبِيٍّ غَيْرِ صَدِيقٍ كَانَ الإِْقْرَارُ
لاَزِمًا
__________
(1) حاشية ابن عابدين 4 / 461 - 462، والبدائع 7 / 224، وفتح القدير 7 / 7،
وحاشية الدسوقي 3 / 398 - 399، وشرح الزرقاني 6 / 92 - 94، وبلغة السالك 2
/ 190، ونهاية المحتاج 5 / 69، والمهذب 2 / 345، والمغني 5 / 213، والإنصاف
12 / 134.
(2) المغني 5 / 214.
(6/54)
كَانَ لَهُ وَلَدٌ أَمْ لاَ. (1) وَقَال
الشَّافِعِيَّةُ: لِلْوَارِثِ تَحْلِيفُ الْمُقَرِّ لَهُ عَلَى
الاِسْتِحْقَاقِ. (2)
وَأَمَّا إِقْرَارُ الْمَرِيضِ لِوَارِثٍ فَهُوَ بَاطِلٌ إِلاَّ أَنْ
يُصَدِّقَهُ الْوَرَثَةُ أَوْ يَثْبُتَ بِبَيِّنَةٍ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ
وَالْمَذْهَبُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ، وَفِي قَوْلٍ لِلشَّافِعِيَّةِ.
وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ:
إِنْ كَانَ مُتَّهَمًا فِي إِقْرَارِهِ كَأَنْ يُقِرَّ لِوَارِثٍ قَرِيبٍ
مَعَ وُجُودِ الأَْبْعَدِ أَوِ الْمُسَاوِي، (3) كَمَنْ لَهُ بِنْتٌ
وَابْنُ عَمٍّ فَأَقَرَّ لاِبْنَتِهِ لَمْ يُقْبَل وَإِنْ أَقَرَّ لاِبْنِ
عَمِّهِ قُبِل، لأَِنَّهُ لاَ يُتَّهَمُ فِي أَنَّهُ يُزْرِي ابْنَتَهُ
وَيُوَصِّل الْمَال إِلَى ابْنِ عَمِّهِ. وَعِلَّةُ مَنْعِ الإِْقْرَارِ
التُّهْمَةُ، فَاخْتَصَّ الْمَنْعُ بِمَوْضِعِهَا. (4)
وَأَطَال الْمَالِكِيَّةُ فِي تَصْوِيرِ ذَلِكَ وَالتَّفْرِيعِ عَلَيْهِ.
وَقَالُوا: مَنْ مَرِضَ بَعْدَ الإِْشْهَادِ فِي صِحَّتِهِ لِبَعْضِ
وَلَدِهِ فَلاَ كَلاَمَ لِبَقِيَّةِ أَوْلاَدِهِ إِنْ كَتَبَ الْمُوَثِّقُ
أَنَّ الصَّحِيحَ قَبَضَ مِنْ وَلَدِهِ ثَمَنَ مَا بَاعَهُ لَهُ، فَإِنْ
لَمْ يَكْتُبْ فَقِيل: يَحْلِفُ مُطْلَقًا. وَقِيل: يَحْلِفُ إِنِ اتُّهِمَ
الأَْبُ بِالْمَيْل إِلَيْهِ.
قَال الْمَوَّاقُ (5) : لاَ يُقْبَل إِقْرَارُ الْمَرِيضِ لِمَنْ يُتَّهَمُ
عَلَيْهِ. وَسُئِل الْمَازِرِيُّ عَمَّنْ أَوْصَى بِثُلُثِ مَالِهِ، ثُمَّ
__________
(1) حاشية الدسوقي 3 / 399 - 400.
(2) نهاية المحتاج 5 / 69 - 70.
(3) حاشية ابن عابدين 4 / 461 - 462، والهداية وتكملة الفتح 7 / 8،
والبدائع 7 / 224، وحاشية الدسوقي 3 / 398 - 399، وشرح الزرقاني 6 / 93 -
94، وبلغة السالك 2 / 190، ونهاية المحتاج 5 / 69 - 70، والمهذب 2 / 345،
والمغني 5 / 214، والإنصاف 12 / 135 - 136.
(4) حاشية الدسوقي 3 / 398، والمغني 5 / 214، وشرح الزرقاني 6 / 92، وبلغة
السالك 2 / 190.
(5) التاج والإكليل 5 / 218.
(6/55)
اعْتَرَفَ بِدَنَانِيرَ لِمُعَيَّنٍ:
فَأَجَابَ إِنِ اعْتَرَفَ فِي صِحَّتِهِ حَلَفَ الْمُقَرُّ لَهُ يَمِينُ
الْقَضَاءِ.
وَاسْتَدَل الْقَائِلُونَ بِبُطْلاَنِ الإِْقْرَارِ بِمَا رُوِيَ أَنَّ
رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: لاَ وَصِيَّةَ
لِوَارِثٍ، وَلاَ إِقْرَارَ لَهُ بِالدَّيْنِ (1) ، وَبِالأَْثَرِ عَنِ
ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ قَال: " إِذَا أَقَرَّ الرَّجُل فِي مَرَضِهِ
بِدَيْنٍ لِرَجُلٍ غَيْرِ وَارِثٍ فَإِنَّهُ جَائِزٌ وَإِنْ أَحَاطَ
بِمَالِهِ، وَإِنْ أَقَرَّ لِوَارِثٍ فَهُوَ بَاطِلٌ إِلاَّ أَنْ
يُصَدِّقَهُ الْوَرَثَةُ. وَقَوْل الْوَاحِدِ مِنْ فُقَهَاءِ الصَّحَابَةِ
مُقَدَّمٌ عَلَى الْقِيَاسِ. وَلَمْ يُعْرَفْ لاِبْنِ عُمَرَ فِي ذَلِكَ
مُخَالِفٌ مِنَ الصَّحَابَةِ فَكَانَ إِجْمَاعًا، وَلأَِنَّهُ تَعَلَّقَ
حَقُّ الْوَرَثَةِ بِمَالِهِ فِي مَرَضِهِ، وَلِهَذَا يُمْنَعُ مِنَ
التَّبَرُّعِ عَلَى الْوَارِثِ أَصْلاً، فَفِي تَخْصِيصِ الْبَعْضِ بِهِ
إِبْطَال حَقِّ الْبَاقِينَ. (2)
وَفِي كُتُبِ الْحَنَابِلَةِ: لَوْ أَقَرَّتِ الْمَرْأَةُ بِأَنَّهَا لاَ
مَهْرَ لَهَا عَلَى زَوْجِهَا لَمْ يَصِحَّ، إِلاَّ أَنْ يُقِيمَ بَيِّنَةً
أَنَّهَا أَخَذَتْهُ (3) .
__________
(1) حديث: " لا وصية لوارث ولا إقرار له بالدين " بهذا اللفظ أخرجه
الدارقطني (4 / 152 - ط دار المحاسن) وفي إسناده نوح بن دراج وهو متهم
بالكذب. وميزان الاعتدال للذهبي (4 / 276 ط الحلبي) . وأما الجزء الأول من
الحديث " لا وصية لوارث " فقد أخرجه الترمذي (4 / 433 ط إستانبول) ،
والنسائي (6 / 247) وقال الترمذي: هو حديث حسن صحيح. وقال ابن حجر في
الفتح: لقد جنح الشافعي في الأم إلى أن هذا المتن متواتر، فقال. وجدنا أهل
الفتيا ومن حفظنا عنهم من أهل العلم بالمغازي من قريش وغيرهم لا يختلفون في
أن النبي صلى الله عليه وسلم قال عام الفتح: " لا وصية لوارث " (فتح الباري
5 / 372 ط السلفية) .
(2) شرح الزرقاني 6 / 94، وحاشية الدسوقي 3 / 399 - 401.
(3) الإنصاف 12 / 137.
(6/55)
إِقْرَارُ الْمَرِيضِ بِالإِْبْرَاءِ:
25 - إِذَا أَقَرَّ الْمَرِيضُ أَنَّهُ أَبْرَأَ فُلاَنًا مِنَ الدَّيْنِ
الَّذِي عَلَيْهِ فِي صِحَّتِهِ لاَ يَجُوزُ، لأَِنَّهُ لاَ يَمْلِكُ
إِنْشَاءَ الإِْبْرَاءِ لِلْحَال، فَلاَ يَمْلِكُ الإِْقْرَارَ بِهِ،
بِخِلاَفِ الإِْقْرَارِ بِاسْتِيفَاءِ الدَّيْنِ، لأَِنَّهُ إِقْرَارٌ
بِقَبْضِ الدَّيْنِ، وَأَنَّهُ يَمْلِكُ إِنْشَاءَ الْقَبْضِ فَيَمْلِكُ
الإِْخْبَارَ عَنْهُ بِالإِْقْرَارِ. (1) وَهَذَا مَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ.
وَيَقْرُبُ مِنْهُمُ الشَّافِعِيَّةُ إِذْ يَقُولُونَ: إِذَا أَبْرَأ
الْمَرِيضُ مَرَضَ الْمَوْتِ أَحَدَ مَدْيُونَيْهِ، وَالتَّرِكَةُ
مُسْتَغْرَقَةٌ بِالدُّيُونِ، لَمْ يَنْفُذْ إِبْرَاؤُهُ لِتَعَلُّقِ حَقِّ
الْغُرَمَاءِ. (2) بَيْنَمَا يَقُول الْمَالِكِيَّةُ فِي بَابِ
الإِْقْرَارِ: وَإِنْ أَبْرَأَ إِنْسَانٌ شَخْصًا مِمَّا قَبْلَهُ أَوْ
أَبْرَأَهُ مِنْ كُل حَقٍّ لَهُ عَلَيْهِ، أَوْ أَبْرَأَهُ وَأَطْلَقَ
بَرِئَ مُطْلَقًا مِمَّا فِي الذِّمَّةِ وَغَيْرِهَا مَعْلُومًا أَوْ
مَجْهُولاً (3) . وَهَذِهِ الْعِبَارَةُ بِإِطْلاَقِهَا شَامِلَةٌ
لِلْمَرِيضِ وَلِلصَّحِيحِ، وَشَامِلَةٌ لِلإِْبْرَاءِ مِنْ دَيْنِ
الصِّحَّةِ وَغَيْرِهِ.
الرُّكْنُ الثَّانِي: الْمُقَرُّ لَهُ، وَمَا يُشْتَرَطُ فِيهِ:
الْمُقَرُّ لَهُ مَنْ يَثْبُتُ لَهُ الْحَقُّ الْمُقَرُّ بِهِ، وَيَحِقُّ
لَهُ الْمُطَالَبَةُ بِهِ أَوِ الْعَفْوُ عَنْهُ (4)
وَاشْتَرَطَ الْفُقَهَاءُ فِيهِ مَا يَأْتِي:
الشَّرْطُ الأَْوَّل: أَلاَّ يَكُونَ الْمُقَرُّ لَهُ مَجْهُولاً:
26 - فَلاَ بُدَّ أَنْ يَكُونَ مُعَيَّنًا، بِحَيْثُ يُمْكِنُ أَنْ
__________
(1) البدائع 7 / 228.
(2) الموسوعة الفقهية ج1 بحث (إبراء) ص 170.
(3) الشرح الصغير 3 / 538.
(4) المهذب 2 / 345، والمغني 5 / 153.
(6/56)
يُطَالِبَ بِهِ، وَلَوْ كَانَ حَمْلاً.
كَأَنْ يَقُول: عَلَيَّ أَلْفٌ لِفُلاَنٍ، أَوْ عَلَيَّ أَلْفٌ لِحَمْل
فُلاَنَةَ، وَسَيَأْتِي تَفْصِيل الإِْقْرَارِ لِلْحَمْل. أَوْ يَكُونُ
مَجْهُولاً جَهَالَةً غَيْرَ فَاحِشَةٍ، كَأَنْ يَقُول: عَلَيَّ مَالٌ
لأَِحَدِ هَؤُلاَءِ الْعَشَرَةِ، أَوْ لأَِحَدِ أَهْل الْبَلَدِ، وَكَانُوا
مَحْصُورِينَ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، وَالنَّاطِفِيِّ وَخُوَاهَرْ زَادَهْ
مِنَ الْحَنَفِيَّةِ. (1)
الإِْقْرَارُ مَعَ جَهَالَةِ الْمُقَرِّ لَهُ:
27 - أَجْمَعَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الْجَهَالَةَ الْفَاحِشَةَ
بِالْمُقَرِّ لَهُ لاَ يَصِحُّ مَعَهَا الإِْقْرَارُ، لأَِنَّ الْمَجْهُول
لاَ يَصْلُحُ مُسْتَحِقًّا، إِذْ لاَ يُجْبَرُ الْمُقِرُّ عَلَى
الْبَيَانِ، مِنْ غَيْرِ تَعْيِينِ الْمُسْتَحِقِّ، فَلاَ يُفِيدُ
الإِْقْرَارُ شَيْئًا.
وَأَمَّا إِذَا كَانَتِ الْجَهَالَةُ غَيْرَ فَاحِشَةٍ بِأَنْ قَال:
عَلَيَّ أَلْفٌ لأَِحَدِ هَذَيْنِ أَوْ لأَِحَدِ هَؤُلاَءِ الْعَشْرِ: أَوْ
لأَِحَدِ أَهْل الْبَلَدِ وَكَانُوا مَحْصُورِينَ، فَهُنَاكَ اتِّجَاهَانِ:
الأَْوَّل: مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الشَّافِعِيَّةُ، وَهُوَ مَا اخْتَارَهُ
النَّاطِفِيُّ وَخُوَاهَرْ زَادَهْ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ. أَنَّ هَذَا
الإِْقْرَارَ صَحِيحٌ، لأَِنَّهُ قَدْ يُفِيدُ وُصُول الْحَقِّ إِلَى
الْمُسْتَحِقِّ بِتَحْلِيفِ الْمُقِرِّ لِكُل مَنْ حَصَرَهُمْ، أَوْ
بِتَذَكُّرِهِ، لأَِنَّ الْمُقِرَّ قَدْ يَنْسَى، وَهُوَ مَا يُفْهَمُ مِنْ
مُغْنِي ابْنِ قُدَامَةَ، لأَِنَّهُ مَثَّل بِالْجَهَالَةِ الْيَسِيرَةِ.
وَالثَّانِي: مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ جُمْهُورُ الْحَنَفِيَّةِ، وَهُوَ مَا
اخْتَارَهُ السَّرَخْسِيُّ: مِنْ أَنَّ أَيَّ جَهَالَةٍ تُبْطِل
الإِْقْرَارَ، لأَِنَّ الْمَجْهُول لاَ يَصْلُحُ مُسْتَحَقًّا، وَلاَ
يُجْبَرُ الْمُقِرُّ عَلَى الْبَيَانِ، مِنْ غَيْرِ تَعْيِينِ الْمُدَّعِي.
(2)
__________
(1) نهاية المحتاج 5 / 72، وابن عابدين 4 / 450.
(2) المغني 5 / 165 وابن عابدين 4 / 450
(6/56)
الشَّرْطُ الثَّانِي: أَنْ تَكُونَ
لِلْمُقِرِّ لَهُ أَهْلِيَّةُ اسْتِحْقَاقِ الْمُقَرِّ بِهِ حِسًّا
وَشَرْعًا:
28 - فَلَوْ أَقَرَّ لِبَهِيمَةٍ أَوْ دَارٍ، بِأَنَّ لَهَا عَلَيْهِ
أَلْفًا وَأَطْلَقَ لَمْ يَصِحَّ الإِْقْرَارُ، لأَِنَّهُمَا لَيْسَا مِنْ
أَهْل الاِسْتِحْقَاقِ.
أَمَّا لَوْ ذَكَرَ سَبَبًا يُمْكِنُ أَنْ يُنْسَبَ إِلَيْهِ، كَمَا لَوْ
قَال: عَلَيَّ كَذَا لِهَذِهِ الدَّابَّةِ بِسَبَبِ الْجِنَايَةِ
عَلَيْهَا، أَوْ لِهَذِهِ الدَّارِ بِسَبَبِ غَصْبِهَا أَوْ إِجَارَتِهَا،
فَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّ هَذَا الإِْقْرَارَ صَحِيحٌ، وَيَكُونُ
الإِْقْرَارُ فِي الْحَقِيقَةِ لِصَاحِبِ الدَّابَّةِ أَوِ الدَّارِ وَقْتَ
الإِْقْرَارِ وَهُوَ اخْتِيَارُ الْمِرْدَاوِيِّ، كَمَا جَزَمَ بِهِ
صَاحِبُ الرِّعَايَةِ، وَابْنُ مُفْلِحٍ فِي الْفُرُوعِ مِنَ
الْحَنَابِلَةِ. لَكِنَّ جُمْهُورَ الْحَنَابِلَةِ عَلَى أَنَّ هَذَا
الإِْقْرَارَ لاَ يَصِحُّ، لأَِنَّ هَذَا الإِْقْرَارَ وَقَعَ لِلدَّارِ
وَلِلدَّابَّةِ، وَهُمَا لَيْسَتَا مِنْ أَهْل الاِسْتِحْقَاقِ. (1)
الإِْقْرَارُ لِلْحَمْل:
29 - إِنْ أَقَرَّ لِحَمْل امْرَأَةٍ عَيَّنَهَا بِدَيْنٍ أَوْ عَيَّنَ
فَقَال: عَلَيَّ كَذَا، أَوْ عِنْدِي كَذَا لِهَذَا الْحَمْل وَبَيَّنَ
السَّبَبَ فَقَال: بِإِرْثٍ أَوْ وَصِيَّةٍ، كَانَ الإِْقْرَارُ
مُعْتَبَرًا وَلَزِمَهُ مَا أَقَرَّ بِهِ لإِِمْكَانِهِ. وَكَانَ الْخَصْمُ
فِي ذَلِكَ وَلِيَّ الْحَمْل عِنْدَ الْوَضْعِ، إِلاَّ إِذَا تَمَّ
الْوَضْعُ لأَِكْثَرَ مِنْ أَرْبَعِ سِنِينَ - مِنْ حِينِ الاِسْتِحْقَاقِ
مُطْلَقًا - الَّتِي هِيَ أَقْصَى مُدَّةِ الْحَمْل - كَمَا يَرَى فَرِيقٌ
مِنَ الْفُقَهَاءِ - أَوْ لِسِتَّةِ أَشْهُرٍ فَأَكْثَرَ - الَّتِي هِيَ
أَقَل مُدَّةِ الْحَمْل - وَهِيَ فِرَاشٌ لَمْ يُسْتَحَقَّ، لاِحْتِمَال
حُدُوثِ الْحَمْل بَعْدَ الإِْقْرَارِ. وَلاَ
__________
(1) نهاية المحتاج 7 / 73، وحاشية قليوبي على المنهاج 3 / 4، والمهذب 2 /
246، والشرح الصغير 3 / 526، وحاشية الدسوقي 3 / 498، والإنصاف 12 / 145،
والمغني 5 / 153 - 154، وكشاف القناع 6 / 459، والدر المختار وحاشية ابن
عابدين 4 / 455.
(6/57)
يَصِحُّ الإِْقْرَارُ (1) إِلاَّ لِحَمْلٍ
يُتَيَقَّنُ وُجُودُهُ عِنْدَ الإِْقْرَارِ، وَيَكُونُ ذَلِكَ بِمَا إِذَا
وَضَعَتْهُ لأَِقَل مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ، أَوْ لأَِكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ
إِلَى سَنَتَيْنِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، وَإِلَى أَرْبَعَةٍ عِنْدَ
الشَّافِعِيَّةِ. وَيَنُصُّ الْمَالِكِيَّةُ: وَلَزِمَ الإِْقْرَارُ
لِلْحَمْل، وَإِنْ كَانَ الإِْقْرَارُ أَصْلُهُ وَصِيَّةٌ فَلَهُ الْكُل،
وَإِنْ كَانَ بِالإِْرْثِ مِنَ الأَْبِ - وَهُوَ ذَكَرٌ - فَكَذَلِكَ،
وَإِنْ كَانَ أُنْثَى فَلَهَا النِّصْفُ، وَإِنْ وَلَدَتْ ذَكَرًا
وَأُنْثَى فَهُوَ بَيْنَهُمَا بِالسَّوِيَّةِ إِنْ أَسْنَدَهُ إِلَى
وَصِيَّةٍ، وَأَثْلاَثًا إِنْ أَسْنَدَهُ إِلَى إِرْثٍ، إِلاَّ إِذَا
كَانَتْ جِهَةُ التَّوْرِيثِ يَسْتَوِي فِيهَا الذَّكَرُ وَالأُْنْثَى
كَالإِْخْوَةِ لأُِمٍّ، وَإِنْ أَسْنَدَ السَّبَبَ إِلَى جِهَةٍ لاَ
تُمْكِنُ فِي حَقِّهِ كَقَوْلِهِ: بَاعَنِي شَيْئًا فَلَغْوٌ لِلْقَطْعِ
بِكَذِبِهِ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ قَوْلٌ بِغَيْرِ ذَلِكَ.
وَإِنْ أَطْلَقَ الإِْقْرَارَ وَلَمْ يُسْنِدْهُ إِلَى شَيْءٍ صَحَّ عِنْدَ
الْحَنَابِلَةِ، لإِِطْلاَقِهِمُ الْقَوْل بِصِحَّةِ الإِْقْرَارِ بِحَال
حَمْل امْرَأَةٍ، لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَجْهٌ. (2) وَقَال أَبُو
الْحَسَنِ التَّمِيمِيُّ: لاَ يَصِحُّ إِلاَّ أَنْ يُسْنِدَهُ إِلَى سَبَبٍ
مِنْ إِرْثٍ أَوْ وَصِيَّةٍ، وَقِيل: لاَ يَصِحُّ مُطْلَقًا. قَال فِي
النُّكَتِ: وَلاَ أَحْسِبُ هَذَا قَوْلاً فِي الْمَذْهَبِ.
وَصَحَّ فِي الأَْظْهَرِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، وَيُحْمَل عَلَى
الْمُمْكِنِ فِي حَقِّهِ، صَوْنًا لِكَلاَمِ الْمُكَلَّفِ عَنِ
الإِْلْغَاءِ مَا أَمْكَنَ. وَفِي قَوْلٍ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ: لاَ
يَصِحُّ، إِذِ الْمَال لاَ يَجِبُ إِلاَّ بِمُعَامَلَةٍ أَوْ جِنَايَةٍ،
وَهُمَا مُنْتَفِيَانِ فِي حَقِّهِ، فَحُمِل الإِْطْلاَقُ عَلَى الْوَعْدِ.
(3) وَقَال
__________
(1) الهداية وتكملة الفتح 6 / 304، والبدائع 7 / 223، وحاشية الدسوقي 3 /
401.
(2) كشاف القناع 6 / 464.
(3) الإنصاف 5 / 223، 12 / 156، ونهاية المحتاج 5 / 73 - 74، والمهذب 2 /
345 - 346، وتكملة الفتح على الهداية 6 / 304.
(6/57)
أَبُو يُوسُفَ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ: إِنْ
أَجْمَل الإِْقْرَارَ لاَ يَصِحُّ، لأَِنَّ الإِْقْرَارَ الْمُبْهَمَ
يَحْتَمِل الصِّحَّةَ وَالْفَسَادَ، لأَِنَّهُ إِنْ كَانَ يَصِحُّ
بِالْحَمْل عَلَى الْوَصِيَّةِ وَالإِْرْثِ فَإِنَّهُ يَفْسُدُ بِالْحَمْل
عَلَى الْبَيْعِ وَالْغَصْبِ وَالْقَرْضِ، كَمَا أَنَّ الْحَمْل فِي
نَفْسِهِ مُحْتَمِلٌ الْوُجُودَ وَالْعَدَمَ، وَالشَّكُّ مِنْ وَجْهٍ
وَاحِدٍ يَمْنَعُ صِحَّةَ الإِْقْرَارِ، فَمِنْ وَجْهَيْنِ أَوْلَى. وَقَال
مُحَمَّدٌ: يَصِحُّ حَمْلاً لإِِقْرَارِ الْعَاقِل عَلَى الصِّحَّةِ.
وَلَوِ انْفَصَل الْحَمْل مَيِّتًا فَلاَ شَيْءَ عَلَى الْمُقِرِّ
لِلْحَمْل أَوْ وَرَثَتِهِ، لِلشَّكِّ فِي حَيَاتِهِ وَقْتَ الإِْقْرَارِ.
فَيَسْأَل الْقَاضِي الْمُقِرَّ حِسْبَةً عَنْ جِهَةِ إِقْرَارِهِ مِنْ
إِرْثٍ أَوْ وَصِيَّةٍ لِيَصِل الْحَقُّ لِمُسْتَحِقِّهِ. وَإِنْ مَاتَ
الْمُقِرُّ قَبْل الْبَيَانِ بَطَل. وَإِنْ أَلْقَتْ حَيًّا وَمَيِّتًا
جُعَل الْمَال لِلْحَيِّ. (1)
الإِْقْرَارُ لِلْمَيِّتِ:
30 - لَوْ قَال: لِهَذَا الْمَيِّتِ عَلَيَّ كَذَا فَذَلِكَ إِقْرَارٌ
صَحِيحٌ، وَهُوَ إِقْرَارٌ فِي الْحَقِيقَةِ لِلْوَرَثَةِ يَتَقَاسَمُونَهُ
قِسْمَةَ الْمِيرَاثِ، لَكِنْ إِنْ كَانَ الْمُقَرُّ لَهُ حَمْلاً ثُمَّ
سَقَطَ مَيِّتًا بَطَل الإِْقْرَارُ، إِنْ كَانَ سَبَبُ الاِسْتِحْقَاقِ
مِيرَاثًا أَوْ وَصِيَّةً، وَيَرْجِعُ الْمَال إِلَى وَرَثَةِ الْمُورَثِ،
أَوْ وَرَثَةِ الْمُوصِي. (2)
الإِْقْرَارُ بِالْحَمْل:
31 - نَصَّ الْحَنَفِيَّةُ: عَلَى أَنَّ مَنْ أَقَرَّ لِرَجُلٍ بِحَمْل
__________
(1) البدائع 7 / 223، والدر المختار وحاشية ابن عابدين 4 / 455، وحاشية
الدسوقي والشرح الكبير 3 / 401، ومواهب الجليل 5 / 223، والمغني 5 / 154،
والإنصاف 12 / 156 - 158، وكشاف القناع 6 / 464.
(2) نهاية المحتاج 5 / 75، وتكملة الفتح 6 / 305، والبدائع 7 / 223.
(6/58)
فَرَسٍ أَوْ حَمْل شَاةٍ فَإِنَّ
إِقْرَارَهُ صَحِيحٌ وَلَزِمَهُ مَا أَقَرَّ بِهِ، لأَِنَّ لَهُ وَجْهًا
صَحِيحًا وَهُوَ الْوَصِيَّةُ بِالْحَمْل، بِأَنْ تَكُونَ الْفَرَسُ أَوِ
الشَّاةُ لِوَاحِدٍ، وَأَوْصَى بِحَمْلِهَا لِرَجُلٍ، وَمَاتَ وَالْمُقِرُّ
وَارِثُهُ، وَقَدْ عَلِمَ بِوَصِيَّةِ مُورَثِهِ. (1)
الإِْقْرَارُ لِلْجِهَةِ:
32 - الأَْصْل أَنَّهُ يَصِحُّ الإِْقْرَارُ لِمَنْ كَانَ لَدَيْهِ
أَهْلِيَّةٌ مَالِيَّةٌ أَوِ اسْتِحْقَاقٌ كَالْوَقْفِ وَالْمَسْجِدِ،
فَيَصِحُّ الإِْقْرَارُ لَهُمَا (2) عَلَى نَفْسِهِ بِمَالٍ لَهُ،
وَيُصْرَفُ فِي إِصْلاَحِهِ وَبَقَاءِ عَيْنِهِ، كَأَنْ يَقُول نَاظِرٌ
عَلَى مَسْجِدٍ أَوْ وَقْفٍ: تَرَتَّبَ فِي ذِمَّتِي مَثَلاً لِلْمَسْجِدِ
أَوْ لِلْوَقْفِ كَذَا. (3) فَإِنَّ الإِْقْرَارَ لِهَذَا وَمِثْلِهِ
كَالطَّرِيقِ وَالْقَنْطَرَةِ وَالسِّقَايَةِ، يَصِحُّ، وَلَوْ لَمْ
يَذْكُرْ سَبَبًا، كَغَلَّةِ وَقْفٍ أَوْ وَصِيَّةٍ، لأَِنَّهُ إِقْرَارٌ
مِنْ مُكَلَّفٍ مُخْتَارٍ فَلَزِمَهُ، كَمَا لَوْ عَيَّنَ السَّبَبَ،
وَيَكُونُ لِمَصَالِحِهَا، فَإِذَا أَسْنَدَهُ لِمُمْكِنٍ بَعْدَ
الإِْقْرَارِ صَحَّ. (4) وَفِي وَجْهٍ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ ذَكَرَهُ
التَّمِيمِيُّ: أَنَّ الإِْقْرَارَ لِلْمَسْجِدِ وَنَحْوِهِ مِنِ
الْجِهَاتِ لاَ يَصِحُّ إِلاَّ مَعَ ذِكْرِ السَّبَبِ. (5)
الشَّرْطُ الثَّالِثُ: أَلاَّ يُكَذَّبَ الْمُقِرُّ فِي إِقْرَارِهِ:
33 - يَشْتَرِطُ الْفُقَهَاءُ لِصِحَّةِ الإِْقْرَارِ أَلاَّ يُكَذِّبَ
الْمُقَرُّ لَهُ الْمُقِرَّ فِيمَا أَقَرَّ بِهِ، فَإِنْ كَذَّبَهُ بَطَل
إِقْرَارُهُ (6) لأَِنَّ
__________
(1) الهداية والعناية وتكملة الفتح 6 / 308، والبدائع 7 / 224.
(2) الشرح الكبير وحاشية الدسوقي 3 / 298.
(3) الشرح الصغير 3 / 256.
(4) نهاية المحتاج 5 / 75، وكشاف القناع 6 / 459.
(5) الإنصاف 12 / 146.
(6) حاشية ابن عابدين 4 / 469، وحاشية الدسوقي 3 / 398، ونهاية المحتاج 5 /
75، وكشاف القناع 6 / 476.
(6/58)
الإِْقْرَارَ مِمَّا يَرْتَدُّ بِالرَّدِّ
إِلاَّ فِي بَعْضِ مَسَائِل: مِنْهَا الإِْقْرَارُ بِالْحُرِّيَّةِ
وَالرِّقِّ وَالنَّسَبِ وَوَلاَءِ الْعَتَاقَةِ وَالْوَقْفِ وَالطَّلاَقِ
وَالْمِيرَاثِ وَالنِّكَاحِ وَإِبْرَاءِ الْكَفِيل وَإِبْرَاءِ الْمَدِينِ
بَعْدَ قَوْلِهِ: أَبْرِئْنِي (1) . فَلَوْ قَال الْمُقَرُّ لَهُ
لِلْمُقِرِّ: لَيْسَ لِي عَلَيْكَ شَيْءٌ، أَوْ لاَ عِلْمَ لِي،
وَاسْتَمَرَّ التَّكْذِيبُ فَلاَ يُؤَاخَذُ بِإِقْرَارِهِ.
وَالتَّكْذِيبُ يُعْتَبَرُ مِنْ بَالِغٍ رَشِيدٍ. (2)
وَنَصَّ الشَّافِعِيَّةُ عَلَى أَنَّهُ إِنْ كَذَّبَ الْمُقَرُّ لَهُ
الْمُقِرَّ وَكَانَ قَدْ أَقَرَّ لَهُ بِعَيْنٍ - تُرِكَ الْمَال
الْمُقَرُّ بِهِ فِي يَدِ الْمُقِرِّ فِي الأَْصَحِّ، لأَِنَّ يَدَهُ
مُشْعِرَةٌ بِالْمِلْكِ ظَاهِرًا، وَالإِْقْرَارُ بِالطَّارِئِ عَارَضَهُ
التَّكْذِيبُ فَسَقَطَ، فَتَبْقَى يَدُهُ عَلَى مَا مَعَهُ يَدَ مِلْكٍ لاَ
مُجَرَّدَ اسْتِحْفَاظٍ. وَيُقَابِل الأَْصَحَّ أَنَّ الْحَاكِمَ
يَنْزِعُهُ مِنْهُ وَيَحْفَظُهُ إِلَى ظُهُورِ مَالِكِهِ (3) . وَإِذَا
ادَّعَى الْمُقَرُّ لَهُ جِنْسًا آخَرَ بَعْدَ أَنْ كَذَّبَ الْمُقِرَّ
حَلَفَ الْمُقِرُّ. (4)
أَمَّا إِذَا أَقَرَّ الْمُقِرُّ بِشَيْءٍ ثُمَّ ادَّعَى أَنَّهُ كَاذِبٌ
فِي إِقْرَارِهِ حَلَفَ الْمُقَرُّ لَهُ أَوْ وَارِثُهُ عَلَى الْمُفْتَى
بِهِ - عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ - أَنَّ الْمُقِرَّ لَمْ يَكُنْ كَاذِبًا فِي
إِقْرَارِهِ. وَقِيل: لاَ يَحْلِفُ، وَفِي جَامِعِ الْفُصُولَيْنِ: أَقَرَّ
فَمَاتَ فَقَال وَرَثَتُهُ: إِنَّهُ أَقَرَّ كَاذِبًا فَلَمْ يَجُزْ
إِقْرَارُهُ، وَالْمُقَرُّ لَهُ عَالِمٌ بِهِ لَيْسَ لَهُمْ تَحْلِيفُهُ،
إِذْ وَقْتَ الإِْقْرَارِ لَمْ يَتَعَلَّقْ حَقُّهُمْ بِمَال الْمُقِرِّ
فَصَحَّ الإِْقْرَارُ، وَحَيْثُ تَعَلَّقَ حَقُّهُمْ صَارَ حَقًّا
لِلْمُقَرِّ لَهُ. (5)
__________
(1) الدر المختار وحاشية ابن عابدين 4 / 469.
(2) الشرح الصغير 3 / 526 - 527، والشرح الكبير وحاشية الدسوقي 3 / 398.
(3) نهاية المحتاج 5 / 75.
(4) كشاف القناع 6 / 480.
(5) حاشية ابن عابدين 4 / 457 - 458.
(6/59)
الرُّكْنُ الثَّالِثُ: الْمُقَرُّ بِهِ:
34 - الْمُقَرُّ بِهِ فِي الأَْصْل نَوْعَانِ: حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى،
وَحَقُّ الْعَبْدِ. (1) وَحَقُّ اللَّهِ تَعَالَى نَوْعَانِ: حَقٌّ خَالِصٌ
لِلَّهِ، وَحَقٌّ لِلَّهِ فِيهِ حَقٌّ وَلِلْعَبْدِ أَيْضًا.
وَلِصِحَّةِ الإِْقْرَارِ بِحَقِّ اللَّهِ شُرُوطٌ هِيَ: تَعَدُّدُ
الإِْقْرَارِ، وَمَجْلِسُ الْقَضَاءِ، وَالْعِبَارَةُ. حَتَّى إِنَّ
الأَْخْرَسَ إِذَا كَتَبَ الإِْقْرَارَ فِيمَا هُوَ حَقُّ اللَّهِ
بِيَدِهِ، أَوْ بِمَا يُعْرَفُ أَنَّهُ إِقْرَارٌ بِهَذِهِ الأَْشْيَاءِ
يَجُوزُ، بِخِلاَفِ الَّذِي اعْتُقِل لِسَانُهُ، لأَِنَّ لِلأَْخْرَسِ
إِشَارَةً مَعْهُودَةً فَإِذَا أَتَى بِهَا يَحْصُل الْعِلْمُ بِالْمُشَارِ
إِلَيْهِ، وَلَيْسَ ذَلِكَ لِمَنِ اعْتُقِل لِسَانُهُ، وَلأَِنَّ إِقَامَةَ
الإِْشَارَةِ مَقَامَ الْعِبَارَةِ أَمْرٌ ضَرُورِيٌّ، وَالْخَرَسُ
ضَرُورَةٌ لأَِنَّهُ أَصْلِيٌّ، وَكَذَلِكَ فَإِنَّهُ لاَ يُشْتَرَطُ
لِصِحَّةِ الإِْقْرَارِ بِحَقِّ اللَّهِ تَعَالَى الصَّحْوُ حَتَّى يَصِحَّ
إِقْرَارُ السَّكْرَانِ، وَفِي ذَلِكَ كُلِّهِ تَفْصِيلٌ وَخِلاَفٌ
مُبَيَّنٌ فِي الْحُدُودِ، وَعِنْدَ الْكَلاَمِ عَنْ حَقِّ اللَّهِ
تَعَالَى.
وَأَمَّا حَقُّ الْعَبْدِ فَهُوَ الْمَال، مِنَ الْعَيْنِ وَالدَّيْنِ
وَالنَّسَبِ وَالْقِصَاصِ وَالطَّلاَقِ وَالْعِتَاقِ وَنَحْوِهَا، وَلاَ
يُشْتَرَطُ لِصِحَّةِ الإِْقْرَارِ بِهَا مَا يُشْتَرَطُ لِصِحَّةِ
الإِْقْرَارِ بِحُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى. فَهِيَ تَثْبُتُ مَعَ
الشُّبُهَاتِ، بِخِلاَفِ حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى.
وَالشَّرَائِطُ الْمُخْتَصَّةُ بِحُقُوقِ الْعِبَادِ نَوْعَانِ: نَوْعٌ
يَرْجِعُ إِلَى الْمُقَرِّ لَهُ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ مَعْلُومًا عَلَى مَا
سَبَقَ، وَنَوْعٌ يَرْجِعُ إِلَى الْمُقَرِّ بِهِ، فَيُشْتَرَطُ لِصِحَّةِ
الإِْقْرَارِ بِالْعَيْنِ وَالدَّيْنِ الْفَرَاغُ عَنْ تَعَلُّقِ حَقِّ
الْغَيْرِ.
فَإِنْ كَانَ مَشْغُولاً بِحَقِّ الْغَيْرِ لَمْ يَصِحَّ، لأَِنَّ حَقَّ
الْغَيْرِ مَعْصُومٌ مُحْتَرَمٌ، فَلاَ يَجُوزُ إِبْطَالُهُ مِنْ غَيْرِ
__________
(1) بدائع الصنائع 7 / 223، والمهذب 2 / 343.
(6/59)
رِضَاهُ، فَلاَ بُدَّ مِنْ مَعْرِفَةِ
وَقْتِ التَّعَلُّقِ. (1)
35 - وَلَمَّا كَانَ الإِْقْرَارُ إِخْبَارًا عَنْ كَائِنٍ، وَذَلِكَ قَدْ
يَكُونُ مَعْلُومًا وَقَدْ يَكُونُ مَجْهُولاً، فَإِنَّ جَهَالَةَ
الْمُقَرِّ بِهِ لاَ تَمْنَعُ صِحَّةَ الإِْقْرَارِ بِغَيْرِ خِلاَفٍ. (2)
فَلَوْ أَتْلَفَ عَلَى آخَرَ شَيْئًا لَيْسَ مِنْ ذَوَاتِ الأَْمْثَال
فَوَجَبَتْ عَلَيْهِ قِيمَتُهُ، أَوْ جَرَحَ آخَرَ جِرَاحَةً لَيْسَ لَهَا
فِي الشَّرْعِ أَرْشٌ مُقَدَّرٌ فَأَقَرَّ بِالْقِيمَةِ وَالأَْرْشِ،
فَكَانَ الإِْقْرَارُ بِالْمَجْهُول إِخْبَارًا عَنِ الْمُخْبَرِ عَنْهُ
عَلَى مَا هُوَ بِهِ. وَيُجْبَرُ عَلَى الْبَيَانِ لأَِنَّهُ هُوَ
الْمُجْمَل، فَكَانَ الْبَيَانُ عَلَيْهِ، قَال اللَّهُ تَعَالَى: {فَإِذَا
قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ} (3)
وَيَصِحُّ بَيَانُهُ مُتَّصِلاً وَمُنْفَصِلاً، لأَِنَّهُ بَيَانٌ مَحْضٌ
فَلاَ يُشْتَرَطُ فِيهِ الْوَصْل.
36 - لاَ بُدَّ أَنْ يُبَيِّنَ شَيْئًا لَهُ قِيمَةٌ، لأَِنَّهُ أَقَرَّ
بِمَا فِي ذِمَّتِهِ، وَمَا لاَ قِيمَةَ لَهُ لاَ يَثْبُتُ فِي الذِّمَّةِ،
وَإِذَا بَيَّنَ شَيْئًا لَهُ قِيمَةٌ فَإِنْ صَدَّقَهُ الْمُقَرُّ لَهُ
وَادَّعَى عَلَيْهِ زِيَادَةً، أَخَذَ ذَلِكَ الْقَدْرَ الْمُعَيَّنَ،
وَأَقَامَ الْبَيِّنَةَ عَلَى الزِّيَادَةِ، وَإِلاَّ حَلَّفَهُ عَلَيْهَا
إِنْ أَرَادَ، لأَِنَّهُ مُنْكِرٌ لِلزِّيَادَةِ، وَالْقَوْل قَوْل
الْمُنْكِرِ مَعَ يَمِينِهِ، وَإِنْ كَذَّبَهُ وَادَّعَى عَلَيْهِ مَالاً
آخَرَ أَقَامَ الْبَيِّنَةَ، وَإِلاَّ حَلَّفَهُ عَلَيْهِ، وَلَيْسَ لَهُ
أَنْ يَأْخُذَ مَا عَيَّنَهُ، لأَِنَّهُ أَبْطَل إِقْرَارَهُ
بِالتَّكْذِيبِ.
وَعَلَى هَذَا فَإِذَا قَال: لِفُلاَنٍ عَلَيَّ مَالٌ، يُصَدَّقُ
__________
(1) البدائع 7 / 224.
(2) البدائع 7 / 214، ورد المحتار 4 / 450، وتبيين الحقائق وحاشية الشلبي
عليه 5 / 4، وتكملة الفتح والهداية 6 / 285، وحاشية الدسوقي 3 / 410،
والتاج والإكليل 5 / 230 - 231، ومواهب الجليل 5 / 231، ونهاية المحتاج 5 /
286، والمهذب 2 / 344، والمغني 5 / 187، وكشاف القناع 6 / 453، 465،
والإنصاف 12 / 204.
(3) سورة القيامة / 18 - 19.
(6/60)
فِي الْقَلِيل وَالْكَثِيرِ؛ لأَِنَّ
الْمَال اسْمُ مَا يُتَمَوَّل، وَهَذَا يَقَعُ عَلَى الْقَلِيل
وَالْكَثِيرِ، وَيَصِحُّ بَيَانُهُ مُتَّصِلاً وَمُنْفَصِلاً. (1)
وَبِهَذَا قَال الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ.
وَنَقَل ابْنُ قُدَامَةَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ لاَ يُقْبَل
تَفْسِيرُهُ بِغَيْرِ الْمَال الزَّكَوِيِّ، وَأَنَّ بَعْضَ أَصْحَابِ
مَالِكٍ حَكَوْا عَنْهُ ثَلاَثَةَ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا كَغَيْرِ
الْمَالِكِيَّةِ، وَالثَّانِي: لاَ يُقْبَل إِلاَّ أَوَّل نِصَابٍ مِنْ
نُصُبِ الزَّكَاةِ مِنْ نَوْعِ أَمْوَالِهِمْ، وَالثَّالِثُ: مَا يُقْطَعُ
فِيهِ السَّارِقُ وَيَصِحُّ مَهْرًا. (2)
وَيَقُول الزَّيْلَعِيُّ: لَمْ يُصَدَّقْ فِي أَقَل مِنْ دِرْهَمٍ؛ لأَِنَّ
مَا دُونَهُ لاَ يُطْلَقُ عَلَيْهِ اسْمُ الْمَال عَادَةً وَهُوَ
الْمُعْتَبَرُ.
وَلَوْ قَال: لَهُ عَلَيَّ مَالٌ عَظِيمٌ فَالْوَاجِبُ نِصَابٌ، لأَِنَّهُ
عَظِيمٌ فِي الشَّرْعِ حَتَّى اعْتُبِرَ صَاحِبُهُ غَنِيًّا. وَعَنْ أَبِي
حَنِيفَةَ أَنَّهُ لاَ يُصَدَّقُ فِي أَقَل مِنْ عَشَرَةِ دَرَاهِمَ،
لأَِنَّهُ نِصَابُ السَّرِقَةِ وَالْمَهْرِ، وَهُوَ عَظِيمٌ حَيْثُ
تُقْطَعُ بِهِ الْيَدُ وَيَصْلُحُ مَهْرًا. (3)
وَيُجْبِرُهُ الْقَاضِي عَلَى الْبَيَانِ، وَلاَ بُدَّ أَنْ يُبَيِّنَ مَا
لَهُ قِيمَةٌ، لأَِنَّ مَا لاَ قِيمَةَ لَهُ لاَ يَجِبُ فِي الذِّمَّةِ،
فَإِذَا بَيَّنَ بِمَا لاَ قِيمَةَ لَهُ اعْتُبِرَ رُجُوعًا، وَالْقَوْل
قَوْلُهُ مَعَ يَمِينِهِ، وَإِنِ ادَّعَى الْمُقَرُّ لَهُ أَكْثَرَ مِنْ
ذَلِكَ فَالْقَوْل قَوْل الْمُقِرِّ مَعَ يَمِينِهِ. (4)
وَلَوْ أَقَرَّ لَهُ بِشَيْءٍ أَوْ حَقٍّ، وَقَال: أَرَدْتُ حَقَّ
__________
(1) البدائع 7 / 214، ورد المحتار 4 / 450، وتبيين الحقائق 5 / 4 - 5،
ونهاية المحتاج 5 / 86، والمغني 5 / 187، وكشاف القناع 6 / 476.
(2) المغني 5 / 188 - 189.
(3) تبيين الحقائق 5 / 5.
(4) تكملة الفتح والهداية 6 / 285.
(6/60)
الإِْسْلاَمِ، لاَ يَصِحُّ إِنْ قَالَهُ
مَفْصُولاً، وَيَصِحُّ إِنْ قَالَهُ مَوْصُولاً. (1)
وَيَنُصُّ الْمَالِكِيَّةُ عَلَى أَنَّهُ إِنْ قَال: لَكَ أَحَدُ
ثَوْبَيْنِ، عَيَّنَ الْمُقِرُّ. فَإِنْ عَيَّنَ لَهُ الأَْدْنَى حَلَفَ
إِنِ اتَّهَمَهُ الْمُقَرُّ لَهُ، وَإِذَا لَمْ يُعَيِّنْ بِأَنْ قَال: لاَ
أَدْرِي. قِيل لِلْمُقَرِّ لَهُ: عَيِّنْ أَنْتَ. فَإِنْ عَيَّنَ
أَدْنَاهُمَا أَخَذَهُ بِلاَ يَمِينٍ، وَإِنْ عَيَّنَ أَجْوَدَهُمَا حَلَفَ
لِلتُّهْمَةِ وَأَخَذَهُ، وَإِنْ قَال: لاَ أَدْرِي، حَلَفَا مَعًا عَلَى
نَفْيِ الْعِلْمِ، وَاشْتَرَكَا فِيهِمَا بِالنِّصْفِ. (2)
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: لَوْ قَال: لَهُ فِي هَذِهِ الدَّارِ حَقٌّ، أَوْ
فِي هَذَا الْحَائِطِ، أَوْ فِي هَذِهِ الأَْرْضِ، ثُمَّ فَسَّرَ ذَلِكَ
بِجُزْءٍ مِنْهَا قُبِل تَفْسِيرُهُ، قَلِيلاً كَانَ أَوْ كَثِيرًا،
شَائِعًا كَانَ أَوْ مُعَيَّنًا.
وَيَنُصُّ الْحَنَابِلَةُ عَلَى أَنَّهُ إِنِ امْتَنَعَ عَنِ التَّفْسِيرِ
حُبِسَ حَتَّى يُفَسِّرَ، لأَِنَّهُ مُمْتَنِعٌ مِنْ حَقٍّ عَلَيْهِ،
فَيُحْبَسُ بِهِ، كَمَا لَوْ عَيَّنَهُ وَامْتَنَعَ مِنْ أَدَائِهِ. وَقَال
الْقَاضِي: يُجْعَل نَاكِلاً وَيُؤْمَرُ الْمُقَرُّ لَهُ بِالْبَيَانِ.
وَقَالُوا: إِنْ مَاتَ مَنْ عَلَيْهِ الْحَقُّ أُخِذَ وَرَثَتُهُ بِمِثْل
ذَلِكَ، لأَِنَّ الْحَقَّ ثَبَتَ عَلَى مُورَثِهِمْ فَيَتَعَلَّقُ
بِتَرِكَتِهِ، وَقَدْ صَارَتْ إِلَى الْوَرَثَةِ، فَيَلْزَمُهُمْ مَا
لَزِمَ مُورَثَهُمْ، كَمَا لَوْ كَانَ الْحَقُّ مُبَيَّنًا، وَإِنْ لَمْ
يُخَلِّفِ الْمَيِّتُ تَرِكَةً فَلاَ شَيْءَ عَلَى الْوَرَثَةِ. (3)
وَنَصَّ الشَّافِعِيَّةُ عَلَى أَنَّهُ لَوْ فَسَّرَهُ بِمَا لاَ
يُتَمَوَّل - لَكِنْ مِنْ جِنْسِهِ - كَحَبَّةِ حِنْطَةٍ، أَوْ بِمَا يَحِل
اقْتِنَاؤُهُ
__________
(1) حاشية ابن عابدين 4 / 450، وحاشية الدسوقي 3 / 410، ومواهب الجليل 5 /
231، والتاج والإكليل 5 / 230 - 231.
(2) التاج والإكليل 5 / 228.
(3) المغني 5 / 187، وكشاف القناع 6 / 453، 480 - 481، والإنصاف 12 / 204.
(6/61)
كَكَلْبٍ مُعَلَّمٍ، قُبِل فِي الأَْصَحِّ
وَيَحْرُمُ أَخْذُهُ وَيَجِبُ رَدُّهُ. وَقِيل: لاَ يُقْبَل فِيهِمَا،
لأَِنَّ الأَْوَّل لاَ قِيمَةَ لَهُ فَلاَ يَصِحُّ الْتِزَامُهُ بِكَلِمَةِ
" عَلَيَّ "، وَالثَّانِي: لَيْسَ بِمَالٍ، وَظَاهِرُ الإِْقْرَارِ
الْمَال. (1) وَقَالُوا: لاَ يُقْبَل تَفْسِيرُهُ بِنَحْوِ عِيَادَةِ
مَرِيضٍ وَرَدِّ سَلاَمٍ، إِذْ لاَ مُطَالَبَةَ بِهِمَا، وَهُمْ
يَشْتَرِطُونَ أَنْ يَكُونَ الْمُقَرُّ بِهِ مِمَّا يَجُوزُ بِهِ
الْمُطَالَبَةُ (2) . أَمَّا لَوْ كَانَ قَال: لَهُ عَلَيَّ حَقٌّ،
فَإِنَّهُ يُقْبَل لِشُيُوعِ الْحَقِّ فِي اسْتِعْمَال كُل ذَلِكَ. (3)
وَكَذَلِكَ يُصَرِّحُ الْحَنَابِلَةُ بِأَنَّهُ مَتَى فَسَّرَ إِقْرَارَهُ
بِمَا يُتَمَوَّل فِي الْعَادَةِ قُبِل تَفْسِيرُهُ وَثَبَتَ، إِلاَّ أَنْ
يُكَذِّبَهُ الْمُقَرُّ لَهُ، وَيَدَّعِيَ جِنْسًا آخَرَ أَوْ لاَ
يَدَّعِيَ شَيْئًا، فَبَطَل إِقْرَارُهُ، وَكَذَا إِنْ فَسَّرَهُ بِمَا
لَيْسَ بِمَالٍ فِي الشَّرْعِ، وَإِنْ فَسَّرَهُ بِكَلْبٍ غَيْرِ جَائِزٍ
اقْتِنَاؤُهُ فَكَذَلِكَ. وَإِنْ فَسَّرَهُ بِكَلْبٍ يَجُوزُ اقْتِنَاؤُهُ،
أَوْ جِلْدِ مَيْتَةٍ غَيْرِ مَدْبُوغٍ فَفِيهِ وَجْهَانِ، الأَْوَّل:
يُقْبَل لأَِنَّهُ شَيْءٌ يَجِبُ رَدُّهُ، وَالْوَجْهُ الثَّانِي: لاَ
يُقْبَل، لأَِنَّ الإِْقْرَارَ إِخْبَارٌ عَمَّا يَجِبُ ضَمَانُهُ وَهَذَا
لاَ يَجِبُ ضَمَانُهُ، غَيْرَ أَنَّهُمْ قَالُوا: إِنْ فَسَّرَهُ بِحَبَّةِ
حِنْطَةٍ أَوْ شَعِيرٍ لَمْ يُقْبَل، لأَِنَّ هَذَا لاَ يُتَمَوَّل عَادَةً
عَلَى انْفِرَادِهِ. وَقَالُوا أَيْضًا: إِنْ فَسَّرَهُ بِحَقِّ شُفْعَةٍ
قُبِل، لأَِنَّهُ حَقٌّ وَاجِبٌ وَيَئُول إِلَى مَالٍ، وَإِنْ فَسَّرَهُ
بِحَدِّ قَذْفٍ قُبِل، لأَِنَّهُ حَقٌّ يَجِبُ عَلَيْهِ - وَهُمْ فِي
ذَلِكَ كَالشَّافِعِيَّةِ - غَيْرَ أَنَّهُمْ قَالُوا بِالنِّسْبَةِ
لِحَدِّ الْقَذْفِ: يَحْتَمِل أَلاَّ يُقْبَل لأَِنَّهُ لاَ يَئُول إِلَى
مَالٍ، وَالأَْوَّل أَصَحُّ وَإِنْ فَسَّرَهُ بِرَدِّ سَلاَمٍ أَوْ
تَشْمِيتِ عَاطِسٍ وَنَحْوِهِ لَمْ يُقْبَل - خِلاَفًا لِلشَّافِعِيَّةِ -
لأَِنَّهُ يَسْقُطُ بِفَوَاتِهِ فَلاَ يَثْبُتُ فِي الذِّمَّةِ، وَقَالُوا:
__________
(1) نهاية المحتاج5 / 86، 87.
(2) نهاية المحتاج 5 / 81.
(3) نهاية المحتاج 5 / 88.
(6/61)
يَحْتَمِل أَنْ يُقْبَل تَفْسِيرُهُ،
فَهُمْ فِي هَذَا كَالشَّافِعِيَّةِ. (1)
37 - وَلَوْ كَانَ الْمُقَرُّ بِهِ مَعْلُومَ الأَْصْل وَمَجْهُول
الْوَصْفِ، نَحْوَ أَنْ يَقُول: إِنَّهُ غَصَبَ مِنْ فُلاَنٍ ثَوْبًا مِنَ
الْعُرُوضِ، فَيُصَدَّقُ فِي الْبَيَانِ مِنْ جِنْسِ ذَلِكَ سَلِيمًا كَانَ
أَوْ مَعِيبًا، لأَِنَّ الْغَصْبَ يُرَدُّ عَلَى السَّلِيمِ وَالْمَعِيبِ
عَادَةً، وَقَدْ بَيَّنَ الأَْصْل وَأَجَّل الْوَصْفَ، فَيُرْجَعُ فِي
بَيَانِ الْوَصْفِ إِلَيْهِ فَيَصِحُّ مُنْفَصِلاً، وَمَتَى صَحَّ
بَيَانُهُ يَلْزَمُهُ الرَّدُّ إِنْ قَدَرَ عَلَيْهِ، وَإِنْ عَجَزَ عَنْهُ
تَلْزَمُهُ الْقِيمَةُ (2) وَإِنْ قَال: غَصَبْتُ شَيْئًا فَطَلَبَ مِنْهُ
الْبَيَانَ فَفَسَّرَهُ بِمَا لَيْسَ بِمَالٍ قُبِل، لأَِنَّ اسْمَ
الْغَصْبِ يَقَعُ عَلَيْهِ. قَال ابْنُ قُدَامَةَ: وَهُوَ مَذْهَبُ
الشَّافِعِيِّ.
وَحُكِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ لاَ يُقْبَل تَفْسِيرُهُ بِغَيْرِ
الْمَكِيل وَالْمَوْزُونِ مِمَّا لاَ يَثْبُتُ فِي الذِّمَّةِ بِنَفْسِهِ.
(3)
وَلَوْ أَقَرَّ بِأَنَّ مَا عِنْدَهُ لِغَيْرِهِ كَانَ رَهْنًا، فَقَال
الْمُقَرُّ لَهُ: بَل وَدِيعَةٌ، فَالْقَوْل قَوْل الْمُقَرِّ لَهُ
(الْمَالِكِ) لأَِنَّ الْعَيْنَ تَثْبُتُ بِالإِْقْرَارِ، وَادَّعَى
الْمُقِرُّ دَيْنًا لاَ يَعْتَرِفُ لَهُ بِهِ وَالْقَوْل قَوْل
الْمُنْكِرِ، وَلأَِنَّهُ أَقَرَّ بِمَالٍ لِغَيْرِهِ وَادَّعَى أَنَّ لَهُ
بِهِ تَعَلُّقًا (حَقًّا فِي الاِحْتِبَاسِ) فَلَمْ يُقْبَل، كَمَا لَوِ
ادَّعَاهُ بِكَلاَمٍ مُنْفَصِلٍ، وَكَذَلِكَ لَوْ أَقَرَّ لَهُ بِدَارٍ
وَقَال: اسْتَأْجَرْتُهَا، أَوْ بِثَوْبٍ وَادَّعَى أَنَّهُ خَاطَهُ
بِأَجْرٍ يَلْزَمُ الْمُقَرَّ لَهُ. لَمْ يُقْبَل لأَِنَّهُ مُدَّعٍ عَلَى
غَيْرِهِ حَقًّا فَلاَ يُقْبَل قَوْلُهُ إِلاَّ بِبَيِّنَةٍ.
وَإِنْ قَال: لَكَ عَلَيَّ أَلْفٌ مِنْ ثَمَنِ مَبِيعٍ لَمْ
__________
(1) المغني 5 / 187، وكشاف القناع 6 / 480 - 481، والإنصاف 12 / 205.
(2) البدائع 7 / 215.
(3) المغني 5 / 188.
(6/62)
أَقْبِضْهُ، فَقَال الْمُدَّعَى عَلَيْهِ:
بَل لِي عَلَيْكَ أَلْفٌ وَلاَ شَيْءَ لَكَ عِنْدِي. قَال أَبُو
الْخَطَّابِ: فِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا. الْقَوْل قَوْل الْمُقَرِّ
لَهُ، لأَِنَّهُ اعْتَرَفَ لَهُ بِالأَْلْفِ وَادَّعَى عَلَيْهِ مَبِيعًا،
فَأَشْبَهَ مَا إِذَا قَال: هَذَا رَهْنٌ، فَقَال الْمَالِكُ: وَدِيعَةٌ،
أَوْ لَهُ عَلَيَّ أَلْفٌ لَمْ أَقْبِضْهَا.
الثَّانِي: الْقَوْل قَوْل الْمُقِرِّ وَهُوَ قِيَاسُ الْمَذْهَبِ، وَهُوَ
قَوْل الشَّافِعِيِّ وَأَبِي يُوسُفَ، لأَِنَّهُ أَقَرَّ بِحَقٍّ فِي
مُقَابَلَةِ حَقٍّ لَهُ وَلاَ يَنْفَكُّ أَحَدُهُمَا عَنِ الآْخَرِ. (1)
وَيُصَرِّحُ ابْنُ قُدَامَةَ بِأَنَّ الشَّهَادَةَ عَلَى الإِْقْرَارِ
بِالْمَجْهُول تُقْبَل، لأَِنَّ الإِْقْرَارَ بِهِ صَحِيحٌ، وَمَا كَانَ
صَحِيحًا فِي نَفْسِهِ صَحَّتِ الشَّهَادَةُ بِهِ كَالْمَعْلُومِ (2) .
38 - وَنَصَّ الشَّافِعِيَّةُ عَلَى أَنَّهُ يُشْتَرَطُ فِي الْمُقَرِّ
بِهِ لِصِحَّةِ الإِْقْرَارِ أَلاَّ يَكُونَ مِلْكًا لِلْمُقِرِّ حِينَ
يُقِرُّ، لأَِنَّ الإِْقْرَارَ لَيْسَ إِزَالَةً عَنِ الْمِلْكِ،
وَإِنَّمَا هُوَ إِخْبَارٌ عَنْ كَوْنِهِ مِلْكًا لِلْمُقَرِّ لَهُ، فَلاَ
بُدَّ مِنْ تَقْدِيمِ الْمَخْبَرِ عَنْهُ عَلَى الْخَبَرِ، فَلَوْ قَال:
دَارِي أَوْ ثَوْبِي أَوْ دَيْنِي الَّذِي عَلَى زَيْدٍ لِعَمْرٍو وَلَمْ
يُرِدِ الإِْقْرَارَ فَهُوَ لَغْوٌ، لأَِنَّ الإِْضَافَةَ إِلَيْهِ
تَقْتَضِي الْمِلْكَ لَهُ، فَيُنَافِي إِقْرَارَهُ لِغَيْرِهِ وَيُحْمَل
عَلَى الْوَعْدِ بِالْهِبَةِ. وَلَوْ قَال: هَذَا لِفُلاَنٍ وَكَانَ
مِلْكِي إِلَى أَنْ أَقْرَرْتُ بِهِ، فَأَوَّل كَلاَمِهِ إِقْرَارٌ،
وَآخِرُهُ لَغْوٌ، فَلْيُطْرَحْ آخِرُهُ فَقَطْ، وَيُعْمَل بِأَوَّلِهِ،
لاِشْتِمَالِهِ عَلَى جُمْلَتَيْنِ مُسْتَقِلَّتَيْنِ. (3)
39 - كَمَا اشْتَرَطُوا لإِِعْمَال الإِْقْرَارِ - أَيِ التَّسْلِيمِ
__________
(1) المغني 5 / 194.
(2) المغني 5 / 193.
(3) نهاية المحتاج 5 / 81 - 82.
(6/62)
لاَ لِصِحَّتِهِ، أَنْ تَكُونَ الْعَيْنُ
الْمُقَرُّ بِهَا فِي يَدِ الْمُقِرِّ حِسًّا أَوْ حُكْمًا، كَالْمُعَارِ
أَوِ الْمُؤَجَّرِ تَحْتَ يَدِ الْغَيْرِ، لأَِنَّهُ عِنْدَ انْتِفَاءِ
يَدِهِ عَنْهُ يَكُونُ مُدَّعِيًا أَوْ شَاهِدًا، وَمَتَى حَصَل بِيَدِهِ
لَزِمَهُ تَسْلِيمُهُ، لأَِنَّ هَذَا الشَّرْطَ لَيْسَ شَرْطَ صِحَّةٍ.
فَلَوْ أَقَرَّ وَلَمْ يَكُنْ فِي يَدِهِ ثُمَّ صَارَ فِي يَدِهِ عَمِل
بِمُقْتَضَى إِقْرَارِهِ، وَاسْتَثْنَوْا مِنِ اشْتِرَاطِ أَنْ يَكُونَ فِي
يَدِهِ مَا لَوْ بَاعَ بِشَرْطِ الْخِيَارِ لَهُ أَوْ لَهُمَا، ثُمَّ
ادَّعَاهُ رَجُلٌ، فَأَقَرَّ الْبَائِعُ فِي مُدَّةِ الْخِيَارِ لَهُ بِهِ
فَإِنَّهُ يَصِحُّ. (1)
أَمَّا لَوْ كَانَتِ الْعَيْنُ فِي يَدِهِ بِاعْتِبَارِهِ نَائِبًا عَنْ
غَيْرِهِ كَنَاظِرِ وَقْفٍ وَوَلِيِّ مَحْجُورٍ فَلاَ يَصِحُّ إِقْرَارُهُ.
(2)
وَكَذَلِكَ صَرَّحَ الْحَنَابِلَةُ بِاشْتِرَاطِ أَنْ يَكُونَ الْمُقَرُّ
بِهِ بِيَدِ الْمُقِرِّ وَوِلاَيَتِهِ وَاخْتِصَاصِهِ، فَلاَ يَصِحُّ
إِقْرَارُهُ بِشَيْءٍ فِي يَدِ غَيْرِهِ، أَوْ فِي وِلاَيَةِ غَيْرِهِ،
كَمَا لَوْ أَقَرَّ أَجْنَبِيٌّ عَلَى صَغِيرٍ، أَوْ وَقْفٍ فِي وِلاَيَةِ
غَيْرِهِ أَوِ اخْتِصَاصِهِ، لَكِنَّهُمْ قَالُوا بِصِحَّةِ إِقْرَارِهِ
بِمَالٍ فِي وِلاَيَتِهِ وَاخْتِصَاصِهِ، كَأَنْ يُقِرَّ وَلِيُّ
الْيَتِيمِ وَنَحْوُهُ أَوْ نَاظِرُ الْوَقْفِ، لأَِنَّهُ يَمْلِكُ
إِنْشَاءَ ذَلِكَ.
وَاشْتَرَطُوا أَنْ يُتَصَوَّرَ الْتِزَامُ الْمُقِرِّ بِمَا أَقَرَّ بِهِ،
أَيْ أَنْ يُمْكِنَ صِدْقُهُ، فَلَوْ أَقَرَّ بِارْتِكَابِهِ جِنَايَةً
مُنْذُ عِشْرِينَ سَنَةً وَعُمُرُهُ لاَ يَتَجَاوَزُ الْعِشْرِينَ، فَإِنَّ
إِقْرَارَهُ لاَ يَصِحُّ. (3)
الرُّكْنُ الرَّابِعُ: الصِّيغَةُ:
40 - الصِّيغَةُ هِيَ مَا يُظْهِرُ الإِْرَادَةَ مِنْ لَفْظٍ، أَوْ
__________
(1) نهاية المحتاج 5 / 82 - 83، واللجنة ترى أنه لا حاجة للاستثناء هنا
لأنه في يده حكما لبقاء ملك البائع عليه.
(2) نهاية المحتاج5 / 83.
(3) كشاف القناع 6 / 453.
(6/63)
مَا يَقُومُ مَقَامَهُ مِنْ كِتَابَةٍ أَوْ
إِشَارَةٍ، وَإِظْهَارُ الإِْرَادَةِ لاَ بُدَّ مِنْهُ، فَلاَ عِبْرَةَ
بِالإِْرَادَةِ الْبَاطِنَةِ (1)
يَقُول السَّرَخْسِيُّ: إِنَّ مَا يَكُونُ بِالْقَلْبِ فَهُوَ نِيَّةٌ،
وَالنِّيَّةُ وَحْدَهَا لاَ تَكْفِي، وَيَقُول ابْنُ الْقَيِّمِ: إِنَّ
اللَّهَ تَعَالَى وَضَعَ الأَْلْفَاظَ بَيْنَ عِبَادِهِ تَعْرِيفًا
وَدَلاَلَةً عَلَى مَا فِي نُفُوسِهِمْ، فَإِذَا أَرَادَ أَحَدُهُمْ مِنَ
الآْخَرِ شَيْئًا عَرَّفَهُ بِمُرَادِهِ وَمَا فِي نَفْسِهِ بِلَفْظِهِ،
وَرَتَّبَ عَلَى تِلْكَ الإِْرَادَاتِ وَالْمَقَاصِدِ أَحْكَامَهَا
بِوَاسِطَةِ الأَْلْفَاظِ، وَلَمْ يُرَتِّبْ تِلْكَ الأَْحْكَامَ عَلَى
مُجَرَّدِ مَا فِي النُّفُوسِ مِنْ غَيْرِ دَلاَلَةِ فِعْلٍ أَوْ قَوْلٍ،
وَلاَ عَلَى مُجَرَّدِ أَلْفَاظٍ مَعَ الْعِلْمِ بِأَنَّ الْمُتَكَلِّمَ
بِهَا لَمْ يُرِدْ مَعَانِيَهَا. (2)
وَصِيغَةُ الإِْقْرَارِ نَوْعَانِ: صَرِيحٌ وَدَلاَلَةٌ. (3) فَالصَّرِيحُ
نَحْوُ أَنْ يَقُول: لِفُلاَنٍ عَلَيَّ أَلْفُ دِرْهَمٍ، لأَِنَّ كَلِمَةَ
(عَلَيَّ) كَلِمَةُ إِيجَابٍ لُغَةً وَشَرْعًا. قَال اللَّهُ تَعَالَى:
{وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ. .} (4) وَكَذَا لَوْ قَال
لِرَجُلٍ: هَل لِي عَلَيْكَ أَلْفُ دِرْهَمٍ؟ فَقَال الرَّجُل: نَعَمْ.
لأَِنَّ كَلِمَةَ نَعَمْ بِمَثَابَةِ إِعَادَةٍ لِكَلاَمِهِ، وَكَذَا لَوْ
قَال: لِفُلاَنٍ فِي ذِمَّتِي أَلْفُ دِرْهَمٍ، لأَِنَّ مَا فِي الذِّمَّةِ
هُوَ الدَّيْنُ، فَيَكُونُ إِقْرَارًا بِالدَّيْنِ.
هَذَا مَا مَثَّل بِهِ الْحَنَفِيَّةُ، وَلاَ تَخْرُجُ أَمْثِلَةُ
غَيْرِهِمْ عَنْ ذَلِكَ، وَالْعُرْفُ فِي هَذَا هُوَ الْمَرْجِعُ.
وَالأَْمْرُ بِكِتَابَةِ الإِْقْرَارِ إِقْرَارٌ حُكْمًا، إِذِ
الإِْقْرَارُ كَمَا يَكُونُ بِاللِّسَانِ يَكُونُ بِالْبَنَانِ، فَلَوْ
قَال لِلْكَاتِبِ: اكْتُبْ إِقْرَارًا بِأَلْفٍ عَلَيَّ لِفُلاَنٍ، صَحَّ
الإِْقْرَارُ وَاعْتُبِرَ،
__________
(1) المبسوط 13 / 46.
(2) إعلام الموقعين 3 / 105 ط دار الجيل بيروت.
(3) البدائع 7 / 207، والتاج والإكليل 5 / 224، ونهاية المحتاج 5 / 76،
وكشاف القناع 6 / 456.
(4) سورة آل عمران / 97.
(6/63)
كُتِبَ أَوْ لَمْ يُكْتَبْ. (1)
وَيَقُول ابْنُ عَابِدِينَ: إِنَّ الْكِتَابَةَ الْمَرْسُومَةَ
الْمُعَنْوَنَةَ كَالنُّطْقِ بِالإِْقْرَارِ، وَلاَ فَرْقَ بَيْنَ أَنْ
تَكُونَ الْكِتَابَةُ بِطَلَبٍ مِنَ الدَّائِنِ أَوْ بِلاَ طَلَبِهِ.
وَنَقَل عَنِ الأَْشْبَاهِ لاِبْنِ نُجَيْمٍ أَنَّهُ إِذَا كَتَبَ وَلَمْ
يَقُل شَيْئًا لاَ تَحِل الشَّهَادَةُ، لأَِنَّ الْكِتَابَةَ قَدْ تَكُونُ
لِلتَّجْرِبَةِ. وَلَوْ كَتَبَ أَمَامَ الشُّهُودِ وَقَال: اشْهَدُوا
عَلَيَّ بِمَا فِيهِ، كَانَ إِقْرَارًا إِنْ عَلِمُوا بِمَا فِيهِ وَإِلاَّ
فَلاَ. (2)
وَالإِْيمَاءُ بِالرَّأْسِ مِنَ النَّاطِقِ لَيْسَ بِإِقْرَارٍ إِلاَّ فِي
النَّسَبِ وَالإِْسْلاَمِ وَالْكُفْرِ وَالإِْفْتَاءِ. (3)
وَأَمَّا الصِّيغَةُ الَّتِي تُفِيدُ الإِْقْرَارَ دَلاَلَةً فَهِيَ أَنْ
يَقُول لَهُ رَجُلٌ: لِي عَلَيْكَ أَلْفٌ، فَيَقُول: قَدْ قَبَضْتُهَا،
لأَِنَّ الْقَضَاءَ اسْمٌ لِتَسْلِيمِ مِثْل الْوَاجِبِ فِي الذِّمَّةِ،
فَيَقْتَضِي مَا يُعَيِّنُ الْوُجُوبَ، فَكَانَ الإِْقْرَارُ بِالْقَضَاءِ
إِقْرَارًا بِالْوُجُوبِ، ثُمَّ يَدَّعِي الْخُرُوجَ عَنْهُ بِالْقَضَاءِ
فَلاَ يَصِحُّ إِلاَّ بِالْبَيِّنَةِ، وَكَذَا إِذَا قَال: أَجِّلْنِي
بِهَا. لأَِنَّ التَّأْجِيل تَأْخِيرُ الْمُطَالَبَةِ مَعَ قِيَامِ أَصْل
الدَّيْنِ فِي الذِّمَّةِ. (4)
الصِّيغَةُ مِنْ حَيْثُ الإِْطْلاَقُ وَالتَّقْيِيدُ:
الصِّيغَةُ قَدْ تَكُونُ مُطْلَقَةً كَمَا تَقَدَّمَ، وَقَدْ تَكُونُ
مُقْتَرِنَةً. وَالْقَرِينَةُ فِي الأَْصْل نَوْعَانِ:
41 - أ - قَرِينَةٌ مُبَيِّنَةٌ (عَلَى الإِْطْلاَقِ) ، وَهِيَ
الْمُعَيِّنَةُ لِبَعْضِ مَا يَحْتَمِلُهُ اللَّفْظُ، فَإِنْ كَانَ
اللَّفْظُ يَحْتَمِل الْمَعْنَيَيْنِ عَلَى السَّوَاءِ صَحَّ بَيَانُهُ
مُتَّصِلاً كَانَ الْبَيَانُ أَوْ
__________
(1) رد المحتار على الدر المختار 4 / 455.
(2) رد المحتار 4 / 456.
(3) رد المحتار 4 / 452.
(4) البدائع 7 / 208.
(6/64)
مُنْفَصِلاً، وَإِنْ كَانَ لأَِحَدِ
الاِحْتِمَالَيْنِ رُجْحَانٌ تَسْبِقُ إِلَيْهِ الأَْفْهَامُ مِنْ غَيْرِ
قَرِينَةٍ لاَ يَصِحُّ إِنْ كَانَ الْبَيَانُ مُنْفَصِلاً، وَيَصِحُّ
بِالنِّسْبَةِ لِلْمُتَّصِل إِذَا لَمْ يَتَضَمَّنِ الرُّجُوعَ. (1)
وَبِصِفَةٍ عَامَّةٍ إِذَا كَانَتِ الْقَرِينَةُ مُنْفَصِلَةً عَنِ
الإِْقْرَارِ بِأَنْ قَال: لِفُلاَنٍ عَلَيَّ عَشَرَةُ دَرَاهِمَ وَسَكَتَ،
ثُمَّ قَال: إِلاَّ دِرْهَمًا، لاَ يَصِحُّ الاِسْتِثْنَاءُ عِنْدَ
كَافَّةِ الْعُلَمَاءِ وَعَامَّةِ الصَّحَابَةِ، إِلاَّ مَا رُوِيَ عَنِ
ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّهُ يَصِحُّ، لأَِنَّ
الاِسْتِثْنَاءَ بَيَانٌ فَيَصِحُّ مُتَّصِلاً وَمُنْفَصِلاً.
وَوَجْهُ قَوْل الْعَامَّةِ أَنَّ صِيغَةَ الاِسْتِثْنَاءِ إِذَا
انْفَصَلَتْ عَنِ الْجُمْلَةِ الْمَلْفُوظَةِ لاَ تَكُونُ كَلاَمَ
اسْتِثْنَاءٍ لُغَةً، وَقَالُوا: إِنَّ الرِّوَايَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ
لاَ تَكَادُ تَصِحُّ. (2) وَبَيَانُ ذَلِكَ تَفْصِيلاً سَبَقَ فِي
مُصْطَلَحِ (اسْتِثْنَاء) .
42 - ب - قَرِينَةٌ مُغَيِّرَةٌ (مِنْ حَيْثُ الظَّاهِرُ) مُبَيِّنَةٌ
(حَقِيقَةً) ، وَهَذِهِ يَتَغَيَّرُ بِهَا الاِسْمُ لَكِنْ يَتَبَيَّنُ
بِهَا الْمُرَادُ، فَكَانَ تَغْيِيرًا صُورَةً، تَبْيِينًا مَعْنًى،
وَمِنْهُ مَا يَلِي:
أ - تَعْلِيقُ الإِْقْرَارِ عَلَى الْمَشِيئَةِ:
43 - الْقَرِينَةُ الْمُغَيِّرَةُ قَدْ تَدْخُل عَلَى أَصْل الإِْقْرَارِ،
وَتَكُونُ مُتَّصِلَةً بِهِ، كَتَعْلِيقِ الإِْقْرَارِ عَلَى مَشِيئَةِ
اللَّهِ أَوْ مَشِيئَةِ فُلاَنٍ. وَهَذَا يَمْنَعُ صِحَّةَ الإِْقْرَارِ
عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، لأَِنَّ التَّعْلِيقَ عَلَى الْمَشِيئَةِ يَجْعَل
الأَْمْرَ مُحْتَمَلاً. وَالإِْقْرَارُ إِخْبَارٌ عَنْ كَائِنٍ،
وَالْكَائِنُ لاَ يَحْتَمِل التَّعْلِيقَ. وَهُوَ مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ
ابْنُ الْمَوَّازِ وَابْنُ عَبْدِ الْحَكَمِ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ إِذْ
قَالاَ: لَوْ عَلَّقَ الإِْقْرَارَ عَلَى
__________
(1) البدائع 7 / 214.
(2) البدائع 7 / 212.
(6/64)
الْمَشِيئَةِ لَمْ يَلْزَمْهُ شَيْءٌ،
وَكَأَنَّهُ أَدْخَل مَا يُوجِبُ الشَّكَّ، وَهُوَ مُفَادُ قَوْل
الشَّافِعِيَّةِ فِيمَنْ قَرَنَ إِقْرَارَهُ بِقَوْلِهِ فِيمَا أَحْسَبُ
أَوْ أَظُنُّ، إِذْ قَالُوا: إِنَّهُ لَغْوٌ، لِعَدَمِ إِشْعَارِهِمَا
بِالإِْلْزَامِ. (1) بَل وُجِدَ لَهُمْ تَصْرِيحٌ بِعَدَمِ اللُّزُومِ
عَلَى الْمَذْهَبِ، لأَِنَّهُ عَلَّقَ مَشِيئَةَ إِقْرَارِهِ عَلَى شَرْطٍ
فَلَمْ يَصِحَّ، وَلأَِنَّ مَا عُلِّقَ عَلَى مَشِيئَةِ اللَّهِ لاَ سَبِيل
إِلَى مَعْرِفَتِهِ. قَال الشِّيرَازِيُّ: إِنْ قَال: لَهُ عَلَيَّ أَلْفٌ
إِنْ شَاءَ اللَّهُ لَمْ يَلْزَمْهُ شَيْءٌ، لأَِنَّ مَا عُلِّقَ عَلَى
مَشِيئَةِ اللَّهِ تَعَالَى لاَ سَبِيل إِلَى مَعْرِفَتِهِ، وَإِنْ قَال:
لَهُ عَلَيَّ أَلْفٌ إِنْ شَاءَ زَيْدٌ أَوْ قَدِمَ فُلاَنٌ لَمْ
يَلْزَمْهُ شَيْءٌ. (2)
وَيَرَى الْمَالِكِيَّةُ - عَدَا ابْنَ الْمَوَّازِ وَابْنَ عَبْدِ
الْحَكَمِ - وَكَذَا الْحَنَابِلَةُ أَنَّ الإِْقْرَارَ يَلْزَمُهُ، نَصَّ
عَلَيْهِ أَحْمَدُ، وَقَال سَحْنُونٌ: أَجْمَعَ أَصْحَابُنَا عَلَى ذَلِكَ.
(3) غَيْرَ أَنَّ الْحَنَابِلَةَ يُفَرِّقُونَ بَيْنَ التَّعْلِيقِ عَلَى
مَشِيئَةِ اللَّهِ، وَبَيْنَ التَّعْلِيقِ عَلَى مَشِيئَةِ الأَْشْخَاصِ.
يَقُول ابْنُ قُدَامَةَ: لأَِنَّهُ أَقَرَّ ثُمَّ عَلَّقَ رَفْعَ
الإِْقْرَارِ عَلَى أَمْرٍ لاَ يُعْلَمُ فَلَمْ يَرْتَفِعْ. وَإِنْ قَال:
لَكَ عَلَيَّ أَلْفٌ إِنْ شِئْتَ، أَوْ إِنْ شَاءَ زَيْدٌ لَمْ يَصِحَّ
الإِْقْرَارُ، وَلأَِنَّهُ عَلَّقَهُ عَلَى شَرْطٍ يُمْكِنُ عِلْمُهُ
فَلَمْ يَصِحَّ.
وَيُفَارِقُ التَّعْلِيقَ عَلَى مَشِيئَةِ اللَّهِ تَعَالَى، لأَِنَّهَا
كَثِيرًا مَا تُذْكَرُ تَبَرُّكًا وَصِلَةً وَتَفْوِيضًا إِلَى اللَّهِ،
لاَ لِلاِشْتِرَاطِ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ
الْحَرَامَ
__________
(1) البدائع 7 / 209، والهداية وتكملة الفتح 6 / 314، والتاج والإكليل 5 /
224، والشرح الكبير وحاشية الدسوقي 3 / 402، ونهاية المحتاج 5 / 16
(2) روضة الطالبين 4 / 397، ط المكتب الإسلامي، والمغني 5 / 417، والمهذب 2
/ 347، ونهاية المحتاج 5 / 101.
(3) التاج والإكليل 5 / 224، والشرح الكبير وحاشية الدسوقي 3 / 402.
(6/65)
إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ} (1)
بِخِلاَفِ مَشِيئَةِ الآْدَمِيِّ، كَمَا أَنَّ مَشِيئَتَهُ تَعَالَى لاَ
تُعْلَمُ إِلاَّ بِوُقُوعِ الأَْمْرِ، فَلاَ يُمْكِنُ وَقْفُ الأَْمْرِ
عَلَى وُجُودِهَا، وَمَشِيئَةُ الآْدَمِيِّ يُمْكِنُ الْعِلْمُ بِهَا
فَيُمْكِنُ جَعْلُهَا شَرْطًا يَتَوَقَّفُ الأَْمْرُ عَلَى وُجُودِهَا،
وَيَتَعَيَّنُ حَمْل الأَْمْرِ هُنَا عَلَى الْمُسْتَقْبَل، فَيَكُونُ
وَعْدًا لاَ إِقْرَارًا. وَقَال الْقَاضِي: لَوْ عَلَّقَ الإِْقْرَارَ
عَلَى مَشِيئَةِ الْمُقَرِّ لَهُ أَوْ شَخْصٍ آخَرَ صَحَّ الإِْقْرَارُ،
لأَِنَّهُ عَقَّبَهُ بِمَا يَرْفَعُهُ، فَصَحَّ الإِْقْرَارُ دُونَ مَا
رَفَعَهُ. (2) أَيْ كَأَنَّهُ أَقَرَّ ثُمَّ رَجَعَ فَلاَ يَصِحُّ
رُجُوعُهُ.
ب - تَعْلِيقُ الإِْقْرَارِ عَلَى شَرْطٍ:
44 - وَضَعَ الْحَنَابِلَةُ قَاعِدَةً عَامَّةً بِأَنَّ كُل إِقْرَارٍ
مُعَلَّقٍ عَلَى شَرْطٍ لَيْسَ بِإِقْرَارٍ، لأَِنَّهُ لَيْسَ بِمُقِرٍّ
فِي الْحَال، وَمَا لاَ يَلْزَمُهُ فِي الْحَال لاَ يَصِيرُ وَاجِبًا
عِنْدَ وُجُودِ الشَّرْطِ، لأَِنَّ الشَّرْطَ لاَ يَقْتَضِي إِيجَابَ
ذَلِكَ. (3)
وَنَصَّ الْحَنَفِيَّةُ عَلَى أَنَّهُ لَوْ أَقَرَّ بِشَيْءٍ عَلَى أَنْ
يَكُونَ لَهُ خِيَارُ الشَّرْطِ، فَإِنَّ الإِْقْرَارَ صَحِيحٌ وَيَبْطُل
الشَّرْطُ، لأَِنَّ شَرْطَ الْخِيَارِ فِي مَعْنَى الرُّجُوعِ،
وَالإِْقْرَارُ فِي حُقُوقِ الْعِبَادِ لاَ يَحْتَمِل الرُّجُوعَ، لأَِنَّ
الإِْقْرَارَ إِخْبَارٌ فَلاَ يَقْبَل الْخِيَارَ، وَهُوَ مَذْهَبُ
الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، لأَِنَّ مَا
يَذْكُرُهُ الْمُقِرُّ بَعْدَ الإِْقْرَارِ يُعْتَبَرُ رَفْعًا لَهُ فَلاَ
يُقْبَل كَالاِسْتِثْنَاءِ (4) .
__________
(1) سورة الفتح / 27.
(2) المغني 5 / 217 - 218.
(3) كشاف القناع 6 / 465، والمغني 5 / 217.
(4) البدائع 7 / 209، وتبيين الحقائق 5 / 12، والهداية والتكملة 6 / 308 -
309، وحاشية ابن عابدين 4 / 455، والتاج والإكليل 5 / 225، وكشاف القناع 6
/ 467.
(6/65)
ج - تَغْيِيرُ وَصْفِ الْمُقَرِّ بِهِ:
45 - إِنْ كَانَ التَّغْيِيرُ مُتَّصِلاً بِاللَّفْظِ كَأَنْ يَقُول:
لِفُلاَنٍ عَلَيَّ أَلْفُ دِرْهَمٍ وَدِيعَةٌ - كَانَ إِقْرَارًا
بِالْوَدِيعَةِ، أَمَّا إِنْ كَانَ مُنْفَصِلاً، بِأَنْ سَكَتَ ثُمَّ قَال:
هِيَ وَدِيعَةٌ فَلاَ يَصِحُّ، وَيَكُونُ إِقْرَارًا بِالدَّيْنِ، لأَِنَّ
الْبَيَانَ هُنَا لاَ يَصِحُّ إِلاَّ بِشَرْطِ الْوَصْل، وَلَوْ قَال:
عَلَيَّ أَلْفُ دِرْهَمٍ وَدِيعَةٌ قَرْضًا أَوْ دَيْنًا، فَهُوَ إِقْرَارٌ
بِالدَّيْنِ، لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ أَمَانَةً فِي الاِبْتِدَاءِ ثُمَّ
يَصِيرَ مَضْمُونًا فِي الاِنْتِهَاءِ، إِذِ الضَّمَانُ قَدْ يَطْرَأُ
عَلَى الأَْمَانَةِ مُتَّصِلاً كَانَ أَوْ مُنْفَصِلاً، لأَِنَّ
الإِْنْسَانَ فِي الإِْقْرَارِ بِالضَّمَانِ غَيْرُ مُتَّهَمٍ. (1) .
د - الاِسْتِثْنَاءُ فِي الإِْقْرَارِ:
46 - إِنْ كَانَ الاِسْتِثْنَاءُ مِنْ جِنْسِ الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ
وَمُتَّصِلاً بِهِ، فَإِنْ كَانَ اسْتِثْنَاءَ الأَْقَل فَلاَ خِلاَفَ فِي
جَوَازِهِ، كَأَنْ يَقُول: عَلَيَّ لِفُلاَنٍ عَشَرَةُ دَرَاهِمَ إِلاَّ
ثَلاَثَةً فَيَلْزَمُهُ سَبْعَةٌ. أَمَّا إِنْ كَانَ اسْتِثْنَاءَ
الأَْكْثَرِ بِأَنْ قَال: عَلَيَّ لِفُلاَنٍ عَشَرَةُ دَرَاهِمَ إِلاَّ
تِسْعَةً فَجَائِزٌ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ،
وَيَلْزَمُهُ دِرْهَمٌ وَهُوَ الصَّحِيحُ، لأَِنَّ الاِسْتِثْنَاءَ
تَكَلُّمٌ بِالْبَاقِي بَعْدَ الثُّنْيَا، وَهَذَا الْمَعْنَى كَمَا
يُوجَدُ فِي اسْتِثْنَاءِ الأَْقَل يُوجَدُ فِي اسْتِثْنَاءِ الأَْكْثَرِ
مِنَ الْقَلِيل، وَإِنْ كَانَ غَيْرَ مُسْتَحْسَنٍ عِنْدَ أَهْل اللُّغَةِ،
وَرُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ لاَ يَصِحُّ وَعَلَيْهِ الْعَشَرَةُ.
(2)
وَإِنْ كَانَ اسْتِثْنَاءَ الْكُل مِنَ الْكُل بِأَنْ يَقُول:
__________
(1) البدائع 7 / 209، ونهاية المحتاج 5 / 76، والإنصاف 12 / 185، وكشاف
القناع 6 / 467.
(2) البدائع 7 / 209، 210.
(6/66)
لِفُلاَنٍ عَلَيَّ عَشَرَةُ دَنَانِيرَ
إِلاَّ عَشَرَةً فَبَاطِلٌ، وَعَلَيْهِ الْعَشَرَةُ كَامِلَةً، لأَِنَّهُ
لَيْسَ اسْتِثْنَاءً، وَإِنَّمَا هُوَ إِبْطَالٌ وَرُجُوعٌ، وَالرُّجُوعُ
عَنِ الإِْقْرَارِ فِي حَقِّ الْعِبَادِ لاَ يَصِحُّ. (1) وَقَال
الشَّافِعِيَّةُ: يَصِحُّ الاِسْتِثْنَاءُ وَهُوَ إِخْرَاجُ مَا لَوْلاَهُ
لَدَخَل، بِنَحْوِ " إِلاَّ "، وَذَلِكَ إِنِ اتَّصَل إِجْمَاعًا،
وَالسُّكُوتُ الْيَسِيرُ غَيْرُ مُضِرٍّ، وَيَضُرُّ كَلاَمٌ أَجْنَبِيٌّ
يَسِيرٌ أَوْ سُكُوتٌ طَوِيلٌ، وَيُشْتَرَطُ أَنْ يَقْصِدَهُ قَبْل فَرَاغِ
الإِْقْرَارِ، وَلِكَوْنِهِ رَفْعًا لِبَعْضِ مَا شَمَلَهُ اللَّفْظُ
احْتَاجَ إِلَى نِيَّةٍ وَلَوْ كَانَ إِخْبَارًا، وَلَمْ يَسْتَغْرِقِ
الْمُسْتَثْنَى الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ، فَإِنِ اسْتَغْرَقَهُ كَخَمْسَةٍ
إِلاَّ خَمْسَةً كَانَ بَاطِلاً بِالإِْجْمَاعِ إِلاَّ مَنْ شَذَّ، لِمَا
فِي ذَلِكَ مِنَ الْمُنَاقَضَةِ الصَّرِيحَةِ. (2)
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: لَوْ قَال: عَلَيَّ أَلْفٌ إِلاَّ سِتَّمِائَةٍ
لَزِمَهُ الأَْلْفُ لأَِنَّهُ اسْتَثْنَى الأَْكْثَرَ، وَلَمْ يَرِدْ
ذَلِكَ فِي لُغَةِ الْعَرَبِ. (3)
هـ - الاِسْتِثْنَاءُ مِنْ خِلاَفِ الْجِنْسِ:
47 - إِنْ كَانَ الاِسْتِثْنَاءُ مِنْ خِلاَفِ الْجِنْسِ - مَا لاَ
يَثْبُتُ دَيْنًا فِي الذِّمَّةِ - فَلاَ يَصِحُّ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ،
وَعَلَيْهِ جَمِيعُ مَا أَقَرَّ بِهِ، فَإِنْ قَال: لَهُ عَلَيَّ عَشَرَةُ
دَرَاهِمَ إِلاَّ ثَوْبًا بَطَل الاِسْتِثْنَاءُ، خِلاَفًا
لِلشَّافِعِيَّةِ. (4)
وَإِنْ كَانَ مِمَّا يَثْبُتُ دَيْنًا فِي الذِّمَّةِ بِأَنْ قَال:
لِفُلاَنٍ عَلَيَّ مِائَةُ دِينَارٍ إِلاَّ عَشَرَةَ دَرَاهِمَ أَوْ إِلاَّ
قَفِيزَ حِنْطَةٍ، صَحَّ عِنْدَ الشَّيْخَيْنِ، وَيُطْرَحُ مِمَّا أَقَرَّ
بِهِ قَدْرُ قِيمَةِ الْمُسْتَثْنَى، لأَِنَّهُ إِنْ لَمْ يُمْكِنْ
تَحْقِيقُ مَعْنَى الْمُجَانَسَةِ فِي
__________
(1) البدائع 7 / 210.
(2) نهاية المحتاج 5 / 104.
(3) كشاف القناع 6 / 468 - 470.
(4) البدائع 7 / 210.
(6/66)
الاِسْمِ أَمْكَنَ تَحْقِيقُهَا فِي
الْوُجُوبِ فِي الذِّمَّةِ، فَالدَّرَاهِمُ وَالْحِنْطَةُ مِنْ حَيْثُ
احْتِمَال الْوُجُوبِ فِي الذِّمَّةِ مِنْ جِنْسِ الدَّنَانِيرِ، وَقَال
مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ وَزُفَرُ: إِنَّ الاِسْتِثْنَاءَ اسْتِخْرَاجُ
بَعْضِ مَا لَوْلاَهُ لَدَخَل تَحْتَ نَصِّ الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ،
وَذَلِكَ لاَ يَتَحَقَّقُ إِلاَّ إِذَا اتَّحَدَ الْجِنْسُ (1) .
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: لاَ يَصِحُّ الاِسْتِثْنَاءُ مِنْ غَيْرِ الْجِنْسِ
وَلاَ مِنْ غَيْرِ النَّوْعِ عَلَى مَا هُوَ الْمَذْهَبُ وَعَلَيْهِ
جَمَاهِيرُ الأَْصْحَابِ (2) .
أَمَّا الشَّافِعِيَّةُ فَقَدْ نَصُّوا عَلَى أَنَّهُ يَصِحُّ
الاِسْتِثْنَاءُ مِنْ خِلاَفِ الْجِنْسِ لِوُرُودِ الْكِتَابِ وَغَيْرِهِ
بِذَلِكَ، يَقُول اللَّهُ سُبْحَانَهُ: {لاَ يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا
إِلاَّ سَلاَمًا} (3) وَيَقُول: {مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلاَّ
اتِّبَاعَ الظَّنِّ} (4) وَقَالُوا: وَيُلْزَمُ الْمُقِرُّ بِالْبَيَانِ،
فَلَوْ كَانَ أَقَرَّ لآِخَرَ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ إِلاَّ ثَوْبًا لَزِمَهُ
الْبَيَانُ بِثَوْبٍ قِيمَتُهُ دُونَ الأَْلْفِ. وَقَالُوا: وَيَصِحُّ
الاِسْتِثْنَاءُ مِنَ الْمُعَيَّنِ كَهَذِهِ الدَّارِ إِلاَّ هَذَا
الْبَيْتَ (5) .
و تَعْقِيبُ الإِْقْرَارِ بِمَا يَرْفَعُهُ:
48 - قَال الْمَالِكِيَّةُ: لَوْ عَقَّبَ الإِْقْرَارَ بِمَا يَرْفَعُهُ
بِأَنْ قَال: لَكَ عَلَيَّ أَلْفٌ مِنْ ثَمَنِ خَمْرٍ أَوْ خِنْزِيرٍ لَمْ
يَلْزَمْهُ شَيْءٌ، إِلاَّ أَنْ يَقُول الطَّالِبُ (الْمُقَرُّ لَهُ) :
هِيَ ثَمَنُ بُرٍّ
__________
(1) البدائع 7 / 211.
(2) الإنصاف12 / 182، وكشاف القناع 6 / 470.
(3) سورة مريم / 62.
(4) سورة النساء / 157.
(5) نهاية المحتاج 5 / 105.
(6/67)
أَوْ مَا يُشْبِهُهُ فَيَلْزَمُهُ مَعَ
يَمِينِ الطَّالِبِ. وَلَوْ قَال: عَلَيَّ أَلْفٌ مِنْ ثَمَنِ كَذَا ثُمَّ
قَال: لَمْ أَقْبِضِ الْمَبِيعَ، قَال ابْنُ الْقَاسِمِ وَسَحْنُونٌ
وَغَيْرُهُمَا: يَلْزَمُهُ الثَّمَنُ وَلاَ يُصَدَّقُ فِي عَدَمِ
الْقَبْضِ. وَقِيل: الْقَوْل قَوْلُهُ. (1)
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: إِذَا وَصَل بِإِقْرَارِهِ مَا يُغَيِّرُهُ أَوْ
يُسْقِطُهُ، كَأَنْ يَقُول: عَلَيَّ أَلْفٌ مِنْ ثَمَنِ خَمْرٍ أَوِ
اسْتَوْفَاهُ الدَّائِنُ أَوْ مِنْ ثَمَنِ مَبِيعٍ فَاسِدٍ لَمْ أَقْبِضْهُ
لَزِمَهُ الأَْلْفُ، لأَِنَّ كُل مَا ذَكَرَهُ بَعْدَ الإِْقْرَارِ
بِالأَْلْفِ يُعْتَبَرُ رَفْعًا لَهُ فَلاَ يُقْبَل، كَاسْتِثْنَاءِ
الْكُل.
وَفِي قَوْلِهِ لَهُ: عَلَيَّ مِنْ ثَمَنِ خَمْرٍ أَوْ خِنْزِيرٍ أَلْفٌ -
لاَ يَجِبُ. (2) وَلَوْ قَال: كَانَ لَهُ عَلَيَّ أَلْفٌ وَقَضَيْتُهُ
إِيَّاهُ، أَوْ أَبْرَأَنِي مِنْهُ، أَوْ قَضَيْتُ مِنْهَا خَمْسَمِائَةٍ،
فَهُوَ مُنْكِرٌ، لأَِنَّهُ قَوْلٌ يُمْكِنُ صِدْقُهُ وَلاَ تَنَاقُضَ
فِيهِ مِنْ جِهَةِ اللَّفْظِ، فَوَجَبَ قَبُول قَوْلِهِ بِيَمِينِهِ وَهُوَ
الْمَذْهَبُ. وَلاَ يَلْزَمُهُ شَيْءٌ كَاسْتِثْنَاءِ الْبَعْضِ
اسْتِثْنَاءً مُتَّصِلاً، بِخِلاَفِ اسْتِثْنَاءِ الْبَعْضِ الْمُنْفَصِل،
لأَِنَّ الْحَقَّ قَدِ اسْتَقَرَّ بِسُكُوتِهِ فَلاَ يَرْفَعُهُ
اسْتِثْنَاءٌ وَلاَ غَيْرُهُ. وَلاَ يَصِحُّ اسْتِثْنَاءُ مَا زَادَ عَلَى
النِّصْفِ، وَيَصِحُّ فِي النِّصْفِ - عَلَى مَا هُوَ الْمَذْهَبُ - فَمَا
دُونَهُ مِنْ غَيْرِ خِلاَفٍ لأَِنَّهُ لُغَةُ الْعَرَبِ. (3)
ز - تَقْيِيدُ الإِْقْرَارِ بِالأَْجَل:
49 - إِذَا أَقَرَّ شَخْصٌ بِدَيْنٍ عَلَيْهِ لآِخَرَ وَقَال: إِنَّهُ
مُؤَجَّلٌ، وَادَّعَى الْمُقَرُّ لَهُ حُلُولَهُ وَلُزُومَهُ، أَيْ
صِدْقَهُ فِي
__________
(1) التاج والإكليل 5 / 226.
(2) اللجنة ترى أن الفرق بين التعبيرين لا يدركه إلا الخواص، وغيرهم لا
يفرق بين التعبيرين، فقولهم الثاني لا يلغي الإقرار ويؤاخذان به.
(3) كشاف القناع 6 / 468 - 470، والإنصاف 12 / 190 - 191.
(6/67)
الدَّيْنِ وَكَذِبَهُ فِي التَّأْجِيل،
فَإِنَّ الدَّيْنَ يَلْزَمُهُ حَالًّا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، وَهُوَ
قَوْلٌ لِلْمَالِكِيَّةِ، لأَِنَّهُ أَقَرَّ عَلَى نَفْسِهِ بِمَالٍ،
وَادَّعَى حَقًّا لِنَفْسِهِ أَنْكَرَهُ الْمُقَرُّ لَهُ، فَالْقَوْل
لِلْمُنْكِرِ بِيَمِينِهِ. (1)
وَالْقَوْل الآْخَرُ لِلْمَالِكِيَّةِ أَنَّ الْمُقِرَّ يَحْلِفُ،
وَيُقْبَل قَوْلُهُ فِي التَّنْجِيمِ وَالتَّأْجِيل، وَقَدِ اخْتُلِفَ فِي
يَمِينِ الْمُقِرِّ، وَهَذَا أَحْوَطُ، وَبِهِ كَانَ يَقْضِي مُتَقَدِّمُو
قُضَاةِ مِصْرَ (2) وَهُوَ مَذْهَبُ كُلٍّ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ
وَالْحَنَابِلَةِ.
ح - الاِسْتِدْرَاكُ فِي الإِْقْرَارِ:
50 - قَال الْحَنَفِيَّةُ: إِنْ كَانَ الاِسْتِدْرَاكُ فِي الْقَدْرِ،
فَهُوَ عَلَى ضَرْبَيْنِ: إِمَّا أَنْ يَكُونَ فِي الْجِنْسِ كَأَنْ
يَقُول: لِفُلاَنٍ عَلَيَّ أَلْفُ دِرْهَمٍ لاَ بَل أَلْفَانِ، فَعَلَيْهِ
أَلْفَانِ وَهُوَ قَوْل الْجُمْهُورِ. وَقِيل: يَكُونُ عَلَيْهِ ثَلاَثَةُ
آلاَفٍ، وَهُوَ قَوْل زُفَرَ وَهُوَ الْقِيَاسُ، وَالأَْوَّل اسْتِحْسَانٌ.
وَجْهُ الاِسْتِحْسَانِ أَنَّ الإِْقْرَارَ إِخْبَارٌ، وَالْمُخْبَرُ
عَنْهُ مَا يَجْرِي الْغَلَطُ فِي قَدْرِهِ أَوْ وَصْفِهِ عَادَةً، فَقُبِل
الاِسْتِدْرَاكُ مَا لَمْ يَكُنْ مُتَّهَمًا فِيهِ. بِخِلاَفِ
الاِسْتِدْرَاكِ فِي خِلاَفِ الْجِنْسِ لأَِنَّ الْغَلَطَ لاَ يَقَعُ فِيهِ
عَادَةً. وَوَجْهُ الْقِيَاسِ أَنَّ قَوْلَهُ: لِفُلاَنٍ عَلَيَّ أَلْفُ
دِرْهَمٍ إِقْرَارٌ بِأَلْفٍ وَهَذَا لاَ رُجُوعَ فِيهِ، وَالاِسْتِدْرَاكُ
صَحِيحٌ، فَأَشْبَهَ الاِسْتِدْرَاكَ فِي خِلاَفِ الْجِنْسِ، فَأَشْبَهَ
مَا لَوْ قَال لاِمْرَأَتِهِ: أَنْتِ طَالِقٌ وَاحِدَةً بَل ثِنْتَيْنِ،
إِذْ يَقَعُ ثَلاَثَ تَطْلِيقَاتٍ.
وَإِنْ كَانَ الاِسْتِدْرَاكُ فِي صِفَةِ الْمُقَرِّ بِهِ، فَعَلَيْهِ
__________
(1) الدر المختار 4 / 453، والهداية مع التكملة 6 / 297، وتبيين الحقائق 5
/ 8.
(2) التاج والإكليل 5 / 227، والشرح الصغير 3 / 533، وحاشية الدسوقي 3 /
404، وروضة الطالبين 4 / 398.
(6/68)
أَرْفَعُ الصِّفَتَيْنِ، لأَِنَّهُ غَيْرُ
مُتَّهَمٍ فِي ذَلِكَ، أَمَّا بِالنِّسْبَةِ لأَِنْقَصِهِمَا فَهُوَ
مُتَّهَمٌ، فَكَانَ مُسْتَدْرِكًا فِي الزِّيَادَةِ رَاجِعًا فِي
النُّقْصَانِ، فَيَصِحُّ اسْتِدْرَاكُهُ وَلاَ يَصِحُّ رُجُوعُهُ، وَإِنْ
أَرْجَعَ الاِسْتِدْرَاكَ إِلَى الْمُقَرِّ لَهُ، بِأَنْ قَال: هَذِهِ
الأَْلْفُ لِفُلاَنٍ بَل لِفُلاَنٍ، وَادَّعَاهَا كُل وَاحِدٍ مِنْهُمَا
كَانَتْ لِمَنْ أَقَرَّ لَهُ أَوَّلاً، لأَِنَّهُ لَمَّا أَقَرَّ لَهُ
بِهَا صَحَّ إِقْرَارُهُ لَهُ، فَصَارَ وَاجِبَ الدَّفْعِ إِلَيْهِ،
فَقَوْلُهُ بَعْدَ ذَلِكَ رُجُوعٌ عَنِ الإِْقْرَارِ الأَْوَّل فَلاَ
يَصِحُّ فِي حَقِّهِ، وَصَحَّ إِقْرَارُهُ بِهَا لِلثَّانِي فِي حَقِّهِ -
أَيِ الثَّانِي - لَكِنْ إِنْ دَفَعَهُ لِلأَْوَّل بِغَيْرِ قَضَاءٍ ضَمِنَ
لِلثَّانِي، لإِِتْلاَفِهَا عَلَيْهِ بِدَفْعِهَا لِلأَْوَّل.
هَذَا بِخِلاَفِ مَا لَوْ قَال: غَصَبْتُ هَذَا الشَّيْءَ مِنْ فُلاَنٍ لاَ
بَل مِنْ فُلاَنٍ، فَإِنَّهُ يَدْفَعُهُ لِلأَْوَّل وَيَضْمَنُ لِلثَّانِي،
سَوَاءٌ دَفَعَهُ لِلأَْوَّل بِقَضَاءٍ أَوْ بِغَيْرِ قَضَاءٍ، لأَِنَّ
الْغَصْبَ سَبَبٌ لِوُجُوبِ الضَّمَانِ، فَكَانَ الإِْقْرَارُ بِهِ
إِقْرَارًا بِوُجُودِ سَبَبِ وُجُوبِ الضَّمَانِ، وَهُوَ رَدُّ الْقِيمَةِ
عِنْدَ الْقُدْرَةِ، وَقِيمَتِهَا عِنْدَ الْعَجْزِ، وَقَدْ عَجَزَ عَنْ
رَدِّهَا إِلَى الْمُقَرِّ لَهُ الثَّانِي، فَيَلْزَمُهُ رَدُّ قِيمَتِهَا.
(1)
عَدَمُ اشْتِرَاطِ الْقَبُول فِي صِحَّةِ الإِْقْرَارِ:
51 - الإِْقْرَارُ لَيْسَ بِعَقْدٍ حَتَّى تَتَكَوَّنَ صِيغَتُهُ مِنْ
إِيجَابٍ وَقَبُولٍ. وَإِنَّمَا هُوَ تَصَرُّفٌ قَوْلِيٌّ وَالْتِزَامٌ
مِنْ جَانِبِ الْمُقِرِّ وَحْدَهُ، فَلَيْسَ الْقَبُول شَرْطًا لِصِحَّةِ
الإِْقْرَارِ، لَكِنَّهُ يَرْتَدُّ بِالرَّدِّ، وَالْمِلْكُ يَثْبُتُ
لِلْمُقَرِّ لَهُ بِلاَ تَصْدِيقٍ وَقَبُولٍ، وَلَكِنْ يَبْطُل بِرَدِّهِ،
فَالإِْقْرَارُ لِلْحَاضِرِ يَلْزَمُ مِنْ جَانِبِ الْمُقِرِّ حَتَّى لاَ
يَصِحَّ إِقْرَارُهُ
__________
(1) البدائع 7 / 212 - 213، والمغني 5 / 172 ط الرياض.
(6/68)
لِغَيْرِهِ بِهِ قَبْل رَدِّهِ، وَلاَ
يَلْزَمُ مِنْ جَانِبِ الْمُقَرِّ لَهُ فَيَصِحُّ رَدُّهُ. أَمَّا
الإِْقْرَارُ لِلْغَائِبِ فَإِنَّهُ وَإِنْ كَانَ صَحِيحًا إِلاَّ أَنَّهُ
لاَ يَلْزَمُ، وَإِنَّمَا يَتَوَقَّفُ لُزُومُهُ عَلَى عَدَمِ الرَّدِّ،
وَلِعَدَمِ لُزُومِهِ لِلْمُقِرِّ صَحَّ إِقْرَارُهُ لِغَيْرِهِ، كَمَا لاَ
يَلْزَمُ الْمُقَرَّ لَهُ فَيَصِحُّ لَهُ رَدُّهُ. (1) وَكُل مَنْ أَقَرَّ
لِرَجُلٍ بِمِلْكٍ فَكَذَّبَهُ بِهِ بَطَل إِقْرَارُهُ، لأَِنَّهُ لاَ
يَثْبُتُ لِلإِْنْسَانِ مِلْكٌ لاَ يَعْتَرِفُ بِهِ، وَالإِْقْرَارُ بِمَا
فِي الذِّمَّةِ لَيْسَ مِنَ التَّبَرُّعَاتِ، وَفِي الْمَال وَجْهَانِ:
يُتْرَكُ فِي يَدِ الْمُقِرِّ لأَِنَّهُ كَانَ مَحْكُومًا لَهُ بِهِ
فَإِذَا بَطَل إِقْرَارُهُ بَقِيَ عَلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ. وَقِيل:
يُؤْخَذُ إِلَى بَيْتِ الْمَال لأَِنَّهُ لَمْ يَثْبُتْ لَهُ مَالِكٌ.
وَقِيل: يُؤْخَذُ فَيُحْفَظُ حَتَّى يَظْهَرَ مَالِكُهُ، لأَِنَّهُ لاَ
يَدَّعِيهِ أَحَدٌ. فَإِنْ عَادَ أَحَدُهُمَا فَكَذَّبَ نَفْسَهُ دُفِعَ
إِلَيْهِ، لأَِنَّهُ يَدَّعِيهِ وَلاَ مُنَازِعَ لَهُ فِيهِ. (2)
الصُّورِيَّةُ فِي الإِْقْرَارِ:
52 - لَمَّا كَانَ الإِْقْرَارُ إِخْبَارًا يَحْتَمِل الصِّدْقَ
وَالْكَذِبَ جَازَ تَخَلُّفُ مَدْلُولِهِ الْوَضْعِيِّ، (3) بِمَعْنَى
أَنَّهُ قَدْ يَكُونُ فِي الْحَقِيقَةِ كَاذِبًا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ
أَثَرُهُ لُزُومًا. فَإِذَا ادَّعَى أَنَّ مُورَثَهُ أَقَرَّ تَلْجِئَةً،
قَال بَعْضُهُمْ: لَهُ تَحْلِيفُ الْمُقَرِّ لَهُ، وَلَوِ ادَّعَى أَنَّهُ
أَقَرَّ كَاذِبًا لاَ يُقْبَل. وَوَجْهُ الْفَرْقِ: أَنَّ فِي
التَّلْجِئَةِ يَدَّعِي الْوَارِثُ عَلَى الْمُقَرِّ لَهُ فِعْلاً لَهُ،
وَهُوَ تَوَاطُؤُهُ مَعَ الْمُقِرِّ فِي السِّرِّ، فَلِذَا يَحْلِفُ
بِخِلاَفِ دَعْوَى الإِْقْرَارِ كَاذِبًا كَمَا لاَ يَخْفَى. (4)
__________
(1) رد المحتار على الدر المختار 4 / 450، والهداية والتكملة 6 / 280.
(2) المغني 5 / 166 - 167، والمهذب 2 / 347، وحاشية الدسوقي 3 / 398.
(3) رد المحتار على الدر المختار 4 / 448.
(4) حاشية ابن عابدين 4 / 458.
(6/69)
وَنَقَل الْمَوَّاقُ عَنْ سَمَاعِ أَشْهَبَ
وَابْنِ نَافِعٍ لَوْ سَأَل شَخْصٌ ابْنَ عَمِّهِ أَنْ يُسْكِنَهُ
مَنْزِلاً فَقَال: هُوَ لِزَوْجَتِي، ثُمَّ قَال لِثَانٍ وَلِثَالِثٍ
كَذَلِكَ، ثُمَّ طَلَبَتْ امْرَأَتُهُ بِذَلِكَ فَقَال: إِنَّمَا قُلْتُهُ
اعْتِذَارًا لِنَمْنَعَهُ، فَلاَ شَيْءَ لَهَا بِذَلِكَ الإِْقْرَارِ. (1)
أَيْ لاَ يُعْتَبَرُ كَلاَمُهُ إِقْرَارًا.
وَيَقُول الشَّيْخُ مَنْصُورُ الْبُهُوتِيُّ الْحَنْبَلِيُّ: إِذَا خَافَ
شَخْصٌ أَنْ يَأْخُذَ آخَرُ مَالَهُ ظُلْمًا جَازَ لَهُ الإِْقْرَارُ -
صُورَةً - بِمَا يَدْفَعُ هَذَا الظُّلْمَ، وَيَحْفَظُ الْمَال
لِصَاحِبِهِ، مِثْل أَنْ يُقِرَّ بِحَاضِرٍ أَنَّهُ ابْنُهُ أَوْ أَخُوهُ
أَوْ أَنَّ لَهُ عَلَيْهِ كَذَا دَيْنًا، وَيَتَأَوَّل فِي إِقْرَارِهِ،
بِأَنْ يَعْنِيَ بِكَوْنِهِ ابْنَهُ صِغَرَهُ، أَوْ بِقَوْلِهِ أَخِي
أُخُوَّةَ الإِْسْلاَمِ. وَالاِحْتِيَاطُ أَنْ يُشْهِدَ عَلَى الْمُقَرِّ
لَهُ أَنَّ هَذَا الإِْقْرَارَ تَلْجِئَةٌ، تَفْسِيرُهُ كَذَا وَكَذَا.
وَعَلَى هَذَا فَالإِْقْرَارُ لاَ يُعْتَبَرُ مَا دَامَ قَدْ ثَبَتَتْ
صُورِيَّتُهُ، وَقَوَاعِدُ الشَّافِعِيَّةِ لاَ تَأْبَى ذَلِكَ. (2)
التَّوْكِيل فِي الإِْقْرَارِ:
53 - الأَْصْل أَنَّ التَّوْكِيل يَجُوزُ فِي كُل مَا يَقْبَل
النِّيَابَةَ، وَمِنْ ذَلِكَ الإِْقْرَارُ، كَمَا هُوَ مَذْهَبُ
الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ وَفِي قَوْلٍ عِنْدَ
الشَّافِعِيَّةِ، إِذِ الإِْخْبَارُ مِنَ الْمُوَكِّل حَقِيقَةً، وَمِنَ
الْوَكِيل حُكْمًا، لأَِنَّ فِعْل الْوَكِيل كَفِعْل الْمُوَكِّل،
فَكَأَنَّ الإِْقْرَارَ صَدَرَ مِمَّنْ عَلَيْهِ الْحَقُّ. (3) وَصَرَّحَ
الشَّافِعِيَّةُ بِأَنَّ إِقْرَارَ الْوَكِيل
__________
(1) التاج والإكليل 5 / 227، وتبصرة الحكام 2 / 40 ط مصطفى محمد التجارية.
(2) كشاف القناع 6 / 455، وتحفة المحتاج 5 / 359 - 360، ومغني المحتاج 2 /
240، والأشباه للسيوطي ص 222 - 223.
(3) الدر المختار 4 / 453، والصاوي على الشرح الصغير 3 / 525، وكشاف القناع
6 / 453، ونهاية المحتاج 5 / 25، 65.
(6/69)
بِالتَّصَرُّفِ إِذَا أَنْكَرَهُ
الْمُوَكِّل لاَ يَنْفُذُ، (1) كَمَا صَرَّحَ الْمَالِكِيَّةُ بِأَنَّ
إِقْرَارَ الْوَكِيل يَلْزَمُ الْمُوَكِّل إِنْ كَانَ مُفَوَّضًا أَوْ
جَعَل لَهُ الإِْقْرَارَ. (2) وَالأَْصَحُّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ: أَنَّ
التَّوْكِيل فِي الإِْقْرَارِ لاَ يَجُوزُ. نَعَمْ يَكُونُ بِالتَّوْكِيل
بِالإِْقْرَارِ مُقِرًّا لِثُبُوتِ الْحَقِّ عَلَيْهِ. (3) وَبِالنِّسْبَةِ
لإِِقْرَارِ الْوَكِيل بِالْخُصُومَةِ فَإِنَّهُ لاَ يُقْبَل إِقْرَارُهُ
بِقَبْضِ الدَّيْنِ إِلاَّ إِذَا كَانَ قَدْ فَوَّضَ فِي ذَلِكَ عِنْدَ
الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ وَابْنِ أَبِي
لَيْلَى، لأَِنَّ الإِْقْرَارَ مَعْنًى يَقْطَعُ الْخُصُومَةَ
وَيُنَافِيهَا فَلاَ يَمْلِكُهُ الْوَكِيل، وَلأَِنَّ الإِْذْنَ فِي
الْخُصُومَةِ لاَ يَقْتَضِي الإِْقْرَارَ، فَإِنْ أَقَرَّ بِشَيْءٍ لَمْ
يَلْزَمِ الْمُوَكِّل مَا أَقَرَّ بِهِ، وَيَكُونُ الْوَكِيل كَشَاهِدٍ.
وَقَال أَبُو حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ: يُقْبَل إِقْرَارُهُ
فِي مَجْلِسِ الْحُكْمِ فِيمَا عَدَا الْحُدُودَ وَالْقِصَاصَ، وَقَال
أَبُو يُوسُفَ: يُقْبَل إِقْرَارُهُ فِي مَجْلِسِ الْحُكْمِ وَغَيْرِهِ،
لأَِنَّ الإِْقْرَارَ أَحَدُ جَوَابَيِ الدَّعْوَى، فَصَحَّ مِنَ الْوَكِيل
بِالْخُصُومَةِ كَمَا يَصِحُّ مِنْهُ الإِْنْكَارُ، (4) لَكِنَّ
الْحَنَفِيَّةَ يَتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّ الْمُوَكِّل إِذَا نَصَّ فِي
عَقْدِ الْوَكَالَةِ عَلَى أَنَّ الْوَكِيل لَيْسَ لَهُ الإِْقْرَارُ، لَمْ
يَكُنْ لَهُ حَقُّ الإِْقْرَارِ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ، فَلَوْ أَقَرَّ
عِنْدَ الْقَاضِي لاَ يَصِحُّ، وَخَرَجَ بِهِ عَنِ الْوَكَالَةِ، كَمَا
نَصُّوا عَلَى أَنَّ التَّوْكِيل بِالإِْقْرَارِ يَصِحُّ، وَلاَ يَصِيرُ
الْمُوَكِّل بِمُجَرَّدِ التَّوْكِيل مُقِرًّا خِلاَفًا لِلشَّافِعِيَّةِ،
وَنَقَل ابْنُ عَابِدِينَ عَنِ الطَّوَاوِيسِيِّ: مَعْنَاهُ أَنْ يُوَكَّل
بِالْخُصُومَةِ وَيَقُول:
__________
(1) شرح روض الطالب من أسنى المطالب 2 / 288.
(2) الصاوي على الشرح الصغير 4 / 525.
(3) نهاية المحتاج5 / 25.
(4) ابن عابدين 4 / 413، وحاشية الدسوقي 3 / 379، والمغني 5 / 99 - 100،
ونهاية المحتاج 5 / 24.
(6/70)
خَاصِمْ، فَإِذَا رَأَيْتَ لُحُوقَ
مَئُونَةٍ أَوْ خَوْفَ عَارٍ عَلَيَّ فَأَقِرَّ بِالْمُدَّعَى يَصِحُّ
إِقْرَارُهُ عَلَى الْمُوَكِّل كَمَا فِي الْبَزَّازِيَّةِ. وَقَال ابْنُ
عَابِدِينَ: وَيَظْهَرُ مِنْهُ وَجْهُ عَدَمِ كَوْنِهِ إِقْرَارًا أَيْ
بِمُجَرَّدِ الْوَكِيل. (1)
أَثَرُ الشُّبْهَةِ فِي الإِْقْرَارِ:
54 - الشُّبْهَةُ لُغَةً: الاِلْتِبَاسُ، وَشَبَّهَ عَلَيْهِ الأَْمْرَ:
خَلَّطَ حَتَّى اشْتَبَهَ لِغَيْرِهِ (2) وَعَرَّفَهَا الْفُقَهَاءُ
بِأَنَّهَا: مَا يُشْبِهُ الثَّابِتَ وَلَيْسَ بِثَابِتٍ (3) فَهِيَ
بِهَذَا تُؤَثِّرُ عَلَى الإِْثْبَاتِ وَمِنْهُ الإِْقْرَارُ. فَلَوِ
احْتَمَل الإِْقْرَارُ اللَّبْسَ أَوِ التَّأْوِيل أَوْ شَابَهُ شَيْءٌ
مِنَ الْغُمُوضِ وَالْخَفَاءِ اعْتُبِرَ ذَلِكَ شُبْهَةً، وَالشَّيْءُ
الْمُقَرُّ بِهِ إِمَّا أَنْ يَكُونَ حَقًّا لِلَّهِ تَعَالَى أَوْ حَقًّا
لِلْعِبَادِ. وَحُقُوقُ الْعِبَادِ تَثْبُتُ مَعَ الشُّبُهَاتِ، بِخِلاَفِ
حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى، فَإِنَّ مِنْهَا مَا يَسْقُطُ بِالشُّبْهَةِ،
كَالزِّنَا وَالسَّرِقَةِ وَشُرْبِ الْخَمْرِ، وَمِنْهَا مَا لاَ يَسْقُطُ
بِالشُّبْهَةِ، كَالزَّكَاةِ وَالْكَفَّارَةِ. عَلَى تَفْصِيلٍ يُبَيَّنُ
فِي مَوْضِعِهِ، (4) وَيُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ (حَقّ، وَشُبْهَة) .
55 - وَجُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ عَلَى عَدَمِ الاِعْتِدَادِ بِإِقْرَارِ
الأَْخْرَسِ بِالإِْشَارَةِ غَيْرِ الْمُفْهِمَةِ، لِمَا فِيهَا مِنَ
الشُّبْهَةِ.
يَقُول ابْنُ قُدَامَةَ: وَأَمَّا الأَْخْرَسُ فَإِنْ لَمْ تُفْهَمْ
إِشَارَتُهُ فَلاَ يُتَصَوَّرُ مِنْهُ إِقْرَارٌ. وَإِنْ فُهِمَتْ
إِشَارَتُهُ، فَقَال الْقَاضِي: عَلَيْهِ الْحَدُّ، وَهُوَ قَوْل
الشَّافِعِيِّ وَابْنِ الْقَاسِمِ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ وَأَبِي ثَوْرٍ
وَابْنِ الْمُنْذِرِ. لأَِنَّ مَنْ
__________
(1) الدر المختار وحاشية ابن عابدين 4 / 413، المغني 5 / 99 - 100، ونهاية
المحتاج وحاشيته 5 / 25.
(2) لسان العرب، والمصباح مادة (شبه) .
(3) البدائع 7 / 36.
(4) المهذب 2 / 344، وانظر مختلف كتب الفقه في باب الحدود.
(6/70)
صَحَّ إِقْرَارُهُ بِغَيْرِ الزِّنَا صَحَّ
إِقْرَارُهُ بِهِ كَالنَّاطِقِ. وَقَال أَصْحَابُ أَبِي حَنِيفَةَ: لاَ
يُحَدُّ، لأَِنَّ الإِْشَارَةَ تَحْتَمِل مَا فُهِمَ مِنْهَا وَغَيْرَهُ،
فَيَكُونُ ذَلِكَ شُبْهَةً فِي دَرْءِ الْحَدِّ، وَهُوَ احْتِمَال كَلاَمِ
الْخِرَقِيِّ (1) .
56 - وَقَدْ سَبَقَ الْكَلاَمُ عَنْ إِقْرَارِ الصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ
وَالسَّكْرَانِ وَالْمُكْرَهِ وَأَثَرِ ذَلِكَ كُلِّهِ فِي الإِْقْرَارِ.
كَمَا أَنَّ تَكْذِيبَ الْمُقَرِّ لَهُ لِلْمُقِرِّ فِيمَا أَقَرَّ بِهِ،
أَوْ ظُهُورَ كَذِبِ الْمُقِرِّ - كَمِنْ يُقِرُّ بِالزِّنَا فَظَهَرَ
مَجْبُوبًا - مَانِعٌ مِنْ إِقَامَةِ الْحَدِّ، لِتَيَقُّنِ كَذِبِ
الإِْقْرَارِ. (2)
وَلَوْ أَقَرَّ بِشَيْءٍ وَكَذَّبَهُ الْمُقَرُّ لَهُ، وَكَانَ أَهْلاً
لِلتَّكْذِيبِ، فَلاَ يَصِحُّ، لأَِنَّهُ مُنْكِرٌ، وَالْقَوْل لَهُ،
كَإِقْرَارِهِ بِدَيْنٍ بِسَبَبِ كَفَالَةٍ (3) . وَيَقُول الشِّيرَازِيُّ:
لَوْ أَقَرَّ لِرَجُلٍ بِمَالٍ فِي يَدِهِ فَكَذَّبَهُ الْمُقَرُّ لَهُ
بَطَل الإِْقْرَارُ، لأَِنَّهُ رَدَّهُ، وَفِي الْمَال وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ يُؤْخَذُ مِنْهُ وَيُحْفَظُ لأَِنَّهُ لاَ
يَدَّعِيهِ، وَالْمُقَرُّ لَهُ لاَ يَدَّعِيهِ، فَوَجَبَ عَلَى الإِْمَامِ
حِفْظُهُ كَالْمَال الضَّائِعِ.
وَالثَّانِي: لاَ يُؤْخَذُ مِنْهُ، لأَِنَّهُ مَحْكُومٌ لَهُ بِمِلْكِهِ،
فَإِذَا رَدَّهُ الْمُقَرُّ لَهُ بَقِيَ فِي مِلْكِهِ. (4)
وَفِي الْمُغْنِي: لَوْ أَقَرَّ أَنَّهُ زَنَى بِامْرَأَةٍ فَكَذَّبَتْهُ
فَعَلَيْهِ الْحَدُّ دُونَهَا، وَبِهِ قَال الشَّافِعِيُّ، لأَِنَّ
اسْتِيفَاءَ ثُبُوتِهِ فِي حَقِّهَا لاَ يُبْطِل إِقْرَارَهُ، كَمَا لَوْ
سَكَتَتْ، وَقَال
__________
(1) المغني 8 / 195 - 196، والهداية مع الفتح 4 / 117، والمبسوط 9 / 98.
(2) البحر الرائق 5 / 7، والمبسوط 9 / 98، والطرق الحكمية ص 83 - 85،
والمهذب 2 / 347.
(3) الدر المختار مع حاشية ابن عابدين 4 / 455.
(4) المهذب 2 / 347، ونهاية المحتاج 5 / 75، وروض الطالب من أسنى المطالب 2
/ 293.
(6/71)
أَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ: لاَ
حَدَّ عَلَيْهِ لأَِنَّا صَدَّقْنَاهَا فِي إِنْكَارِهَا فَصَارَ
مَحْكُومًا بِكَذِبِهِ. (1)
وَيَنُصُّ الْمَالِكِيَّةُ عَلَى أَنَّهُ يَلْزَمُ لإِِبْطَال الإِْقْرَارِ
بِتَكْذِيبِ الْمُقَرِّ لَهُ أَنْ يَسْتَمِرَّ التَّكْذِيبُ، بِحَيْثُ
إِذَا رَجَعَ الْمُقَرُّ لَهُ إِلَى تَصْدِيقِهِ صَحَّ الإِْقْرَارُ
وَلَزِمَ، مَا لَمْ يَرْجِعِ الْمُقِرُّ. (2)
كُل هَذَا مِمَّا يُوجِدُ شُبْهَةً فِي الإِْقْرَارِ. فَوُجُودُ
الشُّبْهَةِ فِيهِ أَوْ وُجُودُ مَا يُعَارِضُهُ أَوْلَى بِالاِعْتِدَادِ
بِهِ مِنَ الإِْقْرَارِ نَفْسِهِ، لأَِنَّ الأَْصْل بَرَاءَةُ الذِّمَّةِ،
وَلاَ يُعْدَل عَنْ هَذَا الأَْصْل إِلاَّ بِدَلِيلٍ ثَابِتٍ يَقِينِيٍّ
لاَ يُوجَدُ مَا يُعَارِضُهُ أَوْ يُوهِنُ مِنْهُ (3) . .
الشُّبْهَةُ بِتَقَادُمِ الإِْقْرَارِ فِي حُقُوقِ اللَّهِ:
57 - جَاءَ فِي الْهِدَايَةِ وَالْفَتْحِ: التَّقَادُمُ لاَ يُبْطِل
الإِْقْرَارَ عِنْدَ مُحَمَّدٍ، كَمَا فِي حَدِّ الزِّنَا الَّذِي لاَ
يُبْطِل التَّقَادُمُ الإِْقْرَارَ بِهِ اتِّفَاقًا. وَفِي نَوَادِرِ ابْنِ
سِمَاعَةَ عَنْ مُحَمَّدٍ قَال: أَنَا أُقِيمُ عَلَيْهِ الْحَدَّ وَإِنْ
جَاءَ بَعْدَ أَرْبَعِينَ عَامًا. وَعِنْدَهُمَا لاَ يُقَامُ الْحَدُّ
عَلَى الشَّارِبِ إِلاَّ إِذَا أَقَرَّ بِهِ عِنْدَ قِيَامِ الرَّائِحَةِ
(4) . فَالتَّقَادُمُ يُؤَثِّرُ عَلَى الإِْقْرَارِ بِالشُّرْبِ
عِنْدَهُمَا فَيَسْقُطُ الْحَدُّ.
وَفِي الْهِدَايَةِ وَالْفَتْحِ وَالْبَحْرِ: التَّقَادُمُ يُؤَثِّرُ عَلَى
الشَّهَادَةِ فِي حُقُوقِ اللَّهِ عَدَا حَدَّ الْقَذْفِ، لِمَا فِيهِ مِنْ
حَقِّ الْعَبْدِ، لِمَا فِيهِ مِنْ رَفْعِ الْعَارِ عَنْهُ، بِخِلاَفِ
__________
(1) المغني 8 / 243.
(2) الشرح الصغير وحاشية الصاوي 3 / 526، وحاشية الدسوقي 3 / 398.
(3) الأشباه والنظائر للسيوطي ص 59، والطرق الحكمة ص 82 - 83.
(4) الهداية والفتح 4 / 179 - 181، والمغني 8 / 309.
(6/71)
الإِْقْرَارِ، فَإِنَّ التَّقَادُمَ لاَ
يُؤَثِّرُ عَلَيْهِ، وَيُحَدُّ بِإِقْرَارِهِ مَعَ التَّقَادُمِ إِلاَّ فِي
حَدِّ الشُّرْبِ فَقَطْ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ، فَإِنَّ
التَّقَادُمَ فِيهِ يُبْطِل الإِْقْرَارَ خِلاَفًا لِمُحَمَّدٍ.
58 - أَمَّا حُقُوقُ الْعِبَادِ فَإِنَّ التَّقَادُمَ لاَ يُؤَثِّرُ
فِيهَا، لاَ فِي الإِْقْرَارِ بِهَا وَلاَ فِي الشَّهَادَةِ عَلَيْهَا. (1)
وَيَقُول ابْنُ قُدَامَةَ: إِنْ أَقَرَّ بِزِنًا قَدِيمٍ وَجَبَ الْحَدُّ،
وَبِهَذَا قَال الْحَنَابِلَةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالأَْوْزَاعِيُّ
وَالنَّوَوِيُّ وَإِسْحَاقُ وَأَبُو ثَوْرٍ؛ لِعُمُومِ الآْيَةِ (2)
وَلأَِنَّهُ حَقٌّ يَثْبُتُ عَلَى الْفَوْرِ فَيَثْبُتُ بِالْبَيِّنَةِ
بَعْدَ تَطَاوُل الزَّمَانِ كَسَائِرِ الْحُقُوقِ. وَنُقِل عَنْ أَبِي
حَنِيفَةَ أَنَّهُ قَال: لاَ أَقْبَل بَيِّنَةً عَلَى زِنًا قَدِيمٍ
وَأَحُدُّهُ بِالإِْقْرَارِ بِهِ، وَأَنَّهُ قَوْل ابْنِ حَامِدٍ،
وَذَكَرَهُ ابْنُ أَبِي مُوسَى مَذْهَبًا لأَِحْمَدَ (3) .
الرُّجُوعُ عَنِ الإِْقْرَارِ:
59 - الرُّجُوعُ قَدْ يَكُونُ صَرِيحًا كَأَنْ يَقُول: رَجَعْتُ عَنْ
إِقْرَارِي، أَوْ كَذَبْتُ فِيهِ، أَوْ دَلاَلَةً كَأَنْ يَهْرُبَ عِنْدَ
إِقَامَةِ الْحَدِّ، إِذِ الْهَرَبُ دَلِيل الرُّجُوعِ، فَإِنْ كَانَ
بِحَقٍّ مِنْ حُقُوقِ اللَّهِ الَّتِي تَسْقُطُ بِالشُّبْهَةِ كَالزِّنَا،
فَإِنَّ جُمْهُورَ الْفُقَهَاءِ: الْحَنَفِيَّةَ وَالْمَشْهُورَ عِنْدِ
الْمَالِكِيَّةِ وَمَذْهَبَ كُلٍّ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ
عَلَى أَنَّ الرُّجُوعَ يُعْتَبَرُ، وَيَسْقُطُ الْحَدُّ عَنْهُ، لأَِنَّهُ
يَحْتَمِل أَنْ يَكُونَ صَادِقًا فِي الرُّجُوعِ وَهُوَ الإِْنْكَارُ،
وَيَحْتَمِل أَنْ يَكُونَ كَاذِبًا فِيهِ، فَإِنْ كَانَ صَادِقًا فِي
الإِْنْكَارِ يَكُونُ كَاذِبًا فِي
__________
(1) الفتح 8 / 163، والبحر الرائق 5 / 21 - 22.
(2) وهي قوله تعالى: (الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة. .
.) سورة النور / 2.
(3) المغني 8 / 207.
(6/72)
الإِْقْرَارِ، وَإِنْ كَانَ كَاذِبًا فِي
الإِْنْكَارِ يَكُونُ صَادِقًا فِي الإِْقْرَارِ، فَيُورِثُ شُبْهَةً فِي
ظُهُورِ الْحَدِّ، وَالْحُدُودُ لاَ تُسْتَوْفَى مَعَ الشُّبُهَاتِ، وَقَدْ
رُوِيَ أَنَّ مَاعِزًا لَمَّا أَقَرَّ بَيْنَ يَدَيْ رَسُول اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالزِّنَا لَقَّنَهُ الرُّجُوعَ (1) . فَلَوْ
لَمْ يَكُنْ مُحْتَمِلاً لِلسُّقُوطِ بِالرُّجُوعِ مَا كَانَ لِلتَّلْقِينِ
مَعْنًى، سَوَاءٌ أَرَجَعَ قَبْل الْقَضَاءِ أَمْ بَعْدَهُ، قَبْل
الإِْمْضَاءِ أَمْ بَعْدَهُ. (2) وَيَسْتَوِي أَنْ يَكُونَ الرُّجُوعُ
بِالْقَوْل أَوْ بِالْفِعْل بِأَنْ يَهْرُبَ عِنْدَ إِقَامَةِ الْحَدِّ
عَلَيْهِ، وَإِنْكَارُ الإِْقْرَارِ رُجُوعٌ، فَلَوْ أَقَرَّ عِنْدَ
الْقَاضِي بِالزِّنَا أَرْبَعَ مَرَّاتٍ، فَأَمَرَ الْقَاضِي بِرَجْمِهِ
فَقَال: مَا أَقْرَرْتُ بِشَيْءٍ - يُدْرَأُ عَنْهُ الْحَدُّ. (3)
وَلأَِنَّ مِنْ شَرْطِ إِقَامِةِ الْحَدِّ بِالإِْقْرَارِ الْبَقَاءَ
عَلَيْهِ إِلَى تَمَامِ الْحَدِّ، فَإِنْ رَجَعَ عَنْ إِقْرَارِهِ أَوْ
هَرَبَ كَفَّ عَنْهُ، وَبِهَذَا قَال عَطَاءٌ وَيَحْيَى بْنُ يَعْمُرَ
وَالزُّهْرِيُّ وَحَمَّادٌ وَمَالِكٌ وَالثَّوْرِيُّ وَالشَّافِعِيُّ
وَإِسْحَاقُ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ (4) . وَقَال الْحَسَنُ
وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَابْنُ أَبِي لَيْلَى: يُقَامُ عَلَيْهِ الْحَدُّ
وَلاَ يُتْرَكُ، لأَِنَّ مَاعِزًا هَرَبَ فَقَتَلُوهُ وَلَمْ يَتْرُكُوهُ،
وَلَوْ قُبِل رُجُوعُهُ لَلَزِمَتْهُمُ الدِّيَةُ، وَلأَِنَّهُ حَقٌّ
وَجَبَ بِإِقْرَارِهِ، فَلَمْ يُقْبَل رُجُوعُهُ كَسَائِرِ الْحُقُوقِ.
وَحُكِيَ عَنِ الأَْوْزَاعِيِّ أَنَّهُ إِنْ رَجَعَ حُدَّ لِلْفِرْيَةِ
عَلَى نَفْسِهِ، وَإِنْ
__________
(1) حديث: " وقد روي أن ماعزا " أخرجه مسلم (3 / 1312 - ط الحلبي) .
(2) البدائع 7 / 61، والشرح الكبير وحاشية الدسوقي 4 / 318 - 319، والمهذب
2 / 346، وشرح روض الطالب 2 / 293، وحاشية قليوبي على منهاج الطالبين 3 /
5، والمغني 5 / 164.
(3) البحر الرائق 5 / 8.
(4) المغني 8 / 197، والبدائع 7 / 61، والبحر الرائق 5 / 8 - 9، والشرح
الكبير وحاشية الدسوقي 4 / 318 - 319، ونهاية المحتاج 7 / 410، وقليوبي
وعميرة 3 / 181 - 182.
(6/72)
رَجَعَ عَنِ السَّرِقَةِ وَالشُّرْبِ
ضُرِبَ دُونَ الْحَدِّ. (1)
وَنَقَل الشِّيرَازِيُّ عَنْ أَبِي ثَوْرٍ أَنَّهُ لاَ يُقْبَل رُجُوعُهُ،
لأَِنَّهُ حَقٌّ ثَبَتَ بِالإِْقْرَارِ فَلَمْ يَسْقُطْ بِالرُّجُوعِ
كَالْقِصَاصِ وَحَدِّ الْقَذْفِ. (2)
وَاسْتَدَل ابْنُ قُدَامَةَ لِلْجُمْهُورِ الْقَائِلِينَ بِاعْتِبَارِ
الرُّجُوعِ بِأَنَّ مَاعِزًا هَرَبَ، فَذُكِرَ ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَال: هَلاَّ تَرَكْتُمُوهُ يَتُوبُ
فَيَتُوبَ اللَّهُ عَلَيْهِ؟ (3) فَفِي هَذَا أَوْضَحُ الدَّلاَئِل عَلَى
أَنَّهُ يُقْبَل رُجُوعُهُ.
وَلأَِنَّ الإِْقْرَارَ إِحْدَى بَيِّنَتَيِ الْحَدِّ، فَيَسْقُطُ
بِالرُّجُوعِ عَنْهُ كَالشُّهُودِ إِذَا رَجَعُوا قَبْل إِقَامَةِ
الْحَدِّ. وَإِنَّمَا لَمْ يَجِبْ ضَمَانُ مَاعِزٍ عَلَى الَّذِينَ
قَتَلُوهُ بَعْدَ هَرَبِهِ، لأَِنَّهُ لَيْسَ بِصَرِيحٍ فِي الرُّجُوعِ.
أَمَّا إِنْ رَجَعَ صَرَاحَةً بِأَنْ قَال: كَذَبْتُ فِي إِقْرَارِي أَوْ
رَجَعْتُ عَنْهُ أَوْ لَمْ أَفْعَل مَا أَقْرَرْتُ بِهِ وَجَبَ تَرْكُهُ،
فَإِنْ قَتَلَهُ قَاتِلٌ بَعْدَ ذَلِكَ وَجَبَ ضَمَانُهُ، لأَِنَّهُ قَدْ
زَال إِقْرَارُهُ بِالرُّجُوعِ عَنْهُ فَصَارَ كَمَنْ لَمْ يُقِرَّ، وَلاَ
قِصَاصَ عَلَى الْقَاتِل لِلاِخْتِلاَفِ فِي صِحَّةِ الرُّجُوعِ فَكَانَ
شُبْهَةً. (4)
وَقَيَّدَ الإِْمَامُ مَالِكٌ فِي الرِّوَايَةِ غَيْرِ الْمَشْهُورَةِ
عَنْهُ قَبُول رُجُوعِ الْمُقِرِّ فِي حُقُوقِ اللَّهِ الَّتِي تَسْقُطُ
بِالشُّبْهَةِ بِأَنْ يَكُونَ الرُّجُوعُ لِوُجُودِ شُبْهَةٍ، أَمَّا لَوْ
رَجَعَ عَنْ إِقْرَارِهِ بِغَيْرِ شُبْهَةٍ فَلاَ يُعْتَدُّ بِرُجُوعِهِ،
فَقَدْ نَصَّ أَشْهَبُ عَلَى أَنَّهُ لاَ يُعْذَرُ إِلاَّ إِذَا رَجَعَ
بِشُبْهَةٍ، وَرُوِيَ
__________
(1) المغني 8 / 197.
(2) المهذب 2 / 246.
(3) حديث رجم ماعز: (هلا تركتموه يتوب. . .) أخرجه أبو داود (4 / 576 - ط
عزت عبيد دعاس) وإسناده حسن.
(4) المغني 8 / 198، والبدائع 7 / 61، والشرح الكبير وحاشية الدسوقي 4 /
318 - 319.
(6/73)
ذَلِكَ عَنْ مَالِكٍ، وَبِهِ قَال ابْنُ
الْمَاجِشُونِ (1) .
وَالشَّافِعِيَّةُ فِي الأَْصَحِّ عِنْدَهُمْ لاَ يَعْتَبِرُونَ إِلاَّ
الرُّجُوعَ الصَّرِيحَ. وَلاَ يَرَوْنَ مِثْل الْهُرُوبِ عِنْدَ تَنْفِيذِ
الْحَدِّ رُجُوعًا، فَلَوْ قَال الْمُقِرُّ: اتْرُكُونِي أَوْ لاَ
تَحُدُّونِي، أَوْ هَرَبَ قَبْل حَدِّهِ أَوْ فِي أَثْنَائِهِ لاَ يَكُونُ
رُجُوعًا فِي الأَْصَحِّ، لأَِنَّهُ لَمْ يُصَرِّحْ بِهِ، وَإِنْ كَانَ
يَجِبُ تَخْلِيَتُهُ حَالاً، فَإِنْ صَرَّحَ فَذَاكَ وَإِلاَّ أُقِيمَ
عَلَيْهِ الْحَدُّ، وَإِنْ لَمْ يُخَل لَمْ يُضْمَنْ، لأَِنَّ النَّبِيَّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يُوجِبْ عَلَيْهِمْ شَيْئًا فِي
خَبَرِ مَاعِزٍ.
60 - أَمَّا مَنْ أَقَرَّ بِحَقٍّ مِنْ حُقُوقِ الْعِبَادِ أَوْ بِحَقٍّ
لِلَّهِ تَعَالَى لاَ يَسْقُطُ بِالشُّبْهَةِ - كَالْقِصَاصِ وَحَدِّ
الْقَذْفِ وَكَالزَّكَاةِ وَالْكَفَّارَاتِ - ثُمَّ رَجَعَ فِي إِقْرَارِهِ
فَإِنَّهُ لاَ يُقْبَل رُجُوعُهُ عَنْهَا مِنْ غَيْرِ خِلاَفٍ، لأَِنَّهُ
حَقٌّ ثَبَتَ لِغَيْرِهِ فَلَمْ يَمْلِكْ إِسْقَاطَهُ بِغَيْرِ رِضَاهُ،
لأَِنَّ حَقَّ الْعَبْدِ بَعْدَ مَا ثَبَتَ لاَ يَحْتَمِل السُّقُوطَ
بِالرُّجُوعِ، وَلأَِنَّ حُقُوقَ الْعِبَادِ مَبْنِيَّةٌ عَلَى
الْمُشَاحَّةِ، وَمَا دَامَ قَدْ ثَبَتَ لَهُ فَلاَ يُمْكِنُ إِسْقَاطُهُ
بِغَيْرِ رِضَاهُ. (2)
وَقَدْ وَضَّحَ الْقَرَافِيُّ الإِْقْرَارَ الَّذِي يُقْبَل الرُّجُوعُ
عَنْهُ وَاَلَّذِي لاَ يُقْبَل الرُّجُوعُ عَنْهُ، فَقَال: الأَْصْل فِي
الإِْقْرَارِ اللُّزُومُ مِنَ الْبَرِّ وَالْفَاجِرِ، لأَِنَّهُ عَلَى
خِلاَفِ الطَّبْعِ. وَضَابِطُ مَا لاَ يَجُوزُ الرُّجُوعُ عَنْهُ، هُوَ مَا
لَيْسَ لَهُ فِيهِ عُذْرٌ عَادِيٌّ، (3) وَضَابِطُ مَا يَجُوزُ الرُّجُوعُ
عَنْهُ - أَنْ يَكُونَ لَهُ فِي الرُّجُوعِ عَنْهُ عُذْرٌ عَادِيٌّ،
فَإِذَا أَقَرَّ الْوَارِثُ لِلْوَرَثَةِ أَنَّ مَا تَرَكَهُ أَبُوهُ
مِيرَاثٌ بَيْنَهُمْ عَلَى مَا
__________
(1) الشرح الكبير مع حاشية الدسوقي 4 / 318 - 319.
(2) نهاية المحتاج 4 / 410 - 411، وقليوبي مع شرح المحلي 3 / 181 - 182.
(3) البدائع 7 / 61، 232، والبحر الرائق 5 / 8، والمهذب 2 / 346، والمغني 5
/ 164، 8 / 197.
(6/73)
عُهِدَ فِي الشَّرِيعَةِ، ثُمَّ جَاءَ
شُهُودٌ أَخْبَرُوهُ أَنَّ أَبَاهُ أَشْهَدَهُمْ أَنَّهُ تَصَدَّقَ
عَلَيْهِ فِي صِغَرِهِ بِهَذِهِ الدَّارِ وَحَازَهَا لَهُ، فَإِنَّهُ إِذَا
رَجَعَ عَنْ إِقْرَارِهِ مُعْتَذِرًا بِإِخْبَارِ الْبَيِّنَةِ لَهُ،
وَأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ عَالِمًا بِذَلِكَ، فَإِنَّهُ تُسْمَعُ دَعْوَاهُ
وَعُذْرُهُ، وَيُقِيمُ بَيِّنَتَهُ، وَلاَ يَكُونُ إِقْرَارُهُ السَّابِقُ
مُكَذِّبًا لِلْبَيِّنَةِ وَقَادِحًا فِيهَا، فَيُقْبَل الرُّجُوعُ فِي
الإِْقْرَارِ.
وَإِذَا قَال: لَهُ عَلَيَّ مِائَةُ دِرْهَمٍ إِنْ حَلَفَ - أَوْ مَعَ
يَمِينِهِ - فَحَلَفَ الْمُقَرُّ لَهُ، فَرَجَعَ الْمُقِرُّ وَقَال: مَا
ظَنَنْتُ أَنَّهُ يَحْلِفُ، لاَ يَلْزَمُ الْمُقِرَّ شَيْءٌ، لأَِنَّ
الْعَادَةَ جَرَتْ بِأَنَّ هَذَا الاِشْتِرَاطَ يَقْضِي عَدَمَ اعْتِقَادِ
لُزُومِ مَا أَقَرَّ بِهِ، وَالْعَادَةُ جَرَتْ عَلَى أَنَّ هَذَا لَيْسَ
بِإِقْرَارٍ. (1) وَيَقُول ابْنُ جُزَيٍّ: مَنْ أَقَرَّ بِحَقٍّ
لِمَخْلُوقٍ لَمْ يَنْفَعْهُ الرُّجُوعُ، وَإِنْ أَقَرَّ بِحَقٍّ لِلَّهِ
تَعَالَى كَالزِّنَا وَشُرْبِ الْخَمْرِ فَإِنْ رَجَعَ إِلَى شُبْهَةٍ
قُبِل مِنْهُ، وَإِنْ رَجَعَ إِلَى غَيْرِ شُبْهَةٍ فَفِيهِ قَوْلاَنِ:
قَوْلٌ يُقْبَل مِنْهُ وِفَاقًا لأَِبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ.
وَقِيل: لاَ يُقْبَل مِنْهُ وِفَاقًا لِلْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ (2) .
هَل الإِْقْرَارُ يَصْلُحُ سَبَبًا لِلْمِلْكِ؟
61 - نَصَّ الْحَنَفِيَّةُ: عَلَى أَنَّهُ لَوْ أَقَرَّ لِغَيْرِهِ
بِمَالٍ، وَالْمُقَرُّ لَهُ يَعْلَمُ أَنَّهُ كَاذِبٌ فِي إِقْرَارِهِ، لاَ
يَحِل لَهُ أَخْذُهُ عَنْ كَرْهٍ مِنْهُ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ
تَعَالَى، إِلاَّ أَنْ يُسَلِّمَهُ بِطِيبٍ مِنْ نَفْسِهِ، فَيَكُونُ
تَمْلِيكًا مُبْتَدَأً عَلَى سَبِيل الْهِبَةِ، وَنَقَل ابْنُ عَابِدِينَ
عَنِ ابْنِ الْفَضْل: أَنَّ الإِْقْرَارَ لاَ يَصْلُحُ سَبَبًا
لِلتَّمْلِيكِ، وَفِي الْهِدَايَةِ وَشُرُوحِهَا: وَالْمُقَرُّ لَهُ إِذَا
صَدَّقَهُ ثُمَّ رَدَّهُ لاَ يَصِحُّ رَدُّهُ.
__________
(1) الفروق 4 / 38، ومواهب الجليل للحطاب 5 / 223.
(2) القوانين الفقهية ص 208.
(6/74)
وَحُكْمُهُ لُزُومُ مَا أَقَرَّ بِهِ عَلَى
الْمُقِرِّ، وَعَمَلُهُ إِظْهَارُ الْمُخْبَرِ بِهِ لِغَيْرِهِ لاَ
التَّمْلِيكُ بِهِ ابْتِدَاءً، وَيَدُل عَلَيْهِ مَسَائِل:
أ - أَنَّ الرَّجُل إِذَا أَقَرَّ بِعَيْنٍ لاَ يَمْلِكُهَا يَصِحُّ
إِقْرَارُهُ، حَتَّى لَوْ مَلَكَهَا الْمُقِرُّ يَوْمًا مِنَ الدَّهْرِ
يُؤْمَرُ بِتَسْلِيمِهَا إِلَى الْمُقَرِّ لَهُ، وَلَوْ كَانَ الإِْقْرَارُ
تَمْلِيكًا مُبْتَدَأً لَمَا صَحَّ ذَلِكَ، لأَِنَّهُ لاَ يَصِحُّ
تَمْلِيكُ مَا لَيْسَ بِمَمْلُوكٍ لَهُ، وَصَرَّحَ الشَّافِعِيَّةُ
بِمُوَافَقَةِ الْحَنَفِيَّةِ فِي صِحَّةِ الإِْقْرَارِ، لَكِنْ لَمْ
نَجِدْ فِي كَلاَمِهِمْ أَنَّ الْمُقِرَّ إِذَا مَلَكَ الْعَيْنَ يُؤْمَرُ
بِتَسْلِيمِهَا لِلْمُقَرِّ لَهُ، وَكَذَلِكَ لَمْ نَجِدْ مِنَ
الْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ ذِكْرًا لِهَذِهِ الْمَسْأَلَةِ.
ب - الإِْقْرَارُ بِالْخَمْرِ لِلْمُسْلِمِ يَصِحُّ حَتَّى يُؤْمَرَ
بِالتَّسْلِيمِ إِلَيْهِ، وَلَوْ كَانَ تَمْلِيكًا مُبْتَدَأً لَمْ
يَصِحَّ، لَكِنْ ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى عَدَمِ
صِحَّةِ الإِْقْرَارِ بِالْخَمْرِ، وَفَرَّقَ الشَّافِعِيَّةُ بَيْنَ
الْخَمْرِ إِذَا كَانَ مُحْتَرَمًا أَوْ غَيْرَ مُحْتَرَمٍ، وَصَحَّحُوا
الإِْقْرَارَ بِالْخَمْرِ الْمُحْتَرَمِ.
ج - الْمَرِيضُ مَرَضَ الْمَوْتِ الَّذِي لاَ دَيْنَ عَلَيْهِ إِذَا
أَقَرَّ بِجَمِيعِ مَالِهِ لأَِجْنَبِيٍّ صَحَّ إِقْرَارُهُ، وَلاَ
يَتَوَقَّفُ عَلَى إِجَازَةِ الْوَرَثَةِ، وَلَوْ كَانَ تَمْلِيكًا
مُبْتَدَأً لَمْ يَنْفُذْ إِلاَّ بِقَدْرِ الثُّلُثِ عِنْدَ عَدَمِ
إِجَازَتِهِمْ، وَبِقَوْلِهِمْ مَال جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ، وَعِنْدَ
الْحَنَابِلَةِ قَوْلاَنِ آخَرَانِ، قِيل: لاَ يَصِحُّ مُطْلَقًا، وَقِيل:
لاَ يَصِحُّ إِلاَّ فِي الثُّلُثِ.
د - الْعَبْدُ الْمَأْذُونُ إِذَا أَقَرَّ لِرَجُلٍ بِعَيْنٍ فِي يَدِهِ
صَحَّ إِقْرَارُهُ، وَلَوْ كَانَ الإِْقْرَارُ سَبَبًا لِلْمِلْكِ
ابْتِدَاءً كَانَ تَبَرُّعًا مِنَ الْعَبْدِ، وَهُوَ لاَ يَجُوزُ فِي
الْكَثِيرِ. (1) وَمِثْلُهُ عِنْدَ الْجُمْهُورِ إِلاَّ أَنَّهُمْ لَمْ
يُفَرِّقُوا بَيْنَ الْقَلِيل وَالْكَثِيرِ.
__________
(1) الهداية والفتح والعناية 6 / 280 - 281، والدسوقي على الشرح الكبير 3 /
397 - 403، ومغني المحتاج 2 / 239 - 246 ونهاية المحتاج 5 / 75، والمغني 5
/ 187، 299، 342.
(6/74)
الإِْقْرَارُ بِالنَّسَبِ:
62 - إِذَا أَقَرَّ أَحَدُ الْوَرَثَةِ بِوَارِثٍ ثَالِثٍ مُشَارِكٍ
لَهُمَا فِي الْمِيرَاثِ لَمْ يَثْبُتِ النَّسَبُ بِالإِْجْمَاعِ، لأَِنَّ
النَّسَبَ لاَ يَتَبَعَّضُ فَلاَ يُمْكِنُ إِثْبَاتُهُ فِي حَقِّ
الْمُقِرِّ دُونَ الْمُنْكِرِ، وَلاَ يُمْكِنُ إِثْبَاتُهُ فِي حَقِّهِمَا،
لأَِنَّ أَحَدَهُمَا مُنْكِرٌ وَلَمْ تُوجَدْ شَهَادَةٌ يَثْبُتُ بِهَا
النَّسَبُ. وَلَكِنَّهُ يُشَارِكُ الْمُقِرَّ فِي الْمِيرَاثِ فِي قَوْل
أَكْثَرِ أَهْل الْعِلْمِ، لأَِنَّهُ أَقَرَّ بِسَبَبِ مَالٍ لَمْ يَحْكُمْ
بِبُطْلاَنِهِ فَلَزِمَهُ الْمَال، كَمَا لَوْ أَقَرَّ بِبَيْعٍ أَوْ
بِدَيْنٍ فَأَنْكَرَ الآْخَرُ. وَيَجِبُ لَهُ فَضْل مَا فِي يَدِ
الْمُقِرِّ مِنْ مِيرَاثِهِ، وَبِهَذَا قَال ابْنُ أَبِي لَيْلَى،
وَمَالِكٌ، وَالثَّوْرِيُّ، وَالْحَسَنُ بْنُ صَالِحٍ، وَشَرِيكٌ،
وَيَحْيَى بْنُ آدَمَ وَإِسْحَاقُ وَأَبُو عُبَيْدٍ وَأَبُو ثَوْرٍ.
وَتُقْسَمُ حِصَّةُ الْمُقِرِّ أَثْلاَثًا فَلاَ يَسْتَحِقُّ الْمُقَرُّ
لَهُ مِمَّا فِي يَدِ الْمُقِرِّ إِلاَّ الثُّلُثَ (وَهُوَ سُدُسُ جَمِيعِ
الْمَال) كَمَا لَوْ ثَبَتَ نَسَبُهُ بِبَيِّنَةٍ، لأَِنَّهُ إِقْرَارٌ
بِحَقٍّ يَتَعَلَّقُ بِحِصَّتِهِ وَحِصَّةِ أَخِيهِ، فَلاَ يَلْزَمُهُ
أَكْثَرُ مِمَّا يَخُصُّهُ، كَالإِْقْرَارِ بِالْوَصِيَّةِ، وَإِقْرَارِ
أَحَدِ الشَّرِيكَيْنِ عَلَى مَال الشَّرِكَةِ، وَقَال أَبُو حَنِيفَةَ:
إِذَا كَانَ اثْنَانِ فَأَقَرَّ أَحَدُهُمَا بِأَخٍ لَزِمَهُ دَفْعُ نِصْفِ
مَا فِي يَدِهِ، وَإِنْ أَقَرَّ بِأُخْتٍ لَزِمَهُ ثُلُثُ مَا فِي يَدِهِ،
لأَِنَّهُ أَخَذَ مَا لاَ يَسْتَحِقُّ مِنَ التَّرِكَةِ، فَصَارَ
كَالْغَاصِبِ، فَيَكُونُ الْبَاقِي بَيْنَهُمَا، وَلأَِنَّ الْمِيرَاثَ
يَتَعَلَّقُ بِبَعْضِ التَّرِكَةِ كَمَا يَتَعَلَّقُ بِجَمِيعِهَا، فَإِذَا
مَلَكَ بَعْضَهَا أَوْ غَصَبَ تَعَلَّقَ الْحَقُّ بِبَاقِيهَا، وَاَلَّذِي
فِي يَدِ الْمُنْكِرِ كَالْمَغْصُوبِ فَيَقْتَسِمَانِ الْبَاقِيَ
بِالسَّوِيَّةِ، كَمَا لَوْ غَصَبَهُ أَجْنَبِيٌّ.
وَقَال الشَّافِعِيُّ: لاَ يُشَارِكُ الْمُقِرُّ فِي الْمِيرَاثِ (قَضَاءً)
، وَحُكِيَ ذَلِكَ عَنِ ابْنِ سِيرِينَ، وَقَال إِبْرَاهِيمُ: لَيْسَ
بِشَيْءٍ حَتَّى يُقِرُّوا جَمِيعًا، لأَِنَّهُ لَمْ يَثْبُتْ نَسَبُهُ
فَلاَ يَرِثُ، كَمَا لَوْ أَقَرَّ بِنَسَبِ مَعْرُوفِ
(6/75)
النَّسَبِ (1) . وَلأَِصْحَابِ
الشَّافِعِيِّ فِيمَا إِذَا كَانَ الْمُقِرُّ صَادِقًا فِيمَا بَيْنَهُ
وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى. هَل يَلْزَمُهُ أَنْ يَدْفَعَ إِلَى الْمُقَرِّ
لَهُ نَصِيبَهُ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: يَلْزَمُهُ (دِيَانَةً)
وَهُوَ الأَْصَحُّ، وَهَل يَلْزَمُهُ أَنْ يَدْفَعَ إِلَى الْمُقَرِّ لَهُ
نِصْفَ مَا فِي يَدِهِ أَوْ ثُلُثَهُ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ. (2)
وَإِنْ أَقَرَّ جَمِيعُ الْوَرَثَةِ بِنَسَبِ مَنْ يُشَارِكُهُمْ فِي
الْمِيرَاثِ ثَبَتَ نَسَبُهُ، سَوَاءٌ أَكَانَ الْوَرَثَةُ وَاحِدًا أَمْ
جَمَاعَةً، ذُكُورًا أَمْ إِنَاثًا، وَبِهَذَا قَال الشَّافِعِيُّ وَأَبُو
يُوسُفَ وَحَكَاهُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ، لأَِنَّ الْوَارِثَ يَقُومُ
مُقَامَ الْمَيِّتِ فِي مِيرَاثِهِ وَدُيُونِهِ. . . وَكَذَلِكَ فِي
النَّسَبِ، وَقَدْ رَوَتِ السَّيِّدَةُ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا
أَنَّ سَعْدَ بْنَ أَبِي وَقَّاصٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ اخْتَصَمَ هُوَ
وَعَبْدُ بْنُ زَمْعَةَ فِي ابْنِ أَمَةِ زَمْعَةَ، فَقَال سَعْدٌ:
أَوْصَانِي أَخِي عُتْبَةُ إِذَا قَدِمْتُ مَكَّةَ أَنْ أَنْظُرَ إِلَى
ابْنِ أَمَةِ زَمْعَةَ وَأَقْبِضَهُ فَإِنَّهُ ابْنُهُ، فَقَال عَبْدُ بْنُ
زَمْعَةَ:
هُوَ أَخِي وَابْنُ وَلِيدَةِ أَبِي، وُلِدَ عَلَى فِرَاشِهِ فَقَال رَسُول
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: هُوَ لَكَ يَا عَبْدُ بْنَ
زَمْعَةَ (3) وَلأَِنَّهُ حَقٌّ يَثْبُتُ بِالإِْقْرَارِ فَلَمْ يُعْتَبَرْ
فِيهِ الْعَدَدُ، وَلأَِنَّهُ قَوْلٌ لاَ تُعْتَبَرُ فِيهِ الْعَدَالَةُ
فَلَمْ يُعْتَبَرِ الْعَدَدُ فِيهِ، وَالْمَشْهُورُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ
أَنَّهُ لاَ يَثْبُتُ إِلاَّ بِإِقْرَارِ رَجُلَيْنِ أَوْ رَجُلٍ
وَامْرَأَتَيْنِ، وَقَال مَالِكٌ: لاَ يَثْبُتُ إِلاَّ بِإِقْرَارِ
اثْنَيْنِ،
__________
(1) المغني 5 / 197 - 199، وحاشية ابن عابدين 4 / 466، والهداية والفتح
والعناية 6 / 13 - 19، والدسوقي على الشرح الكبير 3 / 415، والشرح الصغير 3
/ 540 - 542، والمهذب 3 / 352 - 353، ونهاية المحتاج 5 / 106 - 115، وكشاف
القناع 6 / 460 - 464، والإنصاف 12 / 148 - 150.
(2) المغني 5 / 199، ونهاية المحتاج 5 / 114.
(3) حديث عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " هو لك يا عبد زمعة "
أخرجه البخاري (12 / 127 - الفتح) .
(6/75)
لأَِنَّهُ يَحْمِل النَّسَبَ عَلَى
غَيْرِهِ فَاعْتُبِرَ فِيهِ الْعَدَدُ كَالشَّهَادَةِ (1) .
شُرُوطُ الإِْقْرَارِ بِالنَّسَبِ:
63 - يُشْتَرَطُ لِصِحَّةِ الإِْقْرَارِ بِالنَّسَبِ عَلَى الْمُقِرِّ
نَفْسِهِ:
(1) أَنْ يَكُونَ الْمُقَرُّ بِهِ مَجْهُول النَّسَبِ.
(2) أَلاَّ يُنَازِعَهُ فِيهِ مُنَازِعٌ، لأَِنَّهُ إِنْ نَازَعَهُ فِيهِ
غَيْرُهُ تَعَارَضَا، فَلَمْ يَكُنْ إِلْحَاقُهُ بِأَحَدِهِمَا أَوْلَى
مِنَ الآْخَرِ.
(3) وَأَنْ يُمْكِنَ صِدْقُهُ بِأَنْ يُحْتَمَل أَنْ يُولَدَ مِثْلُهُ
لِمِثْلِهِ.
(4) أَنْ يَكُونَ مِمَّنْ لاَ قَوْل لَهُ كَالصَّغِيرِ وَالْمَجْنُونِ،
أَوْ يُصَدِّقَ الْمُقِرَّ إِنْ كَانَ مِنْ أَهْل التَّصْدِيقِ. فَإِنْ
كَبِرَ الصَّغِيرُ وَعَقَل الْمَجْنُونُ فَأَنْكَرَ لَمْ يُسْمَعْ
إِنْكَارُهُ، لأَِنَّ نَسَبَهُ قَدْ ثَبَتَ فَلاَ يَسْقُطُ، وَلأَِنَّ
الأَْبَ لَوْ عَادَ فَجَحَدَ النَّسَبَ لَمْ يُقْبَل مِنْهُ. (2)
64 - وَإِنْ كَانَ الإِْقْرَارُ عَلَيْهِ وَعَلَى غَيْرِهِ كَإِقْرَارٍ
بِأَخٍ اعْتُبِرَ فِيهِ الشُّرُوطُ الأَْرْبَعَةُ السَّابِقَةُ، وَشَرْطٌ
خَامِسٌ، وَهُوَ كَوْنُ الْمُقِرِّ جَمِيعَ الْوَرَثَةِ. فَإِنْ كَانَ
الْوَارِثُ بِنْتًا أَوْ أُخْتًا أَوْ أُمًّا أَوْ ذَا فَرْضٍ يَرِثُ
جَمِيعَ الْمَال بِالْفَرْضِ وَالرَّدِّ، ثَبَتَ النَّسَبُ بِقَوْلِهِ
عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ الْقَائِلِينَ بِالرَّدِّ، (3)
وَعِنْدَ مَنْ لاَ يَرَى الرَّدَّ
__________
(1) المغني 5 / 199 - 200.
(2) لمغني 5 5 ? / 199 - 200، وابن عابدين 4 / 465، والهداية والفتح
والعناية 6 / 13، والشرح الصغير 3 / 540، ومواهب الجليل والتاج والإكليل 5
/ 238، والمهذب 2 / 352، ونهاية المحتاج 5 / 106 - 109.
(3) الهداية والفتح والعناية 6 / 14 - 15، وحاشية ابن عابدين 4 / 465،
والمغني 5 / 200.
(6/76)
كَالشَّافِعِيِّ لاَ يَثْبُتُ بِقَوْلِهِ
النَّسَبُ، لأَِنَّهُ لاَ يَرَى الرَّدَّ وَيُجْعَل الْبَاقِي لِبَيْتِ
الْمَال، وَلَهُمْ فِيمَا إِذَا وَافَقَهُ الإِْمَامُ فِي الإِْقْرَارِ
وَجْهَانِ، يَقُول الشِّيرَازِيُّ: وَإِنْ مَاتَ وَخَلَّفَ بِنْتًا
فَأَقَرَّتْ بِنَسَبِ أَخٍ لَمْ يَثْبُتِ النَّسَبُ، لأَِنَّهَا لاَ تَرِثُ
جَمِيعَ الْمَال. فَإِنْ أَقَرَّ مَعَهَا الإِْمَامُ فَفِيهِ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَثْبُتَ، لأَِنَّ الإِْمَامَ نَافِذُ الإِْقْرَارِ فِي
مَال بَيْتِ الْمَال.
وَالثَّانِي: أَنَّهُ لاَ يَثْبُتُ لأَِنَّهُ لاَ يَمْلِكُ الْمَال
بِالإِْرْثِ، وَإِنَّمَا يَمْلِكُهُ الْمُسْلِمُونَ وَهُمْ لاَ
يَتَبَيَّنُونَ، فَلاَ يَثْبُتُ النَّسَبُ. (1) وَيَنُصُّ الْمَالِكِيَّةُ
عَلَى أَنَّ مَنْ أَقَرَّ بِأَخٍ وَعَمٍّ لَمْ يَرِثْهُ إِنْ وُجِدَ
وَارِثٌ، وَإِلاَّ يَكُنْ لَهُ وَارِثٌ أَصْلاً أَوْ وَارِثٌ غَيْرُ
حَائِزٍ فَخِلاَفٌ، وَالرَّاجِحُ: إِرْثُ الْمُقَرِّ بِهِ مِنَ الْمُقِرِّ
جَمِيعُ الْمَال، سَوَاءٌ أَكَانَ الإِْقْرَارُ فِي حَال الصِّحَّةِ أَمْ
فِي حَالَةِ الْمَرَضِ، وَفِي قَوْلٍ: يَحْلِفُ الْمُقِرُّ بِهِ أَنَّ
الإِْقْرَارَ حَقٌّ. (2)
65 - وَإِنْ كَانَ أَحَدُ الْوَارِثِينَ غَيْرَ مُكَلَّفٍ كَالصَّبِيِّ
وَالْمَجْنُونِ فَأَقَرَّ الْمُكَلَّفُ بِأَخٍ ثَالِثٍ لَمْ يَثْبُتِ
النَّسَبُ بِإِقْرَارِهِ، لأَِنَّهُ لاَ يَحُوزُ الْمِيرَاثَ كُلَّهُ،
فَإِنْ بَلَغَ الصَّبِيُّ أَوْ أَفَاقَ الْمَجْنُونُ فَأَقَرَّا بِهِ
أَيْضًا ثَبَتَ نَسَبُهُ لاِتِّفَاقِ جَمِيعِ الْوَرَثَةِ عَلَيْهِ، وَإِنْ
مَاتَا قَبْل أَنْ يَصِيرَا مُكَلَّفَيْنِ ثَبَتَ نَسَبُ الْمُقِرِّ بِهِ
لأَِنَّهُ وُجِدَ الإِْقْرَارُ مِنْ جَمِيعِ الْوَرَثَةِ، فَإِنَّ
الْمُقِرَّ صَارَ جَمِيعَ الْوَرَثَةِ، هَذَا فِيمَا إِذَا كَانَ
الْمُقِرُّ يَحُوزُ جَمِيعَ الْمِيرَاثِ بَعْدَ مَنْ مَاتَ، فَإِنْ كَانَ
لِلْمَيِّتِ وَارِثٌ سِوَاهُ أَوْ مَنْ يُشَارِكُهُ فِي الْمِيرَاثِ لَمْ
يَثْبُتِ النَّسَبُ، وَيَقُومُ وَارِثُ الْمَيِّتِ مَقَامَهُ، فَإِذَا
وَافَقَ الْمُقِرَّ
__________
(1) المهذب 2 / 352.
(2) حاشية الدسوقي 3 / 416، والشرح الصغير 3 / 540.
(6/76)
فِي إِقْرَارِهِ ثَبَتَ النَّسَبُ، وَإِنْ
خَالَفَهُ لَمْ يَثْبُتْ. (1) وَإِذَا أَقَرَّ الْوَارِثُ بِمَنْ
يَحْجُبُهُ كَأَخٍ أَقَرَّ بِابْنٍ لِلْمَيِّتِ ثَبَتَ نَسَبُ الْمُقَرِّ
بِهِ وَوَرِثَ وَسَقَطَ الْمُقِرُّ. . . وَهَذَا اخْتِيَارُ ابْنِ حَامِدٍ
وَالْقَاضِي وَقَوْل أَبِي الْعَبَّاسِ بْنِ سُرَيْجٍ. لأَِنَّهُ ابْنٌ
ثَابِتُ النَّسَبِ لَمْ يُوجَدْ فِي حَقِّهِ أَحَدُ مَوَانِعِ الإِْرْثِ
فَيَرِثُهُ، كَمَا لَوْ ثَبَتَ نَسَبُهُ بِبَيِّنَةٍ، وَلأَِنَّ ثُبُوتَ
النَّسَبِ سَبَبٌ لِلْمِيرَاثِ فَلاَ يَجُوزُ قَطْعُ حُكْمِهِ عَنْهُ،
وَلاَ يُورَثُ مَحْجُوبٌ بِهِ مَعَ وُجُودِهِ وَسَلاَمَتِهِ مِنَ
الْمَوَانِعِ. (2)
وَقَال أَكْثَرُ الشَّافِعِيَّةِ: يَثْبُتُ نَسَبُ الْمُقَرِّ بِهِ وَلاَ
يَرِثُ، لأَِنَّ تَوْرِيثَهُ يُفْضِي إِلَى إِسْقَاطِ تَوْرِيثِ
الْمُقِرِّ، فَيُبْطِل إِقْرَارُهُ، فَأَثْبَتْنَا النَّسَبَ دُونَ
الإِْقْرَارِ. يَقُول الشِّيرَازِيُّ: إِنْ كَانَ الْمُقَرُّ بِهِ يَحْجُبُ
الْمُقِرَّ، مِثْل أَنْ يَمُوتَ الرَّجُل وَيُخَلِّفَ أَخًا فَيُقِرَّ
الأَْخُ بِابْنٍ لِلْمَيِّتِ يَثْبُتُ لَهُ النَّسَبُ وَلاَ يَرِثُ،
لأَِنَّا لَوْ أَثْبَتْنَا لَهُ الإِْرْثَ أَدَّى ذَلِكَ إِلَى إِسْقَاطِ
إِرْثِهِ، لأَِنَّ تَوْرِيثَهُ يُخْرِجُ الْمُقِرَّ عَنْ أَنْ يَكُونَ
وَارِثًا فَيَبْطُل إِقْرَارُهُ، لأَِنَّهُ إِقْرَارٌ مِنْ غَيْرِ وَارِثٍ.
(3)
66 - وَإِنْ أَقَرَّ رَجُلاَنِ عَدْلاَنِ ابْنَانِ أَوْ أَخَوَانِ أَوْ
عَمَّانِ بِثَالِثٍ ثَبَتَ النَّسَبُ لِلْمُقَرِّ بِهِ، فَإِنْ كَانَا
غَيْرَ عَدْلَيْنِ فَلِلْمُقَرِّ بِهِ مَا نَقَصَهُ إِقْرَارُهُمَا وَلاَ
يَثْبُتُ النَّسَبُ. إِذِ الْمُرَادُ بِالإِْقْرَارِ هُنَا الشَّهَادَةُ،
لأَِنَّ النَّسَبَ لاَ يَثْبُتُ بِالإِْقْرَارِ، لأَِنَّهُ قَدْ يَكُونُ
بِالظَّنِّ وَلاَ يُشْتَرَطُ فِيهِ عَدَالَةٌ. وَإِنْ أَقَرَّ عَدْلٌ
بِآخَرَ يَحْلِفُ الْمُقِرُّ بِهِ مَعَ الإِْقْرَارِ وَيَرِثُ وَلاَ
يَثْبُتُ النَّسَبُ بِذَلِكَ، وَإِلاَّ يَكُنِ الْمُقِرُّ عَدْلاً
فَمَذْهَبُ الْمَالِكِيَّةِ أَنَّ لِلْمُقَرِّ بِهِ مَا نَقَصَهُ
الإِْقْرَارُ
__________
(1) المغني 5 / 206، ونهاية المحتاج 5 / 115.
(2) المغني 5 / 201 - 202.
(3) المهذب 2 / 353، ونهاية المحتاج 5 / 115.
(6/77)
مِنْ حِصَّةِ الْمُقِرِّ، سَوَاءٌ كَانَ
عَدْلاً أَوْ غَيْرَ عَدْلٍ وَلاَ يَمِينَ، وَالتَّفْرِقَةُ بَيْنَ
الْعَدْل وَغَيْرِهِ قَوْلٌ ضَعِيفٌ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ عَلَى
تَفْصِيلٍ مُبَيَّنٍ عِنْدَهُمْ. (1) وَيَقُول ابْنُ قُدَامَةَ: وَإِنْ
أَقَرَّ رَجُلاَنِ عَدْلاَنِ بِنَسَبٍ مُشَارِكٍ لَهُمَا فِي الْمِيرَاثِ
وَثَمَّ وَارِثٌ غَيْرُهُمَا لَمْ يَثْبُتِ النَّسَبُ إِلاَّ أَنْ
يَشْهَدَا بِهِ، وَبِهَذَا قَال الشَّافِعِيُّ، لأَِنَّهُ إِقْرَارٌ مِنْ
بَعْضِ الْوَرَثَةِ فَلَمْ يَثْبُتْ فِيهَا النَّسَبُ كَالْوَاحِدِ،
وَفَارَقَ الشَّهَادَةَ لأَِنَّهُ تُعْتَبَرُ فِيهَا الْعَدَالَةُ
وَالذُّكُورِيَّةُ، وَالإِْقْرَارُ بِخِلاَفِهِ. (2)
الرُّجُوعُ عَنْ الإِْقْرَارِ بِالنَّسَبِ:
67 - يَنُصُّ الْحَنَفِيَّةُ عَلَى أَنَّهُ يَصِحُّ رُجُوعُ الْمُقِرِّ
عَمَّا أَقَرَّ فِيمَا سِوَى الإِْقْرَارِ بِالْبُنُوَّةِ وَالأُْبُوَّةِ
وَالزَّوْجِيَّةِ وَوَلاَءِ الْعَتَاقَةِ، فَإِنَّ مَنْ أَقَرَّ فِي
مَرَضِهِ بِأَخٍ وَصَدَّقَهُ الْمُقَرُّ لَهُ ثُمَّ رَجَعَ عَمَّا أَقَرَّ
بِهِ يَصِحُّ إِنْ صَدَّقَهُ الْمُقِرُّ عَلَيْهِ، لأَِنَّهُ وَصِيَّةٌ
مِنْ وَجْهٍ. وَفِي شَرْحِ السِّرَاجِيَّةِ، أَنَّهُ بِالتَّصْدِيقِ
يَثْبُتُ النَّسَبُ فَلاَ يَنْفَعُ الرُّجُوعُ. (3)
وَيَقُول الشِّيرَازِيُّ: وَإِنْ أَقَرَّ بَالِغٌ عَاقِلٌ ثُمَّ رَجَعَ
عَنِ الإِْقْرَارِ وَصَدَّقَهُ الْمُقَرُّ لَهُ فِي الرُّجُوعِ فَفِيهِ
وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ يَسْقُطُ النَّسَبُ، كَمَا لَوْ أَقَرَّ بِمَالٍ
ثُمَّ رَجَعَ فِي الإِْقْرَارِ وَصَدَّقَهُ الْمُقَرُّ لَهُ فِي
الرُّجُوعِ.
وَالثَّانِي: وَهُوَ قَوْل أَبِي حَامِدٍ الإْسْفِرَايِينِيِّ أَنَّهُ لاَ
يَسْقُطُ، لأَِنَّ النَّسَبَ إِذَا ثَبَتَ لاَ يَسْقُطُ بِالاِتِّفَاقِ
عَلَى نَفْيِهِ كَالنَّسَبِ الثَّابِتِ بِالْفِرَاشِ. (4)
وَيَقْرَبُ مِنْ هَذَا الاِتِّجَاهِ الْحَنَابِلَةُ، يَقُول
__________
(1) الشرح الكبير 3 / 417، والشرح الصغير 3 / 540 - 546.
(2) المغني 5 / 204 - 205.
(3) حاشية ابن عابدين 4 / 466 - 467.
(4) المهذب 2 / 352 - 353.
(6/77)
ابْنُ قُدَامَةَ: وَإِذَا ثَبَتَ النَّسَبُ
بِالإِْقْرَارِ ثُمَّ أَنْكَرَ الْمُقِرُّ لَمْ يُقْبَل إِنْكَارُهُ،
لأَِنَّهُ نَسَبٌ ثَبَتَ بِحُجَّةٍ شَرْعِيَّةٍ فَلَمْ يَزُل
بِإِنْكَارِهِ، كَمَا لَوْ ثَبَتَ بِبَيِّنَةٍ أَوْ بِالْفِرَاشِ،
وَسَوَاءٌ أَكَانَ الْمُقَرُّ بِهِ غَيْرَ مُكَلَّفٍ أَمْ مُكَلَّفًا
فَصَدَّقَ الْمُقِرَّ. وَيَحْتَمِل أَنْ يَسْقُطَ نَسَبُ الْمُكَلَّفِ
بِاتِّفَاقِهِمَا عَلَى الرُّجُوعِ عَنْهُ، لأَِنَّهُ ثَبَتَ
بِاتِّفَاقِهِمَا فَزَال بِرُجُوعِهِمَا كَالْمَال. وَقَال ابْنُ
قُدَامَةَ: وَالأَْوَّل أَصَحُّ، لأَِنَّهُ نَسَبٌ ثَبَتَ بِالإِْقْرَارِ
فَأَشْبَهَ نَسَبَ الصَّغِيرِ وَالْمَجْنُونِ، وَفَارَقَ الْمَال، لأَِنَّ
النَّسَبَ يُحْتَاطُ لإِِثْبَاتِهِ. (1)
إِقْرَارُ الزَّوْجَةِ بِالْبُنُوَّةِ:
68 - عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ لاَ يُقْبَل إِقْرَارُ الزَّوْجَةِ بِالْوَلَدِ
وَإِنْ صَدَّقَهَا، لأَِنَّ فِيهِ تَحْمِيل النَّسَبِ عَلَى الْغَيْرِ،
لأَِنَّهُ يُنْسَبُ إِلَى الأَْبِ، إِلاَّ أَنْ يُصَدِّقَهَا الزَّوْجُ
أَوْ تُقَدِّمَ الْبَيِّنَةَ، وَيَصِحُّ إِقْرَارُ الْمَرْأَةِ بِالْوَلَدِ
مُطْلَقًا إِنْ لَمْ تَكُنْ زَوْجَةً وَلاَ مُعْتَدَّةً، أَوْ كَانَتْ
زَوْجَةً وَادَّعَتْ أَنَّهُ مِنْ غَيْرِ الزَّوْجِ، وَلاَ يَثْبُتُ
نَسَبُهُ مِنْهُ وَيَتَوَارَثَانِ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا وَارِثٌ
مَعْرُوفٌ، لأَِنَّ وَلَدَ الزِّنَا يَرِثُ بِجِهَةِ الأُْمِّ فَقَطْ. (2)
وَعَنِ ابْنِ رُشْدٍ عَنِ الْمُدَوَّنَةِ: وَإِنْ نَظَرَتِ امْرَأَةٌ إِلَى
رَجُلٍ فَقَالَتْ: ابْنِي، وَمِثْلُهُ يُولَدُ لَهَا وَصَدَّقَهَا لَمْ
يَثْبُتْ نَسَبُهُ مِنْهَا، إِذْ لَيْسَ هُنَا أَبٌ يُلْحَقُ بِهِ، وَإِنْ
جَاءَتِ امْرَأَةٌ بِغُلاَمٍ مَفْصُولٍ فَادَّعَتْ أَنَّهُ وَلَدُهَا لَمْ
يُلْحَقْ بِهَا فِي مِيرَاثٍ، وَلاَ يُحَدُّ مَنِ افْتَرَى عَلَيْهَا بِهِ.
(3)
وَيَنُصُّ الْحَنَابِلَةُ عَلَى أَنَّهُ إِنْ أَقَرَّتِ الْمَرْأَةُ
بِوَلَدٍ وَلَمْ
__________
(1) المغني 5 / 206.
(2) ابن عابدين 4 / 466.
(3) التاج والإكليل 5 / 238، والحطاب 5 / 239
(6/78)
تَكُنْ ذَاتَ زَوْجٍ وَلاَ نَسَبٍ قُبِل
إِقْرَارُهَا، وَإِنْ كَانَتْ ذَاتَ زَوْجٍ لاَ يُقْبَل إِقْرَارُهَا فِي
رِوَايَةٍ، لأَِنَّ فِيهِ حَمْلاً لِنَسَبِ الْوَلَدِ عَلَى زَوْجِهَا
وَلَمْ يُقِرَّ بِهِ، أَوْ إِلْحَاقًا لِلْعَارِ بِهِ بِوِلاَدَةِ
امْرَأَتِهِ مِنْ غَيْرِهِ. وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى: يُقْبَل، لأَِنَّهَا
شَخْصٌ أَقَرَّ بِوَلَدٍ يَحْتَمِل أَنْ يَكُونَ مِنْهُ، فَقُبِل
كَالرَّجُل.
وَقَال أَحْمَدُ فِي رِوَايَةِ ابْنِ مَنْصُورٍ فِي امْرَأَةٍ ادَّعَتْ
وَلَدًا: فَإِنْ كَانَ لَهَا إِخْوَةٌ أَوْ نَسَبٌ مَعْرُوفٌ فَلاَ بُدَّ
مِنْ أَنْ يَثْبُتَ أَنَّهُ ابْنُهَا، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا دَافِعٌ
فَمَنْ يَحُول بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ؟ وَهَذَا لأَِنَّهَا مَتَى كَانَتْ
ذَاتَ أَهْلٍ فَالظَّاهِرُ أَنَّهَا لاَ تَخْفَى عَلَيْهِمْ وِلاَدَتُهَا،
فَمَتَى ادَّعَتْ وَلَدًا لاَ يَعْرِفُونَهُ فَالظَّاهِرُ كَذِبُهَا.
وَيَحْتَمِل أَنْ تُقْبَل دَعْوَاهَا مُطْلَقًا، لأَِنَّ النَّسَبَ
يُحْتَاطُ لَهُ، فَأَشْبَهَتِ الرَّجُل. (1)
الإِْقْرَارُ بِالزَّوْجِيَّةِ تَبَعًا:
69 - وَمَنْ أَقَرَّ بِنَسَبِ صَغِيرٍ لَمْ يَكُنْ مُقِرًّا بِزَوْجِيَّةِ
أُمِّهِ، وَبِهَذَا قَال الشَّافِعِيَّةُ، لأَِنَّ الزَّوْجِيَّةَ لَيْسَتْ
مُقْتَضَى لَفْظِهِ وَلاَ مَضْمُونِهِ، فَلَمْ يَكُنْ مُقِرًّا بِهَا.
وَقَال أَبُو حَنِيفَةَ: إِذَا كَانَتْ مَشْهُورَةً بِالْحُرِّيَّةِ كَانَ
مُقِرًّا بِزَوْجِيَّتِهَا، لأَِنَّ أَنْسَابَ الْمُسْلِمِينَ
وَأُصُولَهُمْ يَجِبُ حَمْلُهَا عَلَى الصِّحَّةِ (2) . وَالإِْقْرَارُ
بِالزَّوْجِيَّةِ صَحِيحٌ بِشَرْطِ الْخُلُوِّ مِنَ الْمَوَانِعِ. (3) .
إِقْرَارُ الْمَرْأَةِ بِالْوَالِدَيْنِ وَالزَّوْجِ:
70 - نَصُّ الْفُقَهَاءُ عَلَى جَوَازِ إِقْرَارِ الْمَرْأَةِ
بِالْوَالِدَيْنِ
__________
(1) المغني 5 / 206، ونهاية المحتاج 5 / 112.
(2) المغني 5 / 207.
(3) الهداية وتكملة الفتح 6 / 13، والدر المختار وحاشية ابن عابدين 4 /
465.
(6/78)
وَالزَّوْجِ، إِذِ الأُْنُوثَةُ لاَ
تَمْنَعُ صِحَّةَ الإِْقْرَارِ عَلَى النَّفْسِ. وَقَدْ ذَكَرَ الإِْمَامُ
الْعَتَّابِيُّ فِي فَرَائِضِهِ أَنَّ الإِْقْرَارَ بِالأُْمِّ لاَ
يَصِحُّ، وَكَذَا فِي ضَوْءِ السِّرَاجِ، لأَِنَّ النَّسَبَ لِلآْبَاءِ لاَ
لِلأُْمَّهَاتِ، وَفِيهِ حَمْل الزَّوْجِيَّةِ عَلَى الْغَيْرِ. قَال
صَاحِبُ الدُّرِّ: لَكِنَّ الْحَقَّ صِحَّتُهُ بِجَامِعِ الأَْصَالَةِ
فَكَانَتْ كَالأَْبِ (1) وَالأَْصْل: أَنَّ مَنْ أَقَرَّ بِنَسَبٍ
يَلْزَمُهُ فِي نَفْسِهِ وَلاَ يُحْمَل عَلَى غَيْرِهِ فَإِقْرَارُهُ
مَقْبُولٌ، كَمَا يُقْبَل إِقْرَارُهُ عَلَى نَفْسِهِ بِسَائِرِ
الْحُقُوقِ. (2)
التَّصْدِيقُ بِالنَّسَبِ بَعْدَ الْمَوْتِ:
71 - وَيَصِحُّ التَّصْدِيقُ فِي النَّسَبِ بَعْدَ مَوْتِ الْمُقِرِّ،
لأَِنَّ النَّسَبَ يَبْقَى بَعْدَ الْمَوْتِ، وَكَذَا تَصْدِيقُ
الزَّوْجَةِ لأَِنَّ حُكْمَ النِّكَاحِ بَاقٍ، وَكَذَا تَصْدِيقُ الزَّوْجِ
بَعْدَ مَوْتِهَا لأَِنَّ الإِْرْثَ مِنْ أَحْكَامِهِ، وَعِنْدَ أَبِي
حَنِيفَةَ لاَ يَصِحُّ لاِنْقِطَاعِ النِّكَاحِ بِالْمَوْتِ. (3)
وَنَصَّ الشَّافِعِيَّةُ عَلَى أَنَّ الْمُقَرَّ بِهِ إِذَا كَانَ مَيِّتًا
فَإِنْ كَانَ صَغِيرًا أَوْ مَجْنُونًا ثَبَتَ نَسَبُهُ، لأَِنَّهُ يُقْبَل
إِقْرَارُهُ بِهِ إِذَا كَانَ حَيًّا فَقُبِل إِذَا كَانَ مَيِّتًا. وَإِنْ
كَانَ بَالِغًا عَاقِلاً فَفِيهِ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: لاَ يَثْبُتُ لأَِنَّ نَسَبَ الْبَالِغِ لاَ يَثْبُتُ إِلاَّ
بِتَصْدِيقِهِ، وَذَلِكَ مَعْدُومٌ بَعْدَ الْمَوْتِ.
وَالثَّانِي: أَنَّهُ يَثْبُتُ وَهُوَ الصَّحِيحُ، لأَِنَّهُ لَيْسَ لَهُ
__________
(1) المصادر السابقة.
(2) الهداية وتكملة الفتح 6 / 14، وحاشية الدسوقي 3 / 415، ومواهب الجليل 5
/ 238، والمهذب 2 / 352، والمغني 5 / 199.
(3) الهداية وتكملة الفتح 6 / 19.
(6/79)
قَوْلٌ، فَيَثْبُتُ نَسَبُهُ
بِالإِْقْرَارِ كَالصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ. (1)
وَقَالُوا: إِنَّ النَّسَبَ يَثْبُتُ لِمَنْ أَقَرَّ بِبُنُوَّةِ مَجْهُول
النَّسَبِ مُسْتَوْفِيًا شُرُوطَهُ - ثَبَتَ نَسَبُهُ مُسْتَنِدًا لِوَقْتِ
الْعُلُوقِ. (2)
كَمَا نَصَّ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ عَلَى أَنَّ الإِْقْرَارَ
بِالْجَدِّ وَابْنِ الاِبْنِ لاَ يَصِحُّ، لأَِنَّ فِيهِ تَحْمِيل
النَّسَبِ عَلَى الْغَيْرِ، غَيْرَ أَنَّ الْمَالِكِيَّةَ قَالُوا: إِنْ
قَال الْمُقِرُّ: أَبُو هَذَا ابْنِي صُدِّقَ، لأَِنَّ الرَّجُل إِنَّمَا
يُصَدَّقُ فِي إِلْحَاقِ وَلَدِهِ بِفِرَاشِهِ، لاَ بِإِلْحَاقِهِ
بِفِرَاشِ غَيْرِهِ. (3)
وَفِي كُتُبِ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّهُ إِذَا كَانَ بَيْنَ الْمُقِرِّ
وَالْمُقَرِّ بِهِ وَاحِدٌ، وَهُوَ حَيٌّ - لَمْ يَثْبُتِ النَّسَبُ إِلاَّ
بِتَصْدِيقِهِ، وَإِنْ كَانَ بَيْنَهُمَا اثْنَانِ أَوْ أَكْثَرُ لَمْ
يَثْبُتِ النَّسَبُ إِلاَّ بِتَصْدِيقِ مَنْ بَيْنَهُمَا، لأَِنَّ
النَّسَبَ يَتَّصِل بِالْمُقِرِّ مِنْ جِهَتِهِمْ فَلاَ يَثْبُتُ إِلاَّ
بِتَصْدِيقِهِمْ. (4)
إِقْرَاضٌ
انْظُرْ: قَرْض.
إِقْرَاعٌ
انْظُرْ: قُرْعَة.
__________
(1) المهذب 2 / 352 - 353.
(2) حاشية ابن عابدين 4 / 465.
(3) حاشية ابن عابدين 4 / 465، والتاج والإكليل 5 / 238.
(4) المهذب 2 / 353.
(6/79)
أَقِطٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الأَْقِطُ، وَالإِْقْطُ، وَالأَْقْطُ، وَالأُْقْطُ: شَيْءٌ يُتَّخَذُ
مِنَ اللَّبَنِ الْمَخِيضِ، يُطْبَخُ ثُمَّ يُتْرَكُ حَتَّى يَمْصُل (أَيْ
يَنْفَصِل عَنْهُ الْمَاءُ) ، وَالْقِطْعَةُ مِنْهُ أَقِطَةٌ (1) .
وَيُعَرِّفُهُ الْفُقَهَاءُ بِذَلِكَ أَيْضًا (2) .
الْحُكْمُ الإِْجْمَالِيُّ:
تَتَعَلَّقُ بِالأَْقِطِ أَحْكَامٌ مِنْهَا مَا يَلِي:
أ - زَكَاةُ الْفِطْرِ:
2 - يَجُوزُ إِخْرَاجُ زَكَاةِ الْفِطْرِ مِنَ الأَْقِطِ عِنْدَ جُمْهُورِ
الْفُقَهَاءِ بِاعْتِبَارِهِ مِنَ الأَْقْوَاتِ، وَلِحَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ
الْخُدْرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَال: كُنَّا نُخْرِجُ زَكَاةَ
الْفِطْرِ - إِذْ كَانَ فِينَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - صَاعًا مِنْ طَعَامٍ، أَوْ صَاعًا مِنْ شَعِيرٍ، أَوْ صَاعًا
مِنْ تَمْرٍ، أَوْ صَاعًا مِنْ زَبِيبٍ، أَوْ صَاعًا مِنْ أَقِطٍ. (3)
__________
(1) لسان العرب.
(2) مغني المحتاج 1 / 406 ط مصطفى الحلبي، والشرح الصغير 1 / 676 ط دار
المعارف.
(3) مغني المحتاج 1 / 406، وكشاف القناع 2 / 253 ط النصر بالرياض، والدسوقي
1 / 505 وحديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أخرجه البخاري (فتح الباري 4 /
371 ط السلفية) .
(6/80)
أَمَّا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ فَتُعْتَبَرُ
فِيهِ الْقِيمَةُ، وَلاَ يُجْزِئُ إِخْرَاجُ زَكَاةِ الْفِطْرِ مِنْهُ
إِلاَّ بِاعْتِبَارِ الْقِيمَةِ، لأَِنَّهُ غَيْرُ مَنْصُوصٍ عَلَيْهِ مِنْ
وَجْهٍ يُوثَقُ بِهِ، وَجَوَازُ مَا لَيْسَ بِمَنْصُوصٍ عَلَيْهِ لاَ
يَكُونُ إِلاَّ بِاعْتِبَارِ الْقِيمَةِ، كَسَائِرِ الأَْعْيَانِ الَّتِي
لَمْ يَقَعِ التَّنْصِيصُ عَلَيْهَا مِنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (1)
وَيُنْظَرُ تَفْصِيل ذَلِكَ فِي (زَكَاةُ الْفِطْرِ) .
ب - الْبَيْعُ:
3 - يُعْتَبَرُ الأَْقِطُ مِنَ الرِّبَوِيَّاتِ الَّتِي يُشْتَرَطُ فِيهَا
التَّمَاثُل وَالتَّقَابُضُ فِي الْمَجْلِسِ إِنْ بِيعَتْ بِمِثْلِهَا.
وَالْفُقَهَاءُ يَخْتَلِفُونَ فِي جَوَازِ بَيْعِ الأَْقِطِ بَعْضِهِ
بِبَعْضٍ. فَأَجَازَهُ الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ لإِِمْكَانِ
التَّمَاثُل وَالتَّسَاوِي، وَمَنَعَهُ الشَّافِعِيَّةُ لأَِنَّ
أَجْزَاءَهُ مُنْعَقِدَةٌ، وَلأَِنَّهُ يُخَالِطُهُ الْمِلْحُ فَلاَ
تَتَحَقَّقُ فِيهِ الْمُمَاثَلَةُ. (2)
وَفِيهِ تَفْصِيلٌ كَثِيرٌ يُنْظَرُ فِي (بَيْع، وَرِبًا) .
مَوَاطِنُ الْبَحْثِ:
4 - تَتَعَدَّدُ مَوَاطِنُ أَحْكَامِ الأَْقِطِ، فَتَأْتِي فِي زَكَاةِ
الْفِطْرِ، وَالرِّبَا، وَالسَّلَمِ، وَتُنْظَرُ فِي مَوَاطِنِهَا.
إِقْطَاعٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - مِنْ مَعَانِي الإِْقْطَاعِ فِي اللُّغَةِ: التَّمْلِيكُ
__________
(1) بدائع الصنائع 2 / 72، 73 ط شركة المطبوعات العلمية ط أولى.
(2) قليوبي 2 / 172 ط الحلبي، والمغني 4 / 36 ط الرياض، والشرح الصغير 3 /
84.
(6/80)
وَالإِْرْفَاقُ، يُقَال اسْتَقْطَعَ
الإِْمَامُ قَطِيعَةً فَأَقْطَعَهُ إِيَّاهَا: أَيْ سَأَلَهُ أَنْ
يَجْعَلَهَا لَهُ إِقْطَاعًا يَتَمَلَّكُهُ وَيَسْتَبِدُّ بِهِ
وَيَنْفَرِدُ، وَيُقَال: أَقْطَعَ الإِْمَامُ الْجُنْدَ الْبَلَدَ: إِذَا
جَعَل لَهُمْ غَلَّتَهَا رِزْقًا. (1)
وَهُوَ كَذَلِكَ شَرْعًا يُطْلَقُ عَلَى مَا يُقْطِعُهُ الإِْمَامُ، أَيْ
يُعْطِيهِ مِنَ الأَْرَاضِي رَقَبَةً أَوْ مَنْفَعَةً لِمَنْ يَنْتَفِعُ
بِهِ (2) .
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - إِحْيَاءُ الْمَوَاتِ:
2 - هُوَ كَمَا عَرَّفَهُ الشَّافِعِيَّةُ بِأَنَّهُ: عِمَارَةُ الأَْرْضِ
الْخَرِبَةِ الَّتِي لاَ مَالِكَ لَهَا وَلاَ يَنْتَفِعُ بِهَا أَحَدٌ (3)
.
ب - أَعْطِيَاتُ السُّلْطَانِ:
3 - الْعَطَاءُ وَالْعَطِيَّةُ: اسْمٌ لِمَا يُعْطَى، وَالْجَمْعُ عَطَايَا
وَأَعْطِيَةٌ، وَجَمْعُ الْجَمْعِ أَعْطِيَاتٌ. وَأَعْطِيَاتُ
السُّلْطَانِ: مَا يُعْطِيهِ لأَِحَدٍ مِنَ الرَّعِيَّةِ مِنْ بَيْتِ
الْمَال مَعَ مُرَاعَاةِ الْمَصْلَحَةِ الْعَامَّةِ.
وَعَلَى هَذَا قَدْ يَكُونُ الإِْقْطَاعُ عَطَاءً، وَقَدْ يَنْفَصِل
الْعَطَاءُ، فَيَكُونُ فِي الأَْمْوَال الْمَنْقُولَةِ غَالِبًا (4) .
ج - الْحِمَى:
4 - الْمَشْرُوعُ مِنْهُ: أَنْ يَحْمِيَ الإِْمَامُ أَرْضًا مِنَ
__________
(1) لسان العرب وتاج العروس والمصباح المنير مادة: " قطع ".
(2) ابن عابدين 3 / 392 ط بولاق.
(3) البجيرمي على الخطيب 3 / 192.
(4) لسان العرب في المادة، والفروق في اللغة 162، 165، وابن عابدين 5 /
411، والزاهر ص 263 فقرة - 569.
(6/81)
الْمَوَاتِ، يَمْنَعُ النَّاسَ رَعْيَ مَا
فِيهَا مِنَ الْكَلأَِ لِتَكُونَ خَاصَّةً لِبَعْضِ الْمَصَالِحِ
الْعَامَّةِ كَمَوَاشِي الصَّدَقَةِ.
د - الإِْرْصَادُ:
5 - الإِْرْصَادُ لُغَةً: الإِْعْدَادُ، وَاصْطِلاَحًا: تَخْصِيصُ
الإِْمَامِ غَلَّةَ بَعْضِ أَرَاضِي بَيْتِ الْمَال لِبَعْضِ مَصَارِفِهِ.
وَلِلتَّفْصِيل يُنْظَرُ مُصْطَلَحُ (إِرْصَاد) . فَالْفَرْقُ بَيْنَهُ
وَبَيْنَ الإِْقْطَاعِ أَنَّ الإِْرْصَادَ لاَ يَصِيرُ مِلْكًا
لِلْمُرْصَدِ لَهُ، بِحَيْثُ يَتَوَارَثُهُ أَوْلاَدُهُ أَوْ
يَتَصَرَّفُونَ فِيهِ كَمَا شَاءُوا. (1)
الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ:
6 - الإِْقْطَاعُ جَائِزٌ بِشُرُوطِهِ، سَوَاءٌ أَكَانَ إِقْطَاعَ
تَمْلِيكٍ أَمْ إِقْطَاعَ إِرْفَاقٍ، وَدَلِيل ذَلِكَ مِنَ السُّنَّةِ
أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَقْطَعَ الزُّبَيْرَ
رَكْضَ فَرَسِهِ مِنْ مَوَاتِ النَّقِيعِ، وَكَذَلِكَ فَعَل الْخُلَفَاءُ
مِنْ بَعْدِهِ. (2)
أَنْوَاعُ الإِْقْطَاعِ:
الإِْقْطَاعُ نَوْعَانِ:
7 - النَّوْعُ الأَْوَّل: إِقْطَاعُ الإِْرْفَاقِ (أَوِ الإِْمْتَاعِ أَوِ
الاِنْتِفَاعِ) .
__________
(1) ابن عابدين 3 / 266، 392 ط بولاق، ولسان العرب والمصباح في المادة.
(2) الأحكام السلطانية للماوردي 190، والأحكام السلطانية لأبي يعلى 211
وحديث " أقطع الرسول صلى الله عليه وسلم الزبير ركض فرسه من موات النقيع "
أخرجه أبو داود (3 / 453 - ط عزت عبيد دعاس) وقال ابن حجر في التلخيص (3 /
64 - ط دار المحاسن) : فيه العمري الكبير وفيه ضعف.
(6/81)
وَهُوَ: إِرْفَاقُ النَّاسِ بِمَقَاعِدِ
الأَْسْوَاقِ، وَأَفْنِيَةِ الشَّوَارِعِ، وَحَرِيمِ الأَْمْصَارِ،
وَمَنَازِل الْمُسَافِرِينَ، وَنَحْوِ ذَلِكَ (1) . وَهُوَ عَلَى ثَلاَثَةِ
أَقْسَامٍ:
الْقِسْمُ الأَْوَّل:
8 - مَا يَخْتَصُّ الإِْرْفَاقُ فِيهِ بِالصَّحَارَى وَالْفَلَوَاتِ.
حَيْثُ مَنَازِل الْمُسَافِرِينَ وَحُلُول الْمِيَاهِ، وَذَلِكَ ضَرْبَانِ:
(أَحَدُهُمَا) : أَنْ يَكُونَ لاِجْتِيَازِ السَّابِلَةِ وَاسْتِرَاحَةِ
الْمُسَافِرِينَ فِيهِ. وَهَذَا لاَ نَظَرَ لِلسُّلْطَانِ فِيهِ لِبُعْدِهِ
عَنْهُ، وَاَلَّذِي يَخُصُّ السُّلْطَانَ مِنْ ذَلِكَ إِصْلاَحُ عَوْرَتِهِ
وَحِفْظُ مِيَاهِهِ، وَالتَّخْلِيَةُ بَيْنَ النَّاسِ وَبَيْنَ نُزُولِهِ،
وَيَكُونُ السَّابِقُ إِلَى الْمَنْزِل أَحَقَّ بِحُلُولِهِ فِيهِ مِنَ
الْمَسْبُوقِ حَتَّى يَرْتَحِل عَنْهُ، لِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَى مُنَاخُ مَنْ سَبَقَ. (2) فَإِنْ نَزَلُوهُ
سَوَاءً، عُدِل بَيْنَهُمْ نَفْيًا لِلتَّنَازُعِ.
(وَالثَّانِي) أَنْ يَكُونَ نُزُولُهُمْ لِلاِسْتِيطَانِ، فَإِنْ كَانَ
كَذَلِكَ فَلِلإِْمَامِ مَنْعُهُمْ أَوْ تَرْكُهُمْ حَسَبَ مَصَالِحِ
الْمُسْلِمِينَ. (3)
الْقِسْمُ الثَّانِي:
9 - وَهُوَ مَا يَخْتَصُّ بِأَفْنِيَةِ الدُّورِ وَالأَْمْلاَكِ. يُنْظَرُ،
فَإِنْ كَانَ الاِرْتِفَاقُ مُضِرًّا بِهِمْ مُنِعَ اتِّفَاقًا، إِلاَّ
أَنْ يَأْذَنُوا بِدُخُول الضَّرَرِ عَلَيْهِمْ.
__________
(1) الأحكام السلطانية للماوردي ص 187 ط مصطفى الحلبي، والأحكام السلطانية
لأبي يعلى ص 208، والمغني لابن قدامة 5 / 577 ط الرياض، والدسوقي 4 / 67 ط
دار الفكر.
(2) حديث: " منى مناخ من سبق ". أخرجه الترمذي (33 / 228 - ط الحلبي) وأعله
المناوي في الفيض (6 / 244 - ط المكتبة التجارية) بجهالة أحد رواته.
(3) الأحكام السلطانية للماوردي ص 187، والمغني 5 / 577
(6/82)
فَإِنْ كَانَ غَيْرَ مُضِرٍّ بِهِمْ فَفِي
إِبَاحَةِ ارْتِفَاقِهِمْ بِهِ مِنْ غَيْرِ إِذْنِ أَرْبَابِهَا
اتِّجَاهَانِ:
الأَْوَّل: أَنَّ لَهُمْ الاِرْتِفَاقَ بِهَا وَإِنْ لَمْ يَأْذَنْ
أَرْبَابُهَا، لأَِنَّ الْحَرِيمَ (وَهُوَ مَا يَنْتَفِعُ بِهِ أَهْل
الدُّورِ مِنْ أَمَاكِنَ غَيْرِ مَمْلُوكَةٍ لأَِحَدٍ) يُعْتَبَرُ
مِرْفَقًا إِذَا وَصَل أَهْلُهُ إِلَى حَقِّهِمْ مِنْهُ سَاوَاهُمُ
النَّاسُ فِيمَا عَدَاهُ، وَهُوَ قَوْلٌ لِلشَّافِعِيَّةِ، وَرِوَايَةٌ
عَنْ أَحْمَدَ، وَالزُّهْرِيِّ، وَهُوَ رَأْيُ الْحَنَفِيَّةِ،
وَالْمَالِكِيَّةِ.
الثَّانِي: لاَ يَجُوزُ الاِرْتِفَاقُ بِحَرِيمِهِمْ إِلاَّ عَنْ
إِذْنِهِمْ، لأَِنَّهُ تَبَعٌ لأَِمْلاَكِهِمْ فَكَانُوا بِهِ أَحَقَّ،
وَبِالتَّصَرُّفِ فِيهِ أَخَصَّ، وَهُوَ رَأْيٌ لِلشَّافِعِيَّةِ
وَالْحَنَابِلَةِ.
الْقِسْمُ الثَّالِثُ:
10 - هُوَ مَا اخْتَصَّ بِأَفْنِيَةِ الشَّوَارِعِ وَالطُّرُقَاتِ، فَهُوَ
مَوْقُوفٌ عَلَى نَظَرِ السُّلْطَانِ، وَفِي حُكْمِ نَظَرِهِ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ نَظَرَهُ فِيهِ مَقْصُورٌ عَلَى كَفِّهِمْ عَنِ
التَّعَدِّي، وَمَنْعِهِمْ مِنَ الإِْضْرَارِ، وَالإِْصْلاَحِ بَيْنِهِمْ
عِنْدَ التَّشَاجُرِ.
وَالثَّانِي: أَنَّ نَظَرَهُ فِيهِ نَظَرُ مُجْتَهِدٍ فِيمَا يَرَاهُ
صَالِحًا، فِي إِجْلاَسِ مَنْ يَجْلِسُ، وَمَنْعِ مَنْ يَمْنَعُهُ،
وَتَقْدِيمِ مَنْ يُقَدِّمُهُ. (1)
__________
(1) ابن عابدين 5 / 475، والدسوقي 4 / 67، 68، والأحكام السلطانية للماوردي
ص177، 188 والأحكام السلطانية لأبي يعلى ص 209، 210 واللجنة تنبه إلى أن
محل هذه التقسيمات والتفصيلات حيث لم يكن هناك تنظيم من ولي الأمر مراعى
فيه المصلحة، وإلا فالواجب شرعا الالتزام بأمره، لأن طاعته فيما لا إثم فيه
واجبة في كل تصرف منوط بالمصلحة.
(6/82)
النَّوْعُ الثَّانِي: إِقْطَاعُ
التَّمْلِيكِ:
11 - هُوَ تَمْلِيكٌ مِنَ الإِْمَامِ مُجَرَّدٌ عَنْ شَائِبَةِ
الْعِوَضِيَّةِ بِإِحْيَاءٍ أَوْ غَيْرِهِ. (1)
أَقْسَامُهُ وَحُكْمُ تِلْكَ الأَْقْسَامِ:
12 - يَنْقَسِمُ إِقْطَاعُ التَّمْلِيكِ فِي الأَْرْضِ الْمُقْطَعَةِ إِلَى
ثَلاَثَةِ أَقْسَامٍ:
مَوَاتٍ، وَعَامِرٍ، وَمَعَادِنَ.
إِقْطَاعُ الْمَوَاتِ:
إِقْطَاعُ الْمَوَاتِ ضَرْبَانِ:
13 - الضَّرْبُ الأَْوَّل: مَا لَمْ يَزَل مَوَاتًا مِنْ قَدِيمِ
الدَّهْرِ، فَلَمْ تَجْرِ فِيهِ عِمَارَةٌ وَلاَ يَثْبُتُ عَلَيْهِ مِلْكٌ،
فَهَذَا يَجُوزُ لِلإِْمَامِ أَنْ يُقْطِعَهُ مَنْ يُحْيِيهِ وَمَنْ
يُعَمِّرُهُ، وَقَدْ أَقْطَعَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ الزُّبَيْرَ بْنَ الْعَوَّامِ رَكْضَ فَرَسِهِ مِنْ مَوَاتِ
النَّقِيعِ، فَأَجْرَاهُ، ثُمَّ رَمَى بِسَوْطِهِ رَغْبَةً فِي
الزِّيَادَةِ، فَقَال رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
أَعْطُوهُ مُنْتَهَى سَوْطِهِ. (2)
وَيَمْتَنِعُ بِهِ إِقْدَامُ غَيْرِ الْمُقْطَعِ عَلَى إِحْيَائِهِ،
لأَِنَّهُ مَلَكَ رَقَبَتَهُ بِالإِْقْطَاعِ نَفْسِهِ، خِلاَفًا
لِلْحَنَابِلَةِ، فَإِنَّهُمْ ذَهَبُوا إِلَى أَنَّ إِقْطَاعَ الْمَوَاتِ
مُطْلَقًا لاَ يُفِيدُ تَمْلِيكًا، لَكِنَّهُ يَصِيرُ أَحَقَّ بِهِ مِنْ
غَيْرِهِ، فَإِنْ أَحْيَاهُ مَلَكَهُ بِالإِْحْيَاءِ لاَ بِالإِْقْطَاعِ،
أَمَّا إِذَا كَانَ الإِْقْطَاعُ مُطْلَقًا، أَوْ مَشْكُوكًا فِيهِ،
فَإِنَّهُ يُحْمَل عَلَى إِقْطَاعِ الإِْرْفَاقِ، لأَِنَّهُ الْمُحَقَّقُ.
(3)
__________
(1) الدسوقي 4 / 68، والخراج ص 66، والأحكام السلطانية للماوردي ص 190.
(2) حديث: " أعطوه منتهى سوطه ". سبق تخريجه (ف / 6) .
(3) الأحكام السلطانية للماوردي ص 190، والأحكام السلطانية لأبي يعلى ص
212، وابن عابدين 3 / 265، والخراج ص 65 ط السلفية القاهرة، وحاشية الدسوقي
4 / 68، والمغني 5 / 579، وحاشية قليوبي 3 / 79، وشرح العناية 9 / 4،
ومنتهى الإيرادات 1 / 544، 545، والرهوني 7 / 105، والهندية 5 / 386،
ونهاية المحتاج 5 / 328 ط البابي الحلبي.
(6/83)
14 - الضَّرْبُ الثَّانِي مِنَ الْمَوَاتِ:
مَا كَانَ عَامِرًا فَخَرِبَ، فَصَارَ مَوَاتًا عَاطِلاً، وَذَلِكَ
نَوْعَانِ:
(أَحَدُهُمَا) مَا كَانَ عَادِيًّا (أَيْ قَدِيمًا، جَاهِلِيًّا) فَهُوَ
كَالْمَوَاتِ الَّذِي لَمْ يَثْبُتْ فِيهِ عِمَارَةٌ وَيَجُوزُ
إِقْطَاعُهُ. قَال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَادِيُّ الأَْرْضِ
لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ، ثُمَّ هِيَ لَكُمْ مِنِّي (1)
(ثَانِيهِمَا) مَا كَانَ إِسْلاَمِيًّا جَرَى عَلَيْهِ مِلْكُ
الْمُسْلِمِينَ، ثُمَّ خَرِبَ حَتَّى صَارَ مَوَاتًا عَاطِلاً، وَلاَ
يُعْرَفُ لَهُ مَالِكٌ وَلاَ وَرَثَةُ مَالِكٍ. قَال الشَّافِعِيَّةُ:
إِنَّهُ مَالٌ ضَائِعٌ يُرْجَعُ فِيهِ إِلَى رَأْيِ الإِْمَامِ مُطْلَقًا.
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: يُمْلَكُ بِالإِْحْيَاءِ مُطْلَقًا، إِذَا كَانَتِ
الأَْرْضُ غَيْرَ مُقْطَعَةٍ، أَمَّا إِذَا كَانَتْ مُقْطَعَةً
فَالرَّاجِحُ عِنْدَهُمْ أَنَّهَا لاَ تُمْلَكُ بِالإِْحْيَاءِ. وَقَال
الْحَنَفِيَّةُ: إِنْ لَمْ يُعْرَفْ أَرْبَابُهُ مُلِكَ بِالإِْحْيَاءِ،
بِشَرْطِ إِقْطَاعِ الإِْمَامِ لَهُ، وَهُوَ رَأْيٌ لِلْحَنَابِلَةِ. (2)
إِقْطَاعُ الْعَامِرِ
إِقْطَاعُ الْعَامِرِ ضَرْبَانِ:
15 - الضَّرْبُ الأَْوَّل: مَا تَعَيَّنَ مَالِكُهُ فَلاَ نَظَرَ
__________
(1) حديث: " عادي الأرض لله ولرسوله ثم هي لكم مني " أخرجه الشافعي في
مسنده (2 / 133 - ط مكتب نشر الثقافة الإسلامية) وأعله ابن حجر بالإرسال
(التلخيص (3 / 62 ط دار المحاسن) .
(2) الفتاوى الهندية 5 / 386، والرهوني 5 / 105 والأحكام السلطانية
للماوردي ص 190، 191، والأحكام السلطانية لأبي يعلى ص 213.
(6/83)
لِلسُّلْطَانِ فِي إِقْطَاعِهِ اتِّفَاقًا،
إِلاَّ مَا يَتَعَلَّقُ بِتِلْكَ الأَْرْضِ مِنْ حُقُوقِ بَيْتِ الْمَال
أَوِ الْمَصَالِحِ الْعَامَّةِ. وَهَذَا إِذَا كَانَتْ فِي دَارِ
الإِْسْلاَمِ، سَوَاءٌ أَكَانَتْ لِمُسْلِمٍ أَمْ لِذِمِّيٍّ. فَإِنْ
كَانَتْ فِي دَارِ الْحَرْبِ الَّتِي لاَ يَثْبُتُ لِلْمُسْلِمِينَ
عَلَيْهَا يَدٌ، فَأَرَادَ الإِْمَامُ إِقْطَاعَهَا عِنْدَ الظَّفَرِ
جَازَ. وَقَدْ: سَأَل تَمِيمٌ الدَّارِيُّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُقْطِعَهُ عُيُونَ الْبَلَدِ الَّذِي كَانَ
مِنْهُ بِالشَّامِ قَبْل فَتْحِهِ فَفَعَل. (1)
16 - الضَّرْبُ الثَّانِي مِنَ الْعَامِرِ: مَا لَمْ يَتَعَيَّنْ
مَالِكُوهُ وَلَمْ يَتَمَيَّزْ مُسْتَحِقُّوهُ: فَمَا اصْطَفَاهُ
الإِْمَامُ لِبَيْتِ الْمَال، وَكَذَلِكَ كُل مَا دَخَل بَيْتَ الْمَال
مِنْ أَرْضِ الْخَرَاجِ، أَوْ مَا مَاتَ عَنْهُ أَرْبَابُهُ، وَلَمْ
يَسْتَحِقَّهُ وَارِثٌ بِفَرْضٍ وَلاَ تَعْصِيبٍ فَفِي إِقْطَاعِهِ
رَأْيَانِ:
الأَْوَّل: عَدَمُ الْجَوَازِ. وَهُوَ رَأْيُ الْمَالِكِيَّةِ
وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، لأَِنَّهُ لاَ يَجُوزُ إِقْطَاعُ
رَقَبَتِهِ لاِصْطِفَائِهِ لِبَيْتِ الْمَال، فَكَانَ بِذَلِكَ مِلْكًا
لِكَافَّةِ الْمُسْلِمِينَ. فَجَرَى عَلَى رَقَبَتِهِ حُكْمُ الْوَقْفِ
الْمُؤَبَّدِ.
الثَّانِي: الْجَوَازُ. وَهُوَ رَأْيُ الْحَنَفِيَّةِ، لأَِنَّ لِلإِْمَامِ
أَنْ يُجِيزَ مِنْ بَيْتِ الْمَال مَنْ لَهُ غَنَاءٌ فِي الإِْسْلاَمِ،
وَمَنْ يَقْوَى بِهِ عَلَى الْعَدُوِّ، وَيَعْمَل فِي ذَلِكَ بِاَلَّذِي
يَرَى أَنَّهُ خَيْرٌ لِلْمُسْلِمِينَ وَأَصْلَحُ لأَِمْرِهِمْ،
وَالأَْرْضُ عِنْدَهُمْ بِمَنْزِلَةِ الْمَال يَصِحُّ تَمْلِيكُ
رَقَبَتِهَا، كَمَا يُعْطَى الْمَال حَيْثُ ظَهَرَتِ الْمَصْلَحَةُ (2) .
__________
(1) حديث: " أقطع تميم الداري " أخرجه أبو عبيد القاسم بن سلام في الأموال
(ص 274 - ط المكتبة التجارية الكبرى) وفي إسناده إرسال.
(2) حاشية الدسوقي على الشرح الكبير للدردير 4 / 68، والأحكام السلطانية
للماوردي ص 292، 293، والأحكام السلطانية لأبي يعلى ص215، 216، والخراج
لأبي يوسف ص 63، وابن عابدين 3 / 265.
(6/84)
إِقْطَاعُ الْمَعَادِنِ
الْمَعَادِنُ هِيَ الْبِقَاعُ الَّتِي أَوْدَعَهَا اللَّهُ جَوَاهِرَ
الأَْرْضِ. وَهِيَ ضَرْبَانِ: ظَاهِرَةٌ وَبَاطِنَةٌ.
17 - أَمَّا الظَّاهِرَةُ: فَمَا كَانَ جَوْهَرُهَا الْمُسْتَوْدَعُ فِيهَا
بَارِزًا. كَمَعَادِنِ الْكُحْل، وَالْمِلْحِ، وَالنَّفْطِ، فَهُوَ
كَالْمَاءِ الَّذِي لاَ يَجُوزُ إِقْطَاعُهُ، وَالنَّاسُ فِيهِ سَوَاءٌ،
يَأْخُذُهُ مَنْ وَرَدَ إِلَيْهِ، لِمَا وَرَدَ أَنَّ أَبْيَضَ بْنَ
حَمَّالٍ اسْتَقْطَعَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
مِلْحَ مَأْرَبٍ فَأَقْطَعَهُ، فَقَال الأَْقْرَعُ بْنُ حَابِسٍ
التَّمِيمِيُّ: يَا رَسُول اللَّهِ إِنِّي وَرَدْتُ هَذَا الْمِلْحَ فِي
الْجَاهِلِيَّةِ، وَهُوَ بِأَرْضٍ لَيْسَ فِيهَا غَيْرُهُ، مَنْ وَرَدَهُ
أَخَذَهُ وَهُوَ مِثْل الْمَاءِ الْعِدِّ بِالأَْرْضِ، فَاسْتَقَال
أَبْيَضَ قَطِيعَةَ الْمِلْحِ. فَقَال: قَدْ أَقَلْتُكَ عَلَى أَنْ
تَجْعَلَهُ مِنِّي صَدَقَةً. فَقَال النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ: هُوَ مِنْكَ صَدَقَةٌ، وَهُوَ مِثْل الْمَاءِ الْعِدِّ، مَنْ
وَرَدَهُ أَخَذَهُ (1)
وَهُوَ رَأْيُ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ.
أَمَّا الْمَالِكِيَّةُ فَقَدْ أَجَازُوا إِقْطَاعَ الإِْمَامِ
لِلْمَعَادِنِ بِغَيْرِ تَمْيِيزٍ بَيْنَ الْبَاطِنِ وَالظَّاهِرِ.
18 - وَأَمَّا الْمَعَادِنُ الْبَاطِنَةُ: فَهِيَ مَا كَانَ جَوْهَرُهُ
مُسْتَكِنًّا فِيهَا، لاَ يُوصَل إِلَيْهِ إِلاَّ بِالْعَمَل، كَمَعَادِنِ
الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالصُّفْرِ وَالْحَدِيدِ. فَهَذِهِ وَمَا
أَشْبَهَهَا مَعَادِنُ بَاطِنَةٌ، سَوَاءٌ احْتَاجَ الْمَأْخُوذُ مِنْهَا
إِلَى سَبْكٍ وَتَصْفِيَةٍ وَتَخْلِيصٍ أَوْ لَمْ يَحْتَجْ. وَقَدْ أَجَازَ
إِقْطَاعَهَا الْحَنَفِيَّةُ، وَهُوَ رَأْيٌ لِلشَّافِعِيَّةِ، وَمَنَعَ
ذَلِكَ الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ، وَهُوَ الرَّأْيُ الرَّاجِحُ
لِلشَّافِعِيَّةِ. (2)
__________
(1) حديث: " استقطع أبيض بن حمال النبي صلى الله عليه وسلم " أخرجه الشافعي
في الأم (4 / 42 - شركة الطباعة الفنية) ويحيى بن آدم في الخراج. (ص 110 -
ط السلفيه) وصححه أحمد شاكر في التعليق عليه.
(2) الأحكام للماوردي ص 197، 198، والأحكام السلطانية لأبي يعلى ص 219،
220، وقليوبي 3 / 94، 95، وابن عابدين 5 / 279، والخرشي 2 / 208.
(6/84)
التَّصَرُّفُ فِي الأَْرَاضِيِ
الأَْمِيرِيَّةِ:
19 - يَجُوزُ لِلإِْمَامِ أَنْ يَدْفَعَ الأَْرْضَ الأَْمِيرِيَّةَ
لِلزِّرَاعَةِ، إِمَّا بِإِقَامَتِهِمْ مَقَامَ الْمُلاَّكِ فِي
الزِّرَاعَةِ وَإِعْطَاءِ الْخَرَاجِ، أَوَإِجَارَتِهَا لِلزُّرَّاعِ
بِقَدْرِ الْخَرَاجِ، وَعَلَى هَذَا اتَّفَقَ الأَْئِمَّةُ.
وَأَمَّا إِقْطَاعُهَا أَوْ تَمْلِيكُهَا: فَمَنَعَهُ الْمَالِكِيَّةُ
وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ، لأَِنَّهُ صَارَ مِلْكًا عَامًّا
لِلْمُسْلِمِينَ، وَأَجَازَهُ الْحَنَفِيَّةُ اعْتِمَادًا عَلَى أَنَّ
لِلإِْمَامِ أَنْ يُجِيزَ مِنْ بَيْتِ الْمَال مَنْ لَهُ غَنَاءٌ فِي
الإِْسْلاَمِ، كَمَا أَنَّ لَهُ أَنْ يَعْمَل مَا يَرَاهُ خَيْرًا
لِلْمُسْلِمِينَ وَأَصْلَحَ، وَالأَْرْضُ عِنْدَهُمْ بِمَنْزِلَةِ الْمَال.
(1)
وَعَلَى هَذَا فَمَنْ يُلْغِي إِقْطَاعَهَا لاَ يُجِيزُ تَمْلِيكَهَا، أَوْ
إِرْثَهَا أَوْ إِرْثَ اخْتِصَاصِهَا، وَإِنَّمَا مَنَافِعُهَا هِيَ
الَّتِي تُمْلَكُ فَقَطْ. فَلَهُ إِيجَارُهَا، وَلِلإِْمَامِ إِخْرَاجُهَا
عَنْهُ مَتَى شَاءَ، غَيْرَ أَنَّهُ جَرَى الرَّسْمُ فِي الدَّوْلَةِ
الْعُثْمَانِيَّةِ أَنَّ مَنْ مَاتَ عَنِ ابْنٍ انْتَقَل الاِخْتِصَاصُ
لِلاِبْنِ مَجَّانًا، وَإِلاَّ فَلِبَيْتِ الْمَال، وَلَوْ لَهُ بِنْتٌ
أَوْ أَخٌ لأَِبٍ لَهُ أَخْذُهَا بِالإِْجَارَةِ الْفَاسِدَةِ. وَهَذَا
إِذَا كَانَتِ الأَْرَاضِي الأَْمِيرِيَّةُ عَامِرَةً، وَأَمَّا إِذَا
كَانَتْ مَوَاتًا فَإِنَّهَا تُمْلَكُ بِالإِْحْيَاءِ، وَتُؤْخَذُ
بِالإِْقْطَاعِ كَمَا سَبَقَ، وَتُورَثُ عَنْهُ إِذَا مَاتَ، وَيَصِحُّ
بَيْعُهَا، وَعَلَيْهِ وَظِيفَتُهَا مِنْ عُشْرٍ أَوْ خَرَاجٍ (2)
وَلِلتَّفْصِيل يُنْظَرُ - (أَرْضُ الْحَوْزِ) .
__________
(1) حاشية الدسوقي على الشرح الكبير 4 / 68، والأحكام السلطانية للماوردي ص
292، 293، والأحكام السلطانية لأبي يعلى ص 215، 216، والخراج لأبي يوسف
ص63، وابن عابدين 3 / 265.
(2) الدر المنتقى 1 / 671، 672، وابن عابدين 3 / 256، والأحكام السلطانية
لأبي يعلى ص218.
(6/85)
إِقْطَاعُ الْمَرَافِقِ:
20 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ لِلإِْمَامِ
إِقْطَاعُ الْمَرَافِقِ الْعَامَّةِ وَمَا لاَ غِنَى عَنْهُ
لِلْمُسْلِمِينَ، وَكَذَلِكَ أَرْضُ الْمِلْحِ وَالْقَارِ وَنَحْوِهَا.
وَكَذَلِكَ مَا قَرُبَ مِنَ الْعَامِرِ، وَتَعَلَّقَتْ بِهِ مَصَالِحُ
الْمُسْلِمِينَ، مِنْ طُرُقٍ وَسَيْل مَاءٍ وَمَطْرَحِ قُمَامَةٍ وَمَلْقَى
تُرَابٍ وَآلاَتٍ، فَلاَ يَجُوزُ إِقْطَاعُهُ، بِغَيْرِ خِلاَفٍ،
وَكَذَلِكَ مَا تَعَلَّقَتْ بِهِ مَصَالِحُ الْقَرْيَةِ، كَفِنَائِهَا
وَمَرْعَى مَاشِيَتِهَا وَمُحْتَطَبِهَا وَطُرُقِهَا وَمَسِيل مَائِهَا،
لاَ يَجُوزُ إِقْطَاعُهُ (1) .
إِجَارَةُ الإِْقْطَاعَاتِ وَإِعَارَتُهَا:
21 - مَا أَقْطَعَهُ الإِْمَامُ لِلنَّاسِ مِلْكًا، أَوِ اشْتُرِيَ مِنْ
بَيْتِ الْمَال شِرَاءً مُسَوِّغًا، فَلاَ خَفَاءَ فِي جَوَازِ إِجَارَتِهِ
وَإِعَارَتِهِ، حَيْثُ صَارَ مِلْكًا لِلأَْشْخَاصِ يَتَصَرَّفُونَ فِيهِ
تَصَرُّفَ الْمُلاَّكِ، وَمَنْ أَقْطَعَهُ الإِْمَامُ أَرْضًا إِقْطَاعَ
انْتِفَاعٍ فِي مُقَابَلَةِ خِدْمَةٍ عَامَّةٍ يُؤَدِّيهَا، وَبِعِبَارَةِ
الْفُقَهَاءِ: فِي مُقَابَلَةِ اسْتِعْدَادِهِ لِمَا أُعِدَّ لَهُ، فَإِنَّ
لِلْمُقْطَعِ إِجَارَتَهَا وَإِعَارَتَهَا، لأَِنَّهُ مَلَكَهَا مِلْكَ
مَنْفَعَةٍ.
وَإِذَا مَاتَ الْمُؤَجِّرُ، أَوْ أَخْرَجَ الإِْمَامُ الأَْرْضَ
الْمُقْطَعَةَ مِنْهُ انْفَسَخَتِ الإِْجَارَةُ، لاِنْتِقَال الْمِلْكِ
إِلَى غَيْرِ الْمُؤَجِّرِ. (2)
اسْتِرْجَاعُ الإِْقْطَاعَاتِ:
22 - إِذَا أَقْطَعَ الإِْمَامُ أَرْضًا مَوَاتًا، وَتَمَّ إِحْيَاؤُهَا،
أَوْ لَمْ تَمْضِ الْمُدَّةُ الْمُقَرَّرَةُ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ
لِلإِْحْيَاءِ، فَلَيْسَ لَهُ
__________
(1) قليوبي وعميرة 3 / 89، 90، ومطالب أولي النهى 4 / 180، وابن عابدين 5 /
278، والمغني 5 / 566، 580 ط السعودية.
(2) ابن عابدين 3 / 266، وقليوبي وعميرة 3 / 92.
(6/85)
اسْتِرْجَاعُ الإِْقْطَاعِ مِنْ
مُقْطَعِهِ، وَكَذَلِكَ إِذَا كَانَ الإِْقْطَاعُ مِنْ بَيْتِ الْمَال
بِشِرَاءٍ مَسُوغٍ أَوْ بِمُقَابِلٍ، لأَِنَّهُ فِي الأَْوَّل يَكُونُ
تَمْلِيكًا بِالإِْحْيَاءِ، وَفِي الثَّانِي يَكُونُ تَمْلِيكًا
بِالشِّرَاءِ فَلاَ يَجُوزُ إِخْرَاجُهُ مِنْهُ إِلاَّ بِحَقِّهِ. (1)
تَرْكُ عِمَارَةِ الأَْرْضِ الْمُقْطَعَةِ:
23 - لاَ يُعَارِضُ الْمُقْطَعُ إِذَا أَهْمَل أَرْضَهُ بِغَيْرِ عِمَارَةٍ
قَبْل طُول انْدِرَاسِهَا. وَقَدَّرَ الْحَنَفِيَّةُ ذَلِكَ بِثَلاَثِ
سِنِينَ، وَهُوَ رَأْيٌ لِلْمَالِكِيَّةِ. وَقَال الْحَنَفِيَّةُ: إِنْ
أَحْيَاهَا غَيْرُهُ قَبْل ذَلِكَ كَانَتْ مِلْكًا لِلْمُقْطَعِ. وَقَال
الْمَالِكِيَّةُ:
إِنْ أَحْيَاهَا عَالِمًا بِالإِْقْطَاعِ كَانَتْ مِلْكًا لِلْمُقْطَعِ،
وَإِنْ أَحْيَاهَا غَيْرَ عَالِمٍ بِالإِْقْطَاعِ، خُيِّرَ الْمُقْطَعُ
بَيْنَ أَخْذِهَا وَإِعْطَاءِ الْمُحْيِي نَفَقَةَ عِمَارَتِهِ، وَبَيْنَ
تَرْكِهَا لِلْمُحْيِي وَالرُّجُوعِ عَلَيْهِ بِقِيمَةِ الأَْرْضِ
الْمُحْيَاةِ. وَقَال سَحْنُونٌ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ: لاَ تَخْرُجُ عَنْ
مِلْكِ مُحْيِيهَا وَلَوْ طَال انْدِرَاسُهَا، وَإِنْ أَعْمَرَهَا غَيْرُهُ
لَمْ تَخْرُجْ عَنْ مِلْكِ الأَْوَّل.
وَلَمْ يَشْتَرِطِ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ مُدَّةً مُعَيَّنَةً،
وَاعْتَبَرُوا الْقُدْرَةَ عَلَى الإِْحْيَاءِ بَدَلاً مِنْهَا. فَإِنْ
مَضَى زَمَانٌ يَقْدِرُ عَلَى إِحْيَائِهَا فِيهِ قِيل لَهُ: إِمَّا أَنْ
تُحْيِيَهَا فَتَقِرَّ فِي يَدِكَ، وَإِمَّا أَنْ تَرْفَعَ يَدَكَ عَنْهَا
لِتَعُودَ إِلَى حَالِهَا قَبْل الإِْقْطَاعِ. وَقَدِ اعْتَبَرَ
الْحَنَابِلَةُ الأَْعْذَارَ الْمَقْبُولَةَ مُسَوِّغًا لِبَقَائِهَا عَلَى
مِلْكِهِ بِدُونِ إِحْيَاءٍ، إِلَى أَنْ يَزُول الْعُذْرُ. وَاسْتَدَل
الْحَنَفِيَّةُ بِأَنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ جَعَل أَجَل
الإِْقْطَاعِ إِلَى ثَلاَثِ سِنِينَ.
__________
(1) المغني 5 / 569، وابن عابدين 5 / 278، والتاج والإكليل على الحطاب 6 /
12، والدسوقي 4 / 69، 70، وقليوبي وعميرة 3 / 90، 91.
(6/86)
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: إِنَّ التَّأْجِيل
لاَ يَلْزَمُ، وَتَأْجِيل عُمَرَ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ لِسَبَبٍ
اقْتَضَاهُ. (1)
وَقْفُ الإِْقْطَاعَاتِ:
24 - إِنَّ وَقْفَ الإِْقْطَاعِ يَدُورُ صِحَّةً وَعَدَمًا عَلَى ثُبُوتِ
الْمِلْكِيَّةِ وَعَدَمِهِ لِلْوَاقِفِ، فَمَنْ أَثْبَتَهَا لَهُ بِوَجْهٍ
مِنَ الْوُجُوهِ حَكَمَ بِصِحَّةِ وَقْفِ الإِْقْطَاعِ، وَمَنْ لَمْ
يُثْبِتْهَا لَمْ يَحْكُمْ بِصِحَّتِهِ. عَلَى أَنَّ لِلإِْمَامِ أَنْ
يَقِفَ شَيْئًا مِنْ بَيْتِ الْمَال عَلَى جِهَةٍ أَوْ شَخْصٍ مُعَيَّنٍ،
مَعَ أَنَّهُ لاَ يَمْلِكُ مَا يَقِفُهُ، إِذَا كَانَ فِي ذَلِكَ
مَصْلَحَةٌ. (2)
الإِْقْطَاعُ بِشَرْطِ الْعِوَضِ:
25 - الأَْصْل فِي إِقْطَاعِ التَّمْلِيكِ: أَنْ يَكُونَ مُجَرَّدًا عَنِ
الْعِوَضِ، فَإِنْ أَقْطَعَهُ الإِْمَامُ عَلَى أَنَّ عَلَيْهِ كَذَا أَوْ
كُل عَامٍ كَذَا - جَازَ وَعُمِل بِهِ، وَمَحَل الْعِوَضِ الْمَأْخُوذِ
بَيْتُ مَال الْمُسْلِمِينَ، لاَ يَخْتَصُّ الإِْمَامُ بِهِ، لِعَدَمِ
مِلْكِهِ لِمَا أَقْطَعَهُ، وَهُوَ رَأْيُ الْحَنَفِيَّةِ
وَالْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ وَرَأْيٌ لِلشَّافِعِيَّةِ، حَيْثُ
إِنَّ لِلإِْمَامِ أَنْ يَفْعَل مَا يَرَاهُ مَصْلَحَةً لِلْمُسْلِمِينَ.
وَهُنَاكَ رَأْيٌ لِلشَّافِعِيَّةِ بِخِلاَفِهِ، وَعَلَّلُوهُ بِأَنَّ
الإِْقْطَاعَ عَطِيَّةٌ وَهِبَةٌ وَصِلَةٌ وَلَيْسَ بَيْعًا،
وَالأَْثْمَانُ مِنْ صِفَةِ الْبَيْعِ. (3)
__________
(1) الأحكام السلطانية لأبي يعلى ص 213، والأحكام السلطانية للماوردي ص 217
ط التوفيقية، والدسوقي 4 / 66، وابن عابدين 5 / 278.
(2) ابن عابدين 266، و 392، وتحفة المحتاج 214 و 6 / 237 ط دار صادر،
والدسوقي 4 / 68 ط عيسى الحلبي، والمغني 5 / 427 ط مكتبة القاهرة.
(3) الخراج لأبي يوسف ص 69، والدسوقي 4 / 68، والأحكام السلطانية لأبي يعلى
ص 216، والأحكام السلطانية للماوردي ص 220.
(6/86)
أَقْطَعُ
التَّعْرِيفُ:
1 - الأَْقْطَعُ لُغَةً: مَقْطُوعُ الْيَدِ (1) .
وَعِنْدَ الْفُقَهَاءِ: يُسْتَعْمَل فِي مَقْطُوعِ الْيَدِ أَوِ الرِّجْل.
(2) وَفِي الْعَمَل النَّاقِصِ أَوْ قَلِيل الْبَرَكَةِ (3) .
الْحُكْمُ الإِْجْمَالِيُّ وَمَوَاطِنُ الْبَحْثِ:
2 - كُل أَمْرٍ لاَ يُبْدَأُ فِيهِ بِبِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ
الرَّحِيمِ فَهُوَ أَقْطَعُ (4) كَمَا وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ.
3 - وَالْمُكَلَّفُ إِنْ كَانَ مَقْطُوعَ الْيَدِ أَوِ الرِّجْل يَسْقُطُ
عَنْهُ الْجِهَادُ إِنْ كَانَ فَرْضَ كِفَايَةٍ، لأَِنَّهُ إِذَا سَقَطَ
عَنِ الأَْعْرَجِ فَالأَْقْطَعُ أَوْلَى، وَلأَِنَّهُ يَحْتَاجُ إِلَى
الرِّجْلَيْنِ فِي الْمَشْيِ، وَالْيَدَيْنِ لِيَتَّقِيَ بِأَحَدِهِمَا
وَيَضْرِبَ بِالأُْخْرَى. (5)
__________
(1) المصباح المنير مادة: " قطع ".
(2) حاشية أبي السعود على ملا مسكين 2 / 418 ط جمعية المعارف، والقليوبي 4
/ 216 ط الخليج، والكافي لابن قدامة 3 / 252.
(3) الشرح الصغير 1 / 3 ط دار المعارف، وشرح الروض 1 / 3 ط الميمنية، ومنار
السبيل شرح الدليل 1 / 5 ط مؤسسة دار السلام.
(4) المراجع السابقة. وحديث: " كل أمر لا يبدأ فيه ببسم الله الرحمن الرحيم
فهو أقطع ". أخرجه عبد القادر الرهاوي
كما في فيض القدير (5 / 13 - ط المكتبة التجارية) ونقل المناوي عن ابن حجر
أنه قال: فيه مقال.
(5) حاشية أبي السعود على ملا مسكين 2 / 418، والدسوقي 2 / 175 نشر دار
الفكر، والقليوبي 4 / 216، والكافي لابن قدامة 3 / 252.
(6/87)
وَمِنَ الْفُقَهَاءِ مَنْ يَجْعَل بَعْضَ
الأَْمْرَاضِ الَّتِي تُصِيبُ الْيَدَ أَوِ الرِّجْل عُذْرًا يَمْنَعُ
الْخُرُوجَ لِلْقِتَال كَذَلِكَ.
4 - وَمَنْ قُطِعَتْ يَدُهُ أَوْ رِجْلُهُ يَسْقُطُ عَنْهُ فَرْضُ غَسْل
الْعُضْوِ الْمَقْطُوعِ فِي الْوُضُوءِ وَالْغُسْل (ر: وُضُوء، غُسْل) .
5 - وَقَطْعُ الْيَدِ وَالرِّجْل صِفَةُ نَقْصٍ فِي إِمَامِ الصَّلاَةِ،
وَلِذَلِكَ كَرِهَ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ إِمَامَتَهُ لِغَيْرِهِ، وَمِنْهُمْ
مَنْ مَنَعَهَا، وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي شُرُوطِ الإِْمَامَةِ. (1)
6 - وَإِنْ قَطَعَ الأَْقْطَعَ مِنْ غَيْرِهِ عُضْوًا مُمَاثِلاً
لِلْعُضْوِ الْمَقْطُوعِ أَوْ غَيْرَ مُمَاثِلٍ فَفِي ذَلِكَ تَفْصِيلٌ
يُنْظَرُ فِي (قِصَاص) . وَكَذَلِكَ إِذَا سَرَقَ فَفِي إِقَامَةِ الْحَدِّ
عَلَيْهِ تَفْصِيلٌ: (ر: سَرِقَة) .
إِقْعَاءٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الإِْقْعَاءُ عِنْدَ الْعَرَبِ: إِلْصَاقُ الأَْلْيَتَيْنِ
بِالأَْرْضِ، وَنَصْبُ السَّاقَيْنِ وَوَضْعُ الْيَدَيْنِ عَلَى الأَْرْضِ،
وَقَال ابْنُ الْقَطَّاعِ: أَقْعَى الْكَلْبُ: جَلَسَ عَلَى أَلْيَتَيْهِ
وَنَصَبَ فَخِذَيْهِ، وَأَقْعَى الرَّجُل: جَلَسَ تِلْكَ الْجِلْسَةَ. (2)
وَلِلْفُقَهَاءِ فِي الإِْقْعَاءِ تَفْسِيرَانِ:
الأَْوَّل: نَحْوُ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ، وَهُوَ اخْتِيَارُ
__________
(1) المغني 2 / 195، والخرشي 2 / 27، والزرقاني على خليل 8 / 18.
(2) المصباح ومختار الصحاح مادة: " قعي ".
(6/87)
الطَّحَاوِيِّ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ. (1)
وَالثَّانِي: أَنْ يَضَعَ أَلْيَتَيْهِ عَلَى عَقِبَيْهِ، وَيَضَعَ
يَدَيْهِ عَلَى الأَْرْضِ، وَهُوَ اخْتِيَارُ الْكَرْخِيِّ مِنَ
الْحَنَفِيَّةِ. (2)
وَجِلْسَةُ الإِْقْعَاءِ غَيْرُ التَّوَرُّكِ وَالاِفْتِرَاشِ،
فَالاِفْتِرَاشُ أَنْ يَجْلِسَ عَلَى كَعْبِ يُسْرَاهُ بِحَيْثُ يَلِي
ظَهْرُهَا الأَْرْضَ وَيَنْصِبَ يُمْنَاهُ، (3) وَيُخْرِجَهَا مِنْ
تَحْتِهِ، وَيَجْعَل بُطُونَ أَصَابِعِهَا عَلَى الأَْرْضِ مُعْتَمِدًا
عَلَيْهَا لِتَكُونَ أَطْرَافُ أَصَابِعِهِ إِلَى الْقِبْلَةِ. (4)
وَالتَّوَرُّكُ إِفْضَاءُ أَلْيَةِ وَوَرِكِ وَسَاقِ الرِّجْل الْيُسْرَى
لِلأَْرْضِ، وَنَصْبُ الرِّجْل الْيُمْنَى عَلَى الْيُسْرَى، وَبَاطِنِ
إِبْهَامِ الْيُمْنَى لِلأَْرْضِ، فَتَصِيرُ رِجْلاَهُ مَعًا مِنَ
الْجَانِبِ الأَْيْمَنِ (5) .
الْحُكْمُ الإِْجْمَالِيُّ:
2 - الإِْقْعَاءُ بِالْمَعْنَى الأَْوَّل مَكْرُوهٌ فِي الصَّلاَةِ عِنْدَ
أَكْثَرِ الْفُقَهَاءِ، (6) لِمَا رُوِيَ أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنِ الإِْقْعَاءِ فِي الصَّلاَةِ. (7)
وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ: الإِْقْعَاءُ بِهَذِهِ
__________
(1) شرح الروض 1 / 147، والجمل على المنهج 1 / 341، وابن عابدين 1 / 432 ط
بولاق الأولى، وجواهر الإكليل 1 / 54 نشر مكة.
(2) جواهر الإكليل 1 / 54، والخرشي مع حاشية العدوي 1 / 293 نشر دار صادر،
وابن عابدين 1 / 432. وشرح الروض 1 / 147، والمغني 1 / 524 ط الرياض.
(3) الجمل على المنهج 1 / 383.
(4) المغني 1 / 523.
(5) جواهر الإكليل 1 / 51.
(6) شرح الروض 1 / 147، وابن عابدين 1 / 350. والمغني 1 / 524.
(7) شرح الروض 1 / 147. وحديث " نهى عن الإقعاء في الصلاة " أخرجه الحاكم
(1 / 272 - ط دائرة المعارف العثمانية) وصححه الحاكم ووافقه الذهبي.
(6/88)
الصُّورَةِ حَرَامٌ، وَلَكِنْ لاَ تَبْطُل
بِهِ الصَّلاَةُ. (1)
وَأَمَّا الإِْقْعَاءُ بِالْمَعْنَى الثَّانِي فَمَكْرُوهٌ أَيْضًا عِنْدَ
الْحَنَفِيَّةِ، وَالْمَالِكِيَّةِ، وَالْحَنَابِلَةِ، إِلاَّ أَنَّ
الْكَرَاهَةَ تَنْزِيهِيَّةٌ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ. (2) اسْتَدَل
الْحَنَابِلَةُ عَلَى هَذَا الرَّأْيِ بِمَا رَوَاهُ الْحَارِثُ عَنْ
عَلِيٍّ قَال: قَال رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لاَ
تُقْعِ بَيْنَ السَّجْدَتَيْنِ. (3)
وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ: الإِْقْعَاءُ بِهَذِهِ الْكَيْفِيَّةِ بَيْنَ
السَّجْدَتَيْنِ سُنَّةٌ، فَفِي مُسْلِمٍ الإِْقْعَاءُ سُنَّةُ نَبِيِّنَا
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (4) وَفَسَّرَهُ الْعُلَمَاءُ بِهَذَا،
وَنَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ فِي الْبُوَيْطِيِّ وَالإِْمْلاَءِ فِي
الْجُلُوسِ بَيْنَ السَّجْدَتَيْنِ، (5) وَنُقِل عَنْ أَحْمَدَ بْنِ
حَنْبَلٍ أَنَّهُ قَال: لاَ أَفْعَل وَلاَ أَعِيبُ مَنْ فَعَلَهُ، وَقَال:
الْعَبَادِلَةُ كَانُوا يَفْعَلُونَهُ. (6)
أَمَّا الإِْقْعَاءُ فِي الأَْكْل فَلاَ يُكْرَهُ (7) ، رَوَى أَنَسٌ
__________
(1) جواهر الإكليل 1 / 54، وحاشية الدسوقي والشرح الكبير 1 / 234.
(2) ابن عابدين 1 / 432، وجواهر الإكليل 1 / 54، الخرشي 1 / 293 والمغني 1
/ 524.
(3) المغني 1 / 524 وحديث " لا تقع بين السجدتين " أخرجه ابن ماجه (1 / 289
- ط الحلبي) والترمذي (2 / 72 - ط الحلبي) وقال الترمذي: هذا حديث لا نعرفه
من حديث علي إلا من حديث أبي إسحاق عن الحارث عن علي، وقد ضعف أهل العلم
الحارث الأعور.
(4) حديث: " الإقعاء سنة نبينا صلى الله عليه وسلم " أخرجه مسلم (1 / 380 -
381 - ط الحلبي)
(5) شرح الروض 1 / 147.
(6) المغني 1 / 524.
(7) دليل الفالحين 3 / 232 ط مصطفى الحلبي الثالثة.
(6/88)
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَال: رَأَيْتُ
رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَالِسًا مُقْعِيًا
يَأْكُل تَمْرًا. (1)
أَقْلَفُ
التَّعْرِيفُ:
1 - الأَْقْلَفُ: هُوَ الَّذِي لَمْ يُخْتَنْ، (2) وَالْمَرْأَةُ
قَلْفَاءُ، وَالْفُقَهَاءُ يَخُصُّونَ أَحْكَامَ الأَْقْلَفِ بِالرَّجُل
دُونَ الْمَرْأَةِ.
وَيُقَابِل الأَْقْلَفَ فِي الْمَعْنَى - الْمَخْتُونُ.
وَإِزَالَةُ الْقُلْفَةِ مِنَ الأَْقْلَفِ تُسَمَّى خِتَانًا فِي الرَّجُل،
وَخَفْضًا فِي الْمَرْأَةِ.
حُكْمُهُ التَّكْلِيفِيُّ:
2 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ إِزَالَةَ الْقُلْفَةِ مِنَ
الأَْقْلَفِ مِنْ سُنَنِ الْفِطْرَةِ، لِتَضَافُرِ الأَْحَادِيثِ عَلَى
ذَلِكَ، وَمِنْهَا قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
الْفِطْرَةُ خَمْسٌ: الْخِتَانُ، وَالاِسْتِحْدَادُ، وَقَصُّ الشَّارِبِ،
وَتَقْلِيمُ الأَْظَافِرِ، وَنَتْفُ الإِْبْطِ. (3) كَمَا سَيَأْتِي
تَفْصِيل ذَلِكَ فِي (خِتَان) .
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَأَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ إِلَى أَنَّ الْخِتَانَ
__________
(1) عن أنس: " رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم جالسا مقعيا يأكل تمرا. .
. " أخرجه مسلم (3 / 1616 - ط الحلبي) .
(2) المصباح المنير، ومواهب الجليل 2 / 105 طبع دار الفكر - بيروت.
(3) تحفة الودود في أحكام المولود ص 114 طبع مطبعة الإمام. وحديث: " الفطرة
خمس: الختان، والاستحداد، وقص الشارب. . . " أخرجه مسلم (1 / 221 - ط
الحلبي) .
(6/89)
فَرْضٌ. وَهُوَ قَوْل ابْنِ عَبَّاسٍ
وَعَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ وَالشَّعْبِيِّ وَرَبِيعَةَ الرَّأْيِ
وَالأَْوْزَاعِيِّ وَيَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ وَغَيْرِهِمْ، وَعَلَى هَذَا
فَإِنَّ الأَْقْلَفَ تَارِكُ فَرْضٍ، وَمِنْهُمْ مَنْ ذَهَبَ إِلَى أَنَّهُ
سُنَّةٌ كَأَبِي حَنِيفَةَ وَالْمَالِكِيَّةِ، وَهُوَ قَوْل الْحَسَنِ
الْبَصْرِيِّ (1)
3 - يَخْتَصُّ الأَْقْلَفُ بِبَعْضِ الأَْحْكَامِ:
أ - رَدُّ شَهَادَتِهِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ إِنْ كَانَ تَرْكُهُ
الاِخْتِتَانَ لِغَيْرِ عُذْرٍ. وَهُوَ مَا يُفْهَمُ مِنْ مَذْهَبَيِ
الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، لأَِنَّهُمْ يَقُولُونَ بِوُجُوبِ
الاِخْتِتَانِ، وَتَرْكُ الْوَاجِبِ فِسْقٌ، وَشَهَادَةُ الْفَاسِقِ
مَرْدُودَةٌ. وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى كَرَاهَةِ شَهَادَتِهِ. (2)
ب - جَوَازُ ذَبِيحَةِ الأَْقْلَفِ وَصَيْدِهِ، لأَِنَّهُ لاَ أَثَرَ
لِلْفِسْقِ فِي الذَّبِيحَةِ وَالصَّيْدِ، وَلِذَلِكَ فَقَدْ ذَهَبَ
الْجُمْهُورُ - وَهُوَ الصَّحِيحُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ - إِلَى أَنَّ
ذَبِيحَةَ الأَْقْلَفِ وَصَيْدَهُ يُؤْكَلاَنِ، لأَِنَّ ذَبِيحَةَ
النَّصْرَانِيِّ تُؤْكَل فَهَذَا أَوْلَى.
وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَعِكْرِمَةَ وَأَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ
أَنَّ ذَبِيحَةَ الأَْقْلَفِ لاَ تُؤْكَل، وَقَدْ بَيَّنَ الْفُقَهَاءُ
ذَلِكَ فِي كِتَابِ الذَّبَائِحِ وَالصَّيْدِ. (3)
__________
(1) انظر: تحفة الودود في أحكام المولود ص 116، وأسنى المطالب 4 / 164،
والمغني 1 / 85، وأسهل المدارك شرح إرشاد السالك 3 / 364 ط الثانية عيسى
البابي الحلبي، والثمر الداني للآبي ص 500 ط الثانية مصطفى البابي الحلبي،
وحاشية ابن عابدين 5 / 478 طبعة بولاق الأولى.
(2) الدر المختار بحاشية ابن عابدين 4 / 377، وأسهل المدارك 3 / 364، وأسنى
المطالب 4 / 339، والبجيرمي على الخطيب 4 / 292، والمغني 9 / 165، والإنصاف
في مسائل الخلاف 2 / 256 - 257 و12 / 43، 44.
(3) ابن عابدين 5 / 189، والتاج والإكليل 3 / 207، والمجموع 9 / 78 نشر
المكتبة السلفية، والمغني 8 / 567، وتحفة الودود ص143.
(6/89)
ج - إِذَا كَانَ الاِخْتِتَانُ - إِزَالَةُ
الْقُلْفَةِ - فَرْضًا، أَوْ سُنَّةً، فَلَوْ أَزَالَهَا إِنْسَانٌ
بِغَيْرِ إِذْنِ صَاحِبِهَا فَلاَ ضَمَانَ عَلَيْهِ. (1)
د - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ إِذَا كَانَ هُنَاكَ حَرَجٌ فِي
غَسْل مَا تَحْتَ الْقُلْفَةِ فَلاَ يُطْلَبُ تَطْهِيرُهَا دَفْعًا
لِلْحَرَجِ.
أَمَّا إِذَا كَانَ تَطْهِيرُهَا مُمْكِنًا مِنْ غَيْرِ حَرَجٍ
فَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ يُوجِبُونَ تَطْهِيرَ مَا تَحْتَ
الْقُلْفَةِ فِي الْغُسْل وَالاِسْتِنْجَاءِ، (2) لأَِنَّهَا وَاجِبَةُ
الإِْزَالَةِ، وَمَا تَحْتَهَا لَهُ حُكْمُ الظَّاهِرِ.
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى اسْتِحْبَابِ غَسْلِهَا فِي الْغُسْل
وَالاِسْتِنْجَاءِ، وَيُفْهَمُ مِنْ عِبَارَةِ مَوَاهِبِ الْجَلِيل أَنَّ
الْمَالِكِيَّةَ لاَ يَرَوْنَ وُجُوبَ غَسْل مَا تَحْتَ الْقُلْفَةِ. (3)
هـ - ذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ، وَهُمْ مَنْ يَقُولُونَ
بِوُجُوبِ تَطْهِيرِ مَا تَحْتَ الْقُلْفَةِ، إِلَى أَنَّهُ إِذَا لَمْ
يَغْسِل مَا تَحْتَهَا لاَ تَصِحُّ طَهَارَتُهُ، وَبِالتَّالِي لاَ تَصِحُّ
إِمَامَتُهُ.
وَأَمَّا الْحَنَفِيَّةُ فَتَصِحُّ إِمَامَتُهُ عِنْدَهُمْ مَعَ
الْكَرَاهَةِ التَّنْزِيهِيَّةِ، وَالْمَالِكِيَّةُ يَرَوْنَ جَوَازَ
إِمَامَةِ الأَْقْلَفِ، وَلَكِنَّهُمْ يَرَوْنَ كَرَاهَةَ تَعْيِينِهِ
إِمَامًا رَاتِبًا، وَمَعَ هَذَا لَوْ صَلَّى النَّاسُ خَلْفَهُ لَمْ
يُعِيدُوا صَلاَتَهُمْ. (4)
__________
(1) أسنى المطالب 1 / 69.
(2) حاشية ابن عابدين 1 / 103، وأسنى المطالب 1 / 69، وحاشية الجمل 1 /
161، والإنصاف 2 / 256.
(3) مواهب الجليل 2 / 105 - الطبعة الثانية.
(4) تحفة الودود ص 119، ومواهب الجليل 2 / 105، وجواهر الإكليل 1 / 79،
والإنصاف في مسائل الخلاف 2 / 256 - 257.
(6/90)
أَقَل الْجَمْعِ
التَّعْرِيفُ:
1 - الْجَمْعُ فِي اللُّغَةِ: تَأْلِيفُ الْمُتَفَرِّقِ، وَضَمُّ الشَّيْءِ
بِتَقْرِيبِ بَعْضِهِ مِنْ بَعْضٍ. (1)
وَفِي اصْطِلاَحِ النُّحَاةِ وَالصَّرْفِيِّينَ: اسْمٌ دَل عَلَى جُمْلَةِ
آحَادٍ مَقْصُودَةٍ بِحُرُوفِ مُفْرَدِهِ بِتَغَيُّرٍ مَا (2) .
وَفِيمَا يُفِيدُهُ أَقَل الْجَمْعِ مِنْ حَيْثُ الْعَدَدُ آرَاءٌ:
أ - رَأْيُ النُّحَاةِ وَالصَّرْفِيِّينَ:
2 - أَفَادَ الرَّضِيُّ فِي الْكَافِيَةِ أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ إِطْلاَقُ
الْجَمْعِ عَلَى الْوَاحِدِ وَالاِثْنَيْنِ، فَلاَ يَقَعُ رِجَالٌ عَلَى
رَجُلٍ وَلاَ رَجُلَيْنِ (3) .، وَصَرَّحَ ابْنُ يَعِيشَ بِأَنَّ الْقَلِيل
الَّذِي جُعِل الْقِلَّةُ لَهُ هُوَ الثَّلاَثَةُ فَمَا فَوْقَهَا إِلَى
الْعَشَرَةِ. (4)
ب - رَأْيُ الأُْصُولِيِّينَ وَالْفُقَهَاءِ:
3 - ذَكَرَ الأُْصُولِيُّونَ الْخِلاَفَ فِي أَقَل عَدَدٍ تُطْلَقُ
عَلَيْهِ صِيغَةُ الْجَمْعِ، فَجَاءَ فِي التَّلْوِيحِ، وَنَحْوِهِ فِي
مُسَلَّمِ الثُّبُوتِ: أَنَّ أَكْثَرَ الصَّحَابَةِ وَالْفُقَهَاءِ
وَأَئِمَّةِ اللُّغَةِ ذَهَبُوا إِلَى أَنَّ أَقَل الْجَمْعِ ثَلاَثَةٌ،
فَلاَ يَصِحُّ الإِْطْلاَقُ
__________
(1) تاج العروس ولسان العرب.
(2) كشاف اصطلاحات الفنون.
(3) شرح الكافية 2 / 178 ط إستامبول.
(4) شرح المفصل 5 / 9.
(6/90)
عَلَى أَقَل مِنْهُ إِلاَّ مَجَازًا،
حَتَّى لَوْ حَلَفَ لاَ يَتَزَوَّجُ نِسَاءً لاَ يَحْنَثُ بِتَزَوُّجِ
امْرَأَتَيْنِ.
وَذَهَبَ بَعْضُهُمْ كَحُجَّةِ الإِْسْلاَمِ الْغَزَالِيِّ، وَسِيبَوَيْهِ
مِنَ النُّحَاةِ، إِلَى أَنَّ أَقَل الْجَمْعِ اثْنَانِ حَقِيقَةً، حَتَّى
يَحْنَثَ بِتَزَوُّجِ امْرَأَتَيْنِ.
وَقِيل: لاَ يَصِحُّ لِلاِثْنَيْنِ لاَ حَقِيقَةً وَلاَ مَجَازًا.
وَبَعْدَ عَرْضِ أَدِلَّةِ كُل فَرِيقٍ، وَالرَّدِّ عَلَيْهَا، يَذْكُرُ
صَاحِبَا التَّلْوِيحِ وَمُسَلَّمِ الثُّبُوتِ أَنَّ النِّزَاعَ لَيْسَ فِي
لَفْظِ الْجَمْعِ الْمُؤَلَّفِ مِنْ (ج م ع) وَإِنَّمَا النِّزَاعُ فِي
الْمُسَمَّى، أَيْ فِي الصِّيَغِ الْمُسَمَّاةِ بِهِ، كَرِجَالٍ
وَمُسْلِمِينَ. (1)
وَذَكَرَ الْقُرْطُبِيُّ عِنْدَ تَفْسِيرِ قَوْله تَعَالَى: {فَإِنْ كَانَ
لَهُ إِخْوَةٌ فَلأُِمِّهِ السُّدُسُ} (2) أَنَّ أَقَل الْجَمْعِ اثْنَانِ،
لأَِنَّ التَّثْنِيَةَ جَمْعُ شَيْءٍ إِلَى مِثْلِهِ، وَاسْتَدَل بِرَأْيِ
سِيبَوَيْهِ فِيمَا يَرْوِيهِ عَنِ الْخَلِيل.
وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْقُرْطُبِيَّ أَرَادَ بِقَوْلِهِ: إِنَّ أَقَل
الْجَمْعِ اثْنَانِ - الْمِيرَاثَ؛ لأَِنَّهُ قَال بَعْدَ ذَلِكَ:
وَمِمَّنْ قَال: إِنَّ أَقَل الْجَمْعِ ثَلاَثَةٌ - وَإِنْ لَمْ يَقُل بِهِ
هُنَا - (يَقْصِدُ الْمِيرَاثَ) ابْنُ مَسْعُودٍ وَالشَّافِعِيُّ وَأَبُو
حَنِيفَةَ وَغَيْرُهُمْ. (3)
وَبِالنَّظَرِ فِي أَبْوَابِ الْفِقْهِ الْمُخْتَلِفَةِ نَجِدُ أَنَّ أَقَل
الْجَمْعِ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ ثَلاَثَةٌ فَصَاعِدًا عَدَا الْمِيرَاثَ،
(4) وَسَيَأْتِي بَيَانُ ذَلِكَ.
__________
(1) التلويح على التوضيح 1 / 50 ط صبيح، ومسلم الثبوت 1 / 269.
(2) سورة النساء / 11.
(3) تفسير القرطبي 5 / 72، 73 ط دار الكتب.
(4) منتهى الإرادات 2 / 514، 561 ط دار الفكر، والمهذب 1 / 452، 464 ط دار
المعرفة، ومنح الجليل 1 / 677 و3 / 413 ط النجاح ليبيا، وابن عابدين3 /
112، و4 / 469 ط بولاق ثالثة.
(6/91)
ج - رَأْيُ الْفَرْضِيِّينَ:
4 - الْفَرَضِيُّونَ - عَدَا ابْنَ عَبَّاسٍ - يَعْتَبِرُونَ أَنَّ أَقَل
الْجَمْعِ اثْنَانِ، فَقَدْ جَاءَ فِي الْعَذْبِ الْفَائِضِ عِنْدَ
الْكَلاَمِ عَلَى مِيرَاثِ الأُْمِّ مَعَ الإِْخْوَةِ أَنَّ أَقَل
الْجَمْعِ اثْنَانِ، قَال ابْنُ سُرَاقَةَ وَقَدْ وَرَدَ ذَلِكَ فِي
الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {هَذَانِ خَصْمَانِ
اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ} (1) . يُرِيدُ اخْتَصَمَا، ثُمَّ قَال: وَمِنْ
أَهْل اللُّغَةِ مَنْ يَجْعَل الاِثْنَيْنِ جَمْعًا حَقِيقَةً، وَقَدْ
حُكِيَ عَنِ الْفَرَّاءِ أَنَّهُ قَال: أَوَّل الْجَمْعِ التَّثْنِيَةُ،
وَهُوَ الأَْصْل فِي اللُّغَةِ، وَالاِثْنَانِ مِنْ جِنْسِ الإِْخْوَةِ
يَرُدَّانِ الأُْمَّ إِلَى السُّدُسِ (2) وَجَاءَ فِي السِّرَاجِيَّةِ
أَنَّ حُكْمَ الاِثْنَيْنِ فِي الْمِيرَاثِ حُكْمُ الْجَمَاعَةِ، فَحُكْمُ
الْبِنْتَيْنِ وَالأُْخْتَيْنِ كَحُكْمِ الْبَنَاتِ وَالأَْخَوَاتِ فِي
اسْتِحْقَاقِ الثُّلُثَيْنِ، فَكَذَا فِي الْحَجْبِ. (3)
وَهَذَا الْحُكْمُ لَمْ يُخَالِفْ فِيهِ سِوَى ابْنِ عَبَّاسٍ.
مَا يَتَفَرَّعُ عَلَى هَذِهِ الْقَاعِدَةِ:
أَوَّلاً - عِنْدَ الْفُقَهَاءِ:
5 - يَبْنِي الْفُقَهَاءُ أَحْكَامَهُمْ عَلَى اعْتِبَارِ أَنَّ أَقَل
الْجَمْعِ ثَلاَثَةٌ، وَهَذَا فِيمَا يُسْتَعْمَل فِيهِ مِنَ الْمَسَائِل
الْفِقْهِيَّةِ الْمُتَفَرِّقَةِ عَدَا مَسَائِل الْمِيرَاثِ، عِنْدَ
جَمِيعِ الْفُقَهَاءِ، وَالْوَصِيَّةُ كَذَلِكَ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ،
فَتُبْنَى الأَْحْكَامُ فِيهَا بِاعْتِبَارِ أَنَّ أَقَل الْجَمْعِ
اثْنَانِ، وَذَلِكَ كَمَا جَاءَ فِي عِبَارَاتِهِمْ.
وَيَجِبُ أَنْ يُلاَحَظَ أَنَّ الْمَقْصُودَ هُوَ الْجَمْعُ الْمُنَكَّرُ
__________
(1) سورة الحج / 19.
(2) العذب الفائض شرح عمدة الفارض 1 / 56 ط مصطفى الحلبي.
(3) شرح السراجية ص 129 ط الكردي.
(6/91)
كَمَا سَنَرَى فِي الأَْمْثِلَةِ، إِذْ
هُوَ الَّذِي يَتِمُّ الْحُكْمُ بِانْطِبَاقِهِ عَلَى ثَلاَثَةٍ مِنْ
أَفْرَادِهِ بِاعْتِبَارِهَا أَقَل مَا يَنْطَبِقُ عَلَيْهِ.
الأَْمْثِلَةُ فِي غَيْرِ الْمِيرَاثِ:
6 - أ - فِي الْوَصِيَّةِ: مَنْ وَصَّى بِكَفَّارَةِ أَيْمَانٍ فَأَقَل مَا
يَجِبُ لِتَنْفِيذِ هَذِهِ الْوَصِيَّةِ أَنْ يُكَفَّرَ عَنْ ثَلاَثَةِ
أَيْمَانٍ، لأَِنَّ الثَّلاَثَةَ أَقَل الْجَمْعِ، وَهَذَا عِنْدَ
الْجُمْهُورِ. (1) أَمَّا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ فَيَجِبُ التَّكْفِيرُ
عَنْ يَمِينَيْنِ فَصَاعِدًا، اعْتِبَارًا لِمَعْنَى الْجَمْعِ،
وَأَقَلُّهُ اثْنَانِ فِي الْوَصِيَّةِ، وَالْوَصِيَّةُ أُخْتُ
الْمِيرَاثِ، وَفِي الْمِيرَاثِ أَقَل الْجَمْعِ اثْنَانِ. (2)
ب - فِي الْوَقْفِ: مَنْ وَقَفَ لِجَمَاعَةٍ أَوْ لِجَمْعٍ مِنْ أَقْرَبِ
النَّاسِ إِلَيْهِ صُرِفَ رِيعُ الْوَقْفِ إِلَى ثَلاَثَةٍ، لأَِنَّهَا
أَقَل الْجَمْعِ، فَإِنْ لَمْ يَبْلُغْ أَقْرَبُ النَّاسِ إِلَيْهِ
ثَلاَثَةً يُتَمَّمُ الْعَدَدُ مِمَّا بَعْدَ الدَّرَجَةِ الأُْولَى.
فَمَثَلاً: إِنْ كَانَ لِمَنْ وَقَفَ ابْنَانِ وَأَوْلاَدُ ابْنٍ،
فَإِنَّهُ يَخْرُجُ مِنْ أَوْلاَدِ ابْنِهِ وَاحِدٌ مِنْهُمْ
بِالْقُرْعَةِ. وَيُضَمُّ لِلاِبْنَيْنِ وَيُعْطَوْنَ الْوَقْفَ. (3)
ج - فِي الإِْقْرَارِ: لَوْ قَال: لَهُ عِنْدِي دَرَاهِمُ، لَزِمَهُ
ثَلاَثَةُ دَرَاهِمَ، لأَِنَّهُ جَمْعٌ، وَأَقَل الْجَمْعِ ثَلاَثَةٌ. (4)
د - فِي الْيَمِينِ: مَنْ حَلَفَ عَلَى تَرْكِ شَيْءٍ، أَوْ عَلَى أَلاَّ
يُكَلِّمَ غَيْرَهُ أَيَّامًا أَوْ شُهُورًا أَوْ سِنِينَ، مُنَكِّرًا
__________
(1) منتهى الإرادات 2 / 561، والمهذب 1 / 464.
(2) الاختيار 5 / 78 ط دار المعرفة، والهداية 4 / 251.
(3) منتهى الإرادات 2 / 514، والمهذب 1 / 452.
(4) منح الجليل 33 / 413، والمهذب 2 / 349، والمنثور في القواعد للزركشي 2
/ 12 ط الأوقاف بالكويت، وابن عابدين 4 / 469، 470، والمغني 5 / 174.
(6/92)
لَفْظَ الأَْيَّامِ وَالشُّهُورِ
وَالسِّنِينَ لَزِمَهُ ثَلاَثَةٌ، لأَِنَّهُ أَقَل الْجَمْعِ. (1)
7 - أَمَّا بِالنِّسْبَةِ لِلْمِيرَاثِ فَتُبْنَى الأَْحْكَامُ فِيهِ
بِاعْتِبَارِ أَنَّ أَقَل الْجَمْعِ اثْنَانِ. وَيَتَّضِحُ ذَلِكَ فِي
مِيرَاثِ الأُْمِّ مَعَ الإِْخْوَةِ، فَقَدْ أَجْمَعَ أَهْل الْعِلْمِ -
إِلاَّ مَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - عَلَى أَنَّ الأَْخَوَيْنِ
(فَصَاعِدًا) ذُكُورًا كَانُوا أَوْ إِنَاثًا يَحْجُبَانِ الأُْمَّ عَنِ
الثُّلُثِ إِلَى السُّدُسِ، عَمَلاً بِظَاهِرِ قَوْله تَعَالَى: {فَإِنْ
كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلأُِمِّهِ السُّدُسُ} . لأَِنَّ أَقَل الْجَمْعِ
هُنَا اثْنَانِ، وَقَدْ قَال الزَّمَخْشَرِيُّ: لَفْظُ الإِْخْوَةِ هُنَا
يَتَنَاوَل الأَْخَوَيْنِ، لأَِنَّ الْجَمْعَ مِنَ الاِجْتِمَاعِ،
وَأَنَّهُ يَتَحَقَّقُ بِاجْتِمَاعِ الاِثْنَيْنِ. وَلأَِنَّ الْجَمْعَ
يُذْكَرُ بِمَعْنَى التَّثْنِيَةِ كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى: {فَقَدْ
صَغَتْ قُلُوبُكُمَا} (2) هَذَا رَأْيُ الْجُمْهُورِ.
وَخَالَفَ فِي ذَلِكَ ابْنُ عَبَّاسٍ فَجَعَل الاِثْنَيْنِ مِنَ
الإِْخْوَةِ فِي حُكْمِ الْوَاحِدِ وَلاَ يَحْجُبُ الأُْمَّ أَقَل مِنْ
ثَلاَثٍ، لِظَاهِرِ الآْيَةِ، وَقَدْ وَقَعَ الْكَلاَمُ فِي ذَلِكَ بَيْنَ
عُثْمَانَ وَابْنِ عَبَّاسٍ، فَقَال لَهُ عُثْمَانُ: إِنَّ قَوْمَكَ
(يَعْنِي قُرَيْشًا) حَجَبُوهَا - يَعْنِي الأُْمَّ - وَهُمْ أَهْل
الْفَصَاحَةِ وَالْبَلاَغَةِ (3) .
ثَانِيًا - عِنْدَ الأُْصُولِيِّينَ:
8 - ذَكَرَ الأُْصُولِيُّونَ الْخِلاَفَ فِي مُسَمَّى الْجَمْعِ، وَهَل
يُطْلَقُ عَلَى الثَّلاَثَةِ فَأَكْثَرَ، أَوْ يَصِحُّ أَنْ يُطْلَقَ
__________
(1) منح الجليل 1 / 677 وابن عابدين 3 / 112.
(2) سورة التحريم / 4.
(3) شرح السراجية ص 129، وشرح الرحبية ج 40، والعذب الفائض 1 / 56، وحاشية
البغوي ص 19، والقرطبي 5 / 72، 73 ومنح الجليل 3 / 704 والمهذب 2 / 27،
والاختيار 5 / 90 ومنتهى الإرادات 2 / 585.
(6/92)
عَلَى الاِثْنَيْنِ عَلَى نَحْوِ مَا
سَبَقَ بَيَانُهُ.
وَهُمْ يَذْكُرُونَ ذَلِكَ فِي مَعْرِضِ الْكَلاَمِ عَنِ الْعَامِّ
وَتَخْصِيصِهِ، بِاعْتِبَارِ أَنَّ الْجَمْعَ مِنْ أَلْفَاظِ الْعُمُومِ،
وَأَنَّ الْعَامَّ إِذَا كَانَ جَمْعًا مِثْل الرِّجَال جَازَ تَخْصِيصُهُ
إِلَى الثَّلاَثَةِ، تَفْرِيعًا عَلَى أَنَّ الثَّلاَثَةَ أَقَل الْجَمْعِ،
لأَِنَّ التَّخْصِيصَ إِلَى مَا دُونَ الثَّلاَثَةِ يُخْرِجُ اللَّفْظَ
عَنِ الدَّلاَلَةِ عَلَى الْجَمْعِ فَيَصِيرُ نَسْخًا، (1) وَتَفْصِيل
هَذَا يُنْظَرُ فِي الْمُلْحَقِ الأُْصُولِيِّ.
مَوَاطِنُ الْبَحْثِ:
9 - أَقَل الْجَمْعِ يُسْتَعْمَل فِي الْمَسَائِل الَّتِي يُسْتَعْمَل
فِيهَا الْجَمْعُ الْمُنَكَّرُ، كَالنَّذْرِ وَالأَْيْمَانِ وَالْعِتْقِ
وَالطَّلاَقِ وَغَيْرِ ذَلِكَ.
أَقَل مَا قِيل
التَّعْرِيفُ:
1 - الأَْخْذُ بِأَقَل مَا قِيل عِنْدَ الأُْصُولِيِّينَ أَنْ يَخْتَلِفَ
الصَّحَابَةُ فِي أَمْرٍ مُقَدَّرٍ عَلَى أَقَاوِيل، فَيُؤْخَذُ
بِأَقَلِّهَا، إِذَا لَمْ يَدُل عَلَى الزِّيَادَةِ دَلِيلٌ. وَذَلِكَ
مِثْل اخْتِلاَفِهِمْ فِي دِيَةِ الْيَهُودِيِّ هَل هِيَ مُسَاوِيَةٌ
لِدِيَةِ الْمُسْلِمِ، أَوْ عَلَى النِّصْفِ، أَوْ عَلَى الثُّلُثِ؟
فَالْقَوْل بِأَقَلِّهَا وَهُوَ الثُّلُثُ - أَخْذٌ بِأَقَل مَا قِيل. (2)
وَيُقَارِبُهُ: الأَْخْذُ بِأَخَفِّ مَا قِيل. وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا
هُوَ
__________
(1) جمع الجوامع 2 / 3.
(2) إرشاد الفحول ص 244 ط م الحلبي.
(6/93)
مِنْ حَيْثُ الْكَمُّ وَالْكَيْفُ.
وَيُقَابِلُهُ: الأَْخْذُ بِأَكْثَرِ مَا قِيل.
الْحُكْمُ الإِْجْمَالِيُّ:
2 - اخْتَلَفَ الأُْصُولِيُّونَ فِي الأَْخْذِ بِأَقَل مَا قِيل، هَل
يُعْتَبَرُ دَلِيلاً يُعْتَمَدُ فِي إِثْبَاتِ الْحُكْمِ؟ فَأَثْبَتَهُ
الإِْمَامُ الشَّافِعِيُّ، وَالْبَاقِلاَّنِيُّ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ،
وَقَال الْقَاضِي عَبْدُ الْوَهَّابِ مِنْهُمْ: وَحَكَى بَعْضُ
الأُْصُولِيِّينَ إِجْمَاعَ أَهْل النَّظَرِ عَلَيْهِ.
وَنَفَاهُ جَمَاعَةٌ، مِنْهُمُ ابْنُ حَزْمٍ، بَل حَكَى قَوْلاً بِأَنَّهُ
يُؤْخَذُ بِأَكْثَرِ مَا قِيل، لِيَخْرُجَ عَنْ عُهْدَةِ التَّكْلِيفِ
بِيَقِينٍ، وَكَمَا اخْتَلَفُوا فِي الأَْخْذِ بِالأَْقَل اخْتَلَفُوا فِي
الأَْخْذِ بِالأَْخَفِّ. وَمَحَل تَفْصِيل ذَلِكَ - الْمُلْحَقُ
الأُْصُولِيُّ. (1)
مَوَاطِنُ الْبَحْثِ:
3 - ذَكَرَ الأُْصُولِيُّونَ الأَْخْذَ بِأَقَل مَا قِيل فِي مَبْحَثِ
الاِسْتِدْلاَل. وَالاِسْتِدْلاَل هُنَا فِي اصْطِلاَحِهِمْ: مَا كَانَ
مِنَ الأَْدِلَّةِ لَيْسَ بِنَصٍّ وَلاَ إِجْمَاعٍ وَلاَ قِيَاسٍ. كَمَا
ذَكَرُوهُ فِي الْكَلاَمِ عَلَى الإِْجْمَاعِ لِبَيَانِ عَلاَقَتِهِ بِهِ.
(2)
اكْتِحَالٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الاِكْتِحَال لُغَةً: مَصْدَرُ اكْتَحَل. يُقَال اكْتَحَل:
__________
(1) المرجع السابق، وفواتح الرحموت 2 / 242، 258.
(2) المرجعين السابقين.
(6/93)
إِذَا وَضَعَ الْكُحْل فِي عَيْنِهِ. (1)
وَهُوَ فِي الاِصْطِلاَحِ مُسْتَعْمَلٌ بِهَذَا الْمَعْنَى.
الْحُكْمُ الإِْجْمَالِيُّ:
2 - اسْتَحَبَّ الْحَنَابِلَةُ وَالشَّافِعِيَّةُ الاِكْتِحَال وِتْرًا،
لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: مَنِ اكْتَحَل فَلْيُوتِرْ
(2) ، وَأَجَازَهُ مَالِكٌ فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِ لِلرِّجَال، وَكَرِهَهُ
فِي قَوْلِهِ الآْخَرِ لِلتَّشَبُّهِ بِالنِّسَاءِ.
أَمَّا الْحَنَفِيَّةُ، فَقَالُوا بِالْجَوَازِ إِذَا لَمْ يَقْصِدْ بِهِ
الرَّجُل الزِّينَةَ، وَأَوْضَحَ بَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ أَنَّ الْمَمْنُوعَ
هُوَ التَّزَيُّنُ لِلتَّكَبُّرِ، لاَ بِقَصْدِ الْجَمَال وَالْوَقَارِ.
وَلاَ خِلاَفَ فِي جَوَازِ الاِكْتِحَال لِلنِّسَاءِ وَلَوْ بِقَصْدِ
الزِّينَةِ، وَكَذَلِكَ لِلرِّجَال بِقَصْدِ التَّدَاوِي (3)
وَلِلتَّفْصِيل يُنْظَرُ مُصْطَلَحُ (تَزَيُّن) .
الاِكْتِحَال بِالْمُتَنَجَّسِ:
3 - يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ مَا يُكْتَحَل بِهِ طَاهِرًا حَلاَلاً، أَمَّا
الاِكْتِحَال بِالنَّجِسِ أَوِ الْمُحَرَّمِ فَهُوَ غَيْرُ جَائِزٍ
لِعُمُومِ النَّهْيِ عَنْ ذَلِكَ. أَمَّا إِذَا كَانَ الاِكْتِحَال
لِضَرُورَةٍ فَقَدْ أَجَازَهُ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ
وَالْحَنَابِلَةُ، وَمَنَعَهُ الْمَالِكِيَّةُ (4) .
__________
(1) المصباح المنير في مادة: " كحل ".
(2) حديث: " من اكتحل. . . " أخرجه أبو داود 1 / 33 ط عزت عبيد دعاس، وذكر
ابن حجر: أن في إسناده جهالة. (التلخيص الحبير ط شركة الطباعة الفنية) .
(3) الحطاب 1 / 265، وابن عابدين 2 / 113، والبجيرمي على الخطيب 4 / 291 ط
المعرفة، والمغني 1 / 93 ط الرياض، والفتاوى الهندية 5 / 359، والفواكه
الدواني 2 / 441.
(4) ابن عابدين 1 / 140، 204، 290، 402، 5 / 249، وشرح البهجة 5 / 104،
وقليوبي 2 / 134، 4 / 203، والبجيرمي على الخطيب1 / 276، وجواهر الإكليل 2
/ 296، والشرح الصغير 1 / 58، والدسوقي 4 / 353 - 354.
(6/94)
الاِكْتِحَال فِي الإِْحْرَامِ:
4 - أَجَازَ الْحَنَفِيَّةُ الاِكْتِحَال بِالإِْثْمِدِ لِلْمُحْرِمِ
بِغَيْرِ كَرَاهَةٍ مَا دَامَ بِغَيْرِ طِيبٍ، فَإِذَا كَانَ بِطِيبٍ
وَفَعَلَهُ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ فَعَلَيْهِ صَدَقَةٌ، فَإِنْ كَانَ
أَكْثَرَ فَعَلَيْهِ دَمٌ.
وَمَنَعَهُ الْمَالِكِيَّةُ وَإِنْ كَانَ مِنْ غَيْرِ طِيبٍ، إِلاَّ إِذَا
كَانَ لِضَرُورَةٍ، فَإِنِ اكْتَحَل فَعَلَيْهِ الْفِدْيَةُ.
وَأَجَازَهُ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ مَعَ الْكَرَاهَةِ،
وَاشْتَرَطَ الْحَنَابِلَةُ عَدَمَ قَصْدِ الزِّينَةِ بِهِ. (1) (ر -
إِحْرَام) .
الاِكْتِحَال فِي الصَّوْمِ:
5 - إِذَا اكْتَحَل الصَّائِمُ بِمَا يَصِل إِلَى جَوْفِهِ فَعِنْدَ
الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ - وَهُوَ اخْتِيَارُ ابْنِ تَيْمِيَّةَ -
لاَ يَفْسُدُ صَوْمُهُ، وَإِنْ وَجَدَ طَعْمَهُ فِي حَلْقِهِ، وَلَوْنَهُ
فِي نُخَامَتِهِ، لأَِنَّهُ لَمْ يَصِل إِلَى الْجَوْفِ مِنْ مَنْفَذٍ
مُبَاشِرٍ، بَل بِطَرِيقِ الْمَسَامِّ. (2)
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ، وَهُوَ الْمَذْهَبُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ:
إِنَّهُ يُفْسِدُ صَوْمَهُ إِذَا وَصَل إِلَى الْحَلْقِ. (3)
وَلِلتَّفْصِيل يُنْظَرُ (صَوْم) .
الاِكْتِحَال لِلْمُعْتَدَّةِ مِنَ الْوَفَاةِ:
6 - إِذَا كَانَ الاِكْتِحَال بِمَا لاَ يُتَزَيَّنُ بِهِ عَادَةً فَلاَ
بَأْسَ
__________
(1) ابن عابدين 2 / 164، والدسوقي 2 / 61، وقليوبي 2 / 134، والمغني 3 /
327.
(2) فتح القدير 2 / 73، وحواشي الشرواني وابن قاسم العبادي على التحفة 3 /
402، 403، وكشاف القناع 2 / 286، والنووي 6 / 312
(3) الخرشي 2 / 162، والتحفة بشرح المنهاج 3 / 403، والمجموع 6 / 312،
والفتاوى لابن تيمية 25 / 233، والإنصاف 3 / 299.
(6/94)
بِهِ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ لَيْلاً أَوْ
نَهَارًا. أَمَّا إِذَا كَانَ مِمَّا يُتَزَيَّنُ بِهِ كَالإِْثْمِدِ،
فَالأَْصْل عَدَمُ جَوَازِهِ إِلاَّ لِحَاجَةٍ، فَإِنْ دَعَتِ الْحَاجَةُ
إِلَى ذَلِكَ جَازَ. وَصَرَّحَ الْمَالِكِيَّةُ أَنَّ الْمُرَادَ - فِي
هَذِهِ الْحَال - تَكْتَحِل لَيْلاً وَتَغْسِلُهُ نَهَارًا وُجُوبًا. (1)
الاِكْتِحَال لِلْمُعْتَدَّةِ مِنَ الطَّلاَقِ:
7 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى إِبَاحَةِ الاِكْتِحَال لِلْمُعْتَدَّةِ
مِنْ طَلاَقٍ رَجْعِيٍّ. بَل صَرَّحَ الْمَالِكِيَّةُ بِأَنَّهُ يُفْرَضُ
عَلَى زَوْجِ الْمُعْتَدَّةِ ثَمَنُ الزِّينَةِ الَّتِي تَسْتَضِرُّ
بِتَرْكِهَا.
وَاخْتَلَفُوا فِي الْمُعْتَدَّةِ مِنْ طَلاَقٍ بَائِنٍ. قَال
الْحَنَفِيَّةُ، وَهُوَ رَأْيٌ لِلشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ: يَجِبُ
عَلَيْهَا تَرْكُ الاِكْتِحَال وَالزِّينَةِ، وَفِي رَأْيٍ
لِلشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ: يُسْتَحْسَنُ لَهَا ذَلِكَ. (2) أَمَّا
الْمَالِكِيَّةُ فَعِنْدَهُمُ الإِْبَاحَةُ مُطْلَقًا لِلْمُطَلَّقَةِ (ر -
عِدَّة) .
الاِكْتِحَال فِي الاِعْتِكَافِ:
8 - تَكَلَّمَ الشَّافِعِيَّةُ عَلَى الزِّينَةِ فِي الاِعْتِكَافِ
وَالاِكْتِحَال فِيهِ، وَصَرَّحُوا بِأَنَّهُ لاَ يَضُرُّ فِيهِ
الاِكْتِحَال وَلاَ الزِّينَةُ. (3) وَقَوَاعِدُ الْمَذَاهِبِ الأُْخْرَى
لاَ تُنَافِيهِ. (ر - اعْتِكَاف) .
الاِكْتِحَال فِي يَوْمِ عَاشُورَاءَ:
9 - تَكَلَّمَ الْحَنَفِيَّةُ عَلَى الاِكْتِحَال فِي يَوْمِ عَاشُورَاءَ
وَعَلَى اسْتِحْبَابِهِ، وَأَبَانُوا بِأَنَّهُ لَمْ يَرِدْ فِي ذَلِكَ
نَصٌّ
__________
(1) ابن عابدين 2 / 617، والشرح الصغير 2 / 686، وقليوبي 4 / 53، والمغني 7
/ 517، 519.
(2) ابن عابدين 2 / 536، والشرح الصغير 2 / 685، والدسوقي 2 / 510، وقليوبي
4 / 52، 81، والمغني 7 / 527.
(3) قليوبي 2 / 77.
(6/95)
صَحِيحٌ، وَقَال بَعْضُهُمْ: بِأَنَّهُ بِدْعَةٌ. (1) (ر - بِدْعَة) . |