الموسوعة الفقهية الكويتية

بَيْعُ الثَّنِيَّةِ

انْظُرْ: بَيْعَ الْوَفَاءِ
__________
(1) الدر المختار بحاشية ابن عابدين 4 / 245، وحاشية الطحطاوي على الدر المختار 3 / 143، والقوانين الفقهية لابن جزي ص 252، والروضة 3 / 575، 587، والمجموع 9 / 334، وكشاف القناع 3 / 236 - 241، والمغني 4 / 237 ط الرياض.

(9/69)


الْبَيْعُ الْجَبْرِيُّ
تَعْرِيفُهُ:
1 - الْبَيْعُ الْجَبْرِيُّ مُرَكَّبٌ مِنْ لَفْظَيْنِ: " الْبَيْعُ " وَ " الْجَبْرِيُّ "
فَالْبَيْعُ مُبَادَلَةُ مَالٍ بِمَالٍ عَلَى وَجْهٍ مَخْصُوصٍ (1) . وَالْجَبْرِيُّ: مِنْ جَبَرَهُ عَلَى الأَْمْرِ جَبْرًا: حَمَلَهُ عَلَيْهِ قَهْرًا (2) .
فَالْبَيْعُ الْجَبْرِيُّ فِي اسْتِعْمَال الْفُقَهَاءِ هُوَ: الْبَيْعُ الْحَاصِل مِنْ مُكْرَهٍ بِحَقٍّ، أَوِ الْبَيْعُ عَلَيْهِ نِيَابَةً عَنْهُ، لإِِيفَاءِ حَقٍّ وَجَبَ عَلَيْهِ، أَوْ لِدَفْعِ ضَرَرٍ، أَوْ تَحْقِيقِ مَصْلَحَةٍ عَامَّةٍ (3) .

الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - الإِْكْرَاهُ عَلَى الْبَيْعِ:
2 - الإِْكْرَاهُ فِي اللُّغَةِ: حَمْل الإِْنْسَانِ عَلَى أَمْرٍ بِغَيْرِ اخْتِيَارِهِ (4) .
__________
(1) أسنى المطالب 2 / 2
(2) المصباح المنير مادة: " جبر "
(3) تعريف استخلصناه من أمثلة البيع الجبري، من كتب الفقه
(4) مختار الصحاح، والمصباح المنير مادة " كره "، وابن عابدين 5 / 80.

(9/70)


وَفِي الشَّرْعِ: فِعْلٌ يُوجِدُهُ الْمُكْرِهُ فَيَدْفَعُ الْمُكْرَهَ إِلَى مَا طَلَبَ مِنْهُ (1) .
فَالْفَرْقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْبَيْعِ الْجَبْرِيِّ: أَنَّ الْبَيْعَ الْجَبْرِيَّ لاَ يَكُونُ إِلاَّ بِحَقٍّ، أَمَّا الْبَيْعُ بِالإِْكْرَاهِ فَهُوَ فِي الأَْصْل أَعَمُّ، لَكِنَّ الْغَالِبَ إِطْلاَقُهُ عَلَى الإِْكْرَاهِ بِلاَ حَقٍّ.

ب - بَيْعُ التَّلْجِئَةِ:
3 - بَيْعُ التَّلْجِئَةِ فِي اصْطِلاَحِ الْفُقَهَاءِ: أَنْ يُظْهِرَا عَقْدًا وَهُمَا لاَ يُرِيدَانِهِ، يَلْجَأُ إِلَيْهِ صَاحِبُ الْمَال خَوْفًا مِنْ عَدُوٍّ أَوْ سُلْطَانٍ جَائِرٍ (2) .
فَالْفَرْقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْبَيْعِ الْجَبْرِيِّ أَنَّ بَيْعَ التَّلْجِئَةِ فِيهِ صُورَةُ الْبَيْعِ لاَ حَقِيقَتُهُ.

حُكْمُهُ التَّكْلِيفِيُّ:
4 - يَخْتَلِفُ حُكْمُ الْبَيْعِ الْجَبْرِيِّ بِاخْتِلاَفِ سَبَبِهِ، فَإِنْ كَانَ لإِِيفَاءِ حَقٍّ، كَبَيْعِ مَالِهِ لإِِيفَاءِ دَيْنٍ حَالٍّ، وَبِطَلَبِ صَاحِبِ الْحَقِّ فَهُوَ وَاجِبٌ، وَكَذَا إِذَا كَانَ لِمَصْلَحَةٍ عَامَّةٍ، كَتَوْسِعَةِ الْمَسْجِدِ الَّذِي ضَاقَ عَلَى الْمُصَلِّينَ، أَوِ الطَّرِيقِ الْعَامِّ (3) .
وَيَقُومُ الْبَيْعُ فِي الْفِقْهِ الإِْسْلاَمِيِّ - كَسَائِرِ الْعُقُودِ الْقَوْلِيَّةِ - عَلَى التَّرَاضِي الْحُرِّ عَلَى إِنْشَائِهِ
__________
(1) حاشية ابن عابدين 5 / 80
(2) حاشية ابن عابدين 4 / 244
(3) الدسوقي 3 / 6 - 7

(9/70)


مِنَ الْجَانِبَيْنِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِل إِلاَّ أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} (1)
وَخَبَرِ: إِنَّمَا الْبَيْعُ عَنْ تَرَاضٍ (2) وَلاَ يُقِرُّ الْفُقَهَاءُ بَيْعًا لَمْ يَقُمْ عَلَى التَّرَاضِي مِنَ الْجَانِبَيْنِ: الْبَائِعِ وَالْمُشْتَرِي، إِلاَّ مَا تُوجِبُهُ الْمَصْلَحَةُ الْعَامَّةُ لإِِحْقَاقِ حَقٍّ، أَوْ تَحْقِيقِ مَصْلَحَةٍ عَامَّةٍ، أَوْ دَفْعِ ضَرَرٍ خَاصٍّ أَوْ عَامٍّ، وَهُوَ مَا يُسَمَّى فِي عُرْفِهِمْ: الإِْكْرَاهُ الْمَشْرُوعُ، أَوِ الإِْكْرَاهُ بِحَقٍّ.
وَمِنْهَا: الْعُقُودُ الْجَبْرِيَّةُ الَّتِي يُجْرِيهَا الْحَاكِمُ، إِمَّا مُبَاشَرَةً نِيَابَةً عَمَّنْ يَجِبُ عَلَيْهِ إِجْرَاؤُهَا، إِذَا امْتَنَعَ عَنْهَا، أَوْ يُجْبَرُ هُوَ عَلَى إِجْرَائِهَا.
وَيَذْكُرُ الْفُقَهَاءُ أَمْثِلَةً لِلْجَبْرِ الْمَشْرُوعِ عَلَى الْبَيْعِ مِنْهَا:

إِجْبَارُ الْمَدِينِ عَلَى بَيْعِ مَالِهِ:
5 - يُجْبَرُ الْمَدِينُ عَلَى بَيْعِ مَالِهِ لإِِيفَاءِ دَيْنٍ حَالٍّ، إِذَا امْتَنَعَ عَنْ أَدَائِهِ وَلَهُ مَالٌ ظَاهِرٌ، فَيَجْبُرُهُ الْحَاكِمُ عَلَى وَفَاءِ الدَّيْنِ بِالتَّعْزِيرِ عَلَيْهِ بِالْحَبْسِ أَوِ الضَّرْبِ، فَإِنْ أَصَرَّ عَلَى الاِمْتِنَاعِ قَضَى الْحَاكِمُ الدَّيْنَ مِنْ مَالِهِ جَبْرًا عَلَيْهِ، إِذَا كَانَ لَهُ مَالٌ ظَاهِرٌ مِنْ جِنْسِ الدَّيْنِ.
هَذَا مَحَل اتِّفَاقٍ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ.
__________
(1) سورة النساء / 29
(2) حديث: " إنما البيع عن تراض " أخرجه ابن ماجه (2 / 737 - ط الحلبي) . وقال البوصيري: إسناده صحيح ورجاله موثقون.

(9/71)


أَمَّا إِذَا كَانَ مَالُهُ مِنْ غَيْرِ جِنْسِ الدَّيْنِ كَالْعَقَارِ وَالْعُرُوضِ، فَقَدْ ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ الإِْمَامَ يَبِيعُ مَالَهُ عَلَيْهِ جَبْرًا نِيَابَةً عَنْهُ (1) .
وَعِنْدَ الإِْمَامِ أَبِي حَنِيفَةَ، لاَ يَبِيعُ الْحَاكِمُ مَالَهُ عَلَيْهِ، بَل يَحْبِسُهُ حَتَّى يَقُومَ بِإِيفَاءِ الدَّيْنِ بِبَيْعِ مَالِهِ أَوْ غَيْرِهِ؛ لأَِنَّ وِلاَيَةَ الْحَاكِمِ - فِي نَظَرِ الإِْمَامِ - عَلَى مَنْ عَلَيْهِ الدَّيْنُ، لاَ عَلَى مَالِهِ، فَلَمْ يَنْفُذْ بَيْعُهُ فِي مَالِهِ بِغَيْرِ إِذْنِهِ، وَلأَِنَّ الْبَيْعَ تِجَارَةٌ وَلاَ يَصِحُّ إِلاَّ بِتَرَاضٍ، وَفِيهِ أَيْضًا نَوْعٌ مِنَ الْحَجْرِ الَّذِي لاَ يُجِيزُهُ أَبُو حَنِيفَةَ. وَقَدْ خَالَفَهُ صَاحِبَاهُ فِي ذَلِكَ، فَأَجَازَا بَيْعَ الْحَاكِمِ مَالَهُ لِوَفَاءِ دَيْنِهِ بَيْعًا جَبْرِيًّا، وَرَأْيُهُمَا هُوَ الْمُفْتَى بِهِ فِي الْمَذْهَبِ (2) .

بَيْعُ الْمَرْهُونِ:
6 - إِذَا رَهَنَ عَيْنًا بِدَيْنٍ حَالٍّ أَوْ مُؤَجَّلٍ، وَحَل الأَْجَل، وَامْتَنَعَ الْمَدِينُ عَنْ أَدَاءِ الدَّيْنِ أَجْبَرَهُ الْحَاكِمُ عَلَى بَيْعِ الْمَرْهُونِ، أَوْ بَاعَ عَلَيْهِ نِيَابَةً عَنْهُ، لأَِنَّهُ حَقٌّ وَجَبَ عَلَيْهِ، فَإِذَا امْتَنَعَ عَنْ أَدَائِهِ قَامَ الْحَاكِمُ مَقَامَهُ فِي أَدَائِهِ، كَالإِْيفَاءِ فِي جِنْسِ الدَّيْنِ. وَلِلتَّفْصِيل ر: (رَهْن) .
وَقَال الإِْمَامُ أَبُو حَنِيفَةَ: لاَ يَبِيعُ عَرَضَهُ
__________
(1) روضة الطالبين 4 / 137، وبداية المجتهد 2 / 307 - 308، والدسوقي 3 / 269، والإنصاف 5 / 276، والمغني 4 / 484، والاختيار لتعليل المختار 2 / 98
(2) ابن عابدين 5 / 95، والاختيار 2 / 98

(9/71)


وَلاَ عَقَارَهُ، بَل يَحْبِسُهُ حَتَّى يَرْضَى بِبَيْعِ مَالِهِ أَوْ بِغَيْرِهِ (1) .

جَبْرُ الْمُحْتَكِرِ:
7 - إِذَا كَانَ عِنْدَ إِنْسَانٍ طَعَامٌ فَاضِلٌ عَنْ حَاجَتِهِ، يَحْتَاجُ إِلَيْهِ النَّاسُ وَامْتَنَعَ عَنْ بَيْعِهِ لَهُمْ، أَجْبَرَهُ الْحَاكِمُ عَلَى بَيْعِهِ دَفْعًا لِلضَّرَرِ (2) . وَلِلتَّفْصِيل ر: (احْتِكَار)

الْجَبْرُ عَلَى الْبَيْعِ لِلنَّفَقَةِ الْوَاجِبَةِ:
8 - إِذَا امْتَنَعَ الْمُكَلَّفُ عَنِ الإِْنْفَاقِ عَلَى مَنْ تَجِبُ عَلَيْهِ نَفَقَتُهُ كَالزَّوْجَةِ وَالأَْوْلاَدِ وَالأَْبَوَيْنِ، وَلَمْ يُعْرَفْ لَهُ نَقْدٌ ظَاهِرٌ بَاعَ الْحَاكِمُ عُرُوضَهُ أَوْ عَقَارَهُ لِلإِْنْفَاقِ عَلَيْهِمْ.
وَيُنْظَرُ التَّفْصِيل فِي (النَّفَقَة) .

الأَْخْذُ بِالشُّفْعَةِ جَبْرًا:
9 - الشُّفْعَةُ حَقٌّ مَنَحَهُ الشَّرْعُ لِلشَّرِيكِ الْقَدِيمِ، أَوِ الْجَارِ الْمُلاَصِقِ، فَيَتَمَلَّكُ الشِّقْصَ الْمَبِيعَ عَنْ مُشْتَرِيهِ بِمَا قَامَ عَلَيْهِ مِنَ الثَّمَنِ وَالتَّكَالِيفِ جَبْرًا عَلَيْهِ.
وَلِلتَّفْصِيل انْظُرْ مُصْطَلَحَ (شُفْعَة) .
__________
(1) روضة الطالبين 4 / 88، وحاشية الدسوقي 3 / 151، والمغني 4 / 447، وابن عابدين 5 / 325
(2) ابن عابدين 5 / 256، وقليوبي 2 / 156.

(9/72)


بَيْعُ الْجُزَافِ

التَّعْرِيفُ:
1 - الْجُزَافُ اسْمٌ مِنْ جَازَفَ مُجَازَفَةً مِنْ بَابِ قَاتَل، وَالْجُزَافُ بِالضَّمِّ خَارِجٌ عَنِ الْقِيَاسِ وَالْقِيَاسُ بِكَسْرِ الْجِيمِ.
وَهُوَ فِي اللُّغَةِ مِنَ الْجَزْفِ، أَيِ الأَْخْذُ بِكَثْرَةٍ، وَجَزَفَ فِي الْكَيْل جَزْفًا: أَكْثَرَ مِنْهُ. وَيُقَال لِمَنْ يُرْسِل كَلاَمَهُ إِرْسَالاً مِنْ غَيْرِ قَانُونٍ: جَازَفَ فِي كَلاَمِهِ، فَأُقِيمَ نَهْجُ الصَّوَابِ فِي الْكَلاَمِ مَقَامَ الْكَيْل وَالْوَزْنِ (1) .
وَبَيْعُ الْجُزَافِ اصْطِلاَحًا: هُوَ بَيْعُ مَا يُكَال، أَوْ يُوزَنُ، أَوْ يُعَدُّ، جُمْلَةً بِلاَ كَيْلٍ وَلاَ وَزْنٍ، وَلاَ عَدٍّ (2) .

الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ:
2 - الأَْصْل أَنَّ مِنْ شَرْطِ صِحَّةِ عَقْدِ الْبَيْعِ أَنْ يَكُونَ الْمَبِيعُ مَعْلُومًا، وَلَكِنْ لاَ يُشْتَرَطُ الْعِلْمُ بِهِ مِنْ كُل وَجْهٍ، بَل يُشْتَرَطُ الْعِلْمُ بِعَيْنِ الْمَبِيعِ وَقَدْرِهِ وَصِفَتِهِ، وَفِي بَيْعِ الْجُزَافِ يَحْصُل الْعِلْمُ
__________
(1) لسان العرب، والمصباح المنير مادة " جزف "
(2) الشرح الصغير 3 / 35

(9/72)


بِالْقَدْرِ، كَبَيْعِ صُبْرَةِ طَعَامٍ، دُونَ مَعْرِفَةِ كَيْلِهَا أَوْ وَزْنِهَا، وَبَيْعِ قَطِيعِ الْمَاشِيَةِ دُونَ مَعْرِفَةِ عَدَدِهَا، وَبَيْعِ الأَْرْضِ دُونَ مَعْرِفَةِ مِسَاحَتِهَا، وَبَيْعِ الثَّوْبِ دُونَ مَعْرِفَةِ طُولِهِ.
وَبَيْعُ الْجُزَافِ اسْتُثْنِيَ مِنَ الأَْصْل لِحَاجَةِ النَّاسِ وَاضْطِرَارِهِمْ إِلَيْهِ، بِمَا يَقْتَضِي التَّسْهِيل فِي التَّعَامُل. قَال الدُّسُوقِيُّ: الأَْصْل فِي بَيْعِ الْجُزَافِ مَنْعُهُ، وَلَكِنَّهُ خُفِّفَ فِيمَا شَقَّ عِلْمُهُ مِنَ الْمَعْدُودِ، أَوْ قَل جَهْلُهُ فِي الْمَكِيل وَالْمَوْزُونِ (1) .
وَدَلِيلُهُ حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - كُنَّا نَشْتَرِي الطَّعَامَ مِنَ الرُّكْبَانِ جُزَافًا، فَنَهَانَا رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ نَبِيعَهُ حَتَّى نَنْقُلَهُ مِنْ مَكَانِهِ. وَفِي رِوَايَةٍ: رَأَيْتُ النَّاسَ فِي عَهْدِ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا ابْتَاعُوا الطَّعَامَ جُزَافًا يَضْرِبُونَ فِي أَنْ يَبِيعُوهُ فِي مَكَانِهِ، وَذَلِكَ حَتَّى يُؤْوُوهُ إِلَى رِحَالِهِمْ.
وَفِي رِوَايَةٍ: يُحَوِّلُوهُ وَفِي أُخْرَى: أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا كَانَ يَشْتَرِي الطَّعَامَ جُزَافًا فَيَحْمِلُهُ إِلَى أَهْلِهِ (2) فَدَل عَلَى أَنَّهُمْ كَانُوا يَتَعَامَلُونَ بِبَيْعِ الْجُزَافِ، فَيَكُونُ هَذَا دَالًّا عَلَى جَوَازِهِ، وَأَلْفَاظُ الرِّوَايَةِ
__________
(1) الدسوقي 3 / 20
(2) حديث: " كنا نشتري الطعام من الركبان جزافا، فنهانا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نبيعه حتى ننقله من مكانه ". أخرجه مسلم (3 / 1161 ط الحلبي)

(9/73)


تَدُل عَلَى أَنَّهُ كَانَ فِي عَهْدِ الرَّسُول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، مِمَّا يُفِيدُ حُكْمَ الرَّفْعِ.
وَلِهَذَا اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى جَوَازِهِ مِنْ حَيْثُ الْجُمْلَةُ، وَالأَْظْهَرُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ جَوَازُهُ مَعَ الْكَرَاهَةِ (1) .

شُرُوطُ بَيْعِ الْجُزَافِ:
3 - اشْتَرَطَ الْمَالِكِيَّةُ لِجَوَازِ بَيْعِ الْجُزَافِ سِتَّةَ شُرُوطٍ:
(أ) أَنْ يُرَى الْمَبِيعُ جُزَافًا حَال الْعَقْدِ، أَوْ قَبْلَهُ إِذَا اسْتَمَرَّ عَلَى حَالِهِ إِلَى وَقْتِ الْعَقْدِ دُونَ تَغْيِيرٍ، وَهَذَا مَا لَمْ يَلْزَمْ عَلَى الرُّؤْيَةِ فَسَادُ الْمَبِيعِ، كَقِلاَل الْخَل الْمُطَيَّنَةِ يُفْسِدُهَا فَتْحُهَا، فَيُكْتَفَى بِرُؤْيَتِهَا فِي مَجْلِسِ الْعَقْدِ.
(ب) أَنْ يَجْهَل الْمُتَبَايِعَانِ مَعًا قَدْرَ الْكَيْل أَوِ الْوَزْنِ أَوِ الْعَدَدِ، فَإِنْ كَانَ أَحَدُهُمَا يَعْلَمُ قَدْرَهَا فَلاَ يَصِحُّ.
(ج) أَنْ يَحْزِرَا وَيُقَدِّرَا قَدْرَهُ عِنْدَ إِرَادَةِ الْعَقْدِ عَلَيْهِ.
(د) أَنْ تَسْتَوِيَ الأَْرْضُ الَّتِي يُوضَعُ عَلَيْهَا الْمَبِيعُ.
(هـ) أَلاَ يَكُونَ مَا يُرَادُ بَيْعُهُ جُزَافًا كَثِيرًا جِدًّا،
__________
(1) نهاية المحتاج 3 / 392، وحاشية الدسوقي 3 / 20، وكشاف القناع 3 / 169، وتبيين الحقائق 4 / 5، وروضة الطالبين 3 / 358

(9/73)


لِتَعَذُّرِ تَقْدِيرِهِ. سَوَاءٌ كَانَ مَكِيلاً أَوْ مَوْزُونًا أَوْ مَعْدُودًا.
كَمَا يُشْتَرَطُ أَلاَ يَقِل جِدًّا إِنْ كَانَ مَعْدُودًا، لأَِنَّهُ لاَ مَشَقَّةَ فِي مَعْرِفَةِ قَدْرِهِ بِالْعَدِّ.
أَمَّا إِنْ كَانَ مَكِيلاً أَوْ مَوْزُونًا فَيَجُوزُ وَإِنْ قَل جِدًّا.
وَأَنْ يَشُقَّ عَدُّهُ وَلاَ تُقْصَدُ أَفْرَادُهُ بِالْبَيْعِ، سَوَاءٌ قَل ثَمَنُهُ أَوْ لَمْ يَقِل كَالْبَيْضِ. وَإِذَا قُصِدَتْ أَفْرَادُهُ جَازَ بَيْعُهُ جُزَافًا إِنْ قَل ثَمَنُهُ بِالنِّسْبَةِ لِبَعْضِهَا مَعَ بَعْضٍ. وَمُنِعَ مِنْ بَيْعِهِ جُزَافًا إِنْ لَمْ يَقِل ثَمَنُهَا كَالثِّيَابِ.
أَمَّا إِذَا لَمْ يَشُقَّ عَدُّهُ لَمْ يَجُزْ أَنْ يُبَاعَ جُزَافًا، سَوَاءٌ أَقُصِدَتْ أَفْرَادُهُ أَمْ لَمْ تُقْصَدْ، قَل ثَمَنُهَا أَوْ لَمْ يَقِل (1) .
وَانْفَرَدَ الْمَالِكِيَّةُ فِي تَفْصِيل الشُّرُوطِ عَلَى هَذَا النَّحْوِ، وَإِنْ كَانَ مِنْهَا مَا شَارَكَهُمْ غَيْرُهُمْ فِي اعْتِبَارِهَا، كَمَا فِي الشَّرْطِ الأَْوَّل وَالثَّانِي وَالرَّابِعِ. كَمَا سَيَأْتِي تَفْصِيلُهُ.

وَلِبَيْعِ الْجُزَافِ صُوَرٌ تَخْتَلِفُ أَحْكَامُهَا عَلَى التَّفْصِيل التَّالِي:

بَيْعُ الصُّبْرَةِ جُزَافًا:
4 - الصُّبْرَةُ هِيَ: الْكَوْمَةُ الْمُجْتَمِعَةُ مِنَ الطَّعَامِ وَنَحْوِهِ. وَالصُّبْرَةُ الْمَجْهُولَةُ الْقَدْرِ الْمَعْلُومَةُ بِالرُّؤْيَةِ، إِمَّا أَنْ تُبَاعَ بِثَمَنٍ إِجْمَالِيٍّ، وَإِمَّا أَنْ تُبَاعَ
__________
(1) الشرح الصغير 3 / 35 - 37

(9/74)


عَلَى أَسَاسِ السِّعْرِ الإِْفْرَادِيِّ، كَمَا لَوْ قَال: كُل صَاعٍ مِنْهَا بِكَذَا.
فَأَمَّا النَّوْعُ الأَْوَّل، فَقَدْ قَال ابْنُ قُدَامَةَ: لاَ نَعْلَمُ فِي جَوَازِهِ خِلاَفًا إِنْ كَانَ مِمَّا يَتَسَاوَى أَجْزَاؤُهُ. وَيُشْتَرَطُ عِنْدَ الْجَمِيعِ أَنْ لاَ يَكُونَ مِنَ الأَْمْوَال الرِّبَوِيَّةِ إِذَا بِيعَ شَيْءٌ مِنْهَا بِجِنْسِهِ كَمَا يَأْتِي (1) .
وَأَمَّا الثَّانِي: وَهُوَ بَيْعُ الصُّبْرَةِ الَّتِي يُجْهَل مِقْدَارُ كَيْلِهَا أَوْ وَزْنِهَا عَلَى أَسَاسِ سِعْرِ وَحْدَةِ الْكَيْل أَوِ الْوَزْنِ، فَقَدْ ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَمُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ وَأَبُو يُوسُفَ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ: إِلَى جَوَازِ بَيْعِ الصُّبْرَةِ الَّتِي يُجْهَل عَدَدُ صِيعَانِهَا مُجَازَفَةً، بِأَنْ يَقُول: بِعْتُكَ هَذِهِ الصُّبْرَةَ مِنَ الطَّعَامِ كُل صَاعٍ بِدِرْهَمٍ؛ لأَِنَّ رُؤْيَةَ الصُّبْرَةِ تَكْفِي فِي تَقْدِيرِهَا، وَلاَ يَضُرُّ الْجَهْل بِجُمْلَةِ الثَّمَنِ؛ لأَِنَّ بِالإِْمْكَانِ مَعْرِفَتُهُ بِالتَّفْصِيل بِكَيْل الصُّبْرَةِ، فَيَرْتَفِعُ الْغَرَرُ، وَتَزُول الْجَهَالَةُ.
وَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ: إِلَى أَنَّ الْبَيْعَ يَجُوزُ فِي قَفِيزٍ وَاحِدٍ، وَلاَ يَجُوزُ فِي الصُّبْرَةِ كُلِّهَا، إِلاَّ إِذَا عُرِفَ عَدَدُ الصِّيعَانِ، وَذَلِكَ لِتَعَذُّرِ صَرْفِ الْبَيْعِ إِلَى الْكُل لِلْجَهَالَةِ بِالْمَبِيعِ وَالثَّمَنِ، فَيُصْرَفُ إِلَى الأَْقَل وَهُوَ مَعْلُومٌ.
فَإِذَا زَالَتِ الْجَهَالَةُ بِتَسْمِيَةِ جُمْلَةِ الْقُفْزَانِ، أَوْ بِأَنْ تُكَال الصُّبْرَةُ فِي مَجْلِسِ الْعَقْدِ، جَازَ بَيْعُ
__________
(1) المغني 4 / 144

(9/74)


الصُّبْرَةِ وَيَخْرُجُ بِذَلِكَ عَنْ أَنْ يَكُونَ جُزَافًا (1) .

تَسَاوِي مَوْضِعِ صُبْرَةِ الطَّعَامِ عِنْدَ بَيْعِهَا جُزَافًا:
5 - لاَ يَحِل لِلْبَائِعِ فِي بَيْعِ صُبْرَةِ الطَّعَامِ جُزَافًا أَنْ يَضَعَهَا عَلَى مَوْضِعٍ يَنْقُصُهَا، كَأَنْ تَكُونَ عَلَى دِكَّةٍ أَوْ حَجَرٍ وَنَحْوِهِ، وَكَذَلِكَ السَّمْنُ وَنَحْوُهُ مِنَ الْمَائِعَاتِ الَّتِي تُبَاعُ بِوَضْعِهَا فِي ظَرْفٍ أَوْ إِنَاءٍ، فَلاَ يَجُوزُ لِلْبَائِعِ - إِنْ بَاعَهَا جُزَافًا - أَنْ يَكُونَ الظَّرْفُ مِمَّا تَخْتَلِفُ أَجْزَاؤُهُ رِقَّةً وَغِلَظًا؛ لأَِنَّ هَذَا غِشٌّ يُؤَدِّي إِلَى الْغَرَرِ وَالْجَهَالَةِ وَالنِّزَاعِ، فَلاَ يُمْكِنُ مَعَهُ تَقْدِيرُهَا بِمُجَرَّدِ رُؤْيَتِهَا.
فَإِذَا كَانَتِ الصُّبْرَةُ عَلَى دِكَّةٍ أَوْ رَبْوَةٍ أَوْ حَجَرٍ لِيُنْقُصَهَا سَوَاءٌ أَقَصَدَ الْبَائِعُ أَمْ لَمْ يَقْصِدُ، فَاشْتَرَاهَا الْمُشْتَرِي وَهُوَ غَيْرُ عَالِمٍ بِذَلِكَ، فَالْبَيْعُ صَحِيحٌ وَمُلْزِمٌ لِلْبَائِعِ، وَلِلْمُشْتَرِي الْخِيَارُ فِي فَسْخِ الْعَقْدِ، أَوِ الرُّجُوعِ بِالنَّقْصِ فِي الثَّمَنِ عَلَى الْبَائِعِ، بِأَنْ تُقَوَّمَ الصُّبْرَةُ مَغْشُوشَةً مَعَ وَضْعِهَا عَلَى دِكَّةٍ أَوْ حَجَرٍ، وَتُقَوَّمَ بِدُونِ ذَلِكَ، فَمَا نَقَصَ مِنْ ثَمَنِهَا رَجَعَ بِهِ الْمُشْتَرِي عَلَى الْبَائِعِ.
وَإِنْ بَاعَهُ صُبْرَةَ الطَّعَامِ، وَظَهَرَ أَنَّ تَحْتَهَا حُفْرَةً فَلاَ خِيَارَ لِلْمُشْتَرِي؛ لأَِنَّ ذَلِكَ يَنْفَعُهُ وَلاَ يَضُرُّهُ، لأَِنَّهُ سَيَزِيدُ فِي قَدْرِهَا.
وَلِلْبَائِعِ الْخِيَارُ إِنْ لَمْ يَعْلَمْ بِالْحُفْرَةِ (2) .
__________
(1) فتح القدير 5 / 72، والشرح الصغير 3 / 35، ونهاية المحتاج 3 / 392 - 396، وكشاف القناع 3 / 169
(2) الشرح الصغير 3 / 35، وكشاف القناع 3 / 169 - 170، وروضة الطالبين 3 / 358

(9/75)


بَيْعُ الْمَذْرُوعَاتِ وَالْمَعْدُودَاتِ الْمُتَفَاوِتَةِ جُزَافًا:
6 - ذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى جَوَازِ أَنْ يُبَاعَ قَطِيعُ الْمَاشِيَةِ مَعَ الْجَهْل بِعَدَدِهِ، كُل رَأْسٍ بِكَذَا. وَأَنْ تُبَاعَ الأَْرْضُ وَالثَّوْبُ جُزَافًا، كُل ذِرَاعٍ بِكَذَا، مَعَ الْجَهْل بِجُمْلَةِ الذُّرْعَانِ (1) .
وَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ إِلَى عَدَمِ الْجَوَازِ، وَهُوَ قَوْل ابْنِ الْقَطَّانِ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ.
وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْمَكِيلاَتِ وَالْمَوْزُونَاتِ، وَبَيْنَ الْمَعْدُودَاتِ وَالْمَذْرُوعَاتِ: أَنَّ الأُْولَى لاَ تَتَفَاوَتُ أَجْزَاؤُهَا فِي الْعَادَةِ تَفَاوُتًا فَاحِشًا إِذَا فُرِّقَتْ، فَتَكْفِي رُؤْيَتُهَا جُمْلَةً.
أَمَّا الْمَعْدُودَاتُ وَالْمَذْرُوعَاتُ كَالْمَاشِيَةِ وَالأَْرْضِ، فَتَتَفَاوَتُ أَجْزَاؤُهَا إِذَا فُرِّقَتْ، وَلاَ تَكْفِي رُؤْيَتُهَا جُمْلَةً (2) .

الْبَيْعُ جُزَافًا مَعَ عِلْمِ أَحَدِ الْمُتَبَايِعَيْنِ بِقَدْرِ الْمَبِيعِ:
7 - يُشْتَرَطُ لِصِحَّةِ بَيْعِ الْجُزَافِ أَنْ يَكُونَ الْمُتَبَايِعَانِ يَجْهَلاَنِ قَدْرَ الْمَبِيعِ جَمِيعًا، أَوْ يَعْلَمَانِهِ جَمِيعًا، وَلاَ يَجُوزُ الْبَيْعُ جُزَافًا مَعَ عِلْمِ أَحَدِ الْمُتَعَاقِدَيْنِ بِقَدْرِ الْمَبِيعِ دُونَ الآْخَرِ، وَذَلِكَ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ وَفِي وَجْهٍ لِلشَّافِعِيَّةِ (3) .
__________
(1) الشرح الصغير 3 / 34، 35، وروضة الطالبين 3 / 366، والمغني 4 / 144
(2) فتح القدير 5 / 72
(3) حاشية الدسوقي 3 / 20، وروضة الطالبين 3 / 358، والمغني 4 / 137

(9/75)


وَوَجْهُ عَدَمِ الْجَوَازِ عِنْدَهُمْ: مَا فِيهِ مِنَ الْغَرَرِ، فَإِنَّ بَيْعَ الْجُزَافِ جَازَ لِلضَّرُورَةِ وَالْحَاجَةِ فِيمَا يُبَاعُ تَخْمِينًا وَحَزْرًا، فَإِذَا عُرِفَ قَدْرُهُ لَمْ يَجُزْ أَنْ يُبَاعَ جُزَافًا إِذْ لاَ ضَرُورَةَ فِيهِ.
وَيَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ أَنْ يَرُدَّ الْمُشْتَرِي السِّلْعَةَ الَّتِي اشْتَرَاهَا جُزَافًا، إِذَا عَلِمَ بِعِلْمِ الْبَائِعِ بِقَدْرِهَا، وَلِلْبَائِعِ فَسْخُ الْعَقْدِ إِذَا عَلِمَ بِعِلْمِ الْمُشْتَرِي بِقَدْرِهَا.
وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، وَهُوَ الأَْصَحُّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ: أَنَّهُ يَصِحُّ مَعَ عِلْمِ أَحَدِ الْمُتَعَاقِدَيْنِ بِمِقْدَارِ الْمَبِيعِ.
وَعَنْ أَحْمَدَ رِوَايَةٌ بِكَرَاهَتِهِ وَعَدَمِ تَحْرِيمِهِ، مُرَاعَاةً لِخِلاَفِ الْعُلَمَاءِ فِيهِ (1) .

بَيْعُ الرِّبَوِيِّ بِجِنْسِهِ جُزَافًا:
8 - لاَ يَجُوزُ أَنْ يُبَاعَ الْمَال الرِّبَوِيُّ بِجِنْسِهِ مُجَازَفَةً. لِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: الذَّهَبُ بِالذَّهَبِ، وَالْفِضَّةُ بِالْفِضَّةِ، وَالْبُرُّ بِالْبُرِّ، وَالشَّعِيرُ بِالشَّعِيرِ، وَالتَّمْرُ بِالتَّمْرِ، وَالْمِلْحُ بِالْمِلْحِ، مِثْلاً بِمِثْلٍ، سَوَاءً بِسَوَاءٍ. يَدًا بِيَدٍ (2)
فَدَل الْحَدِيثُ عَلَى أَنَّهُ لاَ يُبَاعُ الرِّبَوِيُّ بِجِنْسِهِ إِلاَّ بِتَحَقُّقِ الْمُمَاثَلَةِ بَيْنَهُمَا، وَإِلاَّ بِالتَّقَابُضِ.
وَلاَ يُمْكِنُ أَنْ تَتَحَقَّقَ الْمُمَاثَلَةُ فِي الْبَيْعِ الْجُزَافِ، لأَِنَّهُ قَائِمٌ عَلَى التَّخْمِينِ وَالتَّقْدِيرِ،
__________
(1) المغني 4 / 173
(2) حديث: " الذهب بالذهب. . . " أخرجه مسلم (3 / 1211 ط الحلبي)

(9/76)


فَيَبْقَى احْتِمَال الرِّبَا قَائِمًا، وَقَدْ نَهَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ الْمُزَابَنَةِ وَهِيَ بَيْعُ الثَّمَرِ الرُّطَبِ بِالثَّمَرِ الْجَافِّ، وَذَلِكَ فِيمَا رَوَى ابْنُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَال: نَهَى رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَبِيعَ الرَّجُل تَمْرَ حَائِطِهِ إِنْ كَانَ نَخْلاً بِتَمْرٍ كَيْلاً، وَإِنْ كَانَ كَرْمًا أَنْ يَبِيعَهُ بِزَبِيبٍ كَيْلاً، وَإِنْ كَانَ زَرْعًا أَنْ يَبِيعَهُ بِكَيْل طَعَامٍ، نَهَى عَنْ ذَلِكَ كُلِّهِ (1) .
وَذَلِكَ لأَِنَّهُ يَنْقُصُ إِذَا جَفَّ، فَيَكُونُ مَجْهُول الْمِقْدَارِ.
وَالْقَاعِدَةُ فِي الرِّبَوِيَّاتِ: أَنَّ الْجَهْل بِالتَّمَاثُل كَالْعِلْمِ بِالتَّفَاضُل (2) .

ضَمُّ مَعْلُومٍ فِي الْبَيْعِ أَوْ جُزَافٍ إِلَى جُزَافٍ:
9 - إِذَا ضُمَّ جُزَافٌ إِلَى جُزَافٍ فِي الْبَيْعِ بِثَمَنٍ وَاحِدٍ أَوْ بِثَمَنَيْنِ لَمْ يَمْنَعْ ذَلِكَ صِحَّةَ الْبَيْعِ، لأَِنَّهُمَا فِي مَعْنَى الْجُزَافِ الْوَاحِدِ، مِنْ حَيْثُ تَنَاوُل الرُّخْصَةِ لَهُمَا. كَمَا لَوْ قَال: بِعْتُكَ صُبْرَتَيِ التَّمْرِ وَالْحَبِّ هَاتَيْنِ، أَوْ بِعْتُكَ ثَمَرَةَ حَائِطَيَّ هَذَيْنِ جُزَافًا بِثَلاَثِ دَنَانِيرَ، أَوْ قَال: أُولاَهُمَا بِدِينَارٍ، وَالثَّانِيَةُ بِدِينَارَيْنِ.
وَكَذَا لَوْ ضَمَّ إِلَى الْجُزَافِ سِلْعَةً مِمَّا لاَ يُبَاعُ
__________
(1) حديث: " نهى عن المزابنة. . . " أخرجه البخاري (الفتح 4 / 384 ط السلفية) ، ومسلم (3 / 1172 ط الحلبي) وانظر نيل الأوطار 5 / 198
(2) روضة الطالبين 3 / 383، وكشاف القناع 3 / 253، والمجموع 10 / 353، وفتح القدير 5 / 470، والدسوقي 3 / 23

(9/76)


كَيْلاً أَوْ وَزْنًا، كَمَا لَوْ قَال: بِعْتُكَ هَذِهِ الصُّبْرَةَ وَهَذِهِ الدَّابَّةَ بِعَشَرَةِ دَنَانِيرَ.
أَمَّا إِنْ ضُمَّ فِي الْبَيْعِ إِلَى الْجُزَافِ مَعْلُومٌ بِكَيْلٍ أَوْ وَزْنٍ أَوْ عَدَدٍ، فَقَدْ يُؤَدِّي ذَلِكَ إِلَى فَسَادِ الْبَيْعِ؛ لأَِنَّ انْضِمَامَهُ إِلَيْهِ يُصَيِّرُ فِي الْمَعْلُومِ جَهْلاً لَمْ يَكُنْ.
وَقَدْ قَسَّمَ الْمَالِكِيَّةُ (1) انْضِمَامَ الْمَعْلُومِ الْقَدْرِ بِكَيْلٍ أَوْ وَزْنٍ أَوْ عَدٍّ إِلَى أَرْبَعِ صُوَرٍ: لأَِنَّ الْجُزَافَ إِمَّا أَنْ يَكُونَ الأَْصْل فِيهِ - بِحَسَبِ الْعُرْفِ - أَنْ يُبَاعَ جُزَافًا كَالأَْرْضِ، أَوْ أَنْ يُبَاعَ بِالتَّقْدِيرِ كَالْكَيْل لِلْحُبُوبِ. وَكَذَلِكَ الْمَعْلُومُ الْقَدْرِ الْمُنْضَمُّ إِلَيْهِ، إِمَّا أَنْ يَكُونَ الأَْصْل فِيهِ أَنْ يُبَاعَ جُزَافًا، أَوْ أَنْ يُبَاعَ بِالتَّقْدِيرِ: فَإِنْ كَانَ الْجُزَافُ أَصْلُهُ أَنْ يُبَاعَ جُزَافًا، وَالْمَعْلُومُ الْقَدْرِ أَصْلُهُ أَنْ يُبَاعَ بِالْكَيْل أَوِ الْوَزْنِ أَوِ الْعَدِّ، كَجُزَافِ أَرْضٍ مَعَ مَكِيل حَبٍّ، صَحَّ الْبَيْعُ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ؛ لأَِنَّ كُلًّا مِنْهُمَا بِيعَ عَلَى أَصْلِهِ.
وَيَفْسُدُ الْبَيْعُ فِي الصُّوَرِ الثَّلاَثِ الأُْخْرَى، لِمُخَالَفَةِ الأَْصْل فِي كِلَيْهِمَا أَوْ فِي أَحَدِهِمَا، وَأَمْثِلَتُهَا:
أ - جُزَافُ حَبٍّ مَعَ مَكِيل أَرْضٍ (أَيْ أَرْضٍ مُقَدَّرَةٍ بِالْمِسَاحَةِ) .
ب - جُزَافُ حَبٍّ مَعَ مَكِيل حَبٍّ.
ج - جُزَافُ أَرْضٍ مَعَ مَكِيل أَرْضٍ.
__________
(1) حاشية العدوي على الخرشي 5 / 31

(9/77)


هَذَا كُلُّهُ فِي الْجُزَافِ إِذَا بِيعَ عَلَى غَيْرِ كَيْلٍ أَوْ نَحْوِهِ.
أَمَّا إِنْ بِيعَ الْجُزَافُ عَلَى كَيْلٍ أَوْ نَحْوِهِ فَلاَ يَجُوزُ أَنْ يُضَمَّ إِلَيْهِ شَيْءٌ غَيْرُهُ مُطْلَقًا، كَأَنْ قَال: بِعْتُكَ هَذِهِ الصُّبْرَةَ كُل صَاعٍ بِدِرْهَمٍ، عَلَى أَنَّ مَعَ الْمَبِيعِ سِلْعَةَ كَذَا مِنْ غَيْرِ تَسْمِيَةِ ثَمَنٍ لَهَا، بَل ثَمَنُهَا مِنْ جُمْلَةِ مَا اشْتَرَى بِهِ الصُّبْرَةَ؛ لأَِنَّ مَا يَخُصُّ السِّلْعَةَ مِنَ الثَّمَنِ حِينَ الْبَيْعِ مَجْهُولٌ، وَمَعْنًى مُطْلَقًا: أَيْ سَوَاءٌ كَانَتِ السِّلْعَةُ مِنْ جِنْسِ الصُّبْرَةِ، أَوْ مِنْ غَيْرِ جِنْسِهَا، لأَِنَّهُ إِذَا سَمَّى الثَّمَنَ فَبَانَ أَنَّهُ يُسَاوِي أَكْثَرَ، وَسَامَحَ فِيهِ الْبَائِعُ مِنْ أَجْل إِتْمَامِ الصَّفْقَةِ جُزَافًا، كَانَتِ التَّسْمِيَةُ كَعَدَمِهَا، لأَِنَّهُ صَارَ بِمَثَابَةِ الَّذِي لَمْ يُسَمَّ.
وَإِذَا لَمْ يُسَمِّ ثَمَنَهَا، كَانَ مَا يَخُصُّ السِّلْعَةَ مِنَ الثَّمَنِ مَجْهُولاً (1) .
وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ: لَوْ قَال: بِعْتُكَ هَذِهِ الصُّبْرَةَ وَقَفِيزًا مِنْ هَذِهِ الصُّبْرَةِ الأُْخْرَى بِعَشَرَةِ دَرَاهِمَ صَحَّ.
أَمَّا لَوْ قَال: بِعْتُكَ هَذِهِ الصُّبْرَةَ، كُل قَفِيزٍ بِدِرْهَمٍ، عَلَى أَنْ أَزِيدَكَ قَفِيزًا مِنْ هَذِهِ الصُّبْرَةِ الأُْخْرَى لَمْ يَصِحَّ. قَالُوا: لإِِفْضَائِهِ إِلَى جَهَالَةِ الثَّمَنِ فِي التَّفْصِيل، لأَِنَّهُ يَصِيرُ قَفِيزًا وَشَيْئًا بِدِرْهَمٍ، وَالشَّيْءُ لاَ يَعْرِفَانِهِ، لِعَدَمِ مَعْرِفَتِهِمَا
__________
(1) نفس المراجع السابقة

(9/77)


بِكَمِّيَّةِ مَا فِي الصُّبْرَةِ مِنَ الْقُفْزَانِ (1) .
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى بُطْلاَنِ الْبَيْعِ فِي صُورَةِ مَا إِذَا قَال الْبَائِعُ: بِعْتُكَ هَذِهِ الصُّبْرَةَ كُل صَاعٍ بِدِرْهَمٍ، عَلَى أَنْ أَزِيدَكَ صَاعًا مِنْ هَذِهِ الصُّبْرَةِ الأُْخْرَى. لأَِنَّهُ يُفْضِي إِلَى الْجَهَالَةِ فِي جُمْلَةِ الثَّمَنِ وَتَفْصِيلِهِ، فَيَصِيرُ كَأَنَّهُ بَاعَهُ صَاعًا وَشَيْئًا بِدِرْهَمٍ، وَالشَّيْءُ لاَ يُعْرَفُ، لِلْجَهَالَةِ بِكَمِّيَّةِ مَا فِي الصُّبْرَةِ مِنَ الصِّيعَانِ (2) .
وَلَمْ نَطَّلِعْ عَلَى تَفْصِيلٍ لِلْحَنَفِيَّةِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ.
10 - لَوْ بَاعَ هَذِهِ الصُّبْرَةَ أَوْ نَحْوَهَا بِمِائَةِ دِرْهَمٍ، كُل صَاعٍ أَوْ رَأْسٍ أَوْ ذِرَاعٍ بِدِرْهَمٍ صَحَّ الْبَيْعُ، إِنْ خَرَجَ مَا بَاعَهُ مِائَةً، لِتَوَافُقِ الْجُمْلَةِ وَالتَّفْصِيل فَلاَ غَرَرَ وَلاَ جَهَالَةَ. وَإِنْ لَمْ تَخْرُجْ مِائَةً، بِأَنْ خَرَجَتْ أَقَل أَوْ أَكْثَرَ، لَمْ يَصِحَّ الْبَيْعُ عَلَى الصَّحِيحِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، وَذَلِكَ لِتَعَذُّرِ الْجَمْعِ بَيْنَ الْجُمْلَةِ وَالثَّمَنِ وَتَفْصِيلِهِ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي عِنْدَهُمْ أَنَّهُ يَصِحُّ تَغْلِيبًا لِلإِْشَارَةِ (3) .

ظُهُورُ الْمَبِيعِ أَقَل أَوْ أَكْثَرُ مِنَ الْمُسَمَّى:
11 - مَنِ ابْتَاعَ صُبْرَةَ طَعَامٍ عَلَى أَنَّهَا مِائَةُ قَفِيزٍ
__________
(1) المغني 4 / 143
(2) المجموع 9 / 314
(3) نهاية المحتاج 3 / 399

(9/78)


بِمِائَةِ دِرْهَمٍ، فَوَجَدَهَا أَقَل أَوْ أَكْثَرَ، وَمَنِ ابْتَاعَ ثَوْبًا عَلَى أَنَّهُ عَشَرَةُ أَذْرُعٍ بِعَشَرَةِ دَرَاهِمَ، أَوْ أَرْضًا عَلَى أَنَّهَا مِائَةُ ذِرَاعٍ بِمِائَةِ دِرْهَمٍ، فَوَجَدَهَا أَقَل أَوْ أَكْثَرَ، ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى صِحَّةِ الْبَيْعِ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ، سَوَاءٌ ظَهَرَ الْمَبِيعُ زَائِدًا أَمْ نَاقِصًا عَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِ الاِتِّفَاقُ فِي الْعَقْدِ.
وَسَوَاءٌ أَكَانَ الْمَبِيعُ ثَوْبًا أَمْ أَرْضًا مِنَ الْمَذْرُوعَاتِ، أَوْ صُبْرَةَ طَعَامٍ مِنَ الْمَكِيلاَتِ.
وَفِي رِوَايَةٍ لِلْحَنَابِلَةِ: أَنَّ الْبَيْعَ بَاطِلٌ، إِذَا كَانَ الْمَعْقُودُ عَلَيْهِ أَرْضًا أَوْ ثَوْبًا، وَذَلِكَ لاِخْتِلاَل الْوَصْفِ فِيهِمَا، لأَِنَّهُ لاَ يُمْكِنُ إِجْبَارُ الْبَائِعِ عَلَى تَسْلِيمِ الزِّيَادَةِ، وَلاَ يُمْكِنُ إِجْبَارُ الْمُشْتَرِي عَلَى أَخْذِ الْبَعْضِ، لأَِنَّهُ اشْتَرَى الْكُل. كَمَا لاَ يُجْبَرَانِ عَلَى الشَّرِكَةِ فِي الْقَدْرِ الزَّائِدِ لِلضَّرَرِ الْحَاصِل بِسَبَبِ الشَّرِكَةِ.
وَاتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ - مِنْ حَيْثُ الْجُمْلَةُ - عَلَى ثُبُوتِ الْخِيَارِ لِلْبَائِعِ فِي حَال الزِّيَادَةِ، وَلِلْمُشْتَرِي فِي حَال النُّقْصَانِ فِي الصُّورَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ.
وَفَرَّقَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ بَيْنَ مَا يُبَاعُ ذَرْعًا كَالثَّوْبِ وَالأَْرْضِ، وَبَيْنَ مَا يُبَاعُ كَيْلاً كَصُبْرَةِ الطَّعَامِ، وَلَمْ يُفَرِّقِ الشَّافِعِيَّةُ بَيْنَهُمَا، بَل أَثْبَتُوا الْخِيَارَ لِمَنْ عَلَيْهِ الضَّرَرُ مُطْلَقًا.
فَفِي صُورَةِ مَا إِذَا ابْتَاعَ صُبْرَةً مِنْ طَعَامٍ عَلَى أَنَّهَا مِائَةُ قَفِيزٍ بِمِائَةِ دِرْهَمٍ فَوَجَدَهَا أَقَل. ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ: إِلَى أَنَّ الْمُشْتَرِيَ بِالْخِيَارِ إِنْ شَاءَ أَخْذَ الْمَوْجُودِ بِحِصَّتِهِ مِنَ الثَّمَنِ، وَإِنْ شَاءَ

(9/78)


فَسَخَ الْبَيْعَ، وَذَلِكَ لأَِنَّ الثَّمَنَ يَنْقَسِمُ عَلَى أَجْزَاءِ الْمَبِيعِ الْمِثْلِيِّ مَكِيلاً أَوْ مَوْزُونًا، وَلَمْ يَتِمَّ رِضَا الْمُشْتَرِي بِهِ لأَِنَّهُ أَقَل مِمَّا تَمَّ الْعَقْدُ عَلَيْهِ، وَلِهَذَا كَانَ لَهُ خِيَارُ أَخْذِ الْمَوْجُودِ بِحِصَّتِهِ مِنَ الثَّمَنِ، وَكَانَ لَهُ خِيَارُ الْفَسْخِ لأَِنَّهُ وَجَدَ الْمَبِيعَ نَاقِصًا.
وَفِي قَوْلٍ لِلْحَنَابِلَةِ: أَنَّهُ لَيْسَ لَهُ خِيَارُ الْفَسْخِ؛ لأَِنَّ نُقْصَانَ الْقَدْرِ لَيْسَ بِعَيْبٍ فِي الْبَاقِي مِنَ الْكَيْل.
وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ: لِلْمُشْتَرِي الْخِيَارُ بَيْنَ أَنْ يَأْخُذَ الْمَوْجُودَ بِكُل الثَّمَنِ الْمُسَمَّى، وَبَيْنَ الْفَسْخِ.
وَإِذَا وَجَدَ الصُّبْرَةَ أَكْثَرَ مِمَّا تَمَّ عَلَيْهِ الاِتِّفَاقُ: رَدَّ الْمُشْتَرِي الزِّيَادَةَ لِلْبَائِعِ لأَِنَّهُ تَضَرَّرَ بِالزِّيَادَةِ، وَلأَِنَّ الْبَيْعَ وَقَعَ عَلَى مِقْدَارٍ مُعَيَّنٍ، فَمَا زَادَ عَلَيْهِ لاَ يَدْخُل فِي الْبَيْعِ. وَهَذَا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ.
وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ: يَثْبُتُ الْخِيَارُ لِلْبَائِعِ، وَلاَ يَسْقُطُ خِيَارُهُ فِيمَا إِذَا قَال الْمُشْتَرِي لِلْبَائِعِ: لاَ تَفْسَخْ، وَأَنَا أَقْنَعُ بِالْقَدْرِ الْمَشْرُوطِ، أَوْ أَنَا أُعْطِيكَ ثَمَنَ الزَّائِدِ.
وَإِذَا كَانَ مَا يُبَاعُ جُزَافًا مَذْرُوعًا كَالثَّوْبِ وَالأَْرْضِ، وَظَهَرَ أَنَّهُ أَقَل مِمَّا اتُّفِقَ عَلَيْهِ فِي الْعَقْدِ، فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ: إِلَى أَنَّ الْمُشْتَرِيَ بِالْخِيَارِ بَيْنَ أَنْ يَأْخُذَ الْمَوْجُودَ بِجُمْلَةِ الثَّمَنِ وَبَيْنَ أَنْ يَتْرُكَ الْبَيْعَ، وَلاَ يَسْقُطُ خِيَارُ الْمُشْتَرِي فِيمَا إِذَا حَطَّ الْبَائِعُ مِنَ الثَّمَنِ قَدْرَ النَّقْصِ.
وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ الْمُشْتَرِيَ بِالْخِيَارِ بَيْنَ

(9/79)


أَنْ يَأْخُذَ الْمَوْجُودَ بِحِصَّتِهِ مِنَ الثَّمَنِ، أَوْ أَنْ يَتْرُكَ الْبَيْعَ.
وَإِذَا ظَهَرَ أَنَّ الْمَبِيعَ أَكْثَرُ مِمَّا اتُّفِقَ عَلَيْهِ، فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ الزِّيَادَةَ لِلْمُشْتَرِي بِالثَّمَنِ نَفْسِهِ، لأَِنَّ الذَّرْعَ كَالْوَصْفِ، وَالأَْوْصَافُ لاَ يُقَابِلُهَا شَيْءٌ مِنَ الثَّمَنِ، وَلاَ خِيَارَ لِلْبَائِعِ.
وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ وَالشَّافِعِيَّةُ: إِلَى أَنَّ الْبَائِعَ بِالْخِيَارِ.
وَلِلْحَنَابِلَةِ تَفْصِيلٌ فِي مَذْهَبِهِمْ:
فَذَهَبُوا إِلَى تَخْيِيرِ الْبَائِعِ بَيْنَ تَسْلِيمِ الْمَبِيعِ زَائِدًا، وَبَيْنَ تَسْلِيمِ الْقَدْرِ الْمَوْجُودِ. فَإِنْ رَضِيَ بِتَسْلِيمِ الْجَمِيعِ فَلاَ خِيَارَ لِلْمُشْتَرِي، لأَِنَّهُ زَادَهُ خَيْرًا. وَإِنْ أَبَى تَسْلِيمَهُ زَائِدًا، فَلِلْمُشْتَرِي الْخِيَارُ بَيْنَ الْفَسْخِ أَوِ الأَْخْذِ بِجَمِيعِ الثَّمَنِ الْمُسَمَّى وَقِسْطِ الزَّائِدِ.
فَإِنْ رَضِيَ بِالأَْخْذِ أَخَذَ الْعَشَرَةَ، وَالْبَائِعُ شَرِيكٌ لَهُ فِي الذِّرَاعِ.
وَفِي تَخْيِيرِ الْبَائِعِ فِي الْفَسْخِ وَجْهَانِ.
الأَْوَّل: لَهُ الْفَسْخُ؛ لأَِنَّ عَلَيْهِ ضَرَرًا فِي الْمُشَارَكَةِ.
الثَّانِي: لاَ خِيَارَ لَهُ، لأَِنَّهُ رَضِيَ بِبَيْعِ الْجَمِيعِ بِهَذَا الثَّمَنِ.
فَإِذَا وَصَل إِلَيْهِ الثَّمَنُ مَعَ بَقَاءِ جُزْءٍ لَهُ فِيهِ كَانَ زِيَادَةً عَلَى مَا رَضِيَ بِهِ مِنَ الثَّمَنِ، فَلاَ يَسْتَحِقُّ بِهَا الْفَسْخَ. فَإِنْ بَذَلَهَا الْبَائِعُ لِلْمُشْتَرِي بِثَمَنٍ، أَوْ طَلَبَهَا الْمُشْتَرِي بِثَمَنٍ، لَمْ يَلْزَمِ الآْخَرَ الْقَبُول،

(9/79)


لأَِنَّهَا مُعَاوَضَةٌ يُعْتَبَرُ فِيهَا التَّرَاضِي مِنْهُمَا، فَلاَ يُجْبَرُ وَاحِدٌ مِنْهُمَا عَلَيْهِ. وَإِنْ تَرَاضَيَا عَلَى ذَلِكَ جَازَ.
وَوَجْهُ التَّفْرِيقِ بَيْنَ الْمَذْرُوعَاتِ وَالْمَكِيلاَتِ: أَنَّ الْمُتَّفَقَ عَلَيْهِ فِي الْعَقْدِ عَلَى الْمَكِيلاَتِ هُوَ الْقَدْرُ، أَمَّا فِي الْمَذْرُوعَاتِ فَهُوَ الْوَصْفُ.
وَالْقَدْرُ يُقَابِلُهُ الثَّمَنُ، أَمَّا الْوَصْفُ فَهُوَ تَابِعٌ لِلْمَبِيعِ، وَلاَ يُقَابِلُهُ شَيْءٌ مِنَ الثَّمَنِ. وَلِهَذَا يَأْخُذُ الْمَبِيعَ بِحِصَّتِهِ مِنَ الثَّمَنِ، إِذَا فَاتَ الْقَدْرُ الْمُتَّفَقُ عَلَيْهِ. وَيَأْخُذُ الْمَبِيعَ بِالثَّمَنِ كَامِلاً، إِذَا فَاتَ الْوَصْفُ الْمُتَّفَقُ عَلَيْهِ. فَلَوْ قَال الْبَائِعُ: بِعْتُكَ الثَّوْبَ عَلَى أَنَّهُ مِائَةُ ذِرَاعٍ بِمِائَةِ دِرْهَمٍ، كُل ذِرَاعٍ بِدِرْهَمٍ، فَوَجَدَهَا نَاقِصَةً، فَالْمُشْتَرِي بِالْخِيَارِ إِنْ شَاءَ أَخَذَهَا بِحِصَّتِهَا مِنَ الثَّمَنِ، وَإِنْ شَاءَ تَرَكَ.
لأَِنَّ الْوَصْفَ وَإِنْ كَانَ تَابِعًا لِلْمَبِيعِ، إِلاَّ أَنَّهُ صَارَ أَصْلاً، لأَِنَّهُ أُفْرِدَ بِذِكْرِ الثَّمَنِ، فَيُنَزَّل كُل ذِرَاعٍ مَنْزِلَهُ ثَوْبٍ مُسْتَقِلٍّ.
لأَِنَّهُ لَوْ أَخَذَ بِكُل الثَّمَنِ لَمْ يَكُنْ آخِذًا لِكُل ذِرَاعٍ بِدِرْهَمٍ. فَإِنْ وَجَدَهَا زَائِدَةً، فَهُوَ بِالْخِيَارِ إِنْ شَاءَ أَخَذَ الْجَمِيعَ كُل ذِرَاعٍ بِدِرْهَمٍ، وَإِنْ شَاءَ فَسَخَ الْبَيْعَ، لأَِنَّهُ إِنْ حَصَل لَهُ الزِّيَادَةُ فِي الذَّرْعِ تَلْزَمُهُ زِيَادَةُ الثَّمَنِ، فَكَانَ نَفْعًا يَشُوبُهُ ضَرَرٌ، فَيُخَيَّرُ بَيْنَ أَخْذِ الزِّيَادَةِ وَبَيْنَ فَسْخِ الْبَيْعِ (1) .
__________
(1) فتح القدير 5 / 476، 477، 478، ونهاية المحتاج 3 / 400، 401، والمغني 4 / 146 - 147

(9/80)


بَيْعُ الْحَاضِرِ لِلْبَادِي

التَّعْرِيفُ:
1 - الْحَاضِرُ: ضِدُّ الْبَادِي، وَالْحَاضِرَةُ ضِدُّ الْبَادِيَةِ (1) .
وَالْحَاضِرُ: مَنْ كَانَ مِنْ أَهْل الْحَضَرِ، وَهُوَ سَاكِنُ الْحَاضِرَةِ، وَهِيَ الْمُدُنُ وَالْقُرَى، وَالرِّيفُ وَهُوَ أَرْضٌ فِيهَا - عَادَةً - زَرْعٌ وَخَصْبٌ.
وَقَال الشَّلَبِيُّ: الْحَاضِرُ: الْمُقِيمُ فِي الْمَدَنِ وَالْقُرَى. وَالْبَادِي: سَاكِنُ الْبَادِيَةِ، وَهِيَ مَا عَدَا ذَلِكَ الْمَذْكُورَ مِنَ الْمَدَنِ وَالْقُرَى وَالرِّيفِ، قَال تَعَالَى: {وَإِنْ يَأْتِ الأَْحْزَابُ يَوَدُّوا لَوْ أَنَّهُمْ بَادُونَ فِي الأَْعْرَابِ} (2) أَيْ نَازِلُونَ، وَقَال الشَّلَبِيُّ: الْمُقِيمُ بِالْبَادِيَةِ. وَالنِّسْبَةُ إِلَى الْحَاضِرَةِ: حَضَرِيٌّ، وَإِلَى الْبَادِيَةِ بَدَوِيٌّ (3) .
وَعَبَّرَ بَعْضُ الْمَالِكِيَّةِ: بِبَيْعِ حَاضِرٍ لِعَمُودِيٍّ،
__________
(1) مختار الصحاح، مادة: " حضر "
(2) سورة الأحزاب / 20
(3) شرح المحلي على المنهاج وحاشية القليوبي وعميرة عليه 2 / 182، 183، وتحفة المحتاج 4 / 309، ورد المحتار 4 / 132، وحاشية الشلبي على تبيين الحقائق 4 / 68

(9/80)


وَالْعَمُودِيُّ هُوَ الْبَدَوِيُّ، نِسْبَةً إِلَى عَمُودٍ؛ لأَِنَّ الْبَدْوَ يَسْكُنُونَ الْخِيَامَ (1) .
غَيْرَ أَنَّ الْحَنَابِلَةَ اعْتَبَرُوا الْبَدْوِيَّ شَامِلاً لِلْمُقِيمِ فِي الْبَادِيَةِ، وَلِكُل مَنْ يَدْخُل الْبَلْدَةَ مِنْ غَيْرِ أَهْلِهَا، سَوَاءٌ أَكَانَ بَدْوِيًّا، أَمْ كَانَ مِنْ قَرْيَةٍ أَوْ بَلْدَةٍ أُخْرَى (2) .
وَهُوَ قَوْلٌ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ (3) .
2 - وَالْمُرَادُ بِبَيْعِ الْحَاضِرِ لِلْبَادِي عِنْدَ الْجُمْهُورِ: أَنْ يَتَوَلَّى الْحَضَرِيُّ بَيْعَ سِلْعَةِ الْبَدْوِيِّ، بِأَنْ يَصِيرَ الْحَاضِرُ سِمْسَارًا لِلْبَادِي الْبَائِعِ.
قَال الْحَلْوَانِيُّ: هُوَ أَنْ يَمْنَعَ السِّمْسَارُ الْحَاضِرُ الْقَرَوِيَّ مِنَ الْبَيْعِ، وَيَقُول لَهُ: لاَ تَبِعْ أَنْتَ، أَنَا أَعْلَمُ بِذَلِكَ، فَيَتَوَكَّل لَهُ، وَيَبِيعُ وَيُغَالِي، وَلَوْ تَرَكَهُ يَبِيعُ بِنَفْسِهِ لَرَخَّصَ عَلَى النَّاسِ (4) .
فَالْبَيْعُ - عَلَى هَذَا - هُوَ مِنَ الْحَاضِرِ لِلْحَاضِرِ نِيَابَةً عَنِ الْبَادِي، بِثَمَنٍ أَغْلَى.
وَعَلَى هَذَا التَّفْسِيرِ، تَكُونُ اللاَّمُ فِي وَلاَ يَبِيعُ حَاضِرٌ لِبَادٍ عَلَى حَقِيقَتِهَا كَمَا يَقُول ابْنُ عَابِدِينَ، وَهِيَ: التَّعْلِيل.
3 - وَذَهَبَ بَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ - كَصَاحِبِ الْهِدَايَةِ -
__________
(1) الشرح الكبير للدردير 3 / 69، والقوانين الفقهية ص 171
(2) المغني 4 / 279، وكشاف القناع 3 / 184
(3) أشار إليه ابن جزي في القوانين الفقهية ص 171 بصيغة التضعيف: قيل
(4) فتح القدير 6 / 107، ورد المحتار 4 / 133، والشرح الكبير للدردير 3 / 69، والقوانين الفقهية ص 171، وتحفة المحتاج 4 / 309، 310، والمغني 4 / 279

(9/81)


إِلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالْحَدِيثِ: أَنْ يَبِيعَ الْحَضَرِيُّ سِلْعَتَهُ مِنَ الْبَدْوِيِّ، وَذَلِكَ طَمَعًا فِي الثَّمَنِ الْغَالِي، فَهُوَ مَنْهِيٌّ عَنْهُ، لِمَا فِيهِ مِنَ الإِْضْرَارِ بِأَهْل الْبَلَدِ (1) . وَعَلَى هَذَا التَّفْسِيرِ تَكُونُ اللاَّمُ فِي وَلاَ يَبِيعُ حَاضِرٌ لِبَادٍ بِمَعْنَى مِنْ - كَمَا يَقُول الْبَابَرْتِيُّ (2) -: فَهَذَا تَفْسِيرُ مَنْ قَال: إِنَّ الْحَاضِرَ هُوَ الْمَالِكُ، وَالْبَادِي هُوَ الْمُشْتَرِي.
قَال الْخَيْرُ الرَّمْلِيُّ: وَيَشْهَدُ لِصِحَّةِ هَذَا التَّفْسِيرِ، مَا فِي الْفُصُول الْعِمَادِيَّةِ، عَنْ أَبِي يُوسُفَ: لَوْ أَنَّ أَعْرَابًا قَدِمُوا الْكُوفَةَ، وَأَرَادُوا أَنْ يَمْتَارُوا (يَتَزَوَّدُوا مِنَ الطَّعَامِ) مِنْهَا، أَلاَ تَرَى أَنَّ أَهْل الْبَلْدَةِ يُمْنَعُونَ عَنِ الشِّرَاءِ لِلْحُكْرَةِ، فَهَذَا أَوْلَى (3) .
وَصَرَّحَ الْحَصْكَفِيُّ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ (4) ، بِأَنَّ الأَْصَحَّ - كَمَا فِي الْمُجْتَبَى - أَنَّهُمَا: السِّمْسَارُ وَالْبَائِعُ (وَهُوَ التَّفْسِيرُ الأَْوَّل الَّذِي عَلَيْهِ الْجُمْهُورُ) وَذَلِكَ لِوَجْهَيْنِ:
أَوَّلُهُمَا: مُوَافَقَتُهُ لآِخِرِ الْحَدِيثِ فِي بَعْضِ رِوَايَاتِهِ: دَعُوا النَّاسَ، يَرْزُقُ اللَّهُ بَعْضَهُمْ مِنْ بَعْضٍ (5)
__________
(1) الهداية بشروحها 6 / 107، والدر المختار 4 / 132
(2) شرح العناية على الهداية 6 / 108
(3) رد المحتار 4 / 132، وانظر في هذا التفسير أيضا: تبيين الحقائق، وحاشية الشلبي عليه 4 / 68
(4) المصباح المنير، مادة: " بيع "، ورد المحتار 4 / 133
(5) الحديث يأتي تخريجه (ف 4)

(9/81)


الآْخَرُ: أَنَّهُ عُدِّيَ بِاللاَّمِ، لاَ بِمِنْ.
فَعَلَى هَذَا يَكُونُ مَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ، كَالْجُمْهُورِ فِي تَفْسِيرِ الْحَدِيثِ (1) .

النَّهْيُ عَنْ هَذَا الْبَيْعِ:
4 - لاَ يَخْتَلِفُ الْفُقَهَاءُ فِي مَنْعِ هَذَا الْبَيْعِ. فَقَدْ وَرَدَ النَّهْيُ عَنْهُ فِي أَحَادِيثَ كَثِيرَةٍ مِنْهَا:
حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُول اللَّهِ قَال: لاَ تَلَقُّوا الرُّكْبَانَ، وَلاَ يَبِعْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَيْعِ بَعْضٍ، وَلاَ تَنَاجَشُوا، وَلاَ يَبِعْ حَاضِرٌ لِبَادٍ، وَلاَ تَصُرُّوا الْغَنَمَ (2)
وَمِنْهَا حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَال: قَال رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لاَ يَبِعْ حَاضِرٌ لِبَادٍ، دَعُوا النَّاسَ، يَرْزُقُ اللَّهُ بَعْضَهُمْ مِنْ بَعْضٍ (3)
وَمِنْهَا حَدِيثُ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَال: نُهِينَا أَنْ يَبِيعَ حَاضِرٌ لِبَادٍ، وَإِنْ كَانَ أَخَاهُ وَأَبَاهُ
وَفِي لَفْظٍ وَإِنْ كَانَ أَخَاهُ لأَِبِيهِ وَأُمِّهِ (4) .
__________
(1) الدر المختار ورد المحتار 4 / 132 و 133
(2) حديث أبي هريرة " لا تلقوا الركبان، ولا يبع بعضكم على بيع بعض. . . ". أخرجه البخاري (4 / 361 الفتح ط السلفية) ومسلم (2 / 1155 ط الحلبي) واللفظ له
(3) حديث ابن عباس: " لا تلقوا الركبان. . " أخرجه البخاري (4 / 370 الفتح ط السلفية) ، ومسلم (2 / 1157 ط الحلبي)
(4) حديث أنس: " نهينا أن يبيع حاضر لباد، وإن كان أخاه وأباه ". أخرجه البخاري (الفتح 4 / 373 ط السلفية) ، ومسلم (2 / 1158 ط الحلبي) والشطر الثاني تفرد به مسلم

(9/82)


عِلَّةُ النَّهْيِ عَنْ بَيْعِ الْحَاضِرِ لِلْبَادِي:
اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي عِلَّةِ هَذَا النَّهْيِ:
5 - (أ) فَمَذْهَبُ الْجُمْهُورِ، بِنَاءً عَلَى التَّفْسِيرِ الأَْوَّل، أَنَّ الْمَعْنَى فِي النَّهْيِ عَنْ ذَلِكَ، هُوَ مَا يُؤَدِّي إِلَيْهِ هَذَا الْبَيْعُ مِنَ الإِْضْرَارِ بِأَهْل الْبَلَدِ (1) ، وَالتَّضْيِيقُ عَلَى النَّاسِ (2) . وَالْقَصْدُ أَنْ يَبِيعُوا لِلنَّاسِ بِرُخْصٍ (3) .
قَال ابْنُ الْقَاسِمِ: لَمْ يَخْتَلِفْ أَهْل الْعِلْمِ فِي أَنَّ النَّهْيَ عَنْ بَيْعِ الْحَاضِرِ لِلْبَادِي إِنَّمَا هُوَ لِنَفْعِ الْحَاضِرَةِ (4) ، لأَِنَّهُ مَتَى تَرَكَ الْبَدْوِيُّ يَبِيعُ سِلْعَتَهُ، اشْتَرَاهَا النَّاسُ بِرُخْصٍ، وَيُوَسِّعُ عَلَيْهِمُ السِّعْرَ، فَإِذَا تَوَلَّى الْحَاضِرُ بَيْعَهَا، وَامْتَنَعَ مِنْ بَيْعِهَا إِلاَّ بِسِعْرِ الْبَلَدِ، ضَاقَ عَلَى أَهْل الْبَلَدِ، وَقَدْ أَشَارَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي تَعْلِيلِهِ إِلَى هَذَا الْمَعْنَى (5) .
6 - (ب) وَمَذْهَبُ بَعْضِ الْحَنَفِيَّةِ، كَالْمَرْغِينَانِيِّ - عَلَى مَا بَيَّنَّا - وَالْكَاسَانِيِّ، وَكَذَلِكَ التُّمُرْتَاشِيُّ - فِيمَا يَبْدُو بِنَاءً عَلَى التَّفْسِيرِ الثَّانِي - أَنَّ الْمَعْنَى فِي النَّهْيِ عَنْ ذَلِكَ، وَهُوَ الإِْضْرَارُ بِأَهْل الْمِصْرِ، مِنْ
__________
(1) تبيين الحقائق 4 / 68
(2) شرح المحلي على المنهاج 2 / 182، وشرح المنهج بحاشية الجمل 3 / 87
(3) حاشية الدسوقي على الشرح الكبير للدردير 3 / 69
(4) حاشية العدوي على شرح الخرشي 5 / 84
(5) المغني 4 / 280، وكشاف القناع 3 / 184

(9/82)


جِهَةٍ أُخْرَى غَيْرِ الرُّخْصِ، وَهِيَ: أَنْ يَكُونَ أَهْل الْبَلَدِ فِي حَال قَحْطٍ وَعَوَزٍ إِلَى الطَّعَامِ وَالْعَلَفِ، فَلاَ يَبِيعُهُمَا الْحَضَرِيُّ - مَعَ ذَلِكَ - إِلاَّ لأَِهْل الْبَدْوِ، بِثَمَنٍ غَالٍ (1) .

قُيُودُ النَّهْيِ:
قَيَّدَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ النَّهْيَ عَنْ بَيْعِ الْحَاضِرِ لِلْبَادِي، بِقُيُودٍ وَشُرُوطٍ شَتَّى مِنْهَا:
7 - أَنْ يَكُونَ مَا يَقْدُمُ بِهِ الْبَادِي، مِمَّا تَعُمُّ الْحَاجَةُ إِلَيْهِ
، سَوَاءٌ أَكَانَ مَطْعُومًا أَمْ غَيْرَ مَطْعُومٍ، فَمَا لاَ يُحْتَاجُ إِلَيْهِ إِلاَّ نَادِرًا، لاَ يَدْخُل تَحْتَ النَّهْيِ (2) .
8 - وَأَنْ يَكُونَ قَصْدُ الْبَادِي الْبَيْعَ حَالاً، وَهُوَ مَا عَبَّرُوا عَنْهُ بِالْبَيْعِ بِسِعْرِ يَوْمِهِ، فَلَوْ كَانَ قَصْدُهُ الْبَيْعَ عَلَى التَّدْرِيجِ، فَسَأَلَهُ الْبَلَدِيُّ تَفْوِيضَ ذَلِكَ إِلَيْهِ فَلاَ بَأْسَ بِهِ، لأَِنَّهُ لَمْ يَضُرَّ بِالنَّاسِ، وَلاَ سَبِيل إِلَى مَنْعِ الْمَالِكِ مِنْهُ (3) .
وَهَذَانِ الشَّرْطَانِ لِلشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ.
9 - وَأَنْ يَكُونَ الْبَيْعُ عَلَى التَّدْرِيجِ بِأَغْلَى مِنْ بَيْعِهِ حَالاً، كَمَا اسْتَظْهَرَهُ بَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ.
__________
(1) بدائع الصنائع 5 / 232، والهداية بشروحها 6 / 107، والدر المختار 4 / 132، وتبيين الحقائق 4 / 68
(2) تحفة المحتاج 4 / 309، وشرح المحلي على المنهاج 2 / 182، والمغني 4 / 280، وكشاف القناع 3 / 184
(3) شرح المحلي على المنهاج 2 / 182، والمغني 4 / 280، وكشاف القناع 3 / 184

(9/83)


قَالُوا: لأَِنَّهُ إِذَا سَأَل الْحَضَرِيَّ أَنْ يُفَوِّضَ لَهُ بَيْعَهُ، بِسِعْرِ يَوْمِهِ عَلَى التَّدْرِيجِ، لَمْ يَحْمِلْهُ ذَلِكَ عَلَى مُوَافَقَتِهِ، فَلاَ يَكُونُ سَبَبًا لِلتَّضْيِيقِ، بِخِلاَفِ مَا إِذَا سَأَلَهُ أَنْ يَبِيعَهُ بِأَغْلَى، فَالزِّيَادَةُ رُبَّمَا حَمَلَتْهُ عَلَى الْمُوَافَقَةِ، فَيُؤَدِّي إِلَى التَّضْيِيقِ (1) .
10 - وَأَنْ يَكُونَ الْبَادِي جَاهِلاً بِالسِّعْرِ (2) ، لأَِنَّهُ إِذَا عَلِمَهُ لَمْ يَزِدْهُ الْحَاضِرُ عَلَى مَا عِنْدَهُ (3) ، وَلأَِنَّ النَّهْيَ لأَِجْل أَنْ يَبِيعُوا لِلنَّاسِ بِرُخْصٍ، وَهَذِهِ الْعِلَّةُ إِنَّمَا تُوجَدُ إِذَا كَانُوا جَاهِلِينَ بِالأَْسْعَارِ، فَإِذَا عَلِمُوا بِالأَْسْعَارِ فَلاَ يَبِيعُونَ إِلاَّ بِقِيمَتِهَا كَمَا يَبِيعُ الْحَاضِرُ، فَبَيْعُ الْحَاضِرِ حِينَئِذٍ بِمَنْزِلَةِ بَيْعِهِمْ (4) . وَهَذَا الشَّرْطُ لِلْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ.
وَمَعَ ذَلِكَ فَقَدْ أَطْلَقَ الْخَرَشِيُّ النَّهْيَ، سَوَاءٌ أَكَانَ الْبَدْوِيُّ جَاهِلاً بِالأَْسْعَارِ أَمْ لاَ (5) .
وَاخْتُلِفَ فِي الْمُعْتَمَدِ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ:
فَالْمُعْتَمَدُ عِنْدَ الْعَدَوِيِّ: شَرْطُ الْجَهْل بِالأَْسْعَارِ (6) . وَهُوَ الَّذِي نَصَّ عَلَيْهِ ابْنُ جُزَيٍّ (7) .
__________
(1) حاشية الجمل على شرح المنهج 3 / 86
(2) الشرح الكبير للدردير بحاشية الدسوقي 3 / 69، والمغني 4 / 280، وكشاف القناع 3 / 184
(3) كشاف القناع 3 / 184
(4) حاشية الدسوقي على الشرح الكبير للدردير 3 / 69
(5) شرح الخرشي 5 / 83
(6) حاشية العدوي على شرح الخرشي 5 / 83
(7) القوانين الفقهية ص 171

(9/83)


وَالْمُعْتَمَدُ عِنْدَ آخَرِينَ - كَمَا نَقَلَهُ الدُّسُوقِيُّ - هُوَ الإِْطْلاَقُ (1) .
11 - وَاشْتَرَطَ الْحَنَابِلَةُ أَنْ يَكُونَ الْبَادِي قَدْ جَلَبَ السِّلَعَ، وَحَضَرَ لِبَيْعِهَا، لأَِنَّهُ إِذَا حَضَرَ لِخَزْنِهَا أَوْ أَكْلِهَا، فَقَصَدَهُ الْحَاضِرُ، وَحَضَّهُ عَلَى بَيْعِهَا، كَانَ تَوْسِعَةً لاَ تَضْيِيقًا (2) .
12 - وَاشْتَرَطَ الْمَالِكِيَّةُ أَنْ يَكُونَ الْبَيْعُ لِحَاضِرٍ، فَلَوْ بَاعَ الْحَاضِرُ لِبَدَوِيٍّ مِثْلِهِ، فَإِنَّهُ يَجُوزُ؛ لأَِنَّ الْبَدْوِيَّ لاَ يَجْهَل أَسْعَارَ هَذِهِ السِّلَعِ، فَلاَ يَأْخُذُهَا إِلاَّ بِأَسْعَارِهَا، سَوَاءٌ اشْتَرَاهَا مِنْ حَضَرِيٍّ أَمْ مِنْ بَدْوِيٍّ، فَبَيْعُ الْحَضَرِيِّ لَهُ بِمَنْزِلَةِ بَيْعِ بَدَوِيٍّ لِبَدَوِيٍّ (3) .
13 - وَاشْتَرَطَ الْحَنَابِلَةُ أَنْ يَقْصِدَ الْبَدْوِيَّ حَاضِرٌ عَارِفٌ بِالسِّعْرِ، فَإِنْ قَصَدَهُ الْبَادِي لَمْ يَكُنْ لِلْحَاضِرِ أَثَرٌ فِي عَدَمِ التَّوْسِعَةِ (4) .
فَإِنِ اخْتَل شَرْطٌ مِنْ شُرُوطِ الْمَنْعِ لَمْ يَحْرُمِ (5) الْبَيْعُ مِنَ الْحَاضِرِ لِلْبَادِي عِنْدَ الْقَائِل بِذَلِكَ الشَّرْطِ.
14 - وَالْحَنَفِيَّةُ، الَّذِينَ صَوَّرَ بَعْضُهُمُ النَّهْيَ: بِأَنْ يَبِيعَ الْحَاضِرُ طَعَامًا أَوْ عَلَفًا لِلْبَادِي
__________
(1) حاشية الدسوقي على الشرح الكبير للدردير 3 / 69
(2) كشاف القناع 3 / 184، والمغني 4 / 280
(3) الشرح الكبير للدردير وحاشية الدسوقي عليه 3 / 69
(4) كشاف القناع 3 / 184
(5) المرجع السابق

(9/84)


طَمَعًا فِي الثَّمَنِ الْغَالِي، قَيَّدُوا التَّحْرِيمَ بِأَنْ يَضُرَّ الْبَيْعُ بِأَهْل الْبَلَدِ، بِأَنْ يَكُونُوا فِي قَحْطٍ مِنَ الطَّعَامِ وَالْعَلَفِ، فَإِنْ كَانُوا فِي خِصْبٍ وَسَعَةٍ فَلاَ بَأْسَ بِهِ لاِنْعِدَامِ الضَّرَرِ (1) ، وَعِبَارَةُ الْحَصْكَفِيِّ: وَهَذَا فِي حَال قَحْطٍ وَعَوَزٍ، وَإِلاَّ لاَ، لاِنْعِدَامِ الضَّرَرِ (2) .
15 - أَمَّا الَّذِينَ صَوَّرُوا مِنْهُمُ النَّهْيَ: بِأَنْ يَتَوَلَّى الْحَاضِرُ بَيْعَ سِلْعَةِ الْبَدَوِيِّ، وَيُغَالِيَ فِيهَا، وَهَذَا هُوَ الأَْصَحُّ (3) ، فَقَدْ قَيَّدُوهُ.
- بِأَنْ تَكُونَ السِّلْعَةُ مِمَّا تَعُمُّ الْحَاجَةُ إِلَيْهَا كَالأَْقْوَاتِ، فَإِنْ كَانَتْ لاَ تَعُمُّ، أَوْ كَثُرَ الْقُوتُ وَاسْتُغْنِيَ عَنْهُ، فَفِي التَّحْرِيمِ تَرَدُّدٌ (4) .
- وَبِمَا إِذَا كَانَ أَهْل الْحَضَرِ يَتَضَرَّرُونَ بِذَلِكَ (5) .

حُكْمُ بَيْعِ الْحَاضِرِ لِلْبَادِي:
16 - (أ) ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّهُ مُحَرَّمٌ مَعَ صِحَّتِهِ، وَصَرَّحَ بِهِ بَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ (6) وَعَبَّرَ عَنْهُ بَعْضُهُمْ بِالْكَرَاهَةِ، وَهِيَ لِلتَّحْرِيمِ عِنْدَ
__________
(1) بدائع الصنائع 5 / 232
(2) الدر المختار 4 / 132، والهداية وفتح القدير 6 / 107
(3) الدر المختار 4 / 132
(4) حاشية الشلبي على تبيين الحقائق 4 / 68
(5) تبيين الحقائق في الموضع السابق، وبدائع الصنائع 5 / 232
(6) حاشية الشلبي على تبيين الحقائق 4 / 68، والدر المختار 4 / 132، والهداية بشروحها 6 / 108

(9/84)


الإِْطْلاَقِ. كَمَا صَرَّحَ بِهِ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ، لَكِنَّهُ مَعَ ذَلِكَ صَحِيحٌ عِنْدَ جُمْهُورِهِمْ، كَمَا هُوَ رِوَايَةٌ عَنِ الإِْمَامِ أَحْمَدَ.
وَالنَّهْيُ عَنْهُ لاَ يَسْتَلْزِمُ الْفَسَادَ وَالْبُطْلاَنَ، لأَِنَّهُ لاَ يَرْجِعُ إِلَى ذَاتِ الْبَيْعِ، لأَِنَّهُ لَمْ يَفْقِدْ رُكْنًا، وَلاَ إِلَى لاَزِمِهِ، لأَِنَّهُ لَمْ يَفْقِدْ شَرْطًا، بَل هُوَ رَاجِعٌ لأَِمْرٍ خَارِجٍ غَيْرِ لاَزِمٍ، كَالتَّضْيِيقِ وَالإِْيذَاءِ (1) .
قَال الْمَحَلِّيُّ: وَالنَّهْيُ لِلتَّحْرِيمِ: فَيَأْثَمُ بِارْتِكَابِهِ الْعَالِمُ بِهِ، وَيَصِحُّ الْبَيْعُ (2) .
ب - وَفِي رِوَايَةٍ عَنْ أَحْمَدَ أَنَّ الْبَيْعَ صَحِيحٌ وَلاَ كَرَاهَةَ فِيهِ، وَأَنَّ النَّهْيَ اخْتُصَّ بِأَوَّل الإِْسْلاَمِ لِمَا كَانَ عَلَيْهِمْ مِنَ الضِّيقِ، قَال أَحْمَدُ: كَانَ ذَلِكَ مَرَّةً (3) .
ج - مَذْهَبُ الْمَالِكِيَّةِ، وَالْمَذْهَبُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ، وَالأَْظْهَرُ عِنْدَهُمْ، أَنَّ هَذَا الْبَيْعَ حَرَامٌ، وَهُوَ بَاطِلٌ أَيْضًا وَفَاسِدٌ، كَمَا نَصَّ عَلَيْهِ الْخِرَقِيُّ، لأَِنَّهُ مَنْهِيٌّ عَنْهُ، وَالنَّهْيُ يَقْتَضِي فَسَادَ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ (4) .
وَكَمَا نَصَّ عَلَيْهِ الْبُهُوتِيُّ بِقَوْلِهِ: فَيَحْرُمُ، وَلاَ يَصِحُّ لِبَقَاءِ النَّهْيِ عَنْهُ (5)
__________
(1) شرح المحلي على المنهاج وحاشية القليوبي عليه 2 / 182 وقارن بالمغني 4 / 280
(2) المرجع السابق
(3) المغني 4 / 280، والإنصاف 4 / 333
(4) المغني 4 / 280
(5) كشاف القناع 3 / 18، والشرح الكبير للدردير مع حاشية الدسوقي عليه 3 / 69

(9/85)


وَقَال أَحْمَدُ لَمَّا سُئِل عَنْ هَذَا الْبَيْعِ: أَكْرَهُ ذَلِكَ، وَأَرُدُّ الْبَيْعَ فِي ذَلِكَ (1) .
وَفَصَّل الْمَالِكِيَّةُ فِي هَذَا، وَقَرَّرُوا:
أَوَّلاً: أَنَّهُ يُفْسَخُ الْبَيْعُ مَا دَامَتِ السِّلْعَةُ قَائِمَةً لَمْ تَفُتْ بِبَيْعٍ، أَوْ عَيْبٍ، أَوْ مَوْتٍ، أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ.
ثَانِيًا: فَإِنْ فَاتَتْ مَضَى الْبَيْعُ بِالثَّمَنِ (الَّذِي وَقَعَ بِهِ الْبَيْعُ) وَهَذَا هُوَ الْمُعْتَمَدُ. وَقِيل: بِالْقِيمَةِ (2) .
وَفِيمَا يَلِي بَعْضُ الْفُرُوعِ التَّفْصِيلِيَّةِ عِنْدَ غَيْرِ الْحَنَفِيَّةِ فِي هَذَا الْبَيْعِ:

17 - أَوَّلاً: نَصَّ الْمَالِكِيَّةُ عَلَى أَنَّهُ - مَعَ فَسْخِ هَذَا الْبَيْعِ بِشَرْطِ عَدَمِ فَوَاتِ الْمَبِيعِ - يُؤَدَّبُ كُلٌّ مِنَ الْمَالِكِ وَالْحَاضِرِ وَالْمُشْتَرِي، إِنْ لَمْ يُعْذَرْ أَحَدٌ مِنْهُمْ بِجَهْلِهِ، بِأَنْ كَانَ عَالِمًا بِالْحُرْمَةِ، وَلاَ أَدَبَ عَلَى الْجَاهِل لِعُذْرِهِ بِالْجَهْل (3) .
لَكِنْ هَل يُؤَدَّبُ مُطْلَقًا، أَمْ يُؤَدَّبُ إِنِ اعْتَادَ هَذَا الْبَيْعَ؟ قَوْلاَنِ لِلْمَالِكِيَّةِ فِي هَذَا (4) .
وَالشَّافِعِيَّةُ قَرَّرُوا الإِْثْمَ عَلَى الْعَالِمِ بِالتَّحْرِيمِ، كَمَا قَال الْمَالِكِيَّةُ، وَكَذَا الْجَاهِل الْمُقَصِّرُ، وَلَوْ فِيمَا
__________
(1) المغني 4 / 280
(2) الشرح الكبير للدردير، وحاشية الدسوقي عليه 3 / 69
(3) المرجع السابق
(4) المرجع السابق، وانظر في الفسخ والتأديب شرح الخرشي وحاشية العدوي عليه 5 / 84

(9/85)


يَخْفَى غَالِبًا. قَالُوا: وَلِلْحَاكِمِ أَنْ يُعَزِّرَ فِي ارْتِكَابِ مَا لاَ يَخْفَى غَالِبًا، وَإِنِ ادَّعَى جَهْلَهُ.
قَال الْقَلْيُوبِيُّ: إِنَّ الْحُرْمَةَ مُقَيَّدَةٌ بِالْعِلْمِ أَوِ التَّقْصِيرِ، وَإِنَّ التَّعْزِيرَ مُقَيَّدٌ بِعَدَمِ الْخَفَاءِ (1) . غَيْرَ أَنَّ الْقَفَّال مِنْ أَئِمَّةِ الشَّافِعِيَّةِ، جَعَل الإِْثْمَ هُنَا، عَلَى الْبَلَدِيِّ دُونَ الْبَدْوِيِّ، وَقَرَّرَ أَنَّهُ لاَ خِيَارَ لِلْمُشْتَرِي (2) .
ثُمَّ عَمَّمَ الشَّافِعِيَّةُ اشْتِرَاطَ الْعِلْمِ بِالْحُرْمَةِ، فِي كُل مَنْهِيٍّ عَنْهُ.
قَال ابْنُ حَجَرٍ: وَلاَ بُدَّ هُنَا، وَفِي جَمِيعِ الْمَنَاهِي، أَنْ يَكُونَ عَالِمًا بِالنَّهْيِ، أَوْ مُقَصِّرًا فِي تَعَلُّمِهِ، كَمَا هُوَ ظَاهِرٌ، أَخْذًا مِنْ قَوْلِهِمْ: يَجِبُ عَلَى مَنْ بَاشَرَ أَمْرًا أَنْ يَتَعَلَّمَ جَمِيعَ مَا يَتَعَلَّقُ بِهِ، مِمَّا يَغْلِبُ وُقُوعُهُ (3) .

18 - ثَانِيًا: بِمَا أَنَّ النَّصَّ وَرَدَ فِي النَّهْيِ عَنِ الْبَيْعِ لِلْبَادِي، فَقَدِ اخْتُلِفَ فِي حُكْمِ الشِّرَاءِ لَهُ:
أ - مَذْهَبُ الْمَالِكِيَّةِ التَّفْصِيل بَيْنَ الشِّرَاءِ لَهُ بِالنَّقْدِ أَوْ بِالسِّلَعِ:
فَمِنْهُمْ مَنْ يَرَى جَوَازَ الشِّرَاءِ لَهُ بِالنَّقْدِ وَبِالسِّلَعِ مُطْلَقًا، أَيْ سَوَاءٌ أَحَصَّل السِّلَعَ بِنَقْدٍ أَمْ بِغَيْرِ نَقْدٍ، وَهُوَ ظَاهِرُ كَلاَمِ الشَّيْخِ خَلِيلٍ.
وَخَصَّ الْخَرَشِيُّ جَوَازَ الشِّرَاءِ بِالسِّلَعِ الَّتِي
__________
(1) شرح المحلي وحاشية القليوبي عليه 2 / 182
(2) شرح المحلي في الموضع نفسه
(3) تحفة المحتاج 4 / 311

(9/86)


حَصَّلَهَا بِثَمَنٍ يُنْقَدُ، وَأَمَّا الَّتِي حَصَّلَهَا بِغَيْرِ النَّقْدِ، فَلاَ يَجُوزُ أَنْ يَشْتَرِيَ لَهُ بِهَا سِلَعًا، قَال: لأَِنَّ الْعِلَّةَ الَّتِي فِي مَنْعِ الْبَيْعِ لَهُ، تَأْتِي حِينَئِذٍ (1) .
وَقَال آخَرُونَ مِنْهُمْ: ظَاهِرُ كَلاَمِ الأَْئِمَّةِ أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ الشِّرَاءُ لَهُ إِلاَّ بِالنَّقْدِ، لاَ بِالسِّلَعِ مُطْلَقًا، وَإِلاَّ كَانَ بَيْعًا لِسِلَعِهِ، وَهُوَ مَمْنُوعٌ مُطْلَقًا عَلَى الْمُعْتَمَدِ - كَمَا تَقَدَّمَ - وَاسْتَوْجَهَ هَذَا الدُّسُوقِيُّ (2) .
19 - ب - وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيَّةِ مُتَرَدِّدٌ فِي التَّأْثِيمِ بِهِ أَيْضًا، فَلَوْ قَدِمَ مِنَ الْبَدْوِ مَنْ يُرِيدُ الشِّرَاءَ، فَتَعَرَّضَ لَهُ مِنَ الْحَضَرِ مَنْ يَشْتَرِي لَهُ رَخِيصًا:
(1) فَابْنُ يُونُسَ قَال: هُوَ حَرَامٌ، وَبَحَثَ الأَْذْرَعِيُّ الْجَزْمَ بِالإِْثْمِ، وَلَهُ وَجْهٌ - كَمَا قَال ابْنُ حَجَرٍ - وَهُوَ: الْقِيَاسُ عَلَى الْبَيْعِ، قَال الشِّرْوَانِيُّ: وَهُوَ الْمُعْتَمَدُ، لَكِنْ قَيَّدَهُ بِأَنْ يَكُونَ الثَّمَنُ مِمَّا تَعُمُّ الْحَاجَةُ إِلَيْهِ. وَالْقَوْل بِالْمَنْعِ نَقَلَهُ أَيْضًا ابْنُ هَانِئٍ مِنَ الْحَنَابِلَةِ.
(2) وَجَمْعٌ مِنَ الْمُتَأَخِّرِينَ اخْتَارُوا عَدَمَ الإِْثْمِ فِي الشِّرَاءِ، وَفَرَّقُوا بَيْنَ الْبَيْعِ وَبَيْنَ الشِّرَاءِ لِلْبَدَوِيِّ، بِأَنَّ الشِّرَاءَ غَالِبًا بِالنَّقْدِ، وَهُوَ لاَ تَعُمُّ الْحَاجَةُ إِلَيْهِ.
(3) أَمَّا ابْنُ حَجَرٍ، فَذَهَبَ مَذْهَبَ التَّوْفِيقِ
__________
(1) قارن بالقوانين الفقهية ص 171
(2) الشرح الكبير للدردير وحاشية الدسوقي عليه 3 / 69 - 70، وشرح الخرشي 5 / 84

(9/86)


بَيْنَ الْقَوْلَيْنِ، فَحَمَل الْقَوْل الأَْوَّل بِالإِْثْمِ عَلَى مَا إِذَا كَانَ الشِّرَاءُ بِمَتَاعٍ تَعُمُّ الْحَاجَةُ إِلَيْهِ، وَحَمَل الْقَوْل بِعَدَمِ الإِْثْمِ عَلَى خِلاَفِهِ، وَهُوَ مَا إِذَا كَانَ الشِّرَاءُ بِمَتَاعٍ لاَ تَعُمُّ الْحَاجَةُ إِلَيْهِ (1) .
20 - ج - وَمَذْهَبُ الْحَنَابِلَةِ فِي الشِّرَاءِ لِلْبَادِي: أَنَّهُ صَحِيحٌ رِوَايَةً وَاحِدَةً (2) ، وَذَلِكَ لأَِنَّ النَّهْيَ غَيْرُ مُتَنَاوِلٍ لِلشِّرَاءِ بِلَفْظِهِ، وَلاَ هُوَ فِي مَعْنَاهُ، فَإِنَّ النَّهْيَ عَنِ الْبَيْعِ لِلرِّفْقِ بِأَهْل الْحَضَرِ، لِيَتَّسِعَ عَلَيْهِمُ السِّعْرُ وَيَزُول عَنْهُمُ الضَّرَرُ، وَلَيْسَ ذَلِكَ فِي الشِّرَاءِ لَهُمْ، إِذْ لاَ يَتَضَرَّرُونَ لِعَدَمِ الْغَبْنِ لِلْبَادِينَ، بَل هُوَ دَفْعُ الضَّرَرِ عَنْهُ. وَالْخَلْقُ فِي نَظَرِ الشَّارِعِ عَلَى السَّوَاءِ، فَكَمَا شَرَعَ مَا يَدْفَعُ الضَّرَرَ عَنْ أَهْل الْحَضَرِ، لاَ يَلْزَمُ أَنْ يَلْزَمَ أَهْل الْبَدْوِ الضَّرَرُ (3) .

21 - ثَالِثًا: هُنَاكَ مَسْأَلَةٌ تَتَّصِل بِبَيْعِ الْحَاضِرِ لِلْبَادِي وَالشِّرَاءِ لَهُ، وَهِيَ: مَا لَوْ أَشَارَ الْحَاضِرُ عَلَى الْبَادِي، مِنْ غَيْرِ أَنْ يُبَاشِرَ الْبَيْعَ لَهُ:
فَقَدْ نَقَل ابْنُ قُدَامَةَ أَنَّهُ كَرِهَهُ مَالِكٌ وَاللَّيْثُ (4) .
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: فِي وُجُوبِ إِرْشَادِهِ إِلَى
__________
(1) تحفة المحتاج وحاشية الشرواني عليها 4 / 311، والإنصاف 4 / 335
(2) المغني 4 / 280، وكشاف القناع 3 / 184، والإنصاف 4 / 335
(3) المغني 4 / 280
(4) المرجع السابق

(9/87)


الاِدِّخَارِ أَوِ الْبَيْعِ وَجْهَانِ: أَوْجَهُهُمَا أَنَّهُ يَجِبُ إِرْشَادُهُ (1) ، لِوُجُوبِ الإِْشَارَةِ بِالأَْصْلَحِ عَلَيْهِ.
وَنَقَل ابْنُ قُدَامَةَ أَيْضًا، أَنَّهُ رَخَّصَ فِيهِ طَلْحَةُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَالأَْوْزَاعِيُّ وَابْنُ الْمُنْذِرِ.
قَال ابْنُ قُدَامَةَ: وَقَوْل الصَّحَابِيِّ حُجَّةٌ، مَا لَمْ يَثْبُتْ خِلاَفُهُ (2)

22 - رَابِعًا: نَصَّ ابْنُ جُزَيٍّ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ عَلَى أَنَّ تَعْرِيفَ الْبَادِي بِالسِّعْرِ، هُوَ كَالْبَيْعِ لَهُ، فَلاَ يَجُوزُ (3) .
__________
(1) حاشية الشرواني على تحفة المحتاج 4 / 310
(2) المغني 4 / 280
(3) القوانين الفقهية ص 171

(9/87)


بَيْعُ الْحَصَاةِ
التَّعْرِيفُ:
1 - بَيْعُ الْحَصَاةِ: هُوَ الْبَيْعُ بِإِلْقَاءِ الْحَجَرِ، وَكَانَ مَعْرُوفًا فِي الْجَاهِلِيَّةِ (1) ، وَوَرَدَ النَّهْيُ عَنْهُ، وَذَلِكَ فِي حَدِيثِ النَّهْيِ عَنِ الْغَرَرِ، فِيمَا رُوِيَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنْ بَيْعِ الْحَصَاةِ، وَعَنْ بَيْعِ الْغَرَرِ (2) وَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي تَفْسِيرِهِ.
2 - فَقَال الْحَنَفِيَّةُ: هُوَ: أَنْ يُلْقِيَ حَصَاةً، وَثَمَّةَ أَثْوَابٌ، فَأَيُّ ثَوْبٍ وَقَعَ عَلَيْهِ كَانَ هُوَ الْمَبِيعَ بِلاَ تَأَمُّلٍ وَلاَ رَوِيَّةٍ، وَلاَ خِيَارَ بَعْدَ ذَلِكَ (3) .
وَهَذَا التَّفْسِيرُ لِلْحَدِيثِ، ذَكَرَهُ جَمِيعُ فُقَهَاءِ الْمَذَاهِبِ:
أ - فَالْمَالِكِيَّةُ قَالُوا: هُوَ بَيْعٌ مُلْزِمٌ عَلَى مَا تَقَعُ عَلَيْهِ الْحَصَاةُ مِنَ الثِّيَابِ - مَثَلاً - بِلاَ قَصْدٍ مِنَ الرَّامِي
__________
(1) لسان العرب مادة " حصى "
(2) حديث: " نهى عن بيع الحصاة، وعن بيع الغرر. . . . " أخرجه مسلم (2 / 1153 ط الحلبي)
(3) رد المحتار 4 / 109، وتبيين الحقائق 4 / 48، وفتح القدير 6 / 55

(9/88)


لِشَيْءٍ مُعَيَّنٍ، وَقَيَّدَهُ الدَّرْدِيرُ بِاخْتِلاَفِ السِّلَعِ أَوِ الثِّيَابِ (1) .
ب - وَالشَّافِعِيَّةُ قَالُوا فِي التَّفْسِيرِ: بِعْتُكَ مِنْ هَذِهِ الأَْثْوَابِ مَا تَقَعُ عَلَيْهِ الْحَصَاةُ (2) .
ج - وَالْحَنَابِلَةُ قَالُوا فِي التَّفْسِيرِ: أَنْ يَقُول الْبَائِعُ: ارْمِ هَذِهِ الْحَصَاةَ، فَعَلَى أَيِّ ثَوْبٍ وَقَعَتْ فَهُوَ لَكَ بِكَذَا (3) .
وَلاَ فَرْقَ بَيْنَ رَمْيِ الْبَائِعِ وَالْمُشْتَرِي، كَمَا يَقُول عَمِيرَةُ الْبُرُلُّسِيُّ (4) .
3 - وَهُنَاكَ تَفْسِيرٌ ثَانٍ لِهَذَا النَّوْعِ مِنَ الْبَيْعِ، وَهُوَ: أَنْ يَقُول الْبَائِعُ لِلْمُشْتَرِي: بِعْتُكَ مِنْ هَذِهِ الأَْرْضِ مِنْ مَحَل وُقُوفِي أَوْ وُقُوفِ فُلاَنٍ إِلَى مَا تَنْتَهِي إِلَيْهِ رَمْيَةُ هَذِهِ الْحَصَاةِ بِكَذَا. نَصَّ عَلَى هَذَا التَّفْسِيرِ الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ، وَقَيَّدَهُ الأَْوَّلُونَ، بِأَنْ يَقَعَ الْبَيْعُ عَلَى اللُّزُومِ (5) .
4 - وَفِي تَفْسِيرٍ آخَرَ لِلشَّافِعِيَّةِ، أَنْ يَقُول الْبَائِعُ: إِذَا رَمَيْتَ هَذِهِ الْحَصَاةَ، فَهَذَا الثَّوْبُ مَبِيعٌ مِنْكَ بِعَشَرَةٍ، أَيْ يَجْعَل الرَّمْيَ صِيغَةَ الْبَيْعِ (6) .
__________
(1) الشرح الكبير للدردير بحاشية الدسوقي عليه 3 / 57
(2) شرح المحلي على المنهاج 2 / 176
(3) كشاف القناع 3 / 167، والشرح الكبير في ذيل المغني 4 / 28 و 29
(4) حاشية عميرة على شرح المحلي 2 / 177
(5) الشرح الكبير للدردير وحاشية الدسوقي عليه 3 / 56، وكشاف القناع 3 / 197، والشرح الكبير في ذيل المغني 4 / 29
(6) شرح المحلي على المنهاج 2 / 176 و 177

(9/88)


5 - وَفِي تَفْسِيرٍ رَابِعٍ لِلْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ أَنْ يَقُول الْبَائِعُ لِلْمُشْتَرِي: بِعْتُكَ هَذَا بِكَذَا، عَلَى أَنِّي مَتَى رَمَيْتَ هَذِهِ الْحَصَاةَ وَجَبَ الْبَيْعُ وَلَزِمَ (1) .
6 - وَطَرَحَ الْمَالِكِيَّةُ تَفْسِيرًا خَامِسًا:
أ - أَنْ يَقُول الْبَائِعُ لِلْمُشْتَرِي: ارْمِ بِالْحَصَاةِ فَمَا خَرَجَ وَوُجِدَ مِنْ أَجْزَاءِ تِلْكَ الْحَصَاةِ الَّتِي تَكَسَّرَتْ كَانَ لِي بِعَدَدِهِ دَنَانِيرُ أَوْ دَرَاهِمُ.
ب - أَوْ يَقُول الْمُشْتَرِي لِلْبَائِعِ: ارْمِ بِالْحَصَاةِ فَمَا خَرَجَ مِنْ أَجْزَائِهَا الْمُتَفَرِّقَةِ حَال رَمْيِهَا، كَانَ لَكَ بِعَدَدِهِ دَنَانِيرُ أَوْ دَرَاهِمُ.
ج - وَيُحْتَمَل أَيْضًا عِنْدَهُمْ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِالْحَصَاةِ الْجِنْسَ، أَيْ يَقُول الْبَائِعُ لِلْمُشْتَرِي: خُذْ جُمْلَةً مِنَ الْحَصَى، فِي كَفِّكَ أَوْ كَفَّيْكَ، وَحَرِّكْهُ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ - مَثَلاً - فَمَا وَقَعَ فَلِي بِعَدَدِهِ دَرَاهِمُ أَوْ دَنَانِيرُ (2) .
وَلاَ يَخْتَلِفُ الْفُقَهَاءُ فِي فَسَادِ هَذَا الْبَيْعِ بِهَذِهِ الصُّوَرِ الْمُفَسِّرَةِ لِلْحَدِيثِ كُلِّهَا، وَقَدْ وَضَعُوا إِزَاءَ كُل صُورَةٍ مَا يُشِيرُ إِلَى وَجْهِ الْفَسَادِ فِيهَا.
7 - فَفِي الصُّورَةِ الأُْولَى: عَلَّل الْحَنَفِيَّةُ الْفَسَادَ فِيهَا بِمَا فِيهَا مِنَ الْجَهَالَةِ، وَتَعْلِيقِ التَّمْلِيكِ
__________
(1) الشرح الكبير بحاشية الدسوقي عليه 3 / 56، والقوانين الفقهية 170، وشرح المحلي على المنهاج 2 / 176 و 177، وكشاف القناع 3 / 167
(2) الشرح الكبير للدردير وحاشية الدسوقي عليه 3 / 57.

(9/89)


بِالْخَطَرِ، لأَِنَّهَا فِي مَعْنَى: إِذَا وَقَعَ حَجَرِي عَلَى ثَوْبٍ فَقَدْ بِعْتُهُ مِنْكَ، أَوْ بِعْتَنِيهِ بِكَذَا، وَالتَّمْلِيكَاتُ لاَ تَحْتَمِلُهُ، لأَِدَائِهِ إِلَى مَعْنَى الْقِمَارِ (1) .
وَيُقَرِّرُ الْحَنَفِيَّةُ أَنَّ الْفَسَادَ لِهَذَا الْمَعْنَى مَشْرُوطٌ بِسَبْقِ ذِكْرِ الثَّمَنِ، فَإِنْ لَمْ يَذْكُرِ الثَّمَنَ فِي هَذَا الْبَيْعِ، كَانَ الْفَسَادُ لِعَدَمِ ذِكْرِ الثَّمَنِ، إِنْ سَكَتَ عَنْهُ. لأَِنَّ الْمُقَرَّرَ عِنْدَهُمْ: أَنَّ الْبَيْعَ مَعَ نَفْيِ الثَّمَنِ بَاطِلٌ، وَمَعَ السُّكُوتِ عَنْهُ فَاسِدٌ (2) .
وَكَذَلِكَ عَلَّل الْمَالِكِيَّةُ الْفَسَادَ فِيهَا، بِالْجَهْل بِعَيْنِ الْمَبِيعِ، لَكِنَّهُمْ شَرَطُوا كَمَا رَأَيْنَا - عِلاَوَةً عَلَى اخْتِلاَفِ السِّلَعِ، عَدَمَ قَصْدِ الرَّامِي لِشَيْءٍ مُعَيَّنٍ مِنْهَا، أَمَّا لَوْ كَانَ الرَّمْيُ بِقَصْدٍ جَازَ، إِنْ كَانَ الرَّمْيُ مِنَ الْمُشْتَرِي، أَوْ كَانَ مِنَ الْبَائِعِ، وَجُعِل الْخِيَارُ لِلْمُشْتَرِي.
كَمَا أَنَّهُ لَوِ اتَّفَقَتِ السِّلَعُ، جَازَ الْبَيْعُ، سَوَاءٌ أَكَانَ وُقُوعُ الْحَصَاةِ بِقَصْدٍ أَمْ بِغَيْرِهِ (3) .
8 - وَفِي الصُّورَةِ الثَّانِيَةِ، وَهِيَ بَيْعُ قَدْرٍ مِنَ الأَْرْضِ، مِنْ حَيْثُ يَقِفُ الرَّامِي إِلَى مَا تَنْتَهِي إِلَيْهِ رَمْيَةُ الْحَصَاةِ، فَالْفَسَادُ لِلْجَهْل بِمِقْدَارِ الْمَبِيعِ، لاِخْتِلاَفِ الرَّمْيِ كَمَا عَلَّلَهُ الْمَالِكِيَّةُ،
__________
(1) فتح القدير والعناية على الهداية 6 / 55، وانظر رد المحتار 4 / 109
(2) انظر الدر المختار ومراجعه التي عزا إليها، ورد المحتار 4 / 109
(3) الشرح الكبير للدردير بحاشية الدسوقي عليه 3 / 57

(9/89)


وَقَرَّرُوا أَنَّ مَحَل الْفَسَادِ بِشَرْطِ أَنْ يَقَعَ الْبَيْعُ عَلَى اللُّزُومِ (1) .
9 - وَفِي الصُّورَةِ الثَّالِثَةِ، الَّتِي ذَكَرَهَا الشَّافِعِيَّةُ: عَلَّلُوا فَسَادَهَا بِعَدَمِ وُجُودِ صِيغَةِ الْبَيْعِ، إِذْ جَعَل الرَّمْيَ لِلْحَصَاةِ بَيْعًا، اكْتِفَاءً بِهِ عَنِ الصِّيغَةِ (2) .
10 - وَفِي الصُّورَةِ الرَّابِعَةِ، وَهِيَ لُزُومُ الْبَيْعِ بِوُقُوعِ الْحَصَاةِ، مِنْ أَحَدِ الْمُتَبَايِعَيْنِ أَوْ مِنْ غَيْرِهِمَا: الْفَسَادُ لِتَعْلِيقِ لُزُومِ الْبَيْعِ عَلَى السُّقُوطِ فِي زَمَنٍ غَيْرِ مُعَيَّنٍ، فَالْبَيْعُ فَاسِدٌ لِلْجَهْل بِزَمَنِ وُقُوعِهَا، فَفِيهِ تَأْجِيلٌ بِأَجَلٍ مَجْهُولٍ - كَمَا يَقُول الْمَالِكِيَّةُ (3) - أَوْ جَهْلٌ بِزَمَنِ الْخِيَارِ، كَمَا يَقُول الشَّافِعِيَّةُ (4) .
أَمَّا لَوْ عَيَّنَ لِوُقُوعِهَا بِاخْتِيَارِهِ أَجَلاً مَعْلُومًا، وَكَانَ الأَْجَل قَدْرَ زَمَنِ الْخِيَارِ، وَهُوَ فِي كُل شَيْءٍ بِحَسَبِهِ - كَمَا يَقُول الْعَدَوِيُّ - كَمَا لَوْ قَال: إِنْ وَقَعَتِ الْحَصَاةُ مِنْ طُلُوعِ الشَّمْسِ إِلَى الظُّهْرِ، أَوْ مِنَ الْيَوْمِ إِلَى غَدٍ، قَصْدًا، كَانَ الْبَيْعُ لاَزِمًا وَلاَ يَفْسُدُ (5) .
11 - وَفِي الصُّورَةِ الْخَامِسَةِ الَّتِي طَرَحَهَا الْمَالِكِيَّةُ، وَهِيَ الْبَيْعُ بِعَدَدِ مَا يَتَنَاثَرُ مِنَ الْحَصَى، دَرَاهِمَ أَوْ
__________
(1) الدسوقي 3 / 56
(2) شرح المحلي على المنهاج 2 / 167 و 177
(3) الشرح الكبير للدردير بحاشية الدسوقي عليه 3 / 56
(4) شرح المحلي على المنهاج 2 / 177
(5) شرح الخرشي وحاشية العدوي عليه 5 / 71

(9/90)


دَنَانِيرَ: فَسَادُ الْبَيْعِ لِلْجَهْل بِمِقْدَارِ الثَّمَنِ، إِذْ لاَ يُعْلَمُ قَدْرُ الْمُتَنَاثَرِ مِنَ الْحَصَى.
فَلاَ خِلاَفَ إِذًا فِي فَسَادِ الْبَيْعِ بِالْحَصَاةِ، بِالْقُيُودِ الَّتِي ذُكِرَتْ فِي الصُّوَرِ كُلِّهَا وَتَعْلِيلاَتِهَا.
وَفِي هَذَا يَقُول ابْنُ قُدَامَةَ: وَكُل هَذِهِ الْبُيُوعُ فَاسِدَةٌ، لِمَا فِيهَا مِنَ الْغَرَرِ وَالْجَهْل، وَلاَ نَعْلَمُ فِيهِ خِلاَفًا.

بَيْعُ السَّلَمِ

انْظُرْ: سَلَم

بَيْعُ الصَّرْفِ

انْظُرْ: صَرْف

(9/90)


بَيْعُ الْعَرَايَا

التَّعْرِيفُ:
1 - الْعَرَايَا: جَمْعُ عَرِيَّةٍ، وَهِيَ: النَّخْلَةُ يُعْرِيهَا صَاحِبُهَا رَجُلاً مُحْتَاجًا، فَيَجْعَل لَهُ ثَمَرَهَا عَامَهَا، فَيَعْرُوهَا، أَيْ يَأْتِيهَا، فَعِيلَةٌ بِمَعْنَى مَفْعُولَةٍ، وَدَخَلَتِ الْهَاءُ عَلَيْهَا، لأَِنَّهُ ذُهِبَ بِهَا مَذْهَبَ الأَْسْمَاءِ، مِثْل النَّطِيحَةِ وَالأَْكِيلَةِ، فَإِذَا جِيءَ بِهَا مَعَ النَّخْلَةِ حُذِفَتِ الْهَاءُ، وَقِيل: نَخْلَةٌ عَرِيٌّ، كَمَا يُقَال: امْرَأَةٌ قَتِيلٌ، وَالْجَمْعُ: الْعَرَايَا (1)
قَال فِي الْفَتْحِ: هِيَ فِي الأَْصْل عَطِيَّةُ ثَمَرِ النَّخْل دُونَ الرَّقَبَةِ: كَانَتِ الْعَرَبُ فِي الْجَدْبِ تَتَطَوَّعُ بِذَلِكَ عَلَى مَنْ لاَ ثَمَرَ لَهُ (2) .
وَعَرَّفَهَا الشَّافِعِيَّةُ اصْطِلاَحًا: بِأَنَّهَا بَيْعُ الرُّطَبِ عَلَى النَّخْل بِتَمْرٍ فِي الأَْرْضِ، أَوِ الْعِنَبِ فِي الشَّجَرِ بِزَبِيبٍ، فِيمَا دُونَ خَمْسَةِ أَوْسُقٍ (3) .
وَعَرَّفَهَا الْحَنَابِلَةُ بِأَنَّهَا: بَيْعُ الرُّطَبِ فِي رُءُوسِ
__________
(1) المصباح المنير مادة " عرو "
(2) نيل الأوطار 5 / 200
(3) شرح المحلي على المنهاج 2 / 238، وتحفة المحتاج 4 / 472

(9/91)


النَّخْل خَرْصًا، بِمَالِهِ يَابِسًا، بِمِثْلِهِ مِنَ التَّمْرِ، كَيْلاً مَعْلُومًا لاَ جُزَافًا (1) .

حُكْمُهَا:
2 - بَيْعُ الْعَرَايَا جَائِزٌ فِي الْجُمْلَةِ، عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ: مَالِكٍ، وَالشَّافِعِيِّ، وَأَحْمَدَ، وَإِسْحَاقَ، وَابْنِ الْمُنْذِرِ (2) ، لَكِنَّ التَّحْقِيقَ أَنَّ مَالِكًا لَيْسَ مَعَهُمْ (3) .
وَاسْتَدَل الْجُمْهُورُ الْمُجِيزُونَ بِمَا يَلِي:
أ - بِحَدِيثِ سَهْل بْنِ أَبِي حَثْمَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنْ بَيْعِ التَّمْرِ بِالتَّمْرِ، وَرَخَّصَ فِي الْعَرِيَّةِ، أَنْ تُبَاعَ بِخَرْصِهَا، يَأْكُلُهَا أَهْلُهَا رُطَبًا (4)
قَال ابْنُ قُدَامَةَ: وَالرُّخْصَةُ: اسْتِبَاحَةُ الْمَحْظُورِ مَعَ وُجُودِ السَّبَبِ الْحَاظِرِ، فَلَوْ مُنِعَ مَعَ وُجُودِ السَّبَبِ مِنَ الاِسْتِبَاحَةِ، لَمْ يُبْقِ لَنَا رُخْصَةً بِحَالٍ (5) .
ب - وَبِحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ
__________
(1) كشاف القناع 3 / 258، 259، والشرح الكبير في ذيل المغني 4 / 152
(2) الشرح الكبير في ذيل المغني 4 / 152
(3) فتح القدير 6 / 54
(4) حديث سهل بن أبي حثْمة: " نهى عن بيع التمر بالتمر، ورخص في العرية. . . " أخرجه البخاري (الفتح 4 / 387 ط السلفية) ، ومسلم (2 / 1170 ط الحلبي)
(5) المغني 4 / 182، وانظر الشرح الكبير في ذيله 4 / 152

(9/91)


النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَخَّصَ فِي بَيْعِ الْعَرَايَا، فِي خَمْسَةِ أَوْسُقٍ، أَوْ دُونَ خَمْسَةِ أَوْسُقٍ (1) .
قَال الْمَحَلِّيُّ - مِنَ الشَّافِعِيَّةِ -: شَكَّ دَاوُدُ بْنُ الْحُصَيْنِ أَحَدُ رُوَاتِهِ، فَأَخَذَ الشَّافِعِيُّ بِالأَْقَل، فِي أَظْهَرِ قَوْلَيْهِ (2) .
3 - وَالْحَنَفِيَّةُ - وَكَذَا مَالِكٌ فِي التَّحْقِيقِ - لَمْ يَسْتَجِيزُوا، بَيْعَ الْعَرَايَا، وَذَلِكَ: لِلنَّهْيِ عَنِ الْمُزَابَنَةِ، وَهِيَ: بَيْعُ التَّمْرِ عَلَى رَأْسِ النَّخْل بِتَمْرٍ مَجْدُودٍ مِثْل كَيْلِهِ خَرْصًا (3)
وَلِلْحَدِيثِ الصَّحِيحِ الْمَعْرُوفِ عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ -. قَال: قَال رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: الذَّهَبُ بِالذَّهَبِ، وَالْفِضَّةُ بِالْفِضَّةِ، وَالْبُرُّ بِالْبُرِّ، وَالشَّعِيرُ بِالشَّعِيرِ، وَالتَّمْرُ بِالتَّمْرِ، وَالْمِلْحُ بِالْمِلْحِ، مِثْلاً بِمِثْلٍ، سَوَاءً بِسَوَاءٍ، يَدًا بِيَدٍ، فَإِذَا اخْتَلَفَتْ هَذِهِ الأَْصْنَافُ فَبِيعُوا كَيْفَ شِئْتُمْ، إِذَا كَانَ يَدًا بِيَدٍ (4) .
وَفِي بَعْضِ رِوَايَاتِهِ: فَمَنْ زَادَ أَوِ اسْتَزَادَ، فَقَدْ أَرْبَى، الآْخِذُ وَالْمُعْطِي فِيهِ سَوَاءٌ (5) .
__________
(1) حديث أبي هريرة: " رخص في بيع العرايا " أخرجه البخاري (4 / 387 الفتح ط السلفية) ، ومسلم (2 / 1171 ط الحلبي)
(2) شرح المحلي على المنهاج 2 / 238
(3) ابن عابدين 4 / 109، والقليوبي 2 / 238
(4) حديث عبادة بن الصامت: " الذهب بالذهب والفضة بالفضة. . . ". أخرجه مسلم (2 / 1211 ط الحلبي)
(5) رواية: " فمن زاد أو استزاد، فقد أربى، الآخذ والمعطي فيه سواء ". المصدر السابق

(9/92)


فَهَذِهِ النُّصُوصُ، وَأَمْثَالُهَا لاَ تُحْصَى، كُلُّهَا مَشْهُورَةٌ، وَتَلَقَّتْهَا الأُْمَّةُ بِالْقَبُول، فَلاَ يَجُوزُ تَرْكُهَا وَلاَ الْعَمَل بِمَا يُخَالِفُهَا، وَهَذَا لأَِنَّ الْمُسَاوَاةَ وَاجِبَةٌ بِالنَّصِّ، وَالتَّفَاضُل مُحَرَّمٌ بِهِ، وَكَذَا التَّفَرُّقُ قَبْل قَبْضِ الْبَدَلَيْنِ، فَلاَ يَجُوزُ أَنْ يُبَاعَ جُزَافًا، وَلاَ إِذَا كَانَ أَحَدُهُمَا مُتَأَخِّرًا، كَمَا لَوْ كَانَ أَكْثَرَ مِنْ خَمْسَةِ أَوْسُقٍ.
وَهَذَا لأَِنَّ احْتِمَال التَّفَاضُل ثَابِتٌ، فَصَارَ كَمَا لَوْ تَفَاضَلاَ بِيَقِينٍ، أَوْ كَانَا مَوْضُوعَيْنِ فِي الأَْرْضِ (1) .
4 - وَمَعْنَى الْعَرَايَا، وَتَأْوِيلُهَا عِنْدَ الْمَانِعِينَ فِيمَا ذُكِرَ مِنَ الأَْحَادِيثِ:
أ - أَنْ يَكُونَ لِلرَّجُل النَّخْلَةُ أَوِ النَّخْلَتَانِ، فِي وَسَطِ النَّخْل الْكَثِيرِ لِرَجُلٍ، وَكَانَ أَهْل الْمَدِينَةِ إِذَا كَانَ وَقْتُ الثِّمَارِ، خَرَجُوا بِأَهْلِيهِمْ إِلَى حَوَائِطِهِمْ، فَيَجِيءُ صَاحِبُ النَّخْلَةِ أَوِ النَّخْلَتَيْنِ، فَيَضُرُّ ذَلِكَ بِصَاحِبِ النَّخْل الْكَثِيرِ، فَرَخَّصَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِصَاحِبِ الْكَثِيرِ أَنْ يُعْطِيَهُ خَرْصَ مَا لَهُ مِنْ ذَلِكَ تَمْرًا، لِيَنْصَرِفَ هُوَ وَأَهْلُهُ عَنْهُ، رُوِيَ هَذَا عَنْ مَالِكٍ (2) .
ب - وَمَا رُوِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ، أَنَّهُ قَال: مَعْنَى ذَلِكَ عِنْدَنَا: أَنْ يُعْرِي الرَّجُل الرَّجُل نَخْلَةً مِنْ نَخْلِهِ، فَلاَ يُسَلِّمُ ذَلِكَ إِلَيْهِ حَتَّى يَبْدُوَ لَهُ،
__________
(1) تبيين الحقائق 4 / 47، 48 بتصرف
(2) انظر فتح القدير 6 / 54، وانظر نيل الأوطار 5 / 200، 201

(9/92)


فَرَخَّصَ لَهُ أَنْ يَحْبِسَ ذَلِكَ، وَيُعْطِيَهُ مَكَانَهُ بِخَرْصِهِ تَمْرًا مَجْذُوذًا بِالْخَرْصِ بَدَلَهُ (1) .
وَهُوَ جَائِزٌ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ - كَمَا قَالُوا - لأَِنَّ الْمَوْهُوبَ لَهُ، لَمْ يَمْلِكِ الثَّمَرَةَ لِعَدَمِ الْقَبْضِ، فَصَارَ بَائِعًا مِلْكَهُ بِمِلْكِهِ، وَهُوَ جَائِزٌ لاَ بِطَرِيقِ الْمُعَاوَضَةِ، وَإِنَّمَا هُوَ هِبَةٌ مُبْتَدَأَةٌ، وَسُمِّيَ ذَلِكَ بَيْعًا مَجَازًا، لأَِنَّهُ لَمْ يَمْلِكْهُ، فَيَكُونُ بِرًّا مُبْتَدَأً. كَمَا يَقُول الْمَرْغِينَانِيُّ (2) .
5 - وَقَدْ شَرَطَ الْحَنَابِلَةُ شُرُوطًا جَمَّةً لِجَوَازِ بَيْعِ الْعَرَايَا، وَوَافَقَهُمُ الشَّافِعِيَّةُ عَلَى بَعْضِهَا (3) .
وَلاِسْتِكْمَال شُرُوطِ الْعَرَايَا، وَأَحْكَامِهَا، وَصُوَرِهَا. رَاجِعْ مُصْطَلَحِ (عرايا) .
__________
(1) فتح القدير 6 / 54. واستوجه هذا التأويل الطحاوي، واستدل بشعر العرب. وانظر ما ذكره الكمال في الموضع
(2) الهداية مع فتح القدير 6 / 54، وتبيين الحقائق 4 / 48 ونيل الأوطار 5 / 200، 201
(3) الشرح الكبير مع المغني 4 / 152 - 155، والمغني 4 / 182 - 185، وكشاف القناع 3 / 258 - 259، وشرح المحلي على المنهاج 2 / 238 - 239، وتحفة المحتاج 4 / 472 - 473

(9/93)


بَيْعُ الْعَرَبُونِ

التَّعْرِيفُ:
1 - الْعَرَبُونُ بِفَتْحَتَيْنِ كَحَلَزُونٍ، وَالْعُرْبُونُ وِزَانُ عُصْفُورٍ، لُغَةٌ فِيهِ. وَالْعُرْبَانُ بِالضَّمِّ لُغَةٌ ثَالِثَةٌ (1) ، بِوَزْنِ الْقُرْبَانِ (2) . وَأَمَّا الْفَتْحُ مَعَ الإِْسْكَانِ فَلَحْنٌ لَمْ تَتَكَلَّمْ بِهِ الْعَرَبُ (3) .
وَهُوَ مُعَرَّبٌ (4) . وَفَسَّرُوهُ لُغَةً: بِمَا عُقِدَ بِهِ الْبَيْعُ (5) .
وَفِي الاِصْطِلاَحِ الْفِقْهِيِّ: أَنْ يَشْتَرِيَ السِّلْعَةَ، وَيَدْفَعَ إِلَى الْبَائِعِ دِرْهَمًا أَوْ أَكْثَرَ، عَلَى أَنَّهُ إِنْ أَخَذَ السِّلْعَةَ، احْتَسَبَ بِهِ مِنَ الثَّمَنِ، وَإِنْ لَمْ يَأْخُذْهَا فَهُوَ لِلْبَائِعِ (6) .
__________
(1) المصباح المنير مادة: " عرب "
(2) مختار الصحاح مادة: " عرب "
(3) حاشية القليوبي على شرح المحلي 2 / 186
(4) تحفة المحتاج 4 / 322
(5) القاموس المحيط مادة: " عربون " باب النون فصل العين. فنونه أصلية. كما نص عليه الفيومي
(6) الشرح الكبير في ذيل المغني 4 / 58، وانظر كشاف القناع 3 / 195، وقارن بالشرح الكبير للدردير 3 / 63، وشرح المحلي على المنهاج 2 / 186، وتحفة المحتاج 4 / 322 وبالتعريف الذي في المصباح المنير في المادة المذكورة نفسها

(9/93)


الْحُكْمُ الإِْجْمَالِيُّ:
2 - وَالْفُقَهَاءُ مُخْتَلِفُونَ فِي حُكْمِ هَذَا الْبَيْعِ:
(أ) فَجُمْهُورُهُمْ، مِنَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ، وَأَبُو الْخَطَّابِ مِنَ الْحَنَابِلَةِ، يَرَوْنَ أَنَّهُ لاَ يَصِحُّ، وَهُوَ الْمَرْوِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا وَالْحَسَنِ كَمَا يَقُول ابْنُ قُدَامَةَ، وَذَلِكَ: لِلنَّهْيِ عَنْهُ فِي حَدِيثِ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ، قَال: نَهَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ بَيْعِ الْعُرْبَانِ (1)
وَلأَِنَّهُ مِنْ أَكْل أَمْوَال النَّاسِ بِالْبَاطِل، وَفِيهِ غَرَرٌ (2) ، وَلأَِنَّ فِيهِ شَرْطَيْنِ مُفْسِدَيْنِ: شَرْطَ الْهِبَةِ لِلْعُرْبُونِ، وَشَرْطَ رَدِّ الْمَبِيعِ بِتَقْدِيرِ أَنْ لاَ يَرْضَى (3) .
وَلأَِنَّهُ شَرَطَ لِلْبَائِعِ شَيْئًا بِغَيْرِ عِوَضٍ، فَلَمْ يَصِحَّ، كَمَا لَوْ شَرَطَهُ لأَِجْنَبِيٍّ (4) .
وَلأَِنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الْخِيَارِ الْمَجْهُول، فَإِنَّهُ اشْتَرَطَ أَنَّ لَهُ رَدَّ الْمَبِيعِ مِنْ غَيْرِ ذِكْرِ مُدَّةٍ، فَلَمْ يَصِحَّ، كَمَا لَوْ قَال: وَلِي الْخِيَارُ، مَتَى شِئْتُ رَدَدْتُ السِّلْعَةَ، وَمَعَهَا دِرْهَمٌ (5) .
__________
(1) حديث: " نهى عن بيع العربان. . . ". أخرجه أبو داود (3 / 768 ط عزت عبيد دعاس) . وضعفه ابن حجر في التلخيص (3 / 17 شركة الطباعة الفنية)
(2) شرح الخرشي بحاشية العدوي عليه 5 / 78
(3) شرح المنهج وحاشية الجمل عليه 3 / 72، وتحفة المحتاج 4 / 322، وشرح المحلي على المنهاج 2 / 186، وانظر نيل الأوطار 5 / 154
(4) الشرح الكبير في ذيل المغني 4 / 58
(5) المرجع السابق 4 / 58، 59

(9/94)


3 - (ب) وَمَذْهَبُ الْحَنَابِلَةِ جَوَازُ هَذِهِ الصُّورَةِ مِنَ الْبُيُوعِ.
وَصَرَّحُوا بِأَنَّ مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الأَْئِمَّةُ مِنْ عَدَمِ الْجَوَازِ، هُوَ الْقِيَاسُ، لَكِنْ قَالُوا: وَإِنَّمَا صَارَ أَحْمَدُ فِيهِ إِلَى مَا رُوِيَ عَنْ نَافِعِ بْنِ الْحَارِثِ، أَنَّهُ اشْتَرَى لِعُمَرَ دَارَ السِّجْنِ مِنْ صَفْوَانَ بْنِ أُمَيَّةَ، فَإِنْ رَضِيَ عُمَرُ، وَإِلاَّ فَلَهُ كَذَا وَكَذَا، قَال الأَْثْرَمُ: قُلْتُ لأَِحْمَدَ: تَذْهَبُ إِلَيْهِ؟ قَال: أَيَّ شَيْءٍ أَقُول؟ هَذَا عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ.
وَضَعَّفَ الْحَدِيثَ الْمَرْوِيَّ عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ فِي النَّهْيِ عَنْهُ (1) . لَكِنْ قَرَّرَ الشَّوْكَانِيُّ أَرْجَحِيَّةَ مَذْهَبِ الْجُمْهُورِ؛ لأَِنَّ حَدِيثَ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ قَدْ وَرَدَ مِنْ طُرُقٍ يُقَوِّي بَعْضُهَا بَعْضًا، وَلأَِنَّهُ يَتَضَمَّنُ الْحَظْرَ، وَهُوَ أَرْجَحُ مِنَ الإِْبَاحَةِ، كَمَا تَقَرَّرَ فِي الأُْصُول (2) .

مِنْ أَهَمِّ الأَْحْكَامِ فِي بَيْعِ الْعُرْبُونِ:
4 - أَنَّ الْمُشْتَرِيَ إِنْ أَعْطَى الْعُرْبُونَ عَلَى أَنَّهُ: إِنْ كَرِهَ الْبَيْعَ، أَخَذَهُ وَاسْتَرَدَّهُ، وَإِلاَّ حَاسَبَ بِهِ، جَازَ كَمَا يَقُول الْمَالِكِيَّةُ (3) .
5 - وَأَنَّ هَذَا الْبَيْعَ يُفْسَخُ عِنْدَهُمْ، فَإِنْ فَاتَ (أَيْ تَعَذَّرَ الْفَسْخُ) أَمْضَى الْبَيْعَ بِالْقِيمَةِ (4) .
__________
(1) المرجع السابق 4 / 59
(2) نيل الأوطار 5 / 153 و 154
(3) الشرح الكبير للدردير 3 / 63، وانظر القوانين الفقهية ص 171
(4) الشرح الكبير للدردير 3 / 63

(9/94)


6 - إِنْ دَفَعَ الْمُشْتَرِي إِلَى الْبَائِعِ دِرْهَمًا، وَقَال: لاَ تَبِعْ هَذِهِ السِّلْعَةَ لِغَيْرِي، وَإِنْ لَمْ أَشْتَرِهَا مِنْكَ فَهَذَا الدِّرْهَمُ لَكَ:
أفَإِنِ اشْتَرَاهَا بَعْدَ ذَلِكَ بِعَقْدٍ مُبْتَدَأٍ، وَاحْتَسَبَ الدِّرْهَمَ مِنَ الثَّمَنِ صَحَّ؛ لأَِنَّ الْبَيْعَ خَلاَ عَنِ الشَّرْطِ الْمُفْسِدِ.
وَيَحْتَمِل أَنَّ شِرَاءَ دَارِ السِّجْنِ مِنْ صَفْوَانَ بْنِ أُمَيَّةَ الَّذِي وَقَعَ لِعُمَرَ، كَانَ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ، فَيُحْمَل عَلَيْهِ، جَمْعًا بَيْنَ فِعْلِهِ وَبَيْنَ الْخَبَرِ وَمُوَافَقَةِ الْقِيَاسِ وَالأَْئِمَّةِ الْقَائِلِينَ بِفَسَادِ بَيْعِ الْعُرْبُونِ.
ب - وَإِنْ لَمْ يَشْتَرِ السِّلْعَةَ، لَمْ يَسْتَحِقَّ الْبَائِعُ الدِّرْهَمَ، لأَِنَّهُ يَأْخُذُهُ بِغَيْرِ عِوَضٍ، وَلِصَاحِبِهِ الرُّجُوعُ فِيهِ.
وَلاَ يَصِحُّ جَعْلُهُ عِوَضًا عَنِ انْتِظَارِهِ، وَتَأَخُّرِ بَيْعِهِ مِنْ أَجْلِهِ، لأَِنَّهُ لَوْ كَانَ عِوَضًا عَنْ ذَلِكَ، لَمَا جَازَ جَعْلُهُ مِنَ الثَّمَنِ فِي حَال الشِّرَاءِ، وَلأَِنَّ الاِنْتِظَارَ بِالْبَيْعِ لاَ تَجُوزُ الْمُعَاوَضَةُ عَنْهُ، وَلَوْ جَازَتْ لَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ مَعْلُومَ الْمِقْدَارِ، كَمَا فِي الإِْجَارَةِ (1) .

بَيْعُ الْعُهْدَةِ

انْظُرْ: بَيْعُ الْوَفَاءِ
__________
(1) الشرح الكبير في ذيل المغني 4 / 59

(9/95)


بَيْعُ الْعِينَةِ

التَّعْرِيفُ:
1 - الْعِينَةُ بِكَسْرِ الْعَيْنِ. مَعْنَاهَا فِي اللُّغَةِ: السَّلَفُ. يُقَال: اعْتَانَ الرَّجُل: إِذَا اشْتَرَى الشَّيْءَ بِالشَّيْءِ نَسِيئَةً (1) أَوِ اشْتَرَى بِنَسِيئَةٍ - كَمَا يَقُول الرَّازِيُّ (2) .
وَقِيل: لِهَذَا الْبَيْعِ عِينَةٌ؛ لأَِنَّ مُشْتَرِيَ السِّلْعَةِ إِلَى أَجَلٍ يَأْخُذُ بَدَلَهَا (أَيْ مِنَ الْبَائِعِ) عَيْنًا، أَيْ نَقْدًا حَاضِرًا (3)
وَالْكَمَال بْنُ الْهُمَامِ يَرَى أَنَّهُ سُمِّيَ بَيْعَ الْعِينَةِ: لأَِنَّهُ مِنَ الْعَيْنِ الْمُسْتَرْجَعَةِ (4) .
وَاسْتَحْسَنَ الدُّسُوقِيُّ أَنْ يُقَال: إِنَّمَا سُمِّيَتْ عِينَةً، لإِِعَانَةِ أَهْلِهَا لِلْمُضْطَرِّ عَلَى تَحْصِيل مَطْلُوبِهِ، عَلَى وَجْهِ التَّحَيُّل، بِدَفْعِ قَلِيلٍ فِي كَثِيرٍ (5) .
__________
(1) المصباح المنير مادة: " عين "
(2) مختار الصحاح مادة " عين "
(3) المصباح المنير في المادة نفسها، وكشاف القناع 3 / 186
(4) رد المحتار 4 / 279
(5) حاشية الدسوقي على الشرح الكبير للدردير 3 / 88

(9/95)


وَفِي الاِصْطِلاَحِ الْفِقْهِيِّ، عُرِّفَتْ بِتَعْرِيفَاتٍ:
أ - فَفِي رَدِّ الْمُحْتَارِ: هِيَ بَيْعُ الْعَيْنِ بِثَمَنٍ زَائِدٍ نَسِيئَةً، لِيَبِيعَهَا الْمُسْتَقْرِضُ بِثَمَنٍ حَاضِرٍ أَقَل، لِيَقْضِيَ دَيْنَهُ (1) .
ب - وَعَرَّفَهَا الرَّافِعِيُّ: بِأَنْ يَبِيعَ شَيْئًا مِنْ غَيْرِهِ بِثَمَنٍ مُؤَجَّلٍ، وَيُسَلِّمَهُ إِلَى الْمُشْتَرِي، ثُمَّ يَشْتَرِيَهُ بَائِعُهُ قَبْل قَبْضِ الثَّمَنِ بِثَمَنِ نَقْدٍ أَقَل مِنْ ذَلِكَ الْقَدْرِ (2) . وَقَرِيبٌ مِنْهُ تَعْرِيفُ الْحَنَابِلَةِ.
ج - وَعَرَّفَهَا الْمَالِكِيَّةُ كَمَا فِي الشَّرْحِ الْكَبِيرِ: بِأَنَّهَا بَيْعُ مَنْ طُلِبَتْ مِنْهُ سِلْعَةٌ قَبْل مِلْكِهِ إِيَّاهَا لِطَالِبِهَا بَعْدَ أَنْ يَشْتَرِيَهَا.
وَيُمْكِنُ تَعْرِيفُهَا - أَخْذًا مِمَّا يَأْتِي - بِأَنَّهَا: قَرْضٌ فِي صُورَةِ بَيْعٍ، لاِسْتِحْلاَل الْفَضْل.

صُورَتُهَا:
2 - لِلْعِينَةِ الْمَنْهِيِّ عَنْهَا تَفْسِيرَاتٌ أَشْهَرُهَا: أَنْ يَبِيعَ سِلْعَةً بِثَمَنٍ إِلَى أَجَلٍ مَعْلُومٍ، ثُمَّ يَشْتَرِيَهَا نَفْسَهَا نَقْدًا بِثَمَنٍ أَقَل، وَفِي نِهَايَةِ الأَْجَل يَدْفَعُ الْمُشْتَرِي الثَّمَنَ الأَْوَّل، وَالْفَرْقُ بَيْنَ الثَّمَنَيْنِ فَضْلٌ هُوَ رِبًا، لِلْبَائِعِ الأَْوَّل.
وَتَئُول الْعَمَلِيَّةُ إِلَى قَرْضِ عَشَرَةٍ، لِرَدِّ خَمْسَةَ عَشَرَ، وَالْبَيْعُ وَسِيلَةٌ صُورِيَّةٌ إِلَى الرِّبَا.
__________
(1) الدر المختار ورد المحتار 4 / 279
(2) نيل الأوطار 5 / 207

(9/96)


حُكْمُهَا:
3 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حُكْمِهَا بِهَذِهِ الصُّورَةِ: فَقَال أَبُو حَنِيفَةَ وَمَالِكٌ وَأَحْمَدُ: لاَ يَجُوزُ هَذَا الْبَيْعُ. وَقَال مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ: هَذَا الْبَيْعُ فِي قَلْبِي كَأَمْثَال الْجِبَال، اخْتَرَعَهُ أَكَلَةُ الرِّبَا (1) .
وَنُقِل عَنِ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - جَوَازُ الصُّورَةِ الْمَذْكُورَةِ (كَأَنَّهُ نَظَرَ إِلَى ظَاهِرِ الْعَقْدِ، وَتَوَافُرِ الرُّكْنِيَّةِ، فَلَمْ يَعْتَبِرِ النِّيَّةَ) .
وَفِي هَذَا اسْتَدَل لَهُ ابْنُ قُدَامَةَ مِنَ الْحَنَابِلَةِ بِأَنَّهُ ثَمَنٌ يَجُوزُ بَيْعُ السِّلْعَةِ بِهِ مِنْ غَيْرِ بَائِعِهَا، فَيَجُوزُ مِنْ بَائِعِهَا، كَمَا لَوْ بَاعَهَا بِثَمَنِ مِثْلِهَا (2) .
4 - وَعَلَّل الْمَالِكِيَّةُ عَدَمَ الْجَوَازِ بِأَنَّهُ سَلَفٌ جَرَّ نَفْعًا (3) .
وَوَجْهُ الرِّبَا فِيهِ - كَمَا يَقُول الزَّيْلَعِيُّ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ - أَنَّ الثَّمَنَ لَمْ يَدْخُل فِي ضَمَانِ الْبَائِعِ قَبْل قَبْضِهِ، فَإِذَا أَعَادَ إِلَيْهِ عَيْنَ مَالِهِ بِالصِّفَةِ الَّتِي خَرَجَ عَنْ مِلْكِهِ، وَصَارَ بَعْضُ الثَّمَنِ قِصَاصًا بِبَعْضٍ، بَقِيَ لَهُ عَلَيْهِ فَضْلٌ بِلاَ عِوَضٍ، فَكَانَ ذَلِكَ رِبْحَ مَا لَمْ يُضْمَنْ، وَهُوَ حَرَامٌ بِالنَّصِّ (4) .
5 - وَاسْتَدَل الْحَنَابِلَةُ عَلَى التَّحْرِيمِ بِالآْتِي:
أ - بِمَا رَوَى غُنْدَرُ عَنْ شُعْبَةَ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ السَّبِيعِيِّ، عَنِ امْرَأَتِهِ الْعَالِيَةِ،
__________
(1) القوانين الفقهية ص 171
(2) المغني 4 / 256
(3) الشرح الكبير للدردير 3 / 89
(4) رد المحتار 4 / 115

(9/96)


قَالَتْ: " دَخَلْتُ أَنَا وَأُمُّ وَلَدِ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ عَلَى عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، فَقَالَتْ أُمُّ وَلَدِ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ: إِنِّي بِعْتُ غُلاَمًا مِنْ زَيْدٍ، بِثَمَانِمِائَةِ دِرْهَمٍ إِلَى الْعَطَاءِ، ثُمَّ اشْتَرَيْتُهُ مِنْهُ بِسِتِّمِائَةِ دِرْهَمٍ نَقْدًا. فَقَالَتْ لَهَا: بِئْسَ مَا اشْتَرَيْتِ، وَبِئْسَ مَا شَرَيْتِ، أَبْلِغِي زَيْدًا: أَنَّ جِهَادَهُ مَعَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَطَل، إِلاَّ أَنْ يَتُوبَ (1) . قَالُوا: وَلاَ تَقُول مِثْل ذَلِكَ إِلاَّ تَوْقِيفًا.
ب - وَلأَِنَّهُ ذَرِيعَةٌ إِلَى الرِّبَا، لِيَسْتَبِيحَ بَيْعَ أَلْفٍ بِنَحْوِ خَمْسِمِائَةٍ إِلَى أَجَلٍ، وَالذَّرِيعَةُ مُعْتَبَرَةٌ فِي الشَّرْعِ، بِدَلِيل مَنْعِ الْقَاتِل مِنَ الإِْرْثِ (2) .
ج - وَبِمَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: إِذَا ضَنَّ النَّاسُ بِالدِّينَارِ وَالدِّرْهَمِ، وَتَبَايَعُوا بِالْعِينَةِ، وَاتَّبَعُوا أَذْنَابَ الْبَقَرِ، وَتَرَكُوا الْجِهَادَ فِي سَبِيل اللَّهِ، أَنْزَل اللَّهُ بِهِمْ بَلاَءً، فَلاَ يَرْفَعُهُ حَتَّى يُرَاجِعُوا دِينَهُمْ (3)
وَفِي رِوَايَةٍ: إِذَا تَبَايَعْتُمْ بِالْعِينَةِ، وَأَخَذْتُمْ
__________
(1) حديث عائشة: " أبلغني زيدا. . . . " أخرجه الدارقطني 3 / 52 ط المحاسن، وقال: أم محبة والعالية مجهولتان لا يحتج بهما، يعني بهما: الموجودتين في إسناده
(2) كشاف القناع 3 / 185، والمغني 4 / 257
(3) حديث: " إذا ضن الناس بالدينار والدرهم. . . ". أخرجه أحمد في مسنده 2 / 28 ط الميمنية، وصححه ابن القطان كما نقله عنه الزيلعي في نصب الراية 3 / 17 ط المجلس العلمي

(9/97)


أَذْنَابَ الْبَقَرِ، وَرَضِيتُمْ بِالزَّرْعِ، وَتَرَكْتُمُ الْجِهَادَ، سَلَّطَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ ذُلًّا، لاَ يَنْزِعُهُ حَتَّى تَرْجِعُوا إِلَى دِينِكُمْ. (1)

بَيْعُ الْغَرَرِ

انْظُرْ: غَرَر
__________
(1) حديث: " إذا تبايعتم بالعينة. . . " أخرجه أبو داود 3 / 740 ط عزت عبيد دعاس. وقال ابن حجر في بلوغ المرام 192 ط عبد الحميد أحمد حنفي: في إسناده مقال ثم ذكر الطريق المتقدم والتي بلفظ: " إذا ضن الناس. . . " وقال: رجاله ثقات

(9/97)


الْبَيْعُ الْفَاسِدُ

التَّعْرِيفُ:
1 - الْبَيْعُ: مُبَادَلَةُ الْمَال بِالْمَال، وَالْفَسَادُ: ضِدُّ الصَّلاَحِ.
وَالْبَيْعُ الْفَاسِدُ فِي الاِصْطِلاَحِ: مَا يَكُونُ مَشْرُوعًا أَصْلاً لاَ وَصْفًا. وَالْمُرَادُ بِالأَْصْل: الصِّيغَةُ، وَالْعَاقِدَانِ، وَالْمَعْقُودُ عَلَيْهِ. وَبِالْوَصْفِ: مَا عَدَا ذَلِكَ (1) .
وَهَذَا اصْطِلاَحُ الْحَنَفِيَّةِ الَّذِينَ يُفَرِّقُونَ بَيْنَ الْفَاسِدِ وَالْبَاطِل. فَالْبَيْعُ الْفَاسِدُ عِنْدَهُمْ مَرْتَبَةٌ بَيْنَ الْبَيْعِ الصَّحِيحِ وَالْبَيْعِ الْبَاطِل. وَلِهَذَا يُفِيدُ الْحُكْمَ، إِذَا اتَّصَل بِهِ الْقَبْضُ، لَكِنَّهُ مَطْلُوبُ التَّفَاسُخِ شَرْعًا (2) .
أَمَّا جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ فَالْفَاسِدُ وَالْبَاطِل عِنْدَهُمْ سِيَّانِ، فَكَمَا أَنَّ الْبَيْعَ الْبَاطِل لاَ يُفِيدُ الْحُكْمَ
__________
(1) المصباح المنير ومجلة الأحكام العدلية م 105، 109، وتبيين الحقائق 4 / 44، وفتح القدير 6 / 43
(2) تبيين الحقائق للزيلعي 4 / 44، وابن عابدين 4 / 100، والبدائع 5 / 299، وفتح القدير مع الهداية 6 / 42

(9/98)


فَكَذَلِكَ الْفَاسِدُ لاَ أَثَرَ لَهُ عِنْدَهُمْ (1) . وَهَذَا فِي الْجُمْلَةِ. إِلاَّ أَنَّ بَعْضَ الشَّافِعِيَّةِ وَافَقُوا الْحَنَفِيَّةَ فِي الْفَرْقِ بَيْنَ الْفَاسِدِ وَالْبَاطِل حَيْثُ قَالُوا: إِنْ رَجَعَ الْخَلَل إِلَى رُكْنِ الْعَقْدِ فَالْبَيْعُ بَاطِلٌ، وَإِنْ رَجَعَ إِلَى شَرْطِهِ فَفَاسِدٌ (2) .
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - الْبَيْعُ الصَّحِيحُ:
2 - الْبَيْعُ الصَّحِيحُ هُوَ: الْبَيْعُ الْمَشْرُوعُ بِأَصْلِهِ وَوَصْفِهِ، وَيُفِيدُ الْحُكْمَ بِنَفْسِهِ إِذَا خَلاَ عَنِ الْمَوَانِعِ. فَالْبَيْعُ الصَّحِيحُ يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ أَثَرُهُ، مِنْ حُصُول الْمِلْكِ وَالاِنْتِفَاعِ بِالْمَبِيعِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَلاَ يَحْتَاجُ إِلَى الْقَبْضِ. وَهَذَا مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ بَيْنَ الْمَذَاهِبِ (3) .

ب - (الْبَيْعُ الْبَاطِل:
3 - الْبَيْعُ الْبَاطِل: مَا لاَ يَكُونُ مَشْرُوعًا بِأَصْلِهِ وَلاَ بِوَصْفِهِ، فَلاَ يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ أَثَرٌ، وَلاَ تَحْصُل بِهِ فَائِدَةٌ، وَلاَ يُعْتَبَرُ مُنْعَقِدًا، فَلاَ حُكْمَ لَهُ أَصْلاً؛ لأَِنَّ الْحُكْمَ لِلْمَوْجُودِ، وَلاَ وُجُودَ لِهَذَا الْبَيْعِ شَرْعًا، وَإِنْ وُجِدَ مِنْ حَيْثُ الصُّورَةُ، كَالْبَيْعِ
__________
(1) الدسوقي 3 / 54، والأشباه للسيوطي ص 312، والمنثور للزركشي 3 / 7، والقواعد والفوائد الأصولية ص 110
(2) أسنى المطالب 2 / 171
(3) الزيلعي 4 / 44، وابن عابدين 4 / 100، ومنح الجليل 2 / 551، وروضة الناظر ص 31

(9/98)


الْوَاقِعِ مِنَ الطِّفْل وَالْمَجْنُونِ، وَكَبَيْعِ الْمَيْتَةِ وَالْحُرِّ، وَكُل مَا لاَ يُعْتَبَرُ مَالاً (1) .
(ر: بُطْلاَنُ، الْبَيْعِ الْبَاطِل) .

ج - الْبَيْعُ الْمَكْرُوهُ:
4 - الْمَكْرُوهُ لُغَةً: خِلاَفُ الْمَحْبُوبِ. وَالْبَيْعُ الْمَكْرُوهُ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ: مَا كَانَ مَشْرُوعًا بِأَصْلِهِ وَوَصْفِهِ، لَكِنْ نُهِيَ عَنْهُ لِوَصْفٍ مُجَاوِرٍ غَيْرِ لاَزِمٍ (2) . كَالْبَيْعِ عِنْدَ أَذَانِ الْجُمُعَةِ، وَبَيْعِ الْمُسْلِمِ عَلَى بَيْعِ أَخِيهِ وَنَحْوِهِمَا.
وَالْبَيْعُ الْمَكْرُوهُ بَيْعٌ مُنْعَقِدٌ صَحِيحٌ عِنْدَ الْجُمْهُورِ (الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ) فَيَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ أَثَرُهُ، كَثُبُوتِ الْمِلْكِيَّةِ فِي الْبَدَلَيْنِ، لَكِنْ فِيهِ إِثْمٌ إِنْ كَانَ مَكْرُوهًا تَحْرِيمًا عَلَى اصْطِلاَحِ الْحَنَفِيَّةِ، لِوُرُودِ النَّهْيِ فِيهِ لِوَصْفٍ عَارِضٍ، وَهُوَ اقْتِرَانُهُ بِوَقْتِ النِّدَاءِ لِصَلاَةِ الْجُمُعَةِ مَثَلاً (3) . أَمَّا الْمَكْرُوهُ تَنْزِيهًا فَلاَ إِثْمَ فِيهِ كَبَيْعِ الْحَاضِرِ لِلْبَادِي عَلَى إِحْدَى الرِّوَايَاتِ عَنْ أَحْمَدَ.
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: لاَ يَصِحُّ بَيْعٌ بَعْدَ أَذَانِ الْجُمُعَةِ
__________
(1) البدائع 5 / 305، وابن عابدين 4 / 100، وبداية المجتهد 2 / 193، والأشباه للسيوطي ص 310، وروضة الناظر ص 31، والدسوقي 3 / 54
(2) ابن عابدين 4 / 100، وبداية المجتهد لابن رشد 2 / 193، ونهاية المحتاج 3 / 430، ومنتهى الإرادات 3 / 154
(3) المراجع السابقة

(9/99)


عَقِبَ جُلُوسِ الإِْمَامِ عَلَى الْمِنْبَرِ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاَةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ} (1) وَالنَّهْيُ يَقْتَضِي الْفَسَادَ (2) .
(ر: بَيْعٌ مَنْهِيٌّ عَنْهُ) .

د - الْبَيْعُ الْمَوْقُوفُ:
5 - الْبَيْعُ الْمَوْقُوفُ هُوَ: مَا يَكُونُ مَشْرُوعًا بِأَصْلِهِ وَوَصْفِهِ، وَيُفِيدُ الْحُكْمَ عَلَى سَبِيل التَّوَقُّفِ وَامْتَنَعَ تَمَامُهُ لأَِجْل غَيْرِهِ، كَبَيْعِ مَال الْغَيْرِ. وَيُسَمَّى الْبَائِعُ حِينَئِذٍ فُضُولِيًّا، لِتَصَرُّفِهِ فِي حَقِّ غَيْرِهِ بِغَيْرِ إِذْنٍ شَرْعِيٍّ. فَمَنْ بَاعَ مِلْكَ غَيْرِهِ يَكُونُ الْبَيْعُ مَوْقُوفًا عَلَى إِجَازَةِ الْمَالِكِ، إِنْ شَاءَ رَدَّهُ، وَإِنْ شَاءَ أَجَازَ، إِذَا كَانَ الْمَبِيعُ وَالْمُتَبَايِعَانِ بِحَالِهِمْ (3) .
وَالْبَيْعُ الْمَوْقُوفُ بَيْعٌ صَحِيحٌ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ، وَهُوَ قَوْلٌ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ (4) ، لِصُدُورِهِ مِنْ أَهْلِهِ فِي مَحَلِّهِ. وَبَاطِلٌ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ
__________
(1) سورة الجمعة / 9
(2) منتهى الإرادات 3 / 154، وكشاف القناع 3 / 180
(3) مجلة الأحكام العدلية م 111، وتبيين الحقائق للزيلعي 4 / 44، وابن عابدين 4 / 139 - 142، والاختيار 2 / 17، والقوانين لابن جزي ص 163، ومغني المحتاج 2 / 15، والمغني مع الشرح 4 / 274
(4) المراجع السابقة، وانظر المجموع 9 / 258

(9/99)


فِي الصَّحِيحِ، وَهُوَ رِوَايَةٌ أُخْرَى عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ لِعَدَمِ الْمِلْكِ وَالْوِلاَيَةِ.
(ر: الْبَيْعُ الْمَوْقُوفُ) .

الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ:
6 - يَحْرُمُ الإِْقْدَامُ عَلَى الْبَيْعِ الْفَاسِدِ إِذَا كَانَ الْمُتَصَرِّفُ عَالِمًا بِفَسَادِهِ؛ لأَِنَّ فِيهِ مُخَالَفَةً شَرْعِيَّةً وَلَوْ فِي وَصْفِ الْعَقْدِ، وَالْفَاسِدُ مَنْهِيٌّ عَنْهُ، وَالنَّهْيُ يَدُل عَلَى كَوْنِهِ غَيْرَ مُبَاحٍ (1) .

أَسْبَابُ الْفَسَادِ:
7 - مَا يَلِي مِنَ الأَْسْبَابِ تُفْسِدُ الْعَقْدَ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَلاَ تُبْطِلُهُ، وَالْبَيْعُ فِي هَذِهِ الأَْحْوَال يُفِيدُ الْحُكْمَ بِشَرْطِ الْقَبْضِ، وَيُطَبَّقُ عَلَيْهِ أَحْكَامُ الْفَاسِدِ الآْتِي ذِكْرُهَا، وَهَذِهِ الأَْسْبَابُ تُعْتَبَرُ مِنْ أَسْبَابِ بُطْلاَنِ الْعَقْدِ وَعَدَمِ اعْتِبَارِهِ أَصْلاً عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ، وَحَيْثُ إِنَّ الْبَيْعَ الْفَاسِدَ هُوَ مُصْطَلَحُ الْحَنَفِيَّةِ فَقَطْ فَيُقْتَصَرُ عَلَى ذِكْرِ أَسْبَابِ الْفَسَادِ عِنْدَهُمْ:

أ - عَدَمُ الْقُدْرَةِ عَلَى التَّسْلِيمِ إِلاَّ بِتَحَمُّل الضَّرَرِ:
8 - مِنْ شُرُوطِ الْبَيْعِ الصَّحِيحِ: أَنْ يَكُونَ الْمَبِيعُ مَقْدُورَ التَّسْلِيمِ مِنْ غَيْرِ ضَرَرٍ يَلْحَقُ الْبَائِعَ، فَإِنْ لَمْ يُمْكِنْ تَسْلِيمُهُ إِلاَّ بِضَرَرٍ يَلْزَمُهُ فَالْبَيْعُ فَاسِدٌ؛ لأَِنَّ الضَّرَرَ لاَ يُسْتَحَقُّ بِالْعَقْدِ، وَلاَ يَلْزَمُ بِالْتِزَامِ
__________
(1) التوضيح والتنقيح 1 / 217، وتبيين الحقائق 4 / 44

(9/100)


الْعَاقِدِ إِلاَّ تَسْلِيمُ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ، فَأَمَّا مَا وَرَاءَهُ فَلاَ.
وَعَلَى ذَلِكَ إِذَا بَاعَ جِذْعًا فِي سَقْفٍ، أَوْ آجُرًّا فِي حَائِطٍ، أَوْ ذِرَاعًا فِي دِيبَاجٍ فَإِنَّهُ لاَ يَجُوزُ، لأَِنَّهُ لاَ يُمْكِنُهُ تَسْلِيمُهُ إِلاَّ بِالنَّزْعِ وَالْقَطْعِ، وَفِيهِ ضَرَرٌ بِالْبَائِعِ، وَالضَّرَرُ غَيْرُ مُسْتَحَقٍّ بِالْعَقْدِ. فَكَانَ بَيْعُ مَا لاَ يَجِبُ تَسْلِيمُهُ شَرْعًا، فَيَكُونُ فَاسِدًا (1) .
فَإِنْ نَزَعَهُ الْبَائِعُ وَسَلَّمَهُ إِلَى الْمُشْتَرِي قَبْل أَنْ يَفْسَخَ الْعَقْدَ جَازَ الْبَيْعُ، حَتَّى يُجْبَرُ الْمُشْتَرِي عَلَى الأَْخْذِ؛ لأَِنَّ الْمَانِعَ مِنَ الْجَوَازِ ضَرَرُ الْبَائِعِ بِالتَّسْلِيمِ، فَإِذَا سَلَّمَ بِاخْتِيَارِهِ وَرِضَاهُ فَقَدْ زَال الْمَانِعُ (2) .
وَلَوْ بَاعَ حِلْيَةَ سَيْفِهِ، فَإِنْ كَانَ يَتَخَلَّصُ مِنْهُ مِنْ غَيْرِ ضَرَرٍ يَجُوزُ، وَإِنْ كَانَ لاَ يَتَخَلَّصُ إِلاَّ بِضَرَرٍ فَالْبَيْعُ فَاسِدٌ، إِلاَّ إِذَا فَصَل وَسَلَّمَ (3) .
وَكَذَلِكَ الْحُكْمُ فِي بَيْعِ ذِرَاعٍ مِنْ ثَوْبٍ يَضُرُّهُ التَّبْعِيضُ، وَبَيْعُ فَصِّ خَاتَمٍ مُرَكَّبٍ فِيهِ، وَكَذَا بَيْعُ نَصِيبِهِ مِنْ ثَوْبٍ مُشْتَرَكٍ مِنْ غَيْرِ شَرِيكِهِ، لِلضَّرَرِ فِي تَسْلِيمِ ذَلِكَ كُلِّهِ (4) .

ب - جَهَالَةُ الْمَبِيعِ أَوِ الثَّمَنِ أَوِ الأَْجَل:
9 - مِنْ شُرُوطِ صِحَّةِ الْبَيْعِ أَنْ يَكُونَ الْمَبِيعُ وَالثَّمَنُ مَعْلُومَيْنِ عِلْمًا يَمْنَعُ مِنَ الْمُنَازَعَةِ، فَإِنْ كَانَ أَحَدُهُمَا مَجْهُولاً جَهَالَةً مُفْضِيَةً إِلَى الْمُنَازَعَةِ فَسَدَ
__________
(1) البدائع للكاساني 5 / 168، وابن عابدين 4 / 108 - 109
(2) نفس المراجع
(3) البدائع 5 / 168
(4) البدائع 5 / 168، وابن عابدين 4 / 109

(9/100)


الْبَيْعُ. فَإِذَا قَال: بِعْتُكَ شَاةً مِنْ هَذَا الْقَطِيعِ، أَوْ ثَوْبًا مِنْ هَذَا الْعِدْل فَسَدَ الْبَيْعُ؛ لأَِنَّ الشَّاةَ مِنَ الْقَطِيعِ أَوِ الثَّوْبَ مِنَ الْعِدْل مَجْهُولٌ جَهَالَةً مُفْضِيَةً إِلَى الْمُنَازَعَةِ، لِفُحْشِ التَّفَاوُتِ بَيْنَ شَاةٍ وَشَاةٍ، وَثَوْبٍ وَثَوْبٍ فَيُوجِبُ الْفَسَادَ. لَكِنْ إِذَا عَيَّنَ الْبَائِعُ شَاةً أَوْ ثَوْبًا وَسَلَّمَهُ إِلَيْهِ، وَرَضِيَ بِهِ جَازَ، وَيَكُونُ ذَلِكَ ابْتِدَاءً بَيْعًا بِالْمُرَاضَاةِ (1) .
وَلَوْ بَاعَ شَيْئًا بِعَشَرَةِ دَرَاهِمَ، وَفِي الْبَلَدِ نُقُودٌ مُخْتَلِفَةٌ، انْصَرَفَ إِلَى النَّقْدِ الْغَالِبِ، فَيَصِحُّ الْعَقْدُ، لَكِنَّهُ إِذَا كَانَ فِي الْبَلَدِ عِدَّةُ نُقُودٍ غَالِبَةٍ فَالْبَيْعُ فَاسِدٌ؛ لأَِنَّ الثَّمَنَ مَجْهُولٌ إِذِ الْبَعْضُ لَيْسَ بِأَوْلَى مِنَ الْبَعْضِ (2) .
10 - وَإِذَا كَانَ الْبَيْعُ فِيهِ أَجَلٌ، يُشْتَرَطُ لِصِحَّتِهِ أَنْ يَكُونَ الأَْجَل مَعْلُومًا، فَإِنْ كَانَ مَجْهُولاً يَفْسُدُ الْبَيْعُ، سَوَاءٌ أَكَانَتْ جَهَالَةُ الأَْجَل فَاحِشَةً، كَهُبُوبِ الرِّيحِ وَنُزُول الْمَطَرِ وَقُدُومِ فُلاَنٍ وَمَوْتِهِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، أَمْ مُتَقَارِبَةً كَالْحَصَادِ وَالدِّيَاسِ وَالنَّيْرُوزِ وَالْمَهْرَجَانِ وَقُدُومِ الْحَاجِّ وَنَحْوِ ذَلِكَ؛ لأَِنَّ الأَْوَّل فِيهِ غَرَرُ الْوُجُودِ وَالْعَدَمِ، وَالنَّوْعُ الثَّانِي مِمَّا يَتَقَدَّمُ وَيَتَأَخَّرُ فَيُؤَدِّي إِلَى الْمُنَازَعَةِ، فَيُوجِبُ فَسَادَ الْبَيْعِ (3) .

ج - الْبَيْعُ بِالإِْكْرَاهِ:
11 - الإِْكْرَاهُ إِذَا كَانَ مُلْجِئًا، أَيْ بِالتَّهْدِيدِ
__________
(1) البدائع 5 / 156، 158، والفتاوى الهندية 3 / 3
(2) المراجع السابقة
(3) البدائع 5 / 178، والاختيار 2 / 26، وابن عابدين 4 / 106

(9/101)


بِإِتْلاَفِ النَّفْسِ أَوِ الْعُضْوِ مَثَلاً، يُعْدِمُ الرِّضَا وَيُفْسِدُ الاِخْتِيَارَ، فَيَبْطُل عَقْدُ الْبَيْعِ وَسَائِرُ الْعُقُودِ بِغَيْرِ خِلاَفٍ.
أَمَّا الإِْكْرَاهُ غَيْرُ الْمُلْجِئِ، كَالتَّهْدِيدِ بِالْحَبْسِ وَالضَّرَرِ الْيَسِيرِ، فَيُفْسِدُ الْبَيْعَ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَلاَ يُبْطِلُهُ، فَيَثْبُتُ بِهِ الْمِلْكُ عِنْدَ الْقَبْضِ، وَيَنْقَلِبُ صَحِيحًا لاَزِمًا بِإِجَازَةِ الْمُكْرَهِ؛ لأَِنَّ الإِْكْرَاهَ غَيْرَ الْمُلْجِئِ لاَ يُعْدِمُ الاِخْتِيَارَ (الَّذِي هُوَ: تَرْجِيحُ فِعْل الشَّيْءِ عَلَى تَرْكِهِ) ، وَإِنَّمَا يُعْدِمُ الرِّضَا (الاِرْتِيَاحُ إِلَى الشَّيْءِ) وَالرِّضَا لَيْسَ رُكْنًا مِنْ أَرْكَانِ الْبَيْعِ، بَل هُوَ شَرْطٌ مِنْ شُرُوطِ صِحَّتِهِ (1) . كَمَا هُوَ مُفَصَّلٌ فِي بَحْثِ (إِكْرَاه) .
وَكَذَلِكَ بَيْعُ الْمُضْطَرِّ فَاسِدٌ، كَمَا إِذَا اضْطُرَّ شَخْصٌ إِلَى بَيْعِ شَيْءٍ مِنْ مَالِهِ وَلَمْ يَرْضَ الْمُشْتَرِي إِلاَّ بِشِرَائِهِ بِأَقَل مِنْ ثَمَنِ الْمِثْل بِغَبْنٍ فَاحِشٍ (2) .

د - الشَّرْطُ الْمُفْسِدُ:
12 - مِنْ شُرُوطِ صِحَّةِ الْبَيْعِ أَنْ يَكُونَ خَالِيًا عَنِ الشُّرُوطِ الْمُفْسِدَةِ، وَهِيَ أَنْوَاعٌ.
مِنْهَا مَا فِي وُجُودِهِ غَرَرٌ، نَحْوُ مَا إِذَا اشْتَرَى نَاقَةً عَلَى أَنَّهَا حَامِلٌ؛ لأَِنَّ الشَّرْطَ يَحْتَمِل الْوُجُودَ وَالْعَدَمَ وَلاَ يُمْكِنُ الْوُقُوفُ عَلَيْهِ لِلْحَال؛ لأَِنَّ عِظَمَ الْبَطْنِ وَالتَّحَرُّكَ يَحْتَمِل أَنْ يَكُونَ لِعَارِضٍ، فَكَانَ فِي الْبَيْعِ بِهَذَا الشَّرْطِ غَرَرٌ يُوجِبُ فَسَادَهُ، لِمَا
__________
(1) ابن عابدين 4 / 4، 5
(2) ابن عابدين 4 / 106

(9/101)


رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَنَّهُ {نَهَى عَنْ بَيْعِ الْحَصَاةِ وَعَنْ بَيْعِ الْغَرَرِ} (1) .
وَيَرْوِي الْحَسَنُ بْنُ زِيَادٍ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ: أَنَّ الْبَيْعَ بِهَذَا الشَّرْطِ جَائِزٌ، لأَِنَّ كَوْنَهَا حَامِلاً بِمَنْزِلَةِ شَرْطِ كَوْنِ الْعَبْدِ كَاتِبًا أَوْ خَيَّاطًا وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَذَا جَائِزٌ، فَكَذَا هَذَا.
وَقَدْ أَلْحَقَ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ بِهَذَا الْمِثَال شِرَاءَ بَقَرَةٍ عَلَى أَنَّهَا حَلُوبٌ، أَوْ قُمْرِيَّةً عَلَى أَنَّهَا تُصَوِّتُ، أَوْ كَبْشًا عَلَى أَنَّهُ نِطَاحٌ، أَوْ دِيكًا عَلَى أَنَّهُ مُقَاتِلٌ، فَالْبَيْعُ فَاسِدٌ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَهُوَ إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ مُحَمَّدٍ، لأَِنَّهُ شَرْطٌ فِيهِ غَرَرٌ (2) .
وَفِي الْمَوْضُوعِ أَمْثِلَةٌ خِلاَفِيَّةٌ يُرْجَعُ إِلَيْهَا فِي مَظَانِّهَا.
وَمِنَ الشُّرُوطِ الْفَاسِدَةِ الَّتِي تُفْسِدُ الْعَقْدَ: كُل شَرْطٍ لاَ يَقْتَضِيهِ الْعَقْدُ وَفِيهِ مَنْفَعَةٌ لِلْبَائِعِ أَوْ لِلْمُشْتَرِي، وَلَيْسَ بِمُلاَئِمٍ وَلاَ مِمَّا جَرَى بِهِ التَّعَامُل بَيْنَ النَّاسِ. نَحْوُ: إِذَا بَاعَ دَارًا عَلَى أَنْ يَسْكُنَهَا الْبَائِعُ شَهْرًا ثُمَّ يُسَلِّمَهَا إِلَيْهِ، أَوْ أَرْضًا عَلَى أَنْ يَزْرَعَهَا سَنَةً، أَوْ دَابَّةً عَلَى أَنْ يَرْكَبَهَا شَهْرًا، أَوْ ثَوْبًا عَلَى أَنْ يَلْبَسَهُ أُسْبُوعًا، فَالْبَيْعُ فِي كُل هَذِهِ الصُّوَرِ فَاسِدٌ؛ لأَِنَّ زِيَادَةَ الْمَنْفَعَةِ الْمَشْرُوطَةِ فِي الْبَيْعِ تَكُونُ رِبًا، لأَِنَّهَا زِيَادَةٌ
__________
(1) حديث: " نهى عن بيع الحصاة، وعن بيع الغرر ". أخرجه مسلم 3 / 1153 ط الحلبي
(2) بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع لعلاء الدين الكاساني 5 / 169، 170

(9/102)


لاَ يُقَابِلُهَا عِوَضٌ فِي عَقْدِ الْبَيْعِ، وَالْبَيْعُ الَّذِي فِيهِ رِبًا فَاسِدٌ. وَكَذَا مَا فِيهِ شُبْهَةُ الرِّبَا، فَإِنَّهَا مُفْسِدَةٌ لِلْبَيْعِ. (ر: ربا) .
وَمِنَ الشُّرُوطِ الْمُفْسِدَةِ: شَرْطُ خِيَارٍ مُؤَبَّدٍ فِي الْبَيْعِ، وَكَذَلِكَ شَرْطُ خِيَارٍ مُؤَقَّتٍ بِأَجَلٍ مَجْهُولٍ جَهَالَةً فَاحِشَةً، كَهُبُوبِ الرِّيحِ وَمَجِيءِ الْمَطَرِ مَثَلاً، وَتَفْصِيلُهُ فِي مُصْطَلَحِ: (شَرْط) (1) .

هـ - اشْتِمَال الْعَقْدِ عَلَى التَّوْقِيتِ:
13 - مِنْ شُرُوطِ صِحَّةِ الْبَيْعِ: أَلاَ يَكُونَ الْعَقْدُ مُؤَقَّتًا، فَإِنْ أَقَّتَهُ فَالْبَيْعُ فَاسِدٌ؛ لأَِنَّ عَقْدَ الْبَيْعِ عَقْدُ تَمْلِيكِ الْعَيْنِ، وَعُقُودُ تَمْلِيكِ الأَْعْيَانِ لاَ تَصِحُّ مُؤَقَّتَةً، وَلِهَذَا عَرَّفَ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ الْبَيْعَ بِأَنَّهُ: عَقْدُ مُعَاوَضَةٍ مَالِيَّةٍ يُفِيدُ مِلْكَ عَيْنٍ عَلَى التَّأْبِيدِ (2) .
وَلِلتَّفْصِيل يُنْظَرُ مُصْطَلَحُ: (أَجَل، تَأْقِيت) .

و اشْتِمَال الْعَقْدِ عَلَى الرِّبَا:
14 - مِنْ شُرُوطِ صِحَّةِ الْبَيْعِ: الْخُلُوُّ عَنِ الرِّبَا؛ لأَِنَّ الْبَيْعَ الَّذِي فِيهِ رِبًا فَاسِدٌ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ؛ لأَِنَّ الرِّبَا حَرَامٌ بِنَصِّ الْكِتَابِ الْكَرِيمِ. قَال اللَّهُ تَعَالَى: {وَأَحَل اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} (3) .
__________
(1) البدائع 5 / 168، 169، 170، 174
(2) الفتاوى الهندية 3 / 3، والبدائع 6 / 118، ومغني المحتاج 2 / 3
(3) سورة البقرة / 275

(9/102)


وَكَذَلِكَ يُشْتَرَطُ أَنْ يَكُونَ الْبَيْعُ خَالِيًا عَنْ شُبْهَةِ الرِّبَا، وَاحْتِمَال الرِّبَا. قَال الْكَاسَانِيُّ: حَقِيقَةُ الرِّبَا كَمَا هِيَ مُفْسِدَةٌ لِلْبَيْعِ، فَاحْتِمَال الرِّبَا مُفْسِدٌ لَهُ أَيْضًا، وَلأَِنَّ الشُّبْهَةَ مُلْحَقَةٌ بِالْحَقِيقَةِ فِي بَابِ الْحُرُمَاتِ احْتِيَاطًا، وَأَصْلُهُ مَا رُوِيَ عَنْ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {الْحَلاَل بَيِّنٌ وَالْحَرَامُ بَيِّنٌ، فَدَعْ مَا يَرِيبُكَ إِلَى مَا لاَ يَرِيبُكَ} (1) .

ز - الْبَيْعُ بِغَرَرٍ:
15 - الْغَرَرُ هُوَ خَطَرُ حُصُول الشَّيْءِ أَوْ عَدَمُ حُصُولِهِ، فَإِذَا كَانَ الْغَرَرُ فِي أَصْل الْمَبِيعِ، بِأَنْ يَكُونَ مُحْتَمِلاً لِلْوُجُودِ وَالْعَدَمِ، كَبَيْعِ الثِّمَارِ قَبْل أَنْ تُخْلَقَ، وَبَيْعِ الطَّيْرِ فِي الْهَوَاءِ قَبْل أَنْ يُصْطَادَ، فَالْعَقْدُ بَاطِلٌ، وَإِنْ كَانَ فِي أَوْصَافِهِ كَبَيْعِ الرُّطَبِ عَلَى النَّخْل بِتَمْرٍ مَقْطُوعٍ فَالْعَقْدُ فَاسِدٌ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ لِجَهَالَةِ قَدْرِ الْمَبِيعِ (2) .
وَتَفْصِيلُهُ فِي مُصْطَلَحِ: (غَرَر)

ح - بَيْعُ الْمَنْقُول قَبْل قَبْضِهِ:
16 - مَنِ اشْتَرَى عَيْنًا مَنْقُولَةً لاَ يَصِحُّ بَيْعُهُ لَهَا قَبْل قَبْضِهَا مِنَ الْبَائِعِ الأَْوَّل، لِمَا رُوِيَ {أَنَّ
__________
(1) بدائع الصنائع 5 / 183، 193، 198. وحديث: " الحلال بين والحرام بين، فدع ما يريبك إلى ما لا يريبك " أخرجه الطبراني في الأوسط وحسنه الهيثمي في المجمع 4 / 74 ط القدسي
(2) الاختيار 2 / 24، وابن عابدين 4 / 107

(9/103)


النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنْ بَيْعِ الطَّعَامِ حَتَّى يُقْبَضَ} (1) .
وَلأَِنَّهُ بَيْعٌ فِيهِ غَرَرُ الاِنْفِسَاخِ بِهَلاَكِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ، لأَِنَّهُ إِذَا هَلَكَ قَبْل الْقَبْضِ يَبْطُل الْبَيْعُ الأَْوَّل، فَيَنْفَسِخُ الثَّانِي، لأَِنَّهُ بِنَاءً عَلَى الأَْوَّل، وَسَوَاءٌ أَبَاعَهُ مِنْ بَائِعِهِ الأَْوَّل أَوْ مِنْ غَيْرِهِ.
وَكَذَلِكَ لَوْ قَبَضَ نِصْفَ الْمَبِيعِ الْمَنْقُول الَّذِي اشْتَرَاهُ، فَأَشْرَكَ رَجُلاً فِيمَا اشْتَرَاهُ جَازَ فِيمَا قَبَضَ، وَلَمْ يَجُزْ فِيمَا لَمْ يَقْبِضْ؛ لأَِنَّ الإِْشْرَاكَ نَوْعُ بَيْعٍ وَالْمَبِيعُ مَنْقُولٌ، فَلَمْ يَكُنْ غَيْرَ الْمَقْبُوضِ مَحَلًّا لَهُ شَرْعًا، فَلَمْ يَصِحَّ فِي غَيْرِ الْمَقْبُوضِ، وَصَحَّ فِي قَدْرِ الْمَقْبُوضِ (2) . (ر: قَبْض) .

تَجَزُّؤُ الْفَسَادِ:
17 - الأَْصْل اقْتِصَارُ الْفَسَادِ عَلَى قَدْرِ الْمُفْسِدِ، فَالصَّفْقَةُ إِذَا اشْتَمَلَتْ عَلَى الصَّحِيحِ وَالْفَاسِدِ يَقْتَصِرُ الْفَسَادُ فِيهِ عَلَى قَدْرِ الْمُفْسِدِ، وَيَصِحُّ فِي الْبَاقِي، وَهَذَا مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ بَيْنَ فُقَهَاءِ الْحَنَفِيَّةِ إِذَا كَانَ الْفَسَادُ طَارِئًا.
وَقَدْ وَرَدَ فِي صُوَرِ بَيْعِ الْعِينَةِ: مَا لَوْ بَاعَ شَيْئًا بِعَشَرَةٍ وَلَمْ يَقْبِضِ الثَّمَنَ، ثُمَّ اشْتَرَاهُ بِخَمْسَةٍ لَمْ يَجُزْ، أَمَّا إِذَا اشْتَرَى ذَلِكَ الشَّيْءَ مَضْمُومًا إِلَيْهِ غَيْرُهُ فَيَصِحُّ.
__________
(1) حديث: " نهى عن بيع الطعام حتى يقبض. . . " أخرجه البخاري (الفتح 4 / 349 ط السلفية)
(2) البدائع 5 / 180، 181، والفتاوى الهندية 3 / 3

(9/103)


جَاءَ فِي الْهِدَايَةِ: أَنَّ مَنِ اشْتَرَى سِلْعَةً بِخَمْسِمِائَةٍ، ثُمَّ بَاعَهَا وَأُخْرَى مَعَهَا بِخَمْسِمِائَةٍ مِنَ الْبَائِعِ قَبْل نَقْدِ الثَّمَنِ، فَالْبَيْعُ جَائِزٌ فِي الَّتِي لَمْ يَشْتَرِهَا مِنَ الْبَائِعِ، وَلاَ يَجُوزُ فِي الأُْخْرَى لأَِنَّهُ لاَ بُدَّ أَنْ يَجْعَل الثَّمَنَ بِمُقَابَلَةِ الَّتِي لَمْ يَشْتَرِهَا،
فَيَكُونَ مُشْتَرِيًا لِلأُْخْرَى بِأَقَل مِمَّا بَاعَ قَبْل نَقْدِ الثَّمَنِ، وَهُوَ فَاسِدٌ بِشُبْهَةِ الرِّبَا (1) .
أَمَّا إِذَا كَانَ الْفَسَادُ مُقَارِنًا لِلْعَقْدِ فَكَذَلِكَ الْحُكْمُ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ، لأَِنَّهُمَا لاَ يُفَرِّقَانِ بَيْنَ الْفَسَادِ الطَّارِئِ وَالْفَسَادِ الْمُقَارِنِ.
وَقَال أَبُو حَنِيفَةَ: مَتَى فَسَدَ الْعَقْدُ فِي الْبَعْضِ بِمُفْسِدٍ مُقَارِنٍ يَفْسُدُ فِي الْكُل (2) لأَِنَّهُ إِذَا كَانَ الْفَسَادُ مُقَارِنًا يَصِيرُ قَبُول الْعَقْدِ فِي الْفَاسِدِ شَرْطَ قَبُول الْعَقْدِ فِي الآْخَرِ، وَهَذَا شَرْطٌ فَاسِدٌ، فَيُؤَثِّرُ فِي الْكُل، وَلَمْ يُوجَدْ هَذَا الْمَعْنَى فِي الْفَسَادِ الطَّارِئِ، فَاقْتَصَرَ الْفَسَادُ فِيهِ عَلَى قَدْرِ الْمُفْسِدِ.
وَعَلَى ذَلِكَ إِذَا اشْتَرَى دِينَارًا بِعَشَرَةِ دَرَاهِمَ نَسِيئَةً، ثُمَّ نَقَدَ بَعْضَ الْعَشَرَةِ دُونَ الْبَعْضِ فِي الْمَجْلِسِ فَسَدَ الْكُل عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ؛ لأَِنَّ الْفَسَادَ مُقَارِنٌ لِلْعَقْدِ، فَيُؤَثِّرُ فِي فَسَادِ الْكُل. وَعِنْدَهُمَا يَصِحُّ بِقَدْرِ مَا قَبَضَ وَيَفْسُدُ فِي الْبَاقِي، بِنَاءً عَلَى اقْتِصَارِ الْفَسَادِ عَلَى قَدْرِ الْمُفْسِدِ (3) .
__________
(1) الفتح مع الهداية / 71 - 73، وابن عابدين 4 / 116
(2) ابن عابدين 5 / 6
(3) البدائع 5 / 217، 250، 251، والفتح والعناية على الهداية 6 / 73

(9/104)


أَمْثِلَةٌ لِلْبَيْعِ الْفَاسِدِ:
18 - ذَكَرَ الْحَنَفِيَّةُ فِي كُتُبِهِمْ - بَعْدَ بَيَانِ الْبَيْعِ الْبَاطِل - أَمْثِلَةً عَنِ الْبَيْعِ الْفَاسِدِ، وَذَلِكَ بِنَاءً عَلَى أَصْلِهِمْ مِنَ التَّفْرِقَةِ بَيْنَهُمَا، وَمِنْ أَمْثِلَةِ الْبَيْعِ الْفَاسِدِ: بَيْعُ مَا سُكِتَ فِيهِ عَنِ الثَّمَنِ، كَبَيْعِهِ بِقِيمَتِهِ، وَذِرَاعٍ مِنْ ثَوْبٍ يَضُرُّهُ التَّبْعِيضُ، وَبَيْعِ الْمُلاَمَسَةِ وَالْمُنَابَذَةِ (1) لِحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَال: {نَهَى رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ الْمُلاَمَسَةِ وَالْمُنَابَذَةِ} (2) وَبَيْعِ اللَّبَنِ فِي الضَّرْعِ، وَالصُّوفِ عَلَى الظَّهْرِ، وَاللَّحْمِ فِي الشَّاةِ، وَجِذْعٍ فِي سَقْفٍ، وَثَوْبٍ مِنْ ثَوْبَيْنِ إِذَا لَمْ يُشْتَرَطْ فِيهِ خِيَارُ التَّعْيِينِ.
أَمَّا اللَّبَنُ فِي الضَّرْعِ فَلِلْجَهَالَةِ وَاخْتِلاَطِ الْمَبِيعِ بِغَيْرِهِ، وَكَذَا الصُّوفُ عَلَى الظَّهْرِ، وَلاِحْتِمَال وُقُوعِ التَّنَازُعِ، وَقَدْ {نَهَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ بَيْعِ لَبَنٍ فِي ضَرْعٍ، وَسَمْنٍ فِي لَبَنٍ} (3) .
__________
(1) الملامسة: أن يلمس كل منهما ثوب صاحبه بغير تأمل ليلزم الملامس البيع من غير خيار له عند الرؤية. والمنابذة: أن ينبذ كل واحد منهما ثوبه إلى الآخر ولا ينظر إلى ثوب صاحبه على أن يجعل النبذ بيعا، وهذه كانت بيوعا يتعارفونها في الجاهلية (ابن عابدين 4 / 109)
(2) حديث: " نهى عن الملامسة والمنابذة ". أخرجه مسلم (3 / 1151 ط الحلبي) ، والبخاري (الفتح 4 / 359 ط السلفية)
(3) حديث: " نهى عن بيع لبن في ضرع وسمن في لبن " أخرجه الدارقطني (3 / 14 ط دار المحاسن) ، والبيهقي (5 / 340 ط دائرة المعارف العثمانية) . وقال البيهقي: تفرد برفعه عمر بن فروخ وليس بالقوي، ورواه موقوفا. وكذا صوب الدارقطني وقفه على ابن عباس

(9/104)


وَأَمَّا اللَّحْمُ فِي الشَّاةِ وَالْجِذْعُ فِي السَّقْفِ فَلاَ يُمْكِنُ تَسْلِيمُهُ إِلاَّ بِضَرَرٍ لاَ يَسْتَحِقُّ عَلَيْهِ. وَكَذَلِكَ ذِرَاعٌ مِنْ ثَوْبٍ وَحِلْيَةٌ فِي سَيْفٍ، وَإِنْ قَلَعَهُ وَسَلَّمَهُ قَبْل نَقْضِ الْبَيْعِ جَازَ (1) .
وَلَوْ بَاعَ عَيْنًا عَلَى أَنْ يُسَلِّمَهَا إِلَى رَأْسِ الشَّهْرِ فَهُوَ فَاسِدٌ؛ لأَِنَّ تَأْجِيل الأَْعْيَانِ بَاطِلٌ، إِذْ لاَ فَائِدَةَ فِيهِ؛ لأَِنَّ التَّأْجِيل شُرِعَ فِي الأَْثْمَانِ تَيْسِيرًا عَلَى الْمُشْتَرِي، لِيَتَمَكَّنَ مِنْ تَحْصِيل الثَّمَنِ، وَأَنَّهُ مَعْدُومٌ فِي الأَْعْيَانِ فَكَانَ شَرْطًا فَاسِدًا.
وَمِنَ الْبَيْعِ الْفَاسِدِ: بَيْعُ الْمُزَابَنَةِ وَالْمُحَاقَلَةِ (2) ، لِنَهْيِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْهُمَا (3) ، وَلِشُبْهَةِ الرِّبَا فِيهِمَا. وَلَوْ بَاعَ عَلَى أَنْ يُقْرِضَ الْمُشْتَرِيَ دَرَاهِمَ أَوْ ثَوْبًا عَلَى أَنْ يَخِيطَهُ الْبَائِعُ فَالْبَيْعُ فَاسِدٌ، {لأَِنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنْ بَيْعٍ وَشَرْطٍ} ، وَهَذَا شَرْطٌ لاَ يَقْتَضِيهِ الْعَقْدُ وَلاَ يُلاَئِمُهُ، وَفِيهِ مَنْفَعَةٌ لأَِحَدِ الْعَاقِدَيْنِ فَيَفْسُدُ الْعَقْدُ.
__________
(1) الاختيار 2 / 23، 24، وابن عابدين 4 / 106 - 110
(2) المزابنة: بيع الثمر على النخل بتمر على الأرض كيلا حزرا. والمحاقلة: بيع الحنطة في سنبلها بمثلها من الحنطة كيلا حزرا (ابن عابدين 4 / 119
(3) حديث: " نهى عن المزابنة والمحاقلة. . . . " أخرجه البخاري (الفتح 4 / 384 ط السلفية)

(9/105)


وَالْبَيْعُ إِلَى النَّيْرُوزِ وَالْمَهْرَجَانِ وَصَوْمِ النَّصَارَى وَفِطْرِ الْيَهُودِ إِذَا جَهِل الْمُتَبَايِعَانِ ذَلِكَ فَاسِدٌ، وَكَذَلِكَ الْبَيْعُ إِلَى الْحَصَادِ وَالْقِطَافِ وَالدِّيَاسِ وَقُدُومِ الْحَاجِّ لِجَهَالَةِ الأَْجَل، وَهِيَ تَقْضِي إِلَى الْمُنَازَعَةِ، وَإِنْ أَسْقَطَ الأَْجَل قَبْل حُلُولِهِ جَازَ الْبَيْعُ عِنْدَ فُقَهَاءِ الْحَنَفِيَّةِ، خِلاَفًا لِزُفَرَ حَيْثُ قَال: الْفَاسِدُ لاَ يَنْقَلِبُ صَحِيحًا (1) .
19 - هَذَا، وَمِنْ أَمْثِلَةِ الْبَيْعِ الْفَاسِدِ الَّتِي ذَكَرَهَا الْحَنَفِيَّةُ: الْبَيْعُ بِالْخَمْرِ وَالْخِنْزِيرِ، أَوْ بَيْعُهُمَا مُقَايَضَةً بِالْعَيْنِ، فَإِذَا قُوبِلاَ بِالْعَيْنِ كَمَا إِذَا اشْتَرَى الثَّوْبَ بِالْخَمْرِ، أَوْ بَاعَ الْخَمْرَ بِالثَّوْبِ فَالْبَيْعُ فَاسِدٌ، أَمَّا إِنْ قُوبِلاَ بِالدَّيْنِ كَالدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ فَالْبَيْعُ بَاطِلٌ.
وَوَجْهُ الْفَرْقِ كَمَا ذَكَرَهُ الْمَرْغِينَانِيُّ: أَنَّ الْخَمْرَ وَالْخِنْزِيرَ مَالٌ عِنْدَ أَهْل الذِّمَّةِ، إِلاَّ أَنَّهُ غَيْرُ مُتَقَوَّمٍ؛ لأَِنَّ الشَّرْعَ أَمَرَ بِإِهَانَتِهِ وَتَرْكِ إِعْزَازِهِ، وَفِي تَمَلُّكِهِ بِالْعَقْدِ إِعْزَازٌ لَهُ، وَهَذَا لأَِنَّهُ مَتَى اشْتَرَاهَا بِالدَّرَاهِمِ فَالدَّرَاهِمُ غَيْرُ مَقْصُودَةٍ، لِكَوْنِهَا وَسِيلَةً لِمَا أَنَّهَا تَجِبُ فِي الذِّمَّةِ، وَإِنَّمَا الْمَقْصُودُ الْخَمْرُ، فَسَقَطَ التَّقَوُّمُ أَصْلاً فَبَطَل الْعَقْدُ، بِخِلاَفِ مُشْتَرِي الثَّوْبِ بِالْخَمْرِ لأَِنَّ فِيهِ إِعْزَازًا لِلثَّوْبِ دُونَ الْخَمْرِ. وَكَذَا إِذَا بَاعَ الْخَمْرَ بِالثَّوْبِ فَيَكُونُ الْعَقْدُ
__________
(1) ابن عابدين 4 / 106، 109، 110، 119، 122

(9/105)


فَاسِدًا، لأَِنَّهُ يُعْتَبَرُ شِرَاءَ الثَّوْبِ بِالْخَمْرِ، لِكَوْنِهِ مُقَايَضَةً (1) .
20 - وَهُنَاكَ صُوَرٌ أُخْرَى اخْتَلَفَ فُقَهَاءُ الْحَنَفِيَّةِ فِي اعْتِبَارِهَا بَيْعًا فَاسِدًا أَوْ بَيْعِهَا بَاطِلاً، كَبَيْعِ الْحَمْل، وَبَيْعِ الطَّيْرِ فِي الْهَوَاءِ، وَالسَّمَكِ فِي الْبَحْرِ قَبْل اصْطِيَادِهِمَا لَوْ قُوبِلاَ بِالْعَرْضِ، وَبَيْعِ ضَرْبَةِ الْقَانِصِ وَالْغَائِصِ (2) . وَبَيْعِ لُؤْلُؤٍ فِي صَدَفٍ، وَكَذَلِكَ بَيْعُ الآْبِقِ، وَاللَّبَنِ فِي الضَّرْعِ (3) .

آثَارُ الْبَيْعِ الْفَاسِدِ:
21 - تَقَدَّمَ أَنَّهُ لاَ فَرْقَ بَيْنَ بَيْعِ الْبَيْعِ الْفَاسِدِ وَالْبَيْعِ الْبَاطِل عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ (الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ) فِي الْجُمْلَةِ، فَكِلاَهُمَا غَيْرُ مُنْعَقِدٍ، فَلاَ اعْتِبَارَ بِالْبَيْعِ الْفَاسِدِ شَرْعًا، كَمَا أَنَّهُ لاَ اعْتِبَارَ بِالْبَيْعِ الْبَاطِل عِنْدَهُمْ (4) .
وَلَمَّا قَال خَلِيلٌ فِي مُخْتَصَرِهِ: وَفَسَدَ مَنْهِيٌّ عَنْهُ، فَسَّرَهُ الدَّرْدِيرُ بِقَوْلِهِ: أَيْ بَطَل، أَيْ لَمْ يَنْعَقِدْ،
__________
(1) الهداية مع الفتح 6 / 45، 46، وابن عابدين 4 / 104، 106
(2) القانص أن يقول: بعتك ما يخرج من إلقاء هذه الشبكة مرة بكذا. والغائص أن يقول: أغوص غوصة فما أخرجته من اللآلي فلك بكذا. (ابن عابدين 4 / 109)
(3) ابن عابدين 4 / 107، 109، 112 والاختيار 2 / 24
(4) حاشية الدسوقي 3 / 54، وحاشية الجمل 3 / 85، والمنثور للزركشي 3 / 7

(9/106)


سَوَاءٌ أَكَانَ عِبَادَةً، كَصَوْمِ يَوْمِ الْعِيدِ، أَمْ عَقْدًا، كَنِكَاحِ الْمَرِيضِ وَالْمُحْرِمِ، وَكَبَيْعِ مَا لاَ يَقْدِرُ عَلَى تَسْلِيمِهِ، أَوْ مَجْهُولٍ؛ لأَِنَّ النَّهْيَ يَقْتَضِي الْفَسَادَ (1) .
وَكَتَبَ عَلَى نَصِّ خَلِيلٍ الدُّسُوقِيِّ قَوْلَهُ: أَيْ مَنْهِيٌّ عَنْ تَعَاطِيهِ. وَهَذِهِ قَضِيَّةٌ كُلِّيَّةٌ شَامِلَةٌ لِلْعِبَادَاتِ وَالْمُعَامَلاَتِ، وَهِيَ الْعُقُودُ (2) .
وَصَرَّحَ الشَّافِعِيَّةُ بِأَنَّهُ لَوْ حَذَفَ الْمُتَعَاقِدَانِ الْمُفْسِدَ لِلْعَقْدِ، وَلَوْ فِي مَجْلِسِ الْخِيَارِ، لَمْ يَنْقَلِبْ صَحِيحًا، إِذْ لاَ عِبْرَةَ بِالْفَاسِدِ (3) . وَهَذَا يَعْنِي أَنَّ الْفَاسِدَ عِنْدَهُمْ لاَ تَلْحَقُهُ الإِْجَازَةُ، كَالْبَاطِل عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ (4) . وَقَدْ أَخَذَ الْقَلْيُوبِيُّ وَالْجَمَل وَغَيْرُهُمَا عَلَى الإِْمَامِ النَّوَوِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - أَنَّهُ أَهْمَل هُنَا فَصْلاً فِي حُكْمِ الْبَيْعِ الْفَاسِدِ وَالْمَقْبُوضِ بِالشِّرَاءِ الْفَاسِدِ، وَذَكَرُوا أَحْكَامَهُ مُخْتَصَرَةً (5) .
أَمَّا الْحَنَفِيَّةُ فَيُفَرِّقُونَ بَيْنَ الْبَيْعِ الْفَاسِدِ وَالْبَيْعِ الْبَاطِل، وَيَعْتَبِرُونَ الْفَاسِدَ مُنْعَقِدًا خِلاَفًا لِلْبَاطِل فَإِنَّهُ غَيْرُ مُنْعَقِدٍ، وَلَهُ أَحْكَامٌ سَبَقَتْ فِي مُصْطَلَحِهِ.
__________
(1) الشرح الكبير للدردير بحاشية الدسوقي عليه 3 / 54
(2) حاشية الدسوقي في الموضع نفسه
(3) حاشية الجمل على شرح المنهج 3 / 85
(4) رد المحتار 4 / 124
(5) حاشية القليوبي 2 / 181، وحاشية الجمل على شرح المنهج 3 / 84

(9/106)


أَمَّا الْبَيْعُ الْفَاسِدُ فَلَهُ أَحْكَامٌ نُجْمِلُهَا فِيمَا يَلِي:
أَوَّلاً - انْتِقَال الْمِلْكِ بِالْقَبْضِ:
22 - الْبَيْعُ الْفَاسِدُ يُفِيدُ الْمِلْكَ بِقَبْضِ الْمُشْتَرِي الْمَبِيعَ بِإِذْنِ الْبَائِعِ صَرِيحًا أَوْ دَلاَلَةً عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، كَمَا إِذَا قَبَضَهُ فِي الْمَجْلِسِ وَسَكَتَ الْبَائِعُ، فَيَجُوزُ لِلْمُشْتَرِي التَّصَرُّفُ فِي الْمَبِيعِ، بِبَيْعٍ أَوْ هِبَةٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ إِجَارَةٍ وَنَحْوِ ذَلِكَ، إِلاَّ الاِنْتِفَاعَ (1) .
قَال ابْنُ عَابِدِينَ: إِذَا مَلَكَهُ تَثْبُتُ لَهُ كُل أَحْكَامِ الْمِلْكِ إِلاَّ خَمْسَةً: لاَ يَحِل لَهُ أَكْلُهُ، وَلاَ لُبْسُهُ، وَلاَ وَطْؤُهَا - إِنْ كَانَ الْمَبِيعُ أَمَةً - وَلاَ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا مِنْهُ الْبَائِعُ، وَلاَ شُفْعَةَ لِجَارِهِ لَوْ عَقَارًا (2) .
وَدَلِيل جَوَازِ التَّصَرُّفِ فِي الْمَبِيعِ فَاسِدًا حَدِيثُ {عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، حَيْثُ ذَكَرَتْ لِرَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهَا أَرَادَتْ أَنْ تَشْتَرِيَ بَرِيرَةَ، فَأَبَى مَوَالِيهَا أَنْ يَبِيعُوهَا إِلاَّ بِشَرْطِ: أَنْ يَكُونَ الْوَلاَءُ لَهُمْ، فَقَال لَهَا: خُذِيهَا وَاشْتَرِطِي لَهُمُ الْوَلاَءَ، فَإِنَّ - الْوَلاَءَ لِمَنْ أَعْتَقَ، فَاشْتَرَتْهَا مَعَ شَرْطِ الْوَلاَءِ لَهُمْ} (3) . فَأَجَازَ الْعِتْقَ مَعَ فَسَادِ الْبَيْعِ بِالشَّرْطِ.
__________
(1) البدائع 5 / 304، والزيلعي 4 / 64، 65، وابن عابدين 4 / 124
(2) ابن عابدين 4 / 124
(3) حديث عائشة " إنما الولاء. . . ". أخرجه البخاري. (الفتح 4 / 376 ط السلفية) ، ومسلم (3 / 1145 ط الحلبي)

(9/107)


وَلأَِنَّ رُكْنَ التَّمْلِيكِ، وَهُوَ قَوْلُهُ: بِعْتُ وَاشْتَرَيْتُ، صَدَرَ مِنْ أَهْلِهِ، وَهُوَ الْمُكَلَّفُ الْمُخَاطَبُ مُضَافًا إِلَى مَحَلِّهِ وَهُوَ الْمَال عَنْ وِلاَيَةٍ، إِذِ الْكَلاَمُ فِيهِمَا، فَيَنْعَقِدُ لِكَوْنِهِ وَسِيلَةً إِلَى الْمَصَالِحِ، وَالْفَسَادُ لِمَعْنًى يُجَاوِرُهُ، كَالْبَيْعِ وَقْتَ النِّدَاءِ، وَالنَّهْيُ لاَ يَنْفِي الاِنْعِقَادَ بَل يُقَرِّرُهُ، لأَِنَّهُ يَقْتَضِي تَصَوُّرَ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ وَالْقُدْرَةِ عَلَيْهِ؛ لأَِنَّ النَّهْيَ عَمَّا لاَ يُتَصَوَّرُ، وَعَنْ غَيْرِ الْمَقْدُورِ قَبِيحٌ، إِلاَّ أَنَّهُ يُفِيدُ مِلْكًا خَبِيثًا لِمَكَانِ النَّهْيِ (1) .
وَاشْتَرَطُوا لإِِفَادَةِ الْبَيْعِ الْفَاسِدِ الْمِلْكَ شَرْطَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: الْقَبْضُ، فَلاَ يَثْبُتُ الْمِلْكُ قَبْل الْقَبْضِ، لأَِنَّهُ وَاجِبُ الْفَسْخِ رَفْعًا لِلْفَسَادِ، وَفِي وُجُوبِ الْمِلْكِ قَبْل الْقَبْضِ تَقَرَّرَ الْفَسَادُ.
وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ الْقَبْضُ بِإِذْنِ الْبَائِعِ، فَإِنْ قَبَضَ بِغَيْرِ إِذْنٍ لاَ يَثْبُتُ الْمِلْكُ (2) .

23 - هَذَا، وَاخْتَلَفَ عُلَمَاءُ الْحَنَفِيَّةِ فِي كَيْفِيَّةِ حُصُول الْمِلْكِ وَالتَّصَرُّفِ فِي الْمَبِيعِ بَيْعًا فَاسِدًا. قَال بَعْضُهُمْ: إِنَّ الْمُشْتَرِيَ يَمْلِكُ التَّصَرُّفَ فِيهِ بِاعْتِبَارِ تَسْلِيطِ الْبَائِعِ لَهُ، لاَ بِاعْتِبَارِ تَمَلُّكِ الْعَيْنِ، وَلِهَذَا لاَ يَجُوزُ أَكْل طَعَامٍ اشْتَرَاهُ شِرَاءً فَاسِدًا. وَذَهَبَ بَعْضُهُمْ إِلَى أَنَّ جَوَازَ التَّصَرُّفِ بِنَاءً عَلَى مِلْكِ الْعَيْنِ، وَاسْتَدَلُّوا بِمَا إِذَا اشْتَرَى دَارًا بِشِرَاءٍ
__________
(1) الاختيار لتعليل المختار للموصلي 2 / 22
(&#
x662 ;) البدائع 5 / 304

(9/107)


فَاسِدٍ وَقَبَضَهَا، فَبِيعَتْ بِجَنْبِهَا دَارٌ، لَهُ أَنْ يَأْخُذَهَا بِالشُّفْعَةِ لِنَفْسِهِ، وَلَمْ يَمْلِكْهَا لَمَّا اسْتَحَقَّ الشُّفْعَةَ. لَكِنْ لاَ تَجِبُ فِيهِ شُفْعَةٌ لِلشَّفِيعِ وَإِنْ كَانَ يُفِيدُ الْمِلْكَ؛ لأَِنَّ حَقَّ الْبَائِعِ لَمْ يَنْقَطِعْ (1) .
أَيْ لأَِنَّ لِكُلٍّ مِنَ الْبَائِعِ وَالْمُشْتَرِي الْفَسْخَ.

انْتِقَال الْمِلْكِ بِالْقِيمَةِ لاَ بِالْمُسَمَّى:
24 - اتَّفَقَ الْحَنَفِيَّةُ عَلَى أَنَّ حُصُول الْمِلْكِ بِالْقَبْضِ فِي الْبَيْعِ الْفَاسِدِ فِي مُقَابِل قِيمَةِ الْمَبِيعِ، لاَ الثَّمَنِ الْمُسَمَّى الَّذِي اتَّفَقَ عَلَيْهِ الطَّرَفَانِ. وَذَلِكَ لأَِنَّ الْعَقْدَ مَنْهِيٌّ عَنْهُ، وَالتَّسْمِيَةُ فَاسِدَةٌ فَلاَ يَجِبُ الْمُسَمَّى، وَالْمُعْتَبَرُ فِي الْقِيمَةِ يَوْمُ الْقَبْضِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ، وَيَوْمُ الإِْتْلاَفِ عِنْدَ مُحَمَّدٍ (2) .

ثَانِيًا: اسْتِحْقَاقُ الْفَسْخِ:
25 - الْبَيْعُ الْفَاسِدُ، مَعَ كَوْنِهِ غَيْرَ مَشْرُوعٍ بِوَصْفِهِ، فَالْفَسَادُ مُقْتَرِنٌ بِهِ، وَدَفْعُ الْفَسَادِ
__________
(1) البناية على الهداية 6 / 377، والزيلعي 4 / 62، والبدائع 5 / 304، وابن عابدين 4 / 124
(2) الفرق بين الثمن والقيمة: أن الثمن ما تراضى عليه العاقدون، سواء زاد على القيمة أو نقص. والقيمة: ما قوم به الشيء بمنزلة المعيار من غير زيادة ولا نقصان. (ابن عابدين 4 / 51، 52، والاختيار 2 / 23، والزيلعي 4 / 62، وجواهر الإكليل 2 / 27، والجمل 3 / 85، والشرح الكبير مع المغني 4 / 56، وكشاف القناع 3 / 197)

(9/108)


وَاجِبٌ فَيَسْتَحِقُّ فَسْخَهُ، وَلأَِنَّ الْفَاسِدَ يُفِيدُ مِلْكًا خَبِيثًا لِمَكَانِ النَّهْيِ، فَكَانَ لِكُل وَاحِدٍ مِنْهُمَا حَقُّ الْفَسْخِ، إِزَالَةً لِلْخَبَثِ وَدَفْعًا لِلْفَسَادِ. وَلأَِنَّ مِنْ أَسْبَابِ الْبَيْعِ الْفَاسِدِ اشْتِرَاطَ الرِّبَا وَإِدْخَال الآْجَال الْمَجْهُولَةِ وَنَحْوَ ذَلِكَ، وَهَذِهِ مَعْصِيَةٌ وَالزَّجْرُ عَنِ الْمَعْصِيَةِ وَاجِبٌ، وَاسْتِحْقَاقُ الْفَسْخِ يَصْلُحُ زَاجِرًا عَنِ الْمَعْصِيَةِ، لأَِنَّهُ إِذَا عَلِمَ أَنَّهُ يَفْسَخُ، فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ يَمْتَنِعُ عَنِ الْمُبَاشَرَةِ كَمَا عَلَّلَهُ الْفُقَهَاءُ (1) .
وَلاَ يُشْتَرَطُ فِي فَسْخِهِ قَضَاءُ قَاضٍ؛ لأَِنَّ الْوَاجِبَ شَرْعًا لاَ يَحْتَاجُ إِلَى الْقَضَاءِ (2) . وَلَكِنْ لَوْ أَصَرَّا عَلَى إِمْسَاكِ الْمَبِيعِ بَيْعًا فَاسِدًا وَعَلِمَ بِذَلِكَ الْقَاضِي فَلَهُ فَسْخُهُ جَبْرًا عَلَيْهِمَا، حَقًّا لِلشَّرْعِ (3) .
شُرُوطُ الْفَسْخِ:
26 - الْفَسْخُ مَشْرُوطٌ بِمَا يَلِي:
أ - أَنْ يَكُونَ بِعِلْمِ الْمُتَعَاقِدِ الآْخَرِ، وَلاَ يُشْتَرَطُ رِضَاهُ، وَنَقَل الْكَاسَانِيُّ عَنِ الْكَرْخِيِّ أَنَّ هَذَا الشَّرْطَ مِنْ غَيْرِ خِلاَفٍ: ثُمَّ نَقَل عَنِ الأَْسْبِيجَابِيِّ أَنَّهُ شَرْطٌ عِنْدَهُمَا خِلاَفًا
__________
(1) الاختيار لتعليل المختار للموصلي 2 / 22، وابن عابدين 4 / 125، والبدائع للكاساني 5 / 300
(2) الدر المختار بهامش رد المحتار 4 / 125
(3) الدر المختار 4 / 125

(9/108)


لأَِبِي يُوسُفَ، وَأَنَّ الْخِلاَفَ فِيهِ كَالْخِلاَفِ فِي خِيَارِ الشَّرْطِ وَالرُّؤْيَةِ.
ب - أَنْ يَكُونَ الْمَبِيعُ قَائِمًا فِي يَدِ أَحَدِهِمَا.
ج - أَنْ لاَ يَعْرِضَ لَهُ مَا يَتَعَذَّرُ بِهِ الرَّدُّ (1) .

مَنْ يَمْلِكُ الْفَسْخَ:
27 - الْفَسْخُ إِمَّا أَنْ يَكُونَ قَبْل الْقَبْضِ أَوْ بَعْدَهُ:
أ - فَإِنْ كَانَ الْفَسْخُ قَبْل الْقَبْضِ، فَلِكُلٍّ مِنَ الْمُتَعَاقِدَيْنِ الْفَسْخُ بِعِلْمِ صَاحِبِهِ مِنْ غَيْرِ رِضَاهُ؛ لأَِنَّ الْبَيْعَ الْفَاسِدَ قَبْل الْقَبْضِ لاَ يُفِيدُ الْمِلْكَ، فَكَانَ الْفَسْخُ قَبْل الْقَبْضِ بِمَنْزِلَةِ الاِمْتِنَاعِ مِنَ الْقَبُول وَالإِْيجَابِ، فَيَمْلِكُهُ كُل وَاحِدٍ مِنْهُمَا، لَكِنَّهُ - كَمَا يَقُول الزَّيْلَعِيُّ - يَتَوَقَّفُ عَلَى عِلْمِهِ؛ لأَِنَّ فِيهِ إِلْزَامَ الْفَسْخِ لَهُ، فَلاَ يَلْزَمُهُ بِدُونِ عِلْمِهِ (2) .
ب - وَإِنْ كَانَ الْفَسْخُ بَعْدَ الْقَبْضِ: فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ الْفَسَادُ رَاجِعًا إِلَى الْبَدَلَيْنِ أَوْ إِلَى غَيْرِهِمَا:
(1) فَإِنْ كَانَ الْفَسَادُ فِي صُلْبِ الْعَقْدِ، بِأَنْ كَانَ رَاجِعًا إِلَى الْبَدَلَيْنِ: الْمَبِيعِ وَالثَّمَنِ، كَبَيْعِ دِرْهَمٍ بِدِرْهَمَيْنِ، وَكَالْبَيْعِ بِالْخَمْرِ وَالْخِنْزِيرِ، فَكَذَلِكَ الْحُكْمُ، يَنْفَرِدُ أَحَدُهُمَا بِالْفَسْخِ؛ لأَِنَّ الْفَسَادَ الرَّاجِعَ إِلَى الْبَدَل رَاجِعٌ إِلَى صُلْبِ الْعَقْدِ، فَلاَ يُمْكِنُ تَصْحِيحُهُ، لأَِنَّهُ لاَ قِوَامَ لِلْعَقْدِ إِلاَّ بِالْبَدَلَيْنِ، فَكَانَ الْفَسَادُ قَوِيًّا، فَيُؤَثِّرُ فِي صُلْبِ
__________
(1) بدائع الصنائع 5 / 300، وابن عابدين 4 / 152، وحاشية الجمل على شرح المنهج 3 / 84، وكشاف القناع 3 / 198
(2) تبيين الحقائق 4 / 64

(9/109)


الْعَقْدِ، بِعَدَمِ لُزُومِهِ فِي حَقِّ الْمُتَعَاقِدَيْنِ جَمِيعًا.
(2) وَإِنْ كَانَ الْفَسَادُ غَيْرَ رَاجِعٍ إِلَى الْبَدَلَيْنِ، كَالْبَيْعِ بِشَرْطٍ زَائِدٍ، كَالْبَيْعِ إِلَى أَجَلٍ مَجْهُولٍ، أَوْ بِشَرْطٍ فِيهِ نَفْعٌ لأَِحَدِهِمَا:
- فَالأَْسْبِيجَابِيُّ قَرَّرَ أَنَّ وِلاَيَةَ الْفَسْخِ لِصَاحِبِ الشَّرْطِ، بِلاَ خِلاَفٍ؛ لأَِنَّ الْفَسَادَ الَّذِي لاَ يَرْجِعُ إِلَى الْبَدَل، لاَ يَكُونُ قَوِيًّا فَيَحْتَمِل السُّقُوطَ، فَيَظْهَرُ فِي حَقِّ صَاحِبِ الشَّرْطِ، فَلاَ يَلْزَمُهُ - وَذَكَرَ الْكَرْخِيُّ خِلاَفًا فِي الْمَسْأَلَةِ:
فَفِي قَوْل أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ: لِكُلٍّ مِنْهُمَا الْفَسْخُ، لِعَدَمِ اللُّزُومِ، بِسَبَبِ الْفَسَادِ.
وَفِي قَوْل مُحَمَّدٍ: الْفَسْخُ لِمَنْ لَهُ مَنْفَعَةُ الشَّرْطِ، لأَِنَّهُ الْقَادِرُ عَلَى تَصْحِيحِ الْعَقْدِ بِإِسْقَاطِ الْمُفْسِدِ، فَلَوْ فَسَخَهُ الآْخَرُ، لأََبْطَل حَقَّهُ عَلَيْهِ، هَذَا لاَ يَجُوزُ (1) .

طَرِيقُ فَسْخِ الْبَيْعِ الْفَاسِدِ:
28 - يُفْسَخُ الْعَقْدُ الْفَاسِدُ بِطَرِيقِينَ:
الأَْوَّل: بِالْقَوْل، وَذَلِكَ بِأَنْ يَقُول مَنْ يَمْلِكُ الْفَسْخَ: فَسَخْتُ الْعَقْدَ، أَوْ رَدَدْتُهُ، أَوْ نَقَضْتُهُ، فَيَنْفَسِخُ بِذَلِكَ، وَلاَ يَحْتَاجُ إِلَى قَضَاءٍ وَلاَ رِضَا الْبَائِعِ، سَوَاءٌ أَكَانَ قَبْل الْقَبْضِ أَمْ بَعْدَهُ؛ لأَِنَّ اسْتِحْقَاقَ الْفَسْخِ ثَبَتَ رَفْعًا لِلْفَسَادِ،
__________
(1) رد المحتار 4 / 125، والبدائع 5 / 300، وتبيين الحقائق 4 / 64

(9/109)


وَرَفْعُ الْفَسَادِ حَقٌّ لِلَّهِ تَعَالَى، فَيَظْهَرُ فِي حَقِّ الْكَافَّةِ، وَلاَ يَتَوَقَّفُ عَلَى قَضَاءٍ وَلاَ رِضَاءٍ (1) .
الثَّانِي: بِالْفِعْل، وَذَلِكَ بِأَنْ يُرَدَّ الْمَبِيعُ عَلَى بَائِعِهِ بِأَيِّ وَجْهٍ، بِهِبَةٍ أَوْ صَدَقَةٍ، أَوْ إِعَارَةٍ، أَوْ بَيْعٍ أَوْ إِجَارَةٍ، فَإِذَا فَعَل ذَلِكَ، وَوَقَعَ الْمَبِيعُ فِي يَدِ بَائِعِهِ - حَقِيقَةً، أَوْ حُكْمًا كَالتَّخْلِيَةِ - فَهُوَ مُتَارَكَةٌ لِلْبَيْعِ، وَبَرِئَ الْمُشْتَرِي مِنْ ضَمَانِهِ (2) .

مَا يَبْطُل بِهِ حَقُّ الْفَسْخِ:
29 - لاَ يَسْقُطُ حَقُّ الْفَسْخِ بِصَرِيحِ الإِْبْطَال وَالإِْسْقَاطِ، بِأَنْ يَقُول: أَسْقَطْتُ، أَوْ: أَبْطَلْتُ، أَوْ: أَوْجَبْتُ الْبَيْعَ، أَوْ أَلْزَمْتُهُ؛ لأَِنَّ وُجُوبَ الْفَسْخِ ثَبَتَ حَقًّا لِلَّهِ تَعَالَى، دَفْعًا لِلْفَسَادِ، وَمَا ثَبَتَ حَقًّا لِلَّهِ تَعَالَى خَالِصًا، لاَ يَقْدِرُ الْعَبْدُ عَلَى إِسْقَاطِهِ مَقْصُودًا، كَخِيَارِ الرُّؤْيَةِ.
لَكِنْ قَدْ يَسْقُطُ بِطَرِيقِ الضَّرُورَةِ، بِأَنْ يَتَصَرَّفَ الْعَبْدُ فِي حَقِّ نَفْسِهِ مَقْصُودًا، فَيَتَضَمَّنُ ذَلِكَ سُقُوطَ حَقِّ اللَّهِ عَزَّ وَجَل، بِطَرِيقِ الضَّرُورَةِ.
وَإِذَا بَطَل حَقُّ الْفَسْخِ لَزِمَ الْبَيْعُ، وَتَقَرَّرَ الضَّمَانُ، وَإِذَا لَمْ يَبْطُل لاَ يَلْزَمُ الْبَيْعُ، وَلاَ يَتَقَرَّرُ الضَّمَانُ.
وَفِيمَا يَلِي أَهَمُّ صُوَرِ ذَلِكَ.
__________
(1) البدائع 5 / 300
(2) بدائع الصنائع 5 / 300، والدر المختار ورد المحتار 4 / 125.

(9/110)


الصُّورَةُ الأُْولَى: التَّصَرُّفُ الْقَوْلِيُّ فِي الْمَبِيعِ بَيْعًا فَاسِدًا.
30 - أَطْلَقَ الْحَنَفِيَّةُ الْقَوْل بِأَنَّهُ يَبْطُل حَقُّ الْفَسْخِ بِكُل تَصَرُّفٍ يُخْرِجُ الْمَبِيعَ عَنْ مِلْكِ الْمُشْتَرِي (1) لِتَعَلُّقِ حَقِّ الْعَبْدِ بِهِ (2) . وَهَذَا التَّعْلِيل هُوَ الَّذِي أَصَّلَهُ الْمَالِكِيَّةُ، وَذَلِكَ كَمَا لَوْ جَعَل الْمَبِيعَ مَهْرًا، أَوْ بَدَل صُلْحٍ، أَوْ بَدَل إِجَارَةٍ، وَعَلَّلُوهُ قَائِلِينَ: لِخُرُوجِهِ عَنْ مِلْكِهِ بِذَلِكَ (3) .
أَوْ وَهَبَهُ وَسَلَّمَهُ؛ لأَِنَّ الْهِبَةَ لاَ تُفِيدُ الْمِلْكَ إِلاَّ بِالتَّسْلِيمِ بِخِلاَفِ الْبَيْعِ.
أَوْ رَهَنَهُ وَسَلَّمَهُ؛ لأَِنَّ الرَّهْنَ لاَ يَلْزَمُ بِدُونِ التَّسْلِيمِ.
أَوْ وَقَفَهُ وَقْفًا صَحِيحًا، لأَِنَّهُ اسْتَهْلَكَهُ حِينَ وَقَفَهُ وَأَخْرَجَهُ عَنْ مِلْكِهِ (4) .
أَوْ أَوْصَى بِهِ ثُمَّ مَاتَ، لأَِنَّهُ يَنْتَقِل مِنْ مِلْكِهِ إِلَى مِلْكِ الْمُوصَى لَهُ، وَهُوَ مِلْكٌ مُبْتَدَأٌ، فَصَارَ كَمَا لَوْ بَاعَهُ.
أَوْ تَصَدَّقَ بِهِ وَسَلَّمَهُ أَيْضًا، لأَِنَّهُ لاَ يَخْرُجُ عَنْ مِلْكِ الْمُتَصَدِّقِ بِدُونِ تَسْلِيمٍ (5) .
وَكَذَا الْعِتْقُ، فَقَدِ اسْتَثْنَوْهُ لِقُوَّتِهِ وَسِرَايَتِهِ وَتَشَوُّفِ الشَّارِعِ إِلَيْهِ (6) .
__________
(1) رد المحتار 4 / 126 نقلا عن الوقاية.
(2) الدر المختار 4 / 127، والشرح الكبير 3 / 74.
(3) تبيين الحقائق 4 / 64، والدسوقي 3 / 74.
(4) الاختيار 2 / 22، 23، وابن عابدين 4 / 126.
(5) الدر المختار ورد المحتار عليه 4 / 126، 127.
(6) الاختيار 2 / 22، 23، وابن عابدين 4 / 126.

(9/110)


31 - فَفِي هَذِهِ الصُّوَرِ كُلِّهَا، يَنْفُذُ الْبَيْعُ الْفَاسِدُ، وَيَمْتَنِعُ فَسْخُهُ وَذَلِكَ:
أ - لأَِنَّ الْمُشْتَرِيَ مَلَكَهُ، فَمَلَكَ التَّصَرُّفَ فِيهِ.
ب - وَلأَِنَّهُ تَعَلُّقُ حَقِّ الْعَبْدِ بِالْعَقْدِ الثَّانِي، وَنَقْضُ الْعَقْدِ الأَْوَّل مَا كَانَ إِلاَّ لِحَقِّ الشَّرْعِ، وَحَقُّ الْعَبْدِ عِنْدَ مُعَارَضَةِ حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى يُقَدَّمُ بِإِذْنِهِ تَعَالَى، لِغِنَاهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وَسَعَةِ عَفْوِهِ، وَفَقْرِ الْعَبْدِ دَائِمًا إِلَى رَبِّهِ.
ج - وَلأَِنَّ الْعَقْدَ الأَْوَّل مَشْرُوعٌ بِأَصْلِهِ لاَ بِوَصْفِهِ، وَالثَّانِي مَشْرُوعٌ بِأَصْلِهِ وَوَصْفِهِ، فَلاَ يُعَارِضُهُ مُجَرَّدُ الْوَصْفِ.
د - وَلأَِنَّ الْبَيْعَ الثَّانِيَ حَصَل بِتَسْلِيطٍ مِنْ جِهَةِ الْبَائِعِ الأَْوَّل؛ لأَِنَّ التَّمْلِيكَ مِنْهُ - مَعَ الإِْذْنِ فِي الْقَبْضِ - تَسْلِيطٌ عَلَى التَّصَرُّفِ، فَلاَ يَتَمَكَّنُ مِنَ الاِسْتِرْدَادِ مِنَ الْمُشْتَرِي الثَّانِي، وَإِلاَّ كَانَ سَاعِيًا فِي نَقْضِ مَا تَمَّ مِنْ جِهَتِهِ، وَيُؤَدِّي إِلَى الْمُنَاقَضَةِ (1) .
32 - اسْتَثْنَى الْحَنَفِيَّةُ مِنْ ذَلِكَ: الإِْجَارَةَ. فَقَرَّرُوا أَنَّهَا لاَ تَمْنَعُ مِنْ فَسْخِ الْبَيْعِ الْفَاسِدِ؛ لأَِنَّ الإِْجَارَةَ تُفْسَخُ بِالأَْعْذَارِ، وَرَفْعُ الْفَسَادِ مِنَ الأَْعْذَارِ، بَل لاَ عُذْرَ أَقْوَى مِنَ الْفَسَادِ، كَمَا يَقُول الْكَاسَانِيُّ (2) .
__________
(1) الهداية وفتح القدير 6 / 98، و 99، وانظر تبيين الحقائق 4 / 64، 65.
(2) بدائع الصنائع 5 / 301، وانظر: الدر المختار ورد المحتار عليه 4 / 127.

(9/111)


وَلأَِنَّهَا - كَمَا يَقُول الْمَرْغِينَانِيُّ - تَنْعَقِدُ شَيْئًا فَشَيْئًا، فَيَكُونُ الرَّدُّ امْتِنَاعًا (1) .
وَنَصَّ الْحَنَفِيَّةُ عَلَى أَنَّهُ إِذَا زَال الْمَانِعُ مِنْ مُمَارَسَةِ حَقِّ الْفَسْخِ - كَمَا لَوْ رَجَعَ الْوَاهِبُ بِهِبَتِهِ، أَوْ أَفْتَكَ الرَّاهِنُ رَهْنَهُ - عَادَ الْحَقُّ فِي الْفَسْخِ؛ لأَِنَّ هَذِهِ الْعُقُودَ لَمْ تُوجِبِ الْفَسْخَ مِنْ كُل وَجْهٍ فِي حَقِّ الْكُل.
لَكِنْ يُشْتَرَطُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ قَبْل الْقَضَاءِ بِالْقِيمَةِ أَوِ الْمِثْل، لاَ بَعْدَهُ؛ لأَِنَّ قَضَاءَ الْقَاضِي بِذَلِكَ يُبْطِل حَقَّ الْبَائِعِ فِي الْعَيْنِ، وَيَنْقُلُهُ إِلَى الْقِيمَةِ أَوِ الْمِثْل بِإِذْنِ الشَّرْعِ، فَلاَ يَعُودُ حَقُّهُ إِلَى1 الْعَيْنِ وَإِنِ ارْتَفَعَ السَّبَبُ، كَمَا لَوْ قَضَى عَلَى الْغَائِبِ بِقِيمَةِ الْمَغْصُوبِ بِسَبَبِ فَقْدِهِ مَثَلاً، ثُمَّ وُجِدَ الْمَغْصُوبُ (2) .

الصُّورَةُ الثَّانِيَةُ: الأَْفْعَال الَّتِي تَرِدُ عَلَى الْمَبِيعِ بَيْعًا فَاسِدًا:
33 - وَمِنْهَا الْبِنَاءُ وَالْغَرْسُ، فَلَوْ بَنَى الْمُشْتَرِي فِي الأَْرْضِ الَّتِي اشْتَرَاهَا شِرَاءً فَاسِدًا بِنَاءً أَوْ غَرَسَ شَجَرًا:
فَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ إِلَى أَنَّهُ يَمْتَنِعُ الْفَسْخُ بِالْبِنَاءِ وَالْغَرْسِ، وَذَلِكَ لأَِنَّهُمَا اسْتِهْلاَكٌ عِنْدَهُ، لأَِنَّهُ يُقْصَدُ بِهِمَا الدَّوَامُ، وَقَدْ حَصَلاَ بِتَسْلِيطٍ مِنَ الْبَائِعِ، فَيَنْقَطِعُ بِهِمَا حَقُّ الاِسْتِرْدَادِ، كَالْبَيْعِ.
__________
(1) الهداية وشروحها 5 / 100.
(2) الدر المختار ورد المحتار 4 / 127، 128.

(9/111)


وَذَهَبَ الصَّاحِبَانِ إِلَى أَنَّ الْبِنَاءَ وَالْغَرْسَ لاَ يَمْنَعَانِ مِنَ الْفَسْخِ، وَلِلْبَائِعِ أَنْ يَنْقُضَهُمَا وَيَسْتَرِدَّ الْمَبِيعَ، وَذَلِكَ لأَِنَّ حَقَّ الشُّفْعَةِ - مَعَ ضَعْفِهِ - لاَ يَبْطُل بِالْبِنَاءِ وَالْغَرْسِ، فَهَذَا أَوْلَى (1) .
34 - وَمِمَّا يَمْنَعُ الْفَسْخَ الزِّيَادَةُ فِي الْمَبِيعِ أَوِ النَّقْصُ مِنْهُ.
أ - أَمَّا الزِّيَادَةُ: فَقَدْ قَرَّرَ الْحَنَفِيَّةُ أَنَّ كُل زِيَادَةٍ مُتَّصِلَةٍ بِالْمَبِيعِ، غَيْرِ مُتَوَلِّدَةٍ مِنْهُ، كَمَا لَوْ كَانَ الْمَبِيعُ قُمَاشًا فَخَاطَهُ، أَوْ ثَوْبًا فَصَبَغَهُ، أَوْ قَمْحًا فَطَحَنَهُ، أَوْ قُطْنًا فَغَزَلَهُ، فَفِي هَذِهِ الصُّوَرِ كُلِّهَا وَأَمْثَالِهَا يَمْتَنِعُ الْفَسْخُ، وَتَلْزَمُ الْمُشْتَرِيَ قِيمَةُ الْمَبِيعِ.
وَأَمَّا الزِّيَادَةُ الْمُتَّصِلَةُ الْمُتَوَلِّدَةُ كَسَمْنِ الْمَبِيعِ، وَالزِّيَادَةُ الْمُنْفَصِلَةُ الْمُتَوَلِّدَةُ كَالْوَلَدِ، وَالزِّيَادَةُ الْمُنْفَصِلَةُ غَيْرُ الْمُتَوَلِّدَةِ كَالْكَسْبِ وَالْهِبَةِ، فَإِنَّهَا لاَ تَمْنَعُ الْفَسْخَ (2) .
ب - وَأَمَّا نَقْصُ الْمَبِيعِ، فَقَدْ قَرَّرُوا أَنَّهُ إِذَا نَقَصَ فِي يَدِ الْمُشْتَرِي، لاَ يَبْطُل حَقُّهُ فِي الرَّدِّ، وَلاَ يَمْتَنِعُ الْفَسْخُ. لَكِنْ إِنْ نَقَصَ وَهُوَ فِي يَدِهِ بِفِعْلِهِ، أَوْ بِفِعْل الْمَبِيعِ نَفْسِهِ، أَوْ بِآفَةٍ سَمَاوِيَّةٍ يَأْخُذُهُ الْبَائِعُ مِنْهُ، وَيُضَمِّنُهُ أَرْشَ النُّقْصَانِ. وَلَوْ
__________
(1) الدر المختار ورد المحتار 4 / 131، وتبيين الحقائق مع حاشية الشلبي 4 / 65.
(2) الدر المختار ورد المحتار 4 / 131.

(9/112)


نَقَصَ وَهُوَ فِي يَدِ الْمُشْتَرِي بِفِعْل الْبَائِعِ، اعْتُبِرَ الْبَائِعُ بِذَلِكَ مُسْتَرِدًّا لَهُ. وَلَوْ نَقَصَ بِفِعْل أَجْنَبِيٍّ، خُيِّرَ الْبَائِعُ بِأَخْذِهِ مِنَ الْمُشْتَرِي أَوْ مِنَ الْجَانِي (1) .
35 - وَقَدْ وَضَعَ الزَّيْلَعِيُّ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ ضَابِطًا لِمَا يَمْتَنِعُ بِهِ مِنَ الأَْفْعَال حَقُّ الاِسْتِرْدَادِ وَالْفَسْخِ، فَقَال: إِنَّ الْمُشْتَرِيَ مَتَى فَعَل بِالْمَبِيعِ فِعْلاً، يَنْقَطِعُ بِهِ حَقُّ الْمَالِكِ فِي الْغَصْبِ، يَنْقَطِعُ بِهِ حَقُّ الْمَالِكِ فِي الاِسْتِرْدَادِ، كَمَا إِذَا كَانَ حِنْطَةً فَطَحَنَهَا (2) .

ثَالِثًا (مِنْ أَحْكَامِ الْبَيْعِ الْفَاسِدِ) : حُكْمُ الرِّبْحِ فِي الْبَدَلَيْنِ بِالْبَيْعِ الْفَاسِدِ:
36 - صَرَّحَ فُقَهَاءُ الْحَنَفِيَّةِ بِأَنَّهُ يَطِيبُ لِلْبَائِعِ مَا رَبِحَ فِي الثَّمَنِ، وَلاَ يَطِيبُ لِلْمُشْتَرِي مَا رَبِحَ فِي الْمَبِيعِ، فَلَوِ اشْتَرَى مِنْ رَجُلٍ عَيْنًا بِالْبَيْعِ الْفَاسِدِ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ مَثَلاً وَتَقَابَضَا، وَرَبِحَ كُل وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِيمَا قَبَضَ، يَتَصَدَّقُ الَّذِي قَبَضَ الْعَيْنَ بِالرِّبْحِ، لأَِنَّهَا تَتَعَيَّنُ بِالتَّعْيِينِ، فَتَمَكَّنَ الْخَبَثُ فِيهَا، وَيَطِيبُ الرِّبْحُ لِلَّذِي قَبَضَ الدَّرَاهِمَ؛ لأَِنَّ النَّقْدَ لاَ يَتَعَيَّنُ بِالتَّعْيِينِ (3) .
__________
(1) المرجع السابق.
(2) تبيين الحقائق 4 / 65.
(3) تنبيه: في تعيين النقد في البيع الفاسد عند الحنفية روايتان، لكن لو اتجر من قبض الدراهم في البيع الفاسد، وربح في العقد الثاني، يطيب له الربح رواية واحدة لعدم تعين النقد في العقد الثاني. (انظر ابن عابدين 4 / 129) .

(9/112)


وَمُفَادُ هَذَا الْفَرْقِ: أَنَّهُ لَوْ كَانَ بَيْعَ مُقَايَضَةٍ (أَيْ بَيْعَ عَيْنٍ بِعَيْنٍ) لاَ يَطِيبُ الرِّبْحُ لَهُمَا؛ لأَِنَّ كُلًّا مِنَ الْبَدَلَيْنِ مَبِيعٌ مِنْ وَجْهٍ، فَتَمَكَّنَ الْخَبَثُ فِيهِمَا مَعًا (1) .

رَابِعًا: قَبُول الْبَيْعِ الْفَاسِدِ لِلتَّصْحِيحِ:
37 - الْبَيْعُ الْفَاسِدُ إِمَّا أَنْ يَكُونَ الْفَسَادُ فِيهِ ضَعِيفًا أَوْ قَوِيًّا:
أ - فَإِذَا كَانَ الْفَسَادُ ضَعِيفًا، وَهُوَ مَا لَمْ يَدْخُل فِي صُلْبِ الْعَقْدِ، فَإِنَّهُ يُمْكِنُ تَصْحِيحُهُ كَمَا فِي الْبَيْعِ بِشَرْطِ خِيَارٍ لَمْ يُوَقَّتْ، أَوْ وُقِّتَ إِلَى وَقْتٍ مَجْهُولٍ كَالْحَصَادِ وَالدِّيَاسِ، وَكَمَا فِي الْبَيْعِ بِثَمَنٍ مُؤَجَّلٍ إِلَى أَجَلٍ مَجْهُولٍ مَثَلاً، فَإِذَا أَسْقَطَ الأَْجَل مَنْ لَهُ الْحَقُّ فِيهِ قَبْل حُلُولِهِ، وَقَبْل فَسْخِهِ، جَازَ الْبَيْعُ لِزَوَال الْمُفْسِدِ، وَلَوْ كَانَ إِسْقَاطُ الأَْجَل بَعْدَ الاِفْتِرَاقِ عَلَى مَا حَرَّرَهُ ابْنُ عَابِدِينَ كَذَلِكَ سَائِرُ الْبِيَاعَاتِ الْفَاسِدَةِ تَنْقَلِبُ جَائِزَةً بِحَذْفِ الْمُفْسِدِ، فَبَيْعُ جِذْعٍ فِي سَقْفٍ فَاسِدٍ، وَكَذَلِكَ بَيْعُ ذِرَاعٍ مِنْ ثَوْبٍ وَحِلْيَةٍ فِي سَيْفٍ، لأَِنَّهُ لاَ يُمْكِنُ تَسْلِيمُ الْمَبِيعِ إِلاَّ بِضَرَرٍ لاَ يَسْتَحِقُّ عَلَيْهِ، لَكِنَّهُ إِنْ قَلَعَهُ وَسَلَّمَهُ قَبْل نَقْضِ الْبَيْعِ جَازَ، وَلَيْسَ لِلْمُشْتَرِي الاِمْتِنَاعُ. وَبَيْعُ ثَوْبٍ مِنْ ثَوْبَيْنِ فَاسِدٌ لِجَهَالَةِ الْمَبِيعِ، لَكِنَّهُ لَوْ قَال: عَلَى أَنْ يَأْخُذَ أَيَّهُمَا شَاءَ جَازَ لِعَدَمِ الْمُنَازَعَةِ (2) . وَإِنْ بَاعَ بِشَرْطِ أَنْ يُعْطِيَهُ
__________
(1) ابن عابدين 4 / 129.
(2) البدائع 5 / 178، وابن عابدين 4 / 119، والاختيار 2 / 25، 26.

(9/113)


الْمُشْتَرِي رَهْنًا، وَلَمْ يَكُنِ الرَّهْنُ مُعَيَّنًا وَلاَ مُسَمًّى، فَالْبَيْعُ فَاسِدٌ، لَكِنْ إِذَا تَرَاضَيَا عَلَى تَعْيِينِ الرَّهْنِ فِي الْمَجْلِسِ، وَرَفَعَهُ الْمُشْتَرِي إِلَيْهِ قَبْل أَنْ يَتَفَرَّقَا، أَوْ عَجَّل الْمُشْتَرِي الثَّمَنَ يَبْطُل الأَْجَل، فَيَجُوزُ الْبَيْعُ اسْتِحْسَانًا لِزَوَال الْفَسَادِ (1) .
هَذَا كُلُّهُ عِنْدَ أَكْثَرِ فُقَهَاءِ الْحَنَفِيَّةِ، خِلاَفًا لِزُفَرَ حَيْثُ قَال: الْبَيْعُ إِذَا انْعَقَدَ عَلَى الْفَسَادِ لاَ يَحْتَمِل الْجَوَازَ بَعْدَ ذَلِكَ بِرَفْعِ الْمُفْسِدِ، لِمَا فِيهِ مِنَ الاِسْتِحَالَةِ.
ب - أَمَّا إِذَا كَانَ الْفَسَادُ قَوِيًّا، بِأَنْ يَكُونَ فِي صُلْبِ الْعَقْدِ، وَهُوَ الْبَدَل أَوِ الْمُبْدَل، فَلاَ يَحْتَمِل الْجَوَازَ بِرَفْعِ الْمُفْسِدِ اتِّفَاقًا، كَمَا إِذَا بَاعَ عَيْنًا بِأَلْفِ دِرْهَمٍ وَرِطْلٍ مِنْ خَمْرٍ، فَحَطَّ الْخَمْرَ عَنِ الْمُشْتَرِي، فَهَذَا الْبَيْعُ فَاسِدٌ وَلاَ يَنْقَلِبُ صَحِيحًا (2) .

خَامِسًا: الضَّمَانُ إِذَا هَلَكَ الْمَبِيعُ:
38 - لاَ يَخْتَلِفُ الْفُقَهَاءُ فِي أَنَّ الْمَبِيعَ بَيْعًا فَاسِدًا، إِذَا هَلَكَ وَهُوَ فِي يَدِ الْمُشْتَرِي، ثَبَتَ ضَمَانُهُ عَلَيْهِ، وَذَلِكَ بِرَدِّ مِثْلِهِ إِنْ كَانَ مِثْلِيًّا - مَكِيلاً أَوْ مَوْزُونًا أَوْ مَعْدُودًا - وَرَدِّ قِيمَتِهِ إِنْ كَانَ قِيَمِيًّا، بَالِغَةً مَا بَلَغَتْ، سَوَاءٌ أَكَانَتْ أَكْثَرَ مِنَ الثَّمَنِ أَمْ أَقَل مِنْهُ أَمْ مِثْلَهُ.
__________
(1) الفتاوى الهندية 3 / 133.
(2) البدائع 5 / 178.

(9/113)


وَتَجِبُ الْقِيمَةُ فِي الْقِيَمِيِّ، عِنْدَ جُمْهُورِ الْحَنَفِيَّةِ يَوْمَ الْقَبْضِ، لأَِنَّهُ بِهِ يَدْخُل فِي ضَمَانِهِ، فَهُوَ الْيَوْمُ الَّذِي انْعَقَدَ بِهِ سَبَبُ الضَّمَانِ (1) .
وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ تُعْتَبَرُ قِيمَتُهُ يَوْمَ الإِْتْلاَفِ (الْهَلاَكُ) ، لأَِنَّهُ بِالإِْتْلاَفِ يَتَقَرَّرُ الْمِثْل أَوِ الْقِيمَةُ (2)
39 - أَمَّا لَوْ نَقَصَ الْمَبِيعُ بَيْعًا فَاسِدًا فِي يَدِ الْمُشْتَرِي، فَالنَّقْصُ مَضْمُونٌ عَلَيْهِ عَلَى النَّحْوِ التَّالِي:
أ - لَوْ نَقَصَ فِي يَدِ الْمُشْتَرِي بِفِعْل الْمُشْتَرِي، أَوِ الْمَبِيعِ نَفْسِهِ، أَوْ بِآفَةٍ سَمَاوِيَّةٍ، أَخَذَهُ الْبَائِعُ مَعَ تَضْمِينِ الْمُشْتَرِي أَرْشَ النُّقْصَانِ.
ب - وَلَوْ نَقَصَ بِفِعْل الْبَائِعِ، صَارَ بِذَلِكَ مُسْتَرِدًّا لِلْمَبِيعِ، حَتَّى لَوْ هَلَكَ عِنْدَ الْمُشْتَرِي وَلَمْ يُوجَدْ مِنْهُ حَبْسٌ عَنِ الْبَائِعِ، هَلَكَ عَلَى الْبَائِعِ.
ج - وَلَوْ نَقَصَ بِفِعْل أَجْنَبِيٍّ، خُيِّرَ الْبَائِعُ:
- فَإِنْ شَاءَ أَخَذَهُ مِنَ الْمُشْتَرِي، ثُمَّ يَرْجِعُ الْمُشْتَرِي عَلَى الْجَانِي.
- وَإِنْ شَاءَ اتَّبَعَ الْجَانِيَ، وَهُوَ لاَ يَرْجِعُ عَلَى الْمُشْتَرِي (3) .

سَادِسًا: ثُبُوتُ الْخِيَارِ فِيهِ:
40 - نَصَّ الْحَنَفِيَّةُ عَلَى أَنَّ خِيَارَ الشَّرْطِ يَثْبُتُ فِي الْبَيْعِ الْفَاسِدِ، كَمَا يَثْبُتُ فِي الْبَيْعِ الْجَائِزِ حَتَّى لَوْ
__________
(1) الدر المختار 4 / 125، وكفاية الطالب 2 / 148.
(2) رد المحتار 4 / 125.
(3) رد المحتار.

(9/114)


بَاعَ عَبْدًا بِأَلْفِ دِرْهَمٍ وَرِطْلٍ مِنْ خَمْرٍ، عَلَى أَنَّهُ بِالْخِيَارِ، فَقَبَضَهُ الْمُشْتَرِي بِإِذْنِ الْبَائِعِ، وَأَعْتَقَهُ فِي الأَْيَّامِ الثَّلاَثَةِ لاَ يَنْفُذُ إِعْتَاقُهُ، وَلَوْلاَ خِيَارُ الشَّرْطِ لِلْبَائِعِ لَنَفَذَ إِعْتَاقُ الْمُشْتَرِي بَعْدَ الْقَبْضِ. قَال ابْنُ عَابِدِينَ: وَمُفَادُهُ صِحَّةُ إِعْتَاقِهِ بَعْدَ مُضِيِّ الْمُدَّةِ، لِزَوَال الْخِيَارِ، وَهُوَ ظَاهِرٌ.
وَكَمَا يَثْبُتُ خِيَارُ الشَّرْطِ فِي الْمَبِيعِ بَيْعًا فَاسِدًا، يَثْبُتُ فِيهِ خِيَارُ الْعَيْبِ، وَلِلْمُشْتَرِي بَعْدَ قَبْضِهِ أَنْ يَرُدَّهُ بِالْعَيْبِ بِقَضَاءٍ وَبِغَيْرِ قَضَاءٍ (1) .
__________
(1) الفتاوى الهندية 3 / 39، ورد المحتار 4 / 124، 126.

(9/114)


بَيْعُ الْفُضُولِيِّ

التَّعْرِيفُ:
1 - الْبَيْعُ فِي اللُّغَةِ: مُبَادَلَةُ شَيْءٍ بِشَيْءٍ. وَفِي الشَّرْعِ هُوَ: مُبَادَلَةُ الْمَال الْمُتَقَوَّمِ بِالْمَال الْمُتَقَوَّمِ تَمْلِيكًا وَتَمَلُّكًا (1) .
وَالْفُضُولِيُّ لُغَةً: مَنْ يَشْتَغِل بِمَا لاَ يَعْنِيهِ.
وَأَمَّا فِي الاِصْطِلاَحِ فَهُوَ: مَنْ لَمْ يَكُنْ وَلِيًّا وَلاَ أَصِيلاً وَلاَ وَكِيلاً فِي الْعَقْدِ (2) .
وَجَاءَ فِي الْعِنَايَةِ: أَنَّ الْفُضُولِيَّ بِضَمِّ الْفَاءِ لاَ غَيْرُ، وَالْفَضْل: الزِّيَادَةُ، وَغَلَبَ اسْتِعْمَال الْجَمْعِ (فُضُولٌ) بَدَلاً مِنَ الْمُفْرَدِ (فَضْلٌ) فِيمَا لاَ خَيْرَ فِيهِ. وَقِيل: لِمَنْ يَشْتَغِل بِمَا لاَ يَعْنِيهِ فُضُولِيٌّ، وَهُوَ فِي اصْطِلاَحِ الْفُقَهَاءِ: مَنْ لَيْسَ بِوَكِيلٍ (3) .
وَجَاءَ فِي حَاشِيَةِ الشَّلَبِيِّ عَلَى تَبْيِينِ الْحَقَائِقِ: وَفِي حَاشِيَةِ ابْنِ عَابِدِينَ أَنَّ الْفُضُولِيَّ: هُوَ مَنْ
__________
(1) لسان العرب، والقاموس المحيط، والصحاح، والمصباح المنير مادة: " فضل "، والتعريفات للجرجاني.
(2) المصباح مادة: " فضل "، والتعريفات للجرجاني.
(3) العناية على الهداية صدر هامش فتح القدير 5 / 309 ط الأميرية، والمصباح مادة: " فضل "

(9/115)


يَتَصَرَّفُ فِي حَقِّ الْغَيْرِ بِغَيْرِ إِذْنٍ شَرْعِيٍّ، كَالأَْجْنَبِيِّ يُزَوِّجُ أَوْ يَبِيعُ. وَلَمْ تَرِدِ النِّسْبَةُ إِلَى الْوَاحِدِ وَهُوَ الْفَضْل، وَإِنْ كَانَ هُوَ الْقِيَاسَ، لأَِنَّهُ صَارَ بِالْغَلَبَةِ كَالْعَلَمِ لِهَذَا الْمَعْنَى، فَصَارَ كَالأَْنْصَارِيِّ وَالأَْعْرَابِيِّ (1) .
هَذَا، وَلَفْظُ الْفُضُولِيِّ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ يَتَنَاوَل كُل مَنْ يَتَصَرَّفُ بِلاَ مِلْكٍ وَلاَ وِلاَيَةٍ وَلاَ وَكَالَةٍ، كَالْغَاصِبِ إِذَا تَصَرَّفَ فِي الْمَغْصُوبِ بِالْبَيْعِ أَوْ غَيْرِهِ، وَالْوَكِيل إِذَا بَاعَ أَوِ اشْتَرَى أَوْ تَصَرَّفَ مُخَالِفًا لِمَا أَمَرَهُ بِهِ مُوَكِّلُهُ، فَهُوَ أَيْضًا يُعْتَبَرُ بِهَذِهِ الْمُخَالَفَةِ فُضُولِيًّا، لأَِنَّهُ تَجَاوَزَ الْحُدُودَ الَّتِي قَيَّدَهُ بِهَا مُوَكِّلُهُ.

الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ:
2 - الْفُقَهَاءُ الَّذِينَ يَرَوْنَ أَنَّ بَيْعَ الْفُضُولِيِّ بَاطِلٌ مُقْتَضَى مَذْهَبِهِمْ حُرْمَةُ الإِْقْدَامِ عَلَى بَيْعِ الْفُضُولِيِّ لأَِنَّهُ تَسَبُّبٌ لِلْمُعَامَلاَتِ الْبَاطِلَةِ. أَمَّا مَنْ رَأَى صِحَّتَهُ - وَهُمُ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ - فَقَدْ صَرَّحَ الْمَالِكِيَّةُ بِأَنَّ بَيْعَ الْفُضُولِيِّ بِلاَ مَصْلَحَةٍ لِلْمَالِكِ حَرَامٌ، أَمَّا إِنْ بَاعَ لِلْمَصْلَحَةِ كَخَوْفِ تَلَفٍ أَوْ ضَيَاعٍ فَغَيْرُ حَرَامٍ، بَل رُبَّمَا كَانَ مَنْدُوبًا.
وَلَمْ نَجِدْ لِلْحَنَفِيَّةِ تَصْرِيحًا بِالْحُكْمِ التَّكْلِيفِيِّ.
__________
(1) حاشية الشلبي على تبيين الحقائق 4 / 103 ط دار المعرفة، وحاشية ابن عابدين 4 / 135 ط المصرية.

(9/115)


الْحُكْمُ الإِْجْمَالِيُّ:
3 - لِلْفُقَهَاءِ فِي بَيْعِ الْفُضُولِيِّ اتِّجَاهَانِ مِنْ حَيْثُ الْجُمْلَةُ.
أَحَدُهُمَا: يُجِيزُ الْبَيْعَ وَيُوقِفُ نَفَاذَهُ عَلَى إِجَازَةِ الْمَالِكِ.
وَالثَّانِي: يَمْنَعُ الْبَيْعَ وَيُبْطِلُهُ.
وَأَمَّا الشِّرَاءُ، فَإِنَّ مِنْهُمْ مَنْ يُجِيزُهُ وَيَجْعَلُهُ مَوْقُوفًا عَلَى الإِْجَازَةِ كَالْبَيْعِ، وَمِنْهُمْ مَنْ لاَ يَجْعَلُهُ كَذَلِكَ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَذْكُرُ فِيهِ تَفْصِيلاً.

الأَْدِلَّةُ:
4 - اسْتَدَل الْقَائِلُونَ بِجَوَازِ بَيْعِ الْفُضُولِيِّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى} (1) وَفِي هَذَا إِعَانَةٌ لأَِخِيهِ الْمُسْلِمِ (2) .
وَاسْتَدَلُّوا أَيْضًا بِحَدِيثِ {عُرْوَةَ بْنِ أَبِي الْجَعْدِ الْبَارِقِيِّ، وَهُوَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَعْطَاهُ دِينَارًا لِيَشْتَرِيَ لَهُ بِهِ شَاةً، فَاشْتَرَى لَهُ بِهِ شَاتَيْنِ، فَبَاعَ إِحْدَاهُمَا بِدِينَارٍ، فَجَاءَ بِدِينَارٍ وَشَاةٍ، فَدَعَا لَهُ بِالْبَرَكَةِ فِي بَيْعِهِ، وَكَانَ لَوِ اشْتَرَى التُّرَابَ لَرَبِحَ فِيهِ} (3) .
وَبِحَدِيثِ حَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ وَهُوَ {أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
__________
(1) سورة المائدة / 2.
(2) المجموع 9 / 262 ط السلفية، والفروق للقرافي 3 / 244 ط دار المعرفة.
(3) حديث: " عروة بن أبي الجعد. . . " أخرجه البخاري. (فتح الباري 6 / 632 ط الرياض) .

(9/116)


بَعَثَهُ لِيَشْتَرِيَ لَهُ أُضْحِيَّةً بِدِينَارٍ، فَاشْتَرَى أُضْحِيَّةً، فَأَرْبَحَ فِيهَا دِينَارًا، فَاشْتَرَى أُخْرَى مَكَانَهَا، فَجَاءَ بِالأُْضْحِيَّةِ وَالدِّينَارِ إِلَى رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَال: ضَحِّ بِالشَّاةِ وَتَصَدَّقْ بِالدِّينَارِ} (1) .
فَهَذَا رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَجَازَ هَذَا الْبَيْعَ، وَلَوْ كَانَ بَاطِلاً لَرَدَّهُ، وَأَنْكَرَ عَلَى مَنْ صَدَرَ مِنْهُ، وَأَيْضًا فَإِنَّ هَذَا تَصَرُّفُ تَمْلِيكٍ، وَقَدْ صَدَرَ مِنْ أَهْلِهِ فَوَجَبَ الْقَوْل بِانْعِقَادِهِ، إِذْ لاَ ضَرَرَ فِيهِ لِلْمَالِكِ مَعَ تَخْيِيرِهِ، بَل فِيهِ نَفْعُهُ، حَيْثُ يَكْفِي مُؤْنَةَ طَلَبِ الْمُشْتَرِي وَقَرَارِ الثَّمَنِ (أَيِ الْمُطَالَبَةَ) وَغَيْرِهِ، وَفِيهِ نَفْعُ الْعَاقِدِ لِصَوْنِ كَلاَمِهِ عَنِ الإِْلْغَاءِ، وَفِيهِ نَفْعُ الْمُشْتَرِي لأَِنَّهُ أَقْدَمَ عَلَيْهِ طَائِعًا، فَثَبَتَتِ الْقُدْرَةُ الشَّرْعِيَّةُ تَحْصِيلاً لِهَذِهِ الْوُجُوهِ (2) .
5 - وَاسْتَدَل الْقَائِلُونَ بِعَدَمِ الْجَوَازِ بِمَا رُوِيَ عَنْ {حَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ قَال: سَأَلْتُ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: فَقُلْتُ: يَأْتِينِي الرَّجُل فَيَسْأَلُنِي مِنَ الْبَيْعِ مَا لَيْسَ
__________
(1) تبيين الحقائق 4 / 103 ط دار المعرفة، والمجموع 9 / 262 ط السلفية، وسنن البيهقي 6 / 113 ط الأولى. وحديث حكيم بن حزام " ضح بالشاة. . . " أخرجه الترمذي (4 / 47 تحفة الأحوذي) وقال: لا نعرفه إلا من هذا الوجه، وحبيب بن أبي ثابت لم يسمع عندي من حكيم بن حزام.
(2) فتح القدير 5 / 310 ط الأميرية، والبحر الرائق 6 / 160 ط العلمية، وتبيين الحقائق 4 / 103، 104 ط دار المعرفة.

(9/116)


عِنْدِي، أَبْتَاعُ لَهُ مِنَ السُّوقِ ثُمَّ أَبِيعُهُ؟ قَال: لاَ تَبِعْ مَا لَيْسَ عِنْدَكَ} (1) .
وَاسْتَدَلُّوا أَيْضًا بِحَدِيثِ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ قَال: حَدَّثَنِي أَبِي عَنْ أَبِيهِ حَتَّى ذَكَرَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَمْرٍو رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: {لاَ يَحِل سَلَفٌ وَبَيْعٌ، وَلاَ شَرْطَانِ فِي بَيْعٍ، وَلاَ رِبْحُ مَا لَمْ يُضْمَنْ، وَلاَ بَيْعُ مَا لَيْسَ عِنْدَكَ} (2) .
وَبِمَا رُوِيَ أَيْضًا عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: {لاَ طَلاَقَ إِلاَّ فِيمَا تَمْلِكُ، وَلاَ عِتْقَ إِلاَّ فِيمَا تَمْلِكُ، وَلاَ بَيْعَ إِلاَّ فِيمَا تَمْلِكُ} (3) .
فَهَذِهِ الأَْحَادِيثُ تَدُل عَلَى أَنَّ بَيْعَ الْفُضُولِيِّ بَاطِلٌ، لأَِنَّهُ تَصَرُّفٌ بِلاَ مِلْكٍ وَلاَ إِذْنٍ وَلاَ وِلاَيَةٍ وَلاَ وَكَالَةٍ.
__________
(1) تحفة الأحوذي 4 / 430 ط الثانية، والمجموع 9 / 262 ط السلفية، وكشاف القناع 3 / 157 ط النصر. وحديث حكيم بن حزام " لا تبع ما ليس عندك. . . . " أخرجه الترمذي (4 / 430 تحفة الأحوذي) وحسنه.
(2) تحفة الأحوذي 4 / 431 - 432 ط الثانية. وحديث عمرو بن شعيب " لا يحل سلف وبيع. . . . " أخرجه الترمذي 3 / 535 ط الحلبي. وقال: حسن صحيح.
(3) المجموع 9 / 262 - 263 ط السلفية. وحديث عمرو بن شعيب " لا طلاق إلا فيما تملك. . . " أخرجه أبو داود (3 / 640 ط عزت عبيد دعاس) ، والترمذي (3 / 868 ط الحلبي) . واللفظ لأبي داود، وقال الترمذي: حديث حسن، وهو أحسن شيء روي في هذا الباب.

(9/117)


وَأَيْضًا فَإِنَّهُ بَاعَ مَا لاَ يَقْدِرُ عَلَى تَسْلِيمِهِ فَلَمْ يَصِحَّ، كَبَيْعِ الآْبِقِ وَالسَّمَكِ فِي الْمَاءِ وَالطَّيْرِ فِي الْهَوَاءِ (1) .

وَفِيمَا يَلِي تَفْصِيل الْمَذَاهِبِ فِي تَصَرُّفِ الْفُضُولِيِّ:

(أ) تَصَرُّفُ الْفُضُولِيِّ فِي الْبَيْعِ:
6 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ مِنْ شُرُوطِ الْبَيْعِ: أَنْ يَكُونَ الْمَبِيعُ مَمْلُوكًا لِلْبَائِعِ، أَوْ لَهُ عَلَيْهِ وِلاَيَةٌ أَوْ وَكَالَةٌ تُجِيزُ تَصَرُّفَهُ فِيهِ، وَاتَّفَقُوا أَيْضًا عَلَى صِحَّةِ بَيْعِ الْفُضُولِيِّ، إِذَا كَانَ الْمَالِكُ حَاضِرًا وَأَجَازَ الْبَيْعَ، لأَِنَّ الْفُضُولِيَّ حِينَئِذٍ يَكُونُ كَالْوَكِيل.
وَاتَّفَقُوا أَيْضًا عَلَى عَدَمِ صِحَّةِ بَيْعِ الْفُضُولِيِّ إِذَا كَانَ الْمَالِكُ غَيْرَ أَهْلٍ لِلإِْجَازَةِ، كَمَا إِذَا كَانَ صَبِيًّا وَقْتَ الْبَيْعِ.
7 - وَمَحَل الْخِلاَفِ فِي بَيْعِ الْفُضُولِيِّ إِذَا كَانَ الْمَالِكُ أَهْلاً لِلتَّصَرُّفِ وَبِيعَ مَالُهُ وَهُوَ غَائِبٌ، أَوْ كَانَ حَاضِرًا وَبِيعَ مَالُهُ وَهُوَ سَاكِتٌ، فَهَل يَصِحُّ بَيْعُ الْفُضُولِيِّ أَوْ لاَ يَصِحُّ؟
ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ، وَالشَّافِعِيُّ فِي الْقَدِيمِ، وَهُوَ أَحَدُ قَوْلَيْهِ فِي الْجَدِيدِ، وَأَحْمَدُ فِي إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُ: إِلَى أَنَّ الْبَيْعَ صَحِيحٌ، إِلاَّ أَنَّهُ مَوْقُوفٌ عَلَى إِجَازَةِ الْمَالِكِ.
__________
(1) مغني المحتاج 2 / 15 ط الحلبي، والمجموع 9 / 261 - 264 ط السلفية.

(9/117)


وَذَهَبَ الشَّافِعِيُّ فِي الْقَوْل الثَّانِي مِنَ الْجَدِيدِ، وَأَحْمَدُ فِي الرِّوَايَةِ الأُْخْرَى عَنْهُ: إِلَى أَنَّ الْبَيْعَ بَاطِلٌ (1) .
8 - وَهَذَا كُلُّهُ مِنْ حَيْثُ الإِْجْمَال فَقَطْ، وَذَلِكَ لأَِنَّ الْحَنَفِيَّةَ يَذْكُرُونَ شُرُوطًا لِنَفَاذِ بَيْعِ الْفُضُولِيِّ، وَهِيَ عِبَارَةٌ عَنْ بَقَاءِ الْمِلْكِ، وَيَتَحَقَّقُ بِبَقَاءِ الْعَاقِدَيْنِ: الْبَائِعِ وَالْمُشْتَرِي، وَبَقَاءِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ بِلاَ تَغْيِيرٍ؛ لأَِنَّ الإِْجَازَةَ تَصَرُّفٌ فِي الْعَقْدِ، فَلاَ بُدَّ مِنْ قِيَامِهِ، وَذَلِكَ بِقِيَامِ الْعَاقِدَيْنِ وَمَحَل الْعَقْدِ، كَمَا هُوَ الْحَال فِي إِنْشَاءِ الْعَقْدِ. وَاشْتَرَطُوا أَيْضًا أَنْ لاَ يَبِيعَ الْفُضُولِيُّ الشَّيْءَ عَلَى أَنَّهُ لِنَفْسِهِ. وَأَمَّا الثَّمَنُ فَإِنَّهُمُ اشْتَرَطُوا قِيَامَهُ إِنْ كَانَ عَرَضًا، لأَِنَّ الْعَرَضَ يَتَعَيَّنُ بِالتَّعْيِينِ فَصَارَ كَالْمَبِيعِ، وَلَمْ يَشْتَرِطُوا قِيَامَ الثَّمَنِ إِنْ كَانَ دَيْنًا.
وَاشْتَرَطُوا أَيْضًا: بَقَاءَ الْمَالِكِ الأَْوَّل، وَهُوَ الْمَعْقُودُ لَهُ مَعَ عِلْمِهِ بِحَال الْمَبِيعِ وَقْتَ الإِْجَازَةِ مِنْ وُجُودِهِ أَوْ عَدَمِهِ؛ لأَِنَّ الْعَقْدَ مَوْقُوفٌ عَلَى
__________
(1) بدائع الصنائع 5 / 147 ط الجمالية، وتبيين الحقائق 4 / 102، 103 ط دار المعرفة، وابن عابدين 4 / 136، وفتح القدير 5 / 309 ط الأميرية، وحاشية الدسوقي 2 / 12 ط الفكر، ومواهب الجليل 4 / 269، 270 ط النجاح، والخرشي 5 / 18 ط دار صادر، وروضة الطالبين 3 / 353 ط المكتب الإسلامي، وتحفة المحتاج 4 / 246، 247 ط دار صادر، والمجموع 9 / 259 ط السلفية، وكشاف القناع 3 / 157 ط النصر، والإنصاف 4 / 283 ط التراث، والفروع 2 / 466 - 467 ط الأولى المنار.

(9/118)


إِجَازَتِهِ، فَلاَ يَنْفُذُ بِإِجَازَةِ غَيْرِهِ، فَلَوْ مَاتَ الْمَالِكُ لَمْ يَنْفُذْ بِإِجَازَةِ الْوَارِثِ، سَوَاءٌ أَكَانَ الثَّمَنُ دَيْنًا أَمْ عَرَضًا (1) .
وَلَوْ لَمْ يَعْلَمِ الْمَالِكُ حَال الْمَبِيعِ وَقْتَ الإِْجَازَةِ مِنْ بَقَائِهِ أَوْ عَدَمِهِ جَازَ الْبَيْعُ فِي قَوْل أَبِي يُوسُفَ أَوَّلاً، وَهُوَ قَوْل مُحَمَّدٍ، لأَِنَّ الأَْصْل بَقَاؤُهُ. ثُمَّ رَجَعَ أَبُو يُوسُفَ وَقَال: لاَ يَصِحُّ مَا لَمْ يَعْلَمِ الْمَالِكُ قِيَامَ الْمَبِيعِ عِنْدَ الإِْجَازَةِ؛ لأَِنَّ الشَّكَّ وَقَعَ فِي شَرْطِ الإِْجَازَةِ، فَلاَ يَثْبُتُ مَعَ الشَّكِّ (2) .
9 - وَإِذَا أَجَازَ الْمَالِكُ صَارَ الْمَبِيعُ مِلْكًا لِلْمُشْتَرِي وَالثَّمَنُ مَمْلُوكًا لَهُ أَمَانَةً فِي يَدِ الْفُضُولِيِّ، فَلَوْ هَلَكَ لاَ يَضْمَنُهُ كَالْوَكِيل، فَإِنَّ الإِْجَازَةَ اللاَّحِقَةَ بِمَنْزِلَةِ الْوَكَالَةِ السَّابِقَةِ، مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ بِهَا صَارَ تَصَرُّفُهُ نَافِذًا، وَلِذَا يُسَمَّى هَذَا النَّوْعُ مِنَ الإِْجَازَةِ (إِجَازَةُ عَقْدٍ)
هَذَا إِذَا كَانَ الثَّمَنُ دَيْنًا، فَإِنْ كَانَ عَيْنًا بِأَنْ بَاعَ الْفُضُولِيُّ مِلْكَ غَيْرِهِ بِعَرَضٍ مُعَيَّنٍ بَيْعَ مُقَايَضَةٍ، اشْتُرِطَ قِيَامُ الأَْرْبَعَةِ الْمَذْكُورَةِ، وَهِيَ: الْعَاقِدَانِ وَالْمَبِيعُ وَمَالِكُهُ الأَْوَّل، وَخَامِسٌ وَهُوَ ذَلِكَ الثَّمَنُ الْعَرَضُ، وَإِذَا أَجَازَ مَالِكُ الْمَبِيعِ
__________
(1) مجمع الأنهر 2 / 94 - 95 ط العثمانية، والبحر الرائق 6 / 160 ط العلمية، وجامع الفصولين 1 / 230 ط بولاق.
(2) العناية مع فتح القدير 5 / 313 ط الأميرية، وتبيين الحقائق 4 / 106 ط دار المعرفة، والبحر الرائق 6 / 160 ط العلمية.

(9/118)


وَالثَّمَنُ عَرَضٌ - فَالْفُضُولِيُّ يَكُونُ بِبَيْعِ مَال الْغَيْرِ مُشْتَرِيًا لِلْعَرَضِ مِنْ وَجْهٍ، وَالشِّرَاءُ لاَ يَتَوَقَّفُ إِذَا وُجِدَ نَفَاذًا، فَيَنْفُذُ عَلَى الْفُضُولِيِّ، فَيَصِيرُ مَالِكًا لِلْعَرَضِ، وَالَّذِي تُفِيدُهُ الإِْجَازَةُ أَنَّهُ أَجَازَ لِلْفُضُولِيِّ أَنْ يَنْقُدَ ثَمَنَ مَا اشْتَرَاهُ مِنْ ذَلِكَ الْعَرَضِ مِنْ مَالِهِ، وَلِذَا تُسَمَّى إِجَازَةَ الْعَقْدِ، كَأَنَّهُ قَال: اشْتَرِ هَذَا الْعَرَضَ لِنَفْسِكَ، وَانْقُدْهُ ثَمَنَهُ مِنْ مَالِي هَذَا قَرْضًا عَلَيْكَ، فَإِنْ كَانَ مِثْلِيًّا فَعَلَيْهِ مِثْلُهُ، وَإِنْ كَانَ قِيَمِيًّا كَثَوْبٍ فَقِيمَتُهُ. فَيَصِيرُ مُسْتَقْرِضًا لِلثَّوْبِ. وَالْقَرْضُ وَإِنْ لَمْ يَجُزْ فِي الْقِيَمِيَّاتِ لَكِنَّ ذَلِكَ إِذَا كَانَ قَصْدًا. وَهُنَا إِنَّمَا يَثْبُتُ ضِمْنًا مُقْتَضًى لِصِحَّةِ الشِّرَاءِ، فَيُرَاعَى فِيهِ شَرَائِطُ صِحَّةِ الْمُقْتَضِي، وَهُوَ الشِّرَاءُ لاَ غَيْرُ (1) .
10 - وَصَرَّحَ الْحَنَفِيَّةُ بِأَنَّ لِلْفُضُولِيِّ أَنْ يَفْسَخَ قَبْل إِجَازَةِ الْمَالِكِ، دَفْعًا لِلُحُوقِ الضَّرَرِ عَنْ نَفْسِهِ؛ لأَِنَّ حُقُوقَ الْبَيْعِ تَرْجِعُ إِلَيْهِ، بِخِلاَفِ الْفُضُولِيِّ فِي النِّكَاحِ، لأَِنَّهُ مُعَبِّرٌ مَحْضٌ (2) .
11 - وَذَكَرَ الْحَنَفِيَّةُ أَيْضًا أَنَّ الْفُضُولِيَّ بَعْدَ الإِْجَازَةِ يَصِيرُ حُكْمُهُ حُكْمَ الْوَكِيل، حَتَّى لَوْ حَطَّ مِنَ الثَّمَنِ ثُمَّ أَجَازَ الْمَالِكُ الْبَيْعَ يَثْبُتُ الْبَيْعُ وَالْحَطُّ، سَوَاءٌ عَلِمَ الْمَالِكُ الْحَطَّ أَوْ لَمْ يَعْلَمْ، إِلاَّ أَنَّهُ إِذَا عَلِمَ بِالْحَطِّ بَعْدَ الإِْجَازَةِ يَثْبُتُ لَهُ الْخِيَارُ.
__________
(1) مجمع الأنهر 2 / 95، 312 ط العثمانية.
(2) مجمع الأنهر 2 / 95 ط العثمانية، وفتح القدير 5 / 312 ط الأميرية.

(9/119)


وَوَجْهُهُ كَمَا فِي جَامِعِ الْفُصُولَيْنِ أَنَّهُ يَصِيرُ بِالإِْجَازَةِ كَوَكِيلٍ، وَلَوْ حَطَّهُ الْوَكِيل لاَ يَتَمَكَّنُ الْمُوَكِّل مِنْ مُطَالَبَةِ الْمُشْتَرِي بِهِ، كَذَا هَذَا (1) .
12 - وَاشْتَرَطَ الْمَالِكِيَّةُ لِصِحَّةِ بَيْعِ الْفُضُولِيِّ ثَلاَثَةَ شُرُوطٍ:
أَحَدُهَا: أَنْ لاَ يَكُونَ الْمَالِكُ حَاضِرًا مَجْلِسَ الْبَيْعِ، وَلَكِنَّهُ حَاضِرٌ فِي الْبَلَدِ، أَوْ غَائِبٌ عَنْهُ غَيْبَةً قَرِيبَةً، لاَ بَعِيدَةً بِحَيْثُ يَضُرُّ الصَّبْرُ إِلَى قُدُومِهِ أَوْ مَشُورَتِهِ. فَإِنْ كَانَ حَاضِرًا مَجْلِسَ الْعَقْدِ وَسَكَتَ لَزِمَهُ الْبَيْعُ، وَلِلْبَائِعِ الثَّمَنُ، فَإِنْ مَضَى نَحْوُ عَامٍ وَلَمْ يُطَالِبْ بِالثَّمَنِ فَلاَ شَيْءَ لَهُ عَلَى الْبَائِعِ (2) ، وَلاَ يُعْذَرُ بِجَهْلٍ فِي سُكُوتِهِ إِذَا ادَّعَاهُ. وَمَحَل مُطَالَبَةِ الْمَالِكِ لِلْفُضُولِيِّ بِالثَّمَنِ مَا لَمْ يَمْضِ عَامٌ، فَإِنْ مَضَى الْعَامُ وَهُوَ سَاكِتٌ سَقَطَ حَقُّهُ فِي الثَّمَنِ. هَذَا إِنْ بِيعَ بِحَضْرَتِهِ، أَمَّا إِنْ بِيعَ فِي غَيْبَتِهِ فَلَهُ نَقْضُ الْبَيْعِ إِلَى سَنَةٍ، فَإِنْ مَضَتْ سَقَطَ حَقُّهُ فِي النَّقْضِ.
وَلاَ يَسْقُطُ حَقُّهُ فِي الثَّمَنِ مَا لَمْ تَمْضِ مُدَّةُ الْحِيَازَةِ، وَهِيَ عَشَرَةُ أَعْوَامٍ (3) .
ثَانِيهَا: أَنْ يَكُونَ فِي غَيْرِ الصَّرْفِ، وَأَمَّا فِيهِ فَإِنَّهُ يُفْسَخُ.
__________
(1) جامع الفصولين 1 / 231 ط الأميرية.
(2) الزرقاني 5 / 19 ط الفكر.
(3) الشرح الكبير 3 / 12 ط الفكر، والشرح الصغير 3 / 26 ط دار المعارف.

(9/119)


ثَالِثُهَا: أَنْ يَكُونَ فِي غَيْرِ الْوَقْفِ، وَأَمَّا فِيهِ فَبَاطِلٌ لاَ يَتَوَقَّفُ عَلَى رِضَا وَاقِفِهِ، وَإِنْ كَانَ الْمِلْكُ لَهُ (1) .
13 - وَذَكَرَ الْمَالِكِيَّةُ أَيْضًا أَنَّ لِلْمَالِكِ نَقْضَ بَيْعِ الْفُضُولِيِّ، غَاصِبًا أَوْ غَيْرَهُ إِنْ لَمْ يَفُتْ، فَإِنْ فَاتَ بِذَهَابِ عَيْنِهِ فَقَطْ، فَعَلَيْهِ الأَْكْثَرُ مِنْ ثَمَنِهِ وَقِيمَتِهِ (2) .
وَقَالُوا: إِنَّ لِلْمُشْتَرِي مِنَ الْفُضُولِيِّ الْغَلَّةَ قَبْل عِلْمِ الْمَالِكِ، إِذَا كَانَ الْمُشْتَرِي غَيْرَ عَالِمٍ بِالتَّعَدِّي، أَوْ كَانَتْ هُنَاكَ شُبْهَةٌ تَنْفِي عَنِ الْبَائِعِ التَّعَدِّي، لِكَوْنِهِ حَاضِنًا لِلأَْطْفَال مَثَلاً كَالأُْمِّ تَقُومُ بِهِمْ وَتَحْفَظُهُمْ، أَوْ لِكَوْنِهِ مِنْ سَبَبِ الْمَالِكِ أَيْ مِنْ نَاحِيَتِهِ مِمَّنْ يَتَعَاطَى أُمُورَهُ، وَيَزْعُمُ أَنَّهُ وَكِيلٌ، ثُمَّ يَقْدُمُ الْمَالِكُ وَيُنْكِرُ وَنَحْوُ ذَلِكَ. وَيَدُل لَهُ مَسْأَلَةُ الْيَمِينِ: أَنْ لاَ يَبِيعَ لِفُلاَنٍ، فَبَاعَ لِمَنْ هُوَ مِنْ سَبَبِهِ (3) .
وَتَذْكُرُ كُتُبُ الْمَالِكِيَّةِ أَيْضًا حُكْمًا آخَرَ فَرَّعُوهُ عَلَى الْجَوَازِ لَمْ يُصَرِّحْ بِهِ غَيْرُهُمْ، وَهُوَ حُكْمُ قُدُومِ الْفُضُولِيِّ عَلَى الْبَيْعِ، فَقَدْ ذَكَرَ الدُّسُوقِيُّ فِي
__________
(1) الزرقاني 5 / 19 ط الفكر.
(2) الزرقاني 5 / 19 ط الفكر، والدسوقي 3 / 12 ط الفكر، وجواهر الإكليل 2 / 5 ط دار المعرفة.
(3) الخرشي مع حاشية العدوي 5 / 18 ط صادر، والزرقاني 5 / 19 ط الفكر، والدسوقي مع الشرح الكبير 3 / 12 ط الفكر.

(9/120)


حَاشِيَتِهِ: أَنَّهُ قَدْ قِيل بِمَنْعِهِ، وَقِيل: بِجَوَازِهِ، وَقِيل بِمَنْعِهِ فِي الْعَقَارِ وَالْجَوَازِ فِي الْعُرُوضِ (1) .
14 - هَذَا وَالْقَوْل بِبُطْلاَنِ بَيْعِ الْفُضُولِيِّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ هُوَ الصَّحِيحُ الْمَنْصُوصُ عَلَيْهِ فِي الْجَدِيدِ، وَبِهِ قَطَعَ صَاحِبُ الْمُهَذَّبِ وَجَمَاهِيرُ الْعِرَاقِيِّينَ، وَكَثِيرُونَ، أَوِ الأَْكْثَرُونَ مِنَ الْخُرَاسَانِيِّينَ كَمَا جَاءَ فِي الْمَجْمُوعِ.
وَأَمَّا الْقَوْل بِانْعِقَادِهِ مَوْقُوفًا عَلَى إِجَازَةِ الْمَالِكِ فَهُوَ الْقَوْل الْقَدِيمُ الَّذِي حَكَاهُ الْخُرَاسَانِيُّونَ وَجَمَاعَةٌ مِنَ الْعِرَاقِيِّينَ، مِنْهُمْ الْمَحَامِلِيُّ فِي اللُّبَابِ وَالشَّاشِيُّ وَصَاحِبُ الْبَيَانِ.
وَأَمَّا قَوْل إِمَامِ الْحَرَمَيْنِ: إِنَّ الْعِرَاقِيِّينَ لَمْ يَعْرِفُوا هَذَا الْقَوْل، وَقَطَعُوا بِالْبُطْلاَنِ، فَمُرَادُهُ مُتَقَدِّمُوهُمْ كَمَا جَاءَ فِي الْمَجْمُوعِ. ثُمَّ إِنَّ كُل مَنْ حَكَاهُ إِنَّمَا حَكَاهُ عَنِ الْقَدِيمِ خَاصَّةً، وَهُوَ نَصٌّ لِلشَّافِعِيِّ فِي الْبُوَيْطِيِّ، وَهُوَ مِنَ الْجَدِيدِ، قَال الشَّافِعِيُّ فِي آخِرِ بَابِ الْغَصْبِ مِنَ الْبُوَيْطِيِّ: إِنْ صَحَّ حَدِيثُ عُرْوَةَ الْبَارِقِيِّ، فَكُل مَنْ بَاعَ أَوْ أَعْتَقَ مِلْكَ غَيْرِهِ بِغَيْرِ إِذْنِهِ ثُمَّ رَضِيَ، فَالْبَيْعُ وَالْعِتْقُ جَائِزَانِ. هَذَا نَصُّهُ، وَقَدْ صَحَّ حَدِيثُ عُرْوَةَ الْبَارِقِيِّ السَّابِقُ نَصُّهُ، فَصَارَ لِلشَّافِعِيِّ قَوْلاَنِ فِي الْجَدِيدِ أَحَدُهُمَا مُوَافِقٌ لِلْقَدِيمِ (2) .
__________
(1) الدسوقي 3 / 12 ط الفكر، والفروق للقرافي 2 / 244 ط دار المعرفة.
(2) المجموع 9 / 259 ط السلفية، ومغني المحتاج 2 / 15 ط الحلبي، وفتح الباري 6 / 632 ط الرياض. وسنن البيهقي 6 / 112 ط الأولى. وحديث عروة سبق تخريجه (ف 4) .

(9/120)


وَظَاهِرُ كَلاَمِ الشَّيْخَيْنِ (أَيِ الرَّافِعِيِّ وَالنَّوَوِيِّ) عَلَى قَوْل الْوَقْفِ أَنَّ الْمَوْقُوفَ الصِّحَّةُ، وَقَال إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ: الصِّحَّةُ نَاجِزَةٌ، وَإِنَّمَا الْمَوْقُوفُ الْمِلْكُ، وَجَرَى عَلَيْهِ فِي الأُْمِّ (1) .
وَالْمُعْتَبَرُ عِنْدَهُمْ فِي الإِْجَازَةِ إِجَازَةُ مَنْ يَمْلِكُ التَّصَرُّفَ عِنْدَ الْعَقْدِ، فَلَوْ بَاعَ الْفُضُولِيُّ مَال الطِّفْل، فَبَلَغَ وَأَجَازَ لَمْ يَنْفُذْ.
وَمَحَل الْخِلاَفِ فِي بَيْعِ الْفُضُولِيِّ عِنْدَهُمْ كَمَا جَاءَ فِي نِهَايَةِ الْمُحْتَاجِ مَا لَمْ يَحْضُرِ الْمَالِكُ، فَلَوْ بَاعَ مَال غَيْرِهِ بِحَضْرَتِهِ وَهُوَ سَاكِتٌ لَمْ يَصِحَّ قَطْعًا.
وَالْخِلاَفُ الْمَذْكُورُ عِنْدَهُمْ فِي بَيْعِ الْفُضُولِيِّ مِنْ حَيْثُ الْبُطْلاَنُ أَوِ الاِنْعِقَادُ يَجْرِي فِي كُل مَنْ زَوَّجَ ابْنَةَ غَيْرِهِ، أَوْ طَلَّقَ مَنْكُوحَتَهُ، أَوْ أَجَّرَ دَارِهِ، أَوْ وَهَبَهَا بِغَيْرِ إِذْنِهِ (2) .
15 - وَالْمَذْهَبُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ، وَعَلَيْهِ أَكْثَرُ الأَْصْحَابِ: عَدَمُ صِحَّةِ بَيْعِ الْفُضُولِيِّ كَمَا جَاءَ فِي الإِْنْصَافِ. وَجَاءَ فِيهِ أَيْضًا: أَنَّ هَذَا هُوَ الَّذِي جَزَمَ بِهِ فِي الْوَجِيزِ وَغَيْرِهِ، وَقَدَّمَهُ فِي الْفُرُوعِ، وَالْمُحَرَّرِ، وَالرِّعَايَتَيْنِ، وَالْحَاوِيَيْنِ، وَالنَّظْمِ وَغَيْرِهَا.
__________
(1) تحفة المحتاج 4 / 247 دار صادر.
(2) المجموع 9 / 260 ط السلفية. ونهاية المحتاج 3 / 391 ط المكتبة الإسلامية، وروضة الطالبين 3 / 353 ط المكتب الإسلامي.

(9/121)


وَذَكَرَ صَاحِبُ كَشَّافِ الْقِنَاعِ أَنَّ الْبَيْعَ لاَ يَصِحُّ، حَتَّى لَوْ كَانَ الْمَالِكُ حَاضِرًا وَسَكَتَ، ثُمَّ أَجَازَهُ بَعْدَ ذَلِكَ لِفَوَاتِ شَرْطِهِ، أَيْ لِفَوَاتِ الْمِلْكِ وَالإِْذْنِ وَقْتَ الْبَيْعِ (1) .
وَأَمَّا الرِّوَايَةُ الَّتِي تُصَحِّحُ بَيْعَ الْفُضُولِيِّ وَتَجْعَلُهُ مَوْقُوفًا عَلَى الإِْجَازَةِ، فَقَدِ اخْتَارَهَا صَاحِبُ الْفَائِقِ كَمَا جَاءَ فِي الإِْنْصَافِ، وَقَال: قَبَضَ وَلاَ إِقْبَاضَ قَبْل الإِْجَازَةِ (2) .

ب - تَصَرُّفُ الْفُضُولِيِّ فِي الشِّرَاءِ:
16 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ شِرَاءَ الْفُضُولِيِّ لاَ يَتَوَقَّفُ عَلَى الإِْجَازَةِ، إِذَا وَجَدَ نَفَاذًا عَلَى الْعَاقِدِ، فَإِنْ لَمْ يَجِدْ نَفَاذًا يَتَوَقَّفُ، كَشِرَاءِ الصَّغِيرِ الْمَحْجُورِ عَلَيْهِ. وَإِنَّمَا يَنْفُذُ الشِّرَاءُ عَلَى الْمُشْتَرِي إِذَا لَمْ يُضِفْهُ إِلَى آخَرَ وَوَجَدَ الشِّرَاءُ النَّفَاذَ عَلَيْهِ، وَلَمْ يَسْبِقْ بِتَوْكِيلٍ لِلْمُشْتَرِي مِنْ آخَرَ. فَأَمَّا إِنْ كَانَ كَذَلِكَ فَالشِّرَاءُ يَتَوَقَّفُ. وَفِي الْوَكَالَةِ يَنْفُذُ عَلَى الْمُوَكِّل، فَإِنَّهُ ذَكَرَ فِي شَرْحِ الطَّحَاوِيِّ: وَلَوِ اشْتَرَى رَجُلٌ لِرَجُلٍ شَيْئًا بِغَيْرِ أَمْرِهِ كَانَ مَا اشْتَرَاهُ
__________
(1) الإنصاف 4 / 283 ط التراث، والفروع 2 / 466، 467 ط المنار، والمحرر 1 / 310 ط المحمدية، وشرح منتهى الإرادات 2 / 143 ط الفكر، وكشاف القناع 3 / 157 ط النصر.
(2) الإنصاف 4 / 283 ط التراث، والفروع 2 / 467 ط المنار، والمحرر 1 / 310 ط المحمدية، والمقنع 2 / 7، 8 ط السلفية، والمغني 4 / 227 ط الرياض.

(9/121)


لِنَفْسِهِ، أَجَازَ الَّذِي اشْتَرَاهُ لَهُ أَوْ لَمْ يُجِزْ. أَمَّا إِذْ أَضَافَهُ إِلَى آخَرَ، بِأَنْ قَال لِلْبَائِعِ: بِعْ عَبْدَكَ مِنْ فُلاَنٍ، فَقَال: بِعْتُ، وَقَبِل الْمُشْتَرِي هَذَا الْبَيْعَ لِفُلاَنٍ فَإِنَّهُ يَتَوَقَّفُ (1) .
17 - أَمَّا شِرَاءُ الْفُضُولِيِّ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ فَهُوَ كَبَيْعِهِ، أَيْ يَتَوَقَّفُ عَلَى إِجَازَةِ الْمُشْتَرَى لَهُ، فَإِنْ لَمْ يُجِزِ الشِّرَاءَ لَزِمَتِ السِّلْعَةُ الْمُشْتَرِيَ الْفُضُولِيَّ، فَإِنْ كَانَ الثَّمَنُ مَدْفُوعًا مِنْ مَال الْمُشْتَرِي لَهُ فَلاَ رُجُوعَ لَهُ عَلَى الْبَائِعِ فِي حَال عَدَمِ الإِْجَازَةِ، إِلاَّ أَنْ يَكُونَ الْفُضُولِيُّ (الْمُشْتَرِي) أَشْهَدَ عِنْدَ الشِّرَاءِ: أَنَّهُ إِنَّمَا اشْتَرَى لِفُلاَنٍ بِمَالِهِ، وَأَنَّ الْبَائِعَ يَعْلَمُ ذَلِكَ، أَوْ صُدِّقَ الْمُشْتَرِي فِي قَوْلِهِ، أَوْ تَقُومُ بَيِّنَةٌ عَلَى أَنَّ الشَّيْءَ الَّذِي اشْتَرَى بِهِ هُوَ مِلْكُ الْمُشْتَرِي لَهُ. فَإِنْ أَخَذَ الْمُشْتَرِي لَهُ مَالَهُ، وَلَمْ يَجُزِ الشِّرَاءُ انْتُقِضَ الْبَيْعُ فِيمَا إِذَا صُدِّقَ الْبَائِعُ، وَلَمْ يُنْتَقَضْ فِي قِيَامِ الْبَيِّنَةِ أَنَّ الْمَال لَهُ، بَل يَرْجِعُ عَلَى الْمُشْتَرِي بِمِثْل الثَّمَنِ، وَيَلْزَمُهُ الْبَيْعُ عَلَى قَوْل ابْنِ الْقَاسِمِ وَأَصْبَغَ.
وَقَال ابْنُ الْمَاجِشُونِ: الْقَوْل قَوْل الْمُشْتَرِي لَهُ، فَيَحْلِفُ أَنَّهُ مَا أَمَرَ الْمُشْتَرِيَ، وَيَأْخُذُ مَالَهُ إِنْ شَاءَ مِنَ الْمُشْتَرِي، وَإِنْ شَاءَ مِنَ الْبَائِعِ. فَإِنْ أَخَذَهُ مِنَ الْبَائِعِ كَانَ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ عَلَى الْمُشْتَرِي
__________
(1) تبيين الحقائق 4 / 103 ط دار المعرفة، ونتائج الأفكار 5 / 311 ط الأميرية، وحاشية ابن عابدين 4 / 6 ط المصرية.

(9/122)


وَيُلْزِمُهُ الشِّرَاءَ، وَإِنْ أَخَذَهُ مِنَ الْمُشْتَرِي لَمْ يَكُنْ لَهُ رُجُوعٌ عَلَى الْبَائِعِ (1) .
18 - وَأَمَّا الشَّافِعِيَّةُ: فَذَكَرُوا فِي شِرَاءِ الْفُضُولِيِّ تَفْصِيلاً؛ لأَِنَّ الْفُضُولِيَّ إِمَّا أَنْ يَشْتَرِيَ لِغَيْرِهِ بِعَيْنِ مَال الْغَيْرِ، وَإِمَّا أَنْ يَشْتَرِي لِغَيْرِهِ فِي الذِّمَّةِ، وَإِمَّا أَنْ يَشْتَرِيَ لِغَيْرِهِ بِمَال نَفْسِهِ. فَإِنِ اشْتَرَى لِغَيْرِهِ بِعَيْنِ مَال الْغَيْرِ فَفِيهِ قَوْلاَنِ: الْجَدِيدُ بُطْلاَنُهُ، وَالْقَدِيمُ وَقْفُهُ عَلَى الإِْجَازَةِ. وَإِنِ اشْتَرَى فِي الذِّمَّةِ نُظِرَ إِنْ أَطْلَقَ أَوْ نَوَى كَوْنَهُ لِلْغَيْرِ، فَعَلَى الْجَدِيدِ يَقَعُ لِلْمُبَاشِرِ، وَعَلَى الْقَدِيمِ يَقِفُ عَلَى الإِْجَازَةِ، فَإِنْ رَدَّ نَفَذَ فِي حَقِّ الْفُضُولِيِّ. وَلَوْ قَال: اشْتَرَيْتُ لِفُلاَنٍ بِأَلْفٍ فِي ذِمَّتِهِ، فَهُوَ كَاشْتِرَائِهِ بِعَيْنِ مَال الْغَيْرِ. وَلَوِ اقْتَصَرَ عَلَى قَوْلِهِ: اشْتَرَيْتُ لِفُلاَنٍ بِأَلْفٍ، وَلَمْ يُضِفِ الثَّمَنَ إِلَى ذِمَّتِهِ فَعَلَى الْجَدِيدِ وَجْهَانِ، أَحَدُهُمَا: يَلْغُو الْعَقْدُ، وَالثَّانِي: يَقَعُ عَنِ الْمُبَاشِرِ. وَعَلَى الْقَدِيمِ يَقِفُ عَلَى إِجَازَةِ فُلاَنٍ، فَإِنْ رَدَّ فَفِيهِ الْوَجْهَانِ.
وَلَوِ اشْتَرَى شَيْئًا لِغَيْرِهِ بِمَال نَفْسِهِ نُظِرَ: إِنْ لَمْ يُسَمِّهِ وَقَعَ الْعَقْدُ عَنِ الْمُبَاشِرِ، سَوَاءٌ أَذِنَ ذَلِكَ الْغَيْرُ أَمْ لاَ، وَإِنْ سَمَّاهُ نُظِرَ: إِنْ لَمْ يَأْذَنْ لَهُ لَغَتِ التَّسْمِيَةُ، وَهَل يَقَعُ عَنْهُ أَمْ يَبْطُل؟ وَجْهَانِ. وَإِنْ أَذِنَ لَهُ، فَهَل تَلْغُو التَّسْمِيَةُ، وَجْهَانِ. فَإِنْ قُلْنَا:
__________
(1) مواهب الجليل 4 / 272 ط النجاح، وحاشية العدوي هامش الخرشي 5 / 18 ط دار صادر.

(9/122)


نَعَمْ، فَهَل يَبْطُل مِنْ أَصْلِهِ، أَمْ يَقَعُ عَنِ الْمُبَاشِرِ؟ فِيهِ الْوَجْهَانِ، وَإِنْ قُلْنَا: لاَ، وَقَعَ عَنِ الآْذِنِ. وَهَل يَكُونُ الثَّمَنُ الْمَدْفُوعُ قَرْضًا أَمْ هِبَةً؟ وَجْهَانِ (1) .
19 - وَأَمَّا شِرَاءُ الْفُضُولِيِّ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ فَإِنَّهُ لاَ يَصِحُّ، إِلاَّ إِنِ اشْتَرَى فِي ذِمَّتِهِ وَنَوَى الشِّرَاءَ لِشَخْصٍ لَمْ يُسَمِّهِ فَيَصِحُّ، سَوَاءٌ نَقَدَ الثَّمَنَ مِنْ مَال الْغَيْرِ أَمْ لاَ؛ لأَِنَّ ذِمَّتَهُ قَابِلَةٌ لِلتَّصَرُّفِ، فَإِنْ سَمَّاهُ أَوِ اشْتَرَى لِلْغَيْرِ بِعَيْنِ مَالِهِ لَمْ يَصِحَّ الشِّرَاءُ، ثُمَّ إِنْ أَجَازَهُ (أَيِ الشِّرَاءَ) مَنِ اشْتُرِيَ لَهُ مَلَكَهُ مِنْ حِينِ اشْتُرِيَ لَهُ، لأَِنَّهُ اشْتُرِيَ لأَِجْلِهِ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ كَانَ بِإِذْنِهِ، فَتَكُونُ مَنَافِعُهُ وَنَمَاؤُهُ لَهُ. فَإِنْ لَمْ يُجِزْهُ وَقَعَ الشِّرَاءُ لِلْعَاقِدِ وَلَزِمَهُ حُكْمُهُ، كَمَا لَوْ لَمْ يَنْوِ غَيْرَهُ، وَلَيْسَ لَهُ التَّصَرُّفُ فِيهِ قَبْل عَرْضِهِ عَلَى مَنْ نَوَاهُ لَهُ (2) .
__________
(1) روضة الطالبين 3 / 353 - 354 ط المكتب الإسلامي، والمجموع 9 / 260 ط السلفية.
(2) شرح منتهى الإرادات 2 / 143 - 144 ط دار الفكر، وكشاف القناع 3 / 157 - 158 ط النصر.

(9/123)


بَيْعُ مَا لَمْ يُقْبَضْ

1 - ثَبَتَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: مَنِ ابْتَاعَ طَعَامًا فَلاَ يَبِعْهُ حَتَّى يَقْبِضَهُ. وَفِي لَفْظٍ حَتَّى يَكْتَالَهُ وَفِي لَفْظٍ آخَرَ: حَتَّى يَسْتَوْفِيَهُ قَال ابْنُ عَبَّاسٍ (رَاوِي الْحَدِيثِ) : وَلاَ أَحْسَبُ كُل شَيْءٍ إِلاَّ مِثْلَهُ. وَفِي رِوَايَةٍ: إِذَا اشْتَرَيْتَ بَيْعًا فَلاَ تَبِعْهُ حَتَّى تَقْبِضَهُ (1) .
وَقَدْ ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ مَذَاهِبَ فِي بَيْعِ الْمَبِيعِ قَبْل قَبْضِهِ.
2 - فَمَذْهَبُ الشَّافِعِيَّةِ، وَهُوَ قَوْل أَبِي يُوسُفَ الأَْوَّل، وَقَوْل مُحَمَّدٍ، وَهُوَ أَيْضًا رِوَايَةٌ عَنِ الإِْمَامِ أَحْمَدَ (2) : أَنَّهُ لاَ يَصِحُّ بَيْعُ الْمَبِيعِ قَبْل قَبْضِهِ،
__________
(1) حديث: " من ابتاع طعاما فلا يبعه حتى يقبضه. . . " أخرجه البخاري (فتح الباري 4 / 349 ط السلفية) ، ومسلم (3 / 1160 ط عيسى الحلبي) . وفي لفظ: " حتى يكتاله " أخرجه مسلم (3 / 1160) . وفي لفظ آخر: " حتى يستوفيه " أخرجه البخاري (فتح الباري 4 / 349) ، ومسلم (3 / 1160) . وفي رواية: " إذا اشتريت بيعا فلا تبعه حتى تقبضه. . . " أخرجه أحمد (المسند 3 / 402 ط الميمنية) .
(2) انظر فتح القدير 6 / 137، وشرح المحلي على المنهاج 2 / 212، والمغني 4 / 221، والشرح الكبير 4 / 117. وهذه الرواية من الإمام أحمد اختارها ابن عقيل.

(9/123)


سَوَاءٌ أَكَانَ مَنْقُولاً أَمْ عَقَارًا، وَإِنْ أَذِنَ الْبَائِعُ، وَقَبَضَ الثَّمَنَ. وَذَلِكَ لِحَدِيثِ حَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَال: قُلْتُ: يَا رَسُول اللَّهِ: إِنِّي أَشْتَرِي بُيُوعًا، فَمَا يَحِل لِي مِنْهَا، وَمَا يَحْرُمُ عَلَيَّ؟ قَال: إِذَا اشْتَرَيْتَ بَيْعًا فَلاَ تَبِعْهُ حَتَّى تَقْبِضَهُ (1) وَحَدِيثُ ابْنِ عَمْرٍو رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: لاَ يَحِل سَلَفٌ وَبَيْعٌ، وَلاَ شَرْطَانِ فِي بَيْعٍ، وَلاَ رِبْحُ مَا لَمْ يُضْمَنْ، وَلاَ بَيْعُ مَا لَيْسَ عِنْدَكَ (2) .
وَمَعْنَى رِبْحَ مَا لَمْ يُضْمَنْ رِبْحُ مَا بِيعَ قَبْل الْقَبْضِ (3) . مِثْل: أَنْ يَشْتَرِيَ مَتَاعًا، وَيَبِيعَهُ إِلَى آخَرَ قَبْل قَبْضِهِ مِنَ الْبَائِعِ، فَهَذَا الْبَيْعُ بَاطِلٌ، وَرِبْحُهُ لاَ يَجُوزُ؛ لأَِنَّ الْمَبِيعَ فِي ضَمَانِ الْبَائِعِ الأَْوَّل، وَلَيْسَ فِي ضَمَانِ الْمُشْتَرِي مِنْهُ، لِعَدَمِ الْقَبْضِ (4) .
وَلِحَدِيثِ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى أَنْ تُبَاعَ السِّلَعُ حَيْثُ تُبْتَاعُ، حَتَّى يَحُوزَهَا التُّجَّارُ إِلَى رِحَالِهِمْ (5) . وَالْمُرَادُ بِحَوْزِ
__________
(1) حديث حكيم بن حزام: " إذا اشتريت بيعا فلا تبعه حتى تقبضه ". تقدم تخريجه ف / 1.
(2) حديث: " لا يحل سلف وبيع. . . . " أخرجه الترمذي (3 / 535 ط الحلبي) . وقال: حديث حسن صحيح.
(3) كشاف القناع 3 / 242.
(4) نيل الأوطار 5 / 180.
(5) حديث زيد بن ثابت: " نهى النبي صلى الله عليه وسلم أن تباع السلع حيث تبتاع ". أخرجه أبو داود (3 / 765 ط عزت عبيد دعاس) . وصححه ابن حبان (موارد الظمآن ص 274 ط السلفية) .

(9/124)


التُّجَّارِ: وُجُودُ الْقَبْضِ، كَمَا فِي الْحَدِيثِ قَبْلَهُ (1) .
وَلِضَعْفِ الْمِلْكِ قَبْل الْقَبْضِ، لاِنْفِسَاخِ الْعَقْدِ بِتَلَفِهِ (2) . وَهَذَا هُوَ الْمَعْنَى الَّذِي عَلَّل بِهِ الشَّافِعِيَّةُ النَّهْيَ عَنِ الْبَيْعِ قَبْل الْقَبْضِ (3) .
وَعَلَّل الْحَنَابِلَةُ، عَدَمَ الْجَوَازِ عَلَى هَذِهِ الرِّوَايَةِ الَّتِي اخْتَارَهَا ابْنُ عَقِيلٍ مِنْ أَئِمَّتِهِمْ، بِأَنَّهُ لَمْ يَتِمَّ الْمِلْكُ عَلَيْهِ، فَلَمْ يَجُزْ بَيْعُهُ، كَمَا لَوْ كَانَ غَيْرَ مُتَعَيَّنٍ، وَكَمَا لَوْ كَانَ مَكِيلاً أَوْ مَوْزُونًا (4) .
3 - وَمَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ أَنَّهُ لاَ يَصِحُّ بَيْعُ الْمَنْقُول قَبْل قَبْضِهِ، وَلَوْ كَانَ مِنْ بَائِعِهِ (5) ، وَذَلِكَ لِلْحَدِيثِ الْمَذْكُورِ بِرِوَايَاتِهِ، فَإِنَّهُ مَنْهِيٌّ عَنْ بَيْعِ الْمَبِيعِ قَبْل قَبْضِهِ.
وَلأَِنَّ فِي الْبَيْعِ قَبْل الْقَبْضِ غَرَرَ انْفِسَاخِ الْعَقْدِ الأَْوَّل، عَلَى تَقْدِيرِ هَلاَكِ الْمَبِيعِ فِي يَدِ الْبَائِعِ، وَإِذَا هَلَكَ الْمَبِيعُ قَبْل الْقَبْضِ يَنْفَسِخُ الْعَقْدُ، فَيَتَبَيَّنُ أَنَّهُ بَاعَ مَا لاَ يَمْلِكُ، وَالْغَرَرُ حَرَامٌ غَيْرُ جَائِزٍ، لأَِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنْ بَيْعِ الْحَصَاةِ، وَعَنْ بَيْعِ الْغَرَرِ (6) .
__________
(1) حاشية القليوبي على شرح المحلي 2 / 212.
(2) تحفة المحتاج 4 / 401، وانظر شرح المحلي 2 / 213، وشرح المنهاج 3 / 162.
(3) شرح المحلي على المنهاج 2 / 213.
(4) المغني 4 / 221.
(5) الدر المختار ورد المحتار 4 / 162.
(6) انظر الهداية وشرح العناية 6 / 135، 136، وتبيين الحقائق 4 / 80. وحديث " نهى عن بيع الحصاة وعن بيع الغرر ". أخرجه مسلم (3 / 1153 ط الحلبي) .

(9/124)


وَلاَ يُفَرِّقُ الْحَنَفِيَّةُ فِي ذَلِكَ بَيْنَ الطَّعَامِ وَبَيْنَ غَيْرِهِ مِنَ الْمَنْقُولاَتِ، وَذَلِكَ: لِقَوْل ابْنِ عَبَّاسٍ كَمَا تَقَدَّمَ آنِفًا: وَلاَ أَحْسَبُ كُل شَيْءٍ إِلاَّ مِثْلَهُ، أَيْ مِثْل الطَّعَامِ.
وَعَضَّدَ قَوْل ابْنِ عَبَّاسٍ مَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ، قَال: " ابْتَعْتُ زَيْتًا فِي السُّوقِ، فَلَمَّا اسْتَوْجَبْتُهُ، لَقِيَنِي رَجُلٌ، فَأَعْطَانِي فِيهِ رِبْحًا حَسَنًا، فَأَرَدْتُ أَنْ أَضْرِبَ عَلَى يَدِهِ (أَيْ أَنْ أَقْبَل إِيجَابَهُ، وَأَتَّفِقَ عَلَى الْعَقْدِ) فَأَخَذَ رَجُلٌ مِنْ خَلْفِي بِذِرَاعِي، فَالْتَفَتُّ، فَإِذَا زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَقَال: لاَ تَبِعْهُ حَيْثُ ابْتَعْتَهُ، حَتَّى تَحُوزَهُ إِلَى رَحْلِكَ، {فَإِنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى أَنْ تُبَاعَ السِّلَعُ حَيْثُ تُبْتَاعُ، حَتَّى يَحُوزَهَا التُّجَّارُ إِلَى رِحَالِهِمْ} (1) .
وَعَدَمُ الصِّحَّةِ هُنَا، يَعْنِي: الْفَسَادَ لاَ الْبُطْلاَنَ، وَإِنْ كَانَ نَفْيُ الصِّحَّةِ يَحْتَمِلُهُمَا، لَكِنَّ الظَّاهِرَ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ هُوَ الْفَسَادُ؛ لأَِنَّ عِلَّةَ الْفَسَادِ هِيَ الْغَرَرُ، مَعَ وُجُودِ رُكْنَيِ الْبَيْعِ، وَكَثِيرًا مَا يُطْلَقُ الْبَاطِل عَلَى الْفَاسِدِ (2) .
وَأَجَازَ الشَّيْخَانِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ - أَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ - بَيْعَ الْعَقَارِ قَبْل قَبْضِهِ اسْتِحْسَانًا،
__________
(1) حديث: " نهى أن تباع السلع حيث تبتاع. . . ". تقدم تخريجه ف / 2.
(2) رد المحتار 4 / 163، وانظر الدر المختار في الموضوع نفسه.

(9/125)


وَذَلِكَ اسْتِدْلاَلاً بِعُمُومَاتِ حِل الْبَيْعِ مِنْ غَيْرِ تَخْصِيصٍ، وَلاَ يَجُوزُ تَخْصِيصُ عُمُومِ الْكِتَابِ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ. وَلأَِنَّهُ لاَ يُتَوَهَّمُ انْفِسَاخُ الْعَقْدِ فِي الْعَقَارِ بِالْهَلاَكِ، بِخِلاَفِ الْمَنْقُول. وَلأَِنَّ الْعَقَارَ مَقْدُورُ التَّسْلِيمِ، وَلاَ يَرِدُ عَلَيْهِ الْهَلاَكُ إِلاَّ نَادِرًا بِغَلَبَةِ الْمَاءِ وَالرَّمَل، وَالنَّادِرُ لاَ يُعْتَدُّ بِهِ.
وَقِيَاسًا عَلَى التَّصَرُّفِ فِي الثَّمَنِ قَبْل قَبْضِهِ، فَإِنَّهُ جَائِزٌ، لأَِنَّهُ لاَ غَرَرَ فِيهِ، كَالتَّصَرُّفِ فِي الْمَهْرِ وَبَدَل الْخُلْعِ وَالْعِتْقِ وَبَدَل الصُّلْحِ عَنْ دَمِ الْعَمْدِ، لأَِنَّ الْمُطْلَقَ لِلتَّصَرُّفِ، وَهُوَ الْمِلْكُ، قَدْ وُجِدَ، لَكِنَّ الاِحْتِرَازَ عَنِ الْغَرَرِ وَاجِبٌ مَا أَمْكَنَ، وَذَلِكَ فِيمَا يُتَصَوَّرُ فِيهِ الْغَرَرُ، وَهُوَ الْمَبِيعُ الْمَنْقُول، لاَ الْعَقَارُ (1) .
وَخَالَفَ الإِْمَامُ مُحَمَّدٌ، فَلَمْ يُجِزْ بَيْعَ الْعَقَارِ أَيْضًا قَبْل قَبْضِهِ، وَهُوَ قَوْل أَبِي يُوسُفَ الأَْوَّل، وَقَوْل الشَّافِعِيِّ كَمَا قَدَّمْنَا (2) ، وَذَلِكَ لإِِطْلاَقِ الْحَدِيثِ، وَقِيَاسًا عَلَى الْمَنْقُول.
وَقِيَاسًا أَيْضًا عَلَى الإِْجَارَةِ، فَإِنَّهَا فِي الْعَقَارِ لاَ تَجُوزُ قَبْل الْقَبْضِ، وَالْجَامِعُ اشْتِمَالُهُمَا عَلَى رِبْحِ مَا لَمْ يُضْمَنْ، فَإِنَّ الْمَقْصُودَ فِي الْبَيْعِ الرِّبْحُ، وَرِبْحُ مَا لَمْ يُضْمَنْ مَنْهِيٌّ عَنْهُ شَرْعًا. وَالنَّهْيُ
__________
(1) تبيين الحقائق 4 / 80 بتصرف، وانظر بدائع الصنائع 5 / 234 وما بعدها، والمبسوط 13 / 8 وما بعدها، والهداية 6 / 137، 138.
(2) انظر فتح القدير 6 / 137.

(9/125)


يَقْتَضِي الْفَسَادَ، فَيَكُونُ الْبَيْعُ فَاسِدًا قَبْل الْقَبْضِ، لأَِنَّهُ لَمْ يَدْخُل فِي ضَمَانِهِ، كَمَا فِي الإِْجَارَةِ (1) .
4 - وَمَذْهَبُ الْمَالِكِيَّةِ أَنَّ الْمُحَرَّمَ الْمُفْسِدَ لِلْبَيْعِ، هُوَ بَيْعُ الطَّعَامِ دُونَ غَيْرِهِ مِنْ جَمِيعِ الأَْشْيَاءِ قَبْل قَبْضِهِ، سَوَاءٌ أَكَانَ الطَّعَامُ رِبَوِيًّا كَالْقَمْحِ، أَمْ غَيْرَ رِبَوِيٍّ كَالتُّفَّاحِ عِنْدَهُمْ.
أَمَّا غَيْرُ الطَّعَامِ فَيَجُوزُ بَيْعُهُ قَبْل قَبْضِهِ، وَذَلِكَ لِحَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ الْمُتَقَدِّمِ (2) مَنِ {ابْتَاعَ طَعَامًا فَلاَ يَبِعْهُ حَتَّى يَقْبِضَهُ} . وَلِغَلَبَةِ تَغَيُّرِ الطَّعَامِ دُونَمَا سِوَاهُ (3) . لَكِنَّهُمْ شَرَطُوا لِفَسَادِ هَذَا النَّوْعِ مِنَ الْبَيْعِ، شَرْطَيْنِ:
أ - أَنْ يَكُونَ الطَّعَامُ مَأْخُوذًا بِطَرِيقِ الْمُعَاوَضَةِ، أَيْ فِي مُقَابَلَةِ شَيْءٍ، بِإِجَارَةٍ أَوْ شِرَاءٍ أَوْ صُلْحٍ أَوْ أَرْشِ جِنَايَةٍ، أَوْ آل لاِمْرَأَةٍ فِي صَدَاقِهَا، أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْمُعَاوَضَاتِ، فَهَذَا الَّذِي لاَ يَجُوزُ بَيْعُهُ قَبْل قَبْضِهِ (4) .
أَمَّا لَوْ صَارَ إِلَيْهِ الطَّعَامُ بِهِبَةٍ أَوْ مِيرَاثٍ، مِمَّا لَيْسَ أَخْذُهُ بِعِوَضٍ، فَيَجُوزُ بَيْعُهُ قَبْل قَبْضِهِ.
ب - وَأَنْ تَكُونَ الْمُعَاوَضَةُ بِالْكَيْل أَوِ الْوَزْنِ أَوِ
__________
(1) الهداية وشرح العناية عليها 6 / 137.
(2) حديث: " من ابتاع طعاما فلا يبعه حتى يقبضه. . . " سبق تخريجه ف / 1.
(3) بداية المجتهد لابن رشد 2 / 143.
(4) الشرح الكبير للدردير وحاشية الدسوقي عليه 3 / 151، 152، والقوانين الفقهية 170 - 171.

(9/126)


الْعَدَدِ، فَيَشْتَرِيهِ بِكَيْلٍ، وَيَبِيعُهُ قَبْل قَبْضِهِ، سَوَاءٌ أَبَاعَهُ جُزَافًا أَمْ عَلَى الْكَيْل. أَمَّا لَوِ اشْتَرَاهُ جُزَافًا، ثُمَّ بَاعَهُ قَبْل قَبْضِهِ، فَيَكُونُ بَيْعُهُ جَائِزًا، سَوَاءٌ أَبَاعَهُ جُزَافًا أَمْ عَلَى الْكَيْل (1) . وَعَلَى هَذَا:
فَلَوِ اشْتَرَى طَعَامًا كَيْلاً، لَمْ يَجُزْ لَهُ بَيْعُهُ قَبْل قَبْضِهِ، لاَ جُزَافًا وَلاَ كَيْلاً.
وَلَوِ اشْتَرَاهُ جُزَافًا، جَازَ لَهُ بَيْعُهُ قَبْل قَبْضِهِ، مُطْلَقًا، جُزَافًا أَوْ كَيْلاً (2) .
5 - وَفِي مَذْهَبِ الْحَنَابِلَةِ رِوَايَاتٌ مُتَعَدِّدَةٌ فِي الْمَمْنُوعِ بَيْعُهُ قَبْل قَبْضِهِ مِنَ الأَْمْوَال، سَبَقَ بَعْضُهَا (3) :
فَرُوِيَ أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ بَيْعُ الطَّعَامِ وَمَا أَشْبَهَهُ قَبْل قَبْضِهِ مُطْلَقًا، سَوَاءٌ أَكَانَ مَكِيلاً أَمْ مَوْزُونًا، أَمْ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ، خِلاَفًا لِمَالِكٍ الَّذِي اشْتَرَطَ فِيهِ الْكَيْل أَوِ الْوَزْنَ كَمَا قَدَّمْنَا (4) ، وَذَلِكَ لِحَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ الْمُتَقَدِّمِ {مَنِ ابْتَاعَ طَعَامًا فَلاَ يَبِعْهُ حَتَّى يَقْبِضَهُ} (5) .
وَلِقَوْل الأَْثْرَمِ: سَأَلْتُ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ قَوْلِهِ:
__________
(1) حاشية الدسوقي على الشرح الكبير للدردير 3 / 152. وانظر أيضا القوانين الفقهية 171.
(2) حاشية الدسوقي 3 / 135.
(3) راجع فيما تقدم مذهب الشافعي ومن وافقه، ففيه رواية عن أحمد.
(4) راجع فيما تقدم الفقرة السابقة.
(5) حديث: " من ابتاع طعاما فلا يبعه حتى يقبضه ". سبق تخريجه ف / 1.

(9/126)


{نَهَى عَنْ رِبْحِ مَا لَمْ يُضْمَنْ} قَال: هَذَا فِي الطَّعَامِ وَمَا أَشْبَهَهُ، مِنْ مَأْكُولٍ أَوْ مَشْرُوبٍ، فَلاَ يَبِعْهُ حَتَّى يَقْبِضَهُ (1) .
وَلِقَوْل ابْنِ عَبْدِ الْبَرِّ: الأَْصَحُّ أَنَّ الَّذِي يُمْنَعُ مِنْ بَيْعِهِ قَبْل قَبْضِهِ: هُوَ الطَّعَامُ، وَذَلِكَ لأَِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {نَهَى عَنْ بَيْعِ الطَّعَامِ قَبْل قَبْضِهِ} فَمَفْهُومُهُ إِبَاحَةُ مَا سِوَاهُ قَبْل قَبْضِهِ (2) .
وَلِقَوْل {ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: رَأَيْتُ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ الطَّعَامَ مُجَازَفَةً، يَضْرِبُونَ عَلَى عَهْدِ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَبِيعُوهُ حَتَّى يُؤْوُوهُ إِلَى رِحَالِهِمْ (3) } .
وَلِلْحَدِيثِ الْمُتَقَدِّمِ: {مَنِ ابْتَاعَ طَعَامًا فَلاَ يَبِعْهُ حَتَّى يَسْتَوْفِيَهُ} (4) .
وَلِقَوْل ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا {: كُنَّا نَشْتَرِي الطَّعَامَ مِنَ الرَّكْبَانِ جُزَافًا، فَنَهَانَا رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ نَبِيعَهُ حَتَّى نَنْقُلَهُ مِنْ مَكَانِهِ} (5) .
وَلِقَوْل ابْنِ الْمُنْذِرِ: أَجْمَعَ أَهْل الْعِلْمِ عَلَى أَنَّ مَنِ اشْتَرَى طَعَامًا، فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَبِيعَهُ حَتَّى يَسْتَوْفِيَهُ (6) .
__________
(1) الشرح الكبير في ذيل المغني 4 / 116.
(2) المرجع السابق.
(3) المرجع السابق.
(4) راجع فيما تقدم (ف 1) .
(5) حديث: " كنا نشتري الطعام من الركبان جزافا. . . " أخرجه مسلم (3 / 1161 ط الحلبي) .
(6) الشرح الكبير في ذيل المغني 4 / 116.

(9/127)


قَالُوا: وَلَوْ دَخَل فِي ضَمَانِ الْمُشْتَرِي جَازَ بَيْعُهُ، وَالتَّصَرُّفُ فِيهِ، كَمَا جَازَ ذَلِكَ بَعْدَ قَبْضِهِ.
وَعَلَّقَ الشَّرْحُ الْكَبِيرُ عَلَى ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: وَهَذَا أَيْ حَدِيثُ {مَنِ ابْتَاعَ طَعَامًا} يَدُل عَلَى تَعْمِيمِ الْمَنْعِ فِي كُل طَعَامٍ، مَعَ تَنْصِيصِهِ عَلَى الْبَيْعِ مُجَازَفَةً بِالْمَنْعِ. وَيَدُل بِمَفْهُومِهِ عَلَى أَنَّ مَا عَدَا الطَّعَامَ يُخَالِفُهُ فِي ذَلِكَ (1) .
وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى عَنِ الإِْمَامِ أَحْمَدَ: أَنَّ مَا كَانَ مُتَعَيَّنًا، كَالصُّبْرَةِ تُبَاعُ مِنْ غَيْرِ كَيْلٍ، يَجُوزُ بَيْعُهَا قَبْل قَبْضِهَا، وَمَا لَيْسَ بِمُتَعَيَّنٍ، كَقَفِيزٍ مِنْ صُبْرَةٍ، وَرِطْلٍ مِنْ زُبْرَةِ حَدِيدٍ (2) ، فَإِنَّهُ لاَ يَجُوزُ بَيْعُهَا قَبْل قَبْضِهَا، بَل حَتَّى تُكَال أَوْ تُوزَنَ.
وَهَذَا قَرِيبٌ مِنْ قَوْل مَالِكٍ الْمُتَقَدِّمِ، فِي جَوَازِ بَيْعِ مَا شُرِيَ جُزَافًا، لَوْلاَ تَخْصِيصُ مَالِكٍ الْمَبِيعَ بِالطَّعَامِ. وَوَجْهُ هَذِهِ الرِّوَايَةِ مَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّهُ قَال: مَضَتِ السُّنَّةُ أَنَّ مَا أَدْرَكَتْهُ الصَّفْقَةُ حَيًّا مَجْمُوعًا، فَهُوَ مِنْ مَال الْمُبْتَاعِ (3) ، فَلَمَّا جَعَلَهُ مِنْ ضَمَانِ الْمُشْتَرِي مَعَ أَنَّهُ
__________
(1) الشرح الكبير 4 / 116.
(2) الزبرة من الحديد القطعة منه، وتجمع على: زُبَر، كغرفة وغرف. انظر المصباح المنير مادة: " زبر ".
(3) قول ابن عمر: مضت السنة أن ما أدركته الصفقة حيا مجموعا فهو من المبتاع. علقه البخاري في صحيحه. (فتح الباري 4 / 351 ط السلفية) وصححه ابن حجر في تغليق التعليق 3 / 243 المكتب الإسلامي.

(9/127)


لَمْ يَقْبِضْهُ دَل عَلَى الْبَيْعِ قَبْل الْقَبْضِ فِي الْمُتَعَيَّنِ (1) .
وَلأَِنَّ الْمَبِيعَ الْمُعَيَّنَ لاَ يَتَعَلَّقُ بِهِ حَقُّ تَوْفِيَةٍ، فَكَانَ مِنْ مَال الْمُشْتَرِي، كَغَيْرِ الْمَكِيل وَالْمَوْزُونِ.
وَفِي رِوَايَةٍ ثَالِثَةٍ عَنِ الإِْمَامِ أَحْمَدَ: أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ بَيْعُ شَيْءٍ قَبْل قَبْضِهِ. وَهِيَ الَّتِي وَافَقَ فِيهَا الإِْمَامَ الشَّافِعِيَّ وَغَيْرَهُ، كَمَا تَقَدَّمَ.
وَرِوَايَةُ الْمَذْهَبِ (2) : أَنَّ الْمَكِيل وَالْمَوْزُونَ وَالْمَعْدُودَ وَالْمَذْرُوعَ، لاَ يَصِحُّ تَصَرُّفُ الْمُشْتَرِي فِيهِ قَبْل قَبْضِهِ مِنْ بَائِعِهِ (3) . وَهَذَا مَرْوِيٌّ أَيْضًا: عَنْ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ، وَالْحَسَنِ، وَالْحَكَمِ، وَحَمَّادِ ابْنِ أَبِي سُلَيْمَانَ، وَالأَْوْزَاعِيِّ، وَإِسْحَاقَ (4) .
وَمُسْتَنَدُ هَذِهِ الرِّوَايَةِ فِي التَّفْرِقَةِ بَيْنَ الْمَكِيل وَالْمَوْزُونِ وَنَحْوِهِمَا وَبَيْنَ غَيْرِهِمَا:
أَنَّ الْحَدِيثَ الْمَذْكُورَ نَهَى عَنْ بَيْعِ الطَّعَامِ قَبْل قَبْضِهِ، وَكَانَ الطَّعَامُ يَوْمَئِذٍ مُسْتَعْمَلاً غَالِبًا فِيمَا يُكَال وَيُوزَنُ، وَقِيسَ عَلَيْهِمَا الْمَعْدُودُ وَالْمَذْرُوعُ، لاِحْتِيَاجِهِمَا إِلَى حَقِّ التَّوْفِيَةِ (5) . وَسَوَاءٌ أَكَانَ
__________
(1) الشرح الكبير 4 / 115.
(2) انظر الإنصاف 4 / 460 - 461 فهي المذهب، وعليها الأصحاب، والمشهور في المذهب.
(3) المغني 4 / 217 وما بعدها، والشرح الكبير في ذيله 4 / 115، وكشاف القناع 3 / 241.
(4) المغني 4 / 220.
(5) كشاف القناع 3 / 241.

(9/128)


الْمَعْدُودُ مُتَعَيَّنًا كَالصُّبْرَةِ، أَمْ غَيْرَ مُتَعَيَّنٍ كَقَفِيزٍ مِنْهَا.
أَمَّا مَا عَدَا الْمَكِيل وَالْمَوْزُونَ وَنَحْوَهُمَا، فَيَجُوزُ التَّصَرُّفُ فِيهِ قَبْل قَبْضِهِ، وَذَلِكَ: لِمَا رُوِيَ {عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَال: أَتَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقُلْتُ: إِنِّي أَبِيعُ الإِْبِل بِالْبَقِيعِ، فَأَبِيعُ بِالدَّنَانِيرِ وَآخُذُ الدَّرَاهِمَ، وَأَبِيعُ بِالدَّرَاهِمِ وَآخُذُ الدَّنَانِيرَ. فَقَال: لاَ بَأْسَ أَنْ تَأْخُذَ بِسِعْرِ يَوْمِهَا، مَا لَمْ تَفْتَرِقَا وَبَيْنَكُمَا شَيْءٌ} (1) .
قَالُوا: فَهَذَا تَصَرُّفٌ فِي الثَّمَنِ قَبْل قَبْضِهِ، وَهُوَ أَحَدُ الْعِوَضَيْنِ (2) .

ضَابِطُ مَا يُمْنَعُ مِنَ التَّصَرُّفِ فِيهِ قَبْل قَبْضِهِ:
6 - اخْتَلَفَتْ ضَوَابِطُ الْفُقَهَاءِ، فِي التَّصَرُّفَاتِ الْمَمْنُوعَةِ شَرْعًا قَبْل قَبْضِ الْمَبِيعِ:
أ - فَاتَّفَقَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ، عَلَى هَذَا الضَّابِطِ وَهُوَ:
أَنَّ كُل عِوَضٍ مُلِكَ بِعَقْدٍ يَنْفَسِخُ بِهَلاَكِهِ قَبْل الْقَبْضِ، لَمْ يَجُزِ التَّصَرُّفُ فِيهِ قَبْل قَبْضِهِ،
__________
(1) حديث ابن عمر: " لا بأس أن تأخذ بسعر يومها، ما لم تفترقا وبينكما شيء " أخرجه أبو داود (3 / 651 ط عزت عبيد دعاس) ، ونقل البيهقي عن شعبة أنه حكم عليه بالوقف على ابن عمر. (التلخيص لابن حجر 3 / 26 ط شركة الطباعة الفنية) .
(2) المغني 4 / 221، والشرح الكبير في ذيله 4 / 118.

(9/128)


وَمَا لاَ يَنْفَسِخُ الْعَقْدُ بِهَلاَكِهِ، جَازَ التَّصَرُّفُ فِيهِ قَبْل قَبْضِهِ (1) .
فَمِثَال الأَْوَّل: الْمَبِيعُ وَالأُْجْرَةُ وَبَدَل الصُّلْحِ عَنِ الدَّيْنِ، إِذَا كَانَ الثَّمَنُ وَالأَْجْرُ وَالْبَدَل عَيْنًا - عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ - أَوْ كَانَ مِنَ الْمَكِيل أَوِ الْمَوْزُونِ أَوِ الْمَعْدُودِ عِنْدَ الْحَنْبَلِيَّةِ.
وَمِثَال الآْخَرِ: الْمَهْرُ إِذَا كَانَ عَيْنًا - عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ - وَكَذَا بَدَل الْخُلْعِ، وَالْعِتْقِ عَلَى مَالٍ، وَبَدَل الصُّلْحِ عَنْ دَمِ الْعَمْدِ - وَكَذَا أَرْشُ الْجِنَايَةِ، وَقِيمَةُ الْمُتْلَفِ، عِنْدَ الْحَنْبَلِيَّةِ فِي هَذَيْنِ - كُل ذَلِكَ إِذَا كَانَ عَيْنًا، يَجُوزُ بَيْعُهُ وَإِجَارَتُهُ قَبْل قَبْضِهِ، وَسَائِرُ التَّصَرُّفَاتِ (2) .
وَعَلَّل الْحَنَابِلَةُ هَذَا الضَّابِطَ بِقَوْلِهِمْ: إِنَّ الْمُقْتَضِيَ لِلتَّصَرُّفِ هُوَ الْمِلْكُ، وَقَدْ وُجِدَ. لَكِنَّ مَا يُتَوَهَّمُ فِيهِ غَرَرُ الاِنْفِسَاخِ، بِاحْتِمَال هَلاَكِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ لاَ يَجُوزُ بِنَاءُ عَقْدٍ آخَرَ عَلَيْهِ تَحَرُّزًا مِنَ الْغَرَرِ، وَمَا لاَ يُتَوَهَّمُ فِيهِ ذَلِكَ الْغَرَرُ، انْتَفَى عَنْهُ الْمَانِعُ، فَجَازَ بِنَاءُ الْعَقْدِ الآْخَرِ عَلَيْهِ (3) .
ب - وَوَضَعَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ هَذَا الضَّابِطَ، وَهُوَ:
(1) أَنَّ كُل تَصَرُّفٍ لاَ يَتِمُّ إِلاَّ بِالْقَبْضِ، كَالْهِبَةِ
__________
(1) المغني 4 / 221، والشرح الكبير في ذيله 4 / 118، وقارنه تماما بالذي في الدر المختار ورد المحتار 4 / 162.
(2) المراجع السابقة نفسها في المذهبين في مواضعها.
(3) المغني 4 / 221، والشرح الكبير في ذيله 4 / 118.

(9/129)


وَالصَّدَقَةِ وَالرَّهْنِ وَالْقَرْضِ وَالإِْعَارَةِ وَنَحْوِهَا، يَجُوزُ قَبْل قَبْضِ الْمَبِيعِ.
(2) وَكُل تَصَرُّفٍ يَتِمُّ قَبْل الْقَبْضِ، كَالْمَبِيعِ وَالإِْجَارَةِ وَبَدَل الصُّلْحِ عَنِ الدَّيْنِ إِذَا كَانَ عَيْنًا، وَنَحْوِهَا لاَ يَجُوزُ قَبْل قَبْضِ الْمَبِيعِ.
وَتَعْلِيلُهُ عِنْدَهُ: أَنَّ الْهِبَةَ - مَثَلاً - لَمَّا كَانَتْ لاَ تَتِمُّ إِلاَّ بِالْقَبْضِ، صَارَ الْمَوْهُوبُ لَهُ نَائِبًا عَنِ الْوَاهِبِ، وَهُوَ الْمُشْتَرِي الَّذِي وَهَبَهُ الْمَبِيعَ قَبْل قَبْضِهِ، ثُمَّ يَصِيرُ قَابِضًا لِنَفْسِهِ، فَتَتِمُّ الْهِبَةُ بَعْدَ الْقَبْضِ.
بِخِلاَفِ الْبَيْعِ - مَثَلاً - وَنَحْوِهِ مِمَّا يَتِمُّ قَبْل الْقَبْضِ، فَإِنَّهُ لاَ يَجُوزُ، لأَِنَّهُ إِذَا قَبَضَهُ الْمُشْتَرِي الثَّانِي لاَ يَكُونُ قَابِضًا عَنِ الأَْوَّل، لِعَدَمِ تَوَقُّفِ الْبَيْعِ عَلَى الْقَبْضِ، فَيَلْزَمُ مِنْهُ تَمْلِيكُ الْمَبِيعِ قَبْل قَبْضِهِ، وَهُوَ لاَ يَصِحُّ (1) .
وَأَشَارَ التُّمُرْتَاشِيُّ إِلَى أَنَّ الأَْصَحَّ مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الإِْمَامُ مُحَمَّدٌ (2) .
ج - وَضَبَطَ الدَّرْدِيرُ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ مَا يَمْنَعُ بَيْعَ الطَّعَامِ قَبْل قَبْضِهِ، بِأَنْ تَتَوَالَى عُقْدَتَا بَيْعٍ لَمْ يَتَخَلَّلْهُمَا قَبْضٌ (3) . وَهَذَا مُخْتَصٌّ بِالطَّعَامِ عَلَى رَأْيِهِمُ الْمُتَقَدِّمِ فِي حَصْرِ الْمَنْهِيِّ عَنْ بَيْعِهِ قَبْل قَبْضِهِ فِي مُطْلَقِ الأَْطْعِمَةِ الرِّبَوِيَّةِ.
__________
(1) رد المحتار 4 / 162، 163 بتصرف. وانظر بسط الموضوع في فتح القدير 6 / 136، 137.
(2) الدر المختار 4 / 162.
(3) الشرح الكبير للدردير 3 / 152.

(9/129)


وَيُؤْخَذُ مِنْ كَلاَمِ ابْنِ جُزَيٍّ هَذَا الضَّابِطُ، وَهُوَ:
أَنَّ كُل طَعَامٍ أُخِذَ مُعَاوَضَةً - بِغَيْرِ جُزَافٍ - فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَبِيعَهُ حَتَّى يَقْبِضَهُ. وَتَشْمَل الْمُعَاوَضَةُ: الشِّرَاءَ، وَالإِْجَارَةَ، وَالصُّلْحَ، وَأَرْشَ الْجِنَايَةِ، وَالْمَهْرَ، وَغَيْرَهَا - عَلَى مَا ذُكِرَ - فَلَيْسَ لَهُ بَيْعُهُ حَتَّى يَقْبِضَهُ، لَكِنْ يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَهَبَهُ أَوْ يُسَلِّفَهُ قَبْل قَبْضِهِ (1) .
وَالتَّقْيِيدُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ بِغَيْرِ الْجُزَافِ، لإِِخْرَاجِ مَا بِيعَ جُزَافًا بِغَيْرِ كَيْلٍ وَلاَ عَدٍّ وَلاَ وَزْنٍ مِنَ الطَّعَامِ، فَإِنَّهُ يَجُوزُ بَيْعُهُ قَبْل قَبْضِهِ، لِدُخُولِهِ فِي ضَمَانِ الْمُشْتَرِي بِمُجَرَّدِ الْعَقْدِ، فَهُوَ مَقْبُوضٌ حُكْمًا، فَلَيْسَ فِيهِ تَوَالِي عُقْدَتَيْ بَيْعٍ لَمْ يَتَخَلَّلْهُمَا قَبْضٌ (2) .
كَمَا شَرَطَ الْمَالِكِيَّةُ فِي جَوَازِ بَيْعِ مُطْلَقِ طَعَامِ الْمُعَاوَضَةِ - بِالإِْضَافَةِ إِلَى شَرْطِ قَبْضِهِ - أَنْ لاَ يَكُونَ الْقَبْضُ مِنْ نَفْسِهِ لِنَفْسِهِ، فَإِنْ قَبَضَ مِنْ نَفْسِهِ لِنَفْسِهِ، مُنِعَ بَيْعُهُ؛ لأَِنَّ هَذَا الْقَبْضَ الْوَاقِعَ بَيْنَ الْعَقْدَيْنِ كَلاَ قَبْضٍ (3) .
وَمَعْنَى هَذَا أَنَّ الْقَبْضَ الْمُعْتَدَّ بِهِ فِي الْجَوَازِ، هُوَ الْقَبْضُ الْقَوِيُّ، فَيَجُوزُ بَيْعُ الطَّعَامِ عَقِبَهُ. أَمَّا الْقَبْضُ الضَّعِيفُ، فَهُوَ كَلاَ قَبْضٍ، فَلاَ
__________
(1) القوانين الفقهية 170 - 171.
(2) الشرح الكبير 3 / 152، والقوانين الفقهية 171.
(3) حاشية الدسوقي على الشرح الكبير 3 / 152.

(9/130)


يُعْقِبُ الْجَوَازَ. مِثَال ذَلِكَ: - إِذَا وَكَّلَهُ بِبَيْعِ طَعَامٍ، فَبَاعَهُ مِنْ أَجْنَبِيٍّ، وَقَبْل قَبْضِ الأَْجْنَبِيِّ الطَّعَامَ، اشْتَرَاهُ الْوَكِيل مِنْهُ لِنَفْسِهِ، فَإِنَّهُ يَمْتَنِعُ بَيْعُهُ مِنْ نَفْسِهِ، لأَِنَّهُ يَقْبِضُ هَذِهِ الْحَال مِنْ نَفْسِهِ لِنَفْسِهِ.
- وَكَذَلِكَ لَوْ وَكَّلَهُ بِشِرَاءِ طَعَامٍ، فَاشْتَرَاهُ وَقَبَضَهُ ثُمَّ بَاعَهُ لأَِجْنَبِيٍّ، وَاشْتَرَاهُ مِنْهُ قَبْل أَنْ يَقْبِضَهُ الأَْجْنَبِيُّ مِنْهُ، فَإِنَّهُ يَمْتَنِعُ شِرَاؤُهُ مِنْ نَفْسِهِ، لأَِنَّهُ فِي هَذِهِ الْحَال يَقْبِضُ مِنْ نَفْسِهِ لِنَفْسِهِ (1) .
وَيُسْتَثْنَى مِنْ عَدَمِ جَوَازِ بَيْعِ الطَّعَامِ إِذَا قَبَضَ مِنْ نَفْسِهِ لِنَفْسِهِ، مَا إِذَا كَانَ الْقَابِضُ مِنْ نَفْسِهِ مِمَّنْ يَتَوَلَّى طَرَفَيِ الْعَقْدِ، كَوَصِيٍّ لِيَتِيمَيْهِ، وَوَالِدٍ لِوَلَدَيْهِ الصَّغِيرَيْنِ، فَإِنَّهُ يَجُوزُ بَيْعُ طَعَامِ أَحَدِهِمَا لِلآْخَرِ، ثُمَّ بَيْعُهُ لأَِجْنَبِيٍّ، قَبْل قَبْضِهِ لِمَنِ اشْتَرَاهُ لَهُ (2) .
د - لَمْ يَضَعِ الشَّافِعِيَّةُ ضَابِطًا فِي هَذَا الصَّدَدِ، لَكِنَّهُمْ أَلْحَقُوا - فِي الأَْصَحِّ مِنْ مَذْهَبِهِمْ - بِالْبَيْعِ عُقُودًا أُخْرَى، مِنْ حَيْثُ الْبُطْلاَنُ قَبْل الْقَبْضِ.
فَنَصُّوا عَلَى أَنَّ الإِْجَارَةَ وَالرَّهْنَ وَالْهِبَةَ - وَلَوْ مِنَ الْبَائِعِ - بَاطِلَةٌ، فَلاَ تَصِحُّ لِوُجُودِ الْمَعْنَى الْمُعَلَّل بِهِ النَّهْيُ فِيهَا، وَهُوَ ضَعْفُ الْمِلْكِ، وَكَذَلِكَ الصَّدَقَةُ وَالْهَدِيَّةُ وَعِوَضُ الْخُلْعِ وَالصُّلْحِ عَنْ نَحْوِ دَمٍ،
__________
(1) الشرح الكبير وحاشية الدسوقي عليه 3 / 152.
(2) الشرح الكبير للدردير 3 / 153.

(9/130)


وَالْقَرْضُ وَالْقِرَاضُ وَالشَّرِكَةُ وَغَيْرُهَا (1) .
وَجَاءَتْ عِبَارَةُ الْمَنْهَجِ عَامَّةً، فَنَصَّتْ عَلَى أَنَّهُ: لاَ يَصِحُّ تَصَرُّفٌ، وَلَوْ مَعَ بَائِعٍ، بِنَحْوِ بَيْعٍ وَرَهْنٍ فِيمَا لَمْ يُقْبَضْ، وَضُمِنَ بِعَقْدٍ (2) .
لَكِنَّهُمْ صَحَّحُوا تَصَرُّفَ الْمُشْتَرِي بِالْمَبِيعِ قَبْل قَبْضِهِ بِالإِْعْتَاقِ وَالْوَصِيَّةِ وَالتَّدْبِيرِ وَالتَّزْوِيجِ وَالْوَقْفِ وَقِسْمَةِ الإِْفْرَازِ وَالتَّعْدِيل لاَ الرَّدِّ، وَكَذَا إِبَاحَةُ طَعَامٍ اشْتَرَاهُ جُزَافًا، بِخِلاَفِ مَا لَوِ اشْتَرَاهُ مَكِيلاً، فَلاَ بُدَّ لِصِحَّةِ إِبَاحَتِهِ مِنْ كَيْلِهِ وَقَبْضِهِ.
وَعَلَّلُوا ذَلِكَ بِتَشَوُّفِ الشَّارِعِ إِلَى الْعِتْقِ - عَلَى حَدِّ تَعْبِيرِهِمْ - وَفِي مَعْنَاهُ بَقِيَّةُ التَّصَرُّفَاتِ.
7 - وَأَلْحَقُوا أَيْضًا الثَّمَنَ الْمُعَيَّنَ، سَوَاءٌ أَكَانَ دَرَاهِمَ أَمْ دَنَانِيرَ أَمْ غَيْرَهُمَا بِالْمَبِيعِ فِي فَسَادِ التَّصَرُّفِ قَبْل الْقَبْضِ، فَلاَ يَبِيعُهُ الْبَائِعُ، وَلاَ يَتَصَرَّفُ فِيهِ قَبْل قَبْضِهِ، وَذَلِكَ لِعُمُومِ النَّهْيِ، وَلِلتَّعْلِيل الْمُتَقَدِّمِ (3) .
بَل قَال ابْنُ حَجَرٍ: وَكُل عَيْنٍ مَضْمُونَةٍ فِي عَقْدِ مُعَاوَضَةٍ. كَذَلِكَ (4) ، أَيْ لاَ يُتَصَرَّفُ فِيهَا قَبْل قَبْضِهَا.
فَأَمَّا الأَْمْوَال الَّتِي تَكُونُ لِلشَّخْصِ فِي يَدِ غَيْرِهِ
__________
(1) شرح المحلي على المنهاج 2 / 213.
(2) انظر المنهج وشرحه بحاشية الجمل 3 / 161، 162، وانظر تحفة المحتاج 4 / 402، 403.
(3) راجع فيما تقدم. ف / 1.
(4) تحفة المحتاج 4 / 403.

(9/131)


أَمَانَةً كَالْوَدِيعَةِ، وَالْمَال الْمُشْتَرَكِ فِي الشَّرِكَةِ وَالْقِرَاضِ، وَالْمَرْهُونِ بَعْدَ انْفِكَاكِهِ، وَالْمَوْرُوثِ، وَمَا يَمْلِكُهُ الْغَانِمُ مِنَ الْغَنِيمَةِ، وَالْمَال الْبَاقِي فِي يَدِ الْوَلِيِّ بَعْدَ بُلُوغِ الْمَوْلَى عَلَيْهِ رُشْدَهُ وَنَحْوِهَا، فَيَمْلِكُ بَيْعَهَا، لِتَمَامِ الْمِلْكِ فِي الْمَذْكُورَاتِ (1) .
8 - وَلَعَلَّهُ لاَ بَأْسَ مِنَ الإِْشَارَةِ هَاهُنَا إِلَى أَنَّ الإِْمَامَ الشَّوْكَانِيَّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - طَرَحَ ضَابِطًا آخَرَ، شَطْرُهُ مِمَّا قَرَّرَهُ الشَّافِعِيَّةُ، وَقَال مَا نَظِيرُهُ:
إِنَّ التَّصَرُّفَاتِ الَّتِي تَكُونُ بِعِوَضٍ، تُلْتَحَقُ بِالْبَيْعِ، فَيَكُونُ فِعْلُهَا قَبْل الْقَبْضِ غَيْرَ جَائِزٍ. وَالتَّصَرُّفَاتِ الَّتِي لاَ عِوَضَ فِيهَا، تُلْتَحَقُ بِالْهِبَةِ، فَيَكُونُ فِعْلُهَا قَبْل الْقَبْضِ جَائِزًا. وَرَجَّحَ هَذَا الرَّأْيَ، وَاسْتَشْهَدَ لَهُ بِإِجْمَاعِهِمْ عَلَى صِحَّةِ الْوَقْفِ وَالْعِتْقِ قَبْل الْقَبْضِ. وَبِمَا عُلِّل بِهِ النَّهْيُ عَنْ بَيْعِ مَا لَمْ يُقْبَضْ، وَهُوَ شُبْهَةُ الرِّبَا: فَقَدْ رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أَنَّ طَاوُسًا سَأَلَهُ عَنْ سَبَبِ النَّهْيِ، فَأَجَابَهُ: بِأَنَّهُ إِذَا بَاعَ الْمُشْتَرِي الْمَبِيعَ قَبْل قَبْضِهِ، وَتَأَخَّرَ الْمَبِيعُ فِي يَدِ الْبَائِعِ، صَارَ كَأَنَّهُ بَاعَهُ دَرَاهِمَ بِدَرَاهِمَ، فَإِذَا اشْتَرَى طَعَامًا بِمِائَةِ دِينَارٍ مَثَلاً، وَدَفَعَهَا إِلَى الْبَائِعِ، وَلَمْ يَقْبِضْ مِنْهُ الطَّعَامَ، ثُمَّ بَاعَ الطَّعَامَ مِنْ شَخْصٍ آخَرَ بِمِائَةٍ وَعِشْرِينَ - مَثَلاً - صَارَ كَأَنَّهُ
__________
(1) المرجع السابق 4 / 403، 404، وشرح المحلي على المنهاج 2 / 213.

(9/131)


اشْتَرَى بِذَهَبِهِ ذَهَبًا أَكْثَرَ مِنْهُ أَيِ اشْتَرَى بِمِائَةٍ مِائَةً وَعِشْرِينَ.
قَال الشَّوْكَانِيُّ: وَلاَ يَخْفَى أَنَّ مِثْل هَذِهِ الْعِلَّةِ لاَ يَنْطَبِقُ عَلَى مَا كَانَ مِنَ التَّصَرُّفِ بِغَيْرِ عِوَضٍ.
وَهَذَا التَّعْلِيل أَجْوَدُ مَا عُلِّل بِهِ النَّهْيُ؛ لأَِنَّ الصَّحَابَةَ أَعْرَفُ بِمَقَاصِدِ الرَّسُول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (1) .
9 - وَقَال بَعْضُ الْمَالِكِيَّةِ: إِنَّ هَذَا النَّهْيَ تَعَبُّدٌ. وَأَشَارَ الدُّسُوقِيُّ مِنْهُمْ إِلَى أَنَّ هَذَا هُوَ الصَّحِيحُ عِنْدَ أَهْل الْمَذْهَبِ، وَنَقَلَهُ عَنِ التَّوْضِيحِ (2) .
وَقِيل: بَل هُوَ مَعْقُول الْمَعْنَى، وَمُعَلَّلٌ بِأَنَّ الشَّارِعَ لَهُ غَرَضٌ فِي ظُهُورِهِ، وَهُوَ سُهُولَةُ الْوُصُول إِلَى الطَّعَامِ، لِيَتَوَصَّل إِلَيْهِ الْقَوِيُّ وَالضَّعِيفُ.
وَلَوْ جَازَ بَيْعُهُ قَبْل قَبْضِهِ، لَبَاعَ أَهْل الأَْمْوَال بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ، مِنْ غَيْرِ ظُهُورٍ، وَلَخَفِيَ بِإِمْكَانِ شِرَائِهِ مِنْ مَالِكِهِ وَبَيْعِهِ خُفْيَةً، فَلَمْ يَتَوَصَّل إِلَيْهِ الْفَقِيرُ، بِخِلاَفِ مَا إِذَا مُنِعَ مِنْ ذَلِكَ، فَإِنَّهُ يَنْتَفِعُ بِهِ الْكَيَّال، وَالْحَمَّال، وَيَظْهَرُ لِلْفُقَرَاءِ، فَتَقْوَى بِهِ قُلُوبُ النَّاسِ، لاَ سِيَّمَا فِي زَمَنِ الْمَسْغَبَةِ وَالشِّدَّةِ (3) .
__________
(1) نيل الأوطار 5 / 160.
(2) حاشية الدسوقي على الشرح الكبير 3 / 151.
(3) حاشية الدسوقي على الشرح الكبير 3 / 151، 152، وحاشة العدوي على شرح كفاية الطالب 2 / 135.

(9/132)


تَحْدِيدُ الْقَبْضِ وَتَحَقُّقُهُ:
10 - مَذْهَبُ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ أَنَّ قَبْضَ كُل شَيْءٍ بِحَسَبِهِ (1)
(أ) فَإِنْ كَانَ مَكِيلاً أَوْ مَوْزُونًا أَوْ مَعْدُودًا أَوْ مَذْرُوعًا، فَقَبْضُهُ بِالْكَيْل أَوِ الْوَزْنِ أَوِ الْعَدِّ أَوِ الذَّرْعِ.
وَذَلِكَ: لِحَدِيثِ {عُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَال: كُنْتُ أَبْتَاعُ التَّمْرَ مِنْ بَطْنٍ مِنَ الْيَهُودِ، يُقَال لَهُمْ: بَنُو قَيْنُقَاعَ، وَأَبِيعُهُ بِرِبْحٍ، فَبَلَغَ ذَلِكَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَال: يَا عُثْمَانُ: إِذَا ابْتَعْتَ فَاكْتَل، وَإِذَا بِعْتَ فَكِل} (2) .
وَحَدِيثِ جَابِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَال: {نَهَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ بَيْعِ الطَّعَامِ حَتَّى يَجْرِيَ فِيهِ الصَّاعَانِ: صَاعُ الْبَائِعِ، وَصَاعُ الْمُشْتَرِي} (3) .
__________
(1) نص ابن قدامة في المغني 4 / 220.
(2) حديث: " يا عثمان إذا ابتعت فاكتل ". علقه البخاري (فتح الباري 4 / 344 ط السلفية) ووصله أحمد (1 / 62 ط - الميمنية) وحسنه الهيثمي (4 / 98 ط القدسي) ونوه بقوته البيهقي في سننه (5 / 315 ط دائرة المعارف العثمانية) .
(3) المغني 4 / 220. وحديث: " نهى عن بيع الطعام حتى يجري فيه الصاعان، صاع البائع، وصاع المشتري ". أخرجه ابن ماجه (2 / 750 ط الحلبي) والدارقطني (3 / 8 ط دار المحاسن) . ونقل ابن حجر عن البيهقي أنه رواه مرسلا ثم قال: روي موصولا من أوجه إذا ضم بعضها إلى بعض قوي.

(9/132)


وَالْمَالِكِيَّةُ شَرَطُوا فِي قَبْضِ الْمِثْلِيِّ تَسْلِيمَهُ لِلْمُشْتَرِي، وَتَفْرِيغَهُ فِي أَوْعِيَتِهِ (1) .
(ب) وَإِنْ كَانَ جُزَافًا فَقَبْضُهُ نَقْلُهُ، وَذَلِكَ لِحَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَال: {كَانُوا يَتَبَايَعُونَ الطَّعَامَ جُزَافًا بِأَعْلَى السُّوقِ، فَنَهَاهُمْ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَبِيعُوهُ حَتَّى يَنْقُلُوهُ} وَفِي رِوَايَةٍ: {حَتَّى يُحَوِّلُوهُ} (2) .
(ج) وَإِنْ كَانَ مَنْقُولاً مِنْ عُرُوضٍ وَأَنْعَامٍ، فَقَبْضُهُ بِالْعُرْفِ الْجَارِي بَيْنَ النَّاسِ كَمَا يَقُول الْمَالِكِيَّةُ: كَاحْتِيَازِ الثَّوْبِ، وَتَسْلِيمِ مِقْوَدِ الدَّابَّةِ (3) .
أَوْ يَنْقُلَهُ إِلَى حَيِّزٍ لاَ يَخْتَصُّ بِهِ الْبَائِعُ، عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ. وَيُرْوَى هَذَا عَنْ أَبِي يُوسُفَ، كَالشَّارِعِ وَدَارِ الْمُشْتَرِي (4) .
وَفَصَّل الْحَنَابِلَةُ فِي الْمَنْقُول مِنَ الْعُرُوضِ وَالأَْنْعَامِ فَقَالُوا: إِنْ كَانَ الْمَبِيعُ دَرَاهِمَ أَوْ دَنَانِيرَ، فَقَبْضُهَا بِالْيَدِ. وَإِنْ كَانَ ثِيَابًا فَقَبْضُهَا نَقْلُهَا.
وَإِنْ كَانَ حَيَوَانًا، فَقَبْضُهُ تَمْشِيَتُهُ مِنْ مَكَانِهِ (5) .
__________
(1) الشرح الكبير للدردير وحاشية الدسوقي عليه 3 / 144.
(2) انظر المغني 4 / 220. وحديث: " كانوا يتبايعون الطعام جزافا " أخرجه البخاري (فتح الباري 4 / 350 ط السلفية) ، ومسلم (3 / 1161 ط الحلبي) .
(3) الشرح الكبير للدردير 3 / 145.
(4) تحفة المحتاج 4 / 412 وما بعدها، وشرح المنهج 3 / 166 - 172، والدر المختار ورد المحتار 5 / 309.
(5) المغني 4 / 220، وكشاف القناع 3 / 247.

(9/133)


(د) وَإِنْ كَانَ عَقَارًا فَقَبْضُهُ بِالتَّخْلِيَةِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمُشْتَرِي، بِلاَ حَائِلٍ دُونَهُ (1) ، وَتَمْكِينُهُ مِنَ التَّصَرُّفِ فِيهِ، بِتَسْلِيمِهِ الْمِفْتَاحَ إِنْ وُجِدَ، بِشَرْطِ أَنْ يُفَرِّغَهُ مِنْ مَتَاعِ غَيْرِ الْمُشْتَرِي عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ (2) .
وَلَمْ يَشْتَرِطْ ذَلِكَ الْمَالِكِيَّةُ إِلاَّ فِي دَارِ السُّكْنَى، فَإِنَّ قَبْضَهَا بِالإِْخْلاَءِ عِنْدَهُمْ، وَلاَ يُكْتَفَى بِالتَّخْلِيَةِ. أَمَّا غَيْرُهَا مِنَ الْعَقَارَاتِ، فَيَتَحَقَّقُ الْقَبْضُ بِالتَّخْلِيَةِ، وَإِنْ لَمْ يُخْل الْبَائِعُ مَتَاعَهُ مِنْهَا (3) .
وَيُشِيرُ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّ هَذَا التَّفْصِيل إِنَّمَا هُوَ فِي الْقَبْضِ الْمُصَحِّحِ لِلتَّصَرُّفِ، أَمَّا الْقَبْضُ النَّاقِل لِلضَّمَانِ مِنَ الْبَائِعِ، فَمَدَارُهُ عَلَى اسْتِيلاَءِ الْمُشْتَرِي عَلَى الْمَبِيعِ، سَوَاءٌ أَنَقَلَهُ أَمْ لاَ، وَسَوَاءٌ أَخَلَّى الْبَائِعُ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ أَمْ لاَ، وَسَوَاءٌ أَأَذِنَ لَهُ فِي الْقَبْضِ أَمْ لاَ، وَسَوَاءٌ أَكَانَ لَهُ الْحَقُّ فِي الْحَبْسِ أَمْ لاَ، فَمَتَى اسْتَوْلَى الْمُشْتَرِي عَلَى الْمَبِيعِ انْتَفَى الضَّمَانُ عَنِ الْبَائِعِ، بِمَعْنَى أَنَّهُ لَوْ تَلِفَ حِينَئِذٍ لاَ يَنْفَسِخُ الْعَقْدُ، أَوْ تَعَيَّبَ لاَ يَثْبُتُ الْخِيَارُ لِلْمُشْتَرِي، وَلَوْ رَجَعَ إِلَى الْبَائِعِ لاَ يَرْجِعُ الضَّمَانُ إِلَيْهِ (4) .
__________
(1) المغني 4 / 220، وكشاف القناع 3 / 247، 248.
(2) شرح المحلي على المنهاج 2 / 215، وشرح المنهج 3 / 169 وفيه تفصيلات كثيرة في 3 / 167.
(3) الشرح الكبير للدردير 3 / 145.
(4) حاشية الجمل على شرح المنهج 3 / 168.

(9/133)


11 - وَلَمْ يُفَصِّل الْحَنَفِيَّةُ - وَهِيَ رِوَايَةُ ابْنِ الْخَطَّابِ عَنْ أَحْمَدَ - هَذَا التَّفْصِيل فِي الْقَبْضِ، بَل اعْتَبَرُوا التَّخْلِيَةَ - وَهِيَ: رَفْعُ الْمَوَانِعِ وَالتَّمْكِينِ مِنَ الْقَبْضِ - قَبْضًا حُكْمًا عَلَى ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ، وَرَوَى أَبُو الْخَطَّابِ مِثْل ذَلِكَ عَنْ أَحْمَدَ وَشَرَطَ مَعَ التَّخْلِيَةِ التَّمْيِيزَ (1) .
نَصَّ الْحَنَفِيَّةُ عَلَى مَذْهَبِهِمْ هَذَا فِي الرَّهْنِ، فِي التَّخْلِيَةِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمُرْتَهِنِ، وَقَالُوا: إِنَّ التَّخْلِيَةَ فِيهِ قَبْضٌ، كَمَا هِيَ فِي الْبَيْعِ، فَإِنَّهَا فِيهِ أَيْضًا قَبْضٌ (2) . قَالُوا: لأَِنَّهَا تَسْلِيمٌ، فَمِنْ ضَرُورَتِهِ الْحُكْمُ بِالْقَبْضِ، فَيَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ مَا يَتَرَتَّبُ عَلَى الْقَبْضِ الْحَقِيقِيِّ، وَهَذَا هُوَ الأَْصَحُّ (3) .
وَمُقَابِل الأَْصَحِّ: الْمَرْوِيُّ عَنْ أَبِي يُوسُفَ، وَهُوَ: أَنَّهُ لاَ يَثْبُتُ فِي الْمَنْقُول إِلاَّ بِالنَّقْل (4) .
12 - وَعَلَى هَذَا لَوْ بَاعَ مَا اشْتَرَاهُ قَبْل أَنْ يَقْبِضَهُ فَرَبِحَ، فَهَذَا هُوَ رِبْحُ مَا لَمْ يُضْمَنْ، الَّذِي وَرَدَ فِيهِ حَدِيثُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، قَال: قَال رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {لاَ يَحِل سَلَفٌ وَبَيْعٌ، وَلاَ شَرْطَانِ فِي بَيْعٍ، وَلاَ رِبْحُ مَا لَمْ يُضْمَنْ، وَلاَ بَيْعُ مَا لَيْسَ عِنْدَكَ} (5) .
وَفَسَّرَهُ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ فِي كِتَابِ الآْثَارِ لَمَّا
__________
(1) رد المحتار 5 / 309، والمغني مع الشرح الكبير 4 / 220.
(2) الدر المختار 5 / 309.
(3) رد المحتار 5 / 309.
(4) المرجع السابق.
(5) حديث: " لا يحل سلف وبيع. . . "، سبق تخريجه ف / 2.

(9/134)


رَوَى هَذَا الْحَدِيثَ مِنْ طَرِيقٍ آخَرَ بِرِوَايَةٍ أُخْرَى، فَقَال: وَأَمَّا رِبْحُ مَا لَمْ يُضْمَنْ: فَالرَّجُل يَشْتَرِي الشَّيْءَ، فَيَبِيعُهُ قَبْل أَنْ يَقْبِضَهُ (1) .
وَكَذَلِكَ فَسَّرَهُ الشَّوْكَانِيُّ، حَيْثُ قَال: يَعْنِي لاَ يَجُوزُ أَنْ يَأْخُذَ رِبْحَ سِلْعَةٍ لَمْ يَضْمَنْهَا، مِثْل: أَنْ يَشْتَرِيَ مَتَاعًا، وَيَبِيعَهُ إِلَى آخَرَ قَبْل قَبْضِهِ مِنَ الْبَائِعِ، فَهَذَا الْبَيْعُ بَاطِلٌ، وَرِبْحُهُ لاَ يَجُوزُ؛ لأَِنَّ الْمَبِيعَ فِي ضَمَانِ الْبَائِعِ الأَْوَّل، وَلَيْسَ فِي ضَمَانِ الْمُشْتَرِي مِنْهُ، لِعَدَمِ الْقَبْضِ (2) .
وَكَذَلِكَ فَعَل الْبُهُوتِيُّ، حَيْثُ قَال: وَالْمُرَادُ بِهِ رِبْحُ مَا بِيعَ قَبْل الْقَبْضِ (3) .
وَهَذَا الْحَدِيثُ وَإِنْ كَانَ عَامًّا، غَيْرَ أَنَّ الإِْمَامَ أَحْمَدَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - خَصَّهُ بِالطَّعَامِ، فِي رِوَايَةِ الأَْثْرَمِ عَنْهُ، قَال: سَأَلْتُ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ قَوْلِهِ: {نَهَى عَنْ رِبْحِ مَا لَمْ يُضْمَنْ} ، قَال: هَذَا فِي الطَّعَامِ، وَمَا أَشْبَهَهُ مِنْ مَأْكُولٍ أَوْ مَشْرُوبٍ، فَلاَ يَبِيعُهُ حَتَّى يَقْبِضَهُ.
وَقَال ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: الأَْصَحُّ عَنْ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ، أَنَّ الَّذِي يُمْنَعُ مِنْ بَيْعِهِ قَبْل قَبْضِهِ: هُوَ الطَّعَامُ (4) .
__________
(1) نصب الراية 4 / 19.
(2) نيل الأوطار 5 / 180.
(3) كشاف القناع 3 / 242.
(4) الشرح الكبير في ذيل المغني 4 / 116.

(9/134)


بَيْعُ الصَّدَقَةِ وَالْهِبَةِ قَبْل الْقَبْضِ:
13 - الصَّدَقَةُ هِيَ: تَمْلِيكُ الْمَال فِي الْحَيَاةِ مَنْ يَحْتَاجُهُ بِغَيْرِ عِوَضٍ، تَقَرُّبًا إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، وُجُوبًا أَوْ نَدْبًا (1) .
وَهَذَا التَّعْرِيفُ - كَمَا يُرَى - يَشْمَل الصَّدَقَةَ الْمَفْرُوضَةَ، الَّتِي تُؤْخَذُ مِنْ مَال الْغَنِيِّ فِي آخِرِ الْحَوْل وَهِيَ زَكَاةُ الْمَال، أَوْ فِي آخِرِ شَهْرِ الصَّوْمِ وَهِيَ زَكَاةُ الْفِطْرِ تَطْهِيرًا لِلْغَنِيِّ وَالصَّائِمِ، وَيَشْمَل الصَّدَقَةَ الْمُتَطَوَّعَ بِهَا، وَهِيَ الْمُسْتَحَبَّةُ فِي جَمِيعِ الأَْوْقَاتِ.
وَقَدْ جَاءَ فِي حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ الْمُتَقَدِّمِ آنِفًا، {نَهَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ شِرَاءِ الصَّدَقَاتِ حَتَّى تُقْبَضَ} (2) .
وَفِي حَدِيثِ حَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَهُ: {لاَ تَبِعْ مَا لَيْسَ عِنْدَكَ} (3) .
14 - وَيَعْتَبِرُ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنْبَلِيَّةِ وَبَعْضِ الْمَالِكِيَّةِ الصَّدَقَةَ وَنَحْوَهَا، كَالْهِبَةِ وَالرَّهْنِ وَالْقَرْضِ وَالإِْعَارَةِ وَالإِْيدَاعِ، مِنْ عُقُودِ التَّبَرُّعَاتِ، الَّتِي لاَ تَتِمُّ
__________
(1) المغني والشرح الكبير في ذيله 6 / 246، والشرح الكبير للدردير 4 / 97.
(2) حديث: " نهى عن شراء الصدقات حتى تقبض ". أخرجه ابن ماجه (2 / 740 ط عيسى الحلبي) ونقل الزيلعي عن عبد الحق الأشبيلي أنه قال: إسناده لا يحتج به (نصب الراية 4 / 15 ط المجلس العلمي بالهند) .
(3) حديث " لا تبع ما ليس عندك " أخرجه الترمذي وحسنه (تحفة الأحوذي 4 / 430 ط المكتبة السلفية) .

(9/135)


وَلاَ تُمَلَّكُ إِلاَّ بِالْقَبْضِ، وَالْعَقْدُ فِيهَا قَبْل الْقَبْضِ يُعْتَبَرُ عَدِيمَ الأَْثَرِ (1) .
وَعِبَارَةُ الْمَرْغِينَانِيِّ فِي فَصْل الصَّدَقَةِ: وَالصَّدَقَةُ كَالْهِبَةِ لاَ تَصِحُّ إِلاَّ بِالْقَبْضِ، لأَِنَّهُ (أَيِ التَّصَدُّقُ) تَبَرُّعٌ كَالْهِبَةِ (2) .
بَل قَال الْكَاسَانِيُّ: الْقَبْضُ شَرْطُ جَوَازِ الصَّدَقَةِ، لاَ تُمَلَّكُ قَبْل الْقَبْضِ، عِنْدَ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ (3) .
وَاسْتَدَل لِذَلِكَ: بِمَا رُوِيَ {عَنْ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَال خَبَرًا عَنِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: يَقُول ابْنُ آدَمَ: مَالِي مَالِي، وَهَل لَكَ يَا بْنَ آدَمَ مِنْ مَالِكِ إِلاَّ مَا أَكَلْتَ فَأَفْنَيْتَ، أَوْ لَبِسْتَ فَأَبْلَيْتَ، أَوْ تَصَدَّقْتَ فَأَمْضَيْتَ} (4) اعْتَبَرَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى الإِْمْضَاءَ فِي الصَّدَقَةِ، وَالإِْمْضَاءُ هُوَ التَّسْلِيمُ. فَدَل عَلَى أَنَّهُ شَرْطٌ.
وَبِمَا رُوِيَ عَنْ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَمُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَنَّهُمْ قَالُوا: لاَ تَتِمُّ الصَّدَقَةُ إِلاَّ بِالْقَبْضِ.
وَبِأَنَّ الصَّدَقَةَ عَقْدُ تَبْرِئَةٍ، فَلاَ يُفِيدُ الْحُكْمَ بِنَفْسِهِ كَالْهِبَةِ.
وَفِي الْهِبَةِ يَقُول: لَوْ صَحَّتْ بِدُونِ الْقَبْضِ
__________
(1) المادة (57) من مجلة الأحكام العدلية: لا يتم التبرع إلا بالقبض.
(2) الهداية وشرح العناية 7 / 515.
(3) بدائع الصنائع 6 / 123.
(4) حديث: " يقول ابن آدم: مالي مالي. . . . " أخرجه مسلم (4 / 2273 ط عيسى الحلبي) .

(9/135)


لَثَبَتَ لِلْمَوْهُوبِ لَهُ وِلاَيَةُ مُطَالَبَةِ الْوَاهِبِ بِالتَّسْلِيمِ، فَتَصِيرُ عَقْدَ ضَمَانٍ، وَهَذَا تَغْيِيرُ الْمَشْرُوعِ (1) .
وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ الْحَنَفِيَّةُ، هُوَ الَّذِي يُقَابِل الْمَشْهُورَ مِنْ مَذْهَبِ الْمَالِكِيَّةِ، وَهُوَ ضَعِيفٌ، عَبَّرُوا عَنْهُ بِقَوْلِهِمْ: وَقِيل: إِنَّمَا تُمْلَكُ بِالْقَبْضِ (2) وَهَذَا النَّصُّ وَإِنْ وَرَدَ فِي الْهِبَةِ، لَكِنَّ تَعْرِيفَهُمُ الصَّدَقَةَ، كَمَا أَشَرْنَا إِلَيْهِ قَبْلاً وَمَا يَأْتِي مِنَ الأَْحْكَامِ، يُفِيدُ التَّعْمِيمَ فِي الْهِبَةِ وَالصَّدَقَةِ.
وَهُوَ أَيْضًا مَذْهَبُ الشَّافِعِيَّةِ، إِذْ قَالُوا: لاَ يَمْلِكُ مَوْهُوبٌ (بِالْمَعْنَى الأَْعَمِّ الشَّامِل لِلصَّدَقَةِ وَالْهَدِيَّةِ) إِلاَّ بِقَبْضٍ بِإِذْنِ الْوَاهِبِ (3) .
وَجَاءَ فِي نُصُوصِ الشَّافِعِيَّةِ: إِذَا حَلَفَ لاَ يَهَبُ لَهُ، فَوَهَبَ لَهُ وَلَمْ يَقْبَل، أَوْ قَبِل وَلَمْ يَقْبِضْ لاَ يَحْنَثُ فِي الأَْصَحِّ (4) .
وَذَلِكَ لأَِنَّهُ لاَ بُدَّ مِنَ الْقَبُول وَالْقَبْضِ حَتَّى تَصِحَّ الْهِبَةُ وَتَتِمَّ.
وَكَذَلِكَ الْمَذْهَبُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ مُطْلَقًا كَمَا يَقُول الْمِرْدَاوِيُّ. فَقَدْ صَرَّحُوا بِأَنَّ أَنْوَاعَ الْهِبَةِ: صَدَقَةٌ
__________
(1) بدائع الصنائع 6 / 123.
(2) حاشية الدسوقي على الشرح الكبير للدردير 4 / 101.
(3) شرح المحلي على المنهاج وحاشية القليوبي عليه 3 / 112، 160، وشرح المنهج وحاشية الجمل عليه 3 / 598. وقد صرح صاحب حاشية الجمل، بأن هذا الشرط وسائر أحكامه تجري في الهبة المطلقة الشاملة للصدقة والهدية.
(4) شرح المحلي على المنهاج 4 / 287.

(9/136)


وَهَدِيَّةٌ وَنِحْلَةٌ، وَمَعَانِيهَا مُتَقَارِبَةٌ، وَكُلُّهَا تَمْلِيكٌ فِي الْحَيَاةِ بِلاَ عِوَضٍ، تَجْرِي فِيهَا أَحْكَامُهَا (1) أَيْ تَجْرِي أَحْكَامُ كُل وَاحِدَةٍ مِنَ الْمَذْكُورَاتِ فِي الْبَقِيَّةِ (2) .
وَقَالُوا: وَتَلْزَمُ الْهِبَةُ بِقَبْضِهَا بِإِذْنِ وَاهِبٍ، وَلاَ تَلْزَمُ قَبْلَهُ، أَيْ قَبْل الْقَبْضِ بِإِذْنِ الْوَاهِبِ، وَلَوْ كَانَتِ الْهِبَةُ فِي غَيْرِ مَكِيلٍ وَنَحْوِهِ، فَفِي جَمِيعِهَا لاَ تَلْزَمُ إِلاَّ بِالْقَبْضِ (3) .
وَقَدِ اسْتَدَل الْحَنَابِلَةُ لِمَا ذَهَبُوا إِلَيْهِ - مِنْ إِطْلاَقِ شَرْطِ الْقَبْضِ فِي الْهِبَةِ وَنَحْوِهَا، كَالصَّدَقَةِ الَّتِي نُوَاجِهُهَا - بِمَا رُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أَنَّ أَبَا بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ نَحَلَهَا جُذَاذَ عِشْرِينَ وَسْقًا مِنْ مَالِهِ بِالْعَالِيَةِ، فَلَمَّا مَرِضَ قَال: يَا بُنَيَّةُ: كُنْتُ نَحَلْتُكِ جُذَاذَ عِشْرِينَ وَسْقًا، وَلَوْ كُنْتُ جَذَذْتُهُ أَوْ قَبَضْتُهُ كَانَ ذَلِكَ، فَإِنَّمَا هُوَ الْيَوْمَ مَال وَارِثٍ، فَاقْتَسِمُوهُ عَلَى كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى (4) .
وَذَكَرَ الْبُهُوتِيُّ أَنَّهُ رُوِيَ عَنْ عُمَرَ وَعُثْمَانَ، وَابْنِ عُمَرَ وَابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ، نَحْوُ هَذَا، وَلَمْ يُعْرَفْ لَهُمْ مُخَالِفٌ مِنَ الصَّحَابَةِ.
__________
(1) كشاف القناع 4 / 299، وانظر في الإطلاق الإنصاف 7 / 9.
(2) المرجع السابق.
(3) الإنصاف 7 / 119، 120، والشرح الكبير 6 / 250، وفيه وفي المغني 6 / 251 رواية بالتفرقة بين المكيل والموزون وبين غيرهما.
(4) كشاف القناع 4 / 301.

(9/136)


وَرَتَّبُوا عَلَى اشْتِرَاطِ الْقَبْضِ، جَوَازَ رُجُوعِ الْوَاهِبِ فِي هِبَتِهِ (وَكَذَا الصَّدَقَةُ) قَبْل الْقَبْضِ، لِعَدَمِ تَمَامِ الْعَقْدِ (1) .
وَخَالَفَ فِي اشْتِرَاطِ الْقَبْضِ الْمَالِكِيَّةُ فِي مَشْهُورِ مَذْهَبِهِمْ. فَقَرَّرُوا أَنَّ الْهِبَةَ (وَكَذَلِكَ الصَّدَقَةُ كَمَا يُؤْخَذُ مِنْ تَفْرِيعَاتِهِمْ) (2) تُمْلَكُ بِالْقَوْل عَلَى الْمَشْهُورِ، وَلِلْمَوْهُوبِ لَهُ طَلَبُهَا مِنَ الْوَاهِبِ، إِذَا امْتَنَعَ مِنْ تَسْلِيمِهَا، لِيَجْبُرَهُ عَلَى تَمْكِينِ الْمَوْهُوبِ لَهُ مِنْهَا (3) .
وَأَشَارَ الْحَنَابِلَةُ فِي كُتُبِهِمْ (4) إِلَى دَلِيل الْمَالِكِيَّةِ وَهُوَ حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - {أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: الْعَائِدُ فِي هِبَتِهِ كَالْعَائِدِ فِي قَيْئِهِ} وَيُرْوَى {فِي صَدَقَتِهِ} . وَيُرْوَى {كَالْكَلْبِ يَقِيءُ ثُمَّ يَعُودُ فِي قَيْئِهِ} (5) .
وَجَاءَ فِي نُصُوصِ الْمَالِكِيَّةِ:
__________
(1) نفس المرجع.
(2) شرح الخرشي وحاشية العدوي عليه 7 / 120.
(3) الشرح الكبير للدردير 4 / 101، وقارن بالقوانين الفقهية ص 242.
(4) انظر الشرح الكبير في ذيل المغني 6 / 250، والمغني 6 / 246، 247.
(5) حديث: " العائد في هبته كالعائد في قيئه " أخرجه البخاري (فتح الباري 5 / 234 ط السلفية) ، ومسلم (2 / 1241 ط عيسى الحلبي) . ويروى " في صدقته ". أخرجه البخاري (فتح الباري 5 / 235 ط السلفية) ، ومسلم (2 / 124 ط عيسى الحلبي) ويروى " كالكلب يقيء ثم يعود في قيئه ". أخرجه مسلم (3 / 1241 ط عيسى الحلبي) .

(9/137)


أ - لَوْ قَال: دَارِي صَدَقَةٌ أَوْ هِبَةٌ أَوْ حَبْسٌ عَلَى الْفُقَرَاءِ، لاَ يُقْضَى عَلَيْهِ (لِعَدَمِ التَّعْيِينِ) .
ب - وَلَوْ قَال: دَارِي صَدَقَةٌ أَوْ هِبَةٌ أَوْ حَبْسٌ عَلَى زَيْدٍ، فَإِنَّهُ يُقْضَى عَلَيْهِ بِذَلِكَ، لأَِنَّهُ قَصَدَ الْبِرَّ وَالْقُرْبَةَ حِينَئِذٍ.
ج - وَلَوْ قَال: لِلَّهِ عَلَيَّ دَفْعُ دِرْهَمٍ لِزَيْدٍ أَوْ لِلْفُقَرَاءِ، لاَ يُقْضَى بِهِ مُطْلَقًا، وَقِيل يُقْضَى.
وَعَلَّلُوا هَذَا بِأَنَّ الْقَضَاءَ لاَ بُدَّ فِيهِ مِنْ تَعْيِينِ الْمُتَصَدَّقِ عَلَيْهِ أَوِ الْمَوْهُوبِ لَهُ، وَلاَ بُدَّ فِيهِ مِنْ قَصْدِ الْقُرْبَةِ (1) .
وَفِي رِوَايَةٍ عَنِ الإِْمَامِ أَحْمَدَ أَنَّهُ فِي الْمَكِيل وَالْمَوْزُونِ لاَ تَصِحُّ الْهِبَةُ وَالصَّدَقَةُ، وَلاَ تَلْزَمُ فِيهِ الصَّدَقَةُ وَالْهِبَةُ إِلاَّ بِالْقَبْضِ.
وَفِي غَيْرِهِمَا يَصِحُّ بِغَيْرِ قَبْضٍ، وَيَلْزَمُ بِمُجَرَّدِ الْعَقْدِ. وَيَثْبُتُ فِيهِ الْمِلْكُ بِغَيْرِ قَبْضٍ.
وَحَاصِل الدَّلِيل فِي هَذِهِ التَّفْرِقَةِ الْقِيَاسُ عَلَى الْبَيْعِ، مِنْ حَيْثُ إِنَّهَا تَمْلِيكٌ، فَفِي الْبَيْعِ مَا لاَ يَلْزَمُ قَبْل الْقَبْضِ، كَالصَّرْفِ وَالرِّبَوِيَّاتِ، وَفِيهِ مَا يَلْزَمُ قَبْل الْقَبْضِ، وَهُوَ مَا عَدَا ذَلِكَ (2) .
وَالْخُلاَصَةُ أَنَّ جُمْهُورَ الْفُقَهَاءِ يَشْتَرِطُونَ الْقَبْضَ فِي التَّبَرُّعَاتِ.
__________
(1) شرح الخرشي وحاشية العدوي 7 / 120.
(2) المغني 6 / 246 - 251، والشرح الكبير 6 / 250 - 252، وانظر كشاف القناع 4 / 301.

(9/137)


بَيْعُ الْمُحَاقَلَةِ
1 - الْمُحَاقَلَةُ فِي اللُّغَةِ: بَيْعُ الزَّرْعِ فِي سُنْبُلِهِ بِالْبُرِّ أَوْ بِحِنْطَةٍ - كَمَا يَقُول الْفَيُّومِيُّ (1) -
وَفِي الاِصْطِلاَحِ: بَيْعُ الْحِنْطَةِ فِي سُنْبُلِهَا بِحِنْطَةٍ مِثْل كَيْلِهَا خَرْصًا (2) . وَالْخَرْصُ: الْحَزْرُ.
وَعَرَّفَهَا الْحَنْبَلِيَّةُ بِمَا هُوَ أَعَمُّ، وَقَالُوا: هِيَ بَيْعُ الْحَبِّ فِي سُنْبُلِهِ بِجِنْسِهِ (3) .
2 - وَلاَ يَخْتَلِفُ الْفُقَهَاءُ، فِي أَنَّ بَيْعَ الْمُحَاقَلَةِ غَيْرُ جَائِزٍ، وَهُوَ فَاسِدٌ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، بَاطِلٌ عِنْدَ غَيْرِهِمْ، وَذَلِكَ لِحَدِيثِ جَابِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَال: {نَهَى رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ الْمُزَابَنَةِ وَالْمُحَاقَلَةِ} (4) .
__________
(1) المصباح المنير، ومختار الصحاح مادة: " حقل ".
(2) الهداية بشروحها 6 / 54، وتبيين الحقائق 4 / 47. وشرح المحلي على المنهاج 2 / 237، 238، وتحفة المحتاج 4 / 471.
(3) كشاف القناع 3 / 258، والشرح الكبير في ذيل المغني 4 / 151.
(4) حديث: " نهى عن المزابنة والمحاقلة ". أخرجه البخاري (فتح الباري 4 / 384 ط السلفية) .

(9/138)


وَلأَِنَّهُ بَيْعُ مَكِيلٍ بِمَكِيلٍ مِنْ جِنْسِهِ، فَلاَ يَجُوزُ خَرْصًا؛ لأَِنَّ فِيهِ شُبْهَةَ الرِّبَا الْمُلْحَقَةَ بِالْحَقِيقَةِ فِي التَّحْرِيمِ (1) .
وَلِعَدَمِ الْعِلْمِ بِالْمُمَاثَلَةِ - بِتَعْبِيرِ الشَّافِعِيَّةِ عَنْ مَعْنَى الْبُطْلاَنِ (2) - وَيَقُول الْحَنَابِلَةُ فِي تَمَامِ التَّعْلِيل: وَالْجَهْل بِالتَّسَاوِي كَالْعِلْمِ بِالتَّفَاضُل (3) .
وَأَيْضًا تَزِيدُ الْمُحَاقَلَةُ - كَمَا قَال الشَّافِعِيَّةُ عَلَى الْمُزَابَنَةِ - بِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنَ الْمَبِيعِ فِيهَا مَسْتُورٌ بِمَا لَيْسَ مِنْ صَلاَحِهِ فَانْتَفَتِ الرُّؤْيَةُ أَيْضًا (4) .
وَيُؤْخَذُ مِنْ كُتُبِ الْمَالِكِيَّةِ، التَّعْلِيل الْعَامُّ لِفَسَادِ الْمُزَابَنَةِ وَنَحْوِهِمَا بِالْغَرَرِ وَالرِّبَوِيَّةِ فِي الرِّبَوِيَّاتِ فِي الْجِنْسِ الْوَاحِدِ (5) .
وَلِزِيَادَةِ التَّفْصِيل يُنْظَرُ مُصْطَلَحُ (مُحَاقَلَة) .

بَيْعُ الْمُرَابَحَةِ

انْظُرْ: مُرَابَحَة
__________
(1) العناية شرح الهداية 6 / 53، وتبيين الحقائق 4 / 47.
(2) شرح المحلي على المنهاج 2 / 238.
(3) كشاف القناع 3 / 258.
(4) شرح المحلي على المنهاج 2 / 238، وحاشية الجمل على شرح المنهج 3 / 208.
(5) الشرح الكبير للدردير، وحاشية الدسوقي عليه 3 / 60.

(9/138)


بَيْعُ الْمُزَابَنَةِ

1 - الْمُزَابَنَةُ: مَأْخُوذَةٌ مِنَ الزَّبْنِ، وَهُوَ فِي اللُّغَةِ: الدَّفْعُ (1) لأَِنَّهَا تُؤَدِّي إِلَى النِّزَاعِ وَالْمُدَافَعَةِ. أَيْ بِسَبَبِ الْغَبْنِ (2) كَمَا يَقُول الشَّافِعِيَّةُ.
وَفِي الاِصْطِلاَحِ الْفِقْهِيِّ: عَرَّفَهَا الْجُمْهُورُ بِأَنَّهَا: بَيْعُ الرُّطَبِ عَلَى النَّخِيل بِتَمْرٍ مَجْذُوذٍ، مِثْل كَيْلِهِ خَرْصًا (3) . (أَيْ ظَنًّا وَتَقْدِيرًا) وَالْخَرْصُ: الْحَزْرُ (4) . وَذَلِكَ بِأَنْ يُقَدَّرَ الرُّطَبُ الَّذِي عَلَى النَّخْل بِمِقْدَارِ مِائَةِ صَاعٍ مَثَلاً، بِطَرِيقِ الظَّنِّ وَالْحَزْرِ، فَيَبِيعَ بِقَدْرِهِ مِنَ التَّمْرِ (5) . فَلَوْ لَمْ يَكُنِ الثَّمَنُ رُطَبًا فَهُوَ جَائِزٌ بِسَبَبِ اخْتِلاَفِ الْجِنْسِ (6) . وَعَرَّفَهَا الدَّرْدِيرُ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ بِأَنَّهَا: بَيْعُ مَجْهُولٍ
__________
(1) المصباح المنير ومختار الصحاح مادة: " زبن ".
(2) رد المحتار 4 / 109 عن البحر الفائق، وحاشية القليوبي على شرح المحلي على المنهاج 2 / 238.
(3) هذا نص البداية. انظر الهداية بشروحها 6 / 53، والدر المختار 4 / 109، وكفاية الطالب 2 / 158، وانظر تحفة المحتاج 4 / 471، وشرح المحلي على المنهاج 2 / 238، والشرح الكبير في ذيل المغني 4 / 151.
(4) فتح القدير 6 / 54.
(5) رد المحتار 4 / 109.
(6) انظر رده في رد المحتار 4 / 109.

(9/139)


بِمَعْلُومٍ، رِبَوِيٍّ أَوْ غَيْرِهِ. أَوْ: بَيْعُ مَجْهُولٍ بِمَجْهُولٍ مِنْ جِنْسِهِ (1) .
وَعَرَّفَهَا ابْنُ جُزَيٍّ، مِنْهُمْ أَيْضًا، بِأَنَّهَا: بَيْعُ شَيْءٍ رُطَبٍ، بِيَابِسٍ مِنْ جِنْسِهِ، سَوَاءٌ أَكَانَ رِبَوِيًّا، أَمْ غَيْرَ رِبَوِيٍّ (2) .

حُكْمُ بَيْعِ الْمُزَابَنَةِ:
2 - لَمْ يَخْتَلِفِ الْفُقَهَاءُ فِي حُكْمِ هَذَا الْبَيْعِ. فَقَدِ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهُ بَيْعٌ فَاسِدٌ، وَلاَ يَصِحُّ، وَذَلِكَ لِمَا يَأْتِي:
(أ) حَدِيثُ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَال: {نَهَى رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ الْمُزَابَنَةِ وَالْمُحَاقَلَةِ} (3) .
(ب) وَلِشُبْهَةِ الرِّبَا، لأَِنَّهُ بَيْعُ مَكِيلٍ بِمَكِيلٍ مِنْ جِنْسِهِ، مَعَ احْتِمَال عَدَمِ الْمُسَاوَاةِ بَيْنَهُمَا بِالْكَيْل (4) .
وَيُصَرِّحُ الشَّافِعِيَّةُ بِأَنَّ فِيهِمَا الرِّبَا، لِعَدَمِ الْعِلْمِ بِالْمُمَاثَلَةِ فِيهِمَا (5) .
__________
(1) الشرح الكبير للدردير 3 / 60.
(2) القوانين الفقهية 168، 169.
(3) حديث: " نهى عن المزابنة ". أخرجه البخاري، (فتح الباري 4 / 384 ط السلفية) ومسلم (3 / 1171 ط عيسى الحلبي) .
(4) الدر المختار ورد المحتار 4 / 109، والهداية بشروحها 6 / 54.
(5) تحفة المحتاج وحاشية الشرواني عليها 4 / 471.

(9/139)


(ج) وَلِلْغَرَرِ - كَمَا عَلَّلَهُ ابْنُ جُزَيٍّ (1) -.
وَمِثْل بَيْعِ الرُّطَبِ بِالتَّمْرِ، بَيْعُ الْعِنَبِ بِالزَّبِيبِ (2) ، كَمَا وَرَدَ فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ، زِيَادَةً عَلَى الْمَذْكُورِ فِي الْحَدِيثِ السَّابِقِ: {وَعَنْ بَيْعِ الْعِنَبِ بِالزَّبِيبِ، وَعَنْ كُل تَمْرٍ بِخَرْصِهِ} (3)
وَأَطْلَقَ الْمَالِكِيَّةُ (لَعَلَّهُ لِذَلِكَ) عَدَمَ جَوَازِ بَيْعِ كُل رَطْبٍ بِيَابِسٍ مِنْ جِنْسِهِ، لاَ مُتَفَاضِلاً وَلاَ مِثْلاً بِمِثْلٍ، حَتَّى الْحُبُوبِ (4) .