الموسوعة الفقهية الكويتية

بُكَاءٌ

التَّعْرِيفُ:
1 - الْبُكَاءُ: مَصْدَرُ بَكَى يَبْكِي بُكًى، وَبُكَاءً (1) .
قَال فِي اللِّسَانِ: الْبُكَاءُ يُقْصَرُ وَيُمَدُّ. قَال الْفَرَّاءُ وَغَيْرُهُ: إِذَا مَدَدْتَ أَرَدْتَ الصَّوْتَ الَّذِي يَكُونُ مَعَ الْبُكَاءِ، وَإِذَا قَصَرْتَ أَرَدْتَ الدُّمُوعَ وَخُرُوجَهَا. قَال كَعْبُ بْنُ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي رِثَاءِ حَمْزَةَ

بَكَتْ عَيْنِي وَحُقَّ لَهَا بُكَاهَا

وَمَا يُغْنِي الْبُكَاءُ وَلاَ الْعَوِيل

قَال الْخَلِيل: مَنْ قَصَرَ ذَهَبَ بِهِ إِلَى مَعْنَى الْحُزْنِ، وَمَنْ مَدَّهُ ذَهَبَ بِهِ إِلَى مَعْنَى الصَّوْتِ. وَالتَّبَاكِي: تَكَلُّفُ الْبُكَاءِ كَمَا فِي الْحَدِيثِ فَإِنْ لَمْ تَبْكُوا فَتَبَاكَوْا. (2)
وَلاَ يَخْرُجُ اسْتِعْمَال الْفُقَهَاءِ عَنْ ذَلِكَ.
__________
(1) القاموس المحيط والمصباح المنير مادة: " بكى ".
(2) حديث: ". . . فإن لم تبكوا فتباكوا " أخرجه ابن ماجه (1 / 424 ـ ط الحلبي) وقال البوصيري: في إسناده أبو رافع، اسمه إسماعيل بن رافع، ضعيف متروك.

(8/167)


الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - الصِّيَاحُ وَالصُّرَاخُ:
2 - الصِّيَاحُ وَالصُّرَاخُ فِي اللُّغَةِ: هُوَ الصَّوْتُ بِأَقْصَى الطَّاقَةِ، وَقَدْ يَكُونُ مَعَهُمَا بُكَاءٌ، وَقَدْ لاَ يَكُونُ، وَيَرِدُ الصُّرَاخُ أَيْضًا لِرَفْعِ الصَّوْتِ عَلَى سَبِيل الاِسْتِغَاثَةِ (1) .

ب - النِّيَاحُ:
3 - النِّيَاحُ وَالنِّيَاحَةُ لُغَةً: الْبُكَاءُ بِصَوْتٍ عَلَى الْمَيِّتِ (2) .
وَقَال فِي الْمِصْبَاحِ، وَهُوَ قَرِيبٌ مِمَّا جَاءَ فِي الْقَامُوسِ: نَاحَتِ الْمَرْأَةُ عَلَى الْمَيِّتِ نَوْحًا مِنْ بَابِ قَال، وَالاِسْمُ النُّوَاحُ وِزَانُ غُرَابٍ، وَرُبَّمَا قِيل: النِّيَاحُ بِالْكَسْرِ، فَهِيَ نَائِحَةٌ، وَالنِّيَاحَةُ بِالْكَسْرِ: الاِسْمُ مِنْهُ، وَالْمَنَاحَةُ بِفَتْحِ الْمِيمِ: مَوْضِعُ النَّوْحِ (3) .

ج النَّدْبُ:
4 - النَّدْبُ لُغَةً: الدُّعَاءُ إِلَى الأَْمْرِ وَالْحَثُّ عَلَيْهِ. وَالنَّدْبُ: الْبُكَاءُ عَلَى الْمَيِّتِ وَتَعْدَادُ مَحَاسِنُهُ. وَالاِسْمُ: النُّدْبَةُ (4) .
__________
(1) القاموس المحيط والمصباح المنير.
(2) القاموس المحيط.
(3) المصباح المنير.
(4) القاموس المحيط والمصباح المنير.

(8/167)


د - النَّحْبُ، أَوِ النَّحِيبُ:
5 - النَّحْبُ لُغَةً: أَشَدُّ الْبُكَاءِ، كَالنَّحِيبِ (1) .

الْعَوِيل:
6 - الْعَوِيل: هُوَ رَفْعُ الصَّوْتِ بِالْبُكَاءِ، يُقَال: أَعْوَلَتِ الْمَرْأَةُ إِعْوَالاً وَعَوِيلاً (2) . هَذَا وَيَتَّضِحُ مِمَّا تَقَدَّمَ أَنَّ النَّحِيبَ وَالْعَوِيل مَعْنَاهُمَا الْبُكَاءُ الشَّدِيدُ، وَأَنَّ الصُّرَاخَ وَالصِّيَاحَ مُتَقَارِبَانِ فِي الْمَعْنَى، وَأَنَّ النُّوَاحَ يَأْتِي بِمَعْنَى الْبُكَاءِ عَلَى الْمَيِّتِ، وَأَنَّ النَّدْبَ هُوَ تَعْدَادُ مَحَاسِنِ الْمَيِّتِ، وَأَنَّ الْبُكَاءَ مَا كَانَ مَصْحُوبًا بِصَوْتٍ، وَالْبُكَى مَا كَانَ بِلاَ صَوْتٍ، بِأَنْ كَانَ قَاصِرًا عَلَى خُرُوجِ الدَّمْعِ.

أَسْبَابُ الْبُكَاءِ:
7 - لِلْبُكَاءِ أَسْبَابٌ، مِنْهَا: خَشْيَةُ اللَّهِ تَعَالَى، وَالْحُزْنُ، وَشِدَّةُ الْفَرَحِ.

الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ لِلْبُكَاءِ فِي الْمُصِيبَةِ:
8 - الْبُكَاءُ قَدْ يَكُونُ قَاصِرًا عَلَى خُرُوجِ الدَّمْعِ فَقَطْ بِلاَ صَوْتٍ، أَوْ بِصَوْتٍ لاَ يُمْكِنُ الاِحْتِرَازُ عَنْهُ، وَقَدْ يَكُونُ مَصْحُوبًا بِصَوْتٍ كَصُرَاخٍ أَوْ نُوَاحٍ أَوْ نَدْبٍ وَغَيْرِهَا، وَهَذَا يَخْتَلِفُ بِاخْتِلاَفِ
__________
(1) القاموس المحيط والمصباح المنير.
(2) المصباح المنير.

(8/168)


مَنْ يَصْدُرُ مِنْهُ الْبُكَاءُ، فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقْدِرُ عَلَى كِتْمَانِ الْحُزْنِ، وَيَمْلِكُ السَّيْطَرَةَ عَلَى مَشَاعِرِهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ لاَ يَسْتَطِيعُ ذَلِكَ.
فَإِنْ كَانَ الْبُكَاءُ مُجَرَّدًا عَنْ فِعْل الْيَدِ، كَشَقِّ جَيْبٍ أَوْ لَطْمٍ، وَعَنْ فِعْل اللِّسَانِ، كَالصُّرَاخِ وَدَعْوَى الْوَيْل وَالثُّبُورِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، فَإِنَّهُ مُبَاحٌ (1) لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّهُ مَهْمَا كَانَ مِنَ الْعَيْنِ وَالْقَلْبِ فَمِنَ اللَّهِ عَزَّ وَجَل وَمِنَ الرَّحْمَةِ، وَمَا كَانَ مِنَ الْيَدِ وَاللِّسَانِ فَمِنَ الشَّيْطَانِ (2) وَلِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَيْضًا إِنَّ اللَّهَ لاَ يُعَذِّبُ بِدَمْعِ الْعَيْنِ وَلاَ بِحُزْنِ الْقَلْبِ، وَلَكِنْ يُعَذِّبُ بِهَذَا - وَأَشَارَ إِلَى لِسَانِهِ - أَوْ يَرْحَمُ. (3)
أَمَّا حُكْمُ الْبُكَاءِ فِي غَيْرِ هَذِهِ الْحَالَةِ فَسَيَأْتِي فِيمَا بَعْدُ.

الْبُكَاءُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ تَعَالَى:
9 - الْمُؤْمِنُ يَعِيشُ فِي جِهَادٍ مَعَ نَفْسِهِ، وَيُرَاقِبُ اللَّهَ فِي جَمِيعِ أَفْعَالِهِ وَتَصَرُّفَاتِهِ، فَهُوَ يَخَافُ اللَّهَ، وَيَبْكِي عِنْدَ ذِكْرِهِ سُبْحَانَهُ تَعَالَى، فَهَذَا مِنَ الْمُخْبِتِينَ الَّذِينَ بَشَّرَهُمُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى
__________
(1) نيل الأوطار للشوكاني 4 / 149، 150 ط دار الجيل.
(2) حديث: " إنه مهما كان من العين. . . " أخرجه أحمد (1 / 247 ـ ط الميمنية) وفي إسناده علي بن زيد بن جدعان وهو ضعيف. تهذيب التهذيب لابن حجر (8 / 323 ـ ط دائرة المعارف العثمانية) .
(3) حديث: " إن الله لا يعذب بدمع. . . " أخرجه البخاري (الفتح 3 / 175 ـ ط السلفية) .

(8/168)


بِقَوْلِهِ: {وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَالصَّابِرِينَ عَلَى مَا أَصَابَهُمْ وَالْمُقِيمِي الصَّلاَةِ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} (1) وَهُمُ الَّذِينَ عَنَاهُمُ اللَّهُ بِقَوْلِهِ: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} . (2)
وَمِمَّا قَالَهُ الْقُرْطُبِيُّ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الآْيَةِ، مَعَ الإِْشَارَةِ إِلَى غَيْرِهَا مِنَ الآْيَاتِ الْقَرِيبَةِ مِنْهَا فِي الْمَعْنَى: وَصَفَ اللَّهُ تَعَالَى الْمُؤْمِنِينَ فِي هَذِهِ الآْيَةِ بِالْخَوْفِ وَالْوَجَل عِنْدَ ذِكْرِهِ، وَذَلِكَ لِقُوَّةِ إِيمَانِهِمْ وَمُرَاعَاتِهِمْ لِرَبِّهِمْ، وَكَأَنَّهُمْ بَيْنَ يَدَيْهِ، وَنَظِيرُ هَذِهِ الآْيَةِ {وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ} وَقَال: {الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ} (3) ، فَهَذَا يَرْجِعُ إِلَى كَمَال الْمَعْرِفَةِ وَثِقَةِ الْقَلْبِ، وَالْوَجَل: الْفَزَعُ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ، فَلاَ تَنَاقُضَ، وَقَدْ جَمَعَ اللَّهُ بَيْنَ الْمَعْنَيَيْنِ فِي قَوْله تَعَالَى: {اللَّهُ نَزَّل أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} (4) أَيْ تَسْكُنُ نُفُوسُهُمْ مَعَ اللَّهِ مِنْ حَيْثُ الْيَقِينُ، وَإِنْ كَانُوا يَخَافُونَ اللَّهَ.
__________
(1) سورة الحج 34 - 35.
(2) سورة الأنفال / 2.
(3) سورة الرعد / 28.
(4) سورة الزمر / 23.

(8/169)


10 - فَهَذِهِ حَالَةُ الْعَارِفِينَ بِاللَّهِ، الْخَائِفِينَ مِنْ سَطْوَتِهِ وَعُقُوبَتِهِ. لاَ كَمَا يَفْعَلُهُ جُهَّال الْعَوَامِّ وَالْمُبْتَدِعَةُ الطَّغَامُ، مِنَ الزَّعِيقِ وَالزَّئِيرِ وَمِنَ النُّهَاقِ الَّذِي يُشْبِهُ نُهَاقَ الْحَمِيرِ، فَيُقَال لِمَنْ تَعَاطَى ذَلِكَ، وَزَعَمَ أَنَّ ذَلِكَ وَجْدٌ وَخُشُوعٌ: لَمْ تَبْلُغْ أَنْ تُسَاوِيَ حَال الرَّسُول وَلاَ حَال أَصْحَابِهِ فِي الْمَعْرِفَةِ بِاللَّهِ، وَالْخَوْفِ مِنْهُ، وَالتَّعْظِيمِ لِجَلاَلِهِ، وَمَعَ ذَلِكَ فَكَانَتْ حَالُهُمْ عِنْدَ الْمَوَاعِظِ الْفَهْمُ عَنِ اللَّهِ وَالْبُكَاءُ خَوْفًا مِنَ اللَّهِ، وَلِذَلِكَ وَصَفَ اللَّهُ أَحْوَال أَهْل الْمَعْرِفَةِ عِنْدَ سَمَاعِ ذِكْرِهِ وَتِلاَوَةِ كِتَابِهِ فَقَال: {وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِل إِلَى الرَّسُول تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ} . (1) فَهَذَا وَصْفُ حَالِهِمْ وَحِكَايَةُ مَقَالِهِمْ، وَمَنْ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ فَلَيْسَ عَلَى هَدْيِهِمْ وَلاَ عَلَى طَرِيقَتِهِمْ، فَمَنْ كَانَ مُسْتَنًّا فَلْيَسْتَنَّ بِهِمْ، وَمَنْ تَعَاطَى أَحْوَال الْمَجَانِينِ وَالْجُنُونَ فَهُوَ مِنْ أَخَسِّهِمْ حَالاً، وَالْجُنُونُ فُنُونٌ. رَوَى مُسْلِمٌ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّ النَّاسَ سَأَلُوا النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى أَحْفَوْهُ فِي الْمَسْأَلَةِ، فَخَرَجَ ذَاتَ يَوْمٍ، فَصَعِدَ الْمِنْبَرَ، فَقَال: سَلُونِي، لاَ تَسْأَلُونِي عَنْ شَيْءٍ إِلاَّ بَيَّنْتُهُ لَكُمْ، مَا دُمْتُ فِي مَقَامِي هَذَا. فَلَمَّا سَمِعَ ذَلِكَ الْقَوْمُ أَرَمُّوا (2) وَرَهِبُوا أَنْ يَكُونَ بَيْنَ يَدَيْ أَمْرٍ قَدْ حَضَرَ، قَال أَنَسٌ: فَجَعَلْتُ أَلْتَفِتُ يَمِينًا وَشِمَالاً فَإِذَا كُل
__________
(1) سورة المائدة / 83.
(2) أرم الرجل إرماما: إذا سكت، فهو مرم.

(8/169)


إِنْسَانٍ لاَفٌّ رَأْسَهُ فِي ثَوْبِهِ يَبْكِي. . . . وَذَكَرَ الْحَدِيثَ. (1) وَرَوَى التِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ عَنِ الْعِرْبَاضِ بْنِ سَارِيَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَال: وَعَظَنَا رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَوْعِظَةً بَلِيغَةً ذَرَفَتْ مِنْهَا الْعُيُونُ، وَوَجِلَتْ مِنْهَا الْقُلُوبُ. الْحَدِيثَ. وَلَمْ يَقُل: زَعَقْنَا وَلاَ رَقَصْنَا وَلاَ زُفْنَا وَلاَ قُمْنَا (2) .

وَقَال صَاحِبُ رُوحِ الْمَعَانِي فِي تَفْسِيرِ قَوْله تَعَالَى: {الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ} (3) أَيْ خَافَتْ قُلُوبُهُمْ مِنْهُ عَزَّ وَجَل لإِِشْرَاقِ أَشِعَّةِ الْجَلاَل عَلَيْهَا (4) .
11 - وَالْبُكَاءُ خَشْيَةً مِنَ اللَّهِ لَهُ أَثَرُهُ فِي الْعَمَل، وَفِي غُفْرَانِ الذُّنُوبِ، وَيَدُل لِذَلِكَ مَا رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: عَيْنَانِ لاَ تَمَسُّهُمَا النَّارُ: عَيْنٌ بَكَتْ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ، وَعَيْنٌ بَاتَتْ تَحْرُسُ فِي سَبِيل اللَّهِ. (5)
__________
(1) حديث: " سلوني، لا تسألوني عن شيء. . . . " أخرجه مسلم (3 / 1834 ـ ط الحلبي) .
(2) القرطبي 7 / 365، 366، ط دار الكتب المصرية. وحديث العرباض: " وعظنا رسول الله صلى الله عليه وسلم. . . " أخرجه ابن ماجه (1 / 16 - ط الحلبي) وأبو داود (5 / 16ـ ط عزت عبيد دعاس) والحاكم (1 / 96ـ ط دائرة المعارف العثمانية) وصححه ووافقه الذهبي.
(3) سورة الحج / 35.
(4) روح المعاني 17 / 154 ط المنيرية.
(5) حديث: " عينان لا تمسهما النار: عين. . . " أخرجه الترمذي (4 / 175 ـ ط الحلبي) وأبو يعلى كما في فتح الباري (6 / 83 ـ ط السلفية) وحسن إسناده ابن حجر

(8/170)


قَال صَاحِبُ تُحْفَةِ الأَْحْوَذِيِّ: قَوْلُهُ: عَيْنَانِ لاَ تَمَسُّهُمَا النَّارُ أَيْ لاَ تَمَسُّ صَاحِبَهُمَا، فَعَبَّرَ بِالْجُزْءِ عَنِ الْجُمْلَةِ، وَعَبَّرَ بِالْمَسِّ إِشَارَةً إِلَى امْتِنَاعِ مَا فَوْقَهُ بِالأَْوْلَى، وَفِي رِوَايَةٍ: " أَبَدًا " وَفِي رِوَايَةٍ: لاَ يَقْرَبَانِ النَّارَ. (1)
وَقَدْ ذَكَرَ صَاحِبُ رُوحِ الْمَعَانِي أَخْبَارًا وَرَدَتْ فِي مَدْحِ الْبُكَاءِ خَشْيَةً مِنَ اللَّهِ تَعَالَى، مِنْ بَيْنِهَا هَذَا الْحَدِيثُ الْمُتَقَدِّمُ.
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَال: قَال رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لاَ يَلِجُ النَّارَ رَجُلٌ بَكَى مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ تَعَالَى حَتَّى يَعُودَ اللَّبَنُ فِي الضَّرْعِ، وَلاَ يَجْتَمِعُ عَلَى عَبْدٍ غُبَارٌ فِي سَبِيل اللَّهِ تَعَالَى وَدُخَانُ جَهَنَّمَ. (2)

الْبُكَاءُ فِي الصَّلاَةِ:
12 - يَرَى الْحَنَفِيَّةُ أَنَّ الْبُكَاءَ فِي الصَّلاَةِ إِنْ كَانَ سَبَبُهُ أَلَمًا أَوْ مُصِيبَةً فَإِنَّهُ يُفْسِدُ الصَّلاَةَ؛ لأَِنَّهُ يُعْتَبَرُ مِنْ كَلاَمِ النَّاسِ، وَإِنْ كَانَ سَبَبُهُ ذِكْرَ الْجَنَّةِ أَوِ النَّارِ فَإِنَّهُ لاَ يُفْسِدُهَا؛ لأَِنَّهُ يَدُل عَلَى زِيَادَةِ الْخُشُوعِ، وَهُوَ الْمَقْصُودُ فِي الصَّلاَةِ، فَكَانَ فِي مَعْنَى التَّسْبِيحِ أَوِ الدُّعَاءِ. وَيَدُل عَلَى هَذَا حَدِيثُ الرَّسُول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ كَانَ يُصَلِّي بِاللَّيْل وَلَهُ
__________
(1) تحفة الأحوذي 5 / 269 ط الفجالة.
(2) روح المعاني 15 / 190، 191 ط المنيرية. وحديث: " لا يلج النار رجل بكى من. . " أخرجه الترمذي (4 / 171ـ ط الحلبي) . وقال: حديث حسن صحيح.

(8/170)


أَزِيزٌ كَأَزِيزِ الْمِرْجَل مِنَ الْبُكَاءِ. (1)
وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّ هَذَا التَّفْصِيل فِيمَا إِذَا كَانَ عَلَى أَكْثَرِ مِنْ حَرْفَيْنِ، أَوْ عَلَى حَرْفَيْنِ أَصْلِيَّيْنِ، أَمَّا إِذَا كَانَ عَلَى حَرْفَيْنِ مِنْ حُرُوفِ الزِّيَادَةِ، أَوْ أَحَدُهَا مِنْ حُرُوفِ الزِّيَادَةِ وَالآْخَرُ أَصْلِيٌّ، لاَ تَفْسُدُ فِي الْوَجْهَيْنِ مَعًا، وَحُرُوفُ الزِّيَادَةِ عَشَرَةٌ يَجْمَعُهَا قَوْلُكَ: أَمَانٌ وَتَسْهِيلٌ (2) .
وَحَاصِل مَذْهَبِ الْمَالِكِيَّةِ فِي هَذَا: أَنَّ الْبُكَاءَ فِي الصَّلاَةِ إِمَّا أَنْ يَكُونَ بِصَوْتٍ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ بِلاَ صَوْتٍ، فَإِنْ كَانَ الْبُكَاءُ بِلاَ صَوْتٍ فَإِنَّهُ لاَ يُبْطِل الصَّلاَةَ، سَوَاءٌ أَكَانَ بِغَيْرِ اخْتِيَارٍ، بِأَنْ غَلَبَهُ الْبُكَاءُ تَخَشُّعًا أَوْ لِمُصِيبَةٍ، أَمْ كَانَ اخْتِيَارِيًّا مَا لَمْ يَكْثُرْ ذَلِكَ فِي الاِخْتِيَارِيِّ.
وَأَمَّا إِذَا كَانَ الْبُكَاءُ بِصَوْتٍ، فَإِنْ كَانَ اخْتِيَارِيًّا فَإِنَّهُ يُبْطِل الصَّلاَةَ، سَوَاءٌ كَانَ لِمُصِيبَةٍ أَمْ لِتَخَشُّعٍ، وَإِنْ كَانَ بِغَيْرِ اخْتِيَارِهِ، بِأَنْ غَلَبَهُ الْبُكَاءُ تَخَشُّعًا لَمْ يُبْطِل، وَإِنْ كَثُرَ، وَإِنْ غَلَبَهُ الْبُكَاءُ بِغَيْرِ تَخَشُّعٍ أَبْطَل (3) .
__________
(1) حديث: " كان يصلي بالليل وله أزيز. . . " أخرجه أبو داود (1 / 557 ـ ط عزت عبيد دعاس) والنسائي (3 / 13 ـ ط المكتبة التجارية) .
(2) تبيين الحقائق 1 / 155، 156 ط دائرة المعرفة، وفتح القدير 1 / 281، 282 ـ ط دار صادر.
(3) حاشية الشيخ علي العدوي على مختصر خليل، وهي بهامش الخرشي 1 / 325، ط دار صادر، وجواهر الإكليل 1 / 63، ومواهب الجليل 2 / 33.

(8/171)


هَذَا وَقَدْ ذَكَرَ الدُّسُوقِيُّ أَنَّ الْبُكَاءَ بِصَوْتٍ، إِنْ كَانَ لِمُصِيبَةٍ أَوْ لِوَجَعٍ مِنْ غَيْرِ غَلَبَةٍ أَوْ لِخُشُوعٍ فَهُوَ حِينَئِذٍ كَالْكَلاَمِ، يُفَرَّقُ بَيْنَ عَمْدِهِ وَسَهْوِهِ، أَيْ فَالْعَمْدُ مُبْطِلٌ مُطْلَقًا، قَل أَوْ كَثُرَ، وَالسَّهْوُ يُبْطِل إِنْ كَانَ كَثِيرًا، وَيُسْجَدُ لَهُ إِنْ قَل (1) .
وَأَمَّا عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، فَإِنَّ الْبُكَاءَ فِي الصَّلاَةِ عَلَى الْوَجْهِ الأَْصَحِّ إِنْ ظَهَرَ بِهِ حَرْفَانِ فَإِنَّهُ يُبْطِل الصَّلاَةَ؛ لِوُجُودِ مَا يُنَافِيهَا، حَتَّى وَإِنْ كَانَ الْبُكَاءُ مِنْ خَوْفِ الآْخِرَةِ. وَعَلَى مُقَابِل الأَْصَحِّ:
لاَ يُبْطِل لأَِنَّهُ لاَ يُسَمَّى كَلاَمًا فِي اللُّغَةِ، وَلاَ يُفْهَمُ مِنْهُ شَيْءٌ، فَكَانَ أَشْبَهَ بِالصَّوْتِ الْمُجَرَّدِ (2) .
وَأَمَّا الْحَنَابِلَةُ فَإِنَّهُمْ يَرَوْنَ أَنَّهُ إِنْ بَانَ حَرْفَانِ مِنْ بُكَاءٍ، أَوْ تَأَوُّهِ خَشْيَةٍ، أَوْ أَنِينٍ فِي الصَّلاَةِ لَمْ تَبْطُل؛ لأَِنَّهُ يَجْرِي مَجْرَى الذِّكْرِ، وَقِيل: إِنْ غَلَبَهُ وَإِلاَّ بَطَلَتْ، كَمَا لَوْ لَمْ يَكُنْ خَشْيَةً؛ لأَِنَّهُ يَقَعُ عَلَى الْهِجَاءِ، وَيَدُل بِنَفْسِهِ عَلَى الْمَعْنَى كَالْكَلاَمِ، قَال أَحْمَدُ فِي الأَْنِينِ: إِذَا كَانَ غَالِبًا أَكْرَهُهُ، أَيْ مِنْ وَجَعٍ، وَإِنِ اسْتَدْعَى الْبُكَاءَ فِيهَا كُرِهَ كَالضَّحِكِ وَإِلاَّ فَلاَ. (3)
__________
(1) حاشية الدسوقي على الشرح الكبير 1 / 284 ـ ط دار الفكر.
(2) نهاية المحتاج 2 / 34، وحاشية قليوبي وعميرة1 / 187، ومغني المحتاج 1 / 195.
(3) الفروع 1 / 370، 371.

(8/171)


الْبُكَاءُ عِنْدَ قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ:
13 - الْبُكَاءُ عِنْدَ قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ مُسْتَحَبٌّ، وَيُفْهَمُ ذَلِكَ مِنْ قَوْله تَعَالَى فِي سُورَةِ الإِْسْرَاءِ {وَيَخِرُّونَ لِلأَْذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا} . (1)
قَال الْقُرْطُبِيُّ: هَذَا مَدْحٌ لَهُمْ، وَحُقَّ لِكُل مَنْ تَوَسَّمَ بِالْعِلْمِ، وَحَصَّل مِنْهُ شَيْئًا أَنْ يَجْرِيَ إِلَى هَذِهِ الْمَرْتَبَةِ، فَيَخْشَعُ عِنْدَ اسْتِمَاعِ الْقُرْآنِ وَيَتَوَاضَعُ وَيَذِل (2) . وَقَال الزَّمَخْشَرِيُّ فِي الْكَشَّافِ فِي تَفْسِيرِ قَوْله تَعَالَى: {وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا} أَيْ يَزِيدُهُمْ لِينَ قَلْبٍ وَرُطُوبَةَ عَيْنٍ (3) .
وَقَال الطَّبَرِيُّ عِنْدَ الْكَلاَمِ عَلَى هَذِهِ الآْيَةِ: يَقُول تَعَالَى ذِكْرُهُ. وَيَخِرُّ هَؤُلاَءِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ مُؤْمِنِي أَهْل الْكِتَابَيْنِ، مِنْ قَبْل نُزُول الْفُرْقَانِ، إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِ الْقُرْآنُ لأَِذْقَانِهِمْ يَبْكُونَ، وَيَزِيدُهُمْ مَا فِي الْقُرْآنِ مِنَ الْمَوَاعِظِ وَالْعِبَرِ خُشُوعًا، يَعْنِي خُضُوعًا لأَِمْرِ اللَّهِ وَطَاعَتِهِ اسْتِكَانَةً لَهُ. (4)
وَيُفْهَمُ اسْتِحْبَابُ الْبُكَاءِ أَيْضًا عِنْدَ قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ بِمَا أَخْرَجَهُ ابْنُ مَاجَهْ وَإِسْحَاقُ بْنُ رَاهَوَيْهِ
__________
(1) سورة الإسراء / 109.
(2) القرطبي 10 / 341.
(3) الكشاف 2 / 469، ط دار المعرفة.
(4) مراده بالآيتين: الآية 107، والآية 109 من سورة الإسراء، والطبري 15 / 181، 182ـ ط الحلبي، وروح المعاني 15 / 190 ـ ط المنيرية.

(8/172)


وَالْبَزَّارُ فِي مُسْنَدَيْهِمَا مِنْ حَدِيثِ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مَرْفُوعًا: إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ نَزَل بِحُزْنٍ، فَإِذَا قَرَأْتُمُوهُ فَابْكُوا، فَإِنْ لَمْ تَبْكُوا فَتَبَاكَوْا. (1)

الْبُكَاءُ عِنْدَ الْمَوْتِ وَبَعْدَهُ:
14 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الْبُكَاءَ إِنْ كَانَ قَاصِرًا عَلَى خُرُوجِ الدَّمْعِ فَقَطْ بِلاَ صَوْتٍ فَإِنَّهُ جَائِزٌ، قَبْل الْمَوْتِ وَبَعْدَهُ، وَمِثْلُهُ غَلَبَةُ الْبُكَاءِ بِصَوْتٍ إِذَا لَمْ يَقْدِرْ عَلَى رَدِّهِ، وَمِثْلُهُ حُزْنُ الْقَلْبِ. وَاتَّفَقُوا أَيْضًا عَلَى تَحْرِيمِ النَّدْبِ بِتَعْدَادِ مَحَاسِنِ الْمَيِّتِ بِرَفْعِ صَوْتٍ، إِلاَّ مَا نُقِل فِي الْفُرُوعِ عَنْ بَعْضِ الْحَنَابِلَةِ.
وَاتَّفَقُوا عَلَى تَحْرِيمِ النُّوَاحِ وَشَقِّ الْجَيْبِ أَوِ الثَّوْبِ وَلَطْمِ الْخَدِّ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ، إِلاَّ أَنَّ الْحَنَفِيَّةَ عَبَّرُوا فِي ذَلِكَ بِالْكَرَاهَةِ، وَمُرَادُهُمُ الْكَرَاهَةُ التَّحْرِيمِيَّةُ، وَبِذَلِكَ لاَ يَكُونُ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي ذَلِكَ خِلاَفٌ.
وَأَمَّا إِذَا كَانَ الْبُكَاءُ بِصَوْتٍ وَغَيْرَ مَصْحُوبٍ بِنِيَاحَةٍ وَنَدْبٍ أَوْ شَقِّ جَيْبٍ أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ، فَيَرَى الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ أَنَّهُ جَائِزٌ، وَاشْتَرَطَ الْمَالِكِيَّةُ عَدَمَ الاِجْتِمَاعِ لِلْبُكَاءِ، وَإِلاَّ كُرِهَ. (2)
__________
(1) حديث: " إن هذا القرآن نزل بحزن فإذا. . . " سبق تخريجه (ف1) .
(2) فتاوى قاضيخان والبزازية مع الفتاوى الهندية 1 / 190، وحاشية الطحطاوي على الدر المختار 1 / 383، وحاشية ابن عابدين 1 / 607، وحاشية الدسوقي 1 / 422، جواهر الإكليل 1 / 112، مواهب الجليل مع التاج والإكليل 2 / 235، والخرشي مع حاشية العدوي 2 / 133.

(8/172)


وَلِلشَّافِعِيَّةِ تَفْصِيلٌ أَتَى بِهِ الْقَلْيُوبِيُّ، فَقَال: إِنَّ الْبُكَاءَ عَلَى الْمَيِّتِ إِنْ كَانَ لِخَوْفٍ عَلَيْهِ مِنْ هَوْل يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَنَحْوِهِ فَلاَ بَأْسَ بِهِ، أَوْ لِمَحَبَّةٍ وَرِقَّةٍ كَطِفْلٍ فَكَذَلِكَ، وَلَكِنَّ الصَّبْرَ أَجْمَل، أَوْ لِصَلاَحٍ وَبَرَكَةٍ وَشَجَاعَةٍ وَفَقْدِ نَحْوِ عِلْمٍ فَمَنْدُوبٌ، أَوْ لِفَقْدِ صِلَةٍ وَبِرٍّ وَقِيَامٍ بِمَصْلَحَةٍ فَمَكْرُوهٌ، أَوْ لِعَدَمِ تَسْلِيمٍ لِلْقَضَاءِ وَعَدَمِ الرِّضَى بِهِ فَحَرَامٌ (1) .
وَقَال الشَّافِعِيُّ: يَجُوزُ الْبُكَاءُ قَبْل الْمَوْتِ، فَإِذَا مَاتَ أَمْسَكْنَ. وَاسْتَدَل بِحَدِيثِ النَّسَائِيِّ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَتِيكٍ كَمَا يَأْتِي قَرِيبًا (2) . وَالْفُقَهَاءُ فِيمَا قَالُوهُ فِي ذَلِكَ اسْتَدَلُّوا بِمَا وَرَدَ فِي السُّنَّةِ، فَقَدْ أَخْرَجَ التِّرْمِذِيُّ عَنْ جَابِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَال: أَخَذَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِيَدِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَانْطَلَقَ بِهِ إِلَى ابْنِهِ إِبْرَاهِيمَ، فَوَجَدَهُ يَجُودُ بِنَفْسِهِ، فَأَخَذَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَوَضَعَهُ فِي حِجْرِهِ فَبَكَى، فَقَال لَهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ: أَتَبْكِي؟ أَوَلَمْ تَكُنْ نَهَيْتَ عَنِ
__________
(1) القليوبي 1 / 343، ومغني المحتاج 1 / 355، 356، ونهاية المحتاج 3 / 14، 15، والمهذب للشيرازي 1 / 146.
(2) المجموع للنووي 5 / 307.

(8/173)


الْبُكَاءِ؟ قَال: لاَ. وَلَكِنْ نَهَيْتُ عَنْ صَوْتَيْنِ أَحْمَقَيْنِ فَاجِرَيْنِ: صَوْتٍ عِنْدَ مُصِيبَةٍ، خَمْشِ وُجُوهٍ وَشَقِّ جُيُوبٍ وَرَنَّةِ شَيْطَانٍ. (1)
وَقَدْ أَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: لَيْسَ مِنَّا مَنْ لَطَمَ الْخُدُودَ وَشَقَّ الْجُيُوبَ وَدَعَا بِدَعْوَى الْجَاهِلِيَّةِ. (2) فَهَذَا يَدُل عَلَى عَدَمِ جَوَازِ مَا ذُكِرَ فِيهِ مِنَ اللَّطْمِ وَشَقِّ الْجَيْبِ وَدَعْوَى الْجَاهِلِيَّةِ.
وَأَخْرَجَ النَّسَائِيُّ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَتِيكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَاءَ يَعُودُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ ثَابِتٍ فَوَجَدَهُ قَدْ غُلِبَ، فَصَاحَ النِّسْوَةُ وَبَكَيْنَ، فَجَعَل ابْنُ عَتِيكٍ يُسْكِتُهُنَّ، فَقَال رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: دَعْهُنَّ، فَإِذَا وَجَبَ فَلاَ تَبْكِيَنَّ بَاكِيَةٌ. قَالُوا: وَمَا الْوُجُوبُ يَا رَسُول اللَّهِ؟ قَال: الْمَوْتُ. (3)

الْبُكَاءُ عِنْدَ زِيَارَةِ الْقَبْرِ:
15 - الْبُكَاءُ عِنْدَ زِيَارَةِ الْقَبْرِ جَائِزٌ، وَالدَّلِيل عَلَى
__________
(1) حديث: " نهيت عن صوتين أحمقين فاجرين. . . " أخرجه الحاكم (4 / 40 ـ ط دائرة المعارف العثمانية) .
(2) حديث: " ليس منا من لطم الخدود. . . " أخرجه البخاري (الفتح 3 / 163 ـ ط السلفية) .
(3) حديث: جابر بن عتيك " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جاء يعود. . . " أخرجه أبو داود (3 / 382 ـ ط عزت عبيد دعاس) ، وفي إسناده جهالة عيتك بن الحارث، والتهذيب لابن حجر (7 / 105 ـ ط دائرة المعارف النظامية) .

(8/173)


ذَلِكَ مَا أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَال: زَارَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَبْرَ أُمِّهِ فَبَكَى، وَأَبْكَى مَنْ حَوْلَهُ. . . إِلَخِ الْحَدِيثِ (1) .

اجْتِمَاعُ النِّسَاءِ لِلْبُكَاءِ:
16 - اجْتِمَاعُ النِّسَاءِ لِلْبُكَاءِ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ مَكْرُوهٌ إِنْ كَانَ بِلاَ صَوْتٍ، وَحَرَامٌ إِنْ كَانَ مَعَهُ صَوْتٌ (2) . وَالشَّافِعِيَّةُ لاَ يُجِيزُونَ الاِجْتِمَاعَ لِلْبُكَاءِ (3) .
وَلَمْ يَتَعَرَّضِ الْحَنَفِيَّةُ وَلاَ الْحَنَابِلَةُ لاِجْتِمَاعِ النِّسَاءِ لِلْبُكَاءِ. عَلَى أَنَّ الْفُقَهَاءَ مُتَّفِقُونَ عَلَى جَوَازِ الْبُكَاءِ بِالدَّمْعِ فَقَطْ بِلاَ صَوْتٍ، وَإِنَّمَا تَأْتِي الْكَرَاهَةُ أَوِ التَّحْرِيمُ عَلَى مَا إِذَا قُصِدَ الاِجْتِمَاعُ لَهُ.
هَذَا، وَإِذَا كَانَ اجْتِمَاعُ النِّسَاءِ لِلْبُكَاءِ مَكْرُوهًا أَوْ مُحَرَّمًا فَكَرَاهَةُ أَوْ تَحْرِيمُ اجْتِمَاعِ الرِّجَال لَهُ أَوْلَى، وَإِنَّمَا خَصَّ الْفُقَهَاءُ النِّسَاءَ بِالذِّكْرِ لأَِنَّ هَذَا شَأْنُهُنَّ (4) .

أَثَرُ بُكَاءِ الْمَوْلُودِ عِنْدَ الْوِلاَدَةِ:
17 - إِذَا بَكَى الْمَوْلُودُ عِنْدَ وِلاَدَتِهِ، بِأَنِ اسْتَهَل
__________
(1) حديث: " زار النبي صلى الله عليه وسلم قبر أمه فبكى. . . " أخرجه مسلم (2 / 671 ـ ط الحلبي) .
(2) جواهر الإكليل 1 / 114، ومواهب الجليل 2 / 240، 241، وحاشية الدسوقي 1 / 424.
(3) مغني المحتاج 1 / 356.
(4) حاشية الدسوقي 1 / 424.

(8/174)


صَارِخًا، فَإِنَّ ذَلِكَ يَدُل عَلَى تَحَقُّقِ حَيَاتِهِ، سَوَاءٌ انْفَصَل بِالْكُلِّيَّةِ كَمَا عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، أَمْ لَمْ يَنْفَصِل كَمَا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ. فَإِنْ لَمْ يَبْكِ، وَلَمْ تُوجَدْ مِنْهُ عَلاَمَةٌ تَدُل عَلَى الْحَيَاةِ فَلاَ يُحْكَمُ بِحَيَاتِهِ. فَإِنْ بَدَا مِنْهُ مَا يَدُل عَلَى حَيَاتِهِ، كَالْبُكَاءِ وَالصُّرَاخِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، فَإِنَّهُ يُعْطَى حُكْمَ الأَْحْيَاءِ، فَيُسَمَّى وَيَرِثُ، وَيُقْتَصُّ مِنْ قَاتِلِهِ عَمْدًا، وَيَسْتَحِقُّ مَوَالِيهِ الدِّيَةَ فِي غَيْرِ الْعَمْدِ فَإِنْ مَاتَ بَعْدَ تَحَقُّقِ حَيَاتِهِ فَإِنَّهُ يُغَسَّل وَيُصَلَّى عَلَيْهِ وَيُورَثُ.
وَتَفْصِيل ذَلِكَ يُرْجَعُ إِلَيْهِ فِي مُصْطَلَحِ (اسْتِهْلاَل) .

أَثَرُ بُكَاءِ الْبِكْرِ عِنْدَ الاِسْتِئْذَانِ لِتَزْوِيجِهَا:
18 - إِذَا اسْتُؤْذِنَتِ الْبِكْرُ فِي النِّكَاحِ فَبَكَتْ، فَإِنَّ لِلْفُقَهَاءِ فِي دَلاَلَتِهِ عَلَى الرِّضَا وَعَدَمِهِ اتِّجَاهَاتٍ ثَلاَثَةً:
أ - فَالْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ يَقُولُونَ: إِنْ كَانَ الْبُكَاءُ بِلاَ صَوْتٍ فَيَدُل عَلَى الرِّضَا، وَإِنْ كَانَ بِصَوْتٍ فَلاَ يَدُل عَلَى الرِّضَا (1) .
ب - وَالْمَالِكِيَّةُ يَقُولُونَ: إِنَّ بُكَاءَ الْبِكْرِ غَيْرِ الْمُجْبَرَةِ، وَهِيَ الَّتِي يُزَوِّجُهَا غَيْرُ الأَْبِ مِنَ الأَْوْلِيَاءِ، يُعْتَبَرُ رِضًا؛ لاِحْتِمَال أَنَّ هَذَا الْبُكَاءَ إِنَّمَا هُوَ لِفَقْدِ الأَْبِ مَثَلاً، فَإِنْ عُلِمَ أَنَّهُ لِلْمَنْعِ مِنَ
__________
(1) الاختيار لتعليل المختار 3 / 92 ط دار المعرفة، وفتح الباري 9 / 193 ـ ط الرياض.

(8/174)


الزَّوَاجِ لَمْ يَكُنْ رِضًا. (1)
ج - وَالْحَنَابِلَةُ يَقُولُونَ: إِنَّ الْبُكَاءَ إِذْنٌ فِي النِّكَاحِ، لِمَا رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ قَال رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: تُسْتَأْمَرُ الْيَتِيمَةُ فَإِذَا بَكَتْ أَوْ سَكَتَتْ فَهُوَ رِضَاهَا، وَإِنْ أَبَتْ فَلاَ جَوَازَ عَلَيْهَا (2) وَلأَِنَّهَا غَيْرُ نَاطِقَةٍ بِالاِمْتِنَاعِ مَعَ سَمَاعِ الاِسْتِئْذَانِ، فَكَانَ ذَلِكَ إِذْنًا مِنْهَا كَالصُّمَاتِ. وَالْبُكَاءُ يَدُل عَلَى فَرْطِ الْحَيَاءِ لاَ الْكَرَاهَةِ. وَلَوْ كَرِهَتْ لاَمْتَنَعَتْ، فَإِنَّهَا لاَ تَسْتَحِي مِنَ الاِمْتِنَاعِ (3) .

بُكَاءُ الْمَرْءِ هَل يَكُونُ دَلِيلاً عَلَى صِدْقِ مَقَالِهِ:
19 - بُكَاءُ الْمَرْءِ لاَ يَدُل عَلَى صِدْقِ مَقَالِهِ، وَيَدُل عَلَى ذَلِكَ قَوْله تَعَالَى فِي سُورَةِ يُوسُفَ {وَجَاءُوا أَبَاهُمْ عِشَاءً يَبْكُونَ} . (4) فَإِنَّ إِخْوَةَ يُوسُفَ تَصَنَّعُوا الْبُكَاءَ لِيُصَدِّقَهُمْ أَبُوهُمْ بِمَا أَخْبَرُوهُ بِهِ، مَعَ أَنَّ الَّذِي أَخْبَرُوهُ بِهِ كَذِبٌ، هُمُ الَّذِينَ دَبَّرُوهُ وَفَعَلُوهُ.
__________
(1) الشرح الكبير مع حاشية الدسوقي2 / 227 ط دار الفكر.
(2) حديث: " تستأمر اليتيمة، فإذا بكت أو سكتت. . . " أخرجه أبو داود (2 / 573 ـ 575 ـ ط عزت عبيد دعاس) وقال أبو داود: وليس " بكت " بمحفوظ، وهو وهم في الحديث، الوهم من إدريس أو محمد بن العلاء. وأما أصل الحديث دون قوله " بكت " فأخرجه البخاري (الفتح 9 / 191 ـ ط السلفية) .
(3) مطالب أولي النهى 5 / 56، 57 ط ـ المكتب الإسلامي.
(4) سورة يوسف / 16.

(8/175)


قَال الْقُرْطُبِيُّ قَال عُلَمَاؤُنَا: هَذِهِ الآْيَةُ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ بُكَاءَ الْمَرْءِ لاَ يَدُل عَلَى صِدْقِ مَقَالِهِ؛ لاِحْتِمَال أَنْ يَكُونَ تَصَنُّعًا، فَمِنَ الْخَلْقِ مَنْ يَقْدِرُ عَلَى ذَلِكَ، وَفِيهِمْ مَنْ لاَ يَقْدِرُ، وَقَدْ قِيل: إِنَّ الدَّمْعَ الْمَصْنُوعَ لاَ يَخْفَى. كَمَا قَال حَكِيمٌ:

إِذَا اشْتَبَكَتْ دُمُوعٌ فِي خُدُودٍ

تَبَيَّنَ مَنْ بَكَى مِمَّنْ تَبَاكَى

(1) .
__________
(1) القرطبي 9 / 145.

(8/175)


بَكَارَةٌ

التَّعْرِيفُ:
1 - الْبَكَارَةُ (بِالْفَتْحِ) لُغَةً: عُذْرَةُ الْمَرْأَةِ، وَهِيَ الْجِلْدَةُ الَّتِي عَلَى الْقُبُل (1) .
وَالْبِكْرُ: الْمَرْأَةُ الَّتِي لَمْ تُفْتَضَّ، وَيُقَال لِلرَّجُل: بِكْرٌ، إِذَا لَمْ يَقْرَبِ النِّسَاءَ، وَمِنْهُ حَدِيثُ الْبِكْرُ بِالْبِكْرِ جَلْدُ مِائَةٍ وَنَفْيُ سَنَةٍ. (2)
وَالْبِكْرُ اصْطِلاَحًا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ: اسْمٌ لاِمْرَأَةٍ لَمْ تُجَامَعْ بِنِكَاحٍ وَلاَ غَيْرِهِ، فَمَنْ زَالَتْ بَكَارَتُهَا بِغَيْرِ جِمَاعٍ كَوَثْبَةٍ، أَوْ دُرُورِ حَيْضٍ، أَوْ حُصُول جِرَاحَةٍ، أَوْ تَعْنِيسٍ: بِأَنْ طَال مُكْثُهَا بَعْدَ إِدْرَاكِهَا فِي مَنْزِل أَهْلِهَا حَتَّى خَرَجَتْ عَنْ عِدَادِ الأَْبْكَارِ فَهِيَ بِكْرٌ حَقِيقَةً وَحُكْمًا (3) .
وَعَرَّفَهَا الْمَالِكِيَّةُ: بِأَنَّهَا الَّتِي لَمْ تُوطَأْ بِعَقْدٍ
__________
(1) المصباح المنير، ولسان العرب مادة: " بكر ".
(2) حديث: " البكر بالبكر جلد مائة. . . " أخرجه مسلم (3 / 1316ـ ط الحلبي) من حديث عبادة بن الصامت.
(3) رد المحتار على الدر المختار 2 / 302 دار إحياء التراث العربي.

(8/176)


صَحِيحٍ، أَوْ فَاسِدٍ جَرَى مَجْرَى الصَّحِيحِ. وَقِيل: إِنَّهَا الَّتِي لَمْ تُزَل بَكَارَتُهَا أَصْلاً (1) .

الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - الْعُذْرَةُ:
2 - الْعُذْرَةُ لُغَةً: الْجِلْدَةُ الَّتِي عَلَى الْمَحَل (2) . وَمِنْهُ الْعَذْرَاءُ، وَهِيَ: الْمَرْأَةُ الَّتِي لَمْ تُزَل بَكَارَتُهَا بِمُزِيلٍ (3) .
فَالْعَذْرَاءُ: تُرَادِفُ الْبِكْرَ لُغَةً وَعُرْفًا، وَقَدْ يُفَرِّقُونَ بَيْنَهُمَا، فَيُطْلِقُونَ الْعَذْرَاءَ عَلَى مَنْ لَمْ تُزَل بَكَارَتُهَا أَصْلاً، وَقَال الدَّرْدِيرُ: إِذَا جَرَى الْعُرْفُ بِالتَّسْوِيَةِ بَيْنَهُمَا يُعْتَبَرُ (4) .

ب - الثُّيُوبَةُ:
3 - الثُّيُوبَةُ: زَوَال الْبَكَارَةِ بِالْوَطْءِ وَلَوْ حَرَامًا. وَالثَّيِّبُ لُغَةً: ضِدُّ الْبِكْرِ، فَهِيَ الَّتِي تَزَوَّجَتْ فَثَابَتْ، وَفَارَقَتْ زَوْجَهَا بِأَيِّ وَجْهٍ كَانَ بَعْدَ أَنْ مَسَّهَا، وَعَنِ الأَْصْمَعِيِّ أَنَّ الثَّيِّبَ: هُوَ الرَّجُل أَوِ الْمَرْأَةُ بَعْدَ الدُّخُول.
__________
(1) حاشية الدسوقي على الشرح الكبير 2 / 281 ط عيسى الحلبي بمصر.
(2) لسان العرب مادة: " عذر ".
(3) رد المحتار على الدر المختار 2 / 302 وحاشية الدسوقي على الشرح الكبير 2 / 281.
(4) نهاية المحتاج 6 / 223 ط المكتبة الإسلامية، والدسوقي 2 / 281.

(8/176)


وَالثَّيِّبُ اصْطِلاَحًا: مَنْ زَالَتْ بَكَارَتُهَا بِالْوَطْءِ وَلَوْ حَرَامًا (1) .
وَالثَّيِّبُ وَالْبِكْرُ ضِدَّانِ.

مَا تَثْبُتُ بِهِ الْبَكَارَةُ عِنْدَ التَّنَازُعِ:
4 - أَجَازَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ قَبُول شَهَادَةِ النِّسَاءِ فِي الْبَكَارَةِ وَالثُّيُوبَةِ. وَاخْتَلَفُوا فِي الْعَدَدِ الْمُشْتَرَطِ:
فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ الْبَكَارَةَ تَثْبُتُ بِشَهَادَةِ امْرَأَةٍ ثِقَةٍ، وَالثِّنْتَانِ أَحْوَطُ وَأَوْثَقُ.
وَأَجَازَ أَبُو الْخَطَّابِ مِنَ الْحَنَابِلَةِ شَهَادَةَ الرَّجُل فِي ذَلِكَ.
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ - عَلَى مَا صَرَّحَ بِهِ خَلِيلٌ وَالدَّرْدِيرُ فِي شَرْحَيْهِ - إِلَى أَنَّهَا تَثْبُتُ بِشَهَادَةِ امْرَأَتَيْنِ.
لَكِنْ قَال الدُّسُوقِيُّ فِي بَابِ النِّكَاحِ: إِنْ أَتَى الرَّجُل بِامْرَأَتَيْنِ، أَوِ امْرَأَةٍ وَاحِدَةٍ تَشْهَدُ لَهُ عَلَى مَا تُصَدَّقُ فِيهِ الزَّوْجَةُ قُبِلَتْ.
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: تَثْبُتُ الْبَكَارَةُ بِشَهَادَةِ رَجُلَيْنِ، أَوْ رَجُلٍ وَامْرَأَتَيْنِ، أَوْ شَهَادَةِ أَرْبَعِ نِسْوَةٍ (2) .
__________
(1) لسان العرب والمصباح المنير مادة: " ثيب " وكشاف القناع 5 / 46 ط الرياض.
(2) حاشية ابن عابدين 2 / 596، 4 / 89، 371 ط دار إحياء التراث العربي، وحاشية الدسوقي على الشرح الكبير 2 / 285، 4 / 188، وشرح المنهاج 4 / 325، والإقناع للخطيب الشربيني 2 / 69، وكشاف القناع5 / 13 ط الرياض، المغني لابن قدامة9 / 155، 157.

(8/177)


وَمَنَاطُ قَوْل شَهَادَةِ الْمَرْأَةِ فِي إِثْبَاتِ الْبَكَارَةِ أَنَّ مَوْضِعَهَا عَوْرَةٌ لاَ يَطَّلِعُ عَلَيْهِ الرِّجَال إِلاَّ لِلضَّرُورَةِ، وَرَوَى مَالِكٌ عَنِ الزُّهْرِيِّ: مَضَتِ السُّنَّةُ أَنَّهُ تَجُوزُ شَهَادَةُ النِّسَاءِ فِيمَا لاَ يَطَّلِعُ عَلَيْهِ غَيْرُهُنَّ، مِنْ وِلاَدَةِ النِّسَاءِ وَعُيُوبِهِنَّ. (1) وَقِيسَ عَلَى ذَلِكَ الْبَكَارَةُ وَالثُّيُوبَةُ.
وَتَثْبُتُ الْبَكَارَةُ كَذَلِكَ بِالْيَمِينِ حَسَبَ التَّفْصِيل الَّذِي سَيَأْتِي.

أَثَرُ الْبَكَارَةِ فِي عَقْدِ النِّكَاحِ:

مَا يَكُونُ بِهِ إِذْنُ الْبِكْرِ:
5 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ سُكُوتَ الْبِكْرِ الْبَالِغَةِ عِنْدَ اسْتِئْذَانِهَا فِي النِّكَاحِ إِذْنٌ مِنْهَا، لِحَدِيثِ: الْبِكْرُ تُسْتَأْذَنُ فِي نَفْسِهَا، وَإِذْنُهَا صُمَاتُهَا. (2)
وَلِمَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: الأَْيِّمُ أَحَقُّ بِنَفْسِهَا مِنْ وَلِيِّهَا، وَالْبِكْرُ تُسْتَأْذَنُ فِي نَفْسِهَا، وَإِذْنُهَا صُمَاتُهَا. (3)
__________
(1) الأثر عن الزهري أخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه كما في نصب الراية (4 / 80 ط المجلس العلمي) وعبد الرزاق في مصنفه (8 / 333 ط المجلس العلمي) مطولا.
(2) حديث: " البكر تستأذن في نفسها. . . . " أخرجه مسلم (2 / 1037 ـ ط الحلبي) من حديث ابن عباس.
(3) حديث: " الأيم أحق بنفسها من وليها والبكر. . . " أخرجه مسلم (2 / 1037ـ ط الحلبي) من حديث ابن عباس.

(8/177)


وَمِثْل السُّكُوتِ: الضَّحِكُ بِغَيْرِ اسْتِهْزَاءٍ؛ لأَِنَّهُ أَدَل عَلَى الرِّضَا مِنَ السُّكُوتِ، وَكَذَا التَّبَسُّمُ وَالْبُكَاءُ بِلاَ صَوْتٍ؛ لِدَلاَلَةِ بُكَاهَا عَلَى الرِّضَا ضِمْنًا. وَالْمُعَوَّل عَلَيْهِ اعْتِبَارُ قَرَائِنِ الأَْحْوَال فِي الْبُكَاءِ وَالضَّحِكِ، فَإِنْ تَعَارَضَتْ أَوْ أَشْكَل احْتِيطَ (1) .
وَاسْتِئْمَارُ الْبِكْرِ الْبَالِغَةِ الْعَاقِلَةِ مَنْدُوبٌ عِنْدَ الْجُمْهُورِ؛ لأَِنَّ لِوَلِيِّهَا الْحَقَّ فِي إِجْبَارِهَا عَلَى النِّكَاحِ. وَسُنَّةٌ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ؛ لأَِنَّهُ لَيْسَ لِوَلِيِّهَا حَقُّ الإِْجْبَارِ (2) . وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ (نِكَاح) .
6 - وَقَدْ ذَكَرَ الْمَالِكِيَّةُ أَبْكَارًا لاَ يُكْتَفَى بِصَمْتِهِنَّ، بَل لاَ بُدَّ مِنْ إِذْنِهِنَّ بِالْقَوْل عِنْدَ اسْتِئْذَانِهِنَّ فِي النِّكَاحِ:
أ - بِكْرٌ رَشَّدَهَا أَبُوهَا أَوْ وَصِيُّهُ بَعْدَ بُلُوغِهَا؛ لأَِنَّهُ لاَ جَبْرَ لأَِبِيهَا عَلَيْهَا؛ لِمَا قَامَ بِهَا مِنْ حُسْنِ التَّصَرُّفِ عَلَى الْمَعْرُوفِ فِي الْمَذْهَبِ.
__________
(1) حاشية ابن عابدين 2 / 298، وحاشية الدسوقي على الشرح الكبير 2 / 224، 227 ط دار الفكر، والقليوبي على الشرح المنهاج 3 / 223 ط عيسى الحلبي بمصر، والمغني لابن قدامة 6 / 493، 494 ط الرياض، وكشاف القناع 5 / 43، 46 ط الرياض.
(2) حاشية الدسوقي على الشرح الكبير 2 / 224، 227، ونهاية المحتاج 6 / 224، وكشاف القناع 5 / 43، والمغني لابن قدامة 6 / 491ط الرياض، وحاشية ابن عابدين 2 / 298 وما بعدها، وفتح القدير 3 / 164.

(8/178)


ب - بِكْرٌ مُجْبَرَةٌ عَضَلَهَا أَبُوهَا، أَيْ مَنَعَهَا مِنَ النِّكَاحِ لاَ لِمَصْلَحَتِهَا، بَل لِلإِْضْرَارِ بِهَا، فَرَفَعَتْ أَمْرَهَا لِلْحَاكِمِ، فَأَرَادَ تَزْوِيجَهَا لاِمْتِنَاعِ أَبِيهَا، وَزَوَّجَهَا.
ج - بِكْرٌ يَتِيمَةٌ مُهْمَلَةٌ لاَ أَبَ لَهَا وَلاَ وَصِيَّ، خِيفَ فَسَادُهَا بِفَقْرٍ أَوْ زِنًى أَوْ عَدَمِ حَاضِنٍ شَرْعِيٍّ فِي قَوْلٍ، وَالْمُعْتَمَدُ أَنَّهَا تُجْبَرُ.
د - بِكْرٌ غَيْرُ مُجْبَرَةٍ، افْتِيتَ عَلَيْهَا، زَوَّجَهَا وَلِيُّهَا غَيْرُ الْمُجْبِرِ - وَهُوَ غَيْرُ الأَْبِ وَوَصِيُّهُ - بِغَيْرِ إِذْنِهَا، ثُمَّ أَنْهَى إِلَيْهَا الْخَبَرَ فَرَضِيَتْ.
هـ - بِكْرٌ أُرِيدَ تَزْوِيجُهَا لِذِي عَيْبٍ مُوجِبٍ لِخِيَارِهَا، كَجُنُونٍ وَجُذَامٍ وَبَرَصٍ (1) .
وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ (نِكَاح) .

اشْتِرَاطُ الْوَلِيِّ وَعَدَمُهُ:
7 - الْبِكْرُ إِنْ كَانَتْ صَغِيرَةً فَالإِْجْمَاعُ عَلَى أَنَّهَا لاَ تُزَوِّجُ نَفْسَهَا، بَل يُزَوِّجُهَا وَلِيُّهَا. وَأَمَّا إِنْ كَانَتْ كَبِيرَةً، فَجُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ مِنَ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ عَلَى أَنَّهَا لاَ تُزَوِّجُ نَفْسَهَا، وَإِنَّمَا يُزَوِّجُهَا وَلِيُّهَا، وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ: وَلَوْ كَانَتْ عَانِسًا
__________
(1) حاشية الدسوقي على الشرح الكبير 2 / 224، 227، 228، والشرح الصغير مع حاشية الصاوي2 / 367، 368 ط دار المعارف بمصر.

(8/178)


بَلَغَتِ السِّتِّينَ فِي مَشْهُورِ الْمَذْهَبِ. (1)
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ لَيْسَ لِوَلِيِّهَا حَقُّ إِجْبَارِهَا، وَلَهَا أَنْ تُزَوِّجَ نَفْسَهَا، فَإِنْ زَوَّجَتْ نَفْسَهَا بِغَيْرِ كُفْءٍ، أَوْ بِدُونِ مَهْرِ الْمِثْل، فَلِوَلِيِّهَا حَقُّ طَلَبِ الْفَسْخِ مَا لَمْ تَحْمِل. (2)
وَرُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّ نِكَاحَ الْحُرَّةِ الْبَالِغَةِ الْعَاقِلَةِ إِذَا كَانَتْ بِكْرًا لاَ يَنْعَقِدُ إِلاَّ بِوَلِيٍّ، وَعَنْ مُحَمَّدٍ يَنْعَقِدُ مَوْقُوفًا.
وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ (نِكَاح) .

مَتَى يَرْتَفِعُ الإِْجْبَارُ مَعَ وُجُودِ الْبَكَارَةِ:
8 - أ - يَرَى الْمَالِكِيَّةُ أَنَّ الأَْبَ لاَ يُجْبِرُ بِكْرًا رَشَّدَهَا - إِنْ بَلَغَتْ - بِأَنْ قَال لَهَا: رَشَّدْتُكِ، أَوْ أَطْلَقْتُ يَدَكِ، أَوْ رَفَعْتُ الْحَجْرَ عَنْكِ، أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ. وَثَبَتَ تَرْشِيدُهَا بِإِقْرَارِهِ، أَوْ بِبَيِّنَةٍ إِنْ أَنْكَرَ، وَحَيْثُ كَانَتْ لاَ تُجْبَرُ فَلاَ بُدَّ مِنْ نُطْقِهَا وَإِذْنِهَا، وَهُوَ الْمَعْرُوفُ فِي الْمَذْهَبِ،
وَقَال ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: لَهُ جَبْرُهَا.
ب - إِذَا عَضَل وَالِدُ الْبِكْرِ الْمُجْبَرَةِ، وَمَنَعَهَا
__________
(1) ابن عابدين 2 / 269، وحاشية الدسوقي على الشرح الكبير 2 / 222ـ 224، ونهاية المحتاج2 / 223 ط مصطفى الحلبي بمصر، والمغني لابن قدامة 6 / 449 ط الرياض.
(2) رد المحتار على الدر المختار2 / 296، 298 ط دار إحياء التراث العربي، وفتح القدير والعناية 1 / 157، 163.

(8/179)


مِنْ نِكَاحِ مَنْ تَرْغَبُ فِيهِ، وَرَفَعَتْ أَمْرَهَا لِلْقَضَاءِ، وَثَبَتَ كَفَاءَةُ مَنْ تَرْغَبُ فِي زَوَاجِهِ يَأْمُرُهُ الْحَاكِمُ بِتَزْوِيجِهَا، فَإِنِ امْتَنَعَ ارْتَفَعَ إِجْبَارُهُ، وَزَوَّجَهَا الْحَاكِمُ، وَلاَ بُدَّ مِنْ نُطْقِهَا بِرِضَاهَا بِالزَّوْجِ وَبِالصَّدَاقِ. (1)
وَلاَ يَخْتَلِفُ مَذْهَبُ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ عَنْ هَذَا إِلاَّ فِي بَعْضِ التَّفْصِيلاَتِ، كَتَكْرَارِ امْتِنَاعِ الْوَلِيِّ الْعَاضِل مِرَارًا. (2)
ج - وَالْبِكْرُ الْيَتِيمَةُ الصَّغِيرَةُ إِذَا خِيفَ فَسَادُهَا، يُجْبِرُهَا وَلِيُّهَا عَلَى التَّزْوِيجِ، وَتَجِبُ مُشَاوَرَةُ الْقَاضِي عَلَى الْمُعْتَمَدِ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ. (3)
وَلاَ خُصُوصِيَّةَ لِهَذِهِ الْحَالَةِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ؛ لأَِنَّ مُطْلَقَ الصَّغِيرَةِ - بِكْرًا كَانَتْ أَوْ ثَيِّبًا - لِوَلِيِّهَا إِجْبَارُهَا عَلَى النِّكَاحِ، ثُمَّ إِذَا بَلَغَتْ وَكَانَ الْوَلِيُّ الْمُجْبِرُ غَيْرَ الأَْبِ أَوِ الْجَدِّ ثَبَتَ لَهَا خِيَارُ الْبُلُوغِ. وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ - فِي رِوَايَةٍ - إِلَى أَنَّ الْوَلِيَّ الْمُجْبِرَ هُوَ الأَْبُ فَقَطْ، وَلاَ يُزَوِّجُ الصَّغِيرَةَ غَيْرُهُ وَلَوْ كَانَ جَدًّا. وَفِي الْمَذْهَبِ رِوَايَةٌ أُخْرَى كَمَذْهَبِ الْحَنَفِيَّةِ. وَيَرَى الشَّافِعِيَّةُ أَنَّ وِلاَيَةَ الإِْجْبَارِ فِي تَزْوِيجِ
__________
(1) حاشية الدسوقي 2 / 231، وشرح الزرقاني 2 / 178.
(2) منهاج الطالبين وحاشية قليوبي 3 / 225، وكشاف القناع 5 / 44، 54، 55 ط الرياض.
(3) شرح الدردير وحاشية الدسوقي عليه 2 / 224، وحاشية ابن عابدين 2 / 296، والمغني 6 / 489، والقليوبي 3 / 223 ط عيسى الحلبي.

(8/179)


الْبِكْرِ هِيَ لِلأَْبِ وَالْجَدِّ وَحْدَهُمَا، دُونَ بَقِيَّةِ الأَْوْلِيَاءِ. فَالْبِكْرُ الْيَتِيمَةُ تَنْحَصِرُ وِلاَيَةُ إِجْبَارِهَا فِي الْجَدِّ.

اشْتِرَاطُ الزَّوْجِ بَكَارَةَ الزَّوْجَةِ:
9 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ الرَّجُل لَوْ تَزَوَّجَ امْرَأَةً عَلَى أَنَّهَا بِكْرٌ، فَتَبَيَّنَ بَعْدَ الدُّخُول أَنَّهَا لَيْسَتْ كَذَلِكَ، لَزِمَهُ كُل الْمَهْرِ؛ لأَِنَّ الْمَهْرَ شُرِعَ لِمُجَرَّدِ الاِسْتِمْتَاعِ دُونَ الْبَكَارَةِ، وَحَمْلاً لأَِمْرِهَا عَلَى الصَّلاَحِ، بِأَنْ زَالَتْ بِوَثْبَةٍ. فَإِنْ كَانَ قَدْ تَزَوَّجَهَا بِأَزْيَدَ مِنْ مَهْرِ مِثْلِهَا عَلَى أَنَّهَا بِكْرٌ، فَإِذَا هِيَ غَيْرُ بِكْرٍ، لاَ تَجِبُ الزِّيَادَةُ؛ لأَِنَّهُ قَابَل الزِّيَادَةَ بِمَا هُوَ مَرْغُوبٌ فِيهِ، وَقَدْ فَاتَ، فَلاَ يَجِبُ مَا قُوبِل بِهِ،
وَلاَ يَثْبُتُ بِتَخَلُّفِ شَرْطِ الْبَكَارَةِ فَسْخُ الْعَقْدِ. (1)
وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ: إِذَا تَزَوَّجَ الرَّجُل امْرَأَةً ظَانًّا أَنَّهَا بِكْرٌ، ثُمَّ تَبَيَّنَ أَنَّهَا ثَيِّبٌ، وَلاَ عِلْمَ عِنْدَ أَبِيهَا، فَلاَ رَدَّ لِلزَّوْجِ بِذَلِكَ، إِلاَّ أَنْ يَقُول: أَتَزَوَّجُهَا بِشَرْطِ أَنَّهَا (عَذْرَاءُ) وَهِيَ الَّتِي لَمْ تَزُل بَكَارَتُهَا بِمُزِيلٍ، فَإِذَا وَجَدَهَا ثَيِّبًا فَلَهُ رَدُّهَا، وَسَوَاءٌ أَعَلِمَ الْوَلِيُّ أَمْ لاَ، وَسَوَاءٌ أَكَانَتِ الثُّيُوبَةُ بِنِكَاحٍ أَمْ لاَ.
وَأَمَّا إِذَا شَرَطَ أَنَّهَا (بِكْرٌ) فَوَجَدَهَا ثَيِّبًا بِغَيْرِ
__________
(1) حاشية ابن عابدين 2 / 346، و 4 / 48.

(8/180)


وَطْءِ نِكَاحٍ، وَلَمْ يَعْلَمِ الأَْبُ بِذَلِكَ، فَفِيهِ تَرَدُّدٌ، قِيل: يُخَيَّرُ، وَقِيل: لاَ، وَهُوَ الأَْصْوَبُ لِوُقُوعِ اسْمِ الْبَكَارَةِ عَلَيْهَا؛ وَلأَِنَّ الْبَكَارَةَ قَدْ تَزُول بِوَثْبَةٍ وَنَحْوِهَا. وَإِنْ عَلِمَ الأَْبُ بِثُيُوبَتِهَا بِلاَ وَطْءٍ وَكَتَمَ، فَلِلزَّوْجِ الرَّدُّ عَلَى الأَْصَحِّ، وَأَحْرَى بِوَطْءٍ.
وَلَوْ شَرَطَ الْبَكَارَةَ وَوَجَدَهَا قَدْ ثِيبَتْ بِنِكَاحٍ، فَلَهُ الرَّدُّ مُطْلَقًا عَلِمَ الأَْبُ أَمْ لاَ. (1)
وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ: لَوْ نَكَحَ امْرَأَةً بِشَرْطِ بَكَارَتِهَا، فَتَبَيَّنَ فَوَاتُ الشَّرْطِ صَحَّ النِّكَاحُ فِي الأَْظْهَرِ؛ لأَِنَّ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ مُعَيَّنٌ لاَ يَتَبَدَّل بِخُلْفِ الصِّفَةِ الْمَشْرُوطَةِ وَالْقَوْل الثَّانِي عِنْدَهُمْ: بُطْلاَنُهُ؛ لأَِنَّ النِّكَاحَ يَعْتَمِدُ الصِّفَاتَ وَالأَْسْمَاءَ دُونَ التَّعْيِينِ وَالْمُشَاهَدَةِ، فَيَكُونُ اخْتِلاَفُ الصِّفَةِ فِيهِ كَاخْتِلاَفِ الْعَيْنِ. (2)
وَوَرَدَ عَنِ الْحَنَابِلَةِ: إِنْ شَرَطَ فِي التَّزْوِيجِ أَنْ تَكُونَ بِكْرًا فَوَجَدَهَا ثَيِّبًا بِالزِّنَى مَلَكَ الْفَسْخَ. وَإِنْ شَرَطَ أَنْ تَكُونَ بِكْرًا فَبَانَتْ ثَيِّبًا، قَال ابْنُ قُدَامَةَ: عَنْ أَحْمَدَ كَلاَمٌ يَحْتَمِل أَمْرَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: لاَ خِيَارَ لَهُ؛ لأَِنَّ النِّكَاحَ لاَ يُرَدُّ فِيهِ بِعَيْبٍ سِوَى ثَمَانِيَةِ عُيُوبٍ، فَلاَ يُرَدُّ مِنْهُ بِمُخَالَفَةِ الشَّرْطِ.
__________
(1) الخرشي على مختصر خليل 3 / 239 ط دار صادر.
(2) شرح منهاج الطالبين 3 / 265 ط عيسى الحلبي بمصر.

(8/180)


وَالأَْمْرُ الثَّانِي: لَهُ الْخِيَارُ نَصًّا؛ لأَِنَّهُ شَرَطَ وَصْفًا مَرْغُوبًا فِيهِ، فَبَانَتْ بِخِلاَفِهِ. (1)

الْبَكَارَةُ الْحُكْمِيَّةُ، وَأَثَرُهَا فِي الإِْجْبَارِ وَمَعْرِفَةِ إِذْنِهَا:
10 - مَنْ زَالَتْ بَكَارَتُهَا بِلاَ وَطْءٍ كَوَثْبَةٍ، أَوْ أُصْبُعٍ، أَوْ حِدَةِ حَيْضٍ، وَنَحْوِ ذَلِكَ، فَهِيَ بِكْرٌ حَقِيقَةً وَحُكْمًا، وَلاَ أَثَرَ لِزَوَال بَكَارَتِهَا بِمَا ذُكِرَ وَنَحْوِهِ فِي الإِْجْبَارِ وَالاِسْتِئْذَانِ وَمَعْرِفَةِ إِذْنِهَا؛ لأَِنَّهَا لَمْ تُمَارِسِ الرِّجَال بِالْوَطْءِ فِي مَحَل الْبَكَارَةِ؛ وَلأَِنَّ الزَّائِل فِي هَذِهِ الْمَسَائِل الْعُذْرَةُ، أَيِ الْجِلْدَةُ الَّتِي عَلَى مَحَل الْبَكَارَةِ. وَهَذَا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ. وَالأَْصَحُّ لِلشَّافِعِيَّةِ، وَالثَّانِي لِهَؤُلاَءِ، وَلأَِبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ: أَنَّهَا كَالثَّيِّبِ مِنْ حَيْثُ عَدَمُ الاِكْتِفَاءِ بِسُكُوتِهَا، لِزَوَال الْعُذْرَةِ؛ لأَِنَّهَا ثَيِّبٌ حَقِيقَةً.
وَقَال الْحَنَفِيَّةُ: مَنْ زَالَتْ بَكَارَتُهَا بِزِنًى - إِنْ لَمْ يَتَكَرَّرْ، وَلَمْ تُحَدَّ بِهِ - هِيَ بِكْرٌ حُكْمًا. (2)
وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ (نِكَاح) .
__________
(1) المغني لابن قدامة 6 / 495، 526 ط الرياض، وكشاف القناع 5 / 99و 149 ط الرياض.
(2) حاشية الدسوقي على الشرح الكبير 2 / 223، والمغني لابن قدامة 6 / 495، وكشاف القناع 5 / 47 ط الرياض، وشرح منهاج الطالبين 3 / 223، وحاشية ابن عابدين 2 / 302، وفتح القدير 3 / 169، وتبيين الحقائق وحاشية الاتقاني عليه 2 / 120.

(8/181)


تَعَمُّدُ إِزَالَةِ الْعُذْرَةِ بِغَيْرِ جِمَاعٍ وَأَثَرُ ذَلِكَ:
11 - اتَّفَقَ الْحَنَفِيَّةُ، وَالْحَنَابِلَةُ، وَالشَّافِعِيَّةُ فِي الأَْصَحِّ عِنْدَهُمْ عَلَى أَنَّ الزَّوْجَ إِذَا تَعَمَّدَ إِزَالَةَ بَكَارَةِ زَوْجَتِهِ بِغَيْرِ جِمَاعٍ، كَأُصْبُعٍ، لاَ شَيْءَ عَلَيْهِ. وَوَجْهُهُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ: أَنَّهُ لاَ فَرْقَ بَيْنَ آلَةٍ وَآلَةٍ فِي هَذِهِ الإِْزَالَةِ. وَوَرَدَ فِي أَحْكَامِ الصِّغَارِ فِي الْجِنَايَاتِ: أَنَّ الزَّوْجَ لَوْ أَزَال عُذْرَتَهَا بِالأُْصْبُعِ لاَ يَضْمَنُ، وَيُعَزَّرُ، وَمُقْتَضَاهُ أَنَّهُ مَكْرُوهٌ فَقَطْ. (1)
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: إِنَّهُ أَتْلَفَ مَا يَسْتَحِقُّ إِتْلاَفَهُ بِالْعَقْدِ، فَلاَ يَضْمَنُ بِغَيْرِهِ. (2)
وَأَمَّا الشَّافِعِيَّةُ فَقَالُوا: إِنَّ الإِْزَالَةَ مِنِ اسْتِحْقَاقِ الزَّوْجِ.
وَالْقَوْل الثَّانِي لَهُمْ: إِنْ أَزَال بِغَيْرِ ذَكَرٍ فَأَرْشٌ. (3)
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: إِذَا أَزَال الزَّوْجُ بَكَارَةَ زَوْجَتِهِ بِأُصْبُعِهِ تَعَمُّدًا، يَلْزَمُهُ حُكُومَةُ عَدْلٍ (أَرْشٌ) يُقَدِّرُهُ الْقَاضِي، وَإِزَالَةُ الْبَكَارَةِ بِالأُْصْبُعِ حَرَامٌ، وَيُؤَدَّبُ الزَّوْجُ عَلَيْهِ. (4)
وَالتَّفْصِيل يَكُونُ فِي مُصْطَلَحِ (نِكَاح وَدِيَة) .
__________
(1) حاشية ابن عابدين 2 / 331.
(2) كشاف القناع 5 / 163.
(3) شرح المنهاج 4 / 142و143.
(4) حاشية الدسوقي 4 / 277، 278ط دار الفكر، والشرح الصغير على حاشية العمادي 4 / 392.

(8/181)


مِقْدَارُ الصَّدَاقِ بِإِزَالَةِ الْبَكَارَةِ بِالأُْصْبُعِ دُونَ الْجِمَاعِ:
12 - يَرَى الْحَنَفِيَّةُ أَنَّ الزَّوْجَ إِذَا أَزَال بَكَارَةَ زَوْجَتِهِ بِغَيْرِ جِمَاعٍ، ثُمَّ طَلَّقَهَا قَبْل الْمَسِيسِ، وَجَبَ لَهَا جَمِيعُ مَهْرِهَا، إِنْ كَانَ مُسَمًّى وَلَمْ يُقْبَضْ، وَبَاقِيهِ إِنْ قُبِضَ بَعْضُهُ؛ لأَِنَّ إِزَالَةَ الْبَكَارَةِ بِأُصْبُعٍ وَنَحْوِهِ لاَ يَكُونُ إِلاَّ فِي خَلْوَةٍ. (1)
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: لَوْ فَعَل الزَّوْجُ مَا ذُكِرَ لَزِمَهُ أَرْشُ الْبَكَارَةِ الَّتِي أَزَالَهَا بِأُصْبُعِهِ، مَعَ نِصْفِ صَدَاقِهَا. (2)
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ: يُحْكَمُ لَهَا بِنِصْفِ صَدَاقِهَا؛ لِمَفْهُومِ قَوْله تَعَالَى: {وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْل أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ} (3) إِذِ الْمُرَادُ بِالْمَسِّ: الْجِمَاعُ، وَلاَ يَسْتَقِرُّ الْمَهْرُ بِاسْتِمْتَاعٍ وَإِزَالَةِ بَكَارَةٍ بِلاَ آلَةٍ، فَإِنْ طَلَّقَهَا وَجَبَ لَهَا الشَّطْرُ دُونَ أَرْشِ الْبَكَارَةِ؛
وَعَلَّل الْحَنَابِلَةُ زِيَادَةً عَلَى الآْيَةِ بِأَنَّ هَذِهِ مُطَلَّقَةٌ قَبْل الْمَسِيسِ وَالْخَلْوَةِ، فَلَمْ يَكُنْ لَهَا سِوَى نِصْفِ الصَّدَاقِ الْمُسَمَّى؛ وَلأَِنَّهُ أَتْلَفَ مَا يَسْتَحِقُّ إِتْلاَفَهُ بِالْعَقْدِ، فَلاَ يَضْمَنُهُ بِغَيْرِهِ. (4)
__________
(1) حاشية ابن عابدين 2 / 330، 331.
(2) حاشية الدسوقي2 / 277، 278 ط دار الفكر.
(3) سورة البقرة / 237.
(4) نهاية المحتاج وحاشية أبي الضياء نور الدين عليه 6 / 335، وكشاف القناع 5 / 163.

(8/182)


ادِّعَاءُ الْبَكَارَةِ، وَأَثَرُ ذَلِكَ فِي الاِسْتِحْلاَفِ:
13 - يَرَى الْمَالِكِيَّةُ: أَنَّ مَنْ تَزَوَّجَ امْرَأَةً ظَانًّا أَنَّهَا بِكْرٌ، وَقَال: إِنِّي وَجَدْتُهَا ثَيِّبًا، وَقَالَتْ: بَل وَجَدَنِي بِكْرًا، فَالْقَوْل قَوْلُهَا مَعَ يَمِينِهَا إِنْ كَانَتْ رَشِيدَةً، سَوَاءٌ ادَّعَتْ أَنَّهَا الآْنَ بِكْرٌ، أَمِ ادَّعَى أَنَّهَا كَانَتْ بِكْرًا، وَهُوَ أَزَال بَكَارَتَهَا عَلَى الْمَشْهُورِ فِي الْمَذْهَبِ، وَلاَ يَكْشِفُ عَنْ حَالِهَا. فَإِنْ لَمْ تَكُنْ رَشِيدَةً، وَكَانَتْ لاَ تُحْسِنُ التَّصَرُّفَ، أَوْ صَغِيرَةً، يَحْلِفُ أَبُوهَا، وَلاَ يَنْظُرُهَا النِّسَاءُ جَبْرًا عَلَيْهَا، أَوِ ابْتِدَاءً، وَأَمَّا بِرِضَاهَا فَيَنْظُرْنَهَا، فَإِنْ أَتَى الزَّوْجُ بِامْرَأَتَيْنِ تَشْهَدَانِ لَهُ عَلَى مَا هِيَ مُصَدَّقَةٌ فِيهِ فَإِنَّهُ يُعْمَل بِشَهَادَتِهِمَا، وَكَذَا الْمَرْأَةُ الْوَاحِدَةُ. وَحِينَئِذٍ لاَ تُصَدَّقُ الزَّوْجَةُ، وَظَاهِرُهُ وَلَوْ حَصَلَتِ الشَّهَادَةُ بَعْدَ حَلِفِهَا عَلَى مَا ادَّعَتْ، وَإِنْ كَانَ الأَْبُ أَوْ غَيْرُهُ مِنَ الأَْوْلِيَاءِ عَالِمًا بِثُيُوبَتِهَا بِلاَ وَطْءٍ مِنْ نِكَاحٍ، بَل بِوَثْبَةٍ وَنَحْوِهَا، أَوْ زِنًى وَكَتَمَ عَنِ الزَّوْجِ، فَلِلزَّوْجِ الرَّدُّ عَلَى الأَْصَحِّ إِنْ كَانَ قَدْ شَرَطَ بَكَارَتَهَا، وَيَكُونُ لَهُ الرُّجُوعُ بِالصَّدَاقِ عَلَى الأَْبِ، وَعَلَى غَيْرِهِ إِنْ تَوَلَّى الْعَقْدَ.
وَأَمَّا إِنْ كَانَتِ الثُّيُوبَةُ مِنْ نِكَاحٍ فَتُرَدُّ، وَإِنْ لَمْ يَعْلَمِ الأَْبُ. (1)
وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ (نِكَاح، صَدَاق، عَيْب) .
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: تُصَدَّقُ الْمَرْأَةُ فِي دَعْوَى
__________
(1) حاشية الدسوقي على الشرح الكبير 2 / 284 ـ 286 ط دار الفكر.

(8/182)


بَكَارَتِهَا بِلاَ يَمِينٍ، وَكَذَا فِي ثُيُوبَتِهَا، إِلاَّ إِذَا ادَّعَتْ بَعْدَ الْعَقْدِ أَنَّهَا كَانَتْ ثَيِّبًا قَبْلَهُ فَلاَ بُدَّ مِنْ يَمِينِهَا. وَقَال الْخَطِيبُ الشِّرْبِينِيُّ: يُصَدَّقُ الْوَلِيُّ بِيَمِينِهِ هُنَا؛ لِئَلاَّ يَلْزَمَ بُطْلاَنُ الْعَقْدِ، وَلاَ تُسْأَل عَنْ سَبَبِ زَوَال بَكَارَتِهَا.
وَلَوْ أَقَامَ الْوَلِيُّ بَيِّنَةً بِبَكَارَتِهَا قَبْل الْعَقْدِ لإِِجْبَارِهَا قُبِلَتْ، وَلَوْ أَقَامَتْ هِيَ بَيِّنَةً بَعْدَ الْعَقْدِ بِزَوَال بَكَارَتِهَا قَبْل الْعَقْدِ لَمْ يَبْطُل الْعَقْدُ. (1)
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: مَنْ تَزَوَّجَ امْرَأَةً بِشَرْطِ أَنَّهَا عَذْرَاءُ، فَادَّعَى بَعْدَ دُخُولِهِ بِهَا أَنَّهُ وَجَدَهَا ثَيِّبًا، وَأَنْكَرَتْ ذَلِكَ، لاَ يُقْبَل قَوْلُهُ بَعْدَ وَطْئِهِ فِي عَدَمِ بَكَارَتِهَا؛ لأَِنَّ ذَلِكَ مِمَّا يَخْفَى، فَلاَ يُقْبَل فِي قَوْلِهِ بِمُجَرَّدِ دَعْوَاهُ.
فَإِنْ شَهِدَتِ امْرَأَةٌ عَدْلٌ: أَنَّهَا كَانَتْ ثَيِّبًا قَبْل الدُّخُول قُبِل قَوْلُهَا وَيَثْبُتُ لَهُ الْخِيَارُ، وَإِلاَّ فَلاَ. (2) وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ (نِكَاح، صَدَاق، شَرْط)

بَلاَغٌ

انْظُرْ: تَبْلِيغ.
__________
(1) حاشية قليوبي على منهاج الطالبين 3 / 223 ط عيسى الحلبي بمصر.
(2) مطالب أولي النهى 5 / 131 ط المكتب الإسلامي بدمشق.

(8/183)


بُلْعُومٌ
1 - الْبُلْعُومُ لُغَةً وَاصْطِلاَحًا: هُوَ مَجْرَى الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ، وَمَوْضِعُ الاِبْتِلاَعِ مِنَ الْحَلْقِ. (1)
أَحْكَامٌ تَتَعَلَّقُ بِالْبُلْعُومِ:
الْبُلْعُومُ - بِاعْتِبَارِهِ مَجْرَى الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ بَيْنَ آخِرِ الْفَمِ (أَيْ أَقْصَاهُ، وَهُوَ اللَّهَاةُ) وَالْمَعِدَةِ - تَجْرِي عَلَيْهِ أَحْكَامٌ، مِنْهَا مَا يَتَعَلَّقُ بِمَا يُفْطِرُ بِهِ الصَّائِمُ، وَمِنْهَا مَا يَتَعَلَّقُ بِالتَّذْكِيَةِ وَقَطْعِ الْبُلْعُومِ فِيهَا، وَمِنْهَا مَا يَتَعَلَّقُ بِالْجِنَايَةِ عَلَيْهِ وَالدِّيَةِ فِيهِ.

أ - مَا يَتَعَلَّقُ بِالصَّوْمِ وَمُفْطِرَاتِهِ:
2 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ كُل مَا أُدْخِل فِي الْبُلْعُومِ مِنْ طَعَامٍ أَوْ شَرَابٍ أَوْ دَوَاءٍ فِي فَتْرَةِ الصَّوْمِ
__________
(1) المصباح المنير، ومختار الصحاح، ولسان العرب، والمغرب في ترتيب المعرب، والشرح الكبير 2 / 99، والنظم المستعذب 1 / 259، ورد المحتار على الدر المختار 5 / 187، ومنار السبيل في شرح الدليل 2 / 422 ط المكتب الإسلامي، ونيل المآرب بشرح دليل الطالب 2 / 159 ط الفلاح.

(8/183)


فَإِنَّهُ يُفْطِرُ فِي الْجُمْلَةِ. وَفِي ذَلِكَ تَفْصِيلاَتٌ تُنْظَرُ فِي (الصَّوْمِ) .
وَإِنِ اسْتَقَاءَ وَجَاوَزَ الْقَيْءُ الْبُلْعُومَ أَفْطَرَ عِنْدَ بَعْضِ الْفُقَهَاءِ. (1) وَفِي ذَلِكَ خِلاَفٌ وَتَفْصِيلٌ يُنْظَرُ فِي (الصَّوْمُ) أَيْضًا.

ب - مَا يَتَعَلَّقُ بِالتَّذْكِيَةِ:
3 - اتَّفَقَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ عَلَى ضَرُورَةِ قَطْعِ الْبُلْعُومِ أَثْنَاءَ الذَّبْحِ، ضِمْنَ مَا يُقْطَعُ مِنْ عُرُوقٍ فِي الْمَذْبُوحِ مَعْلُومَةٍ. وَهِيَ الْحُلْقُومُ وَهُوَ: مَجْرَى النَّفَسِ، وَالْوَدَجَانِ وَهُمَا: عِرْقَانِ فِي جَانِبَيِ الْعُنُقِ بَيْنَهُمَا الْحُلْقُومُ وَالْمَرِيءُ، وَيَتَّصِل بِهِمَا أَكْثَرُ عُرُوقِ الْبَدَنِ، وَيَتَّصِلاَنِ بِالدِّمَاغِ. هَذَا بِالإِْضَافَةِ إِلَى الْمَرِيءِ (الْبُلْعُومِ) .
أَمَّا الْمَالِكِيَّةُ فَلَمْ يَشْتَرِطُوا قَطْعَهُ، بَل قَالُوا بِقَطْعِ جَمِيعِ الْحُلْقُومِ، وَقَطْعِ جَمِيعِ الْوَدَجَيْنِ. (2)
__________
(1) الاختيار شرح المختار 1 / 131 ـ 133 ط دار المعرفة، والشرح الكبير وحاشية الدسوقي عليه 1 / 523 ـ 527، والمهذب 1 / 189، 190، ونيل المآب بشرح دليل الطالب 1 / 99 - 100 ط الفلاح.
(2) رد المحتار على الدر المختار 5 / 186ـ 187، والاختيار شرح المختار 3 / 142 - 144 ط مصطفى الحلبي 1936م، والمهذب 1 / 259، ونهاية المحتاج 8 / 110ـ 111، والشرح الكبير 2 / 99، ومنار السبيل في شرح الدليل 2 / 421ـ 423ط المكتب الإسلامي، ونيل المآب بشرح دليل الطالب 2 / 158ـ 159م الفلاح.

(8/184)


وَفِيمَا يُجْزِئُ فِي الذَّبْحِ خِلاَفٌ، مُجْمَلُهُ فِيمَا يَلِي:
ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ الذَّابِحَ إِنْ قَطَعَ جَمِيعَهَا حَل الأَْكْل؛ لِوُجُودِ الذَّكَاةِ. وَكَذَلِكَ إِنْ قَطَعَ ثَلاَثَةً مِنْهَا، أَيَّ ثَلاَثَةٍ كَانَتْ. وَقَال أَبُو يُوسُفَ: لاَ بُدَّ مِنْ قَطْعِ الْحُلْقُومِ وَالْمَرِيءِ وَأَحَدِ الْوَدَجَيْنِ. وَقَال مُحَمَّدٌ: إِنَّهُ يُعْتَبَرُ الأَْكْثَرُ مِنْ كُل عِرْقٍ، وَذَكَرَ الْقُدُورِيُّ قَوْل مُحَمَّدٍ مَعَ أَبِي يُوسُفَ، وَحَمَل الْكَرْخِيُّ قَوْل أَبِي حَنِيفَةَ " وَإِنْ قُطِعَ أَكْثَرُهَا حَل " عَلَى مَا قَالَهُ مُحَمَّدٌ، وَالصَّحِيحُ أَنَّ قَطْعَ أَيِّ ثَلاَثَةٍ مِنْهَا يَكْفِي.
وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ: يُسْتَحَبُّ قَطْعُ الْحُلْقُومِ وَالْمَرِيءِ وَالْوَدَجَيْنِ؛ لأَِنَّهُ أَسْرَعُ وَأَرْوَحُ لِلذَّبِيحَةِ، فَإِنِ اقْتَصَرَ عَلَى قَطْعِ الْحُلْقُومِ وَالْمَرِيءِ أَجْزَأَهُ؛ لأَِنَّ الْحُلْقُومَ مَجْرَى النَّفَسِ، وَالْمَرِيءَ مَجْرَى الطَّعَامِ، وَالرُّوحَ لاَ تَبْقَى مَعَ قَطْعِهِمَا. (1)
وَشَرَطَ الْمَالِكِيَّةُ قَطْعَ جَمِيعِ الْحُلْقُومِ، وَهُوَ الْقَصَبَةُ الَّتِي يَجْرِي فِيهَا النَّفَسُ، وَقَطْعَ جَمِيعِ الْوَدَجَيْنِ، وَلَمْ يَشْتَرِطُوا قَطْعَ الْمَرِيءِ. (2)
أَمَّا الْحَنَابِلَةُ فَاشْتَرَطُوا قَطْعَ الْحُلْقُومِ وَالْمَرِيءِ، وَاكْتَفَوْا بِقَطْعِ الْبَعْضِ مِنْهُمَا، وَلَمْ يَشْتَرِطُوا إِبَانَتَهُمَا؛ لأَِنَّهُ قَطْعٌ فِي مَحَل الذَّبْحِ مَا لاَ تَبْقَى الْحَيَاةُ مَعَهُ، وَاشْتَرَطُوا فَرْيَ الْوَدَجَيْنِ، وَذَكَرَ ابْنُ تَيْمِيَةَ
__________
(1) الاختيار شرح المختار 3 / 144، والمهذب 1 / 259.
(2) الشرح الكبير 2 / 99.

(8/184)


وَجْهًا أَنَّهُ يَكْفِي قَطْعُ ثَلاَثَةٍ مِنَ الأَْرْبَعَةِ، وَقَال: إِنَّهُ الأَْقْوَى، وَسُئِل عَمَّنْ قَطَعَ الْحُلْقُومَ وَالْوَدَجَيْنِ لَكِنْ فَوْقَ الْجَوْزَةِ؟ فَقَال: هَذَا فِيهِ نِزَاعٌ، وَالصَّحِيحُ أَنَّهَا تَحِل. (1) وَالتَّفْصِيل يُرْجَعُ فِيهِ إِلَى: (تَذْكِيَة) .

ج - مَا يَتَعَلَّقُ بِالْجِنَايَةِ:
4 - الْفُقَهَاءُ مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّ الْجُرُوحَ - فِيمَا عَدَا الرَّأْسِ وَالْوَجْهِ - تَنْقَسِمُ إِلَى جَائِفَةٍ وَغَيْرِ جَائِفَةٍ.
قَال الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ: إِنَّ الْجَائِفَةَ هِيَ الَّتِي تَصِل إِلَى الْجَوْفِ مِنَ الْبَطْنِ أَوِ الظَّهْرِ أَوِ الْوَرِكِ أَوِ الثَّغْرِ (ثُغْرَةِ النَّحْرِ) أَوِ الْحَلْقِ أَوِ الْمَثَانَةِ، وَقَال الْحَنَفِيَّةُ: إِنَّ مَا وَصَل مِنَ الرَّقَبَةِ إِلَى الْمَوْضِعِ الَّذِي لَوْ وَصَل إِلَيْهِ مِنَ الشَّرَابِ قَطْرَةٌ لأََفْطَرَ يَكُونُ جَائِفَةً؛ لأَِنَّهُ لاَ يُفْطِرُ إِلاَّ إِذَا كَانَ وَصَل إِلَى الْجَوْفِ.
وَفِي الْجَائِفَةِ ثُلُثُ الدِّيَةِ، فَإِنْ نَفَذَتْ فَهِيَ جَائِفَتَانِ (2) قَال عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فِي
__________
(1) منار السبيل في شرح الدليل 2 / 422 - 423 المكتب الإسلامي، ونيل المآرب بشرح دليل الطالب 2 / 159 ط الفلاح.
(2) الاختيار شرح المختار 5 / 42 ط دار المعرفة، وبدائع الصنائع في ترتيب الشرائع 7 / 296، وتكملة فتح القدير 8 / 813، والمهذب في شرح فقه الإمام الشافعي 2 / 200 - 201، ومنار السبيل في شرح الدليل 2 / 352 - 353، ط المكتب الإسلامي، ونيل المآرب بشرح دليل الطالب 2 / 135 ط الفلاح.

(8/185)


الْجَائِفَةِ ثُلُثُ الدِّيَةِ (1) وَعَنْ أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ حَكَمَ فِي جَائِفَةٍ نَفَذَتْ بِثُلُثَيِ الدِّيَةِ (2) لأَِنَّهَا إِنْ نَفَذَتْ فَهِيَ جَائِفَتَانِ، وَهَذَا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ.
أَمَّا الْمَالِكِيَّةُ فَقَدْ قَالُوا: إِنَّ الْجَائِفَةَ مُخْتَصَّةٌ بِالْبَطْنِ وَالظَّهْرِ، وَفِيهَا ثُلُثٌ مِنَ الدِّيَةِ الْمُخَمَّسَةِ، فَإِنْ نَفَذَتْ فَهِيَ جَائِفَتَانِ. (3) وَالتَّفْصِيل فِي (الْجِنَايَات، وَالدِّيَات) .

بَلْغَمٌ

انْظُرْ: نُخَامَة.
__________
(1) حديث: " في الجائفة ثلث الدية " أخرجه ابن أبي شيبة (9 / 210 - 211 - الدار السلفية - بمبي) مرسلا، وله طرق يتقوى بها: (نصب الراية للزيلعي 4 / 375 - ط المجلس العلمي) .
(2) الأثر عن أبي بكر رضي الله عنه: " أنه حكم في جائفة. . . " أخرجه عبد الرزاق في مصنفه (9 / 369 - ط المجلس العلمي) .
(3) الشرح الكبير 4 / 270 - 271، وشرح الزرقاني على مختصر خليل 8 / 34 - 35.

(8/185)


بُلُوغٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الْبُلُوغُ لُغَةً: الْوُصُول، يُقَال بَلَغَ الشَّيْءُ يَبْلُغُ بُلُوغًا وَبَلاَغًا: وَصَل وَانْتَهَى،
وَبَلَغَ الصَّبِيُّ: احْتَلَمَ وَأَدْرَكَ وَقْتَ التَّكْلِيفِ، وَكَذَلِكَ بَلَغَتِ الْفَتَاةُ. (1)
وَاصْطِلاَحًا: انْتِهَاءُ حَدِّ الصِّغَرِ فِي الإِْنْسَانِ، لِيَكُونَ أَهْلاً لِلتَّكَالِيفِ الشَّرْعِيَّةِ. أَوْ هُوَ: قُوَّةٌ تَحْدُثُ فِي الصَّبِيِّ، يَخْرُجُ بِهَا عَنْ حَالَةِ الطُّفُولِيَّةِ إِلَى غَيْرِهَا. (2)
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - الْكِبَرُ:
2 - الْكِبَرُ وَالصِّغَرُ مَعْنَيَانِ إِضَافِيَّانِ، فَقَدْ يَكُونُ الشَّيْءُ كَبِيرًا بِالنِّسْبَةِ لآِخَرَ، صَغِيرًا لِغَيْرِهِ،
__________
(1) لسان العرب المحيط، والمصباح المنير مادة: " بلغ " ورد المحتار على الدر المختار 5 / 97.
(2) شرح الزرقاني 5 / 290، والشرح الصغير على أقرب المسالك 1 / 133 ط دار المعارف بمصر.

(8/186)


وَلَكِنَّ الْفُقَهَاءَ يُطْلِقُونَ الْكِبَرَ فِي السِّنِّ عَلَى مَعْنَيَيْنِ.
الأَْوَّل: أَنْ يَبْلُغَ الإِْنْسَانُ مَبْلَغَ الشَّيْخُوخَةِ وَالضَّعْفِ بَعْدَ تَجَاوُزِهِ مَرْحَلَةَ الْكُهُولَةِ. (1)
الثَّانِي: أَنْ يُرَادَ بِهِ الْخُرُوجُ عَنْ حَدِّ الصِّغَرِ بِدُخُول مَرْحَلَةِ الشَّبَابِ، فَيَكُونُ بِمَعْنَى الْبُلُوغِ الْمُصْطَلَحِ عَلَيْهِ.

ب - الإِْدْرَاكُ:
3 - الإِْدْرَاكُ: لُغَةً مَصْدَرُ أَدْرَكَ، وَأَدْرَكَ الصَّبِيُّ وَالْفَتَاةُ: إِذَا بَلَغَا. وَيُطْلَقُ الإِْدْرَاكُ فِي اللُّغَةِ وَيُرَادُ بِهِ: اللَّحَاقُ، يُقَال: مَشَيْتُ حَتَّى أَدْرَكْتُهُ. وَيُرَادُ بِهِ أَيْضًا: الْبُلُوغُ فِي الْحَيَوَانِ وَالثَّمَرِ. كَمَا يُسْتَعْمَل فِي الرُّؤْيَةِ فَيُقَال: أَدْرَكْتُهُ بِبَصَرِي: أَيْ رَأَيْتُهُ.
وَقَدِ اسْتَعْمَل الْفُقَهَاءُ الإِْدْرَاكَ بِمَعْنَى: بُلُوغِ الْحُلُمِ، فَيَكُونُ مُسَاوِيًا لِلَفْظِ الْبُلُوغِ بِهَذَا الإِْطْلاَقِ،
وَيُطْلِقُ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ الإِْدْرَاكَ وَيُرِيدُونَ بِهِ أَوَانَ النُّضْجِ. (2)
__________
(1) القاموس المحيط، والمصباح المنير، والتعريفات للجرجاني ص 97، والأشباه والنظائر لابن نجيم ص 122.
(2) لسان العرب المحيط، والمصباح المنير، وطلبة الطلبة والتعريفات للجرجاني، والكليات لأبي البقاء، والمغرب في ترتيب المعرب، والنظم المستعذب 1 / 349 ط الحلبي، وحاشية قليوبي 3 / 64 ط الحلبي.

(8/186)


ج الْحُلْمُ وَالاِحْتِلاَمُ:
4 - الاِحْتِلاَمُ: مَصْدَرُ احْتَلَمَ، وَالْحُلْمُ: اسْمُ الْمَصْدَرِ. وَهُوَ لُغَةً: رُؤْيَا النَّائِمِ مُطْلَقًا، خَيْرًا كَانَ الْمَرْئِيُّ أَوْ شَرًّا. وَفَرَّقَ الشَّارِعُ بَيْنَهُمَا، فَخَصَّ الرُّؤْيَا بِالْخَيْرِ، وَخَصَّ الْحُلْمَ بِضِدِّهِ.
ثُمَّ اسْتَعْمَل الاِحْتِلاَمَ وَالْحُلْمَ بِمَعْنًى أَخَصَّ مِنْ ذَلِكَ، وَهُوَ: أَنْ يَرَى النَّائِمُ أَنَّهُ يُجَامِعُ، سَوَاءٌ أَكَانَ مَعَ ذَلِكَ إِنْزَالٌ أَمْ لاَ ثُمَّ اسْتَعْمَل هَذَا اللَّفْظَ بِمَعْنَى الْبُلُوغِ،
وَعَلَى هَذَا يَكُونُ الْحُلْمُ وَالاِحْتِلاَمُ وَالْبُلُوغُ بِهَذَا الْمَعْنَى أَلْفَاظًا مُتَرَادِفَةً.

د - الْمُرَاهَقَةُ:
5 - الْمُرَاهَقَةُ: مُقَارَبَةُ الْبُلُوغِ، وَرَاهَقَ الْغُلاَمُ وَالْفَتَاةُ مُرَاهَقَةً: قَارَبَا الْبُلُوغَ، وَلَمْ يَبْلُغَا،
وَلاَ يَخْرُجُ الْمَعْنَى الاِصْطِلاَحِيُّ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ.
وَبِهَذَا تَكُونُ الْمُرَاهَقَةُ وَالْبُلُوغُ لَفْظَيْنِ مُتَبَايِنَيْنِ (1) . (2)

هـ - الأَْشُدُّ:
6 - الأَْشُدُّ لُغَةً: بُلُوغُ الرَّجُل الْحُنْكَةَ وَالْمَعْرِفَةَ. وَالأَْشُدُّ: طَوْرٌ يَبْتَدِئُ بَعْدَ انْتِهَاءِ حَدِّ الصِّغَرِ،
__________
(1) لسان العرب المحيط، والمصباح المنير، والتعريفات للجرجاني مادة " رهق "، وابن عابدين 5 / 421
(2) لسان العرب المحيط، والمصباح المنير، والتعريفات للجرجاني مادة " رهق " وابن عابدين 5 / 421.

(8/187)


أَيْ مِنْ وَقْتِ بُلُوغِ الإِْنْسَانِ مَبْلَغَ الرِّجَال إِلَى سِنِّ الأَْرْبَعِينَ، وَقَدْ يُطْلَقُ الأَْشُدُّ عَلَى الإِْدْرَاكِ وَالْبُلُوغِ. وَقِيل: أَنْ يُؤْنَسَ مِنْهُ الرُّشْدُ مَعَ أَنْ يَكُونَ بَالِغًا. فَالأَْشُدُّ مُسَاوٍ لِلْبُلُوغِ فِي بَعْضِ إِطْلاَقَاتِهِ (1) .

الرُّشْدُ:
7 - الرُّشْدُ لُغَةً: خِلاَفُ الضَّلاَل. وَالرُّشْدُ، وَالرَّشَدُ، وَالرَّشَادُ: نَقِيضُ الضَّلاَل، وَهُوَ: إِصَابَةُ وَجْهِ الأَْمْرِ وَالاِهْتِدَاءُ إِلَى الطَّرِيقِ.
وَالرُّشْدُ فِي اصْطِلاَحِ الْفُقَهَاءِ: الصَّلاَحُ فِي الْمَال لاَ غَيْرُ عِنْدَ أَكْثَرِ الْعُلَمَاءِ، مِنْهُمْ: أَبُو حَنِيفَةَ وَمَالِكٌ وَأَحْمَدُ. وَقَال الْحَسَنُ وَالشَّافِعِيُّ وَابْنُ الْمُنْذِرِ: الصَّلاَحُ فِي الدِّينِ وَالْمَال. (2)
وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ (رُشْد) (وَالْوِلاَيَةُ عَلَى الْمَال) .
وَلَيْسَ لِلرُّشْدِ سِنٌّ مُعَيَّنَةٌ، وَقَدْ يَحْصُل قَبْل
__________
(1) لسان العرب المحيط، والمغرب في ترتيب المعرب، والكليات لأبي البقاء، تحفة المودود بأحكام المولود ص 235 ط مطبعة المدني، وتفسير القرطبي 16 / 194 ط مكتبة دار الكتب المصرية.
(2) لسان العرب والمغرب في ترتيب المعرب، والمصباح المنير، والكليات لأبي البقاء مادة: " رشد " والمغني والشرح الكبير 4 / 415، 416، ونهاية المحتاج 4 / 346، 353، وشرح منهاج الطالبين مع الحاشيتين عليه 2 / 301، 302.

(8/187)


الْبُلُوغِ، وَهَذَا نَادِرٌ لاَ حُكْمَ لَهُ، وَقَدْ يَحْصُل مَعَ الْبُلُوغِ أَوْ بَعْدَهُ، وَفِي اسْتِعْمَال الْفُقَهَاءِ: كُل رَشِيدٍ بَالِغٌ، وَلَيْسَ كُل بَالِغٍ رَشِيدًا.

عَلاَمَاتُ الْبُلُوغِ الطَّبِيعِيَّةِ فِي الذَّكَرِ، وَالأُْنْثَى، وَالْخُنْثَى:
8 - لِلْبُلُوغِ عَلاَمَاتٌ طَبِيعِيَّةٌ ظَاهِرَةٌ، مِنْهَا مَا هُوَ مُشْتَرَكٌ بَيْنَ الذَّكَرِ وَالأُْنْثَى، وَمِنْهَا مَا يَخْتَصُّ بِأَحَدِهِمَا. وَفِيمَا يَلِي بَيَانُ الْعَلاَمَاتِ الْمُشْتَرَكَةِ:

الاِحْتِلاَمُ:
9 - الاِحْتِلاَمُ: خُرُوجُ الْمَنِيِّ مِنَ الرَّجُل أَوِ الْمَرْأَةِ فِي يَقَظَةٍ أَوْ مَنَامٍ لِوَقْتِ إِمْكَانِهِ (1) . لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِذَا بَلَغَ الأَْطْفَال مِنْكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا} (2) وَلِحَدِيثِ: خُذْ مِنْ كُل حَالِمٍ دِينَارًا. (3)
الإِْنْبَاتُ:
10 - الإِْنْبَاتُ: ظُهُورُ شَعْرِ الْعَانَةِ، وَهُوَ الَّذِي يَحْتَاجُ فِي إِزَالَتِهِ إِلَى نَحْوِ حَلْقٍ، دُونَ الزَّغَبِ الضَّعِيفِ الَّذِي يَنْبُتُ لِلصَّغِيرِ. وَنَجِدُ فِي كَلاَمِ
__________
(1) شرح منهج الطالبين وحاشية قليوبي 2 / 300.
(2) سورة النور / 59.
(3) حديث: " خذ من كل حالم دينارا. . . " أخرجه الترمذي (3 / 11 ط ـ الحلبي) والحاكم (1 / 398 ـ ط دائرة المعارف العثمانية) وصححه ووافقه الذهبي.

(8/188)


بَعْضِ الْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ: أَنَّ الإِْنْبَاتَ إِذَا جُلِبَ وَاسْتُعْمِل بِوَسَائِل صِنَاعِيَّةٍ مِنَ الأَْدْوِيَةِ وَنَحْوِهَا فَإِنَّهُ لاَ يَكُونُ مُثْبِتًا لِلْبُلُوغِ، قَالُوا: لأَِنَّهُ قَدْ يُسْتَعْجَل الإِْنْبَاتُ بِالدَّوَاءِ وَنَحْوِهِ لِتَحْصِيل الْوِلاَيَاتِ وَالْحُقُوقِ الَّتِي لِلْبَالِغِينَ. (1)
وَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي اعْتِبَارِ الإِْنْبَاتِ عَلاَمَةً عَلَى الْبُلُوغِ، عَلَى أَقْوَالٍ ثَلاَثَةٍ:

11 - الأَْوَّل: أَنَّ الإِْنْبَاتَ لَيْسَ بِعَلاَمَةٍ عَلَى الْبُلُوغِ مُطْلَقًا. أَيْ لاَ فِي حَقِّ اللَّهِ وَلاَ فِي حَقِّ الْعِبَادِ. وَهُوَ قَوْل أَبِي حَنِيفَةَ، وَرِوَايَةٌ عَنْ مَالِكٍ عَلَى مَا فِي بَابِ الْقَذْفِ مِنَ الْمُدَوَّنَةِ، وَنَحْوُهُ لاِبْنِ الْقَاسِمِ فِي بَابِ الْقَطْعِ فِي السَّرِقَةِ، قَال الدُّسُوقِيُّ: وَظَاهِرُهُ لاَ فَرْقَ بَيْنَ حَقِّ اللَّهِ وَحَقِّ الآْدَمِيِّينَ. (2)
12 - الثَّانِي: أَنَّ الإِْنْبَاتَ عَلاَمَةُ الْبُلُوغِ مُطْلَقًا. وَهُوَ مَذْهَبُ الْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، وَرِوَايَةٌ عَنْ أَبِي يُوسُفَ ذَكَرَهَا ابْنُ عَابِدِينَ وَصَاحِبُ الْجَوْهَرَةِ، إِلاَّ أَنَّ ابْنَ حَجَرٍ نَقَل أَنَّ مَالِكًا لاَ يُقِيمُ الْحَدَّ عَلَى مَنْ لَمْ يَثْبُتْ بُلُوغُهُ بِغَيْرِ الإِْنْبَاتِ؛ لأَِنَّ الشُّبْهَةَ فِيهِ تَمْنَعُ مِنْ إِقَامَةِ الْحَدِّ،
وَاحْتَجَّ أَصْحَابُ هَذَا الْقَوْل بِحَدِيثٍ نَبَوِيٍّ، وَآثَارٍ عَنِ الصَّحَابَةِ. فَأَمَّا الْحَدِيثُ: فَمَا وَرَدَ أَنَّ
__________
(1) الجمل على المنهج 3 / 338، وكشاف القناع 6 / 454.
(2) الشرح الكبير وحاشية الدسوقي3 / 293.

(8/188)


النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا حَكَّمَ سَعْدَ بْنَ مُعَاذٍ فِي بَنِي قُرَيْظَةَ، فَحَكَمَ بِقَتْل مُقَاتِلَتِهِمْ وَسَبْيِ ذَرَارِيِّهِمْ، وَأَمَرَ أَنْ يُكْشَفَ عَنْ مُؤْتَزِرِهِمْ، فَمَنْ أَنْبَتَ فَهُوَ مِنَ الْمُقَاتِلَةِ، وَمَنْ لَمْ يُنْبِتْ فَهُوَ مِنَ الذُّرِّيَّةِ. بَلَغَ ذَلِكَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَال: لَقَدْ حَكَمْتَ فِيهِمْ بِحُكْمِ اللَّهِ مِنْ فَوْقِ سَبْعَةِ أَرْقِعَةٍ (1)
وَمِنْ هُنَا قَال عَطِيَّةُ بْنُ كَعْبٍ الْقُرَظِيُّ: كُنْتُ مَعَهُمْ يَوْمَ قُرَيْظَةَ. فَأَمَرَ أَنْ يُنْظَرَ إِلَيَّ هَل أَنْبَتُّ، فَكَشَفُوا عَانَتِي، فَوَجَدُوهَا لَمْ تَنْبُتْ، فَجَعَلُونِي فِي السَّبْيِ (2) .
وَأَمَّا مَا وَرَدَ عَنِ الصَّحَابَةِ، فَمِنْهُ أَنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ كَتَبَ إِلَى عَامِلِهِ أَنْ لاَ يَقْتُل إِلاَّ مَنْ جَرَتْ عَلَيْهِ الْمَوَاسِي، وَلاَ يَأْخُذَ الْجِزْيَةَ إِلاَّ مِمَّنْ جَرَتْ عَلَيْهِ الْمَوَاسِي وَأَنَّ غُلاَمًا مِنَ الأَْنْصَارِ شَبَّبَ بِامْرَأَةٍ فِي شِعْرِهِ، فَرُفِعَ إِلَى عُمَرَ فَلَمْ يَجِدْهُ أَنْبَتَ فَقَال: لَوْ أَنْبَتَّ الشَّعْرَ لَحَدَدْتُكَ (3) .
__________
(1) حديث: " لقد حكمت فيهم بحكم الله. . . " أخرجه النسائي في مختصر العلو للذهبي (ص 87ـ المكتب الإسلامي) وأصله في البخاري (الفتح 7 / 411 ـ ط السلفية) ومسلم (3 / 1389 ـ ط الحلبي) .
(2) قول عطية القرظي: كنت معهم يوم قريظة أخرجه أبو داود (4 / 561 - ط عزت عبيد دعاس) والترمذي (4 / 145 - ط الحلبي) وقال: حسن صحيح.
(3) أورد الخبرين صاحب المغني 4 / 509 و 8 / 476 وانظر الشرح الكبير والدسوقي 3 / 293، وفتح الباري 5 / 277.

(8/189)


13 - الْقَوْل الثَّالِثُ: إِنَّ الإِْنْبَاتَ بُلُوغٌ فِي بَعْضِ الصُّوَرِ دُونَ بَعْضٍ. وَهُوَ قَوْل الشَّافِعِيَّةِ، وَبَعْضِ الْمَالِكِيَّةِ.

فَيَرَى الشَّافِعِيَّةُ أَنَّ الإِْنْبَاتَ يَقْتَضِي الْحُكْمَ بِبُلُوغِ وَلَدِ الْكَافِرِ، وَمَنْ جُهِل إِسْلاَمُهُ، دُونَ الْمُسْلِمِ وَالْمُسْلِمَةِ. وَهُوَ عِنْدَهُمْ أَمَارَةٌ عَلَى الْبُلُوغِ بِالسِّنِّ أَوْ بِالإِْنْزَال، وَلَيْسَ بُلُوغًا حَقِيقَةً. قَالُوا: وَلِهَذَا لَوْ لَمْ يَحْتَلِمْ، وَشَهِدَ عَدْلاَنِ بِأَنَّ عُمُرَهُ دُونَ خَمْسَةَ عَشْرَةَ سَنَةً، لَمْ يُحْكَمْ بِبُلُوغِهِ بِالإِْنْبَاتِ.
وَإِنَّمَا فَرَّقُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمُسْلِمِ فِي ذَلِكَ لِسُهُولَةِ مُرَاجَعَةِ آبَاءِ الْمُسْلِمِ وَأَقَارِبِهِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ؛ وَلأَِنَّ الصَّبِيَّ الْمُسْلِمَ مُتَّهَمٌ فِي الإِْنْبَاتِ، فَرُبَّمَا تَعَجَّلَهُ بِدَوَاءٍ دَفْعًا لِلْحَجْرِ عَنْ نَفْسِهِ وَتَشَوُّفًا لِلْوِلاَيَاتِ، بِخِلاَفِ الْكَافِرِ فَإِنَّهُ لاَ يَسْتَعْجِلُهُ. (1)
14 - وَيَرَى بَعْضُ الْمَالِكِيَّةِ أَنَّ الإِْنْبَاتَ يُقْبَل عَلاَمَةً فِي أَعَمِّ مِمَّا ذَهَبَ إِلَيْهِ الشَّافِعِيَّةُ، فَقَدْ قَال ابْنُ رُشْدٍ: إِنَّ الإِْنْبَاتَ عَلاَمَةٌ فِيمَا بَيْنَ الشَّخْصِ وَبَيْنَ غَيْرِهِ مِنَ الآْدَمِيِّينَ مِنْ قَذْفٍ وَقَطْعٍ وَقَتْلٍ.
وَأَمَّا فِيمَا بَيْنَ الشَّخْصِ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى فَلاَ خِلاَفَ - يَعْنِي عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ - أَنَّهُ لَيْسَ بِعَلاَمَةٍ.
__________
(1) نهاية المحتاج 4 / 347، والمنهج وشرحه وحاشية الجمل 3 / 338، 339، وقد نقل صاحب المغني وابن حجر في الفتح قول الشافعي في الكافر وهو ما ذكرناه هنا، وأن قوله في المسلم اختلف، ولم نجد هذا الاختلاف في كتب الشافعية.

(8/189)


وَبَنَى بَعْضُ الْمَالِكِيَّةِ عَلَى هَذَا الْقَوْل أَنَّهُ لَيْسَ عَلَى مَنْ أَنْبَتَ، وَلَمْ يَحْتَلِمْ إِثْمٌ فِي تَرْكِ الْوَاجِبَاتِ وَارْتِكَابِ الْمُحَرَّمَاتِ، وَلاَ يَلْزَمُهُ فِي الْبَاطِنِ عِتْقٌ وَلاَ حَدٌّ، وَإِنْ كَانَ الْحَاكِمُ يُلْزِمُهُ ذَلِكَ؛ لأَِنَّهُ يَنْظُرُ فِيهِ وَيَحْكُمُ بِمَا ظَهَرَ لَهُ (1)
وَالْحُجَّةُ لِلطَّرَفَيْنِ الْحَدِيثُ الْمُتَقَدِّمُ ذِكْرُهُ الْوَارِدُ فِي شَأْنِ بَنِي قُرَيْظَةَ. أَمَّا الشَّافِعِيَّةُ فَقَدْ قَصَرُوا حُكْمَهُ عَلَى مَخْرَجِهِ، فَإِنَّ بَنِي قُرَيْظَةَ كَانُوا كُفَّارًا، وَابْنُ رُشْدٍ وَمَنْ مَعَهُ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ جَعَلُوهُ فِيمَا هُوَ أَعَمُّ مِنْ ذَلِكَ، أَيْ فِي الأَْحْكَامِ الظَّاهِرَةِ، بِنَوْعٍ مِنَ الْقِيَاسِ (2) .

مَا تَخْتَصُّ بِهِ الأُْنْثَى مِنْ عَلاَمَاتِ الْبُلُوغِ:
15 - تَزِيدُ الأُْنْثَى وَتَخْتَصُّ بِعَلاَمَتَيْنِ: هُمَا الْحَيْضُ؛ إِذْ هُوَ عَلَمٌ عَلَى بُلُوغِهَا لِحَدِيثِ: لاَ يَقْبَل اللَّهُ صَلاَةَ حَائِضٍ إِلاَّ بِخِمَارٍ. (3)
وَخَصَّ الْمَالِكِيَّةُ الْحَيْضَ بِالَّذِي لَمْ يَتَسَبَّبْ فِي جَلْبِهِ، وَإِلاَّ فَلاَ يَكُونُ عَلاَمَةً.
وَالْحَمْل عَلاَمَةٌ عَلَى بُلُوغِ الأُْنْثَى؛ لأَِنَّ اللَّهَ
__________
(1) الدسوقي على الشرح الكبير 3 / 293.
(2) المحلى 1 / 89، والمغني 4 / 509
(3) حديث: " لا يقبل الله صلاة حائض إلا بخمار. . . . " أخرجه أبو داود (1 / 421 ـ ط عزت عبيد دعاس) والحاكم (1 / 251 ـ ط دائرة المعارف العثمانية) وصححه، ووافقه الذهبي.

(8/190)


تَعَالَى أَجْرَى الْعَادَةَ أَنَّ الْوَلَدَ يُخْلَقُ مِنْ مَاءِ الرِّجَال وَمَاءِ الْمَرْأَةِ. قَال تَعَالَى: {فَلْيَنْظُرِ الإِْنْسَانُ مِمَّ خُلِقَ خُلِقَ مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ} (1)
فَإِذَا وُجِدَ وَاحِدٌ مِنَ الْعَلاَمَاتِ السَّابِقَةِ حُكِمَ بِالْبُلُوغِ عَلَى الْوَجْهِ الْمُتَقَدِّمِ، وَإِنْ لَمْ يُوجَدْ كَانَ الْبُلُوغُ بِالسِّنِّ عَلَى النَّحْوِ الْمُبَيَّنِ فِي مَوَاطِنِهِ مِنَ الْبَحْثِ.
16 - وَاعْتَبَرَ الْمَالِكِيَّةُ مِنْ عَلاَمَاتِ الْبُلُوغِ فِي الذَّكَرِ وَالأُْنْثَى - زِيَادَةً عَلَى مَا تَقَدَّمَ - نَتْنَ الإِْبْطِ، وَفَرْقَ الأَْرْنَبَةِ، وَغِلَظَ الصَّوْتِ.
وَاعْتَبَرَ الشَّافِعِيَّةُ أَيْضًا مِنْ عَلاَمَاتِ الْبُلُوغِ فِي الذَّكَرِ - زِيَادَةً عَلَى مَا سَبَقَ - نَبَاتَ الشَّعْرِ الْخَشِنِ لِلشَّارِبِ، وَثِقَل الصَّوْتِ، وَنُتُوءَ طَرَفِ الْحُلْقُومِ، وَنَحْوَ ذَلِكَ. وَفِي الأُْنْثَى نُهُودُ الثَّدْيِ. (2)
عَلاَمَاتُ الْبُلُوغِ الطَّبِيعِيَّةِ لَدَى الْخُنْثَى:
17 - الْخُنْثَى إِنْ كَانَ غَيْرَ مُشْكِلٍ، وَأُلْحِقَ بِالذُّكُورِ أَوِ الإِْنَاثِ، فَعَلاَمَةُ بُلُوغِهِ بِحَسَبِ النَّوْعِ الَّذِي أُلْحِقَ بِهِ.
__________
(1) سورة الطارق 5 - 7.
(2) ابن عابدين 5 / 97، وحاشية الدسوقي على الشرح الكبير 3 / 393، والشرح الصغير على أقرب المسالك 3 / 404، وشرح المنهاج مع الحاشية 4 / 346، ونهاية المحتاج 6 / 348، والمغني والشرح الكبير 4 / 512، 513.

(8/190)


أَمَّا الْخُنْثَى الْمُشْكِل فَعَلاَمَاتُ الْبُلُوغِ الطَّبِيعِيَّةُ لَدَيْهِ كَعَلاَمَاتِ الْبُلُوغِ لَدَى الذُّكُورِ أَوِ الإِْنَاثِ، فَيُحْكَمُ بِبُلُوغِهِ بِالإِْنْزَال أَوِ الإِْنْبَاتِ أَوْ غَيْرِهِمَا مِنَ الْعَلاَمَاتِ الْمُشْتَرَكَةِ أَوِ الْخَاصَّةِ، عَلَى التَّفْصِيل الْمُتَقَدِّمِ، وَهَذَا قَوْل الْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، وَهُوَ قَوْل بَعْضِ الشَّافِعِيَّةِ.
أَمَّا الْقَوْل الثَّانِي، وَهُوَ الْمُعْتَمَدُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ: أَنَّهُ لاَ بُدَّ مِنْ وُجُودِ الْعَلاَمَةِ فِي الْفَرْجَيْنِ جَمِيعًا، فَلَوْ أَمْنَى الْخُنْثَى مِنْ ذَكَرِهِ، وَحَاضَتْ مِنْ فَرْجِهَا، أَوْ أَمْنَى مِنْهُمَا جَمِيعًا حُكِمَ بِبُلُوغِهِ، أَمَّا لَوْ أَمْنَى مِنْ ذَكَرِهِ فَقَطْ، أَوْ حَاضَتْ مِنْ فَرْجِهَا فَقَطْ فَلاَ يُحْكَمُ بِالْبُلُوغِ. (1)
18 - وَاسْتَدَل ابْنُ قُدَامَةَ مِنَ الْحَنَابِلَةِ عَلَى الاِكْتِفَاءِ بِأَيِّ الْعَلاَمَتَيْنِ تَظْهَرُ أَوَّلاً، بِأَنَّ خُرُوجَ مَنِيِّ الرَّجُل مِنَ الْمَرْأَةِ مُسْتَحِيلٌ، وَخُرُوجَ الْحَيْضِ مِنَ الرَّجُل مُسْتَحِيلٌ، فَكَانَ خُرُوجُ أَيٍّ مِنْهُمَا دَلِيلاً عَلَى تَعْيِينِ كَوْنِ الْخُنْثَى أُنْثَى أَوْ ذَكَرًا، فَإِذَا ثَبَتَ التَّعْيِينُ لَزِمَ كَوْنُهُ دَلِيلاً عَلَى الْبُلُوغِ، كَمَا لَوْ تَعَيَّنَ قَبْل خُرُوجِهِ؛ وَلأَِنَّهُ مَنِيٌّ خَارِجٌ مِنْ ذَكَرٍ، أَوْ حَيْضٌ خَارِجٌ مِنْ فَرْجٍ، فَكَانَ عَلَمًا عَلَى الْبُلُوغِ، كَالْمَنِيِّ الْخَارِجِ مِنَ الْغُلاَمِ، وَالْحَيْضِ الْخَارِجِ مِنَ الْجَارِيَةِ. قَال: وَلأَِنَّهُمْ سَلَّمُوا أَنَّ خُرُوجَهُمَا مَعًا دَلِيل الْبُلُوغِ، فَخُرُوجُ أَحَدِهِمَا أَوْلَى؛ لأَِنَّ خُرُوجَهُمَا مَعًا يَقْتَضِي تَعَارُضَهُمَا
__________
(1) نهاية المحتاج 4 / 349.

(8/191)


وَإِسْقَاطَ دَلاَلَتِهِمَا؛ إِذْ لاَ يُتَصَوَّرُ حَيْضٌ صَحِيحٌ وَمَنِيُّ رَجُلٍ. فَيَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ أَحَدُهُمَا فَضْلَةً خَارِجَةً مِنْ غَيْرِ مَحَلِّهَا، وَلَيْسَ أَحَدُهُمَا أَوْلَى بِذَلِكَ مِنَ الآْخَرِ، فَتَبْطُل دَلاَلَتُهُمَا، كَالْبَيِّنَتَيْنِ إِذَا تَعَارَضَتَا، أَمَّا إِنْ وُجِدَ الْخُرُوجُ مِنْ أَحَدِهِمَا مِنْ غَيْرِ مُعَارِضٍ، وَجَبَ أَنْ يَثْبُتَ حُكْمُهُ، وَيُقْضَى بِثُبُوتِ دَلاَلَتِهِ. (1)
19 - وَأَمَّا الْحَنَفِيَّةُ فَلَمْ نَجِدْ - فِي مَا اطَّلَعْنَا عَلَيْهِ - مِنْ كَلاَمِهِمْ تَعَرُّضًا صَرِيحًا لِهَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، وَلَكِنْ يَبْدُو أَنَّ قَوْل الْحَنَفِيَّةِ كَقَوْل الْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ؛ لِظَاهِرِ مَا فِي شَرْحِ الأَْشْبَاهِ مِنْ قَوْلِهِ فِي بَابِ أَحْكَامِ الْخُنْثَى: إِذَا كَانَ الْخُنْثَى بَالِغًا، بِأَنْ بَلَغَ بِالسِّنِّ، وَلَمْ يَظْهَرْ شَيْءٌ مِنْ عَلاَمَاتِ الرِّجَال أَوِ النِّسَاءِ، لاَ تُجْزِيهِ الصَّلاَةُ بِغَيْرِ قِنَاعٍ؛ لأَِنَّ الرَّأْسَ مِنَ الْحُرَّةِ عَوْرَةٌ. (2)

الْبُلُوغُ بِالسِّنِّ:
20 - جَعَل الشَّارِعُ الْبُلُوغَ أَمَارَةً عَلَى أَوَّل كَمَال الْعَقْل؛ لأَِنَّ الاِطِّلاَعَ عَلَى أَوَّل كَمَال الْعَقْل مُتَعَذِّرٌ، فَأُقِيمَ الْبُلُوغُ مَقَامَهُ.
وَالْبُلُوغُ بِالسِّنِّ: يَكُونُ عِنْدَ عَدَمِ وُجُودِ عَلاَمَةٍ مِنْ عَلاَمَاتِ الْبُلُوغِ قَبْل ذَلِكَ، وَاخْتَلَفَ
__________
(1) المغني 4 / 511، وشرح المنتهى 2 / 290.
(2) شرح الأشباه والنظائر ص 502، الطبعة الهندية.

(8/191)


الْفُقَهَاءُ فِي سِنِّ الْبُلُوغِ.
فَيَرَى الشَّافِعِيَّةُ، وَالْحَنَابِلَةُ، وَأَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ: (1) أَنَّ الْبُلُوغَ بِالسِّنِّ يَكُونُ بِتَمَامِ خَمْسَ عَشْرَةَ سَنَةً قَمَرِيَّةً لِلذَّكَرِ وَالأُْنْثَى، كَمَا صَرَّحَ الشَّافِعِيَّةُ بِأَنَّهَا تَحْدِيدِيَّةٌ؛ لِخَبَرِ ابْنِ عُمَرَ عُرِضْتُ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ أُحُدٍ، وَأَنَا ابْنُ أَرْبَعَ عَشْرَةَ سَنَةً فَلَمْ يُجِزْنِي، وَلَمْ يَرَنِي بَلَغْتُ، وَعُرِضْتُ عَلَيْهِ يَوْمَ الْخَنْدَقِ وَأَنَا ابْنُ خَمْسَ عَشْرَةَ سَنَةً فَأَجَازَنِي، وَرَآنِي بَلَغْتُ. (2)
قَال الشَّافِعِيُّ: رَدَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَبْعَةَ عَشَرَ مِنَ الصَّحَابَةِ، وَهُمْ أَبْنَاءُ أَرْبَعَ عَشْرَةَ سَنَةً، لأَِنَّهُ لَمْ يَرَهُمْ بَلَغُوا، ثُمَّ عُرِضُوا عَلَيْهِ وَهُمْ مِنْ أَبْنَاءِ خَمْسَ عَشْرَةَ فَأَجَازَهُمْ، مِنْهُمْ: زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ وَرَافِعُ بْنُ خَدِيجٍ وَابْنُ عُمَرَ. (3)
وَيَرَى الْمَالِكِيَّةُ أَنَّ الْبُلُوغَ يَكُونُ بِتَمَامِ ثَمَانِي
__________
(1) حاشية البرماوي ص 249، والمغني والشرح الكبير 4 / 512، 514، ورد المحتار على الدر المختار لابن عابدين 5 / 97، 113.
(2) خبر ابن عمر: " عرضت على النبي صلى الله عليه وسلم يوم أحد. . . " أخرجه البخاري (الفتح 5 / 276 - ط السلفية) . وغزوة أحد كانت في شوال سنة ثلاث من الهجرة، والخندق كانت في جمادى سنة خمس من الهجرة، وقد فسر قوله رضي الله عنه: " وأنا ابن أربع عشر سنة " أي طعنت فيها، وقوله " وأنا ابن أربع عشر سنة " أي استكملتها. ويراجع سبل السلام 3 / 38 ط الاستقامة سنة 1357هـ.
(3) مغني المحتاج 2 / 166، وشرح المنهاج مع ح قليوبي 2 / 299، 300، ونهاية المحتاج 3 / 346.

(8/192)


عَشْرَةَ سَنَةً، وَقِيل بِالدُّخُول فِيهَا، وَقَدْ أَوْرَدَ الْحَطَّابُ خَمْسَةَ أَقْوَالٍ فِي الْمَذْهَبِ، فَفِي رِوَايَةٍ: ثَمَانِيَةَ عَشَرَ، وَقِيل: سَبْعَةَ عَشَرَ، وَزَادَ بَعْضُ شُرَّاحِ الرِّسَالَةِ: سِتَّةَ عَشَرَ، وَتِسْعَةَ عَشَرَ، وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ وَهْبٍ خَمْسَةَ عَشَرَ، (1) لِحَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ السَّابِقِ.
وَيَرَى أَبُو حَنِيفَةَ: أَنَّ الْبُلُوغَ بِالسِّنِّ لِلْغُلاَمِ هُوَ بُلُوغُهُ ثَمَانِيَ عَشْرَةَ سَنَةً، وَالْجَارِيَةِ سَبْعَ عَشْرَةَ سَنَةً لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلاَ تَقْرَبُوا مَال الْيَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ} (2) قَال ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: الأَْشُدُّ ثَمَانِي عَشْرَةَ سَنَةً. وَهِيَ أَقَل مَا قِيل فِيهِ، فَأَخَذَ بِهِ احْتِيَاطًا، هَذَا أَشُدُّ الصَّبِيِّ، وَالأُْنْثَى أَسْرَعُ بُلُوغًا فَنَقَصَتْ سَنَةً.

السِّنُّ الأَْدْنَى لِلْبُلُوغِ الَّذِي لاَ تَصِحُّ دَعْوَى الْبُلُوغِ قَبْلَهُ:
21 - السِّنُّ الأَْدْنَى لِلْبُلُوغِ فِي الذَّكَرِ: عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ بِاسْتِكْمَال تِسْعِ سِنِينَ قَمَرِيَّةٍ
__________
(1) حاشية الدسوقي على الشرح الكبير 3 / 293، وأسهل المدارك 3 / 5، مواهب الجليل 5 / 95.
(2) سورة الإسراء / 34.

(8/192)


بِالتَّمَامِ، وَفِي وَجْهٍ آخَرَ لِلشَّافِعِيَّةِ: مُضِيُّ نِصْفِ التَّاسِعَةِ، ذَكَرَهُ النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ الْمُهَذَّبِ. (1)
وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ: اثْنَتَا عَشْرَةَ سَنَةً. (2) وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ: عَشْرُ سِنِينَ. وَيُقْبَل إِقْرَارُ الْوَلِيِّ بِأَنَّ الصَّبِيَّ بَلَغَ بِالاِحْتِلاَمِ، إِذَا بَلَغَ عَشْرَ سِنِينَ. (3)
وَالسِّنُّ الأَْدْنَى لِلْبُلُوغِ فِي الأُْنْثَى: تِسْعُ سِنِينَ قَمَرِيَّةٍ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، وَالشَّافِعِيَّةِ عَلَى الأَْظْهَرِ عِنْدَهُمْ، وَكَذَا الْحَنَابِلَةُ (4) لأَِنَّهُ أَقَل سِنٍّ تَحِيضُ لَهُ الْمَرْأَةُ، وَلِحَدِيثِ: إِذَا بَلَغَتِ الْجَارِيَةُ تِسْعَ سِنِينَ فَهِيَ امْرَأَةٌ (5) وَالْمُرَادُ حُكْمُهَا حُكْمُ الْمَرْأَةِ، وَفِي رِوَايَةٍ لِلشَّافِعِيَّةِ: نِصْفُ التَّاسِعَةِ، وَقِيل: الدُّخُول فِي التَّاسِعَةِ؛ وَلأَِنَّ هَذَا أَقَل سِنٍّ لِحَيْضِ الْفَتَاةِ. (6)
وَالسِّنُّ الأَْدْنَى لِلْبُلُوغِ فِي الْخُنْثَى: تِسْعُ سِنِينَ
__________
(1) حاشية الدسوقي على الشرح الكبير3 / 293، وشرح منهاج الطالبين 1 / 300، ونهاية المحتاج 1 / 306، والأشباه والنظائر للسيوطي ص244.
(2) رد المحتار على الدر المختار 5 / 97.
(3) كشاف القناع 6 / 454.
(4) رد المحتار على الدر المختار 5 / 97، وشرح منهاج الطالبين مع حاشية قليوبي1 / 99، وكشاف القناع 6 / 454.
(5) حديث: " إذا بلغت الجارية تسع سنين فهي امرأة " ذكره البيهقي في سننه (1 / 320 ـ ط دائرة المعارف العثمانية) معلقا بدون إسناد عن عائشة من قولها.
(6) شرح مناهج الطالبين 1 / 99، والأشباه والنظائر للسيوطي ص 244.

(8/193)


قَمَرِيَّةٍ بِالتَّمَامِ، وَقِيل نِصْفُ التَّاسِعَةِ، وَقِيل: الدُّخُول فِيهَا. (1)
إِثْبَاتُ الْبُلُوغِ:
يَثْبُتُ الْبُلُوغُ بِالطُّرُقِ الآْتِيَةِ:

الطَّرِيقُ الأُْولَى: الإِْقْرَارُ:
22 - تَتَّفِقُ كَلِمَةُ الْفُقَهَاءِ فِي الْمَذَاهِبِ الأَْرْبَعَةِ عَلَى أَنَّ الصَّغِيرَ إِذَا كَانَ مُرَاهِقًا، وَأَقَرَّ بِالْبُلُوغِ بِشَيْءٍ مِنَ الْعَلاَمَاتِ الطَّبِيعِيَّةِ الَّتِي تَخْفَى عَادَةً، كَالإِْنْزَال وَالاِحْتِلاَمِ وَالْحَيْضِ، يَصِحُّ إِقْرَارُهُ، وَتَثْبُتُ لَهُ أَحْكَامُ الْبَالِغِ فِيمَا لَهُ وَمَا عَلَيْهِ. قَال الْمَالِكِيَّةُ: يُقْبَل قَوْلُهُ فِي الْبُلُوغِ نَفْيًا وَإِثْبَاتًا، طَالِبًا أَوْ مَطْلُوبًا. فَالطَّالِبُ كَمَنِ ادَّعَى الْبُلُوغَ لِيَأْخُذَ سَهْمَهُ فِي الْغَنِيمَةِ، أَوْ لِيَؤُمَّ النَّاسَ، أَوْ لِيُكْمِل الْعَدَدَ فِي صَلاَةِ الْجُمُعَةِ. وَالْمَطْلُوبُ كَجَانٍ ادَّعَى عَدَمَ الْبُلُوغِ لِيَدْرَأَ عَنْ نَفْسِهِ الْحَدَّ أَوِ الْقِصَاصَ أَوِ الْغَرَامَةَ فِي إِتْلاَفِ الْوَدِيعَةِ، وَكَمُطَلِّقٍ ادَّعَى عَدَمَ الْبُلُوغِ عِنْدَ الطَّلاَقِ؛ لِئَلاَّ يَقَعَ عَلَيْهِ الطَّلاَقُ.
وَيُشْتَرَطُ لِقَبُول قَوْلِهِ أَنْ يَكُونَ قَدْ جَاوَزَ السِّنَّ الأَْدْنَى لِلْبُلُوغِ، بَل لاَ تُقْبَل الْبَيِّنَةُ بِبُلُوغِهِ قَبْل ذَلِكَ. فَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ: لاَ يُقْبَل إِقْرَارُ الصَّبِيِّ قَبْل تَمَامِ اثْنَيْ عَشَرَ عَامًا، وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ لاَ يُقْبَل إِقْرَارُهُ
__________
(1) المغني لابن قدامة 1 / 365، 7 / 461، وكشاف القناع 6 / 454.

(8/193)


بِذَلِكَ قَبْل تَمَامِ الْعَاشِرَةِ، وَعِنْدَ كِلَيْهِمَا: لاَ يُقْبَل إِقْرَارُ الصَّبِيَّةِ بِهِ قَبْل تَمَامِ التَّاسِعَةِ؛ وَوَجْهُ صِحَّةِ الإِْقْرَارِ بِالْبُلُوغِ: أَنَّهُ مَعْنًى لاَ يُعْرَفُ إِلاَّ مِنْ قِبَل الشَّخْصِ نَفْسِهِ، وَفِي تَكْلِيفِ الاِطِّلاَعِ عَلَيْهِ عُسْرٌ شَدِيدٌ،
وَلاَ يُكَلَّفُ الْبَيِّنَةَ عَلَى ذَلِكَ.
وَلاَ يَحْلِفُ أَيْضًا حَتَّى عِنْدَ الْخُصُومَةِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي الْحَقِيقَةِ بَالِغًا فَلاَ قِيمَةَ لِيَمِينِهِ؛ لِعَدَمِ الاِعْتِدَادِ بِيَمِينِ الصَّغِيرِ، وَإِنْ كَانَ بَالِغًا فَيَمِينُهُ تَحْصِيل حَاصِلٍ،
وَقَدِ اسْتَثْنَى الشَّافِعِيَّةُ بَعْضَ الصُّوَرِ يَحْلِفُ فِيهَا احْتِيَاطًا، لَكِنَّهُ يُزَاحِمُ غَيْرَهُ فِي الْحُقُوقِ، كَمَا لَوْ طَلَبَ فِي الْغَنِيمَةِ سَهْمَ مُقَاتِلٍ
23 - وَاشْتَرَطَ الْفُقَهَاءُ فِي الْمَذَاهِبِ الأَْرْبَعَةِ لِصِحَّةِ إِقْرَارِهِ بِذَلِكَ: أَنْ لاَ يَكُونَ بِحَالٍ مُرِيبَةٍ، أَوْ كَمَا عَبَّرَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: يُقْبَل إِنْ أَشْبَهَ، فَإِنْ لَمْ يُشْبِهْ لَمْ يُقْبَل، وَلَوْ صَدَّقَهُ أَبُوهُ. وَعَبَّرَ الْحَنَفِيَّةُ بِقَوْلِهِمْ إِنْ لَمْ يُكَذِّبْهُ الظَّاهِرُ، بَل يَكُونُ بِحَالٍ يَحْتَلِمُ مِثْلُهُ. وَالْمُرَادُ أَنْ يَكُونَ حَال جِسْمِهِ عِنْدَ الإِْقْرَارِ حَال الْبَالِغِينَ، وَلاَيُشَكُّ فِي صِدْقِهِ.
هَكَذَا أَطْلَقَ فُقَهَاءُ الْمَذَاهِبِ - مَا عَدَا الْمَالِكِيَّةَ - قَبُول قَوْلِهِ، وَفَصَّل الْمَالِكِيَّةُ فَقَالُوا: إِنِ ارْتِيبَ فِيهِ يُصَدَّقُ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِالْجِنَايَةِ وَالطَّلاَقِ، فَلاَ يُحَدُّ لِلشُّبْهَةِ، وَلاَ يَقَعُ عَلَيْهِ الطَّلاَقُ اسْتِصْحَابًا لأَِصْل الصِّغَرِ، وَلاَ يُصَدَّقُ فِيمَا يَتَعَلَّقُ

(8/194)


بِالْمَال، فَلَوْ أَقَرَّ بِإِتْلاَفِ الْوَدِيعَةِ، وَأَنَّهُ بَالِغٌ، فَقَال أَبُوهُ: إِنَّهُ غَيْرُ بَالِغٍ، فَلاَ ضَمَانَ. (1)
وَقَدْ تَعَرَّضَ بَعْضُ الْمَالِكِيَّةِ لِقَبُول قَوْل الْمُرَاهِقَيْنِ فِي الْبُلُوغِ إِنِ ادَّعَيَاهُ بِالإِْنْبَاتِ. وَالْفَرْقُ بَيْنَ الإِْنْبَاتِ وَبَيْنَ غَيْرِهِ مِنَ الْعَلاَمَاتِ الطَّبِيعِيَّةِ الَّتِي ذُكِرَتْ سَابِقًا: أَنَّهُ يَسْهُل الاِطِّلاَعُ عَلَيْهِ. وَقَدْ أَمَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْكَشْفِ عَمَّنْ شُكَّ فِي بُلُوغِهِ مِنْ غِلْمَانِ بَنِي قُرَيْظَةَ. إِلاَّ أَنَّ كَوْنَ الْعَوْرَةِ فِي الأَْصْل يَحْرُمُ كَشْفُهَا، دَعَا إِلَى قَوْل الْفُقَهَاءِ إِنَّهُ يُقْبَل قَوْل الشَّخْصِ الْمَشْكُوكِ فِيهِ فِي نَبَاتِهَا وَعَدَمِهِ، إِلاَّ أَنَّ ابْنَ الْعَرَبِيِّ الْمَالِكِيَّ خَالَفَ فِي ذَلِكَ وَقَال: إِنَّهُ يَنْبَغِي أَنْ يُنْظَرَ إِلَيْهَا، وَلَكِنْ لاَ يُنْظَرُ مُبَاشَرَةً بَل مِنْ خِلاَل الْمِرْآةِ. وَرَدَّ كَلاَمَهُ ابْنُ الْقَطَّانِ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ وَقَال: لاَ يُنْظَرُ إِلَيْهَا مُبَاشَرَةً، وَلاَ مِنْ خِلاَل الْمِرْآةِ، وَيُقْبَل كَلاَمُهُ إِنِ ادَّعَى الْبُلُوغَ بِالإِْنْبَاتِ.

الْبُلُوغُ شَرْطٌ لِلُزُومِ الأَْحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ:
24 - ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّ الشَّارِعَ رَبَطَ التَّكْلِيفَ بِالْوَاجِبَاتِ وَالْمُحَرَّمَاتِ وَلُزُومِ آثَارِ
__________
(1) ابن عابدين 5 / 97، والجوهرة 1 / 315، والدسوقي على الشرح الكبير 3 / 293، وشرح منح الجليل 3 / 168، ونهاية المحتاج 5 / 66، 67، وكشاف القناع 6 / 456.

(8/194)


الأَْحْكَامِ فِي الْجُمْلَةِ بِشَرْطِ الْبُلُوغِ، وَاسْتَدَلُّوا عَلَى ذَلِكَ بِأَدِلَّةٍ مِنْهَا:
أ - قَوْل اللَّهِ تَعَالَى: {وَإِذَا بَلَغَ الأَْطْفَال مِنْكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} (1) جَعَل الْبُلُوغَ مُوجِبًا لِلاِسْتِئْذَانِ.
ب - وَمِنْهَا قَوْله تَعَالَى: {وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ} (2) جَعَل بُلُوغَ النِّكَاحِ مُوجِبًا لاِرْتِفَاعِ الْوِلاَيَةِ الْمَالِيَّةِ عَنِ الْيَتِيمِ، بِشَرْطِ كَوْنِهِ رَاشِدًا.
ج - وَمِنْهَا قَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِمُعَاذٍ لَمَّا أَرْسَلَهُ إِلَى الْيَمَنِ: خُذْ مِنْ كُل حَالِمٍ دِينَارًا أَوْ عِدْلَهُ مَعَافِرِيًّا (3) جَعَل الاِحْتِلاَمَ مُوجِبًا لِلْجِزْيَةِ.
د - وَمِنْهَا مَا حَصَل يَوْمَ قُرَيْظَةَ، مِنْ أَنَّ مَنِ اشْتَبَهُوا فِي بُلُوغِهِ مِنَ الأَْسْرَى كَانَ إِذَا أَنْبَتَ قُتِل، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ أَنْبَتَ لَمْ يُقْتَل. فَجُعِل الإِْنْبَاتُ عَلاَمَةً لِجَوَازِ قَتْل الأَْسِيرِ.
هـ - وَمِنْهَا قَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لاَ يَقْبَل اللَّهُ صَلاَةَ حَائِضٍ إِلاَّ بِخِمَارٍ (4) فَجَعَل الْحَيْضَ مِنَ الْمَرْأَةِ مُوجِبًا لِفَسَادِ صَلاَتِهَا، إِنْ صَلَّتْ بِغَيْرِ خِمَارٍ.
__________
(1) سورة النور / 59.
(2) سورة النساء / 6.
(3) حديث معاذ: " خذ من كل حالم دينارا أو. . . " سبق تخريجه (ف / 9) .
(4) حديث: " لا يقبل الله. . . " سبق تخريجه (ف / 15) .

(8/195)


و - وَمِنْهَا حَدِيثُ: غُسْل يَوْمِ الْجُمُعَةِ وَاجِبٌ عَلَى كُل مُحْتَلِمٍ (1) بَوَّبَ عَلَيْهِ الْبُخَارِيُّ " بَابَ بُلُوغِ الصِّبْيَانِ وَشَهَادَتِهِمْ " قَال ابْنُ حَجَرٍ: وَيُسْتَفَادُ مَقْصُودُ التَّرْجَمَةِ - يَعْنِي شَهَادَةَ الصِّبْيَانِ - بِالْقِيَاسِ عَلَى بَقِيَّةِ الأَْحْكَامِ مِنْ حَيْثُ تَعَلُّقُ الْوُجُوبِ بِالاِحْتِلاَمِ. (2)
ز - وَمِنْهَا حَدِيثُ: رُفِعَ الْقَلَمُ عَنْ ثَلاَثَةٍ: عَنِ الصَّغِيرِ حَتَّى يَكْبُرَ. . . (3) جَعَل الْخُرُوجَ عَنْ حَدِّ الصَّغِيرِ مُوجِبًا لِكِتَابَةِ الإِْثْمِ، عَلَى مَنْ فَعَل مَا يُوجِبُهُ.
فَهَذِهِ الأَْدِلَّةُ وَأَمْثَالُهَا - مِمَّا يَأْتِي فِي شَأْنِ عَلاَمَاتِ الْبُلُوغِ - تَدُل عَلَى أَنَّ الشَّارِعَ رَبَطَ التَّكْلِيفَ وَلُزُومَ الأَْحْكَامِ عَامَّةً بِشَرْطِ الْبُلُوغِ، فَمَنِ اعْتُبِرَ بَالِغًا بِأَيِّ عَلاَمَةٍ مِنْ عَلاَمَاتِ الْبُلُوغِ فَهُوَ رَجُلٌ تَامٌّ أَوِ امْرَأَةٌ تَامَّةٌ، مُكَلَّفٌ - إِنْ كَانَ عَاقِلاً - كَغَيْرِهِ مِنَ الرِّجَال وَالنِّسَاءِ، يَلْزَمُهُ مَا يَلْزَمُهُمْ، وَحُقَّ لَهُ مَا يَحِقُّ لَهُمْ. وَقَدْ نَقَل
__________
(1) حديث: " غسل يوم الجمعة واجب على كل محتلم. . . " أخرجه البخاري (الفتح 2 / 357 ـ ط السلفية) ومسلم (2 / 581 ـ ط الحلبي) .
(2) الفتح 5 / 276 ـ ط السلفية.
(3) حديث: " رفع القلم عن ثلاثة: عن الصبي حتى يكبر. . . " رواه أبو داود (4 / 558 ـ ط عزت عبيد دعاس) والحاكم (2 / 59 ـ ط دائرة المعارف العثمانية) وعنده: " الصبي حتى يحتلم " وصححه الحاكم ووافقه الذهبي.

(8/195)


بَعْضُهُمْ الإِْجْمَاعَ عَلَى ذَلِكَ، فَقَال ابْنُ الْمُنْذِرِ: وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ الْفَرَائِضَ وَالأَْحْكَامَ تَجِبُ عَلَى الْمُحْتَلِمِ الْعَاقِل. (1) وَقَال ابْنُ حَجَرٍ: أَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّ الاِحْتِلاَمَ فِي الرِّجَال وَالنِّسَاءِ يَلْزَمُ بِهِ الْعِبَادَاتُ وَالْحُدُودُ وَسَائِرُ الأَْحْكَامِ. (2)
مَا يُشْتَرَطُ لَهُ الْبُلُوغُ مِنَ الأَْحْكَامِ:

أ - مَا يُشْتَرَطُ لِوُجُوبِهِ الْبُلُوغُ:
25 - التَّكْلِيفُ بِالْفَرَائِضِ وَالْوَاجِبَاتِ وَتَرْكِ الْمُحَرَّمَاتِ يُشْتَرَطُ لَهُ الْبُلُوغُ، وَلاَ تَجِبُ عَلَى غَيْرِ الْبَالِغِ لِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: رُفِعَ الْقَلَمُ عَنْ ثَلاَثَةٍ: عَنِ الصَّغِيرِ حَتَّى يَكْبُرَ. . . الْحَدِيثَ، وَذَلِكَ كَالصَّلاَةِ (3) وَالصَّوْمِ (4) وَالْحَجِّ (5) عَلَى أَنَّ فِي الزَّكَاةِ خِلاَفًا.
__________
(1) كشاف القناع 3 / 443.
(2) فتح الباري 5 / 277.
(3) رد المحتار على الدر المختار 1 / 234، 235، والبدائع 1 / 189، وحاشية الدسوقي على الشرح الكبير 1 / 200، ونهاية المحتاج وحاشيته 1 / 373، 374، وشرح منهاج الطالبين 1 / 120، 121، وكشاف القناع 1 / 15.
(4) رد المحتار على الدر المختار1 / 235، وبدائع الصنائع 2 / 87، وحاشية الدسوقي على الشرح الكبير1 / 509، وشرح الزرقاني 2 / 208، ونهاية المحتاج 3 / 180، وشرح منهاج الطالبين 2 / 63، وكشاف القناع 2 / 308.
(5) رد المحتار على الدر المختار 2 / 141، وبدائع الصنائع 2 / 120، 160، منح الجليل 1 / 436، وحاشية الدسوقي 2 / 5، ونهاية المحتاج 3 / 233، 235، وشرح منهاج الطالبين 2 / 85، وكشاف القناع 2 / 375ـ 379.

(8/196)


وَمَعَ هَذَا يَنْبَغِي لِوَلِيِّ الصَّغِيرِ أَنْ يُجَنِّبَهُ الْمُحَرَّمَاتِ، وَأَنْ يَأْمُرَهُ بِالصَّلاَةِ وَنَحْوِهَا لِيَعْتَادَهَا، لِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مُرُوا أَبْنَاءَكُمْ بِالصَّلاَةِ لِسَبْعٍ، وَاضْرِبُوهُمْ عَلَيْهَا لِعَشْرٍ، وَفَرِّقُوا بَيْنَهُمْ فِي الْمَضَاجِعِ. (1)
وَمَعَ هَذَا إِذَا أَدَّاهَا الصَّغِيرُ، أَوْ فَعَل الْمُسْتَحَبَّاتِ تَصِحُّ مِنْهُ، وَيُؤْجَرُ عَلَيْهَا.
وَلاَ يَجِبُ الْقِصَاصُ وَالْحُدُودُ، كَحَدِّ السَّرِقَةِ (2) وَحَدِّ الْقَذْفِ (3) وَلَكِنْ يَجُوزُ أَنْ يُؤَدَّبَ.

ب - مَا يُشْتَرَطُ لِصِحَّتِهِ الْبُلُوغُ:
26 - الْبُلُوغُ شَرْطُ صِحَّةٍ فِي كُل مَا يُشْتَرَطُ لَهُ تَمَامُ الأَْهْلِيَّةِ، وَمِنْ ذَلِكَ: الْوِلاَيَاتُ كُلُّهَا، كَالإِْمَارَةِ وَالْقَضَاءِ (4) وَالْوِلاَيَةِ عَلَى النَّفْسِ (5) وَالشَّهَادَةِ فِي
__________
(1) حديث: " مروا أبناءكم بالصلاة لسبع. . . " أخرجه أبو داود (1 / 334 ـ ط عزت عبيد دعاس) وحسنه النووي في رياض الصالحين (ص 171) .
(2) بدائع الصنائع 7 / 67، وحاشية الدسوقي على الشرح الكبير 4 / 332، 344، ونهاية المحتاج 7 / 421، وشرح منهاج الطالبين 4 / 196، وكشاف القناع 6 / 129.
(3) رد المحتار على الدر المختار 3 / 168، وحاشية الدسوقي على الشرح الكبير 4 / 324، 325، ونهاية المحتاج 7 / 415، 416، وكشاف القناع 6 / 104.
(4) رد المحتار على الدر المختار 4 / 296، 299، وبدائع الصنائع 7 / 23، وحاشية الدسوقي على الشرح الكبير 4 / 129، والخرشي على مختصر خليل 7 / 138، والجمل على شرح المنهج 5 / 337، ونهاية المحتاج 2 / 226، وكشاف القناع 6 / 294.
(5) رد المحتار على الدر المختار 2 / 295، 296، 311، 312، ونهاية المحتاج 6 / 231، وحاشية الدسوقي على الشرح الكبير 2 / 230.

(8/196)


الْجُمْلَةِ. (1) وَمِنْ ذَلِكَ التَّصَرُّفَاتُ الْمُتَمَحِّضَةُ لِلضَّرَرِ كَالْهِبَةِ (2) وَالْعَارِيَّةِ (3) وَالْوَقْفِ (4) وَالْكَفَالَةِ (5) . وَمِنْ ذَلِكَ أَيْضًا: الطَّلاَقُ، وَمَا فِي مَعْنَاهُ كَالظِّهَارِ وَالإِْيلاَءِ (6) وَالْخُلْعِ (7) وَالْعِتْقِ، وَكَذَلِكَ النَّذْرُ. (8) وَيُنْظَرُ تَفْصِيل كُل ذَلِكَ فِي مَوْطِنِهِ، وَفِي مُصْطَلَحِ (صِغَر) .

مَا يَثْبُتُ بِطُرُوءِ الْبُلُوغِ مِنَ الأَْحْكَامِ:
27 - مِنَ الصُّعُوبَةِ بِمَكَانٍ حَصْرُ جَمِيعِ الأَْحْكَامِ
__________
(1) حاشية الدسوقي على الشرح الكبير 4 / 165، 183، 184، ورد المحتار على الدر المختار 4 / 369، 379، ونهاية المحتاج 8 / 277، وشرح منهاج الطالبين 4 / 318، وكشاف القناع 6 / 416.
(2) كشاف القناع 4 / 298، 299.
(3) المغني والشرح الكبير 5 / 355.
(4) نهاية المحتاج 5 / 356، وكشاف القناع 4 / 251، ورد المحتار على الدر المختار 3 / 357ـ 360.
(5) بدائع الصنائع 6 / 5، وحاشية الدسوقي على الشرح الكبير 3 / 229، 230، وشرح منهاج الطالبين مع حاشية قليوبي 2 / 323، وكشاف القناع 3 / 362.
(6) رد المحتار على الدر المختار 2 / 444ـ 446.
(7) رد المحتار على الدر المختار 2 / 558، ونهاية المحتاج 6 / 388، وكشاف القناع 9 / 233.
(8) بدائع الصنائع 5 / 82، وحاشية الدسوقي على الشرح الكبير 2 / 161، ونهاية المحتاج 8 / 164، وشرح منهاج الطالبين مع حاشية قليوبي 4 / 270، وكشاف القناع 6 / 273.

(8/197)


الَّتِي تَثْبُتُ بِمُجَرَّدِ طُرُوءِ الْبُلُوغِ، وَفِيمَا يَلِي بَعْضُ الأَْمْثِلَةِ لِلأَْحْكَامِ الَّتِي تَثْبُتُ بِمُجَرَّدِ أَنْ يَحْتَلِمَ الصَّبِيُّ أَوِ الصَّبِيَّةُ، أَوْ يَرَيَا أَيَّةَ عَلاَمَةٍ مِنْ عَلاَمَاتِ الْبُلُوغِ:

أَوَّلاً فِي بَابِ الطَّهَارَةِ:
إِعَادَةُ التَّيَمُّمِ:
28 - عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ إِذَا تَيَمَّمَ، وَهُوَ غَيْرُ بَالِغٍ، ثُمَّ بَلَغَ بِمَا لاَ يَنْقُضُ الطَّهَارَةَ كَالسِّنِّ، لَزِمَهُ أَنْ يُعِيدَ التَّيَمُّمَ إِنْ أَرَادَ أَنْ يُصَلِّيَ الْفَرْضَ؛ لأَِنَّ تَيَمُّمَهُ قَبْل بُلُوغِهِ كَانَ لِنَافِلَةٍ؛ إِذْ أَنَّهُ لَوْ تَيَمَّمَ لِلظُّهْرِ مَثَلاً فَقَدْ كَانَتْ فِي حَقِّهِ نَافِلَةً، فَلاَ يَسْتَبِيحُ بِهِ الْفَرْضَ، وَهَذَا بِخِلاَفِ مَنْ تَوَضَّأَ أَوِ اغْتَسَل ثُمَّ بَلَغَ، لاَ يَلْزَمُهُ إِعَادَتُهُمَا؛ لأَِنَّ الْوُضُوءَ وَالْغُسْل لِلنَّافِلَةِ يَرْفَعَانِ الْحَدَثَ مِنْ أَصْلِهِ. أَمَّا التَّيَمُّمُ فَهُوَ مُبِيحٌ وَلَيْسَ رَافِعًا، وَالْمَشْهُورُ مِنْ مَذْهَبِ الْمَالِكِيَّةِ كَذَلِكَ: أَنَّهُ مُبِيحٌ لاَ رَافِعٌ.
أَمَّا مَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ، وَهُوَ قَوْلٌ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ فَهُوَ أَنَّ التَّيَمُّمَ رَافِعٌ لِلْحَدَثِ إِلَى وَقْتِ وُجُودِ الْمَاءِ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى اسْتِعْمَالِهِ، وَهَذَا يَقْتَضِي أَنْ لَيْسَ عَلَى الصَّبِيِّ إِذَا تَيَمَّمَ، ثُمَّ بَلَغَ إِعَادَةُ التَّيَمُّمِ. (1)
__________
(1) ابن عابدين 1 / 161، والزرقاني 1 / 120 مطبعة محمد مصطفى، وحاشية الدسوقي 1 / 155، والمغني 18 / 253، وكشاف القناع 1 / 266، والمجموع للنووي 1 / 221 ط المنيرية، والمنثور 2 / 297.

(8/197)


ثَانِيًا - فِي بَابِ الصَّلاَةِ:
29 - تَجِبُ عَلَى الصَّبِيِّ أَوِ الصَّبِيَّةِ الصَّلاَةُ الَّتِي بَلَغَ فِي وَقْتِهَا إِنْ لَمْ يَكُنْ قَدْ صَلاَّهَا إِجْمَاعًا، حَتَّى الْمَالِكِيَّةُ - الَّذِينَ قَالُوا: يَحْرُمُ تَأْخِيرُ الصَّلاَةِ إِلَى الْوَقْتِ الضَّرُورِيِّ، أَيْ لِلْعَصْرِ فِي الْجُزْءِ الآْخِرِ مِنْ وَقْتِهَا، وَالصُّبْحُ كَذَلِكَ - قَالُوا: لَوْ بَلَغَ فِي الْوَقْتِ الضَّرُورِيِّ فَعَلَيْهِ أَنْ يُصَلِّيَهَا، وَلاَ حُرْمَةَ عَلَيْهِ. (1)
30 - وَلَوْ أَنَّهُ صَلَّى صَلاَةَ الْوَقْتِ، ثُمَّ بَلَغَ قَبْل خُرُوجِ وَقْتِهَا، لَزِمَهُ إِعَادَتُهَا، وَذَلِكَ لأَِنَّ الصَّلاَةَ الَّتِي صَلاَّهَا قَبْل الْبُلُوغِ نَفْلٌ فِي حَقِّهِ؛ لِعَدَمِ وُجُوبِهَا عَلَيْهِ، فَلَمْ تُجْزِئْهُ عَنِ الْوَاجِبِ، هَذَا مَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ. وَنَصَّ الْمَالِكِيَّةُ أَيْضًا عَلَى أَنَّهُ لَوْ صَلَّى الظُّهْرَ، ثُمَّ بَلَغَ قَبْل صَلاَةِ الْجُمُعَةِ، تَجِبُ عَلَيْهِ الْجُمُعَةُ مَعَ النَّاسِ.
وَكَذَا إِنْ صَلَّى الْجُمُعَةَ، ثُمَّ بَلَغَ وَوَجَدَ جُمُعَةً أُخْرَى، وَجَبَ عَلَيْهِ الإِْعَادَةُ مَعَهُمْ، وَإِنْ فَاتَتْهُ الْجُمُعَةُ أَعَادَهَا ظُهْرًا؛ لأَِنَّ فِعْلَهُ الأَْوَّل - وَلَوْ جُمُعَةً - وَقَعَ نَفْلاً، فَلاَ يُجْزِئُ عَنِ الْفَرْضِ. (2)
أَمَّا مَذْهَبُ الشَّافِعِيَّةِ، فَهُوَ أَنَّهُ لاَ يَلْزَمُ الصَّبِيَّ الإِْعَادَةُ إِذَا بَلَغَ فِي الْوَقْتِ وَقَدْ صَلَّى، قَالُوا: لأَِنَّهُ
__________
(1) جواهر الإكليل 1 / 34.
(2) شرح فتح القدير 2 / 332، وجواهر الإكليل 1 / 96، وكشاف القناع 1 / 226.

(8/198)


أَدَّى وَظِيفَةَ الْوَقْتِ. وَلَوْ أَنَّهُ بَلَغَ فِي أَثْنَاءِ الصَّلاَةِ يَلْزَمُهُ إِتْمَامُ الصَّلاَةِ الَّتِي هُوَ فِيهَا، وَلاَ يَجِبُ عَلَيْهِ إِعَادَتُهَا، بَل تُسْتَحَبُّ. (1)
31 - تَجِبُ عَلَيْهِ الصَّلاَةُ الَّتِي بَلَغَ فِي وَقْتِهَا، كَمَا تَقَدَّمَ، وَيَجِبُ عَلَيْهِ مَعَ ذَلِكَ أَنْ يُصَلِّيَ الصَّلاَةَ الَّتِي تُجْمَعُ إِلَى الْحَاضِرَةِ قَبْلَهَا، فَلَوْ بَلَغَ قَبْل أَنْ تَغْرُبَ الشَّمْسُ وَجَبَ عَلَيْهِ أَنْ يُصَلِّيَ الظُّهْرَ وَالْعَصْرَ، وَلَوْ بَلَغَ قَبْل الْفَجْرِ وَجَبَ عَلَيْهِ أَنْ يُصَلِّيَ الْمَغْرِبَ وَالْعِشَاءَ. قَال ابْنُ قُدَامَةَ: رُوِيَ هَذَا الْقَوْل عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَطَاوُوسٍ وَمُجَاهِدٍ وَالنَّخَعِيِّ وَالزُّهْرِيِّ وَرَبِيعَةَ، وَهُوَ قَوْل مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَاللَّيْثِ وَإِسْحَاقَ وَأَبِي ثَوْرٍ وَعَامَّةِ التَّابِعِينَ، إِلاَّ أَنَّ مَالِكًا قَال: لاَ تَجِبُ الأُْولَى إِلاَّ بِإِدْرَاكِ مَا يَسَعُ خَمْسَ رَكَعَاتٍ أَيِ الصَّلاَةَ الأُْولَى مِنْهُمَا كَامِلَةً وَرَكْعَةً وَاحِدَةً عَلَى الأَْقَل مِنَ الثَّانِيَةِ. وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ: لَوْ أَدْرَكَ مَا يَسَعُ تَكْبِيرَةَ إِحْرَامٍ فَقَدْ لَزِمَتْهُ الصَّلاَتَانِ. وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ: بِإِدْرَاكِ رَكْعَةٍ وَاحِدَةٍ.
وَوَجْهُ هَذَا الْقَوْل: أَنَّ وَقْتَ الثَّانِيَةِ هُوَ وَقْتٌ لِلأُْولَى حَال الْعُذْرِ، أَيْ لأَِنَّهُ يُمْكِنُ فِي حَال السَّفَرِ أَوْ نَحْوِهِ أَنْ يُؤَخِّرَ الظُّهْرَ إِلَى الْعَصْرِ، وَالْمَغْرِبَ إِلَى الْعِشَاءِ، فَوَقْتُ الْعَصْرِ وَقْتٌ لِلظُّهْرِ مِنْ وَجْهٍ، وَكَذَلِكَ الْمَغْرِبُ وَالْعِشَاءُ، فَكَأَنَّهُ بِإِدْرَاكِهِ وَقْتَ الثَّانِيَةِ مُدْرِكٌ لِلأُْولَى أَيْضًا.
__________
(1) المجموع 3 / 12.

(8/198)


وَخَالَفَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ الْحَنَفِيَّةُ وَالثَّوْرِيُّ وَالْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ، فَرَأَوْا أَنَّهُ يُصَلِّي الصَّلاَةَ الَّتِي بَلَغَ فِي وَقْتِهَا فَقَطْ.

ثَالِثًا - الصَّوْمُ:
32 - إِنْ بَيَّتَ الصَّبِيُّ الصَّوْمَ فِي رَمَضَانَ، ثُمَّ بَلَغَ أَثْنَاءَ النَّهَارِ وَهُوَ صَائِمٌ، فَإِنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ إِتْمَامُ صَوْمِهِ بِغَيْرِ خِلاَفٍ؛ لأَِنَّهُ - كَمَا قَال الرَّمْلِيُّ الشَّافِعِيُّ - صَارَ مِنْ أَهْل الْوُجُوبِ فِي أَثْنَاءِ الْعِبَادَةِ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ دَخَل الْبَالِغُ فِي صَوْمِ تَطَوُّعٍ، ثُمَّ نَذَرَ إِتْمَامَهُ.
فَإِنْ صَامَ فِي تِلْكَ الْحَال فَلاَ قَضَاءَ عَلَيْهِ إِلاَّ فِي وَجْهٍ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ.
أَمَّا إِنْ بَيَّتَ الإِْفْطَارَ، ثُمَّ بَلَغَ أَثْنَاءَ النَّهَارِ، فَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي ذَلِكَ فِي مَوْضِعَيْنِ: فِي حُكْمِ الإِْمْسَاكِ بَقِيَّةَ النَّهَارِ، وَفِي حُكْمِ قَضَاءِ ذَلِكَ الْيَوْمِ.
33 - فَأَمَّا الإِْمْسَاكُ فَقَدِ اخْتَلَفُوا فِيهِ: فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ - وَهُوَ قَوْلٌ لَدَى الشَّافِعِيَّةِ - إِلَى أَنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ الإِْمْسَاكُ بَقِيَّةَ الْيَوْمِ؛ لإِِدْرَاكِهِ وَقْتَ الإِْمْسَاكِ، وَإِنْ لَمْ يُدْرِكْ وَقْتَ الصَّوْمِ.
وَاحْتَجُّوا بِمَا وَرَدَ فِي فَرْضِ عَاشُورَاءَ - قَبْل أَنْ يُنْسَخَ بِفَرْضِ رَمَضَانَ - فَقَدْ قَال النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ

(8/199)


كَانَ مِنْكُمْ أَصْبَحَ مُفْطِرًا فَلْيُمْسِكْ بَقِيَّةَ يَوْمِهِ، وَمَنْ كَانَ أَصْبَحَ صَائِمًا فَلْيُتِمَّ صَوْمَهُ (1) قَالُوا: وَالأَْمْرُ يَقْتَضِي الْوُجُوبَ، وَذَلِكَ لِحُرْمَةِ الشَّهْرِ.
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ - فِي الأَْصَحِّ عِنْدَهُمْ - إِلَى أَنَّ الإِْمْسَاكَ فِي تِلْكَ الْحَال مُسْتَحَبٌّ، وَلَيْسَ وَاجِبًا. وَإِنَّمَا اسْتَحَبُّوهُ لِحُرْمَةِ الْوَقْتِ. وَلَمْ يَجِبِ الإِْمْسَاكُ فِي تِلْكَ الْحَال؛ لأَِنَّهُ أَفْطَرَ بِعُذْرٍ هُوَ الصِّغَرُ، فَأَشْبَهَ الْمُسَافِرَ إِذَا قَدِمَ، وَالْمَرِيضَ إِذَا بَرَأَ.
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّ الإِْمْسَاكَ حِينَئِذٍ لاَ يَجِبُ وَلاَ يُسْتَحَبُّ، كَكُل صَاحِبِ عُذْرٍ يُبَاحُ لأَِجْلِهِ الْفِطْرُ. (2)
34 - وَأَمَّا الْقَضَاءُ فَقَدِ اخْتَلَفُوا فِيهِ كَذَلِكَ:
فَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ - فِي قَوْلٍ - إِلَى أَنَّ الْقَضَاءَ وَاجِبٌ، وَفَصَّل الْحَنَابِلَةُ بَيْنَ مَنْ أَصْبَحَ مُفْطِرًا، ثُمَّ بَلَغَ فِي أَثْنَاءِ النَّهَارِ، فَالْقَضَاءُ وَاجِبٌ عَلَيْهِ؛ لأَِنَّهُ أَدْرَكَ جُزْءًا مِنْ وَقْتِ الْوُجُوبِ، وَلاَ يُمْكِنُ فِعْلُهُ إِلاَّ بِصَوْمٍ كَامِلٍ. وَبَيْنَ مَنْ بَيَّتَ الصَّوْمَ مِنَ اللَّيْل، وَأَصْبَحَ صَائِمًا ثُمَّ بَلَغَ، فَلاَ قَضَاءَ عَلَيْهِ، خِلاَفًا لأَِبِي الْخَطَّابِ مِنْهُمْ.
__________
(1) حديث: " من كان أصبح منكم مفطرا فليمسك. . . . " أخرجه البخاري (الفتح 4 / 200 ـ ط السلفية) ومسلم (2 / 798ـ ط الحلبي) .
(2) شرح فتح القدير لابن الهمام 2 / 282، وجواهر الإكليل 1 / 146، والدسوقي 1 / 514، ونهاية المحتاج 3 / 183، والمغني 3 / 154، وكشاف القناع 2 / 309.

(8/199)


وَقَال الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ، وَالشَّافِعِيَّةُ فِي الأَْصَحِّ عِنْدَهُمْ: لاَ يَجِبُ الْقَضَاءُ لِعَدَمِ تَمَكُّنِهِ مِنْ زَمَنٍ يَسَعُ الْكُل. وَفَرَّقُوا بَيْنَ ذَلِكَ وَبَيْنَ الصَّلاَةِ؛ إِذْ يَجِبُ فِعْلُهَا لِمَنْ بَلَغَ فِي الْوَقْتِ؛ لأَِنَّ السَّبَبَ فِيهَا الْجُزْءُ الْمُتَّصِل بِأَدَائِهَا، فَوُجِدَتِ الأَْهْلِيَّةُ عِنْدَهُ، وَأَمَّا الصَّوْمُ فَالسَّبَبُ فِيهِ الْجُزْءُ الأَْوَّل وَالأَْهْلِيَّةُ مُنْعَدِمَةٌ فِيهِ، وَبِهَذَا عَلَّلَهُ الْحَنَفِيَّةُ.
هَذَا وَقَدْ وَرَدَ فِي الْمُغْنِي أَنَّ الأَْوْزَاعِيَّ كَانَ يَرَى أَنَّ الصَّبِيَّ إِذَا بَلَغَ أَثْنَاءَ شَهْرِ رَمَضَانَ، يَلْزَمُهُ قَضَاءُ الأَْيَّامِ الَّتِي سَبَقَتْ بُلُوغَهُ مِنَ الشَّهْرِ، إِنْ كَانَ قَدْ أَفْطَرَهَا، وَهُوَ خِلاَفُ مَا عَلَيْهِ عَامَّةُ أَهْل الْعِلْمِ. (1)

رَابِعًا: الزَّكَاةُ:
35 - اخْتُلِفَ فِي وُجُوبِ الزَّكَاةِ عَلَى مَنْ لَمْ يَبْلُغْ. فَذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى وُجُوبِهَا؛ لِتَعَلُّقِ الْوُجُوبِ بِالْمَال.
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّهَا لاَ تَجِبُ؛ لأَِنَّهَا عِبَادَةٌ تَلْزَمُ الشَّخْصَ الْمُكَلَّفَ، وَالصَّبِيُّ لَيْسَ مِنْ أَهْل التَّكْلِيفِ. فَعَلَى هَذَا إِذَا بَلَغَ الصَّبِيُّ: فَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ يَبْدَأُ حَوْل زَكَاتِهِ مِنْ حِينِ بُلُوغِهِ، إِنْ كَانَ يَمْلِكُ نِصَابًا. أَمَّا عِنْدَ غَيْرِ الْحَنَفِيَّةِ: فَالْحَوْل الَّذِي بَدَأَ قَبْل الْبُلُوغِ مُمْتَدٌّ بَعْدَهُ.
__________
(1) المراجع السابقة

(8/200)


وَعِنْدَ غَيْرِ الْحَنَفِيَّةِ كَذَلِكَ يَلْزَمُ الصَّبِيَّ إِذَا بَلَغَ رَاشِدًا أَدَاءُ الزَّكَاةِ، لِمَا مَضَى مِنَ الأَْعْوَامِ، مُنْذُ دَخَل الْمَال فِي مِلْكِهِ، إِنْ لَمْ يَكُنْ وَلِيُّهُ يُخْرِجُ عَنْهُ الزَّكَاةَ. (1)
أَمَّا إِنْ بَلَغَ سَفِيهًا، فَاسْتَمَرَّ الْحَجْرُ عَلَيْهِ، فَإِنَّهُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ يُؤَدِّيهَا بِنَفْسِهِ لاِشْتِرَاطِ النِّيَّةِ، وَلاَ يَقُومُ عَنْهُ وَلِيُّهُ فِي ذَلِكَ. قَالُوا: غَيْرَ أَنَّهُ يَدْفَعُ الْقَاضِي إِلَيْهِ قَدْرَ الزَّكَاةِ لِيُفَرِّقَهَا، لَكِنْ يَبْعَثُ مَعَهُ أَمِينًا، كَيْ لاَ يَصْرِفَهَا فِي غَيْرِ وَجْهِهَا، بِخِلاَفِ النَّفَقَاتِ الْوَاجِبَةِ عَلَى السَّفِيهِ لأَِقَارِبِهِ مَثَلاً، فَإِنَّ وَلِيَّهُ يَتَوَلَّى دَفْعَهَا لِعَدَمِ اشْتِرَاطِ النِّيَّةِ فِيهَا. (2)
أَمَّا عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، قَدْ قَال الرَّمْلِيُّ: لاَ يُفَرِّقُ السَّفِيهُ الزَّكَاةَ بِنَفْسِهِ، لَكِنْ إِنْ أَذِنَ لَهُ الْوَلِيُّ، وَعَيَّنَ الْمَدْفُوعَ لَهُ، صَحَّ صَرْفُهُ، كَمَا يَجُوزُ لِلأَْجْنَبِيِّ تَوْكِيلُهُ فِيهِ. وَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ تَفْرِيقُهُ الزَّكَاةَ بِحَضْرَةِ الْوَلِيِّ أَوْ نَائِبِهِ؛ لاِحْتِمَال تَلَفِ الْمَال لَوْ خَلاَ بِهِ السَّفِيهُ، أَوْ دَعْوَاهُ صَرْفَهَا كَاذِبًا. وَلَمْ يَتَعَرَّضْ لِكَوْنِ الْوَلِيِّ يُخْرِجُهَا أَوْ يُؤَخِّرُهَا إِلَى الرُّشْدِ. (3)
وَلَمْ يَتَعَرَّضِ الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ لِهَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فِيمَا رَأَيْنَاهُ مِنْ كَلاَمِهِمْ.
__________
(1) ابن عابدين 2 / 4، والمغني 2 / 622، والزرقاني 2 / 141.
(2) ابن عابدين 5 / 94، وفتح القدير والعناية 8 / 198.
(3) نهاية المحتاج 4 / 361.

(8/200)


خَامِسًا: الْحَجُّ:
36 - إِذَا حَجَّ الصَّغِيرُ ثُمَّ بَلَغَ فَعَلَيْهِ حَجَّةٌ أُخْرَى، هِيَ حَجَّةُ الإِْسْلاَمِ بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهِ، وَلاَ تُجْزِئُهُ الْحَجَّةُ الَّتِي حَجَّهَا قَبْل الْبُلُوغِ. نَقَل الإِْجْمَاعَ عَلَى ذَلِكَ التِّرْمِذِيُّ وَابْنُ الْمُنْذِرِ، لِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُجَدِّدَ فِي صُدُورِ الْمُؤْمِنِينَ عَهْدًا: أَيُّمَا مَمْلُوكٍ حَجَّ بِهِ أَهْلُهُ فَمَاتَ قَبْل أَنْ يَعْتِقَ فَقَدْ قَضَى حَجَّهُ، وَإِنْ عَتَقَ قَبْل أَنْ يَمُوتَ فَلْيَحُجَّ، وَأَيُّمَا غُلاَمٍ حَجَّ بِهِ أَهْلُهُ قَبْل أَنْ يُدْرِكَ، فَقَدْ قَضَى حَجَّتَهُ، وَإِنْ بَلَغَ فَلْيَحْجُجْ (1) ، وَلأَِنَّهَا عِبَادَةٌ بَدَنِيَّةٌ فَعَلَهَا قَبْل وَقْتِ الْوُجُوبِ، فَلَمْ يَمْنَعْ ذَلِكَ وُجُوبَهَا عَلَيْهِ فِي وَقْتِهَا. قَال الرَّمْلِيُّ: وَالْمَعْنَى فِيهِ: أَنَّ الْحَجَّ وَظِيفَةُ الْعُمُرِ، لاَ تَكْرَارَ فِيهِ، فَاعْتُبِرَ وُقُوعُهُ فِي حَالَةِ الْكَمَال. (2)
37 - إِذَا بَلَغَ الْمُرَاهِقُ (أَوِ الْمُرَاهِقَةُ) وَهُوَ مُحْرِمٌ بَعْدَ أَنْ تَجَاوَزَ الْمِيقَاتَ، فَإِنْ كَانَ بُلُوغُهُ وَهُوَ وَاقِفٌ بِعَرَفَةَ، أَوْ قَبْل الْوُقُوفِ، أَوْ كَانَ بُلُوغُهُ بَعْدَ
__________
(1) حديث: " أيما مملوك حج به أهله فمات. . . " أخرجه الشافعي (بدائع المنن 1 / 290 ـ ط دار الأنوار) والطحاوي (2 / 257 ـ ط مطبعة الأنوار المحمدية) ، موقوفا على ابن عباس، وصححه ابن حجر في الفتح (4 / 70 ـ ط السلفية) .
(2) المغني 3 / 248، ونهاية المحتاج 3 / 233، وشرح فتح القدير 2 / 332.

(8/201)


الْوُقُوفِ، وَلَكِنْ رَجَعَ فَوَقَفَ بِعَرَفَاتٍ قَبْل الْفَجْرِ مِنْ لَيْلَةِ يَوْمِ النَّحْرِ، وَأَتَمَّ الْمَنَاسِكَ كُلَّهَا، فَهَل تُجْزِئُهُ ذَلِكَ عَنْ حَجَّةِ الإِْسْلاَمِ؟
مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ: أَنَّ ذَلِكَ يُجْزِئُهُ عَنْ حَجَّةِ الإِْسْلاَمِ، وَلاَ دَمَ عَلَيْهِ، وَلاَ يُجَدِّدُ لِحَجَّتِهِ تِلْكَ إِحْرَامًا، لِمَا وَرَدَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَال: إِذَا عَتَقَ الْعَبْدُ بِعَرَفَةَ أَجْزَأَتْ عَنْهُ حَجَّتُهُ، فَإِنْ عَتَقَ بِجَمْعٍ - يَعْنِي الْمُزْدَلِفَةَ - لَمْ تُجْزِئْ عَنْهُ وَقِيَاسًا عَلَى مَا لَوْ أَحْرَمَ غَيْرُهُ مِنَ الْبَالِغِينَ الأَْحْرَارِ بِعَرَفَةَ، فَإِنَّ ذَلِكَ يُجْزِئُهُ عَنْ حَجَّةِ الإِْسْلاَمِ إِذَا أَتَمَّ مَنَاسِكَهُ، فَكَذَلِكَ مَنْ بَلَغَ بِعَرَفَةَ.
وَمَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ أَنَّ ذَلِكَ يُجْزِئُهُ بِشَرْطِ أَنْ يُجَدِّدَ إِحْرَامًا بَعْدَ بُلُوغِهِ قَبْل الْوُقُوفِ، فَإِنْ لَمْ يُجَدِّدْ إِحْرَامًا لَمْ يُجْزِئْهُ؛ لأَِنَّ إِحْرَامَهُ انْعَقَدَ نَفْلاً، فَلاَ يَنْقَلِبُ فَرْضًا. قَالُوا: وَالإِْحْرَامُ وَإِنْ كَانَ شَرْطًا لِلْحَجِّ إِلاَّ أَنَّهُ شَبِيهٌ بِالرُّكْنِ، فَاعْتَبَرْنَا شَبَهَ الرُّكْنِ احْتِيَاطًا لِلْعِبَادَةِ.
وَفِي رِوَايَةٍ عَنِ الشَّافِعِيِّ - كَمَا فِي مُخْتَصَرِ الْمُزَنِيِّ - أَنَّ عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ دَمًا، أَيْ لأَِنَّهُ كَمَنْ جَاوَزَ الْمِيقَاتَ غَيْرَ مُحْرِمٍ.
وَمَذْهَبُ مَالِكٍ أَنَّ ذَلِكَ لاَ يُجْزِئُهُ عَنْ حَجَّةِ الإِْسْلاَمِ أَصْلاً. وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُجَدِّدَ إِحْرَامَهُ بَعْدَ بُلُوغِهِ. وَلَكِنْ عَلَيْهِ أَنْ يَمْضِيَ عَلَى إِحْرَامِهِ

(8/201)


الَّذِي احْتَلَمَ فِيهِ، وَلاَ يُجْزِئْهُ مِنْ حَجَّةِ الإِْسْلاَمِ. (1)
38 - إِذَا تَجَاوَزَ الصَّبِيُّ الْمِيقَاتَ غَيْرَ مُحْرِمٍ، ثُمَّ بَلَغَ، فَأَحْرَمَ مِنْ مَكَانٍ دُونَ الرُّجُوعِ إِلَى الْمِيقَاتِ: يَرَى الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ، وَهُوَ رِوَايَةٌ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ أَنَّهُ يُجْزِئُهُ ذَلِكَ، وَلَيْسَ عَلَيْهِ دَمٌ؛ لأَِنَّهُ كَالْمَكِّيِّ وَمَنْ كَانَ مَنْزِلُهُ دُونَ الْمِيقَاتِ.
وَيَرَى الشَّافِعِيُّ، وَهُوَ الرِّوَايَةُ الأُْخْرَى عَنْ أَحْمَدَ: أَنَّ عَلَيْهِ إِنْ لَمْ يَرْجِعْ إِلَى الْمِيقَاتِ دَمًا؛ لأَِنَّهُ تَجَاوَزَ الْمِيقَاتَ دُونَ إِحْرَامٍ. (2)
سَادِسًا: خِيَارُ الْبُلُوغِ:
تَخْيِيرُ الزَّوْجِ وَالزَّوْجَةِ فِي الصِّغَرِ:
39 - يَرَى أَكْثَرُ الْحَنَفِيَّةِ: أَنَّ الصَّغِيرَ أَوِ الصَّغِيرَةَ - وَلَوْ ثَيِّبًا - إِنْ زَوَّجَهُمَا غَيْرُ الأَْبِ وَالْجَدِّ، كَالأَْخِ أَوِ الْعَمِّ، مِنْ كُفْءٍ وَبِمَهْرِ الْمِثْل، صَحَّ النِّكَاحُ، وَلَكِنْ لَهُمَا خِيَارُ الْفَسْخِ بِالْبُلُوغِ، إِذَا عَلِمَا بِعَقْدِ النِّكَاحِ قَبْل الْبُلُوغِ أَوْ عِنْدَهُ، أَوْ عَلِمَا بِالنِّكَاحِ بَعْدَ الْبُلُوغِ، بِأَنْ بَلَغَا وَلَمْ يَعْلَمَا بِهِ ثُمَّ عَلِمَا بَعْدَهُ، فَإِنِ
__________
(1) المغني 3 / 248، ونهاية المحتاج 3 / 233، والأم 2 / 130، ومختصر المزني 1 / 70، وشرح فتح القدير وحواشيه 2 / 332، والمدونة 1 / 381.
(2) شرح فتح القدير 3 / 273، والفتاوى الهندية 1 / 217، والمدونة 1 / 380، 381، والأم للشافعي 2 / 130، والمغني 3 / 268.

(8/202)


اخْتَارَ الْفَسْخَ لاَ يَتِمُّ الْفَسْخُ إِلاَّ بِالْقَضَاءِ؛ لأَِنَّ فِي أَصْلِهِ ضَعْفًا، فَيَتَوَقَّفُ عَلَى الرُّجُوعِ إِلَى الْقَضَاءِ.
وَقَال أَبُو يُوسُفَ: لاَ خِيَارَ لَهُمَا، اعْتِبَارًا بِمَا لَوْ زَوَّجَهُمَا الأَْبُ وَالْجَدُّ، وَيَبْطُل خِيَارُ الْبِكْرِ بِالسُّكُوتِ لَوْ مُخْتَارَةً عَالِمَةً بِأَصْل النِّكَاحِ، وَلاَ يَمْتَدُّ إِلَى آخِرِ مَجْلِسِ بُلُوغِهَا أَوْ عِلْمِهَا بِالنِّكَاحِ. أَيْ إِذَا بَلَغَتْ وَهِيَ عَالِمَةٌ بِالنِّكَاحِ، أَوْ عَلِمَتْ بِهِ بَعْدَ بُلُوغِهَا، فَلاَ بُدَّ مِنَ الْفَسْخِ فِي حَال الْبُلُوغِ أَوِ الْعِلْمِ، فَلَوْ سَكَتَتْ - وَلَوْ قَلِيلاً - بَطَل خِيَارُهَا، وَلَوْ قَبْل تَبَدُّل الْمَجْلِسِ. وَكَذَا لاَ يَمْتَدُّ إِلَى آخِرِ مَجْلِسِ بُلُوغِهَا أَوْ عِلْمِهَا بِالنِّكَاحِ، بِأَنْ جَهِلَتْ بِأَنَّ لَهَا خِيَارَ الْبُلُوغِ، أَوْ بِأَنَّهُ لاَ يَمْتَدُّ إِلَى آخِرِ مَجْلِسِ بُلُوغِهَا، فَلاَ تُعْذَرُ بِدَعْوَى جَهْلِهَا أَنَّ لَهَا الْخِيَارَ؛ لأَِنَّ الدَّارَ دَارُ إِسْلاَمٍ، فَلاَ تُعْذَرُ بِالْجَهْل، وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ.
وَقَال مُحَمَّدٌ: إِنَّ خِيَارَهَا يَمْتَدُّ إِلَى أَنْ تَعْلَمَ أَنَّ لَهَا خِيَارًا،
وَخِيَارُ الصَّغِيرِ إِذَا بَلَغَ وَالثَّيِّبُ - سَوَاءٌ أَكَانَتْ ثَيِّبًا فِي الأَْصْل، أَوْ كَانَتْ بِكْرًا، ثُمَّ دَخَل بِهَا، ثُمَّ بَلَغَتْ - لاَ يَبْطُل بِالسُّكُوتِ بِلاَ صَرِيحِ الرِّضَا، أَوْ دَلاَلَةٍ عَلَى الرِّضَا، كَقُبْلَةٍ وَلَمْسٍ وَدَفْعِ مَهْرٍ، وَلاَ يَبْطُل بِقِيَامِهَا عَنِ الْمَجْلِسِ؛ لأَِنَّ وَقْتَهُ الْعُمُرُ،

(8/202)


فَيَبْقَى الْخِيَارُ حَتَّى يُوجَدَ الرِّضَا. (1)
وَإِذَا زَوَّجَ الْقَاضِي صَغِيرَةً مِنْ كُفْءٍ، وَكَانَ أَبُوهَا أَوْ جَدُّهَا فَاسِقًا، فَلَهَا الْخِيَارُ فِي أَظْهَرِ الرِّوَايَتَيْنِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَهُوَ قَوْل مُحَمَّدٍ. (2)
40 - وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ: إِذَا عَقَدَ لِلصَّغِيرِ وَلِيُّهُ - أَبًا كَانَ أَوْ غَيْرَهُ - عَلَى شُرُوطٍ شُرِطَتْ حِينَ الْعَقْدِ، وَكَانَتْ تَلْزَمُ إِنْ وَقَعَتْ مِنْ مُكَلَّفٍ - كَأَنِ اشْتَرَطَ لَهَا فِي الْعَقْدِ أَنَّهُ إِنْ تَزَوَّجَ عَلَيْهَا فَهِيَ، أَوِ الَّتِي تَزَوَّجَهَا طَالِقٌ - أَوْ زَوَّجَ الصَّغِيرُ نَفْسَهُ بِالشُّرُوطِ وَأَجَازَهَا وَلِيُّهُ، ثُمَّ بَلَغَ وَكَرِهَ بَعْدَ بُلُوغِهِ تِلْكَ الشُّرُوطَ - وَالْحَال أَنَّهُ لَمْ يَدْخُل بِهَا، لاَ قَبْل الْبُلُوغِ وَلاَ بَعْدَهُ - عَالِمًا بِهَا، فَهُوَ مُخَيَّرٌ بَيْنَ الْتِزَامِهَا وَثُبُوتِ النِّكَاحِ، وَبَيْنَ عَدَمِ الْتِزَامِهَا وَفَسْخِ النِّكَاحِ بِطَلاَقٍ، وَمَحَل ذَلِكَ مَا لَمْ تَرْضَ الْمَرْأَةُ بِإِسْقَاطِ الشُّرُوطِ.
وَالصَّغِيرَةُ فِي هَذَا حُكْمُهَا حُكْمُ الصَّغِيرِ. وَالتَّفْصِيل فِي بَابِ (الْوِلاَيَةِ) مِنْ كُتُبِ الْفِقْهِ. (3)
__________
(1) رد المحتار على الدر المختار مع الحاشية 2 / 305، 306، 309، 310، 311 ط دار إحياء التراث العربي ببيروت، وجامع الفصولين 1 / 28، 29، وأنفع الوسائل إلى تحرير المسائل للطرسوسي ص 14، 15 مطبعة الشرق.
(2) جمع الفصولين 1 / 29، طبعة أولى بالمطبعة الأزهرية.
(3) حاشية الدسوقي على الشرح الكبير 2 / 241، 242، والخرشي على مختصر خليل 3 / 199.

(8/203)


وَإِنْ زَوَّجَ الصَّغِيرُ نَفْسَهُ بِغَيْرِ إِذْنِ وَلِيِّهِ، فَلِوَلِيِّهِ فَسْخُ عَقْدِهِ بِطَلاَقٍ، لأَِنَّهُ نِكَاحٌ صَحِيحٌ، غَايَةُ الأَْمْرِ أَنَّهُ غَيْرُ لاَزِمٍ. وَقَال ابْنُ الْمَوَّازِ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ: إِذَا لَمْ يُرِدِ الْوَلِيُّ نِكَاحَ الصَّبِيِّ - وَالْحَال أَنَّ الْمَصْلَحَةَ فِي رَدِّهِ - حَتَّى كَبِرَ وَخَرَجَ مِنَ الْوِلاَيَةِ جَازَ النِّكَاحُ، وَيَنْبَغِي أَنْ يَنْتَقِل النَّظَرُ إِلَيْهِ فَيُمْضِيَ أَوْ يَرُدَّ، وَمُفَادُهُ أَنَّ لِلصَّغِيرِ حَقَّ الاِخْتِيَارِ بَعْدَ بُلُوغِهِ. (1)
وَالتَّفْصِيل فِي بَابِ (الْوِلاَيَةِ) .
41 - وَيَرَى الشَّافِعِيَّةُ فِي قَوْلٍ عِنْدَهُمْ: أَنَّ الصَّغِيرَ إِذَا زَوَّجَهُ أَبُوهُ امْرَأَةً مَعِيبَةً بِعَيْبٍ صَحَّ النِّكَاحُ، وَثَبَتَ لَهُ الْخِيَارُ - إِذَا بَلَغَ - وَلاَ يَصِحُّ عَلَى الْمَذْهَبِ لأَِنَّهُ خِلاَفُ الْغِبْطَةِ. (2)
وَالصَّغِيرُ إِنْ زَوَّجَهُ أَبُوهُ مَنْ لاَ تُكَافِئُهُ، فَفِي الأَْصَحِّ أَنَّ نِكَاحَهُ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ جَائِزٌ؛ لأَِنَّ الرَّجُل لاَ يَتَعَيَّرُ بِاسْتِفْرَاشِ مَنْ لاَ تُكَافِئُهُ، وَلَكِنْ لَهُ الْخِيَارُ. وَهُنَاكَ قَوْلٌ بِعَدَمِ صِحَّةِ الْعَقْدِ؛ لأَِنَّ الْوِلاَيَةَ وِلاَيَةُ مَصْلَحَةٍ، وَلَيْسَتِ الْمَصْلَحَةُ فِي تَزْوِيجِهِ مِمَّنْ لاَ تُكَافِئُهُ. (3)
وَإِنْ زَوَّجَ الأَْبُ أَوِ الْجَدُّ الصَّغِيرَةَ مِنْ غَيْرِ كُفْءٍ يَثْبُتُ لَهَا الْخِيَارُ إِذَا بَلَغَتْ؛ لِوُقُوعِ النِّكَاحِ
__________
(1) حاشية الدسوقي على الشرح الكبير 2 / 241.
(2) نهاية المحتاج 6 / 255 ط المكتبة الإسلامية بالرياض.
(3) نهاية المحتاج 6 / 256.

(8/203)


عَلَى الْوَجْهِ الْمَذْكُورِ صَحِيحًا عَلَى خِلاَفِ الأَْظْهَرِ، وَالنَّقْصُ لِعَدَمِ الْكَفَاءَةِ يَقْتَضِي الْخِيَارَ. وَعَلَى الأَْظْهَرِ: التَّزْوِيجُ بَاطِلٌ. (1)
42 - وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ لاَ يَجُوزُ لِغَيْرِ الأَْبِ تَزْوِيجُ الصَّغِيرَةِ، فَإِنْ زَوَّجَهَا الأَْبُ فَلاَ خِيَارَ لَهَا، وَإِنْ زَوَّجَهَا غَيْرُ الأَْبِ فَالنِّكَاحُ بَاطِلٌ. وَفِي رِوَايَةٍ: يَصِحُّ تَزْوِيجُ غَيْرِ الأَْبِ، وَتُخَيَّرُ إِذَا بَلَغَتْ، كَمَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ. وَقِيل: تُخَيَّرُ إِذَا بَلَغَتْ تِسْعًا. فَإِنْ طَلُقَتْ قَبْلَهُ وَقَعَ الطَّلاَقُ وَبَطَل خِيَارُهَا. وَكَذَا يَبْطُل خِيَارُهَا إِنْ وَطِئَهَا بَعْدَ أَنْ تَمَّ لَهَا تِسْعُ سِنِينَ وَلَمْ تُخَيَّرْ. (2)
وَلَيْسَ لِوَلِيِّ صَغِيرٍ تَزْوِيجُهُ بِمَعِيبَةٍ بِعَيْبٍ يُرَدُّ بِهِ فِي النِّكَاحِ، وَكَذَا لَيْسَ لِوَلِيِّ الصَّغِيرَةِ تَزْوِيجُهَا بِمَعِيبٍ بِعَيْبٍ يُرَدُّ بِهِ فِي النِّكَاحِ؛ لِوُجُوبِ نَظَرِهِ لَهُمَا بِمَا فِيهِ الْحَظُّ وَالْمَصْلَحَةُ، وَلاَ حَظَّ لَهُمَا فِي هَذَا الْعَقْدِ، فَإِنْ فَعَل وَلِيُّ غَيْرِ الْمُكَلَّفِ وَالْمُكَلَّفَةِ بِأَنْ زَوَّجَهُ بِمَعِيبٍ يُرَدُّ بِهِ - عَالِمًا بِالْعَيْبِ - لَمْ يَصِحَّ النِّكَاحُ؛ لأَِنَّهُ عَقَدَ لَهُمَا عَقْدًا لاَ يَجُوزُ، وَإِنْ لَمْ يَعْلَمِ الْوَلِيُّ أَنَّهُ مَعِيبٌ صَحَّ الْعَقْدُ، وَوَجَبَ عَلَيْهِ الْفَسْخُ إِذَا عَلِمَ. وَهَذَا خِلاَفًا لِمَا وَرَدَ فِي الْمُنْتَهَى فِيمَا يُوهِمُ إِبَاحَةَ الْفَسْخِ، وَمِنَ الْحَنَابِلَةِ مَنْ قَال:
__________
(1) نهاية المحتاج 6 / 249.
(2) شرح منتهى الإرادات 2 / 185 ط مكتبة دار العروبة ومطالب أولي النهى في شرح غاية المنتهى 5 / 139.

(8/204)


لاَ يُفْسَخُ، وَيُنْتَظَرُ الْبُلُوغُ لاِخْتِيَارِهِمَا. (1)
وَتَفْصِيل مَا ذُكِرَ يُرْجَعُ إِلَيْهِ فِي بَابِ (النِّكَاحِ، وَالْوِلاَيَةِ) .

سَابِعًا - انْتِهَاءُ الْوِلاَيَةِ عَلَى النَّفْسِ بِالْبُلُوغِ:
43 - عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ: تَنْتَهِي الْوِلاَيَةُ عَلَى النَّفْسِ بِالنِّسْبَةِ لِوِلاَيَةِ الإِْنْكَاحِ فِي الْحُرَّةِ بِالتَّكْلِيفِ (الْبُلُوغِ وَالْعَقْل) فَيَصِحُّ نِكَاحُ حُرَّةٍ مُكَلَّفَةٍ بِلاَ رِضَى وَلِيٍّ، وَتَتَرَتَّبُ الأَْحْكَامُ مِنْ طَلاَقٍ وَتَوَارُثٍ وَغَيْرِهِمَا.
وَتَنْتَهِي الْحَضَانَةُ لِلْجَارِيَةِ الْبِكْرِ بِبُلُوغِهَا بِمَا تَبْلُغُ بِهِ النِّسَاءُ مِنَ الْحَيْضِ وَنَحْوِهِ، وَيَضُمُّهَا الأَْبُ إِلَى نَفْسِهِ وَإِنْ لَمْ يَخَفْ عَلَيْهَا الْفَسَادَ، لَوْ كَانَتْ حَدِيثَةَ السِّنِّ، وَالأَْخُ وَالْعَمُّ كَذَلِكَ عِنْدَ فَقْدِ الأَْبِ مَا لَمْ يُخَفْ عَلَيْهَا مِنْهُمَا، فَيَنْظُرُ الْقَاضِي امْرَأَةً ثِقَةً فَتُسَلَّمُ إِلَيْهَا، وَتَنْتَهِي وِلاَيَةُ الأَْبِ عَلَى الأُْنْثَى إِذَا كَانَتْ مُسِنَّةً، وَاجْتَمَعَ لَهَا رَأْيٌ، فَتَسْكُنُ حَيْثُ أَحَبَّتْ حَيْثُ لاَ خَوْفَ عَلَيْهَا، وَإِنْ ثَيِّبًا لاَ يَضُمُّهَا إِلاَّ إِذَا لَمْ تَكُنْ مَأْمُونَةً عَلَى نَفْسِهَا، فَلِلأَْبِ وَالْجَدِّ الضَّمُّ، لاَ لِغَيْرِهِمَا كَمَا فِي الاِبْتِدَاءِ.
وَتَنْتَهِي وِلاَيَةُ الأَْبِ عَلَى الْغُلاَمِ إِذَا بَلَغَ وَعَقَل وَاسْتَغْنَى بِرَأْيِهِ، إِلاَّ إِذَا لَمْ يَكُنْ مَأْمُونًا عَلَى
__________
(1) المغني 6 / 489، 490، 536، مطالب أولي النهى في شرح غاية المنتهى 5 / 154.

(8/204)


نَفْسِهِ، بِأَنْ يَكُونَ مُفْسِدًا مَخُوفًا عَلَيْهِ، فَلِلأَْبِ وِلاَيَةُ ضَمِّهِ إِلَيْهِ لِدَفْعِ فِتْنَةٍ أَوْ عَارٍ، وَتَأْدِيبُهُ إِذَا وَقَعَ مِنْهُ شَيْءٌ، وَالْجَدُّ بِمَنْزِلَةِ الأَْبِ فِيمَا ذُكِرَ مِنْ أَحْكَامِ الْبِكْرِ وَالثَّيِّبِ وَالْغُلاَمِ. (1)
وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ: تَنْتَهِي الْوِلاَيَةُ عَلَى النَّفْسِ بِالنِّسْبَةِ لِلصَّغِيرِ بِبُلُوغِهِ الطَّبِيعِيِّ، وَهُوَ بُلُوغُ النِّكَاحِ، فَيَذْهَبُ حَيْثُ شَاءَ، وَلَكِنْ إِذَا كَانَ يُخْشَى عَلَيْهِ الْفَسَادُ لِجَمَالِهِ مَثَلاً، أَوْ كَمَا إِذَا كَانَ يَصْطَحِبُ الأَْشْرَارَ وَتَعَوَّدَ مَعَهُمْ أَخْلاَقًا فَاسِدَةً، يَبْقَى حَتَّى تَسْتَقِيمَ أَخْلاَقُهُ. وَإِذَا بَلَغَ الذَّكَرُ رَشِيدًا ذَهَبَ حَيْثُ يَشَاءُ؛ لاِنْقِطَاعِ الْحَجْرِ عَنْهُ بِالنِّسْبَةِ لِذَاتِهِ، وَإِذَا بَلَغَ الذَّكَرُ - وَلَوْ زَمِنًا أَوْ مَجْنُونًا - سَقَطَتْ عَنْهُ حَضَانَةُ الأُْمِّ عَلَى الْمَشْهُورِ. وَبِالنِّسْبَةِ لِلأُْنْثَى، فَتَسْتَمِرُّ الْحَضَانَةُ عَلَيْهَا وَالْوِلاَيَةُ عَلَى النَّفْسِ حَتَّى تَتَزَوَّجَ، وَيَدْخُل بِهَا الزَّوْجُ. (2)
وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ: تَنْتَهِي الْوِلاَيَةُ عَلَى الصَّغِيرِ - ذَكَرًا كَانَ أَوْ أُنْثَى - بِمُجَرَّدِ بُلُوغِهِ. (3)
وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ: لاَ تَثْبُتُ الْحَضَانَةُ إِلاَّ عَلَى
__________
(1) رد المحتار على الدر المختار حاشية ابن عابدين 2 / 641، 642.
(2) حاشية الدسوقي على الشرح الكبير 3 / 292، 293، والخرشي 4 / 207، 208، 5 / 291، وشرح الزرقاني، 4 / 263، 5 / 290.
(3) نهاية المحتاج 4 / 345، وما بعدها، وشرح منهاج الطالبين2 / 300.

(8/205)


الطِّفْل أَوِ الْمَعْتُوهِ، فَأَمَّا الْبَالِغُ الرَّشِيدُ فَلاَ حَضَانَةَ عَلَيْهِ، فَإِنْ كَانَ رَجُلاً فَلَهُ الاِنْفِرَادُ بِنَفْسِهِ لاِسْتِغْنَائِهِ عَنْ أَبَوَيْهِ، وَإِنْ كَانَتْ أُنْثَى لَمْ يَكُنْ لَهَا الاِنْفِرَادُ، وَلأَِبِيهَا مَنْعُهَا مِنْهُ؛ لأَِنَّهُ لاَ يُؤْمَنُ أَنْ يَدْخُل عَلَيْهَا مَنْ يُفْسِدُهَا، وَيَلْحَقُ الْعَارُ بِهَا وَبِأَهْلِهَا، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا أَبٌ فَلِوَلِيِّهَا وَأَهْلِهَا مَنْعُهَا مِنْ ذَلِكَ. (1)

ثَامِنًا: الْوِلاَيَةُ عَلَى الْمَال:
44 - تَنْقَضِي الْوِلاَيَةُ عَلَى الْمَال أَيْضًا بِبُلُوغِ الصَّغِيرِ عَاقِلاً، ذَكَرًا كَانَ أَوْ أُنْثَى، وَيَنْفَكُّ الْحَجْرُ عَنْهُ، وَلَكِنْ يُشْتَرَطُ لِذَلِكَ بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ أَنْ يَكُونَ رَشِيدًا؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ} (2) وَفِي الْمَسْأَلَةِ خِلاَفٌ وَتَفْصِيلٌ يُرْجَعُ لِمَعْرِفَتِهِ إِلَى أَبْوَابِ الْحَجْرِ. (3)
__________
(1) المغني 7 / 614.
(2) سورة النساء / 6.
(3) رد المحتار على الدر المختار 5 / 94، 95، والبحر الرائق شرح كنز الدقائق 8 / 190، 191 وحاشية الدسوقي على الشرح الكبير 3 / 296 وشرح الزرقاني 5 / 294ـ 297، والخرشي 5 / 294 - 297، ونهاية المحتاج 4 / 345، 346، 350، 352، 353، وشرح منهاج الطالبين 3 / 229، 230، 232، والمغني لابن قدامة مع الشرح الكبير 4 / 512، 516، 517، وتفسير القرطبي 2 / 32ـ 41، وكشاف القناع 3 / 411، 417.

(8/205)


بِنَاءٌ

التَّعْرِيفُ:
1 - الْبِنَاءُ لُغَةً: وَضْعُ شَيْءٍ عَلَى شَيْءٍ عَلَى وَجْهٍ يُرَادُ بِهِ الثُّبُوتُ. (1)
وَيُطْلَقُ عَلَى بِنَاءِ الدُّورِ وَنَحْوِهَا، وَضِدُّهُ الْهَدْمُ وَالنَّقْضُ، وَيُطْلَقُ الْبِنَاءُ أَيْضًا عَلَى الدُّخُول بِالزَّوْجَةِ يُقَال: بَنَى عَلَى أَهْلِهِ، وَبَنَى بِأَهْلِهِ.
وَالأَْوَّل أَفْصَحُ، وَيُكْنَى بِهَذَا عَنِ الْجِمَاعِ بَعْدَ عَقْدِ النِّكَاحِ.
وَأَصْلُهُ: أَنَّ الرَّجُل كَانَ إِذَا تَزَوَّجَ بَنَى لِلْعُرْسِ خِبَاءً جَدِيدًا، وَعَمَرَهُ بِمَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ. (2)
وَيُطْلِقُهُ الْفُقَهَاءُ: عَلَى الدُّورِ وَنَحْوِهَا، وَعَلَى إِتْمَامِ الْعِبَادَةِ بِالنِّيَّةِ الأُْولَى إِذَا طَرَأَ فِيهَا خَلَلٌ لاَ يُوجِبُ التَّجْدِيدَ.
وَمِنْ أَمْثِلَةِ ذَلِكَ:
إِذَا سَلَّمَ الْمَسْبُوقُ بِسَلاَمِ الإِْمَامِ سَهْوًا، بَنَى عَلَى صَلاَتِهِ وَسَجَدَ لِلسَّهْوِ.
__________
(1) الكليات 1 / 417.
(2) أساس البلاغة مادة: " بنى ".

(8/206)


وَإِذَا رَعَفَ الْمُصَلِّي فِي الصَّلاَةِ، وَلَمْ يُصِبِ الدَّمُ ثَوْبَهُ أَوْ بَدَنَهُ، بَنَى عَلَى صَلاَتِهِ.
وَإِذَا تَكَلَّمَ الْمُؤَذِّنُ أَثْنَاءَ الأَْذَانِ عَمْدًا أَوْ سَهْوًا بَنَى، وَلَمْ يَسْتَأْنِفْ. وَإِذَا خَرَجَ الْمُجَمِّعُونَ أَثْنَاءَ الْخُطْبَةِ مِنَ الْمَسْجِدِ ثُمَّ رَجَعُوا قَبْل طُول الْفَصْل، بَنَى الْخَطِيبُ عَلَى مَا مَضَى مِنْ خُطْبَتِهِ فِي وُجُودِهِمْ، وَلَمْ يَسْتَأْنِفْ. كَمَا يُطْلَقُ الْبِنَاءُ عَلَى التَّفْرِيعِ عَلَى الْقَاعِدَةِ الْفِقْهِيَّةِ، أَيِ التَّخْرِيجِ عَلَيْهَا.

الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - التَّرْمِيمُ:
2 - التَّرْمِيمُ: هُوَ إِصْلاَحُ الْبِنَاءِ. (1)
ب - الْعِمَارَةُ:
3 - الْعِمَارَةُ: مَا يُعْمَرُ بِهِ الْمَكَانُ، وَيُطْلَقُ عَلَى بِنَاءِ الدَّارِ، وَضِدُّ الْعِمَارَةِ الْخَرَابُ، وَيُطْلَقُ الْخَرَابُ عَلَى الْمَكَانِ الَّذِي خَلاَ بَعْدَ عِمَارَتِهِ. (2)
ج - الأَْصْل:
4 - الأَْصْل لُغَةً: أَسْفَل الشَّيْءِ. وَيُطْلَقُ اصْطِلاَحًا عَلَى: مَا يُبْنَى عَلَيْهِ
__________
(1) أساس البلاغة مادة " رمى ".
(2) الصحاح والمعجم الوسيط ومتن اللغة مادة " خرب ".

(8/206)


غَيْرُهُ، وَيُقَابِلُهُ الْفَرْعُ، وَعَلَى الرَّاجِحِ، وَعَلَى الدَّلِيل، وَعَلَى الْقَاعِدَةِ الَّتِي تَجْمَعُ جُزْئِيَّاتٍ، وَعَلَى الْمُتَفَرِّعِ مِنْهُ كَالأَْبِ يَتَفَرَّعُ مِنْهُ أَوْلاَدُهُ (1) .

د - الْعَقَارُ:
5 - الْعَقَارُ هُوَ: مَا يُقَابِل الْمَنْقُول، وَهُوَ كُل مِلْكٍ ثَابِتٍ لَهُ أَصْلٌ فِي الأَْرْضِ (2)
الْحُكْمُ الإِْجْمَالِيُّ:
أَوَّلاً - الْبِنَاءُ (بِمَعْنَى إِقَامَةِ الْمَبَانِي)
6 - الأَْصْل فِي الْبِنَاءِ الإِْبَاحَةُ، وَإِنْ زَادَ عَلَى سَبْعَةِ أَذْرُعٍ، أَمَّا النَّهْيُ الْوَارِدُ عَنْهُ فِي الْحَدِيثِ وَهُوَ إِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِعَبْدٍ شَرًّا أَخْضَرَ لَهُ اللَّبِنَ وَالطِّينَ، حَتَّى يَبْنِيَ. (3) فَقَدْ بَيَّنَ الْمُنَاوِيُّ أَنَّ ذَلِكَ يُحْمَل عَلَى مَا كَانَ لِلتَّفَاخُرِ، أَوْ زَادَ عَنِ الْحَاجَةِ. (4) وَتَعْتَرِيهِ بَاقِي الأَْحْكَامِ الْخَمْسَةِ: فَيَكُونُ وَاجِبًا: كَبِنَاءِ دَارِ الْمَحْجُورِ عَلَيْهِ إِذَا كَانَ فِي الْبِنَاءِ غِبْطَةٌ (مَصْلَحَةٌ ظَاهِرَةٌ تُنْتَهَزُ قَدْ لاَ تُعَوَّضُ) .
__________
(1) الكليات مادة: " أصل ".
(2) الكليات 3 / 185.
(3) حديث: " إذا أراد الله بعبد شرا أخضر له اللبن. . . " عزاه العراقي في تخريج الأحياء (4 / 231ـ ط الحلبي) إلى أبي داود من حديث عائشة وجوده.
(4) حاشية القليوبي 4 / 95، وفيض القدير 1 / 264 ط تجارية و (خضر) كحسن لفظا ومعنى.

(8/207)


وَحَرَامًا: كَالْبِنَاءِ فِي الأَْمَاكِنِ ذَاتِ الْمَنَافِعِ الْمُشْتَرَكَةِ؛ كَالشَّارِعِ الْعَامِّ، وَبِنَاءِ دُورِ اللَّهْوِ، وَالْبِنَاءِ بِقَصْدِ الإِْضْرَارِ؛ كَسَدِّ الْهَوَاءِ عَنِ الْجَارِ. وَمَنْدُوبًا: كَبِنَاءِ الْمَسَاجِدِ وَالْمَدَارِسِ، وَالْمُسْتَشْفَيَاتِ، وَكُل مَا فِيهِ مَصْلَحَةٌ عَامَّةٌ لِلْمُسْلِمِينَ حَيْثُ لاَ يَتَعَيَّنُ ذَلِكَ لِتَمَامِ الْوَاجِبَاتِ، وَإِلاَّ صَارَ وَاجِبًا؛ لأَِنَّ مَا لاَ يَتِمُّ الْوَاجِبُ إِلاَّ بِهِ فَهُوَ وَاجِبٌ.
وَمَكْرُوهًا: كَالتَّطَاوُل فِي الْبُنْيَانِ لِغَيْرِ حَاجَةٍ.

الْوَلِيمَةُ لِلْبِنَاءِ:
7 - هِيَ مُسْتَحَبَّةٌ، كَبَقِيَّةِ الْوَلاَئِمِ الَّتِي تُقَامُ لِحُدُوثِ سُرُورٍ أَوِ انْدِفَاعِ شَرٍّ، وَتُسَمَّى الْوَلِيمَةُ لِلْبِنَاءِ (وَكِيرَةٌ) وَلاَ تَتَأَكَّدُ تَأَكُّدَ وَلِيمَةِ النِّكَاحِ. (1)
وَقَدْ ذَكَرَ بَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ قَوْلاً بِوُجُوبِهَا؛ لأَِنَّ الشَّافِعِيَّ قَال: بَعْدَ ذِكْرِ الْوَلاَئِمِ - وَمِنْهَا الْوَكِيرَةُ -: وَلاَ أُرَخِّصُ فِي تَرْكِهَا. وَذَهَبَ بَعْضُ الْمَالِكِيَّةِ إِلَى أَنَّهَا مَكْرُوهَةٌ، وَعَنْ بَعْضِهِمْ أَنَّهَا مُبَاحَةٌ. (2)
وَيُنْظَرُ التَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ (وَلِيمَة) .
__________
(1) روضة الطالبين 7 / 332، وحاشية ابن عابدين 5 / 221، والمغني 7 / 11.
(2) مواهب الجليل 4 / 3، وبلغة السالك 2 / 134.

(8/207)


مِنْ أَحْكَامِ الْبِنَاءِ:
أ - هَل الْبِنَاءُ مِنَ الْمَنْقُولاَتِ؟
8 - صَرَّحَ الْحَنَفِيَّةُ بِأَنَّ الْبِنَاءَ مِنَ الْمَنْقُولاَتِ. (1)
وَعِنْدَ بَقِيَّةِ الْمَذَاهِب هُوَ مِنْ غَيْرِ الْمَنْقُول. (2)
وَلِلتَّفْصِيل يُنْظَرُ مُصْطَلَحُ (عَقَار) .

ب - قَبْضُ الْبِنَاءِ:
9 - يَكُونُ قَبْضُ الْبِنَاءِ فِي الْبَيْعِ بِتَخْلِيَتِهِ لِلْمُشْتَرِي، وَتَمْكِينِ الْمُشْتَرِي مِنَ التَّصَرُّفِ فِيهِ، كَمَا صَرَّحَ بِهِ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَقَالُوا: مِنْ تَمْكِينِهِ مِنَ التَّصَرُّفِ تَسْلِيمُهُ الْمِفْتَاحَ إِلَيْهِ، بِشَرْطِ فَرَاغِ الْبِنَاءِ مِنْ أَمْتِعَةِ الْبَائِعِ، وَأَنْ لاَ يَكُونَ مَانِعٌ شَرْعِيٌّ أَوْ حِسِّيٌّ. قَالُوا: لأَِنَّ الشَّارِعَ أَطْلَقَ الْقَبْضَ وَأَنَاطَ بِهِ أَحْكَامًا وَلَمْ يُبَيِّنْهُ، وَلَيْسَ لَهُ حَدٌّ فِي اللُّغَةِ، فَيَجِبُ الرُّجُوعُ إِلَى الْعُرْفِ، وَهُوَ يَقْتَضِي مَا ذَكَرْنَاهُ. (3) وَلِلتَّفْصِيل يُنْظَرُ مُصْطَلَحُ (قَبْض) .

ج - جَرَيَانُ الشُّفْعَةِ فِي الْبِنَاءِ الْمَبِيعِ:
10 - تَجْرِي الشُّفْعَةُ فِي الْبِنَاءِ إِذَا بِيعَ مَعَ الأَْرْضِ
__________
(1) البحر الرائق 7 / 216، وحاشية ابن عابدين 4 / 138.
(2) مغني المحتاج 2 / 71، وبداية المجتهد 2 / 228ـ 229، وحاشية الدسوقي 3 / 476.
(3) مغني المحتاج 2 / 71، وحاشية ابن عابدين 4 / 43.

(8/208)


تَبَعًا لَهَا، وَلاَ تَثْبُتُ فِيهِ إِذَا بِيعَ مُنْفَرِدًا، وَعَلَى هَذَا جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ.
وَعِنْدَ الإِْمَامِ مَالِكٍ وَعَطَاءٍ وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ: تَثْبُتُ فِيهِ الشُّفْعَةُ، وَإِنْ بِيعَ مُنْفَرِدًا. (1)
وَانْظُرْ مُصْطَلَحَ (شُفْعَة) .

د - الْبِنَاءُ فِي الأَْرَاضِي الْمُبَاحَةِ:
11 - يَرَى جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ جَوَازَ الْبِنَاءِ فِي الأَْرْضِ الْمُبَاحَةِ، وَلَوْ بِدُونِ إِذْنِ الإِْمَامِ اكْتِفَاءً بِإِذْنِ الشَّارِعِ؛ وَلأَِنَّهُ مُبَاحٌ، كَالاِحْتِطَابِ وَالاِصْطِيَادِ. وَلَكِنْ يُسْتَحَبُّ الاِسْتِئْذَانُ مِنَ الإِْمَامِ خُرُوجًا مِنْ خِلاَفِ مَنْ أَوْجَبَهُ. (2) وَإِلَى هَذَا ذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ، وَالْمَالِكِيَّةُ، وَالْحَنَابِلَةُ، وَأَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ.
وَقَال أَبُو حَنِيفَةَ: لاَ يَجُوزُ إِلاَّ بِإِذْنِ الإِْمَامِ، (3) وَاسْتَدَل بِحَدِيثِ: لَيْسَ لِلْمَرْءِ إِلاَّ مَا طَابَتْ بِهِ نَفْسُ إِمَامِهِ (4) وَانْظُرْ مُصْطَلَحَ (إِحْيَاء الْمَوَاتِ) .
__________
(1) روضة الطالبين 5 / 69، البحر الرائق 7 / 216، والمغني لابن قدامة 5 / 311، وبداية المجتهد 2 / 228ـ 229.
(2) مغني المحتاج 2 / 361، والكافي 1 / 435.
(3) فتح القدير 9 / 3.
(4) حديث: " ليس للمرء إلا ما طابت به نفس إمامه " أخرجه الطبراني كما في نصب الراية (4 / 290ـ ط المجلس العلمي) وقال الزيلعي: وفيه ضعف، من حديث معاذ.

(8/208)


هـ - تَحْجِيرُ الأَْرْضِ لِلْبِنَاءِ:
12 - إِذَا احْتَجَرَ أَرْضًا لِلْبِنَاءِ، وَلَمْ يَبْنِ مُدَّةً يُمْكِنُ الْبِنَاءُ فِيهَا، وَلاَ أَحْيَاهَا بِغَيْرِ ذَلِكَ، بَطَل حَقُّهُ فِيهَا؛ لأَِنَّ التَّحَجُّرَ ذَرِيعَةٌ إِلَى الْعِمَارَةِ، وَهِيَ لاَ تُؤَخَّرُ عَنْهُ إِلاَّ بِقَدْرِ أَسْبَابِهَا. وَمِنَ الْفُقَهَاءِ مَنْ يَرَى أَنَّهُ يُرْفَعُ إِلَى السُّلْطَانِ، وَلاَ يَبْطُل حَقُّهُ بِطُول الْمُدَّةِ. وَقَدْ قَدَّرَ الْبَعْضُ الْمُدَّةَ بِثَلاَثِ سَنَوَاتٍ؛ لِقَوْل عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لَيْسَ لِمُتَحَجِّرٍ بَعْدَ ثَلاَثِ سَنَوَاتٍ حَقٌّ هَذَا مَا صَرَّحَ بِهِ الشَّافِعِيَّةُ، وَفِي الْمَذَاهِبِ الأُْخْرَى خِلاَفٌ وَتَفْصِيلٌ (1) يُرْجَعُ إِلَيْهِ فِي مُصْطَلَحِ (إِحْيَاء الْمَوَاتِ) .

و الْبِنَاءُ فِي الأَْرَاضِي الْمَغْصُوبَةِ:
13 - إِذَا بَنَى فِي أَرْضٍ مَغْصُوبَةٍ، فَطَلَبَ صَاحِبُ الأَْرْضِ قَلْعَ بِنَائِهِ قُلِعَ، قَال ابْنُ قُدَامَةَ: لاَ نَعْلَمُ فِي ذَلِكَ خِلاَفًا بَيْنَ الْفُقَهَاءِ لِحَدِيثِ: لَيْسَ لِعِرْقٍ ظَالِمٍ حَقٌّ (2) وَلأَِنَّهُ شَغَل مِلْكَ غَيْرِهِ بِمِلْكِهِ الَّذِي لاَ حُرْمَةَ لَهُ فِي نَفْسِهِ بِغَيْرِ إِذْنِهِ، فَلَزِمَهُ تَفْرِيغُهُ، وَإِنْ أَرَادَ صَاحِبُ الأَْرْضِ
__________
(1) فتح القدير 9 / 5 - 6 ومغني المحتاج 2 / 367 وروضة الطالبين 5 / 287.
(2) حديث: " ليس لعرق ظالم حق ". أخرجه أبو داود (3 / 454 ـ ط عزت عبيد دعاس) من حديث سعيد بن زيد وقواه ابن حجر في الفتح (5 / 19 ـ ط السلفية) .

(8/209)


أَخْذَ الْبِنَاءِ بِغَيْرِ عِوَضٍ لَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ. (1) وَلِلْحَنَفِيَّةِ تَفْصِيلٌ فِيمَا إِذَا كَانَ الْبِنَاءُ أَوِ الْغَرْسُ بِزَعْمِ سَبَبٍ شَرْعِيٍّ يُعْذَرُ بِهِ الْبَانِي، فَيُنْظَرُ: إِنْ كَانَتْ قِيمَةُ الأَْرْضِ أَكْثَرَ مِنْ قِيمَةِ الْبِنَاءِ كُلِّفَ الْغَاصِبُ الْقَلْعَ. وَإِنْ كَانَتْ أَقَل مِنْهُ فَلاَ يُؤْمَرُ بِالْقَلْعِ، وَيَغْرَمُ صَاحِبُ الْبِنَاءِ لِصَاحِبِ الأَْرْضِ قِيمَةَ الأَْرْضِ، أَمَّا إِذَا كَانَ الْبِنَاءُ ظُلْمًا، فَالْخِيَارُ لِصَاحِبِ الأَْرْضِ بَيْنَ الأَْمْرِ بِالْقَلْعِ أَوْ تَمَلُّكِ الْبِنَاءِ مُسْتَحَقِّ الْقَلْعِ. (2)
أَمَّا ضَمَانُ مَنْفَعَةِ الأَْرْضِ فِي مُدَّةِ الْغَصْبِ وَآرَاءُ الْفُقَهَاءِ فِيهِ فَيُرْجَعُ إِلَيْهِ فِي مُصْطَلَحِ (غَصْب) .

ز - الْبِنَاءُ فِي الأَْرْضِ الْمُسْتَأْجَرَةِ:
14 - إِذَا بَنَى الْمُسْتَأْجِرُ فِي الأَْرْضِ الْمُسْتَأْجَرَةِ، فَإِنِ انْقَضَتْ مُدَّةُ الإِْجَارَةِ لَزِمَ الْمُسْتَأْجِرَ قَلْعُهَا، وَتَسْلِيمُ الأَْرْضِ فَارِغَةً لِلْمُؤَجِّرِ؛ لأَِنَّ الْبِنَاءَ لاَ نِهَايَةَ لَهُ، وَفِي إِبْقَائِهِ إِضْرَارٌ بِصَاحِبِ الأَْرْضِ، إِلاَّ أَنْ يَخْتَارَ صَاحِبُ الأَْرْضِ أَنْ يَغْرَمَ لِلْمُسْتَأْجِرِ قِيمَةَ الْبِنَاءِ مَقْلُوعًا وَيَتَمَلَّكُهُ، فَلَهُ ذَلِكَ بِرِضَا صَاحِبِ الْبِنَاءِ إِنْ لَمْ تَنْقُصِ الأَْرْضُ بِالْقَلْعِ، فَيَتَمَلَّكُهَا حِينَئِذٍ بِغَيْرِ رِضَاهُ.
__________
(1) المغني لابن قدامة 5 / 389، ومغني المحتاج 2 / 291.
(2) حاشية ابن عابدين 5 / 131.

(8/209)


وَلاَ فَرْقَ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ بَيْنَ الإِْجَارَةِ الْمُطْلَقَةِ وَالإِْجَارَةِ الْمَشْرُوطِ فِيهَا الْقَلْعُ. (1)
أَمَّا عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ فَإِنِ اسْتَأْجَرَ أَرْضًا لِمُدَّةٍ طَوِيلَةٍ كَتِسْعِينَ سَنَةً - عَلَى مَذْهَبِ مَنْ يَرَى ذَلِكَ مِنْهُمْ - لِيَبْنِيَ فِيهَا، وَفَعَل ثُمَّ مَضَتِ الْمُدَّةُ، وَأَرَادَ الْمُؤَجِّرُ إِخْرَاجَ الْمُسْتَأْجِرِ وَيَدْفَعُ لَهُ قِيمَةَ بِنَائِهِ مَنْقُوضًا، فَإِنَّهُ لاَ يُجَابُ لِذَلِكَ، وَيَجِبُ عَلَيْهِ بَقَاءُ الْبِنَاءِ فِي أَرْضِهِ، وَلَهُ كِرَاءُ الْمِثْل فِي الْمُسْتَقْبَل، وَسَوَاءٌ كَانَتْ تِلْكَ الأَْرْضُ الْمُؤَجَّرَةُ مِلْكًا أَوْ وَقْفًا عَلَى جِهَةٍ. (2)
أَمَّا عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ فَإِنْ شَرَطَ الْقَلْعَ بَعْدَ انْتِهَاءِ مُدَّةِ الإِْجَارَةِ لَزِمَ الْمُسْتَأْجِرَ الْقَلْعُ وَفَاءً بِشَرْطِهِ، وَلَيْسَ عَلَى مَالِكِ الأَْرْضِ أَرْشُ نَقْصِ الْبِنَاءِ بِالْقَلْعِ، وَلاَ عَلَى الْمُسْتَأْجِرِ تَسْوِيَةُ الأَْرْضِ وَإِصْلاَحُهَا لِتَرَاضِيهِمَا بِالْقَلْعِ، وَإِنْ أَطْلَقَا فَلِلْمُكْتَرِي قَلْعُهُ؛ لأَِنَّهُ مِلْكُهُ فَلَهُ أَخْذُهُ، وَعَلَيْهِ تَسْوِيَةُ الأَْرْضِ إِنْ قَلَعَهُ لأَِنَّهُ ضَرَرٌ أَدْخَلَهُ فِي مِلْكِ غَيْرِهِ بِغَيْرِ إِذْنِهِ، وَإِنْ أَبَى الْقَلْعَ لَمْ يُجْبَرْ عَلَيْهِ، إِلاَّ أَنْ يَضْمَنَ لَهُ الْمَالِكُ أَرْشَ النَّقْصِ بِالْقَلْعِ فَيُجْبَرُ عَلَيْهِ.
أَمَّا الْمَالِكُ فَلَهُ الْخِيَارُ بَيْنَ ثَلاَثَةِ أَشْيَاءَ: أَنْ يَدْفَعَ لِلْمُسْتَأْجِرِ قِيمَةَ الْبِنَاءِ فَيَتَمَلَّكَهُ، أَوْ يَقْلَعَ
__________
(1) فتح القدير 8 / 25، وروض الطالب 2 / 420، المغني 5 / 490.
(2) حاشية الدسوقي3 / 439.

(8/210)


الْبِنَاءَ وَيَضْمَنَ أَرْشَ النَّقْصِ، أَوْ يُقِرَّ الْبِنَاءَ فَيَأْخُذَ مِنَ الْمُسْتَأْجِرِ أُجْرَةَ الْمِثْل. وَالتَّفْصِيل فِي (الإِْجَارَة) . (1)

ح - الْبِنَاءُ فِي الأَْرْضِ الْمُسْتَعَارَةِ:
15 - إِذَا اسْتَعَارَ أَرْضًا لِلْبِنَاءِ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَبْنِيَ بَعْدَ انْتِهَاءِ مُدَّةِ الْعَارِيَّةِ أَوِ الرُّجُوعِ عَنِ الْعَارِيَّةِ، فَإِنْ فَعَل ذَلِكَ قُلِعَ بِنَاؤُهُ، وَحُكْمُهُ حُكْمُ الْغَاصِبِ، وَعَلَيْهِ تَسْوِيَةُ الأَْرْضِ وَضَمَانُ نَقْصِ الأَْرْضِ؛ لأَِنَّهُ عُدْوَانٌ. (2)
أَمَّا إِذَا بَنَى قَبْل الرُّجُوعِ، فَإِنْ شَرَطَ عَلَيْهِ: الْقَلْعَ مَجَّانًا عِنْدَ الرُّجُوعِ لَزِمَهُ الْقَلْعُ عَمَلاً بِالشَّرْطِ.
وَإِنْ لَمْ يَشْتَرِطِ الْقَلْعَ فَلاَ يَقْلَعُ مَجَّانًا، سَوَاءٌ كَانَتِ الْعَارِيَّةُ مُطْلَقَةً أَوْ مُقَيَّدَةً بِوَقْتٍ؛ لأَِنَّ الْبِنَاءَ مَالٌ مُحْتَرَمٌ فَلاَ يُقْلَعُ مَجَّانًا، فَيُخَيَّرُ الْمُعِيرُ بَيْنَ الأُْمُورِ الثَّلاَثَةِ الَّتِي مَرَّتْ فِي الإِْجَارَةِ الْمُطْلَقَةِ، وَهَذَا فِي الْجُمْلَةِ عِنْدَ غَيْرِ الْحَنَفِيَّةِ. (3)
وَفَرَّقَ الْحَنَفِيَّةُ بَيْنَ الْمُطْلَقَةِ وَالْمُؤَقَّتَةِ، فَإِنْ كَانَتِ الْعَارِيَّةُ مُؤَقَّتَةً فَرَجَعَ قَبْل الْوَقْتِ ضَمِنَ الْمُعِيرُ مَا نَقَصَ فِي قِيمَةِ الْبِنَاءِ بِالْقَلْعِ؛ لأَِنَّ الْمُسْتَعِيرَ
__________
(1) شرح روض الطالب 2 / 420، والمغني 5 / 490.
(2) روضة الطالبين 5 / 437، والمغني 5 / 229.
(3) روض الطالبين 2 / 332ـ 333، وروضة الطالبين 4 / 438 - 439، والمغني 5 / 236، والدسوقي 3 / 439.

(8/210)


مَغْرُورٌ مِنْ قِبَل الْمُعِيرِ، أَمَّا الْمُطْلَقَةُ فَلاَ ضَمَانَ عَلَى الْمُعِيرِ؛ لأَِنَّ الْمُسْتَعِيرَ مُغْتَرٌّ غَيْرُ مَغْرُورٍ، حَيْثُ اعْتَمَدَ إِطْلاَقَ الْعَقْدِ، وَظَنَّ أَنَّهُ يَتْرُكُهُ مُدَّةً طَوِيلَةً. (1)
ط - الْبِنَاءُ فِي الأَْرْضِ الْمَوْقُوفَةِ
16 - إِذَا بَنَى فِي الأَْرْضِ الْمَوْقُوفَةِ الْمُسْتَأْجَرَةِ بِغَيْرِ إِذْنِ نَاظِرِ الْوَقْفِ قُلِعَ بِنَاؤُهُ إِنْ لَمْ يَكُنْ ضَرَرٌ عَلَى الأَْرْضِ بِالْقَلْعِ، وَيَضْمَنُ مَنَافِعَهَا الَّتِي فَاتَتْ بِيَدِهِ، بِهَذَا صَرَّحَ الْحَنَفِيَّةُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، وَالضَّمَانُ هُوَ الأَْصْل عِنْدَ غَيْرِ الْحَنَفِيَّةِ فِي مَنْفَعَةِ كُل مَغْصُوبٍ.

ي - بِنَاءُ الْمَسَاجِدِ:
17 - بِنَاءُ الْمَسَاجِدِ فِي الأَْمْصَارِ وَالْقُرَى وَالْمَحَال حَسَبَ الْحَاجَةِ فَرْضُ كِفَايَةٍ (2) وَهُوَ مِنْ أَجَل أَعْمَال الْبِرِّ الَّتِي حَثَّ الشَّارِعُ عَلَيْهَا. قَال تَعَالَى: {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ} . (3)
وَجَاءَ فِي الْخَبَرِ الصَّحِيحِ مَنْ بَنَى مَسْجِدًا، يَبْتَغِي بِهِ وَجْهَ اللَّهِ، بَنَى اللَّهُ لَهُ مِثْلَهُ فِي الْجَنَّةِ. (4)
__________
(1) فتح القدير 7 / 476، وحاشية ابن عابدين 4 / 504 ـ 505.
(2) كشاف القناع 2 / 364، نشر عالم الكتب بيروت.
(3) سورة النور / 36.
(4) حديث: " من بنى لله مسجدا يبتغي به وجه الله، بنى. . " أخرجه البخاري (الفتح 1 / 544 ـ ط السلفية) . ومسلم (4 / 2287 ـ ط الحلبي) .

(8/211)


وَأَمَّا مَا يُرَاعَى فِي بِنَاءِ الْمَسَاجِدِ فَيُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ (مَسْجِد) .

ك - الْبِنَاءُ بِاللَّبِنِ الْمَخْلُوطِ بِالنَّجَاسَةِ:
18 - صَرَّحَ الشَّافِعِيَّةُ بِأَنَّهُ يَجُوزُ بِنَاءُ الدُّورِ وَنَحْوِهَا بِمَوَادَّ مَخْلُوطَةٍ بِالنَّجَاسَةِ - كَتَسْمِيدِ الأَْرْضِ بِهَا - لِلضَّرُورَةِ. قَال الأَْذْرَعِيُّ: وَالإِْجْمَاعُ الْفِعْلِيُّ عَلَى صِحَّةِ بَيْعِ ذَلِكَ. (1)
وَالتَّفْصِيل فِي بَابِ (النَّجَاسَة) .

ل - الْبِنَاءُ عَلَى الْقُبُورِ:
19 - يُكْرَهُ تَجْصِيصُ الْقَبْرِ وَالْبِنَاءُ عَلَيْهِ، إِنْ كَانَ فِي أَرْضٍ كَانَ يَمْلِكُهَا الْمَيِّتُ، أَوْ أَرْضٍ مَوَاتٍ بِلاَ قَصْدِ مُبَاهَاةٍ، فَإِنْ كَانَ فِي مَقْبَرَةٍ مُسَبَّلَةٍ حَرُمَ الْبِنَاءُ، وَيُهْدَمُ إِنْ بُنِيَ؛ لأَِنَّهُ يُضَيِّقُ عَلَى النَّاسِ، وَلاَ فَرْقَ فِي ذَلِكَ بَيْنَ أَنْ يَبْنِيَ قُبَّةً أَوْ بَيْتًا أَوْ مَسْجِدًا. (2)
وَقَدْ وَرَدَ النَّهْيُ عَنْ بِنَاءِ الْمَسَاجِدِ عَلَى الْقُبُورِ، فَفِي الْخَبَرِ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ أَنَّ الرَّسُول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال فِي مَرَضِهِ الَّذِي مَاتَ فِيهِ: لَعَنَ اللَّهُ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى، اتَّخَذُوا قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ
__________
(1) قليوبي 2 / 155، ومغني المحتاج 2 / 11، وتحفة المحتاج 4 / 25.
(2) مغني المحتاج 1 / 364، وبلغة السالك 1 / 427.

(8/211)


مَسَاجِدَ (1) . وَالتَّفْصِيل يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ (قَبْر) .

م - الْبِنَاءُ فِي الأَْمَاكِنِ الْمُشْتَرَكَةِ:
20 - لاَ يَجُوزُ الْبِنَاءُ الْخَاصُّ فِي الأَْمَاكِنِ الَّتِي تَتَعَلَّقُ بِهَا حُقُوقٌ عَامَّةٌ، كَالشَّوَارِعِ الْعَامَّةِ، وَمُصَلَّى الْعِيدِ فِي الصَّحْرَاءِ، وَأَمَاكِنِ النُّسُكِ، كَعَرَفَةَ وَمُزْدَلِفَةَ؛ لِمَا فِي ذَلِكَ مِنَ التَّضْيِيقِ عَلَى النَّاسِ وَلأَِنَّهَا لِلْمُسْلِمِينَ جَمِيعًا، فَلَيْسَ لِفَرْدٍ أَنْ يَسْتَأْثِرَ بِهَا. (2)

ن - بِنَاءُ الْحَمَّامِ:
21 - ذَهَبَ الإِْمَامُ أَحْمَدُ إِلَى أَنَّهُ يُكْرَهُ بِنَاءُ الْحَمَّامِ مُطْلَقًا، وَبِنَاؤُهُ لِلنِّسَاءِ أَشَدُّ كَرَاهَةً، وَنُقِل عَنْهُ قَوْلُهُ: الَّذِي يَبْنِي الْحَمَّامَ لِلنِّسَاءِ لَيْسَ بِعَدْلٍ (3) وَهُوَ جَائِزٌ عِنْدَ بَقِيَّةِ الأَْئِمَّةِ. (4)

ثَانِيًا: الْبِنَاءُ فِي الْعِبَادَاتِ

يُرَادُ بِالْبِنَاءِ هُنَا: إِتْمَامُ الْعِبَادَةِ بَعْدَ انْقِطَاعِهَا.
22 - إِذَا أَحْرَمَ مُتَطَهِّرًا، ثُمَّ أَحْدَثَ عَمْدًا،
__________
(1) حديث: " لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور. . . " أخرجه البخاري (الفتح 3 / 200 ـ ط السلفية) ومسلم (1 / 376 ط الحلبي) .
(2) المغني 5 / 576، ومغني المحتاج 2 / 365، والبدائع 6 / 265.
(3) كشاف القناع 1 / 158.
(4) جواهر الإكليل 2 / 195، وابن عابدين 5 / 32.

(8/212)


بَطَلَتْ صَلاَتُهُ بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ. (1) وَاخْتَلَفُوا فِيمَا إِذَا سَبَقَهُ الْحَدَثُ بِلاَ عَمْدٍ مِنْهُ.
فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ لاَ تَبْطُل صَلاَتُهُ، فَيَبْنِي عَلَيْهَا بَعْدَ التَّطَهُّرِ، وَهُوَ الْقَوْل الْقَدِيمُ لِلشَّافِعِيِّ. (2)
وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ: لاَ يَبْنِي الْمُحْدِثُ فِي الصَّلاَةِ إِلاَّ فِي الرُّعَافِ. (3)
وَتَبْطُل الصَّلاَةُ فِي الْجَدِيدِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَلاَ بِنَاءَ، وَهُوَ مَذْهَبُ الْحَنَابِلَةِ. (4)
وَلِلتَّفْصِيل انْظُرْ مُصْطَلَحَ (حَدَث، رُعَاف) .

بِنَاءُ السَّاهِي فِي الصَّلاَةِ عَلَى يَقِينِهِ:
23 - إِذَا شَكَّ فِي أَثْنَاءِ الصَّلاَةِ فِي عَدَدِ الرَّكَعَاتِ أَوْ فِعْل رُكْنٍ، فَالأَْصْل أَنَّهُ لَمْ يَفْعَل، فَيَجِبُ الْبِنَاءُ عَلَى الْيَقِينِ، وَهُوَ الأَْقَل. (5) وَانْظُرْ مُصْطَلَحَ (شَكّ) .

الْبِنَاءُ فِي خُطْبَةِ الْجُمُعَةِ:
24 - إِذَا انْفَضَّ الْمُجَمِّعُونَ فِي أَثْنَاءِ الصَّلاَةِ، وَعَادُوا قَبْل طُول الْفَصْل، بَنَى الْخَطِيبُ عَلَى خُطْبَتِهِ. (6) وَانْظُرْ مُصْطَلَحَ (خُطْبَة) .
__________
(1) روضة الطالبين 1 / 275، والبدائع 1 / 220ـ 221ـ 223، وحاشية الدسوقي 1 / 207.
(2) البدائع 1 / 220ـ 221ـ 223.
(3) حاشية الدسوقي 1 / 207.
(4) روضة الطالبين 1 / 270، وكشاف القناع 1 / 321.
(5) روضة الطالبين 1 / 309، وحاشية الدسوقي 1 / 275، وكشاف القناع 1 / 401.
(6) روضة الطالبين 1 / 8، وكشاف القناع 2 / 33.

(8/212)


الْبِنَاءُ فِي الطَّوَافِ:
25 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ إِذَا ابْتَدَأَ بِالطَّوَافِ، ثُمَّ أُقِيمَتِ الصَّلاَةُ الْمَكْتُوبَةُ، فَإِنَّهُ يَقْطَعُ الطَّوَافُ، وَيُصَلِّي مَعَ الْجَمَاعَةِ، ثُمَّ يَبْنِي عَلَى طَوَافِهِ؛ لأَِنَّهُ فِعْلٌ مَشْرُوعٌ فَلَمْ يَقْطَعْهُ، كَالْفِعْل الْيَسِيرِ. (1)
أَمَّا فِي غَيْرِ الْمَكْتُوبَةِ فَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي صِحَّةِ الْبِنَاءِ عَلَى مَا مَضَى.
ر: مُصْطَلَحَ (طَوَاف) .

بِنَاءٌ بِالزَّوْجَةِ

انْظُرْ: دُخُول.

بِنَاءٌ فِي الْعِبَادَاتِ

انْظُرِ: اسْتِئْنَاف.
__________
(1) المغني 3 / 395، وحاشية الطحاوي 1 / 498، وحاشية الدسوقي 2 / 32، وأسنى المطالب 1 / 479.

(8/213)


بَنَانٌ

انْظُرْ: إِصْبَع.

(8/213)


بِنْتٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - بِنْتٌ وَابْنَةٌ: مُؤَنَّثُ ابْنٍ. وَالْوَلَدُ يُطْلَقُ عَلَيْهِمَا. (1)
الْحُكْمُ الإِْجْمَالِيُّ وَمَوَاطِنُ الْبَحْثِ:
وَرَدَتْ أَحْكَامٌ تَتَعَلَّقُ بِالْبِنْتِ أَهَمُّهَا مَا يَلِي:

أ - النِّكَاحُ:
2 - نِكَاحُ الْبِنْتِ: يَحْرُمُ نِكَاحُ الرَّجُل ابْنَتَهُ، وَالْعَقْدُ عَلَيْهَا بَاطِلٌ. (2) لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ} (3) وَعَلَيْهِ إِجْمَاعُ الأُْمَّةِ.

3 - نِكَاحُ ابْنَتِهِ مِنَ الزِّنَى: ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى تَحْرِيمِ زَوَاجِ الرَّجُل ابْنَتَهُ مِنَ الزِّنَى؛ لأَِنَّ الْوَطْءَ سَبَبُ الْجُزْئِيَّةِ، وَالاِسْتِمْتَاعُ بِالْجُزْءِ حَرَامٌ. (4)
__________
(1) المصباح المنير مادة: " ابن " ومادة: " ولد " والمغرب مادة: " ولد " ومختار الصحاح مادة: " بني ".
(2) فتح القدير 2 / 357، وكشاف القناع 5 / 69، ومراتب الإجماع لابن حزم ص 66.
(3) سورة النساء / 23.
(4) الهداية مع فتح القدير 2 / 265، والزرقاني شرح مختصر خليل 3 / 204، وكشاف القناع 5 / 72.

(8/214)


وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّ الْمَخْلُوقَةَ مِنْ مَاءِ زِنَاهُ تَحِل لَهُ؛ لأَِنَّ مَاءَ الزِّنَى لاَ حُرْمَةَ لَهُ، لَكِنَّهُ مَكْرُوهٌ خُرُوجًا مِنَ الْخِلاَفِ. (1)
انْظُرْ مُصْطَلَحَ (نِكَاح) .

الْوِلاَيَةُ فِي النِّكَاحِ:
4 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ لِلأَْبِ إِنْكَاحَ ابْنَتِهِ الصَّغِيرَةِ وَالْكَبِيرَةِ الْمَجْنُونَةِ أَوِ الْمَعْتُوهَةِ (2) وَلَوْ جَبْرًا عَنْهَا، إِنْ كَانَتْ بِكْرًا. وَاخْتَلَفُوا فِي الثَّيِّبِ الصَّغِيرَةِ.
وَأَمَّا تَزْوِيجُ الرَّجُل ابْنَتَهُ الْبِكْرَ الْكَبِيرَةَ فَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّ لِلأَْبِ إِجْبَارَهَا خِلاَفًا لِلْحَنَفِيَّةِ. أَمَّا الْبِنْتُ الثَّيِّبُ الْكَبِيرَةُ فَالأَْبُ يَلِي إِنْكَاحَهَا دُونَ إِجْبَارٍ.
وَالتَّفْصِيل فِي (النِّكَاح وَالْوِلاَيَة) .

ب - إِرْثُ الْبِنْتِ:
5 - الْبِنْتُ إِذَا انْفَرَدَتْ لَهَا النِّصْفُ فِي الْمِيرَاثِ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِنْ كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ} (3) وَإِنْ كَانَتَا اثْنَتَيْنِ فَصَاعِدًا فَلَهُمَا الثُّلُثَانِ؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ
__________
(1) المحلي شرح المنهج 3 / 241.
(2) فتح القدير 2 / 391.
(3) سورة النساء / 11.

(8/214)


اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ} (1) هَذَا عِنْدَ عَامَّةِ الصَّحَابَةِ، وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ حُكْمَهُمَا حُكْمُ الْوَاحِدَةِ. أَمَّا إِذَا كَانَ مَعَ الْبِنْتِ ابْنٌ، فَلِلذَّكَرِ مِثْل حَظِّ الأُْنْثَيَيْنِ وَهُوَ يَعْصِبُهُنَّ؛ (2) لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلاَدِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْل حَظِّ الأُْنْثَيَيْنِ} . (3)
وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ (إِرْث)

ج - النَّفَقَةُ:
6 - اتَّفَقُوا عَلَى وُجُوبِ نَفَقَةِ الْبِنْتِ الْفَقِيرَةِ غَيْرِ الْمُتَزَوِّجَةِ عَلَى وَالِدِهَا إِذَا كَانَ غَنِيًّا. أَمَّا إِذَا كَانَتِ الْبِنْتُ غَنِيَّةً، فَلاَ تَجِبُ لَهَا النَّفَقَةُ، وَإِذَا كَانَتْ كَبِيرَةً وَفَقِيرَةً فَتَجِبُ لَهَا النَّفَقَةُ أَيْضًا مَعَ بَعْضِ الشُّرُوطِ. (4) وَلِتَفْصِيل ذَلِكَ انْظُرْ مُصْطَلَحَ (نَفَقَة)
__________
(1) سورة النساء / 11.
(2) كشاف القناع 4 / 421، وشرح السراجية ص34 ـ 35، 37 بتحقيق الأستاذ محمد محيي الدين عبد الحميد مطبعة مصطفى الحلبي.
(3) سورة النساء / 11.
(4) فتح القدير 3 / 343ـ 344، وكشاف القناع 5 / 481، والمحلي على المنهاج 4 / 84، والخرشي على مختصر خليل 4 / 204ـ 205.

(8/215)


بِنْتُ الاِبْنِ
التَّعْرِيفُ:
1 - بِنْتُ الاِبْنِ: هِيَ كُل بِنْتٍ تَنْتَسِبُ إِلَى الْمُتَوَفَّى بِطَرِيقِ الاِبْنِ، مَهْمَا نَزَلَتْ دَرَجَةُ أَبِيهَا، فَتَشْمَل بِنْتَ الاِبْنِ وَبِنْتَ ابْنِ الاِبْنِ مَهْمَا نَزَل. (1)
الْحُكْمُ الإِْجْمَالِيُّ وَمَوَاطِنُ الْبَحْثِ:
لِبِنْتِ الاِبْنِ أَحْكَامٌ خَاصَّةٌ فِي الْفِقْهِ الإِْسْلاَمِيِّ نُجْمِل أَهَمَّهَا فِيمَا يَلِي:

النِّكَاحُ:
2 - يَحْرُمُ عَلَى الرَّجُل نِكَاحُ بِنْتِ ابْنِهِ وَإِنْ نَزَلَتْ؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ} (2) وَالْمُرَادُ بِالْبِنْتِ: الْفَرْعُ الْمُؤَنَّثُ وَإِنْ بَعُدَ. فَيَشْمَل بِنْتَ الاِبْنِ وَبِنْتَ الْبِنْتِ، وَلإِِجْمَاعِ (3) الْمُجْتَهِدِينَ عَلَى ذَلِكَ.
وَلِلتَّفْصِيل يُرَاجَعُ مُصْطَلَحُ (نِكَاح) .
__________
(1) أحكام القرآن لابن العربي 1 / 372.
(2) سورة النساء / 23.
(3) الهداية مع العناية وفتح القدير 2 / 358، وكشاف القناع 5 / 69.

(8/215)


الزَّكَاةُ:
3 - لاَ يَجُوزُ دَفْعُ الزَّكَاةِ إِلَى بِنْتِ الاِبْنِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ؛ لأَِنَّ مَنَافِعَ الأَْمْلاَكِ بَيْنَهُمْ مُتَّصِلَةٌ. (1)
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ دَفْعُ الزَّكَاةِ إِلَيْهَا فِي الْحَال الَّتِي تَجِبُ فِيهَا النَّفَقَةُ عَلَى الْجَدِّ (2) أَمَّا الْمَالِكِيَّةُ فَقَدْ جَوَّزُوا دَفْعَ الزَّكَاةِ إِلَى بِنْتِ الاِبْنِ؛ لأَِنَّهَا لاَ تَجِبُ نَفَقَتُهَا عَلَى جَدِّهَا. (3)

الْفَرَائِضُ:
4 - لِبِنْتِ الاِبْنِ أَحْوَالٌ فِي الْمِيرَاثِ نُجْمِلُهَا فِيمَا يَلِي:
أ - النِّصْفُ لِلْوَاحِدَةِ.
ب - الثُّلُثَانِ لِلاِثْنَتَيْنِ فَصَاعِدًا.
وَهَاتَانِ الْحَالَتَانِ يُشْتَرَطُ فِيهِمَا عَدَمُ الْبَنَاتِ الصُّلْبِيَّاتِ، فَإِذَا عُدِمْنَ قَامَتْ بِنْتُ الاِبْنِ مَقَامَهُنَّ.
ج - إِذَا كَانَ مَعَهُنَّ ذَكَرٌ فَإِنَّهُ يَعْصِبُهُنَّ، وَحِينَئِذٍ فَلِلذَّكَرِ مِثْل حَظِّ الأُْنْثَيَيْنِ.
د - لَهُنَّ السُّدُسُ مَعَ الْبِنْتِ الْوَاحِدَةِ الصُّلْبِيَّةِ، تَكْمِلَةً لِلثُّلُثَيْنِ.
__________
(1) الهداية مع فتح القدير 2 / 21ـ 22، والمغني 2 / 647.
(2) المجموع 6 / 229، والمحلي على المنهاج 4 / 84.
(3) المدونة الكبرى 1 / 297ـ 298.

(8/216)


هـ - لاَ يَرِثْنَ مَعَ الصُّلْبِيَّتَيْنِ عِنْدَ عَامَّةِ الصَّحَابَةِ، إِلاَّ إِذَا كَانَ مَعَهُنَّ ذَكَرٌ بِدَرَجَتِهِنَّ أَوْ أَسْفَل مِنْهُنَّ، فَإِنَّهُ يَعْصِبُهُنَّ، وَحِينَئِذٍ فَلِلذَّكَرِ مِثْل حَظِّ الأُْنْثَيَيْنِ. (1)
وَلِتَفْصِيل ذَلِكَ رَاجِعْ مُصْطَلَحَ (فَرَائِض) .

بِنْتُ لَبُونٍ

انْظُرِ: ابْن لَبُونٍ

بِنْتُ مَخَاضٍ

انْظُرِ: ابْن مَخَاضٍ
__________
(1) شرح السراجية ص 36.

(8/216)


بَنْجٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الْبَنْجُ - بِفَتْحِ الْبَاءِ - فِي اللُّغَةِ وَالاِصْطِلاَحِ: نَبَاتٌ مُخَدِّرٌ، غَيْرُ الْحَشِيشِ، مُسَكِّنٌ لِلأَْوْجَاعِ. (1)
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - الأَْفْيُونُ:
2 - الأَْفْيُونُ: عُصَارَةٌ لَيِّنَةٌ يُسْتَخْرَجُ مِنَ الْخَشْخَاشِ، وَيَحْتَوِي عَلَى ثَلاَثِ مَوَادَّ مُنَوِّمَةٍ مِنْهَا الْمُورْفِينُ. (2)
ب - الْحَشِيشَةُ:
3 - الْحَشِيشَةُ: نَوْعٌ مِنْ وَرَقِ الْقُنَّبِ الْهِنْدِيِّ يُسْكِرُ جِدًّا إِذَا تَنَاوَل مِنْهُ قَدْرَ دِرْهَمٍ. (3) هَذَا مَا قَالَهُ ابْنُ تَيْمِيَّةَ وَابْنُ حَجَرٍ الْهَيْتَمِيُّ
__________
(1) القاموس المحيط في المادة، وابن عابدين 5 / 294 ط بولاق.
(2) الصحاح في اللغة والعلوم.
(3) ابن عابدين 5 / 295 ط بولاق، ومغني المحتاج 2 / 187، ومجموع فتاوى ابن تيمية 34 / 214.

(8/217)


وَابْنُ عَابِدِينَ. لَكِنْ قَال الْقَرَافِيُّ - بَعْدَ بَيَانِ الْفَرْقِ بَيْنَ الْمُسْكِرِ وَالْمُفْسِدِ (أَيِ الْمُخَدِّرِ) - وَبِهَذَا يَظْهَرُ لَك أَنَّ الْحَشِيشَةَ مُفْسِدَةٌ وَلَيْسَتْ مُسْكِرَةً، ثُمَّ اسْتَدَل لِذَلِكَ بِكَلاَمٍ نَفِيسٍ يُرْجَعُ إِلَيْهِ فِي الْفُرُوقِ. (1)

الْحُكْمُ الشَّرْعِيُّ فِي تَنَاوُلِهِ:
4 - يَرَى جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ أَنَّهُ يَحْرُمُ تَنَاوُل الْقَدْرِ الْمُسْكِرِ مِنْ هَذِهِ الْمَادَّةِ، وَيُعَزَّرُ بِالسُّكْرِ مِنْهُ بِغَيْرِ عُذْرٍ (2) وَيَجُوزُ عِنْدَهُمُ التَّدَاوِي بِهِ وَاسْتِعْمَالُهُ لإِِزَالَةِ الْعَقْل لِقَطْعِ عُضْوٍ مُتَآكِلٍ. (3)
أَمَّا الْحَنَفِيَّةُ فَقَدِ اخْتَلَفَتْ آرَاؤُهُمْ فِي حُكْمِ تَنَاوُل الْبَنْجِ لِغَيْرِ التَّدَاوِي وَوُجُوبِ إِقَامَةِ الْحَدِّ عَلَى السَّكْرَانِ مِنْهُ. (4)

عُقُوبَةُ تَنَاوُلِهِ:
5 - يُعَرِّفُ الْفُقَهَاءُ مَا يَحْرُمُ تَنَاوُلُهُ، وَيَتَرَتَّبُ عَلَى تَعَاطِيهِ الْحَدُّ بِأَنَّهُ: كُل شَرَابٍ مُسْكِرٍ. وَبِنَاءً عَلَى هَذَا التَّعْرِيفِ ذَهَبَ مُعْظَمُ الْفُقَهَاءِ إِلَى عَدَمِ
__________
(1) الفروق للقرافي 1 / 217ـ 218 (الفرق 40) .
(2) الخرشي 1 / 84، ومغني المحتاج 4 / 187، تحفة المحتاج 9 / 169.
(3) الخرشي 1 / 84، وإعانة الطالبين 4 / 156، وابن عابدين 5 / 294ط بولاق، ومجموع فتاوى ابن تيمية 34 / 214.
(4) ابن عابدين 3 / 170، ومختصر الفتاوى المصرية ص 499، وفتح القدير 3 / 40، 4 / 184، 8 / 160.

(8/217)


إِقَامَةِ الْحَدِّ عَلَى السَّكْرَانِ مِنَ الْبَنْجِ وَنَظَائِرِهِ مِنَ الْجَامِدَاتِ، وَإِنْ كَانَ مُذَابًا وَقْتَ التَّعَاطِي، وَلَكِنَّهُ يُعَاقَبُ عُقُوبَةً تَعْزِيرِيَّةً. (1)

حُكْمُ طَهَارَتِهِ:
6 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الْبَنْجَ طَاهِرٌ؛ لأَِنَّهُمْ يَشْتَرِطُونَ لِنَجَاسَةِ الْمُسْكِرِ أَنْ يَكُونَ مَائِعًا. (2)

مَوَاطِنُ الْبَحْثِ:
7 - يَذْكُرُهُ الْفُقَهَاءُ فِي بَابِ الأَْشْرِبَةِ وَالنَّجَاسَاتِ وَالطَّلاَقِ.

بُنْدُقٌ

انْظُرْ: صَيْد
__________
(1) الخرشي 1 / 84، ومغني المحتاج 4 / 187، وتحفة المحتاج 9 / 169.
(2) تحفة المحتاج 1 / 289، ومغني المحتاج 1 / 77، والخرشي 1 / 84، وأسنى المطالب 1 / 9، وحاشية إعانة الطالبين 1 / 91.

(8/218)


بُنُوَّةٌ

انْظُرِ: ابْن

بُهْتَانٌ

انْظُرِ: افْتِرَاء

بَهِيمَةٌ

انْظُرْ: حَيَوَان